أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سومر الياس - العداله بين المثال الأفلاطوني والممارسه الليبراليه















المزيد.....


العداله بين المثال الأفلاطوني والممارسه الليبراليه


سومر الياس

الحوار المتمدن-العدد: 2640 - 2009 / 5 / 8 - 08:07
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



يعتبر مفهوم العداله من أكثر المفاهيم الفلسفيه تعقيدا وأهمية في تاريخ الفكر الانساني الاجتماعي, هذا ان لم نقل أنه أهمها على الإطلاق, حتى أن بعض المفكرين يعتبر أن هذا التاريخ بمجمله ما هو إلا صراع حول تحديد ماهية العداله. وسأحاول ان ألقي الضوء في هذا البحث القصير على نشأة وتاريخ هذا المفهوم وتطور فلسفته عبر العصور وصولا الى مشاكل تطبيقه في الدوله المدنيه الحديثه.

ولكن في البدايه أريد أن القي الضوء على ما يصطلح على تسميته في الفلسفه بالمثال الفلسفي, أو النموذج المثالي أو الصوره الذهنيه أو الفكره الفلسفيه, وكلها ترجمات للكلمه الانجليزيه (the ideal), وذلك من أرضيه كون العداله كباقي المفاهيم الفلسفيه كالحريه مثلا أو الليبراليه أوالشيوعيه أو الوطنيه لا تدرك مباشرة بالحواس ولا تتجسد, ولكن تدرك بعقل فلسفي ومعرفه تأمليه.

إن مخترع المثال الفلسفي هو افلاطون, وصياغة هذا المثال وإنتاجه هو حقيقه محور الفلسفه وجوهرها في فروعها الخمسه الرئيسيه, ويصطلح على إعتبار أن هذا المثال ذو أربعه عناصر, أولها الذات المنتجه له و التي تشتق هذا المثال من الواقع أو العالم الحقيقي (ذات المفكر أو الفيلسوف), وثانيها هي الذات الأخرى التي يتم تداول هذا المثال معها فتقبله أو ترفضه, وثالثها هو العالم الحقيقي أوالحسي الذي يشتق منه هذا المثال (في حاله العداله ان ترى الفقراء يموتون جوعا فيما الأثرياء يرتعون في النعيم مثلا), وأما العنصر الرابع فهو المثال نفسه.

وضمن هذا السياق يصبح الفهم الديني الابراهيمي للعداله خارج اطار البحث, حيث إن العداله لدى الإبراهيمي تفهم كقوه الهيه وكمثال سرمدي من خارج الذات بل من خارج الكون, والذات الابراهيميه هي بالاساس ليست ذات فلسفيه باحثه عن مثال بل مكتفيه بمثالها ووحيها الإلهي الذي لا يتغير ولا يعتريه نقص, ومن هنا ينحصر دورها الوجودي في قراءه الواقع أو ربما تزوير الواقع في بعض الحالات بما يتوائم مع مثال ذو قيمه إيمانيه راسخه لا تنازع في نفوس المؤمنين, إن الذهنيه الإبراهيميه لا تزعج نفسها بالبحث عن العداله كنموذج بل تكتفي برصدها في حدود وحيها الإلهي ومثالها, آه إنها العداله, هذا كل ما تقوم به تلك الذهنيه مشكورة عندما ترى ظاهرة ما هنا أو هناك.
ولست اضع خارج هذه الدائره الابراهيميه وهذه الذهنيه الإبراهيميه كثيرأ من أصحاب الفكر الحداثي في مجتمعاتنا من ليبراليين وشيوعيين وقوميين وعلمانيين, حيث يقوم هؤلاء أيضا بقراءه الواقع و تزويره من واقع وحي شبه الهي جديد, آه هكذا قال ماركس أوهكذا قال الزعيم, دوما هنالك مثالا أبويا مقدسا ودليلا ذو قيمه إيمانيه غير مرتبطه بالواقع, وعبقريه فرديه تمتد وتمتد الى اللانهايه تهيمن على العقل الفلسفي المنتج للأفكار وتكرسحه, وربما يكون هذا سببا كافيا لأن ترى هؤلاء كآبائهم خارج الواقع وخارج الفعل الفلسفي كيفما نظرت اليهم, من جيل الى جيل ومن عصر الى عصر وفي كل الدهور.

أخيرا وقبل أن أبدأ أريد ألقي الضوء على الفرق بين النظريه السياسيه أو السياسه كمثال والسياسه كممارسه, ففي حين تعالج النظريه السياسيه أو المثال السياسي الفلسفي كيف يجب ان ينظم الناس حياتهم, تعالج السياسه كممارسه كيف ينظم الناس حياتهم ضمن حدود ما هو كائن وموجود.

العداله كما فهمها الإغريق

لقد فهم الإغريق العداله كنزعه روحيه إنسانيه, (كلمه روحيه هنا ذات مدلول هيغلي وليست كما يفهمها الابراهيمي) أكثر مما فهموها كشأن عام يختص بالدوله والمجتمع, فلقد سأل الإغريقي نفسه كيف لي أن أحيا لأكون صالحا أوعادلا ؟ ففي كتابه الشهير الجمهوريه فهم أفلاطون العداله كقوه طبيعيه خالده تأمر الروح الانسانيه والعالم من حولها , إنها نور هذا العالم وما حياه الانسان الفاضله إلا في السعي لإكتشافها والبحث عنها وتحديدها, لقد إعتبر أفلاطون إن الحياة من أجل المال والمجد والسلطه في هذا العالم وبدون السعي للوصول الى تلك القوه الخالده في كمالها في الروح الانسانيه وفي العالم هي حياة لا تستحق ان تعاش.

ومن هنا انطلق أفلاطون ليعقد مقارنات طويله بين الروح الإنسانيه العادله أو الفاضله والمدينه العادله أو الفاضله, بالنسبه لافلاطون ان تكون عادلا هو ان تسيطر روحك الانسانيه التي هي مسكن الاخلاق والملكه العارفه على جسدك وحواسك, وبالتناظر فإن المدينه العادله هي المدينه التي يحكمها من يملكون هكذا قدره وسلطه روحيه لأخلاقهم وملكتهم العارفه على حواسهم وغرائزهم.

لقد أراد افلاطون أن يبرهن بأن العداله موجوده, لا بل إنها أكثر الموجودات حقيقه, يقول افلاطون : إن العداله أكثر من شيء نعتقد به, إن الاشياء التي نختبرها بحواسنا من هذه الصخور الصماء الى تلك الفنون العظيمه ليست إلا ظلالا واهيه على جدران حياتنا بدون وجود العداله, إن العداله بالنسبه للمعرفه هي كالنور بالنسبه للعين وكما أننا لا نرى الضوء ولكننا نعلم أنه أساس قدرتنا على الرؤيه, فكذلك الحال بالنسبه للعداله إننا نعلم انها اساس قدرتنا على إدراك الاشياء في معانيها الحقيقيه.
من هنا تكون الفضيله بمفهوم أفلاطون هي بالعمل الدؤوب للعقل لمعرفه الاشياء في كمالها أو في مثالها الفلسفي وليس كما تصورها لنا حواسنا وغرائزنا البدائيه. وعندما ندرك الاشياء في مثالها الفلسفي نكون في طريقنا لإدراك العداله وعندما ندرك العداله نكون صالحين. وقد أفرد أفلاطون صفحات كثيره من كتابه للحديث عن طرق التعليم التي تجعل الانسان يسلك هذا الطريق المعرفيه لإكتشاف العداله.

وكان في إنطلاقه من الروح الإنسانيه العادله الى المدينه العادله أو الفاضله قد قسم مدينته الى ثلاثه طبقات, إثنان منها لا يمكنها أن تدرك تلك الفضيله بشكل كامل لأنها غير مهيئه روحيا لذلك, ومن ينتمون لهاتين الطبقتين يعلمون ذلك, ويعلمون بأنهم بالطبيعه مهيئين ليحكمون من الطبقه الثالثه القادره على إدراك الامور في كليتها وفي جوهرها ومثالها, وبالتالي القادره على أن تحكم الجميع وتعدل بين الجميع لأنها قادره على إدراك ما هو واساسي وجوهري وكلي للجميع
.
على الرغم من أن الفهم الافلاطوني للعداله قد يبدو قريبا ومتشابها في الظاهر مع الفهم الابراهيمي من حيث إن العداله هنا لا تفهم كعمليه جمع او طرح لاعداد, ولكن تفهم كوحي أو فكره عامه تسود, إلا أن الفارق جوهري بين الفهم الافلاطوني والفهم الابراهيمي*, فالوحي الافلاطوني قوه من داخل الكون وليس من خارجه, من داخل الذات وليس من خارجها, تسعى لاكتشافه ولا يعلن عن نفسه برغبه مستقله, ويوجد في مرتبه وجوديه واحده مع مكتشفه, إنه المثال الألماني الهيغلي عينه.

بعد افلاطون جاء أرسطو أكثر تلاميذه شهره ليوافقه بأن العداله تفهم كأسلوب يحيا به الانسان وليوافقه بان الوصول للعداله يكون بالتأمل والتفكير, ولكن لا ليوافقه بأن العداله هي قوه خالده في الطبيعه وفي الاشياء , إنه يبدو لمن غير المنطقي أن نتكلم عن العداله كقوه واحده تأمر الموجودات بل الأفضل ان نتكلم عن كل موجود على حدى, وبالطبع عن الموجود الأكثر أهميه ألا وهو الإنسان . إن فكره ارسطو الرئيسيه هي إن الإنسان كائن متغير ومتطور بالتجربه وبالتالي القوه التي تأمره متغيره, فكما تتشابه بذار النبات عندما تزرع ولكن إحداها تنمو لتصبح حقل قمح والأخرى شجره بلوط, فكذلك الإنسان لديه إحتمالات كامنه ليتطور ضمن بيئه معينه وتحت رعايه خاصه, من هنا لا يمكن إفتراض أن الأفكار والأشياء يجب أن تنتهي كلها في خير واحد ومفهوم واحد للعداله من نشاب القوس الى فن الحكم, حيث ان كل شيء له خيره الخاص, وكل إنسان يناضل من اجل خيره الخاص وكل منهم ينتهي الى مكان مختلف, ولكن التجربه تلو الاخرى والممارسه بعد الممارسه والعيش المشترك يؤدي بنا الى تطور فكري نتمكن من خلاله من تطوير عادات وتقاليد أو من صياغه منظومات سياسيه وأخلاقيه يمكن أن يقال عنها انها عادله, اننا لا ندرس الاخلاق لنعرف ما هو الصالح وأين هي العداله إننا ندرس الاخلاق لنكون صالحين وعادلين وإلا لا معنا لجهودنا.

أي ان العداله بالنسبه لارسطو ليست قوه كونيه ابديه في هذا العالم ولكنها منتج اجتماعي متطور بتطور التجربه, إنها قدرتك على أن تشارك الاخرين وتتساوى معهم فيما يأخذون وفيما يعطون, وقد قسم ارسطو العداله الى نوعين رئيسيين, عداله توزيعيه وعداله تعويضيه.

العداله التوزيعيه هي قدرتك على ان تعطي أشخاص متساويين كميات متساويه وأشخاص غير متساويين كميات غير متساويه, أما العداله التعويضيه أو التصحيحيه فهي قدرتك على ان تأخذ ممن أخذ كثيرا بعوامل اجتماعيه غير عادله لتعطي من أخذ قليلا تحت تأثير نفس هذه العوامل. ولا يزال هذا التقسيم الأرسطوطاليسي العبقري للعداله جوهر كل خلاف سياسي الى يومنا هذا, فمن هو حقيقه من يستحق ومن هو من لا يستحق؟ هنا تكمن معضله أي تنظيم اجتماعي فلسفي من أقصى اليمين الى أقصى اليسار.


العداله كما فهمها فلاسفه التنوير


لعب تطور الحياة الإجتماعيه للبشر دورا هاما في تطور مفهوم العداله لديهم, وقد أثرت ثلاثة عوامل رئيسيه في تطور هذا المفهوم لدى فلاسفه التنوير كان أولها سقوط الملك وسياده الشعب, وثانيها ظهور الأسلوب الرأسمالي لجمع الثروه ومراكمتها, وثالثها تطور العلم التجريبي أو المعرفه الاداتيه.

لقد طرح ظهور مفهوم السياده الشعبيه وتحول القوه من يد الملك الى يد الشعب آفاقا جديده حول كيفيه توزيع تلك القوه بشكل عادل بأيدي الناس, كما إن ظهور النموذج الراسمالي وقدره الإنسان على مراكمة الثروه قد طرح ايضا تساؤلات خطيره حول عداله المجتمعات وعداله توزيع الثروه, وأما العلم فكان له الدور الريادي في التأثير على منهجيه تفكير فلاسفة التنوير وفهمهم للعداله, لقد وقع المثال الفلسفي تحت تأثير التطور الهاثل الذي حصل لعنصره الثالث اي العالم الحقيقي المدرك بالحواس والتجريب, فالمنهج الجديد لفهم العداله أصبح كما يلي: حتى نفهم ونحدد ماهيه العداله أو المثال علينا في البدايه ان نحدد من نكون نحن كبشر, وتماما كما يفعل عالم الطبيعه لتقرير نوعيه العشب الموجوده في حقل بأن يفحص عينات من وريقاته فهكذا انطلق فلاسفه التنوير ليعرفوا من هو الانسان.

فحتى نستطيع ان نعرف كيف لنا ان نشترك في مجتمع ما بعداله ونتساوى, علينا ان نعرف من نحن وبماذا نشترك ونتساوى؟, أي أن التفكير التنويري تحت تأثير العلم قد خرج من السؤال الاغريقي كيف لي أن أحيا حياه صالحه وعادله؟ منطلقا باتجاه سؤال أخطر بكثير الا وهو: من نحن؟

ينطلق معظم فلاسفه التنوير من من نقطة واحده هي أن الإنسان نموذج موحد وهو يتساوى مع الانسان الآخر في قدرته على إخضاع حياته لحكم السبب (capacity for reason), وإن هذه القدره تميزه عن باقي مكونات النظام الطبيعي, و تعطيه فرصه ليكون طبيعه بشريه ثانيه تتغلب على طبيعته البشريه الأولى والتي تكاد تشبه طبيعه الوحوش, أي اننا كبشر نملك قدره على ان نتحكم بانفسنا وبالعالم من حولنا وأن لا تقودنا قوة الطبيعه العمياء عندما نستخدم عقلنا السببي., وبالتالي فنحن نملك قدره على التعاقد الاجتماعي العقلاني وقدره على إنتاج قوه قانونيه أخلاقيه عادله تهيمن علينا جميعا, تؤمن لنا السلام وتحمينا من أنفسنا ومن طبيعتنا البشريه الأولى.
واقع الامر إن هذه القدره هي التي جعلت تلك الوحوش الكاسره تهجر دوله الطبيعه وتتعاقد لتعيش وفق تناسق اجتماعي يؤمن لها حصد ثروات الارض وسياده لا تنازع عليها وفرصه هائله للتطور .

وقد اختلفت الرؤيه لدى فلاسفه العقد الاجتماعي ولكل من هوبس ولوك وروسو حول ماهيه طبيعتنا البشريه الأولى, ومن هنا كان لكل منهم كان تصوره الخاص لهذا العقد, بالتالي تصوره الخاص للعداله, ففي كتابه القيم الليفياثان أو الوحش اعتبر ثوماس هوبس ان الطبيعه الاولى للإنسان هي سيئه بالمطلق, إنها حرب دائمه ليسيطر كل منا على الآخرأو ليفني كل منا الآخر, وليس ثمه طريقه للتغلب على هذه الطبيعه والخروج من حاله حرب الجميع ضد الجميع إلا بالخوف الداثم من قوه طاغيه تخيلها هوبز في شخص الملك, تملك حتى على حياتنا لأننا بالأساس مدينون لهذه القوه بحياتنا التي كانت بوهيميه و قصيره جدا في دوله الطبيعه. أي ان العداله كما فهمها هوبس في عقده الاجتماعي هي في أن نتنازل عن جميع حرياتنا لطاغيه من أجل حريه واحده هي حريه العيش بسلام والبقاء على قيد الحياة.

بعد مائه عام جاء جون لوك لحسن الحظ ليقول إن الطبيعه البشريه الاولى ليست سيئه بالمطلق, ففي دوله الطبيعه كنا أحرارا ومتساويين ومتعايشين ولكن ينقصنا التنظيم, بالنتيجه فان العقد الواجب الدخول فيه لا يستوجب منا تنازلا مطلقا عن حرياتنا وأرواحنا للدوله بل تنازلا محدودا يكفل التنظيم والبقاء, فنحن نملك على أجسادنا وأعمالنا, وهذا التنازل الجزئي تخيله في البرلمانات التشريعيه, أي إن العداله بالنسبه للوك أصبحت في دوله تنظم الطبيعه البشريه الأولى وتحافظ عليها, بحيث ان أولاءك الصالحين الذين يعملون بجد واجتهاد يمكنهم أن يحافظوا على ثمره أعمالهم و أما أولاءك القله من الطالحين المخربين فيجب الحد من حرياتهم بقانون.

جاء بعد ذلك منظر الثوره الفرنسيه وموقد شرارتها الفلسفيه الفيلسوف الساخر جان جاك روسو ليقول إننا كنا وحوشا غبيه في دوله الطبيعه ولكن مع ذلك كنا متساويين وأحرارا وسعداء, وإن دخولنا في تعاقدات اجتماعيه لم يكن إلا لأن بعض الخبثاء أرادوا تحويل ما في حيازتهم الى ممتلكات قانونيه وتحويل قوتهم الى حق شرعي وقانون, وإن الحل يكمن في شكل جديد للتعاقد الاجتماعي وصيغه اخرى, فليس علينا ان نسلم السلطه الى الطاغيه كما يقول هوبس ولا الى المشرعين كما يقول لوك ولكن علينا أن نصبح نحن أنفسنا مشرعيين, وبهذه الطريقه وحدها يمكننا استعاده بعض من الحريات والعداله التي فقدناها من دوله الطبيعه ومن تلك الحاله البوهيميه الرائعه للنظام الطبيعي و بدون ان نؤذي انفسنا. والعداله هنا كما يفهمها روسو تكمن في مساواة وحريه سياسيه وإجتماعيه تشبه المساواة والحريه الطبيعيه بين الناس في دوله الطبيعه وتسترشد بها.

العداله في الفكر المعاصر


بعد أن إكتمل المثال الفلسفي ونموذج العداله مع فلسفه التنوير والتي تطورت مع جون ستيوارت ميل وغيره من الفلاسفه لتنتقل من الدوله العادله الى المجتمع العادل, إنتقلت المشكله الفلسفيه من البحث عن المثال الى تطبيقه أوممارسته , فالنموذج الفلسفي الليبرالي للعداله في كليته مع جون ميل بات غير قابل للتحدي**: إن الانسان هو نموذج واحد خارج إطار الزمان والمكان وهو يملك عقلا سببيا يؤهله ليختار الطريقه التي يريد أن يحيا بها ونموذج الخير الخاص به عندما تتاح له حرية المعرفه, وهو قادر على ان يقرر مصيره ومستقبله في ضوء ملكته السببيه العارفه.

لقد اصبحت المساواة بين الناس وعدم التمييز بينهم أمام القانون من بديهيات السياسه والاجتماع في أي دوله مدنيه حديثه ولم يعد هناك قانون يميز بين مواطن ومواطن *** , وأرتفعت حريه المعرفه خصوصا والحريه يشكل عام الى مرتبه المقدس, ولكن المعضله أصبحت في كيف تترجم الدول والمجتمعات تلك النظريات الرائعه الى الواقع العملي؟ من هنا برز مفهوم جديد للعداله في الفكر الليبرالي المعاصر يتمثل في قدره الدول والمجتمعات على الوفاء بالمثال الفلسفي الليبرالي للعداله, أي الحريه والمساواة بين الإنسان والإنسان في بعدها الكوني المطلق أو ما يسمى بالمواطنه الكونيه. أي إن العداله كما يفهمها الإنسان في دوله ليبراليه حديثه وكما يفهمها الفكر السياسي الحديث بشكل عام هي في القدره على ردم الهوه بين المثال الفلسفي النظري للعداله والواقع العملي لممارستها وتطبيقها.

يقرعلماء السياسه والإجتماع بأن العقل البشري وإن كان ساعيا نحو الكمال فهو غير كامل, ومنه فإن قابليه الإنسان لأن يخضع حياته للسبب لازالت مصدرا غير كاف لتجعل من المواطنه مفهوما كونيا, لا بل إنه غيركاف ضمن حدود الدول والمجتمعات المدنيه نفسها, وليس أدل من ذلك مشاكل الأقليات العرقيه والإثنيات والمهاجرين والتمييز ضد المرأه والسود والمعاقيين والفقراء والشواذ وما الى ذلك من ممارسات في الدول الليبراليه نفسها . ويحاول منظري وفلاسفة الدوله الليبراليه أن يبرروا تلك الهوه بأن الدوله ومثالها الفلسفي ليستا المصدر الوحيد للقوه في المجتمع فهناك العائله وسوق العمل والثروات المتكدسه بيد فئات اجتماعيه, كلها مصادر فاعله للقوه تعيق الممارسه النموذجيه للنموذج الليبرالي ومفهومه للعداله, واقع الامر إن المثال الليبرالي لم يتحرر بعد من اعتبارات تقليديه أبويه لازال خاضع لها .

ويعتبر الفكر الماركسي أكبر ضربه وجهت للنموذج الليبرالي في العصر الحديث, فلقد اعتبر ماركس في فلسفه راديكاليه ونقد لا يرحم لكل شيء موجود أن الدوله الليبراليه هي دوله غير عادله على عكس ما يزعم مثالها الفلسفي, ووجه سهامه الى العقد الإجتماعي نفسه, فقد اعتبر ماركس أن خروج الانسان من دوله الطبيعه لم يكن الى عقد إجتماعي بل الى علاقه قسريه غير متوازنه بين الأسياد والعبيد فرضها القوي على الضعيف آخذا هذه الفكره من هيجل, ولكن سهم ماركس الاخطر والاكثر تدميرا للمثال الفلسفي الليبرالي كان موجها الى مفهوم العداله نفسه أي الى المثال لا الى الممارسه. فقد اعتبر ماركس ان الدوله الشيوعيه النهائيه والعقد الشيوعي الأممي فوق العداله وأسمى منها, لا بل أسمى من كل المفاهيم السياسيه الليبراليه. حيث إعتبر إن مجتمعه الشيوعي على عكس الراسمالي سيكون نموذجا واحدا كل فيه يعطي حسب قدرته وياخذ حسب حاجته وبالتالي فإن العداله في مثل هكذا مجتمع تصبح بلا معنى كمثال فلسفي كلي ولكنها تفهم ضمن قضايا اجتماعيه جزئيه ولحل مسأله هنا أو مسأله اخرى هناك.

وقد ساهمت الفلسفه الماركسيه مع غيرها من الفلسفات الراديكاليه الأخرى في التأثير على الفكر الليبرالي وفهمه للعداله, والذي اصبح هاجس مفكريه الرئيسي في العصر الحديث في فحص واختبار نوعيه الحريه والمساواة التي يقدمها مثالهم الفلسفي للإنسان وفحص واختبار تلك الهوه بين المثال النظري والواقع العملي والسعي الحثيث لمحاولة ردمها, فهل ينجحون؟ سؤال نترك الإجابه عليه للأجيال القادمه.



هوامش
* راجع حوارات افلاطون والأسطوره الاغريقيه لخلق الانسان لفهم الذهنيه الأفلاطونيه والإغريقيه بشكل أعمق, كما إن كتاب المقدمه لشارل مالك يعتبر مرجعا ممتازا هنا مع مراعاة مطب إنحيازه للذهنيه الابراهيميه.
** بعد جون ستيوارت ميل أصبح محور أي دراسه سياسيه إجتماعيه هو في البحث في أين يجب أن تقف حريه الفرد وأين يجب ان تقف حريه المجتمع ومن هنا تختلف المدارس الليبراليه وتتنوع, أي ان المثال ثابت في كليته ولكن متغير في جزئياته.
*** الدول الدينيه الطائفيه التي تفاضل بين الناس على أساس عقائدي حتى في أساس القانون وليس فقط في الممارسه من واقع مثالها الفلسفي الذي يقسم الناس الى مؤمنين بالمذهب وغير مؤمنين به هي دول خارج التاريخ ولا تستحق التعليق هنا.



#سومر_الياس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القوه والسياسه
- الديمقراطيه متى وأين كيف ولماذا
- قراءه في رسالة سبينوزا السياسيه


المزيد.....




- قُتل في طريقه للمنزل.. الشرطة الأمريكية تبحث عن مشتبه به في ...
- جدل بعد حديث أكاديمي إماراتي عن -انهيار بالخدمات- بسبب -منخف ...
- غالانت: نصف قادة حزب الله الميدانيين تمت تصفيتهم والفترة الق ...
- الدفاع الروسية في حصاد اليوم: تدمير قاذفة HIMARS وتحييد أكثر ...
- الكونغرس يقر حزمة مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا بقيمة 95 مليار ...
- روغوف: كييف قد تستخدم قوات العمليات الخاصة للاستيلاء على محط ...
- لوكاشينكو ينتقد كل رؤساء أوكرانيا التي باتت ساحة يتم فيها تح ...
- ممثل حماس يلتقى السفير الروسي في لبنان: الاحتلال لم يحقق أيا ...
- هجوم حاد من وزير دفاع إسرائيلي سابق ضد مصر
- لماذا غاب المغرب وموريتانيا عن القمة المغاربية الثلاثية في ت ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سومر الياس - العداله بين المثال الأفلاطوني والممارسه الليبراليه