أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسب الله يحيى - الدرس الثالث في التربية الشيوعية















المزيد.....

الدرس الثالث في التربية الشيوعية


حسب الله يحيى

الحوار المتمدن-العدد: 2616 - 2009 / 4 / 14 - 06:09
المحور: الادب والفن
    


وراء اللهفة الطويلة.. كان هناك أمل.
قرأت هذه اللهفة المضمخة بالخزن في وجه أبي، وهو يتوجه الى محطة قطار الموصل.. قرأتها.. كما لو انني في مأتم، أو وداع ليس به أمل في العودة.. ومع ذلك وجدت في عيني ابي ثمة أمل.. أمل جد ضعيف، ضئيل حد العدم.. ومع ذلك ثمة ما يؤشر ويوحي الى ومضة الامل هذه.
تعلقت بهذه الومضة.. وكانت براءة طفولتي تتوسل هذا الامل علّه يكبر، علّه يساعدني على قراءة قدر.. قدر معين من ملامح أبي التي اضاعها الحزن العميق الذي بدا طاغياً وثقيلاً وظلامياً في ملامحه.
بحثت طفولتي عن نفسها في عيني.. أبي.. فلعل هذه الطفولة المنكسرة التي أحملها ترشدني الى سبيل يدلني على نقطة دالة لمفتاح مسرة ادخل من خلاله على الاسرار التي تكمن في أعماق أبي التي لم يكن بوسعه البوح بها، مثلما ليس بوسعي استيعاب ما تحمله من انشغالات في شتى الامور.
كان القطار الصاعد الى بغداد.. يسير، صاخباً.. ونسمع عبره احتكاك الاقدام الحديد للقطار على الشارع الحديد الذي أسمع الناس يطلقون عليه اسم السكة الحديد.. فينتابني إحساس بالقوة والقسوة معاً.. فأي شارع هذا الذي تسير عليه القطارات الحديد، بعجلاتها الحديد، بشارعها الحديد؟
لم يتحدث أبي طوال الطريق الممتد طويلاً إلا بكلمات قليلة، فما وجدت عدداً من الركاب يستلفون فوق الرفوف الخشبية القائمة على جانبي القاطرة..
كنت أعرف اننا نتجه لمواجهة أخي وعد الله يحيى النجار في سجن بعقوبة..
وما كانت بعقوبة برتقالية اللون ولا بوشم الفاكهة التي نسمع عن طعمها اللذيذ، وإنما كانت مرسومة في الاذهان بوصفها السجن الذي يضم آلاف الشيوعيين ومن بينهم كان أخي الشهيد وعد الله.
الآن.. لا اتذكر كيف مر القطار ولا كيف وصلنا بعقوبة وأي طريق سلكنا.. ولكنني استعيد الان جيداً صورة الباب الحديد والسور الطويل للسجن والاسلاك الشائكة في أعلى السور.. وكيف استقبلنا الحراس بكلمة (ممنوع) وماذا كانت تعني هذه الكلمة أمام من قطع (500) كيلومتر بالقطار والسيارة حتى يصل الى هذا المكان الذي صدئت جدرانه والاماكن المحيطة به... حتى ليحس المرء وكأن الزمن قد نسي المرور به وايقاظ الارض التي سكنت ودب فيها الموت.. وما من حركة يمكن الانتباه إليها سوى هذه البقعة السوداء التي أسماها (سجن بعقوبة).
- المواجهة ممنوعة.. وعد الله ممنوع من الزيارة.
- ولكنه سجين مثل بقية السجناء..
قال أبي وفي عينه دموع وفي كلامه توسل وانين مكتوم:
- هذا أمر المدير.. وعد الله ليس مثل البقية.. انه مضرب عن الطعام منذ (19) يوماً.
ما كنت اعرف معنى (الاضراب).. الى ان سأل ابي الشرطي:
- يعني انه لم يأكل الطعام كل هذه المدة.!؟
- نعم.. نعم.. كم عنيد هذا الرجل..
همس الشرطي في اذن ابي واعقب ذلك بقوله:
- عد الى بغداد واذهب الى (الريسس).. وستجده هناك يلعب في ساحة الخيول.. كلمه لعله يوافق على المواجهة.
تحول وجه أبي الى ليمونة.. كاد يسقط أرضاً لولا انه اتكأ على كتفي الذي مال جانباً وكاد يسقط كذلك.
انصرفنا ونحن في حالة من الاحباط واليأس والحزن الثقيل.. كان فمي جافاً وبي ظمأ الى قطرة ماء، لكنني لم أجرؤ على مفاتحة أبي بالامر، كما ان ابي كان مشغولاً عني بما لا يعرفه، لكنني ادركت ان الحوار القصير الذي سمعته بين أبي والشرطي كان كافياً لجعلي أفهم ما كان يدور في رأس ابي.
ركبنا باصاً ثقيلاً يئن.. كما لو انه يعاني من الزمن الثقيل الذي سربه.. كان الباص يشبهنا في تعبه وعجزه.
وكان باص ينقلنا الى باص واقدام تسلمنا الى شوارع وشوارع تسلمنا الى أماكن مجهولة لا نعرفها.. حتى إذا ادركنا المكان.. قالوا لنا:
- هذا هو الريسس.
وسأل ابي عن المدير.. قال له من سمعه يسأل:
- كيف ستعرفه، ومن يدلك على مدير سجن بعقوبة.. وهل هو مكان تقابل به مدير السجن؟
لم ييأس أبي من الاسئلة.. حتى قادته الأدلة الى رجل ممتلئ.. مليء بالعافية والمزاج الرائق وهو يتناول كأسه في إدارة الريسس..
أشفق عليه أحد الحضور الذي كان متأنقاً وعليه سيماء السماح والالفة.. فهمس باذن صاحبه، فخاطب أبي:
- اتبعني..
وعندما تبعناه انا ووالدي.. سأل الرجل أبي:
- ما عندك في سجن بعقوبة ؟
- ابني..
- شيوعي ؟
- يقولون.. والله ماعنده شيء.
- ولماذا انت خائف؟
- كيف لا أخاف وابني سيموت جوعاً.
- ولماذا يموت جوعاً وهناك مخصصات طعام لكل سجين!
- ابني لم يأكل منذ (19) يوماًً!
- هل هو مريض..؟
- لا أعرف..
- بل تعرف..
سكت قليلاً وقال:
- قد يكون ذاك الشيوعي الذي اسمه وعد الله النجار؟
- بعينه.. هل تعرفه؟!
سمعت الرجل يهمس في اذن ابي:
- يجب ان تفخر بابنك.. ابنك بطل، انهم يخافونه.. انهم يتحدثون عنه هنا.. يقولون انه مضرب عن الطعام لأن المدير يسرق مخصصات طعام السجناء ويصرفها هنا على سباق الخيول.
عجب أبي، اغتنمت الفرصة وسألت أبي بدوري:
- هل يريد وعد الله.. استلام هذه المخصصات بدلاً عن المدير؟
اسكتني ابي..
- اسكت.. هل هذا وقتك؟
اجابني الرجل نيابة عن أبي:
- اخوك ينوب عن زملائه.. يعرف جيداً حقوق السجين السياسي.
لم افهم ما قاله الرجل لكنني احسست بتعاطفه مع أخي.
وصلنا مكاناً بهياً.. وفتح الرجل باباً ضخماً وانطلقت من فتحة الباب ضحكات عالية..
مددت عنقي، ووجدت الرجل يهمس في اذن رجل بدين.. فصاح هذا:
- تعال.. تعال.
تقدم ابي بحذر وانا امسك به.. فيما كانت الوجوه المحيطة بالرجل البدين تنظر إلينا وترى فينا مخلوقات عجيبة وكأن الحضور لم يروا ما يماثلها من قبل، وفجأة خاطب البدين أبي:
- تريد مواجه هذا الشيوعي الخطر..
- وعد الله خطر.. من لم يأكل لمدة (19) يوماً هل يمكن ان يشكل خطراً على أحد؟
- ها.. انت تدافع عنه..
بدا أبي متوسلاً
- سيادة المدير.. ابني يموت.
- ومن قال له ان يموت.. تعال غداً صباحاً الى السجن حاملاً ما شئت من الطعام وليأكل ما يريد. من يمنعه عن الاكل..
استدار ابي متوجها الى الخروج..
كان أبي حائراً بين فرصة الحصول الى موافقة المواجهة وبين القلق الذي كان ينتابه في بقاء أخي حياً حتى الغد..
مرت الليلة ثقيلة في (فندق السعادة) الذي لم تكن ليلته سعيدة أبداً بدليل اننا تقيأنا رغيف الخبز الذي تناولناه وبقينا في حالة من القلق والنتانة ورائحة الخمر والحشرات الطائرة والزاحفة المحيطة بنا.
كان تموز لاهباً والهواء جاف والحاجة الى الماء ملحة.. كما ذبالة مصباح مريض يحمل وجها أصفر منزوياً في أعلى الجدار لم يجد أبي من ضان يمكن ان يحيطني به سوى احتضاني..
وكنت احسه يستعين بي حتى اسكت انيناً حاداً كان يمكن ان ينطلق في كل لحظة.
مرت الليلة ثقيلة.. كما جبل يجلس فوق جسدينا.
وعند الفجر كان نقف عند باب السجن.
وسأل أحد الحراس أبي:
- هل تعتقد ان معالي المدير سيتذكرك..!
قال آخر..
- لا يأتي لاستقبالك فجراً..!
ظل أبي حائراً لا يعرف كيف يجيب. فيما كان ينظر الى لف بها ما كنا قد اشتريناه من طعام وتناولنا جزءاً منه حتى نداوي جوعنا..
ووجدت أبي يسأل مضطراً:
- هل وعد الله مازال حياً..؟
أجاب الشرطي:
- لا نعلم.. لم يخبرنا أحد بموت سجين حتى الان.
وجدت أبي يتوسل الشرطي:
- قد يكون ميتاً ولا يعلم به أحد هل يمكن السؤال عنه.
تلفت الشرطي.. واقترب من أبي، ورأيت أبي يسرع باخراج مبلغ من المال ويدسه في جيب الشرطي الذي اندفع متوجهاً الى الداخل.
كان الوقت يمر ثقيلاً.. حتى إذا عاد الشرطي.. كنا قد فقدنا الصبر.
- حي.. مازال حياً.. اطمئن..
ملت الساعات من نظرتنا واسئلتنا معاً.
كانت الساعة العاشرة صباحاً عندما وصلت سيارة معالي السيد مدير سجن بعقوبة..
راحت التحيات والاستعدادات تجري لاستقباله وكنت وابي في سكون كما لو نترقب حدثاً هاماً قد يواجهنا..
التفت الرجل البدين بكامل قيافته الرسمية.. قال:
- تعالوا..
وجه الكلام الى أحد الحراس.. دعوه يواجه وعد الله النجار.
ارتسمت ابتسامة جريحة على شفتي أبي..
وقادنا شرطي الى المكان.. كان هناك سياج حديدي مرتفع وأمامه مساحة كافية لمرور أكثر من شرطي.. ثم يأتي سياج حديدي آخر بالارتفاع التي نحن فيه.. وكان باستطاعته الوقوف..
هتف به ابي:
- وعد الله.. وعد الله، هذا انا ابوك وهذا أخوك حسيب.
- أهلاً.. أهلاً.. بالكاد قالها رافعاً وجهه..
- ابني جئت لك بالطعام.. كل، لماذا انت عنيد لا تأكل..؟
صمت وعد الله، وصدق في وجه أبي معاتباً..
ورأيت المدير يقف قريباً من أخي..
- اسمع كلام والدك.. انت لا تضر إلا نفسك
سأل المدير:
- هذا والدك ألا تطيع أمره كذلك؟
- انا اعرف حقوق ابي وأخي والناس..
انتم لا تعرفونها..
غضب المدير.. سنعلمك كيف ترفع صوتك..
توسل ابي بالمدير..
- سامحه يا سيدي.. سامحه، إنه في حالة صحية سيئة
- هذا بيده.. انه يريد ان يكون بطلاً برأسنا.. يريد ان يعلمنا الاخلاق.. هذا الشيوعي.
رفع أخي رأسه:
- نعم نحن من يعرف الاخلاق.. نحن لا نسرق طعام السجناء..
صرخ المدير:
- نحن سراق.. يا شيوعي.
انحنى ابي يريد تقبيل يد المدير حتى يكسب ود المدير..
رآه وعد الله فخاطب أبي:
- ابي .. لست أبي ان قبلت يده.. لا اريد ان اراك تقبل يداً فاسدة مجرمة.
ثم وجه السؤال لي:
- حسيب.. اذا كنت تريد ان تفعل مثل ابيك.. فأنا لا أريد رؤيتكما..
بكى أبي وبكيت لبكائه.
صرخ وعد الله:
- لا تهينونني.. بهذا البكاء.. اخرجا.. لا اريدكما هكذا ضعفاء..
وغادرنا داخلاً الى زنزانته.. فيما كان المدير يرثى لحالنا..
غادرت المكان مع أبي.. وفوجئت به يخاطب المدير..
- ابني قوي.. قوي بالحق ولن يتراجع.
احس المدير يعيني ابي وهما تحملان الاصرار والتضامن مع أخي.. وقال:
- لخاطرك.. سأعفو عنه... سألبي مطالبه وخرجنا..



#حسب_الله_يحيى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدرس الثاني في التربية الشيوعية
- النقد في منظورين : الجفاء والوفاء
- الدرس الاول في التربية الشيوعية
- للكوارث في العراق الراهن..تسلسل خاص.
- الاعلام العراقي في شبكة
- نهار المدى .. شارع وحياة
- في ثقافة المصالحة والتسامح
- إعدام حلم
- الزعيم يختار الخراف الرشيقة
- الموجة تعشق البحر
- البراعة في احتمال الأذى
- سادة الانتخابات
- الأفاق الاجتماعية للكورد
- بيان في المسرح التجريبي
- في جامعة بغداد :الدراسات العليا بين الجد والمزاج
- غابرييل غارسيا ماركيز: الواقع وأبعاده
- كبار الكتاب كيف يكتبون؟
- الغربة العراقية في ثلاث روايات لمحمود سعيد
- كونديرا خارج الاسوار.. الطفل المنبوذ ..بطيئاً
- ميلان كونديرا: ثلاثية حول الرواية


المزيد.....




- أوركسترا قطر الفلهارمونية تحتفي بالذكرى الـ15 عاما على انطلا ...
- باتيلي يستقيل من منصب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحد ...
- تونس.. افتتاح المنتدى العالمي لمدرسي اللغة الروسية ويجمع مخت ...
- مقدمات استعمارية.. الحفريات الأثرية في القدس خلال العهد العث ...
- تونس خامس دولة في العالم معرضة لمخاطر التغير المناخي
- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسب الله يحيى - الدرس الثالث في التربية الشيوعية