أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - نزار نيوف - بو علي ياسين في الذكرى التاسعة لرحيله : الماركسي أبدا ، اللاماركسي دوما















المزيد.....



بو علي ياسين في الذكرى التاسعة لرحيله : الماركسي أبدا ، اللاماركسي دوما


نزار نيوف

الحوار المتمدن-العدد: 2646 - 2009 / 5 / 14 - 09:05
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    


توضيح من المحررة :
كتب الزميل نزار نيوف هذا المقال في 18 من الشهر الماضي من مقر إقامته في مركز صحي في لوكسمبورغ خصيصا لملف موقع " الأوان " التابع لرابطة العقلانيين العرب . وكان الموقع قرر تخصيص ملف عن الكاتب والمفكر الماركسي السوري بو علي ياسين ( ياسين حسن) في الذكرى التاسعة لرحيله. لكنه ، وبسبب تدهور وضعه الصحي ، لم يتمكن من مراجعته بصورته النهائية. وعندها بادر أحد أفراد أسرته إلى إرسال المقال لهيئة تحرير " الأوان " التي تلكأت في نشره في البداية ، قبل أن تهمله نهائيا . وعند مراجعة إدارة الموقع ، أجابت هذه الأخيرة خطيا بأن المقال أورد بعض الأسماء والعبارات بطريقة " غير مناسبة " و " نرجو منه أن يراجعها " . لكن إدارة الموقع ، وبعد انتظار دام حوالي عشرة أيام ، رفضت الإشارة إلى العبارات أو الأسماء المراد تعديلها !؟
تبين لاحقا أن الموضوع كان مجرد ذريعة لا أساس لها. فلم يذكر في المقال أي اسم بطريقة تقتضي التعديل . وفي الحقيقة ـ وكما علمت من أوساط " الأوان " ـ فإن السبب الحقيقي لعدم نشر المقال كان " ماركسيته الزائدة عن اللزوم ، التي لا يستطيع موقع الأوان والجهة الممولة له تحملها " وفق تعبير هذه الأوساط ! والنص أدناه هو المقال كما أرسل إلى " الأوان " حرفيا دون أي تحرير أو تعديل ، ونترك للقارىء الحكم بنفسه( ناديا قصار ـ دبج).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بو علي ياسين .. الماركسي أبدا ، اللاماركسي دوما
أو : المثقف النقدي في مواجهة المثقف القطيعي

نزار نيوف

طرح الراحل إدوارد سعيد ذات يوم سؤالا على أحد أصدقائه (صبحي حديدي) عن المثقف العربي الذي يمكن وصفه بـ " المثقف النقدي " ، فكانت الإجابة التلقائية ، وهي محقة رغم أنها غير كاملة : هادي العلوي .

لم يكن استفهام إدوارد سعيد استنكاريا بطبيعة الحال ، وإنما استفهام من يريد أن يعرف ـ وهو الذي تفرغ طيلة حياته للقتال خلف خطوط " العدو " ـ ما إذا كان هذا النوع من المثقفين شبه المنقرضين لم يزل موجودا في العالم العربي بعد أن استشرى فيه حضور " المثقف القطيعي " على نحو سرطاني ، وأصبح فيه " العلم العام هو علم الأمين العام " ، حسب التعبير الساخر لجورج لابيكا.

أما " صهرنا " العزيز صبحي حديدي فخانته ذاكرته على الأرجح ، وكان لا بد ـ بالتالي ـ أن يَسقط اسم بو علي ياسين سهوا من أرشيفها الكبير، كما سبق له أن سقط أو أُسقِط عمدا من " السيرة الثقافية " الرسمية وشبه الرسمية لوطن آمن دوما ، أو منذ العام 1963 على الأقل ، بأن العلم العام لا يجيده أحد سوى الرفيق الأمين العام . وحين رحل ، لم يجد من يرثيه ويكتشف أهميته في " سيرتنا الثقافية" سوى ديانا جبور و ملحق جريدة الثورة ، بالمعنى " العقاري " لكلمة ملحق !

والحق إن تلقائية إجابة صبحي حديدي لجهة استحضارهادي العلوي ، دون غيره ، وسقوط اسم بو علي ياسين وغيره سهوا من ذاكرته ، وهو المقمّش الذي لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم ، خلف خطوطنا كما خلف خطوط " العدو " ، وعلى جبهات المواجهة كافة ، لم يكن في وجه من وجوهه سوى تعبير عن الحضور الطاغي للمثقف القطيعي إلى حد أصبح معه استحضار مثقف آخر من طينة هادي العلوي على غرار بو علي ياسين ، من قبل مقمّش بارع من طينة صبحي حديدي ، يحتاج إلى أكثر من التلقائية ! وتلخص الإجابة ، في وجهها الآخر ، محنة المثقف النقدي في وطننا / أوطاننا ، وتفضح أسها المأسوي ومحنتها كما لا يلخصه أو يفضحه شيء آخر . فـ " بو حسن " ( هادي العلوي) ، مثلا ، ورغم التراجيديا التي عاشها " مسلّحاً وأعزلَ ومنبوذاً" ، لم يكن ليسقط سهوا لا عن لسان صهرنا العزيز ولا عن ألسنة مؤرخي " سيرتنا الثقافية الموازية " ، فقد كان له في "مؤسسات" و " حوزات" الماركسية السوفييتية وأخواتها " الشعبيات والديمقراطيات " ، من يشفع له في حضرة الغياب ، رغم عصيانه المزمن ، ويقيه ظلامة السقوط سهوا أو عمدا .. حتى في عصر " الردة " التي قادتها الأنظمة الشخبوطية المسلحة بـ " الليبرالية الوهابية " والأنظمة المخلوفية المسلحة بولاية الفقيه! أما بو علي فكان بلا أي شفيع ، حتى ولو من غرار شفيع الحرفيين القروسطيين .. سلمان الفارسي !
***
لا أستطيع الادعاء بأني عرفت بو علي ، كما سبق لي وعرفت الطهراني الآخر"بو حسن" مثلا ، فلم يتسن لي أن ألتقيه إلا في مناسبتين ؛ إحداهما عرَضية متأخرة في مكتب مجلة " النهج " في حي محي الدين بن عربي بدمشق أواخر الثمانينيات الماضية .. قبل أن يسرقها أحد ثوار الماركسية السوفييتية ويصنع منها بساطا أحمر ولحافا لبول بريمر ولزعماء " الديمقراطية الطائفية العشائرية " ، وأولاهما مبكرة مقصودة قبل ذلك ببضع سنوات في مكتبه بمديرية التخطيط في اللاذقية حين كنت أعد دراسة مطلوبة مني أكاديميا عن قطاع الغزل والنسيج في سوريا . ولم يكن ثمة من هو أجدر من صاحب " القطن وظاهرة الإنتاج الأحادي في الاقتصادي السوري " لأستشيره في هذا المجال ! لكني أستطيع الزعم بأني عرفته ، أو هذا ما أتوهمه الآن بعد سنوات تسع على رحيله ، كما لم يعرفه كثيرون ؛ ليس لأنه كان مكونا عضويا من " ثقافة العصيان" على النظام السياسي والاجتماعي والإلهي ، التي تربيت عليها باكرا ودائما، وهو حال جمهرة واسعة من أبناء جيلي في سوريا والعالم العربي كثيرا ما تداولـَتْ "محرماته" على شكل منشورات فوتوكوبية ؛ ولكن لسبب آخر أعتقد أنه مربض فرس ريادته في بلادنا يوم أصبح " بياطرة" الثقافة الثورية والوهابية ، على حد سواء ، موكلين أمرَ التمييز بين فرس أصيلة وبغلة لا تجد ما تفاخر به سوى أن " خالها الحصان " ... إذا ما سألها أحد عن هوية أبيها!
***
ينتمي بو علي إلى مجموعة العُصاة نفسها التي صاغت سيرتنا الثقافية " الموازية " ، وتربى في كنفها قسم كبير من أبناء جيلي ؛ أي المجموعة التي أقض مضاجعَ مسلماتنا ، شبه الدينية ، "عيّاروها" و"شطّارُها" و " حلاجوها" المارقون من أمثال الياس مرقص و نايف بلوز وسعد الله ونوس وجورج طرابيشي وأحمد صادق سعد ونوال السعداوي وصادق جلال العظم والعفيف الأخضر ومهدي عامل وفواز طرابلسي ...، كل في ملعب زندقته وهرطقته التي برع فيها ( وأحيانا في ملاعب مشتركة) ، فلم يخلّفوا فينا إلا قلقا من النوع الذي أمَضّ " شخصيات" عبد الرحمن بدوي ، قبل أن تودي زندقتُهم وهرطقاتُهم بالكثيرين منا إلى الزنازين ، ثم المنافي لمن بقي حيا ، دون أن تجعلنا نندم على ذلك ، أقلّه بالنسبة لي!

والحق إنه من قبيل العبث المحض ، فكم بالأولى في مناسبة تكريمية ، أن يستعيد المرء أو يلخص بعضا من إرث بو علي ، أو إرث غيره من هؤلاء العصاة ، على سبيل الاستشهاد والاقتباس. فالتلخيص ليس شيئا آخر سوى المَسْخ ، وما لا يُدرَك كلـُه لا يُدرَك جلـُه! ولهذا يصبح تحديد ملامح وجوهر العصيان النقدي في إرثه ، والآخر المعصيّ ، في وهلة تاريخية مُعرّفة ، هو السياقَ المنطقي الوحيد الذي تتحدد من خلاله أهمية ما قام به : ما بقي منه ثابتا ، رغم أنه لا ثابتَ مطلقا أو نسبيا مع الحركة ( على قول غالب هلسا ، وإخوان الصفا)، وما أصبح متحولا في ذمة التاريخ الذي أطاح الكثير منه كما من غيره .
ثمة الكثير من المكروهات في الحياة مما ينطبق عليه القول " عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم " . ومن هذه المكروهات الحميدة أو الخيّرة حصول الانفصال بين مصر وسوريا في العام 1961 ، وقيام الجهات الوصائية الجديدة في سوريا بنقل منحة بو علي ياسين التعليمية ـ لاحقا ـ من شرق ألمانيا " الشيوعية" إلى غربها الرأسمالي ؛ أو بالتعبير المفارق : من المكان الذي أنتج الثقافة الماركسية القطيعية التي سيعمد أبناؤها لاحقا ( 1989 ) إلى تحطيم تماثيل كارل ماركس (في لايبزغ) بعد تحميله وزر إرهاب الـ " شتازي" و مسؤولية خلق " الإنسان ذي البعد الواحد " في نسخته " الشيوعية " ، إلى المكان الذي أنتجت كبرى جامعاته ( فرانكفورت) ثقافة ماركسية نقدية في مجتمع مرسمل حتى النخاع لا يتردد في التنديد بالتصرف "الرعاعي " لتوأمه المشرقي واستهدافه "رمزا من رموز الشعب الألماني وثقافته العظيمة " (وفق تعبير هيلموت كول )!

في هذا المجتمع ، الذي لم يتحرج مستشاره هيلموت كول من وصف سلوك محطمي تماثيل كارل ماركس بأنه " فعل رعاعي " ، وجد بو علي ياسين نفسه وجها لوجه ، وللمرة الأولى ، أمام الماركسية وهي تعمل على الأرض بوصفها " علما" بعد أن عايشها في برلين ، ومضارب الملاّ خالد بكداش ، بوصفها " تعاليم " لا تختلف في أواليات اشتغالها ، في قليل أو كثير ، عن " تعاليم " عفلق والأرسوزي عن العربي الذي يكفي لسانه ( وفق المأثور المحمّدي) لتحديد هويته ، والتاريخ العربي الذي يمكن فهمه من خلال .. عبقرية اللغة العربية !

في هذا المكان ، ألمانيا الغربية عموما وفرانكفورت على وجه الخصوص ، سيشارك بو علي ياسين في الانتفاضة الطلابية العام 1968 ، أو ما يعرف باسم " كومونة فرانكفورت " . لكن الأهم من مشاركته ـ على أهميتها كدرس تطبيقي في العصيان ـ سيكون اكتشافه أن " الكومونة " لم تكن في واقع الحال إلا صدى لأربعين عاما من التجديد النظري في الماركسية على أيدي باحثي ومفكري معهد الأبحاث الاجتماعية Institut für Sozialforschung في جامعة المدينة ، أو ما سيعرف إعلاميا وثقافيا باسم " مدرسة فراكفورت " .

كانت " المدرسة " قد قطعت حتى ذلك الوقت شوطا هاما جدا في نفض غبار"الأممية الثالثة " اللينيني ـ الستاليني عن أعمال مثقفي الماركسية الأوائل ( روزا لوكسمبورغ ، بليخانوف ، هيلفردنغ ...) الذين " كفرهم " النظام البلشفي الجديد ؛ فضلا عن إعادة الاعتبار للنصوص " اللا ماركسية " في أعمال ماركس نفسه، لاسيما منها " نمط الإنتاج الآسيوي " ، بوصفه شكلا خاصا و" شاذا " من الإقطاع الأوربي تلعب فيه الدولة دور " الإقطاعي الوحيد " الذي يملك "حق رقبة" الأرض والاستيلاء على ريعها العقاري ( " الخراج") بالقوة ما فوق الاقتصادية Extra-economic، وتحت غطاء أيديولوجية " سماوية " ( حالة الإمبراطورية الإسلامية ) أو أرضية ( حالة الإمبراطورية الصينية ومصر الفرعونية والبطلمية) ، بكل ما يعنيه ذلك من حضور طاغ لاستبداد الدولة المركزية ، ومن غياب الملكية الخاصة للأرض الذي يسمح ( كما حصل في أوربا على أيدي النبلاء ) بتحول الريع العقاري إلى رأسمال ، وبالتالي خلق طبقة بورجوازية ، سواء في شكلها الثوري ( المسار الصناعي) أو المحافظ ( المسار التجاري). أما العلامة الفارقة لـ" مدرسة فرانكفورت " في هذا المجال فكانت العمل الذي أنجزه أحد أبرز رموزها كارل فيتفوغل (" الاستبداد الشرقي : دراسة مقارنة عن السلطة الشمولية" ، 1957 ) ، رغم أنه كان في ذلك الوقت قد أصبح أستاذ كرسي الدراسات الصينية في جامعة واشنطن في سياتل. ولا يقلل من شأن الطابع الفذ والأصيل لعمل فيتفوغل ، أقله في حينه ، أن أعمالا لاحقة لمؤسسي " نظرية النظام العالمي " ( خصوصا أندريه غوندر فرانك ، سمير أمين ، و جيوفاني أريغي ) ، قد قلبت أطروحة ماركس رأسا على عقب ، مثلما سبق لهذا الأخير أن فعل مع الديالكتيك الهيغلي ( حسب الرواية الفلسفية والاقتصادوية الشائعة التي دحضها كل من ألتوسير و بول سويزي) . فقد أثبت الثلاثة المذكورون من خلال الأبحاث التاريخية الأمبريقية التي قاموا بها ، في آسيا وأفريقيا (أمين وأريغي) و أميركا اللاتينية (غوندر فرانك) ، أن " نمط الإنتاج الآسيوي " أو " الخراجي" كان في الواقع هو القاعدة التاريخية العامة ، بينما كان" الإقطاع الأوربي " هو الاستثناء الذي ولد بفعل ظروف كانت هي بدورها استثنائية ( غزو القبائل الجرمانية ـ الإسكندنافية للإمبراطورية الرومانية خلال النصف الأول من الألفية الأولى وماقبلها ) !

المجال الثاني الذي عملتْ عليه " مدرسة فرانكفورت " كان محاولتها الأصيلة " دمج " إنجازات علم السلوك ( "علم النفس") بالماركسية ، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع . ولعل أبرز إنجازاتها في ذلك ما قام به فيلهلم رايش ، النبي العبقري الذي قضى في أحد سجون الإرهاب الثقافي الأميركي و ظل دوما بلا أتباع ، في مجال "الحرية الجنسية" و"القمع البرجوازي" لهذه الحرية ومستوى "السيكولوجية الجمعية للفاشية والأنظمة التوتاليتارية" واكتشافه طاقة Orgone الجنسية التي ظلت دوما مثيرة للجدل حتى بعد أن اختبرها سريريا على إنشتاين نفسه الذي سلّم بها ؛ ثم ما قام به إيريك فروم ، على صعيد آخر لكن في السياق نفسه ، لجهة ما يتصل بالمنظورات السيكولوجية للضبط الاجتماعي في المجتمعات الصناعية الحديثة ، والسيكولوجيا والدين بوجه عام ... إلخ.

في الواقع ، ولدى قراءتنا أعمال بو علي ياسين ، لن نعثر ( أو هذا ما حصل بالنسبة لي في حدود ملاحظتي) على أي إشارة من قبله إلى أطروحة كارل فيتفوغل عن نمط الإنتاج الآسيوي و" المجتمعات الهيدروليكية " ( المائية) الشرقية القديمة ، لكن أصداءه تبدو واضحة ومسموعة إلى حد بعيد في القسم الأول من الباب الثاني في " ثالوثه المحرم " ، أي القسم الذي كرسه لمسألة " نشوء الدولة الإسلامية ونظامها الاقتصادي" ، وكذلك في " حكاية الأرض والفلاح في سوريا" . وذلك من خلال اعتماده على نصوص ماركس بشأن الكولونيالية البريطانية في الهند وغيرها ( وهي النصوص التي كانت في خلفية عمل كارل فيتفوغل ، بغض النظر عن الجزء الآخر من الخلفية الذي مثله ماكس فيبر) ، و الدراسات المقارنة التي أنجزها المؤرخ الاقتصادي الهنغاري يوجين فارغا Eugene Vargaعن الإقطاعين الأوربي و " الشرقي " ( سبق أن ترجمها عن الفرنسية جورج طرابيشي في العام 1972) . ذلك مع الإشارة إلى أن فارغا لم يخرج كثيرا ـ حتى في ذروة خلافه مع الحزب الشيوعي السوفييتي ومنظريه (على خلفية قراءته الشجاعة نسبيا لـ " أزمة " الرأسمالية في الغرب ) ـ عن الخط العام للاقتصاديين السوفييت وزملائهم في أوربا الشرقية ... سوى بإشارته إلى أن " لدى الرأسمالية (الغربية) ديناميات خاصة تسمح لها بتجاوز أزماتها " . ومع هذا فقد كلفته إشارته هذه البقاء في الظل ومنع الإشارة إلى أعماله على مدى سنوات عديدة قبل أن يعاد له الاعتبار في موسكو ( حيث عمل مستشارا لدى الكريملين) وفي بودابست. وفي الحالتين كلتيهما وجد شيوعيو أوربا الغربية " الرسميون" فرصة طيبة لتكريمه من خلال ترجمة أعماله إلى الإنكليزية والفرنسية !
في مقابل ما تقدم ، تبدو روح " مدرسة فرانكفورت " هي الأكثر حضورا في أعمال بو علي ياسين لجهة ما يتصل بقضايا المرأة والجنس والعلاقات الجنسية والكبت الجنسي والدور الذي يلعبه القمع الديني والاجتماعي على هذه المستويات ، سواء في المجتمعات القديمة أم الحديثة ، وإنْ وفق أواليات مختلفة بطبيعة الحال .وهذه كلها موضوعات كانت غريبة تماما عن جدول أعمال واهتمامات الشيوعيين السوريين آنذاك ، والعرب الآخرين إلى حد ما . فههنا نتلمس حضور طيفـَيْ فيلهلم رايش وإيريك فروم وروحيهما على نحو شديد الوضوح، رقم اقتباسهما المحدود نسبيا من قبله . ويبرز ذلك في القسم الأول من " الثالوث المحرم " ( الدين والجنس ) ، وفي أعماله الأساسية المكرسة للمرأة ـ تنظيريا وتطبيقيا . هذا فضلا عن الترجمات التي قام بها في هذا المجال عن اللغة الألمانية ، والتي تعكس ليس وعيه بأهمية هذه النصوص فقط ، وهذا أمر بدهي ، ولكن انحيازه إلى منهجها أيضا .
المجال الثالث الذي ميز بو علي ياسين نفسه فيه ، كريادي في الانشقاق على الماركسية الأرثوذوكسية ( السوفييتية وتوابعها) في سوريا وبقية العالم العربي ، يبدو لي أنه كان أكثر وضوحا وجذرية في مجال السياسة وممارستها يسارا ، سواء على مستوى التأصيل النظري أو الممارسة العملية . فعلى المستوى الأول لم يتردد في القذف بنفسه في لجة القضايا الأكثر حساسية و " خطورة " آنذاك ، أي مسألة السلطة العمالية ، وضمنا " الحزب من طراز لينيني" والنقابات ، و قضية التنمية في بلدان الأطراف مثل سوريا والعلاقة مع السوق الرأسمالية العالمية وطبيعة الدولة المراد بناؤها(1). أما على مستوى الممارسة العملية ، فسرعان ما وجد نفسه جزءا عضويا من ظاهرة " الحلقات الماركسية " التي تمخضت عن رابطة العمل الشيوعي ( حزب العمل الشيوعي اعتبارا من العام 1981 ) ، قبل أن يغادر صفوفها للالتحاق بالحزب الشيوعي السوري ( المكتب السياسي ) الذي كان جرى تخوين زعيمه رياض الترك رسميا من قبل مكتب " الكومنفرم " في براغ ، أي المكتب الذي لعب دور " وزارة إعلام " الحركة الشيوعية العالمية التابعة لموسكو (2) . ومن المؤكد أن الانشقاق والعصيان في هذا المجال ( كما في قضية الدين) كان بحاجة آنذاك ( مطلع السبعينيات)، لاسيما في بلداننا ، إلى شجاعة سياسية وفكرية أكبر بكثيرمن تلك الحاجة إليها في المجالات الأخرى ، بالنظر لارتباط الأمر على نحو مباشر بمزاعم الأنظمة المسماة " اشتراكية " أو "ديمقراطية ثورية " ، وحلفائها الشيوعيين الأرثوذوكس ، حول المجتمعات والدول التي بنتها أو كانت تبنيها ، وبالتالي إصابة خطابها عن نفسها في مطعن أو مقتل. وكان على أي منشق أصيل في هذا المجال أن يواجه ليس فقط الأنظمة الحاكمة ( وهذا أمر بدهي ومفهوم) ، بل وكذلك سلسلة من " الكنائس" الشيوعية المتحالفة معها مباشرة أو مداورة ، ومجموعة لا حصر لها من الطواطم والتابوهات التي أنتجتها الماركسية الأرثوذوكسية الرسمية ، لاسيما نسختها اللينينية ـ الستالينية ، منذ العام 1917 على الأقل (3).

كان بو علي ياسين يدرك في قرارة نفسه أن نجاح أي عصيان نظري يقوم به هو أو غيره في الدفاع عن الماركسية كعلم ، يجب أن يكون ضد اللينينية بالدرجة الأولى ( وليس فقط ابنتها الشرعية ، الستالينية ، كما اعتقد البعض وحاول أن يفعل) . وذلك بوصفها( أي اللينينية) أول فأس ساهم في حفر قبر الماركسية وتحويلها من " علم " إلى " تعاليم " ، حسب اعتقادي . وعلى الرغم من عدم تصريحه بذلك نصا ، ومن أنه لم يتخلص تماما من الإرث اللينيني ـ اليعقوبي في حدود ما تمكنتُُ من ملاحظته في أعماله ، فإن الزوايا والأسس النظرية التي انطلق منها في رؤيته للمسائل التي عالجها على المستوى السياسي ( بالمعنى الذي أشرنا إليه في الهامش الأول) ، أو تلك التي انتهت إليها نتائجه ، تؤكد ما نذهب إليه في هذا القول . والواقع لم يكن ثمة غير روزا لوكسمبورغ وأصالتها النظرية ، كمثقفة نقدية في المقام الأول قبل أن تكون مناضلة سياسية وشهيدة مشروع سياسي ، من يمكنه تلبية متطلبات عناصرالمشروع النقدي الذي وضعه بو علي ياسين لنفسه في هذا المجال كمثقف نقدي معني بتغيير مجتمعه. وفي تقديري الشخصي لعب انتماؤه إلى بلد متخلف مثل سوريا ، أو" مجتمع يبنيه العسكر " حسب تعبير أنور عبد الملك في كتابه المرجعي عن النظام الناصري ، دورا أساسيا في اكتشافه أصالة روزا لوكسمبورغ ( بعد عودته مجددا إلى ألمانيا). فقد كانت " عالم ـ ثالثية " قبل أن تولد " العالم ثالثية Third-Worldism" بنصف قرن على أيدي بول باران Paul A. Baran الذي يعود له الفضل في اكتشاف مفهوم ونظرية “الفائض الاحتمالي" Economic Surplus Potential وبرهانهما رياضيا ، استنادا إلى منهج روزا في عملها الريادي العبقري " تراكم رأس المال ، 1913”. (ليس بمحض المصادفة أن باران أيضا كان من رواد “مدرسة فرانكفورت" ومؤسسي معهد البحوث الاجتماعية إلى جانب ردولف هيلفردنغ ـ الأب الحقيقي لنظرية " الإمبريالية" قبل أن يقتبسها عنه لينين ، على نحو شبه حرفي ، وينسبها لنفسه في كتابه الشهير " الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية"!).

أهمية روزا لوكسمبورغ بالنسبة لبو علي ياسين ، ولكثيرين غيره في المجتمعات المتخلفة ، جاءت من كونها أول من تمكن من وضع اليد على المشكلات الحقيقية للمستعمرات ( التي ستعرف لاحقا باسم " العالم الثالث ") ، والأسباب الفعلية المولدة لهذه المشكلات ، وآفاق الحلول المقترحة لمواجهتها في إطار النظام العالمي الذي أصبح كذلك منذ أواسط القرن التاسع عشر على الأقل . ولم يكن ذلك بما يتوافق دوما مع نصوص ماركس حول الكولونيالية ، إذا ما وضعنا جانبا بعض رسائله التي خطّها في آخر حياته لروزا زاسوليتش ، والتي يبدو من خلالها أنه أجرى " نقدا ذاتيا " صارما ومراجعة جدية لما كتبه عن الدور" التقدمي " الذي تضطلع به الكولونيالية البريطانية وعملها " الثوري " في دك المجتمع القديم !

كانت روزا لوكسمبورغ ، ودائما بفعل أصالتها وحسها النقدي المرهف ، تدرك ( منذ العام 1913 على الأقل) ، أي قبل سنوات من انتصار المشروع البلشفي (اللينينية عمليا) ، أن هذه الأخيرة لا تؤسس لمشروع جديد بقدر ما تؤسس لديكتاتورية رأسمالية الدولة ، أو ما أفضل تسميته بـ " ديكتاتورية يعقوبية من طراز فرنسي لا أفق لها سوى التحول إلى ديكتاتورية بونابرتية ، وهو ما سيحصل تحت راية الستالينية قبل أن ينتشر لاحقا في جميع ما سمي بلدان الديمقراطيات الثورية العالم ثالثية ، كالناصرية والبعثية وسواهما ، ولكن على نحو أكثر كاريكاتورية وإثارة للسخرية" (4). ولم تكن روزا على خطأ . فبعد أقل من عام ونصف العام على استشهادها التراجيدي مطلع العام 1919بأيدي مجموعة من " الاشتراكيين الوطنيين " القوميين ( من طراز بعثي وناصري مبكر!) سيصبحون النواة الصلبة للنازية والفاشية الهتلرية في السنوات اللاحقة ، سيضع لينين ( في المؤتمر الثاني للأممية الثالثة) الأساس النظري للفكر التخريبي الرجعي ، بالمعنى التاريخي ، الذي ستتبناه الأحزاب الشيوعية في " العالم الثالث" حتى يومنا هذا ، بكل ما أدى إليه ذلك من جريمة التحالف مع أنظمة وطبقات وفئات وقوى جرت تسميتها ـ في واحدة من أكبر عمليات النصب والاحتيال في التاريخ ـ بـ " الأنظمة الوطنية " تارة و " الديمقراطية الثورية " تارة أخرى ، رغم ما اتضح منذ البداية أن الدور الوحيد الذي تستطيع الاضطلاع به هو إعادة إنتاج التخلف في لبوس من الحداثة الكاذبة .

قد يبدو من نافل القول ، وربما الحشو أيضا ، أن نفرد مساحة كبيرة للحديث عن روزا لوكسمبورغ في سياق مقال محدود الحيّز عن مشروع بو علي ياسين ؛ لكن فهمَنا منطلقاتِه ومنهجَ تفكيره سيكون ـ من وجهة نظري ـ أمرا متعذرا دون معرفة حجر الأساس " اللوكسمبورغي " ، فضلا عن " الفرانكفورتي " ، الذي وضعه في قاعدة بنائه النقدي على المستويات المشار إليها . ( لم يكن من قبيل المصادفة أنه أطلق أيضا اسمها على ابنته ، الروائية الشابة روزا ياسين حسن!).

نهض نقد روزا لوكسمبورغ للينينية ، وبالتالي لجميع الأحزاب الشيوعية " الرسمية " التي ستلتحق بالبابوية اللينينية ـ الستالينية، على أساسين جوهريين لن يتردد بو علي ياسين في استعادتهما وتمثلهما في منهجه النقدي ، لكن بعد إعادة إنتاجهما في سياق معطيات الظروف المحلية وخصائصها:

أولا ـ نقد أطروحة لينين عن " إمكانية " اشتغال الرأسماليات المتروبولية " دون الحاجة إلى منافذ تصريف خارجية " (5). ورغم أن القضية تبدو بسيطة في ظاهرها ، أو من قبيل الترف الأكاديمي والنظري ، إلا أنها في واقع الحال على درجة حاسمة من الأهمية بالنظر لما يترتب عليها من إجابات تتصل بتحديد هوية المشروع المنوي بناؤه في البلدان المتخلفة ضمن إطار النظام الدولي ( المسمى الآن بـ " العولمة"). وذلك من زاوية الإجابة على السؤال الجوهري المتصل بما إذا كانت " قوانين التبادل اللامتكافىء" التي تقوم عليها علاقة المتروبولات الرأسمالية بالمجتمعات التابعة تسمح بقيام بـ " بورجوازية وطنية " في هذه الأخيرة أم لا!؟ ؛ وبالتساوق مع ذلك : ما إذا كانت هذه العلاقة مشروطة دوما باستمرار القوانين المشار إليها ، بل وفرضها بالقوة المسلحة إذا اقتضى الأمر !؟ والواقع إن سيرة النظام الدولي منذ نشأته أواسط القرن التاسع عشر لم تسمح إلا بإجابة سالبة على السؤال الأول وموجبة على السؤال الثاني . ومن الواضح أن بو علي ياسين قد أدرك ذلك مبكرا . فقد حلل هذه العلاقة في عمل " إمبريقي ـ نظري " من خلال دراسته عن " القطن و ظاهرة الإنتاج الأحادي في الاقتصاد السوري " ( 1974) و " حكاية الأرض والفلاح السوري" (1979) . فقد كشف مبكرا عن أن ما يقوم به النظام البونابرتي في سوريا ليس في الواقع سوى عملية إعادة إنتاج للتخلف ، بتعبير أندريه غوندر فرانك الشهير ، وبناء اقتصاد " إسفيني" مخلّع من خلال علاقته التبعية بالسوق الرأسمالية العالمية ، ووضع هذه العلاقة في سياق " علاقة تراكم ابتدائي " ( كما كشفت روزا مبكرا بعبقرية فذة ) وليس علاقة " تراكم موسع " كما زعم لينين الذي بنى على استنتاجه هذا مقولته الشهيرة عن " الدور التقدمي " لبورجوازيات العالم الثالث ، ولم يجد من يتصدى لـ " زعبرته" هذه ( في المؤتمر الثاني للأممية ) سوى شخص واحد هو الزعيم الشيوعي الهندي نارينا ناث بهاتاشاريا ، الشهير باسم مانابندرا روي ! والواقع ، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار التجربة العمرية ( 32 عاما) والسياسية والثقافية " المحدودة " لبوعلي ياسين عندما كتب كتابه المذكور أولا ، والظروف المهيمنة آنذاك محليا ودوليا ( التي كان يطيب لجدتي الفلاحة والأمية أن تصفها بأنها " فترة تشبه تلك الوهلة الواقعة عند تخوم الفجر حيث لا يمكن أن نميز فيها بين الواوي والكلب "!) ، و العزلة النسبية عن العالم ومنجزات " مدرسة التبعية " ، يمكن اعتبار بو علي ياسين رائدا نادرا في هذا المجال من بين الرواد السوريين الآخرين على هذا المستوى . وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الحزب الشيوعي السوفييتي كان انتهى للتو من " إقناع " الشيوعيين السوريين ، باستثناء قلة منهم ( من خلال مجموعة " علماء" يقودهم صحفي وضابط مخابرات اسمه .. يوري بريماكوف !) بأن ما يجري في سوريا " تطور لا رأسمالي ، وتحول تقدمي " ، وأن كل من يقول بغير ذلك " يخدم الإمبريالية العالمية " ، ندرك الملبغ الذي بلغته شجاعة الهرطقة التي أنجزها بو علي ياسين في هذا السياق ... وهو الموظف في مؤسسة رسمية!

ثانيا ـ نقد الأطروحات اللينينية عن " الحزب " وعلاقته بـ " النقابات " و " الدولة " و دور الطبقة العاملة ونقاباتها في إدارة الاقتصاد . ومن المعروف أن روزا لوكسمبورغ كانت وجهت نقدا لا هوادة فيه لأطروحات لينين في هذا المجال ، وبشكل خاص ما جاء في كراسة " ما العمل " التي وضعها مطلع القرن الماضي ، وأصبحت حتى يومنا هذا قرآن الحركات الشيوعية وإنجيلها بشأن المسائل المشار إليها . بل إن جميع الأحزاب القومية النازية وشبه الفاشية ومنوعاتها ( من قبيل الناصرية والبعثية والبيرونية ..إلخ) ، وليس بمحض المصادفة ، نسخت المنظورات اللينينية في هذا السياق على نحو شبه حرفي ... تماما كما فعلت الأحزاب الشيوعية نفسها! ولم يكن لهذه المنظورات أن تؤدي ـ من جملة ما أدت إليه ـ سوى إنتاج ثقافة " عسكرية " لا ترى في الحزب إلا " حفنة من المتآمرين " قبل الوصول إلى السلطة ، حسب تعبير روزا نفسه ، و أداة لقمع وإرهاب الطبقة العاملة ونقاباتها وتحويلها إلى مجرد مؤسسات بيروقراطية في خدمة حفنة من أصحاب " النفوذ الثوري" في هرم السلطة ومصالحهم الأنانية الضيقة بوصفهم " أرباب العمل الاشتراكيين" ، والقضاء على الديمقراطية الاشتراكية التي يفترض بها ـ حسب مأثور ماركس الشهيرـ أن لا تكتفي بإنجازات الديمقراطية البورجوازية التقدمية تاريخيا ، بل وأن تتقدم عليها أيضا من خلال إعطائها بعدا جديدا يتمثل بالديمقراطية الاجتماعية . والواقع إن كل ما حذرت منه روزا لوكسمبورغ بشأن اللينينية ، وقعت فيه هذه الأخيرة منذ اللحظات الأولى لتمكنها من السلطة ، فكان من أولى مبادراتها في الدفاع عن الطبقة العاملة تنفيذ مذبحة وحشية ( بإشراف مباشر من لينين وتروتسكي!) ضد ... مجالس العمال والجنود المنتخبة ديمقراطيا ربيع العام 1921 في كرونشتاتد Kronštadt ، والبطش بحوالي خمسة آلاف عامل وبحار شيوعي قبل سوقهم إلى المقابر أو معسكرات الاعتقال ! ولم يكن من قبيل المصادفة ،كما لو أننا في محكمة أمن الدولة في سوريا بعد سبعين عاما على ذلك حيث سيحاكم المئات من رفاق و " تلاميذ " بو علي ياسين بالطريقة نفسها ، أن يجري اتهام عمال وجنود كرونشتاتد من قبل الطغمة اللينينية بأنهم " عملاء للمخابرات الفرنسية وأدوات للإمبريالية الدولية" ، وفق ما ورد حرفيا على لسان روبسبير روسيا وقضاته الثوريين، الشبيهن جدا ( ومرة أخرى دون أية مصادفة ) بالقاضيين الرفيقين ...ناظم كزار وفايز النوري !

هذان المنظوران النقديان " اللكوسمبورغيان" ( بالإضافة لـ " مدرسة فرانكفورت" طبعا ) سيكونان ، على طول الخط ، منطلقي بو علي ياسين في أعماله " السياسية" كلها منذ عودته من ألمانيا ؛ وبالتالي تكريس نفسه مثقفا ماركسيا " لا ماركسيا" أصيلا ، ليس إزاء السلطة الرسمية ومؤسساتها وتعبيراتها فقط ، بل وإزاء " السلطة غير الرسمية " التي يمثلها المجتمع وتعبيراته المنظمة والافتراضية على حد سواء .

قد تبدو أفكار وأطروحات بو علي ياسين قديمة اليوم ، بعد أن دار الزمن دورته . وربما وجد فيها البعض بعضا من مستحاثات الحديقة الجيوراسية للنصف الأول من القرن العشرين . لكنها في واقع الحال لم تزل تحتفظ براهنيتها وحرارتها ، ليس لروحها ومنهجها النقديين وحسب ، بل ولأن القضايا التي شغلته قبل أربعين عاما لم تزل حاضرة بوطأتها كلها ، لكن على نحو أشد بؤسا ومأسوية و أكثر استدعاء للسخرية . وإذا كان الكثيرون ممن ساروا في موكب وداعه ، ومن الذين يحاولون اليوم إعادة موضعته في " سيرتنا الثقافية" ، هم أنفسهم من كانوا في طليعة من اتهمه ، مباشرة أو مداورة ، بخيانة " العائلة الأيديولوجية المقدسة " ، فليس إلا لتأكيد الحقيقة القائلة : حين تكون أداة للتغير ، دائما هناك خطر أن يظنك الناس أداة للخيانة !

لوكسمبورغ 18 / 4 / 2009

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ أعتقد أن ما يسمى " علم الاقتصاد " أو " الاقصاد السياسي " ، رغم أنه اختصاصي الأكاديمي أصلا ، لا يعدو أن يكون ضربا من الشعوذة و" الأونطة " . وعلينا أن نلاحظ أن العنوان الفرعي لـ " رأس المال " ( نقد الاقتصاد السياسي ) لم يهدف إلا إلى تأكيد ذلك ، وهو ما نوه إليه منذ نصف قرن كل من ألتوسير وإتيين باليبار في" قراءة رأس المال"( الجزء الثاني ). والواقع لو أن صاحب " رأس المال" ( كارل ماركس) كان يهدف إلى وضع نظرية في " الاقتصاد الماركسي الجيد " بديلا عن الاقتصاد "الرديء " لدى ريكاردو وأدم سميث ، لما حرص أبدا على وضع العنوان الفرعي المشار إليه على غلاف الكتاب ! ومع ذلك ، استمر ورثته وأحفاده في إنتاج سلسلة لا نهاية لها من الأعمال في " الاقتصاد السياسي " كما لو أنه كان يغني في طاحون! وعليه ، فإن حديثنا عن السياسة هنا ( لدى بو علي ياسين) ، يعني ضمنا الاقتصاد والتنمية والأحزاب والنقابات ... إلخ ، بوصفها "حقولا للممارسة السياسية في المقام الأول والأخير" ، بتعبير نيكوس بولانتزاس.

(2) ـ ليس معلوما بعد ، أقله بالنسبة لي ، الدوافع و المبررات النظرية والسياسية التي دفعت بو علي ياسين لمغادرة صفوف " الحلقات الماركسية " باكرا ، وإن يكن بالإمكان تخمينها في ضوء الأفكار النظرية والمواقف النقدية الواردة في أعماله . أما علاقته بالحزب الشيوعي السوري ( المكتب السياسي) ، فلا يزال يكتنفها بعض الغموض ، لجهة ما إذا كانت استمرت أو انقطعت في سياق عملية التطهير المذهبي للحزب من أعضائه المنحدرين من الطائفة العلوية ، التي قادها خلال الثمانينيات المحامي أحمد محفل ( الذي كان القائد الفعلي للحزب بفعل وجود قيادته في السجن) . وعلى العموم سيكون أمرا مفيدا لذاكرة الحركة الوطنية والديمقراطية السورية ، و " سيرتها الثقافية " أيضا ، لو أن بعض المعنيين بتلك الفترة ( من رفاق بو علي في التنظيمين) نوّرنا بمعلوماته حولها . ولعل الباحث والكاتب محمد سيد رصاص أجدر من من يقوم بذلك ، لأسباب شخصية وموضوعية عديدة!

(3) ـ تدليلا على ذلك يمكن إيراد الواقعة التالية ذات المغزى : في العام 1987 ( إذا لم تخني ذاكرتي) ، وفي الوقت الذي كنت أعمل فيه في أسبوعية " الحرية " الفلسطينية وشقيقتها الشهرية " الأردن الجديد" ، وردنا مقال موقع باسم المحامي سمير عباس ( قيادي في الحزب الشيوعي ـ بكداش) ، فكرته الجوهرية اعتبار البيروسترويكا " حالة خيانية لمجموعة من عملاء الولايات المتحدة ووكالة المخابرات المركزية يتزعمهم غورباتشوف"! وحتى ذلك الوقت لم يكن قد صدر أي موقف حزبي رسمي من الحزب الشيوعي الرسمي ( حزب المحامي المذكور) ، ولا حتى من رفاقه " مثقفي"حزب السلطة إزاء " البيروسترويكا والغلاسنوست". وأذكر أن ثلاثة اتصالات على الأقل وردت من أوساط القيادة القطرية للبعث إلى رئيس التحرير وائل زيدان ( داود تلحمي) فقط من أجل التأكد من أن سمير عباس كان يمثل بمقاله وجهة نظر القوام عليه تنظيميا الدكتور قدري جميل ، وبالتالي حميه خالد بكداش . وعندما اطمأن أصحاب الاتصالات إلى ذلك ، وضعوا أرجلهم في ماء بارد! ( ذلك كان قبل أن يقف خالد بكداش في سينما الزهراء ، بغيبيته وهلوساته التي عرف بها ، ليعلن عن اكتشافه العبقري أن التروتسكية هي التي تقف وراء البيروسترويكا الخيانية ، وليؤكد حرفيا " أن الصهيونية لن تغفر للاتحاد السوفييتي قضاءه على التروتسكية ، فالتروتسكية هي الصهيونية بعينها " !! وغني عن البيان أن موقف الحركة الشيوعية التاريخي من التروتسكية لم يكن إلا بسبب انحدار تروتسكي من الطائفة اليهودية . وهو شكل من الخطاب يحاكي اليوم خطاب أسامة بن لادن ، ودائما دون مصادفة!).

(4)ـ نزار نيوف ، دفاتر السجن : ما بعد الديكتاتورية البونابرتية وإفلاس الأيديولوجية اليعقوبية البعثية في سوريا ( بحوث غير منشورة ، سجن المزة ، 1995).

(5) ـ في استعادته هذا النقاش ، يتبنى سمير أمين هذه الأطروحة اللينينية رغم انطلاقه في الأساس من موقع روزا لوكسمبورغ نفسه!؟ راجع :
Samir Amin: Accumulation on a World Scale: A Critique of the Theory of Underdevelopment, Monthly Review Press, NY, 1974, Section I.



#نزار_نيوف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- على خلفية قضيته المصرية: تآكل متسارع في مصداقية حزب الله!
- خليل معتوق والنظام السوري و سلاح ... الصهاريج !
- طريقة واحدة وبسيطة لإثبات كذب -شريط الاعترافات - السوري الخا ...
- طريق حزب الله إلى معرفة سعر عماد مغنية في سوق - التجارة الاس ...
- الغارة الإسرائيلية بين فضيحة النظام و فضائح الإعلام
- المفتي - الأنواري- والبعث .. الظلامي !
- جوزف سماحة .. الرؤيوي الأكثر شراسة ونبلا في احتقاره نظام الأ ...
- رسالة مفتوحة إلى من يهمه الأمر : عن رفعت الأسد والشيخ البيان ...
- بروستات عبد الرزاق عيد و .. بواسير السلطة !
- أعيدوا - بسطات - البندورة لأصاحبها .. أو لا تلومنّ الناس إذا ...
- محنة أهلنا العالقين في العراق : بين جريمة السلطة وتضليل المع ...
- كرنفال دولي للدعارة الحقوقية !
- خبيران أوربيان في السلاح : إطلاق صواريخ حزب الله من الأماكن ...
- تقرير أميركي مصور يثبت استخدام إسرائيل الأسلحة الكيميائية وا ...
- سلوى .. أمي التي رحلت
- الفوتومونتاج الخلاعي : آخر ابتكارات دمشق في محاربة معارضيها
- الديغوليون الفرنسيون وظاهرة ال -Ramization -السورية
- كافتيريات يامن حسين .. الوطنية !
- ست سنوات على رحيله : حافظ الأسد الحيّ فينا ومعنا !
- فقيد - الجزيرة - الكبير !!


المزيد.....




- حوار مع الرفيق فتحي فضل الناطق الرسمي باسم الحزب الشيوعي الس ...
- أبو شحادة يدعو لمشاركة واسعة في مسير يوم الأرض
- الوقت ينفد في غزة..تح‍ذير أممي من المجاعة، والحراك الشعبي في ...
- في ذكرى 20 و23 مارس: لا نفسٌ جديد للنضال التحرري إلا بانخراط ...
- برسي کردني خ??کي کوردستان و س?رکوتي نا??زاي?تيي?کانيان، ماي? ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 28 مارس 2024
- تهنئة تنسيقيات التيار الديمقراطي العراقي في الخارج بالذكرى 9 ...
- الحرب على الاونروا لا تقل عدوانية عن حرب الابادة التي يتعرض ...
- محكمة تونسية تقضي بإعدام أشخاص أدينوا باغتيال شكري بلعيد
- القذافي يحول -العدم- إلى-جمال عبد الناصر-!


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - نزار نيوف - بو علي ياسين في الذكرى التاسعة لرحيله : الماركسي أبدا ، اللاماركسي دوما