أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد علي ثابت - هي (قصة قصيرة)















المزيد.....

هي (قصة قصيرة)


محمد علي ثابت

الحوار المتمدن-العدد: 2649 - 2009 / 5 / 17 - 04:21
المحور: الادب والفن
    



بعد الرحيل مباشرة: ظلت تزوره في المنام لثلاث ليالٍ متتالية، وكانت في كل زيارة ترتب له غرفته وتجهز له طعاماً وتقص عليه بعض أسرار افتتانها الأول به وتطبع على شفتيه وعلى خديه قبلات متعجلة نهِمة، قبل أن ترحل وتجبره على الصحو – قلقِاً – ليشهد خيوط الفجر الجديد وهي تتشكل بروتينية. وبعد تلك المرحلة الأولى من مراحل الفقد: انقطعت عن زياراتها المسائية له تلك بالكامل،، ولكنه من حينها أصبح نادراً ما يفوته مشهد تشكل الخيوط الصباحية. فقد جعله غيابها يدمن شيئين: السهر، والانتظار

وذات ليلة، في مرحلة تالية متقدمة، وإذ هو ساهر كالعادة في انتظار عودتها المستحيلة، تذكر حين سأله صديقه الوحيد منذ رحيلها: "ألن تنساها أبداً؟"، وتذكر كيف أجابه في خشوع: "حاولت، ولكن أظنني لن أنجح في النسيان. ربما تنتهي كل تلك المعاناة حين ألحق بها، وأغلب الظن أنك ستبدأ وقتها في افتقادي، بدورك". وفي تلك الليلة حدث، أيضاً، شيء فارق خرق سكون الليل الطويل الممل وبدد بعضاً من روتينيته التي باتت مألوفة له بشدة: فقد وقعت عيناه، بالصدفة بينما كان متجهاً إلى الشرفة الخلفية علّه يجدها – هي – واقفة تحتها تنادي باسمه كي يحمل عنها حقائب متاعها (الذي لم تأخده معها أصلاً حين رحلت)،، وقعتا على كتاب قديم ضخم في مكتبة البيت العريقة، وكان عنوان الكتاب: "كيف يتغير الزمان بنا؟ .. دروس في فن النسيان". وكان طبيعياً أن يتناول الكتاب من موضعه العتيق بسرعة وأن يزيح عنه كل ما تراكم فوقه وبين صفحاته المصفرة من غبار النسيان والسنين، وأن يشرع في قراءته على الفور، في الشرفة الرئيسية على مقعده الطويل. وقد استهواه الكتاب بشدة وجعله، بسلاسة أسلوبه وعمق أفكاره وواقعية أمثلته، يقرأ نصفه تقريباً في ليلة واحدة ويكمل النصف الثاني في الصباح التالي مباشرة، قبل أن يعيد قراءته كاملاً من جديد على مدى نفس اليوم. وبعد القراءة الثالثة أو الرابعة بدأ يسمع صوته الداخلي يردد على مسامعه: "إذن فهناك من استطاعوا فعلاً إلى النسيان سبيلاً، وأنت لست بأقل منهم. أنت تستطيع أن تنسى، أو أن تتناسى حتى، أنها كانت هنا معك في يوم من الأيام، وأنها رحلت بغتة، غير مغاضِبة ولا مودعة، وعلى غير وعد بالعودة واللقاء. هي لن تعود إليك، وأنت عليك أن تتعايش مع واقعك الجديد - القديم – بدونها، تماماً كما فعل السيد ...". ثم راجع الصفحة الرابعة والخمسين من الكتاب، وقرأ القصة التي تحويها من جديد

وبعد أن كان قد أقلم نفسه على ذلك الواقع الجديد وسعى بكل ما أوتي من عزيمة إلى إغلاق أبواب عقله كافة أمام هاجسه الأكبر منذ رحيلها (هاجس أن تعود فجأة فلا تجده في المنزل في انتظارها فتستاء من عدم وفائه المفترص وترحل من جديد لفترة جديدة قد تطول أو تقصر عن سابقتها)، وبعد أن كان قد أقنع نفسه بأنها غير عائدة وقال ذات مرة لصديقه – رغم أن الأخير لم يكن قد وجه إليه سؤالاً بخصوصها في حينها – إنه نجح في نسيانها بالفعل (وهو ما لم يصدقه صديقه، على أية حال، لا وقتها ولا فيما بعد)،، بعد هذا وذاك حدث شيء جديد أعاده بعنف إلى مربع الفقد الأول.. فقد تحقق الهاجس، أو كاد.. كان ذلك التحقق في إحدى الليالي المطيرة، وكان وقتها جالساً في الشرفة الرئيسية يقلب في صفحات كتاب جديد بعنوان "كيف تعيش بمفردك، سعيداً؟"، وكان ليلتها يمني نفسه بنوم مبكر بعض الشيء ليلحق في الصباح بقطار يأخذه ليقضي إجازة نهاية الأسبوع في مدينة لم يزرها من قبل.. وبينما كان يسترق النظرات الروتينية من الشرفة إلى الشارع، لمحها – هي – هناك، ماشية بمفردها، أو بالأصح: آخذة في الابتعاد والخروج من مرمى بصره بخطواتها المسرعة المعتادة. كان متيقناً من أن تلك المرأة هي ضالته، هي هاجسه، أو هي الحلم الذي سرقته لحظة عابرة ماجنة منه ولم تترك له أي فرصة للدفاع عنه كما يفعل الشرفاء بالشجعان. كان متيقناً من أنها "هي" تمام التيقن، ولم ينجح أي شيء في دفعه إلى التروي وإعادة التفكير في الفعل التالي الذي يتعين عليه القيام به بعد أن وجدها ورآها – لم ينجح أي شيء في إثارة الشكوك فيه: لا الضعف الذي أصاب بصره في السنوات الأخيرة (من فرط القراءة، وأشياء أخرى)، ولا كونه قد رآها ليلاً من الخلف وهي تبتعد

ألقى بالكتاب، وهرول باتجاه باب الشقة ونزل إلى الشارع بملابس البيت، ولم يعرف حتى إن كان قد أغلق الباب خلفه أم لا. وفي غضون دقيقتين أو أكثر قليلاً كان واقفاً على الرصيف في نفس البقعة التي لمحها تطأها بقدميها منذ برهة، وكان يسأل تاجر السجائر العجوز: "ألم ترها هنا؟ هل سألتك عني؟ هل كانت سعيدة؟! تكلم يا رجل!!". لكن الرجل لم يرد عليه إلا بهمهات ساذجة ولم يبد عليه أنه فهم معنى سؤاله وبدا كما لو كان قد نسي من "هي" تلك التي كان عليه أن يجيب أحدهم عن سؤال بخصوصها بعد كل تلك السنوات، وفي جو رديء كذلك لم يبع بسببه أكثر من خرطوشتي سجائر طوال اليوم

* * *

ولاحظ صاحبه التغير الكبير الذي طرأ عليه، أو النكسة الحادة التي أصابته، منذ ذلك اليوم، أو منذ صباح اليوم الأول من الأسبوع التالي، بعد أن ألغى فكرة السفر المؤقت واستبدل بها الإقامة في الشرفة ليل نهار. وحين سأله الصديق عن السبب وراء ذلك التغير السلبي ولماذا عاد من جديد إلى تذكرها بعد أن كان قال من تلقاء نفسه ما إنه نسي كل شيء وأدرك أنها قد رحلت وأن الراحلين لا يعودون أبداً بتجسد مادي صرف إلى عالم الباقين،، كان جوابه على الصديق: "لقد رأيت امرأة، إما أن تكون هي بنفسها، أو أن تكون مجرد امرأة تشبهها بشدة". وحين لاحظ اندهاش صديقه الشديد الذي أوحى إليه بأنه بدأ يشك في قواه العقلية، أضاف بتردد: "بالتأكيد هي مجرد امرأة تشبهها، ولكن التشابه كان شديداً جداً. لكن لا تقلق عليّ، أنا بخير، وسأتحسن كما حدث من قبل". وسأل نفسه في نفس اللحظة تقريباً: أنى لها أن تظهر من جديد؟ وأين؟

والحق أنه لم يتحسن من بعد ذلك أبداً إلا شذراً، أو على الأقل لم يتحسن بمعايير صديقه أبداً: فقد عاد من جديد إلى الانزواء المستمر عن عالم الناس، وإلى القراءة النهمة في كتب وكتيبات النسيان والأشباح، وإلى التكلم مع نفسه ومعها (هي) بصوت عالٍ في أوقات العمل، وأمام الجمهور والمديرين. والجديد هذه المرة بالنسبة إليه، وإلى صديقه، أنه بات يتمنى اللحاق بها، وكذلك: أنه حاول السفر إليها مرتين، ولكن جاره وصديقه – اللذين كان عليهما أن يصيرا صديقين – حالا بينه وبين الرحيل في المرتين

وفي إحدى الليالي زاره صديقه ومعه فكرة جديدة مختلفة طرحها عليه بمجرد أن فتح باب الشقة عليه بالمفتاح الاحتياطي الذي بات يحمله: طرح عليه فكرة أن يبحث عن امرأة جديدة تشبهها، أو عن تلك المرأة التي تشبهها بشدة بالذات (المرأة التي لم ينجح تاجر السجائر الأناني عديم التعاون في الإشارة إلى الاتجاه الذي سارت فيه)، وأن يحاول إدخالها إلى حياته والدخول في الوقت نفسه إلى عالمها – إن كان ذلك ممكناً – لتكون عزاء وتعويضاً له عمن رحلت، وسبب راحة له مما ينتابه من وساوس وأرق. وحين انضم الجار إلى الجلسة، بعد أن فتح الباب عليهما بالمفتاح الاحتياطي الذي كان لابد أن يحصل عليه هو الآخر، أصبح عدد المتحمسين لتلك الفكرة الغريبة اثنين. أما هو فكان عليه أن يضع الكتاب الذي بين يديه ("حقيقة الأشباح وعالم البرزخ") جانباً وأن ينصت جيداً إلى ما يقولان وإلى المزايا المحتملة التي ظلا يعددانها لتلك الفكرة المبتكرة، وأهمها: أنها ستشغله عن أي محاولات جديدة لإيذاء نفسه (فقد صارحاه بأنه حاول الرحيل)، وأنها ربما تكون طريقه إلى العثور على أي منهما فعلاً. وفي نهاية الجلسة، وعندما كانت خيوط الفجر قد تشكلت بالكامل، رحل صديقه وعاد جاره إلى شقته وقد حصلا على وعد منه بالبدء في تنفيذ تلك الفكرة

* * *

وقد شغلته الفكرة كثيراً، وثبت مع استمراره في تنفيذها أنها كانت وسيلة إلهاء أفضل بكثير من الكتب التي أمضى في قراءتها مئات الساعات دون جدوى حقيقية منذ رحلت، أو على الأقل منذ تجلت تلك المرأة أمامه وأجبرت جهازه العصبي على الانتكاس من جديد. وبفضل الفكرة أصبح يقضي أمسيته كاملة خمس مرات أسبوعياً متجولاً على قدميه في الشوارع المحيطة والأحياء المجاورة، وفي شارعه الطويل الضيق أحادي الاتجاه – بالتأكيد، بحثاً عنها أو عن تلك المتجلية السريعة الخطى التي تشبهها من الخلف. وكان ذلك البحث الدءوب، في رأي صديقيه، كفيلاً بشيئين: إلهاؤه عن فكرة الرحيل الاختياري التي استولت عليه لفترة، وتهيئته تدريجياً لتقبل فكرة أنها لن تعود أبداً وأن المرأة التي تجلت له في الشارع، تحت المطر، لم تكن تشبهها حقاً ولكنه والكتب التي أدمن على قراءتها شبهوا ذلك لخياله.. ويبدو أن صديقيه كانا محقين في رأيهما

ورغم أنه لم يجد إحدى ضالتيه في الشوارع أبداً منذ بدأ البحث عنهما وحتى يئس من العثور عليهما تماماً، إلا أنه عاد – من بعد ذلك اليأس – للتحسن الصوري من جديد، وأصبح يقضي السهرات وحيداً يقرأ الجرائد أو مع صديقيه يتحدث في كل الموضوعات، إلا ما تعلمه من كتب "النسيان" وما جربه من إرشاداتها وما لمّا يجرب بعد.. وحتى حين عادت لزيارته في المنام من جديد، في ليلة شتوية أخرى، وقصت عليه رواية جديدة لاختفائها وطبعت قبلات جديدة على وجهه ظن أن آثارها ظلت باقية ومرئية على وجنتيه بالذات حتى الصباح، وحتى حين عاد للبحث عنها من جديد بشكل فردي، فإنه لم يقص ذلك لأحد منهما أبداً، وكأنه قد تعلم أحد الدروس وأتقنه في نهاية المطاف



#محمد_علي_ثابت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رهانات متفاوتة
- دفقات
- عم أونطة
- بعضٌ مما نعرفه لاحقاً
- على مُنحنى السواء
- لكُلٍّ يَمٌّ يُلهيه
- مَحْض صُدَف - قصة قصيرة
- تصرفات شتى إزاء الريح
- أقصُوصة من سِفر الإياب
- فعل الأمر في رؤيا
- فصل العلم عن الدين.. لماذا؟
- متوسط المتوسط
- حالات
- انتصار الهاء
- بينما أنتظرك
- حتى أتتني الرسالة
- بطل، والنهاية
- شكراً يا سمرا
- مَن أنت؟
- في الحقيقة..


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد علي ثابت - هي (قصة قصيرة)