أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - ميثم الجنابي - ماركس -المرايا المتحطمة-!















المزيد.....


ماركس -المرايا المتحطمة-!


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 2622 - 2009 / 4 / 20 - 10:45
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


أن هذا المقال هو الحلقة الأولى مما وعدت بكتابته ردا على ما في المقال المنشور للدكتور عبد الحسين شعبان على موقع (الحوار المتمدن العدد 2618 بتاريخ 16-4-2009) بعنوان (ماركس لم يقرأ التاريخ ولم يتحدث في الدين). والمقال المشار إليه قبل قليل هو تقديم استعراضي ودعائي عن مداخلة قام بها المؤلف في "معقل اليسار المصري" عن كتابه (تحطيم المرايا. في الماركسية والاختلاف). وعنوان الكتاب والمقال كلاهما يدلان حالما نضعهما ضمن معايير الرؤية العلمية والأكاديمية عن جعجعة الصحفيين المولعين بالعناوين الصارخة الفارغة. خصوصا وأننا نقف أمام محاولة "تجديد الماركسية" وبالتالي تنشيط يسار جديد؟!
إن المقال الدعائي يكشف عما في "الكتاب" نفسه من خلل منطقي وجهل معرفي يجعل منه "حوار" عاديا ليس بذي قيمة من الناحية الفكرية، وذلك لأنه لا فكر فيه بالمعنى الدقيق للكلمة. من هنا ضرورة تقديمي لهذا الرد (وينطبق هذا على المقالات اللاحقة) بجملة ملاحظات أولية.
الأولى: أن هذا المقال ولواحقه اقرب إلى البحث الفكري الاجتماعي النقدي، وذلك لأنه ينتقد ظاهرة وليس فكرة. فكتاب (تحطيم المرايا) وما ورد عنه في مقال الدكتور عبد الحسين شعبان، شأن الاسم اقرب إلى ولع الأطفال أو السكارى والمراهقين. وذلك لان تقديم النفس بصفة "المفكر المجدد" والولع بالتحطيم هو استعاد فجة وصغيرة لنفسية وذهنية التقاليد الراديكالية التي لا تصنع معرفة ولا علما، ومن ليس بإمكانها إصلاح أي شيء. فالمرايا دوما بحاجة إلى إجلاء وليس إلى تكسير، أيا كان المقصود بها، مرايا الفرد والجماعة والحزب والمؤسسات والأمم. فالعنوان يحد معالم الفكرة وغايتها. وضمن تقاليد الإصلاح ينبغي أن يتمتع بقدر من الاعتدال العقلاني لما في ذلك من أهمية بالنسبة لتنظيم الفكر. فالفكر الحقيقي والكبير منظومة.
ثانيا: أن هذا المقال ولواحقه لا علاقة له بشخصية الدكتور عبد الحسين شعبان، بقدر ما هو موجهة صوب تحليل ونقد ظاهرة التصنيع الحزبي "للمفكرين" التي خيمت ومازلت تهيمن رغم انكسارها الشديد في أوساط "اليسار". وهي ظاهرة خربة للغاية. بل ومقلوبة بصورة تامة، عندما تصبح الأحزاب المتخلفة من حيث تكونها وأنساقها الأيديولوجية في "المعرفة" مدارسا لتفريخ "المفكرين" عوضا أو بالضد من الجامعات والأكاديميات.
ثالثا: أن هذا المقال بالتحديد لا يخلو من استطرادات شخصية مهمتها ليس التدليل والحجة، بقدر ما تقوم في تقريب الدليل وإبراز معالمه الحسية على أمثال عابرة. فالأحداث الشخصية لا تمتلك بحد ذاتها قيمة معرفية، لأنها ليست من مقومات الدليل والبرهان، لكنها مفيدة بالنسبة لإبراز بعض معالم الظاهرة التي يجري نقدها.
إن إلقاء نظرة سريعة على ما ورد في مقال (ماركس لم يقرأ التاريخ ولم يتحدث في الدين) توصلنا إلى استنتاج منطقي يقوم فحواه في أن حصيلة الثقافة الماركسية نفسها للدكتور عبد الحسين شعبان ليست أكثر من ثقافة "أحزاب شيوعية" بهذا الصدد، أي صندوق العجائب الصغير الجامع لبعض العبارات والكلمات الجميلة التي جرى تحويلها إلى طنين فارغ. وهي ظاهرة ليست معزولة عما يمكن دعوته بتقاليد الجهل المرفوع عبر أيديولوجيا العوام "الثورية" إلى مصاف "المعرفة". من هنا تميزها بالاستعداد للتقلب والتبدل والتغير المعزول عن فكرة التطور والتوسع والتعمق الملازمة لمنظومة النقد العقلاني والمعاناة العميقة من اجل البحث عن بدائل واقعية وعقلانية. وهو أمر جلي بما في ذلك في الكلمة والعبارة. الأمر الذي يضع السؤال التالي: لماذا تجري أو يمكن أن تجري هذه الاستباحة العنيفة لمعنى الكلمات والحقيقة والفكر؟ والجواب عنه بسيط للغاية: الجهل أو للتعويض عنه!
فالعلم قوة كما قال فرانسيس بيكون قبل قرون. بحيث حولت هذه الفكرة المنهجية مسار التفكير العقلي النقدي والعلمي. وهي فكرة سبق وان أسس لها الغزالي وكثير غير من مفكري الإسلام العظام عندما اعتبروا المعرفة (العلم) قيمة بحد ذاتها، أي الوحيدة المكتفية بذاتها. فالإنسان يتقبل كل اتهام باستثناء وصفه بالغباء، كما أن الجاهل يترنح في تلذذه حالما تطلق عليه عبارة "الرجل العالم" رغم جهله. وهي حالة متناقضة لكنها مقبولة سواء بمعايير النكتة العلمية أو مذاق الثقافة. كما أن من الممكن الأخذ بها فيما لو كانت القضية مجرد تعويض يلازمه إدراك لقيمة العلم والمعرفة. حينذاك تصبح القضية أهون رغم هوانها. لكن الأمر يختلف تماما حالما يجري إعادة تطويعها من جديد لاستحلاب الاستلاب التاريخي لفكرة اليسار المنهكة، والشيوعية المتعبة، و"الجماهير" الباحثة عن حلول عقلانية تحفظ لهم حقوقهم الذاتية ومعالم الأمل.
ففي التقاليد الإسلامية (ولا أقول العلمية الحديثة) لا يمكن إطلاق كلمة مجتهد أو عالم على كل عابر طريق، أو على كل من يحفظ الأحاديث النبوية وآيات القرآن وبعض مقتطفات الأئمة. لكننا نسمع ونقرأ ونرى (عبر شاشات التلفيزيون المتخلف) ألقاب مجموعة في فرد تعجز عن استجماعها أمم!
أن السبب يكمن دون شك في حالة الانحطاط وتهور الراديكالية السياسية وتقاليد الأحزاب الخربة. فعندما زار احد الشعراء الأندلس في مرحلة انحطاطها شبه التام (مرحلة الطوائف)، فان ما أثار استغرابه كثرة الألقاب مثل سيف الدولة والمعتمد بالله والقاهر بالله والمعتمد بالله وما شابه ذلك. عندها كتب بيته الشعري الشهير (مما يزهدني في ارض أندلس أسماء معتمد فيها ومعتضد). لقد وجد في كل منهم "هرّا يحاكي انتفاخا صورة الأسد"! وهي نفس حالة الانحطاط الحالية التي "ألهمتني" أنا أيضا إمكانية القول:
مما يحيرني في شيوعيي اليوم
أنهم، ما بين جوعان وشبعان
إن قلت لهم مستغربا:هذا يساري؟! قالوا: بلا!
مستدركين بأن صفوفهم بر وإحسان
وإن قلت: أريد أن أرى بالعين احدهم!
قالوا: هذا الحسين ابن شعبان!
بعبارة أخرى، كيف يمكن لشخص أن يدعي تجديد ما لا يعرفه؟ والجواب بسيط للغاية، وهو أن "المجدد" يدرك جهل "رفاقه" كما يدرك جهله. وإدراك الجهل معرفة! لهذا كان بإمكانه إلقاء محاضرة "علمية" أمام جهلة! وهي حالة تذكرني بإحدى النوادر الفعلية المزرية والمثيرة للشفقة والاستهجان بقدر واحد، عندما كان احد الأشخاص يلقي "محاضرة علمية" أمام"الرفاق" ويستشهد بأقوال ينسبها "للرفيق بليخانوف" من "المجلد السابع" والمجلد التاسع" مع ذكر الصفحات وما شابه ذلك. وعندما انهي "المحاضرة" واقترب مني، سألته عن أي بليخانوف يتكلم وعن أية طبعة وبأية لغة؟ وذلك لان مؤلفات بليخانوف (الأصلية، إي الروسية) المطبوعة هي خمسة أجزاء! عندها أجابني ضاحكا: يمكنك قول ما تريد أمام هؤلاء الحمير! ولكن بشرط أن تنسب الكلام إلى ماركس أو أنجلس أو لينين. لكنني فضلت بليخانوف لأنه لا احد منهم يعرف عنه شيئا، كما إنني لم اقرأه ولم أر مؤلفاته على الإطلاق!
طبعا لا معنى الآن للتعليق والتجريح والنقد أو الدفاع عما في هذه الظاهرة من رذيلة. وكان بالإمكان نسيانها مرة واحدة والى الأبد (لاسيما وأنها جرت قبل أكثر من ثلاثين سنة)، بوصفها ظاهرة جزئية وشخصية وعابرة ما لم أر التقديم الأجوف لكتاب الدكتور عبد الحسين شعبان عن (تحطيم المرايا) بعنوان (أن ماركس لم يقرا التاريخ ولم يتكلم عن الدين).
إننا نقف في الواقع أمام ظاهرة لا فرق بين أشكالها. فالجمهور واحد سواء كان مجموعة من "الرفاق" في موسكو، أو مجموعة متربعة على كراسي وثيرة في "معقل اليسار المصري" أو غيره من الأماكن. فالذهنية واحدة. يمكنك أن تقول لهم بان الماركسية التي بين أيديهم لا علاقة لها بالماركسية الحقيقية. وأن تقول العكس. المهم أن تثير فيهم الهدوء والطمأنينة استنادا إلى عبارات ولتكن كاذبة ومنحولة من "مشكاة النبوة الماركسية". بعبارة أخرى إننا نقف أمام ظاهرة لها أسسها في الذهنية الحزبية. ومن الممكن التدليل على هذه القضية استنادا إلى "تاريخ بليخانوف" نفسه التي جرت معي مرة أخرى قبل سنوات معدودة عندما جرى نشر ترجمة ما يسمى (بوصية بليخانوف) عن الروسية (وهي ترجمة بائسة أيضا) في مصر والتي أثارت قلق اليسار وتلعثمه أمام ما فيها من أمور وأحكام مدمرة "لليسار" و"الشيوعية" و"اللينينية" وغيرها. عندها طلبت مني هيئة تحرير (مجلة النهج) (مجلة الأحزاب الشيوعية والاشتراكية العربية) أن "أفتي" بهذه القضية، لاسيما وأنني كنت من المولعين بكتابات بليخانوف وكنت اعرفها "عن ظهر قلب". وقد كتبت آنذاك مقالا كشفت فيه سخف ما ورد في الوصية وطابعها المزيف والمنتحل. لاسيما وأنها ليست المرة التي جرى توظيف بليخانوف من اجل محاربة اليسار الشيوعي الروسي, فقد كانت المرة الأولى زمن القيصرية والثانية زمن "الليبرالية". عندها شعر اليسار العربي "الرسمي" بالارتياح! كما لو أن الإبقاء على بليخانوف أو أية شخصية ضمن ملائكته المطهرة من "خبث" الخروج عليها نقيصة أو تثليم لفكرة "اليسار" نفسها، في حال فهمها على انه فكرة الدفاع عن الحق والحقيقة والعدالة والنزعة الإنسانية كما هي بوصفها مهمة عقلية عقلانية اجتماعية بحد ذاتها. غير أن للذهنبة الحزبية نمطها الخاص. وهي ذهنية فرقية ومقلوبة. تدعي العقلانية والرؤية النقدية وتستسلم بصورة شبه إيمانية (دينية) لأقوال مفكريها. من هنا إمكانية الاستماع لمن يجري إطلاق لقب "المفكر" عليه مازال لا يختلف معها بالاسم الظاهر. وهي ظاهرة اشد ما يمكن رؤيتها على ظاهرة "ماركسية الأحزاب". فكون ماركسية الأحزاب لا علاقة لها بالماركسية الحقيقية تقرير حق. غير أن من يسعى لتجديدها لا يفعل في الواقع إلا على أنتاح وإعادة إنتاج تقاليد الجهل المعرفي والضحك على ذقون البسطاء من "الرفاق" والعوام. وهي ظاهرة يكشف عنها "مشروع" تجديد الماركسية في "تحطيم المرايا". ومقدماتها تكمن في كون الدكتور عبد الحسين شعبان يعرف بان الشيوعيين لم يقرؤوا ماركس. تمام كما انه يعرف عن نفسه بأنه لم يقرأ ماركس! وما قرأه لم يفهمه على حقيقته. من هنا درايته "العميقة" بإمكانية تقديم النفس بوصفه "ماركسيا مجددا" ليس على طريق ماركسيته السابقة أو ماركسية أسلافه أو محيطيه المختبئين في "معاقل اليسار". وليس مصادفة أن يغريهم بالعبارة الجميلة لماركس بعد أن يضعها في غير محلها ويجعلها شعارا له وليس لماركس نفسه! وهو "تكتيك" محبب لهذا النمط من أهل "العلم" و"السياسة"!
فقد كانت عبارة ماركس :أنا لست ماركسيا" كافية لتمرير كل الجهل المعرفي على انه جهل الآخرين بها. وبالمقابل يجري تقديم جهله بها على أنها معرفة متجددة! ولا احد يمكنه النقد والاعتراض. والسبب بسيط أيضا، وهي أنهم يجهلون مصدر العبارة، بل وغير متأكدين مما إذا كان ماركس قد قالها أو غيره. إن الجوهري هنا إضافة عبارة "قال ماركس"! تماما كما يقول "الملا" أمام سكان الأرياف البسيطة "قال النبي محمد"!
فالذهنية الشيوعية العادية بسيطة وطيبة للغاية بفعل سذاجتها المعرفية. إذ يمكنك تأويل الماركسية أو بعض أحكامها ومفاهيمها وقيمها كما تشاء وكيف تشاء بشرط أن تضيف إلى عبارتك "آية" من آيات السور الماركسية أو عبارة من إصحاحات الأناجيل الثورية. حينذاك تصبح الأمور مقبولة ومعقولة بل وسليمة ومحببة إلى القلب. لكن إياك وان تهاجم الحزب الشيوعي! تماما كما يمكن للمرء أن يمرر بعض ما يريد أمام الحنبلي المعاصر باستخدامه عبارة من ابن تيمية، وأمام المتشيع عبارة من (نهج البلاغة)، لكن إياك والقول بسخافة ابن تيمية وتجريح الإمام علي. وهي مقارنة تعكس أولا وقبل كل شيء نفسية العوام وذهنية التقليد والأسقام المميزة لحركات الغلو والانغلاق العقائدي. فالروح بالنسبة لها جسد، والجسد إله، والإله عقائدها، وعقائدها ما يمكنها الإمساك به، وما يمكنها الإمساك هو عبوديتها لأصنام متنوعة الأشكال والألوان. إذ لا صنم عند الشيوعي أكثر من حزبه! وهي لعبة يدركها ويعرف زواياها ومخابئها كل من عاش وتعايش مع هذا النوع من الأحزاب طويلا وتمرس في نشاطها العلني والسري، أي تقّبل العمل بمعايير ومقاييس مؤامراتها الصغيرة ودسائسها المغرية! وكلما يرتقي المرء في "درجات الحزب" كلما يصبح أكثر حذاقة فيها. أما العوام والجماهير و"رفاق الدرب" العاديين الذين لا يخلو اغلبهم من وهج وجداني صادق، فأنهم كالعادة ضحية السر والعلن ما لم يذللوا مرة واحدة والى الأبد أيديولوجيا الجهل القابعة في العقل والضمير التي تجعل من كل عابر طريق "قائدا ثوريا" و"مجددا فكريا" و"ملهما حقيقيا"! وفيما يجترحه الدكتور عبد الحسين شعبان في "تحطيم المرايا" هو مجرد عينة من هذه العينات المتكسرة!

النقد الشعباني للماركسية – نقد شبعان!

عندما قال ماركس بأنه "ليس ماركسيا"، فانه لم يقصد بذلك ما ورد في مقال الدكتور عبد الحسين شعبان. أو قد يكون من الأدق القول، بأنه لم يقصد بذلك انه ماركسي على الطريقة الشعبانية! إن قراءة عبارة ماركس بالطريقة الشعبانية لا تتعدى أنين "متنوّر مسكين في سوق العجين"! أي في حالة لا قيمة لها ولا معنى ولا رابط غير سجع العبارة المتبجحة في اكتشاف لا قيمة له!
لقد انتقد ماركس أولئك المعجبين به اشد الإعجاب، أي أولئك الذي كانوا يكنون له كامل الحب والاحترام، بحيث حولوا فكره وشخصيته إلى "قديس" بالضد مما كان يريد ويرغب به. فالمرء الكبير قد يتلذذ في بادئ الأمر للإطراء والتبجيل، لكنه يشعر بالملل والخجل والاشمئزاز مع مرور الزمن، وبالأخص حالما ينتقل من مستوى العقل (النقدي بشكل خاص) إلى مستوى الحكمة (التاريخية). ولا معنى لمزاولة تمارين "العقل النقدي" في عمر تجاوز الستين! فالتفكير الفلسفي وأهل الفكر الحقيقيين عادة ما يمروا في هذه المرحلة المقلقلة للعقل والضمير في عشرينيات أو ثلاثينيات العمر على أقصى حد، بوصفها جزء من احتدام الجدل والشكوك المعرفية العميقة على مستوى العقل النظري والعملي. وهذه أمور لا يمكنها التعايش في قلب "مؤمن" أيا كان شكله ولونه. وبالتالي لا يمكن لشخصية مثل عبد الحسين شعبان أن يتذوق عذابها وعذوبتها في هذا العمر وفي ظل هذا المخزون الزهيد من المعارف في ميدان الفكر النظري وتقاليد التجريد الصعبة.
إن مضمون وحقيقة "أنني لست ماركسيا" يقوم في استدراكها الشخصي للتجربة الفكرية المنهجية لماركس نفسه في مواجهة نقده الفلسفي والتاريخي السياسي للهيغلية. بعبارة أخرى انه يستعيد هنا ببساطة مقبولة لعقول "الجماهير" إشكالية المنظومة الفلسفية والمنهج التحليلي. وهي إشكالية كانت الماركسية تعبيرا اجتماعيا سياسيا عميقا لها وعنها، ولكن من خلال نقلها إلى ميدان التاريخ الواقعي، أي إلى ميدان العلاقات الاقتصادية الاجتماعية وصراع الطبقات والبدائل.
إن ماركس في هذه العبارة قد وقف، شأن كل الشخصيات التي جعلت من إبداعها النظري "مرشدا للعمل" أمام المفارقة الصعبة لتشرذم وتطاير الفكر المجرد في أحاسيس العوام (الجماهير). وما يقدمه الدكتور عبد الحسين شعبان هو دون شك ضمن هذا السياق، أي انه مجرد احد النماذج الخشنة لمفارقات التاريخ والوجود والفكر السياسي التي تجعل من شخصية لا باع لها ومعرفة في ميدان العلم الفلسفي، "تتفلسف" على هواها. بحيث يستمع إليها فطاحل "معقل اليسار" في قعر دارهم! وفي هذه المفارقة المضحكة يمكن فهم حقيقة "أنني لست ماركسيا" على أنها استظهار جديد لما استنكره أو استكرهه ماركس نفسه.
غير أن "لليسار العربي" معتقلاته الخاصة في حبس العقل والضمير. فهو لحاله وكيفما يريد يمكنه أن يوزع الألقاب والأسماء والتقييمات بصورة لا يحكمها وازع غير وازع "اليسار" المجهول الهوية و"الشيوعية" المسكينة والمستكينة بين جوانح قيادات متمرسة في الخديعة وجماهير قابلة للخداع! وليس مصادفة أن يتحول رجل جاهل أو نصف متعلم أو شبه أمي إلى "قائد شيوعي"، وان يصبح سماسرة الأحزاب "سماسرة الثقافة" وان يجري إطلاق ألقاب "المفكر" و"يتيم دهره" و"وحيد القرن" و"مجدد الفكر الماركسي" وما شابه ذلك على بشر لا علاقة لهم من حيث الجوهر بالفكر والعلم.
إن نقد الشيوعية يفترض الخروج عليها من حيث كونها أيديولوجية سياسية وتيار سياسي أو حزب سياسي. عندها تصبح مثالبها جلية للعيان. إلا أن ذلك يفترض بدوره الخروج عليها بمعايير الرؤية الأكثر عقلانية والأشد نقدية والأوسع إنسانية.
فالشيوعية من حيث المبدأ والغاية هي نتاج تقاليد متراكمة للنزعة الراديكالية في مواقفها النقدية الحادة من واقع البؤس وبؤس الواقع. وليس مصادفة أن يقلب ماركس عنوان كتاب برودون (فلسفة البؤس) (والعنوان الأدق هو "منظومة المتناقضات الاقتصادية أو فلسفة البؤس") إلى (بؤس الفلسفة). فالقضية بالنسبة له لم تكن جزء من مماحكة العبارة المميزة لأنصاف المتعلمين و"الأوجه اللامعة" على شاشات التلفيزيون، كما لو أن الفكر بضاعة قدرها على قدر تسويقها بمقاييس PR! كما أنها لم تكن بالنسبة له قضية شخصية عابرة. بل لم تكن بمعايير تطور الفكرة المنطقية في منهج ماركس النقدي حتى جزء من نمو الشخصية الفكرية في مراحل صعودها السريع. فقد كان برودون نبيل القلب إنسانيا عاش بقية حياته في بؤس الخلوة، بعد أن ترك الحياة ومعمعتها لماركس نفسه! لقد أراد ماركس في قلبه للعنوان إلى قلب المعيار المنهجي من خلال إبراز أولوية المهمة النقدية للفكر عبر توجيهها صوب الواقع والمستقبل، أي التاريخ الفعلي. وهي قضية منهجية أولا وقبل كل شيء. من هنا جوهرية الفكرة التاريخية وقراءة التاريخ الجديدة التي اعتمدها في نقده لبرودون، والتي طور فيها ما سبق وان وضعه في (الأيديولوجية الألمانية). وينطبق هذا في الواقع على كل ما كتبه ماركس من أول اجتهاداته الفلسفية المستقلة عندما كتب أطروحته لنيل درجة الدكتوراه في الفلسفة والمتعلق بمقارنة الفلسفة الطبيعية لديمقريط وابيقور، حتى آخرها (الرأسمال). بعبارة أخرى، إن منهج ماركس منذ أن تبلور بطريقته المستقلة، بدأ مما يسمى بالمخطوطات الفلسفية الاقتصادية، وظهور (البيان الشيوعي) مرورا بكتاب (الأيديولوجية الألمانية) هو تجسيد نموذجي رفيع المستوى للتاريخ والفكرة التاريخية والموقف التاريخي والمنهجية التاريخية في دراسة ونقد الواقع واستشراف المستقبل. بعبارة أخرى، إن كل ما في ماركس هو قراءة للتاريخ ولا شيء آخر. لكنها قراءة من طراز آخر متشبعة ومتربية بتقاليد الفلسفة الألمانية التي جعلت من التاريخ فكرة منطقية.
من هنا فان نقد الماركسية يفترض التعلم عليها ومنها استنادا إلى معرفة أصولها، أي النظر إليها باعتبارها اجتهادا فكريا تاريخيا ثقافيا. وإذا كان بإمكان الدكتور عبد الحسين شعبان مزاولة النقد السياسي والأيديولوجي للتجربة الشيوعية (العراقية والعربية لحد ما)، فان نقد الماركسية خارج إمكانياته المعرفية والنظرية، أي أنها مستحيلة. فلا التأسيس العلمي بمعايير الاختصاص والاحتراف والمنهج الأكاديمي يسمح بذلك. كما لا يسمح العمر به أيضا.

ماركس: "لست ماركسيا"، أي ليس على الطريقة الشعبانية!

إن الشخصيات الكبرى تعاني دوما في ميدان التاريخ من إمكانية الانشطار إلى شخصيات عديدة غير متناهية، أي إلى نماذج وشخصيات ومناهج ورؤى وفرق وملل ونحل وأحزاب وطوائف، بل وأمم أيضا! وهي ظاهرة على قدر ما في الشخصية من تأثير وأقدار تلازمها. وماركس من بين تلك الشخصيات التي أقلقت وألهمت العالم على امتداد قرن من الزمن، بحيث دخل اشد الأدغال عتمة و"أنار" لها الطريق عبر شكلها المثير في اللينينية. هذه العبارة المحببة لقلوب الشيوعيين القدماء بمن فيهم الدكتور عبد الحسين شعبان، الذي لم يعد ير فيها غير ليننة(!) اقرب إلى نكهة البدو والأرياف العربية!! أما في الواقع فإنها مجرد احد نماذج الماركسية التي جعلت من ماركس إلها، ومن الماركسية عقيدة القرن العشرين الثورية. ولولاه لما كان لماركس اثر يتعدى المحاضرات الضرورية في تاريخ الفلسفة والاقتصاد. ويحتمل أن يكون ذلك أفضل لماركس وحشمته وأثره بالنسبة للعقل والضمير الإنساني من أن يتحول مرة أخرى إلى مصدر لإغراء وإغواء "اليسار" العربي من مهاترات "المفكرين الجدد"! الذين أصيب العالم العربي المعاصر منهم بالتخمة واتخموه بسفاهات الأمور!
إننا نستطيع أن نعثر على مئة مسيح لا علاقة له بحقيقة المسيح الأولى والروحية. والشيء نفسه يمكن قوله عن محمد وكل الشخصيات التي ذابت عقائدهم في وجدان العوام. وهذه قضية معقدة ومثيرة في الوقت نفسه، لكنها من ميدان آخر.
إن "نقد ماركس" أو إعادة قراءته من جديد فضيلة كبرى. لكنها تفترض بقدر واحد التمكن منه ومن أصوله النظرية من جهة، ومن الاعتبار الفعلي (على مستوى العقل الوجدان والإخلاص العملي)، أي التمسك الشخصي بالاستنتاجات التي يجري التوصل إليها. إذ لا يكفي المرء القول، بان العولمة المعاصرة والتكنولوجيا تجعل "الثوري" زائرا دائما على شاشات الأمراء الصغار التي تجعل من الممكن رؤية ماركس في المرايا المتكسرة للأحزاب (الشيوعية). فهذه أمور لا علاقة لها بالفكر. أنها جزء من تقاليد النقد الأيديولوجي والسياسي للأحزاب. وينبغي أن توضع ضمنها فقط. وما يضعه الدكتور عبد الحسين شعبان في كتابه لا يتعدى أمور جزئية وسطحية للغابة بهذا الصدد، لا يرتقي أفضل ما فيها عما في ابسط الكتب المحترفة التي جرى تأليفها وأصبحت من "ذكريات الماضي"، سواء ما يتعلق بعضها بتقاليد "محاربة الشيوعية" و"السوفيوتولوجيا" (الدراسات المتخصصة بنقد الاتحاد السوفيتي والتجارب الشيوعية) أو في مؤلفات العقول النقدية الكبرى والمفكرة فعلا لمختلف الشخصيات "المرتدة" و"الانتهازية" من بين ماركسي القرن العشرين، مثل جماعة البراكسس، وايساك دوتشر، ولوكاتش، وروجيه غارودي، واليسار الجديد، ومدرسة فرانكفورت، والوجودية، ومختلف المدارس النقدية والمنطقية والتحليلية والبنائية والتفكيكية وعشرات غيرها).
إن الاجتهاد والثروة "الفكرية" الجديدة لا ينبغي أن تشبه ذلك الفتى الذي ربح مليون لأنه لم يعرف الحساب البسيط. والنادرة تتحدث عن زميلين في المدرسة التقيا بعد عقود. الذكي منهما أصبح دكتورا في الهندسة يقف في الطريق محملقا في أجهزة القياس والبناء مترب الملابس، بينما زميله الغبي يجلس في احدث السيارات الضخمة. وعندما استفسر احدهما عند الآخر ماذا حدث وكيف. أجاب الذكي بأنه جد واجتهد وحصل على ما كان يسعى إليه. وها هو الآن دكتورا مهندسا. أما الغبي فأجابه، بأنه أصبح مليونيرا. وعندما سأله عن الكيفية، أجاب، بأنه ربح مليونا باليانصيب. وعندما استفسر منه كيف حدث ذلك، أجابه "لقد حلمت إنني اشتريت بطاقة كتب عليها 7 × 9 = 49. فاقتنيتها. وفزت. وذلك لان رقم البطاقة الفائزة كان 49". وعندما قال له زميله الدكتور المهندس "ولكن 7 × 9 = 63". عندها أجابه مستغربا: لو إنني كنت اعرف الحساب لما أصبحت مليونيرا".
والأمل في ألا يكون اليسار الجديد اقرب إلى يانصيب "محطم المرايا". وقد توصلت المتصوفة قبل قرون عديدة في مجرى تجاربها الروحية الفكرية العميقة إلى أن القلب مرآة الوجود. والمهمة لا تقوم في تكسير أو تحطيم مرآة القلب، بل في جلائها، أي تنظيفها وتنقيتها. وهي مهمة لا علاقة له بتنقية وتطهير ماركس، بل بتطهير النفس أولا وقبل كل شيء من خبث شيوعية الأحزاب وليس شيوعية الفكر. (للمقال بقية...)
***



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقف ومهمة صنع التاريخ القومي
- المثقف العراقي وحقائق المرجعية الأبدية للروح
- أفاق الأصوليات (الدينية) السياسية في العراق
- المثقف وروح القلق واليقين
- الراديكالية السياسية للغلاة الجدد!
- المثقف – الحلقة الرابطة لديمومة الروح التاريخي للأمم
- الراديكالية الشيوعية والبعثية العراقية وانقلاب القيم!
- المثقف وإبداع الأبد
- الموجة الأخيرة للزمن الراديكالي
- طوفان الزمن الراديكالي وبداية التاريخ العقلاني
- المثقف ومرجعيات الروح المبدع
- المصالحة الحقيقية وأشباح الموتى!
- الزمن الطائفي والتاريخ العربي
- الحركة الصدرية – (تيار الداخل) وصعود الباطن العراقي(4)
- مقدمات المعترك السياسي والأيديولوجي للحركة الصدرية(3)
- الحركة الصدرية-غنيمة الزمن العابر وتضحية الانتقام التاريخي ( ...
- مقتدى الصدر - ميتافيزيقيا الثورة الصدرية( 1)
- المركز السياسي والمركزية الثقافية
- كتاب (العراق والمستقبل – زمن الانحطاط وتاريخ البدائل).
- الدكتور علي ثويني – الفكرة المعمارية وهندسة الروح العراقي


المزيد.....




- أبو عبيدة وما قاله عن سيناريو -رون آراد- يثير تفاعلا.. من هو ...
- مجلس الشيوخ الأميركي يوافق بأغلبية ساحقة على تقديم مساعدات أ ...
- ما هي أسباب وفاة سجناء فلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية؟
- استعدادات عسكرية لاجتياح رفح ومجلس الشيوخ الأميركي يصادق على ...
- يوميات الواقع الفلسطيني الأليم: جنازة في الضفة الغربية وقصف ...
- الخارجية الروسية تعلق على مناورات -الناتو- في فنلندا
- ABC: الخدمة السرية تباشر وضع خطة لحماية ترامب إذا انتهى به ا ...
- باحث في العلاقات الدولية يكشف سر تبدل موقف الحزب الجمهوري ال ...
- الهجوم الكيميائي الأول.. -أطراف متشنجة ووجوه مشوهة بالموت-! ...
- تحذير صارم من واشنطن إلى Tiktok: طلاق مع بكين أو الحظر!


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - ميثم الجنابي - ماركس -المرايا المتحطمة-!