أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعدون محسن ضمد - اعترافات آخر متصوفة بغداد الحلقة الثانية*















المزيد.....

اعترافات آخر متصوفة بغداد الحلقة الثانية*


سعدون محسن ضمد

الحوار المتمدن-العدد: 2652 - 2009 / 5 / 20 - 07:30
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مجموعة الدمى المتحركة
إذا كانت النبوة تجربة ذاتية، فمنطلقها الأول يبدأ من الذات، ومعنى أن المنطلق ذاتي، يساوي أن تكون هناك ذات مهيأة لنوع من أنواع الخبرات.. هذا بالنسبة لي إيمان، فأنا اؤمن بأن كل إنسان مخلوق بقدرات تؤهله لإمكانيات محددة، سكة قطار.. لكل إنسان سكة قطار واحدة، يمكنه أن يسير على هذه السكة فيبلغ جميع المحطات التي تمر بها، ويمكنه أن لا يسير عليها، أو بالأحرى، لا يُتْرَك وخيار السير. وهكذا يُحرم ـ أو كما يبدو، هو الذي يَحْرِم نفسه ـ من بلوغ محطاته كلها.
بعبارة أخرى النبوة لا تتهيأ لأي كان. بل لأنواع محددة من الشخصيات، شخصيات مخلوقة بصفات تتجه بها اتجاهات فكرية محددة. بالتأكيد لم أكن أعرف ذلك قبل أن اتحقق من النبوة، لكنني الآن متأكد من هذه الحقيقة، كما أنني متأكد من قضية النبوة برمَّتها.
قلت أن النبوة تجربة ذاتية، وقلت أن الذاتية هي الخطوة الأولى في هذه التجربة، وفسَّرت ناحية من نواحي الذاتية بأنها مجموعة الملكات التي يجب أن تتمتع بهذا الشخصية الذاهبة باتجاه النبوة. وهذه الملكات تتجمع في أنواع محددة من الشخصيات. على هذا الأساس سأصل لنتيجة مهمة، وهي تقسيم خطوات الرحيل باتجاه النبوة لنوعين، بالأحرى لسكتين:

السكة الأولى: سكة المميزات الذاتية.
السكة الثانية: سكة المصادفات أو الأقدار التي يجب أن تقود فرداً ما، من الأفراد الذين يمتلكون الشخصية المؤهلة للنبوة، اتجاه غايتها.
أما لماذا تنفرد شخصية محددة من مجموعة شخصيات بِقَدَر النبوة هذا، وأيضاً بالمصادفات التي تقود لهذا القدر، فهذا ما لم أعرفه إلى الآن، ولا أعتقد بأنني سأعرفه. على كل حال لا بد من التوقف عند السكَّة الأولى، لأنها السكة التي يجب الانطلاق منها.

سكة المميزات الذاتية
أولاً: هوس الباحث
هل يمكن لشخص ما أن يصل لدوامة النبوة دون أن يكون مهووساً بالبحث عن أجوبة الأسئلة الكبرى؟
(من أين؟ إلى أين؟ كيف؟ لماذا؟ حتى متى؟ من أي شيئ؟ من المسؤول؟ ووووووو الخ).
حسن هذا هو الذي يجب أن يبتلى بها شخص ما، من أجل أن يكون نبياً.
ما أريد أن أقوله أنني ومنذ صغري، كنت، كما الكثيرين غيري، مهووساً بالنظر في حقائق الأشياء والتساؤل عن ماهياتها وأسباب وجودها والمصير الذي هي ذاهبة إليه، ومثل هذا الهوس لا ينفك حتى يوقع المهووس به بدوامة لا تنتهي إلا من حيث تبدأ من جديد. فكل إجابة هي في حقيقتها سؤال جديد، وكل نهاية تجدها، في آخر المطاف، مفتوحة الشهية على بداية جديدة هي أكثر تعقيداً من سابقتها. وإزاء هذا الصفة وجدتني أقف عند جميع التفاصيل، وأبحث فيها كلها، وأجدها جميعها تسير بي اتجاه غاية واحدة هي اكتشاف سر الفاعل الحقيقي. فما لم أستطع تجاهله حقاً هو وجود لاعِب أول وأخير في ساحة كبيرة تمتلئ بالدمى المتحركة. نعم بالتأكيد دمى متحركة!! ولا شيء غير الدمى، فما نحن بنهاية المطاف، إلا مجموعة هائلة من الدمى التي يتحكم بها لاعب وحيد وغير مرئي.
حسن تبدو هذه النتيجة غريبة، لكن مع شيء من الدقة لا يعود الأمر كذلك. تخيل ـ مثلاً ـ كيف أنني وجدت نفسي اتسائل عن السر الذي جعلني سمين جداً أيام طفولتي ومراهقتي. هذا القَدَر أتعبني كثيراً، أقصد أن أكون سميناً. فلم يكن شيئاً سهلاً. لم تكن معاناة السمنة يومية وحسب، بالنسبة لشخص حسّاس، بل كانت (لحظية).. في كل لحظة هناك ألم، وفي كل دقيقة هناك وقفة إحساس بهذا الخطأ التكويني الذي يتحول رغماً عني لخطيئة. نعم خطيئة، وهذه إحدى الأسئلة التي جعلتني في نهاية المطاف اسير اتجاه نبوتي. فعند الخط الفاصل ما بين الجبر والاختيار انفتحت بوابة الأسئلة التي لم تنغلق إلى الآن. بعبارة أخرى كان سؤالي الأول طفولياً وبريئاً، مع أنه كريه وصعب ومباشر ومعقد للغاية: فهل أن كوني سميناً هو خطأ ارتكبه غيري بحقي، أم خطيئة أمارسها أنا بحق نفسي؟
العالم من حولي يقول لي أنه خطيئة. قالو لي بأنني وحدي المسؤل عن التهام الكميات الهائلة من الطعام، التي تذهب بي سريعاً على طريق السمنة المفرطة. هذا ما كان يوضحه لي أبي عند كل وجبة طعام.. وقبل المباشرة بالتهام أي مائدة، كان ذلك الرجل الحكيم يتلوا على مسامعي ما يذكرني بأن بعض الأنواع من الأطعمة من شأنها أن تعرضني لخطر البدانة المخيف.
هذا ما كان الأمر عليه بالنسبة للآخرين من حولي.. جميعهم متفقون على أن الموضوع محض خطيئة. إلا أنا، لم أرضخ لهذه النتيجة، أما لماذا؛ فببساطة بالغة لأنني كنت أشاهد كيف أن أخوتي يلتهمون ما شاء لهم حضهم من الطعام دون أن يكونون مطالبين بالخوف من السمنة المفرطة. إذن فلا بد من سبب آخر.. هكذا فكرت، وقررت بالتالي أن هناك سبب ما، يمنع سمنتي من أن تتحول لخطيئة محظة. وعندما عرفت في يوم من الأيام أن الموضوع يتعلق بخريطة الجينات، كففت تماماً من عملية الاستغفار عن خطيئة السمنة، بل وحولتها إلى اتهام أتهم غيري بارتكابها ضدي، ومن ثم بالبحث عن هذا الغير الذي تكفل بمهمة وضعي بهذا المطب الصعب بالنسبة لي.
كان موضوع السمنة موضوعاً واحداً من ضمن مواضيع لا يمكن إحصائها، وكلها أخذت بيدي تجاه الطواف بكعبة ذلك الصعب المراس، الذي وجدت أن الجميع يسمونه بأسماء كثيرة لا تشير بصورة مباشرة إليه، أسماء وهمية وموضوعة من أجل تجنب ذكر الاسم الحقيقي. الحظ، القدر، المكتوب، كل هذه الأسماء وغيرها الكثير تحاول أن تلصق الجريمة بغير فاعلها الحقيقي. لأن هذا الفاعل مخيف ولا سبيل لاتهامه بصورة مباشرة.
بالنسبة لي لم يكن الأمر متعلقاً بكثرة المواضيع التي أفضت بي لطريق التساؤل عن الحتمية.. بل بميلي التكويني لتحليل تلك المواضيع.. كل شيئ كان بالنسبة لي، ومنذ البدايات المبكرة، موضوعاً قابلاً للتحليل. وهكذا فحيث كنت أجول ببصري كانت الأشياء تسرد لي قصة لاعب وحيد وصعب. كل التفاصيل من حولي كانت تخبرني بأن ليس هناك إلا بصمات إبهام واحد فقط، وما بقية البصمات المتكثرة إلا استنساخات بائسة ومشوهة الغرض منها فقط إخفاء آثار ذلك الفاعل الحقيقي.. الفاعل الذي يتلبس جسد كل جريمة ارتُكبَت على هذه الأرض. فكل جريمة تنحل بالنهاية لحكاية يكون بطلها إنسان، وهذا الإنسان يَنْحَلُّ هو الآخر لمجموعة صفات وظروف ومكونات وتركيبات وووو، وكل هذه الأشياء لا يمكن القول بأن المجرم ـ الإنسان ـ هو الذي اختارها.. لأنه لا يستطيع اختيار بلده الذي يولد فيه، ولا مجتمعه الذي يعطيه الثقافة، ولا الأسرة التي ينشأ بأحضانها وترفده بأهم أخلاقه وانحرافاته، وهكذا...
فأنا مثلاً لم أختر أن أكون عربياً، عراقياً، لأبوين مسلمين، شيعيين، فلاحين. أنا لم أختر أن أكون ذكراً، لم أختر اسمي، ولا مدرستي الابتدائية التي تلقيت فيها أول التعاليم المسؤولة عن رسم الكيفيات التي سأتبعها بتنظيم شؤون حياتي. أنا أيضاً لم أختر رفاق طفولتي وأصدقاء مراهقتي من أبناء الجيران الذي لعبت معهم وخاصمتهم وفارقتهم.
هل يستطيع أحد أن يعرف كم هي مؤثرة علاقات الطفولة؟ حسناً إنها مؤثرة بشكل لا يمكن تخيله، لكنها مع ذلك، هذه العلاقات، لا يستطيع الإنسان أن يختارها. والسؤال هو: من الذي يختارها إذن. بالتأكيد سيكون الجواب ساذجاً بشكل مضحك إذا أشار إلى العائلة، إذ العائلة ليست مسؤولة عن أي شيئ؛ ذلك أنها هي الأخرى ضحية، وهي تنحل لمجموعة بائسة من الأفراد الضائعين بنفس الحلقة المفرغة، فنحن جميعاً ندور وسط ضياعها ومنذ وجدنا على هذه الأرض.
الذي اختار لي هويتي وعائلتي وأصدقاء طفولتي وطاقم المعلمين بمدرستي، هو المسؤول عن الطريقة التي أتبعها بتنظيم حياتي، وبالتالي فعندما يتأثر أطفالي بهذه الطريقة فيجب أن لا أكون مسؤولاً عن هذا التأثير، أو على الأقل يجب أن لا أتحمل الوزر الأكبر عن هذه المسؤولية.
على كل حال كنت أريد أن أقول أن أول صفة يجب أن تتوفر في شخصية من شأنها أن تكون نبوية، هي صفة البحث في ما وراء الظواهر، والنزول لأعماق التفاصيل مهما كانت ساحقة، وهذه الصفة أقرب ما تكون للمرض منها لأي شيئ آخر. فليس من السهل أنك لا تمر على الأشياء كما يمر عليها الآخرون. ليس سهلاً أنك تقف عند كل منعطف من منعطفات حياتك، وعند كل تفصيلة صغيرة وتافهة. ليس سهلاً أن كل الأشياء تتحول معك لمخاوف ووساوس ولعنات. صفة البحث هي حجر الزاوية في شخصية النبي، وهي بالتأكيد صفة اضطرارية وليست اختيارية.

ــــــــــــــــــــــــــ
* ليست رواية بالتأكيد، مع أن فيها الكثير من السرد، وعذري أن الذي اعترف بهذه الاعترافات، أمامي، اشترط علي أن اسردها كما قالها هو ما أمكن؛ يقول: لأن تجربة النبوة حساسة لدرجة تحتم علينا التعامل مع اعترافاتها بحساسية كافية.. إذن فهذه الكلمات هي ما استطعت الاحتفاظ به، وما أحاول إيصاله، من سرديات خاصَّة توثق اعترافات آخر متصوفة بغداد.




#سعدون_محسن_ضمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- افتى بها سعد وسعد مشتمل
- اعترافات آخر متصوفة بغداد* (الحلقة الأولى)
- حارس مرمى
- الدين والانثروبولوجيا
- أدونيس يبحث عن العراق.. ثلاث لقطات من مشهد كبير وواسع
- لقد ذهبت بعيدا
- من المسؤول عن عودتهم
- إحساس ومسؤولية
- ناقل كُفْر
- اسمه الوحي
- الخائفون، ممن؟
- من لي برأس هذا الفتى الصخّاب*؟
- كذبة الحرية
- خطاب الصناديق السياسي
- وداعا للخراتيت
- اعتدالنا
- حدُّ الأطفال
- ثالث الثلاثة
- عصابات المسؤولين
- قف للمعلم


المزيد.....




- الشرطة الإسرائيلية تعتقل محاضرة في الجامعة العبرية بتهمة الت ...
- عبد الملك الحوثي: الرد الإيراني استهدف واحدة من أهم القواعد ...
- استطلاع: تدني شعبية ريشي سوناك إلى مستويات قياسية
- الدفاع الأوكرانية: نركز اهتمامنا على المساواة بين الجنسين في ...
- غوتيريش يدعو إلى إنهاء -دوامة الانتقام- بين إيران وإسرائيل و ...
- تونس.. رجل يفقأ عيني زوجته الحامل ويضع حدا لحياته في بئر
- -سبب غير متوقع- لتساقط الشعر قد تلاحظه في الربيع
- الأمير ويليام يستأنف واجباته الملكية لأول مرة منذ تشخيص مرض ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من استهداف وحدة المراقبة الجوية الإسرا ...
- تونس.. تأجيل النظر في -قضية التآمر على أمن الدولة-


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعدون محسن ضمد - اعترافات آخر متصوفة بغداد الحلقة الثانية*