أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - نايف سلوم - قراءة في -كراسات السجن- لـ أنطونيو غرامشي















المزيد.....



قراءة في -كراسات السجن- لـ أنطونيو غرامشي


نايف سلوم
كاتب وباحث وناقد وطبيب سوري

(Nayf Saloom)


الحوار المتمدن-العدد: 801 - 2004 / 4 / 11 - 06:35
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


تركز هذه القراءة المستفيدة من أسلوب العرض على القسم الخاص بالمثقفين لما للجبهة الثقافية في الشرط الراهن العالمي والعربي من مكانة مهيمنة. ولكون القسم الخاص بالمثقفين يلحظ أغلب القضايا التي يعالجها غرامشي في كراسات السجن.

كراسات أو دفاتر ، هذا يذكرنا بـ " الدفاتر الفلسفية " للينين والتي كتبت الأعوام 1915-1916 ، والتي تتضمن من بين ما تتضمن خلاصة "علم المنطق " لهيغل، حيث يلخص لينين "المنطق الكبير" المجلدات [ III، IV ، V ] إضافة إلى "المنطق الصغير" أو ما اشتهر باسم "موسوعة العلوم الفلسفية ". وكان الياس مرقص قد ترجم قسم من دفاتر لينين إلى العربية في ثلاثة مجلدات وبقي قسم من الدفاتر لم يترجم بعد . وهذا هو مصير كراسات أو دفاتر السجن لـ غرامشي _التي نعرض لها اليوم_ حيث تشمل الترجمة العربية مختارات من كراسات السجن لغرامشي مترجمة عن الإيطالية إلى الإنكليزية . selections from prison notebooks

يقول المترجم العربي في مقدمته "هذه ترجمة لمختارات من كراسات السجن حررها وترجمها إلى الإنكليزية كينتين هور و جيفري نويل سميث دار لورانس و ويشارت لندن 1978 " . الطبعة العربية لهذه المختارات من منشورات "دار المستقبل العربي" القاهرة 1994 ترجمة عادل غنيم.

اعتمدت الترجمة الإنكليزية على طبعة تورين التي نشرها إي نودي لكراسات السجن مع نص أو نصين لغرامشي لم يسبق نشرهما ، مع إدخال تعديلات طفيفة على الترتيب في بعض المواضع. وإعداد مدخل لكل قسم من أقسام الكتاب .

بدأ غرامشي العمل "بكراسات السجن" في فبراير شباط 1929 وفرغ منها 1935 . وتبلغ 33 كراس [دفتر] . كانت الكراسات استمراراً لنضال غرامشي الثوري ، وكانت كما وصفها غرامشي نفسه: "بؤرة حياتي الداخلية" [الكلام لـ غرامشي بالطبع] .

توفي غرامشي سنة 1937 على أثر خروجه من السجن . وهو المولود سنة 1891 في جزيرة سردينيا جنوب إيطاليا .

تأتي أهمية انشغالنا بغرامشي وفكره من تشابه الشرط العالمي الراهن مع شرط أوربا التاريخي عندما كتب غرامشي الكراسات . حيث كتبت في اللحظة التاريخية لهزيمة الثورة الاجتماعية [البروليتارية] في أوربا ، وتحديداً ألمانيا وإيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى. وتأتي أهميته اليوم من الأزمة البنيوية للرأسمالية تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية . ومن الإحباط الذي أصاب البروفات العظيمة للثورات الاجتماعية [الاشتراكية] في القرن العشرين . لقد دشن تفكك الاتحاد السوفييتي نهاية مرحلة ثورية عظيمة ، مرحـــلة تعتمد " حرب الحركة " باعتبارها هجوماً مباشراً على سلطة الدولة البورجوازية ، وبداية مرحلة جديدة عالمية تعتمد ما يسميه غرامشي بـ "حرب المواقع" war of position تدور رحاها في مؤسسات الدولة البورجوازية ومجتمعها المدني . والشرط الكونيّ لهذه الحرب هو أزمة رأسمالية بنيوية على أرضية احتضار الرأسمالية من جهة وأزمة تشكل البديل البروليتاري الثوري من الجهة الأخرى . أو كما يقول غرامشي : "القديم يحتضر والجديد لا يستطيع أن يولد بعد ، في هذا الفاصل تظهر أعراض مرضية كثيرة وعظيمة في تنوعها" .

في حرب المواقع تلعب "الجبهة الثقافية" دوراً مهيمناً . ونلاحظ في هذا السياق كثرة استعارات غرامشي اللغوية من القاموس العسكري [العلم العسكري] كالحرب والموقع والجبهة ، وحرب الحركة الخ...

الكراسات في ترجمتها العربية مقسمة إلى الأقسام التالية :

القسم الأول : قضايا التاريخ والثقافة ويشمل : 1- المثقفون ، 2- حول التعليم، 3- ملاحظات حول التاريخ الإيطالي .

القسم الثاني : ملاحظات حول السياسة . ويشمل : 1- الأمير الحديث ، 2- الدولة والمجتمع المدني ، 3- الأساليب الأمير كية والفوردية .

القسم الثالث : فلسفة الممارسة praxis . ويشمل : 1- دراسة الفلسفة ، 2- مشكلات الماركسية وأخيراً "قضايا عامة" وتشمل متفرقات مثل المادية التاريخية وعلم الاجتماع ، الديالكتيك، العلم والمذهب/ النسق ، حول الفن ، وقضايا أخرى . مع مقدمة للمترجم العربي. يقع الكتاب في 494 صفحة من القطع المدرسي .

في ملاحظة لا تخلو من رهافة يقول غرامشي في سياق الحديث عن رجال الدين كمثقفين تقليديين في العصر البور جوازي : "يمكن الربط بسهولة بين الفلسفة المثالية ككل ، ووضع التركيبة الاجتماعية للمثقفين . ويمكن تعريف الفلسفة المثالية بأنها تعبير عن تلك اليوتوبيا الاجتماعية التي يتصور فيها المثقفون أنهم "مستقلون" ومتميزون ، وأن لهم شخصيتهم الخاصة [روح الفريق أو الفرقة المغلقة] الخ.." ص 24 . المثالية بهذا المعنى فكر شطح ففشل في العودة إلى الواقع الذي جُرّد على أساسه، والفكر المثالي تضخيم لجانب من جوانب واقع معقد. يكتب لينين في دفاتر حول الديالكتيك: "المثالية الفلسفية ليست سوى حماقة من وجهة نظر مادية فظة ، مبسّطة ، ميتافيزيقية . بالعكس ، فمن وجهة نظر مادية ديالكتيكية ، المثالية الفلسفية هي إنماء أحادي الجانب ، مبالغ فيه [مفرط، فوق الحد، فيّاض..] (على حد تعبير ديتسغن) ، تضخم ، تورم ، لإحدى العلائم الصغيرة ، لأحد الجوانب ، لأحد وجوه المعرفة ، الذي يصبح على هذا النحو مطلقاً، مفصولاً عن المادة ، عن الطبيعة ، مؤلّهاً." [لينين "الدفاتر الفلسفية -1 ، عن الديالكتيك" الطبعة الأولى ص 243 ترجمة الياس مرقص دار الحقيقة ] . "وفيما لو توخينا إيجاد شبيه لهذا الأمر لكان علينا أن نتوغل في المجالات الضبابية لعالم الدين . فهنا تبدو منتجات الدماغ البشري كائنات مستقلة لها حياتها الذاتية ، وعلاقات محددة مع الناس ومع بعضها البعض . وهذا ما يحصل أيضاً لمنتجات الأيدي البشرية في عالم البضائع . إنني أسمي هذا بالصنمية " [ماركس ، رأس المال المجلد الأول الكتاب الأول ص 108 ترجمة دار التقدم] .

في تحديده للمثقف ينبه غرامشي إلى أن التحديد ليس بذاته ، ليس في الطبيعة الجوهرية لأنشطة المثقفين ، التي هي النشاط الذهني . بل في نسق العلاقات الاجتماعية التي تجري فيه هذه الأنشطة . يكتب غرامشي : "يبدو لنا أكثر الأخطاء شيوعاً ، هو البحث عن معيار التمييز في الطبيعة الجوهرية لأنشطة المثقفين ، بدلاً من البحث عنه في مجمل نسق العلاقات الذي تجري فيه هذه الأنشطة " [كراسات ص 24 ] فالعامل أو البروليتاري لا يميز بأنه يقوم بجهد أو عمل عضلي "وإنما في أدائه لهذا العمل في ظل ظروف معينة وعلاقات اجتماعية محددة" [أي في موقعه في هذا العمل الاجتماعي الاقتصادي ] [كراسات ص24-25 ] . المثقف يتميز بوظيفته كمثقف في مجتمع محدد . كل عمل مهما كان بدائياً فيه إلى حد ما شيء من النشاط الذهني . ولكن ليس كل نشاط ذهني يقوم بوظيفة المثقف . يقول غرامشي : "كل الناس "مثقفون" ، لكن ليس لكل إنسان وظيفة المثقف في المجتمع " [كراسات ص25 ] . ويضيف : "عندما نميز بين المثقفين وغير المثقفين فإننا في الحقيقة نشير فقط إلى الوظيفة الاجتماعية المباشرة " [كراسات ص 25] . إذا كان بإمكاننا الحديث عن المثقفين ، فإنه لا يمكننا الحديث عن غير المثقفين لأنه لا وجود لهم [كراسات ص25] . "لم يعد أسلوب المثقف الجديد يعتمد على البلاغة التي هي محرك خارجي مؤقت للمشاعر والعواطف ، بل أصبح يعتمد على المشاركة الإيجابية في الحياة العملية كبان ومنظم لها " [كراسات ص27] فمن التكنيك كعمل ينتقل الإنسان إلى التكنيك كعلم ومن ثم إلى المفهوم الإنساني للتاريخ. هنا ينتقل الإنسان من النقابية والمهنية- التقنية إلى السياسة والقيادة حيث يغدو متخصصاً وقيادياً .. لقد تجاوزنا حقل العمل والتخصص التقني إلى فلسفة العمل وإلى سياسة العمل . تجاوزنا التكنوقراطي إلى السياسي . والتجاوز هنا انتقال مع احتفاظ ، أو تضمن . نقرأ في كراسات السجن : "إن أهم ما يميز أية جماعة تتجه إلى السيطرة ، هو نضالها من أجل استيعاب المثقفين التقليديين وإخضاعهم أيديولوجياً . غير أن هذا يتحقق على نحو أسرع وأفعل إذا ما نجحت في نفس الوقت في إعداد مثقفيها العضويين " [ص26] . ليست علاقة المثقفين بعالم الإنتاج علاقة مباشرة كما هو الحال بالنسبة للجماعات الاجتماعية الأساسية [البورجوازية والعمال] ، وإنما في علاقة غير مباشرة ، يتوسطها بدرجات متفاوتة نسيج المجتمع كله ، ومركب الأبنية الفوقية ، التي يعتبر المثقفون بالتحديد موظفوها" [كراسات ص27-28] .

يتطلب فهم الإسهام الذي أنجزه غرامشي تحديد مستويين في الأبنية الفوقية أحدهما، ما يمكن تسميته بـ "المجتمع المدني" أو أجهزة الهيمنة في الدولة البورجوازية الحديثة[التربية والتعليم، والإعلام] ، والمستوى الثاني هو "المجتمع السياسي" أو [سلطة الدولة] . يقابل المستوى الأول وظيفة الهيمنة الاجتماعية hegemony التي تمارسها الجماعة الحاكمة في المجتمع كله من جهة ، و يقابل المستوى الثاني وظيفة السيطرة المباشرة أو الأمر و[الإكراه] التي تمارسها الطبقة المسيطرة من خلال الدولة وحكم "القانون" من الجهة الأخرى وهي بالتحديد وظائف رابطة وتنظيمية . كما يقول غرامشي في ص 28

ما يحكم تعريف المثقف ليس الخصائص الجوهرية لنشاطه الذهني فحسب ، بل السياق الاجتماعي أي الوظيفة الاجتماعية لهذه الخاصية أو تلك من النشاط الفكري بغض النظر عن نسبة العمل الذهني إلى العمل العضلي المبذول . وهذا الجدل بين المستوى الوظيفي للثقافة والمستوى الخصائصي- الجو هراني يذكرنا بالثنائية التي تشتمل عليها السلعة أو البضاعة في التحليل الماركسي الكلاسيكي : قيمة تبادلية وقيمة استعمالية حيث تهيمن الأولى في النظام البضاعي وخاصة الرأسمالي. ما يشير إلى هذه الهيمنة في النظام الرأسمالي هو فرط حضور السلع متزامناً مع فرط حضور الفقر والجوع وعوز الملبس والمسكن . يكتب غرامشي : "تقتضي وظيفة الهيمنة /القيادة الاجتماعية وسيطرة الدولة ، بلا شك، نوعاً من تقسيم العمل ، وبالتالي تدرجاً هرمياً للمؤهلات اللازمة لوظائف بعضها لا ينتسب في الظاهر إلى وظائف القيادة والتنظيم " [كراسات ص28] ... لقد طرأ على فئة المثقفين ،بهذا المعنى ، في العالم الحديث توسع لم يسبق له مثيل . فقد ولد النظام الديموقراطي – البيروقراطي [بجهازه البيروقراطي الضخم] عدداً هائلاً من الوظائف والتي لا تبررها ضرورات الإنتاج الاجتماعية ، وإن كانت تبررها الضرورات السياسية للجماعة الأساسية الحاكمة " [ص29] .

جدير في هذا السياق أن نلاحظ الأهمية المتعاظمة للتلاحم بين الوظيفة الاجتماعية لمثقفي الريف [رجل دين، محامي، محضر، مدرس، طبيب] وبين الوظيفة السياسية . إذ يصعب هنا كما يقول غرامشي: "فصل الوساطة المهنية عن الوساطة السياسية". [كراسات ص30]

تنبع أهمية هذا التلاحم من الشرط العالمي الذي يجعل "حرب المواقع" هي الحرب المهيمنة وهي حرب تقوم في مؤسسات الدولة البورجوازية دون الطموح لاستلام سلطة الدولة أي هيمنة من دون طموح راهن ومتزامن للسيطرة السياسية.

إن موقف الفلاح من المثقف موقف مزدوج ومتناقض، فهو يحترم المركز الاجتماعي الذي يتمتع به المثقفون وموظفو الدولة عامة، ولكنه يتظاهر أحياناً بازدرائهم ، وهذا يعني أن إعجابه بهم يمتزج أحياناً بمشاعر غريزية ، مشاعر الحقد والغضب المتقد. [ كراسات.. ص30]

أما بالنسبة لمثقفي المدينة فالأمر مختلف حيث تمارس الجماهير العاملة على الأقل من خلال مثقفيها العضويين تأثيراً سياسياً في الفنيين. [كراسات ص30]

تبقى النقطة الرئيسية في القضية ، وهي التمييز بين المثقفين كفئة عضوية في جماعة اجتماعية أساسية والمثقفين كفئة تقليدية [ كراسات ص 30]

تظهر النماذج الأساسية للمثقفين على الشكل التالي، وهو تقسيم من عملنا مستوحى من عمل غرامشي:

1-بلدان ذات قاعدة صناعية قوية وبنية فوقية سياسية معقدة مع وجود طبقة- فئة (caste) من المثقفين التقليديين [ألمانيا، إنكلترا،إيطاليا، اليابان]. تتميز هنا ألمانيا وإيطاليا بمثقفيها التقليديين ذوي النزعة الكوزموبوليتانية (عولمية).

2-بلدان ذات قاعدة صناعية قوية وبنية فوقية معقدة مع شبه غياب المثقفين التقليديين (أمريكا الشمالية).

3-بلدان ذات قاعدة صناعية ضعيفة التطور مع وجود طبقة من المثقفين التقليديين ذوي الأملاك العقارية الكبيرة متحالفين مع كبار ملاك الأرض مع كنيسة منقسمة إلى قسمين قسم متحالف مع الطبقة العسكرية الطفيلية وقسم متعاطف مع المثقفين العضويين للطبقات المتظلمة. وهو حال بلدان أمريكا اللاتينية .

4-قاعدة صناعية ضعيفة التطور مع طبقة من ضباط الجيش ذوي ميول "علمانية" تلفيقية مع طبقة كبيرة من المثقفين الريفيين وزعماء العشائر وطبقة واسعة من المثقفين التقليديين المدينيين من رجال الدين المسلمين وغير المسلمين ، ومثقفين مهاجرين على نوعين: كوزموبوليتاني (عولمي) ، وديموقراطي . إضافة إلى وجود مثقفين اشتراكيين من النمط البيروقراطي ملحقين بسلطة الدولة البورجوازية الطرفية . ومثقفين ليبراليين – ديمقراطيين تركوا حقلهم الاشتراكي بحكم نفورهم من الاشتراكية البيروقراطية . وهذا هو حال الأقطار العربية .

في بنى اجتماعية اقتصادية عربية معقدة كهذه تظهر أشكال من الكفاح الثقافي cultur kamph ، ومن انفصال المثقفين عن الشعب وتظهر ضروب من العلمانية السياسوية المجردة غير المرتبطة بطبقة بعينها أو بمشروعها السياسي، ومن الليبرالية العلمانية الرومانسية والتلفيقية . ومن الليبرالية الدينية .

إن ظاهرة أمريكا اللاتينية تؤكد ملاحظة غرامشي التي تشير إلى وجود ثلاث مراتب أو درجات ضمن الدين الواحد : كبار رجال الدين ، رجال الدين العلمانيون ، والشعب كأفراد متدينين.

يكتب غرامشي: "ويصل هذا الاختلاف في شرقي آسيا إلى حد لا يصدقه عقل ، حيث لا علاقة البتة لدين الشعب بدين الكتب وإن حملا ذات الاسم. [كراسات ص38]

أسهبنا في عرض مشكل المثقفين عند غرامشي في كراسات السجن لما لهذا الموضوع من خطورة . أما الآن فسنعرض تلميحاً لملاحظات غرامشي حول التعليم والتربية.

يقسم غرامشي المدارس إلى نوعين: مدارس تكوينية ومدارس مهنية. بخصوص المدارس التكوينية يقول غرامشي:"فما يتعلمه التلاميذ يجب أن يبدو محايداً، أي ليست له أهداف عملية مباشرة ، أي يجب أن يكون تكوينياً إلى جانب كونه تعليمياً (تلقينياً) أي أن يكون غنياً بالحقائق الملموسة. إن أزمة الثقافة التقليدية ومنها الدينية قد أدت إلى انحطاط مطرد لهذا النمط من التعليم. بالرغم من ملاحظة عودة هذا النمط من التعليم [التعليم الديني]عندنا العرب وفي البلدان ذات الثقافة الإسلامية . وهو في اعتقادي ناجم عن إحباط التحديث الذي قادته البورجوازية "القومية" ومن قبلها البورجوازية التقليدية ذات النزوع الليبرالي. المدارس المهنية مدراس صممت استجابة لاهتمامات عملية مباشرة.

المدارس التكوينية كانت حكراً للطبقات السائدة قبل العصر البورجوازي بحيث كانت تهدف إلى تكوين جماعة ثقافية تمارس وظيفتها كهيئة حاكمة.

هكذا من المفيد دائماً ملاحظة العلاقة بين التعليم العام والميزانية القومية. وذلك لرصد مدى ديمقراطية التعليم القومي.

وفي سياق المقارنة يقول غرامشي:" هذا النمط من التعليم المهني يبدو ديمقراطياً ويدافعون عنه باعتباره كذلك ، في حين أنه يستهدف في الحقيقة الإبقاء على الفوارق الاجتماعية ، بل وتجميدها. [ص59]

ليس تعلم الحكم، أو خلق رجال موهوبين هو الذي يحدد الطبيعة الاجتماعية لنمط معين من التعليم وإنما يحددها واقع أن لكل جماعة اجتماعية نمط التعليم الخاص بها، والذي يهدف إلى تأبيد وظيفتها التقليدية النوعية وهي الحكم أو التبعية. [ص60]

وهذا ما يسميه غرامشي بالتعليم التقليدي أو الأوليغاركي [تعلم القلة الحاكمة]. وإذا أردنا أن نقوض هذا النمط من التعليم ، فإننا نحتاج بدلاً من الإكثار من أنماط التعليم المهني المختلفة وتدرجها أن نخلق نمطاً واحداً من التعليم التكويني (ابتدائي- ثانوي) يتعهد التلميذ حتى يصبح شخصاً قادراً على التفكير والدراسة والحكم أو الرقابة على الذين يحكمون.

إن الديمقراطية بالتحديد لا يمكن أن تعني فقط أن يكون في مقدور العامل غير الماهر أن يصبح ماهراً بل ينبغي أن يكون معناها أن يستطيع كل مواطن أن "يحكم" أو يهيئ له المجتمع نظرياً على الأقل الوضع العام الذي يمكنه من ذلك. إن التعددية المهنية خداع ديمقراطي ليس إلا، وعلى هذا يكون تكاثر المدارس المهنية منذ البداية الأولى لحياة الطفل التعليمية هو أبرز مظاهر هذا الاتجاه، اتجاه لتعليم يميل نحو التعليم التقليدي الأوليغاركي [تعليم أقلوي للحاكمين] ونحو تكريس الفرو قات الطبقية وتعميقها.

يشير غرامشي إلى أهمية التجريد في التعليم الابتدائي ، فنحن نعلم التلميذ أن واحد تساوي واحد من دون أن يعلم التلميذ أن ذبابة واحدة لا تساوي فيل واحد. المقياس الذي نقيس به الأشياء مركب من تجريدات ولكن لا يمكننا من دونه أن ننتج أشياء حقيقية . [كراسات ص62] . هكذا تكون العلاقة بين الأشكال التربوية وسيكولوجية التلميذ دائماً علاقة إيجابية وخلاقة. إنها تشير بكلام آخر إلى علاقة المجرد بالعيني والمشخص.

في ملاحظاته حول التاريخ الإيطالي يورد غرامشي عدد من القضايا الأساسية في البحث التاريخي والسياسي، ففي سياق حديثه عن الطبقات التابعة (المتنحية) يشير إلى العلاقة العضوية القائمة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني ويؤكد على مهمة دراسة تاريخ أحزاب الطبقات التابعة وهو تاريخ كما يقول في غاية التعقيد. وفي سياق العلاقة بين المجتمعين السياسي والمدني، وفي سياق العمل على مبادئ البحث التاريخي والسياسي، يشير غرامشي إلى الطبقات السائرة نحو السيطرة والهيمنة فيقول : " كان عليها كي تصبح دولة أن تقضي على الخصوم وأن تظفر بالرضا الإيجابي أو السلبي للأصدقاء التابعين (الحلفاء) ". [كراسات ص71].

إن أي أثر للمبادرة المستقلة للطبقات المتنحية أو التابعة ينبغي أن تكون له أهمية كبرى عند أي مؤرخ نزيه. [كراسات ص78]

سوف نطلق على الطبقات التابعة اسم متظلمة تارة أو حليفة أو متنحية أو هامشية أو محكومة تارة أخرى . وكل ذلك أي أن كل هذه التعددية في الاسم يقابلها في الجهة المضادة الطبقة السائدة أو المسيطرة.

في ملاحظة لا تخلو من طرافة ورد في مدخل المترجم الإنكليزي التزامن بين إبداع دانتي الشعري 1265 -1321 وبين مولد اللغة الإيطالية كلغة للأدب في صقلية. أما فترة ميكيافلي فقد كانت الفترة التي شهدت الغزوات الأجنبية وبلغ الشقاق فيها مداه بين الدويلات وهي بالتحديد الفترة التي كتب فيها ميكيافلي أعماله السياسية الخالدة كـ "الأمير ، والمطارحات الخ.. " 1469 -1527.

يرد مفهوم الثورة السلبية عند غرامشي في الكراسات كما يرد هذا المصطلح عند لينين في مقالة له عام 1906 تحت عنوان "أزمة المنشفية". يعرّف غرامشي الثورة السلبية بأنها ثورة تفتقر إلى المشاركة الشعبية وترجع إلى فعل قوى خارجية أو مبادرة البنية الفوقية السياسية[الدولة]. هذا تعريف أول، أما التعريف الثاني فهو تحول اجتماعي جزيئي molecular يجري تحت سطح المجتمع في ظل أوضاع لا تستطيع الطبقة التقدمية أن تتقدم بمطالبها علانية. وهذه التحولات تقودها الدولة حتى لو كانت بيد طبقات محافظة و "رجعية"

في ملاحظة مثيرة يكتب غرامشي حول الفاشية قائلاً:"ليس هناك حتى الآن نظام فاشي أطاحت به قوى داخلية". [كراسات ص71] مع إرفاقها مع هذه الملاحظة الهامة التي تقول : "على الأحزاب - وهذا أمر جوهري- أن تتجنب حتى الظهور "المبرّر" بمظهر من يلعب لعبة شخص آخر ، خصوصاً إذا كان هذا الآخر دولة أجنبية. غير أنه ليس بوسع أحد أن يمنع التخمينات" [كراسات ص 170]

في تعليقه على الجنوب الإيطالي وعلى أحد الشخصيات السياسية والثقافية في تاريخ إيطاليا الحديث والذي يدعى كر يسبي* يقول غرامشي:"يكشف موقف مختلف الجماعات الاجتماعية في الجنوب في الفترة 1918-1926 جوانب الضعف في معالجة كر يسبي المتعصبة لقضية الوحدة.

ما يلفت النظر هنا أن كر يسبي لم يكن ليؤيد نزعة يعقوبية- اقتصادية تسعى إلى توزيع الأرض على الفلاحين وإشراك الطبقة الفلاحية في السياسة أي أنه لم يكن من أنصار تعزيز هيمنة رجال الصناعة في الشمال الإيطالي على فلاحي الجنوب عبر تحالفه معهم ضد ملاك الأرض التقليديين.

هكذا يفصل كر يسبي بفظاظة بين الوحدة القومية والديمقراطية ويستعيض عن الهيمنة بنزعة بيروقراطية مستبدة مترافقة مع نزعة استعمارية توسعية إمبريالية. هذا القول السياسي مهم للمسألة القومية العربية، وهو أحد الدروس الكبيرة للمسألة العراقية التي عانت من تجربة نزعة قومية ذات حذر منهجي تجاه المشاركة النشطة والمستقلة للجماهير الشعبية ، نزعة عانت منها المسألة العربية وهي الفصل بين القومية والديمقراطية منذ منتصف ثلاثينات القرن العشرين.

تحت عنوان "مشكلات الماركسية " يشير غرامشي إلى أن ماركس أبدع رؤية جديدة للعالم ، وأنه لا يكفي اعتبار الماركسية "شكل تفسير " للتاريخ فحسب ، بل مطلوب تطوير وبناء تصور أنطولوجي للعالم ، نابع ومرتبط عضوياً بالتفسير التاريخي .

مشكلات الماركسية تذكرنا بكتاب بليخانوف المفكر الثوري الروسي المعروف ، بعنوانه : "المشكلات الأساسية للماركسية " . قال عنه لينين "إنه أروع شرح للماركسية " .

إذا كان ماركس قد أبدع رؤية وتصور جديدين للعالم ، فماذا فعل لينين ؟ الجواب في كون الماركسية[فلسفة الممارسة] علم تاريخي وعمل ، فلسفة وسياسة ، وثقافة وحزب سياسي . الانتقال من اليوتوبيا إلى العلم التاريخي ومنه إلى الفعل وخلق طبقة حاكمة جديدة classe dirigente أي تأسيس دولة من طراز جديد يعني خلق رؤية جديدة للعالم . وهنا يتوضح دور لينين في خلق وبلورة هذه الرؤية الجديدة للعالم إلى جانب ماركس . إضافة إلى ذلك فقد انشغل لينين بقراءة التيارات المضادة للميول "الطبيعية" في الرأسمالية كالإمبريالية . هذه التيارات المضادة طورتها الرأسمالية تحت وقع أزماتها ، وأمام النمو السياسي المتنامي للبرولستاريا كقوة سياسية واجتماعية . وبفعل دورات الكساد المميتة للرأسمالية أواخر القرن التاسع عشر. كما انشغل باليعقوبية ، وما تعنيه من إدخال الفلاحين كشريك وحليف للبروليتاريا في الصراع الاجتماعي والسياسي.

كان ماركس يؤكد على الوظيفة التاريخية للفلسفة عندما تصبح نظرية اجتماعية (طبقية) هنا في هذا القطر أو ذاك ، تقود النضال لتأسيس دولة من طراز جديد . هذا ما أكد عليه يورغن هابرماس الفيلسوف الماركسي الألماني عبر كتابه "المعرفة والمصلحة" والتي يشير فيه إلى نظرية المعرفة كنظرية اجتماعية theory of knowledge as social theory . إنه يتحدث عن نظرية المعرفة كنظرية اجتماعية معاد إنتاجها هنا في زمان ومكان محددين . كتبه سنة 1968 منشورات بوليتي 1987 .

يعود غرامشي مرة أخرى هنا ليؤكد على مركزية فكرته في الهيمنة والقيادة . مشيراً إلى "الأهمية الفلسفية لمفهوم وواقع الهيمنة/ القيادة hegemony الذي يعد لينين مسؤولاً عنهما" [كراسات 401-402]

يقدم غرازيادي في مقدمة كتابه "القيمة وفائض القيمة " في الرأسمالية ، يقدم ماركس باعتباره واحداً من رجال العلم العظام [المقصود العلم الاقتصادي] . ويعقب غرامشي على هذا القول : "إنه خطأ جوهري . فلم يبدع واحد من هؤلاء [العلماء بالمعنى الوضعي للكلمة] رؤية أصيلة ومتكاملة .. لقد افتتح ماركس فكرياً عصراً تاريخياً جديداً سوف يستمر على الأرجح قروناً . بمعنى أنه سيبقى إلى أن ينتفي المجتمع السياسي [الطبقي] وينشأ المجتمع المنظم وتحل فكرة الحرية محل فكرة الضرورة . عندئذ يمكن تجاوز رؤيته للعالم " [كراسات ص 402] . وهذه الفكرة كان أشار إليها سار تر بالقول : "لقد لاحظت هذه الملاحظة دوماً : إن أي حجة من الحجج "المناوئة للماركسية " ليست إلا تجديداً ظاهرياً لشباب فكرة سابقة للماركسية . وأي "تجاوز" مزعوم للماركسية لن يكون ،في أسوأ الأحوال، إلا عودة إلى ما قبل الماركسية ، ولن يكون في أحسن الأحوال إلا إعادة اكتشاف لفكر قد تضمنته سابقاً الفلسفة التي ظن أنه تم تجاوزها " [الماركسية والوجودية ترجمة جورج طرابيشي ص13-14 دار اليقظة دمشق 1964 ] .

يتميز فكر ماركس بالدافع القوي والطبيعة السجالية والافتقار إلى الروح المذهبية ، ويرتبط لديه النشاط النظري بالنشاط العملي ارتباطاً لا ينفصم . ويتمتع بعقل لا يكف عن الحركة والإبداع ، وحس نقدي ذاتي لا يرحم . يكتب غرامشي : "يلاحظ كل العلماء من واقع تجربتهم الذاتية أن دراسة أية نظرية جديدة "بحماس بطولي" (أي دراستها لا بدافع الفضول السطحي وحده، بل للولع الشديد بها) لفترة من الزمن تجعل الدارس لا سيما إذا كان صغيراً ينجذب إليها تلقائياً وتستحوذ عليه ، إلى أن يدرس نظرية جديدة . وحينئذ ينشأ توازن حرج ، ويتعلم الدارس كيف يدرس بتعمق دون أن يستسلم لسحر النظرية والمؤلف الذي يدرسه. وتصدق هذه الملاحظات من باب أولي ، كلما كان لدى المفكر موضوع البحث دافعاً قوياً ، وطبيعة سجالية ، ويفتقر إلى الروح المذهبية . أو عندما نكون بصدد شخصية يرتبط لديها النشاط النظري بالنشاط العملي ارتباطاً لا ينفصم ، وتتمتع بعقل لا يكف عن الحركة والإبداع ، وحس نقدي ذاتي قوي لا يرحم " [كراسات ص403] .

في حديثه عن أنطونيو لابريولا** وإعجابه به وبفلسفته يشير غرامشي إلى ملاحظة ذكرهـــــا لا بريولا حول فلسفة الممارسة : "والحق أن لابريولا الذي أكد استقلال فلسفة الممارسة عن أي تيار فلسفي آخر ، واكتفاءها الذاتي ، هو الشخص الوحيد الذي حاول أن يقيم فلسفة الممارسة على أسس علمية " [كراسات ص 406].

بخصوص دراسة فكر أصيل كفكر ماركس ، لا يكفي أن ندرس بعض المصادر "القليلة " لثقافته الذاتية . فلا بد أن نأخذ أولاً في الاعتبار نشاطه الإبداعي البناء [أي الإضافة الجديدة والأصيلة لماركس ] .

يكمن المشكل الأول في دراسة فكر ماركس في الوضعية الفلسفية ؛ أي في نمو الأصول وتراكمها الكمي وعرضها الموسع أكثر من عرض الحركة الإبداعية في بناء جديد أصيل .

المشكل الثاني : في ربط فلسفة الممارسة بالكانطية ، حيث لدينا مستويان عميق وسطحي . ولا علاقة لأحد هما بالآخر ، كما لا علاقة للتفسير العلمي والتاريخي بالممارسة العملية، يوجد هنا فصل ميكانيكي بين الفلسفة والممارسة العملية ، بين الاستراتيجية والتكتيك. وأيضاً بين الجوهر والمظهر على مستوى التفسير. وقد ينتهي هذا المشكل إلى اللاأدرية في الفلسفة ، أي لا نعود نستطيع معرفة العالم البور جوازي معرفة علمية تاريخية .

السؤال الذي يطرحه غرامشي . لماذا لم يحظ لابريولا وطريقته في طرح مشكلة الفلسفة بما يستحقه من التقدير؟ ويجيب غرامشي : "يمكننا أن نقول ما قالته روزا لوكسمبورغ عن الاقتصاد النقدي [رأس المال؛ نقد الاقتصاد السياسي] وأدق قضاياه : في المرحلة الرومانسية من النضال ، مرحلة الاضطرابات الشعبية يتركز كل الاهتمام في أسلحة النضال المباشر ، والقضايا التكتيكية في الحقل السياسي ، وفي القضايا الثانوية في حقل الفلسفة . ولكن ما أن تصبح جماعة تابعة مستقلة ومهيمنة فعلاً ، خالقة بذلك دولة من نوع جديد ، حتى تشعر بالحاجة الملموسة إلى بناء نظام فكري وأخلاقي جديد ، أي مجتمع من طراز جديد ، ومن ثم الحاجة إلى تطوير رؤى أشمل وأسلحة أيديولوجية أدق وأمضى . ومن هنا كانت الحاجة إلى إعادة أفكار لابريولا إلى التداول ، وجعل نهجه في طرح المشكلة الفلسفية النهج السائد " [كراسات ص 407] وهذا ينطبق تماماً على إعادة أفكار غرامشي إلى التداول الماركسي العربي، وجعل نهجه في طرح المشكلة الفلسفية النهج السائد . ذلك لأن فلسفة الممارسة قد تعرضت في الواقع لمراجعة مزدوجة ، بمعنى أنها قد أدرجت ضمن توليفة فلسفية مزدوجة : فمن جهة أولى استوعبت بعض التيارات المثالية بعض عناصرها [عناصر فلسفة الممارسة] صراحة أو ضمناً وأدمجتها بها . ويمكن أن نذكر كر وتشه الإيطالي ، وبرغسون والبراغماتية . كما يقول غرامشي ص 408 . إذاً لدينا فلسفات مثالية أخذت بعض عناصرها من فلسفة الممارسة صراحة أو ضمناً . من جهة أخرى ، اعتقد من يسمون بالأرثوذكسيين المعنيين بالبحث عن فلسفة أشمل [من فلسفة الممارسة؛ من مجرد "تفسير للتاريخ"] –من وجهة نظرهم- الضيقة للغاية ، أنهم يمثلون العقيدة الصحيحة إذ يوحدون بصورة جوهرية بين هذه الفلسفة والفلسفة المادية التقليدية . وثمة تيار آخر عاد مرة أخرى إلى الكانطية .

يلاحظ بصفة عامة ، أن معظم التيارات التي حاولت التأليف بين فلسفة الممارسة والاتجاهات المثالية تتمثل في المثقفين "النظريين" [الخالصين] ، بينما تتمثل الأرثوذكسية في الشخصيات المثقفة التي تميزت أكثر من غيرها بالتفرغ للنشاط العملي ، ومن ثم كانت أوثق ارتباطاً بصلات خارجية إلى حد ما بالجماهير الشعبية العريضة . ولهذا التمييز أهمية كبيرة . فلم يكن ليفوت المثقفين "النظريين الخالصين الذين يتصرفون باعتبارهم القائمين على صياغة أكثر أيديولوجيات الطبقات الحاكمة انتشارا ، وقادة جماعات المثقفين في بلادهم ، لم تفتهم الإفادة من بعض عناصر فلسفة الممارسة ، على الأقل لتعزيز رؤاهم ، وللتخفيف من غلو التفلسف التأملي / النظري بالواقعية التاريخانية للنظرية الجديدة ، وتزويد ترسانة الجماعة الاجتماعية التي يرتبطون بها بأسلحة جديدة " [كراسات ص 408]

ومن جهة أخرى ، وجد التيار الأرثوذكسي نفسه متورطاً في نضال ضد أكثر الأيديولوجيات انتشاراً بين الجماهير الشعبية ، وهي الترانسندنتالية الدينية[التعالي الديني] . وظن هذا التيار أن المادية وحدها وفي أكثر صورها ابتذالاً وفجاجة كافية للتغلب عليها . [كراسات ص 408]

يقول غرامشي : "ويبدو لي أن أحد الأسباب التاريخية لاندماج فلسفة الممارسة في فلسفات أخرى ، هو أنها كانت مضطرة إلى التحالف مع تيارات غريبة عنها لمحاربة عالم ما قبل الرأسمالية ، الذي لا يزال ماثلاً في وعي الجماهير الشعبية ، لاسيما في حقل الدين "[كراسات 410] .

في علاقة فلسفة الممارسة أو الفكر الماركسياني بالثقافة الحديثة يقول غرامشي : "اقتضت فلسفة الممارسة وجود كل هذا الماضي الثقافي : الرينيسانس (النهضة الأوربية والإيطالية) ، وحركة الوحدة الإيطالية [ريزورجيمنتوRisorgimento] والإصلاح الديني ، والفلسفة الألمانية ، والثورة الفرنسية ، والكالفينية ، والاقتصاد الإنكليزي الكلاسيكي ، والليبرالية العلمانية ، وهذه النزعة التاريخانية ، التي تعتبر أصل كل الرؤية الحديثة للحياة . وفلسفة الممارسة هي تتويج لحركة الإصلاح الفكري والأخلاقي كلها التي صارت حركة جدلية بحكم التضاد بين الثقافة الشعبية والثقافة الرفيعة . وهي تقابل الإصلاح البروتستانتي بالثورة الفرنسية : إنها فلسفة هي أيضاً سياسة ، وسياسة هي أيضاً فلسفة . " [كراسات ص 413] . وهنا يخطر بالبال البحث عن آلية لربط الماركسية (فلسفة الممارسة ) بالمسألة العربية والثقافة الحديثة . هذا الربط يمر عبر المحاور التالية :

1- ربط فلسفة الممارسة بنقد التراث القومي العربي ومنه الديني نقداً جذرياً . وهذا النقد سيشكل الرابط الحقيقي بين فلسفة الممارسة والثقافة الشعبية ذات الصبغة الدينية الطاغية .

2- ربط فلسفة الممارسة مع مشروع النهوض القومي العربي الديمقراطي ، عبر السعي لدفع فلسفة الممارسة لقيادة مشروع النهوض هذا . بحيث تقود هذا المشروع وتهيمن عليه أخلاقياً وسياسياً .

3- ربط أشكال المقاومة العربية ومنها الدينية الشكل بمشروع النهوض السالف الذكر . مع ربط الليبرالية العلمانية والليبرالية الدينية المستنيرة بالحركة الأخلاقية والفلسفية والسياسية لفلسفة الممارسة ، أو تقدم الهيمنة الماركسية . مع تطوير برامج ديمقراطية ذات ملمح ليبرالي لربط شرائح كبيرة من البورجوازية الصغيرة والمتوسطة المدينية المسلمة[طبقة البازار العربية مقابل البازار الإيرانية] بمشروع النهوض الديمقراطي وبفلسفة الممارسة ، في سبيل قطع الطريق على هذه الشرائح والطبقات كي تقلع عن التعبير عن نفسها سياسياً عبر الحزب الديني .

4- نقد التيارات الوضعية والبيروقراطية و الاقتصادوية والميكانيكية في الماركسية ، مع قراءة للتجارب الثورية الاجتماعية في القرن العشرين، ودراسة الإمبريالية المعولمة ، والليبرالية الجديدة المتوحشة . عبر كل ذلك نستطيع ربط الماركسية أو فلسفة الممارسة بالثقافة الحديثة وبكلية الحياة القومية العربية .



هوامش




* فرانشيسكو كريسبي : 1818- 1901 كان في البداية من دعاة الاستقلال الذاتي لصقلية ، ثم ارتبط بـ متزيني وأصبح يؤمن بهدف إقامة دولة إيطالية موحدة . وفي عام 1859 نظم انتفاضة مسلحة في صقلية ، ولعب دوراً هاماً في حملة غاريبالدي في عام 1860 . أصبح نائباً في البرلمان بعد إنجاز الوحدة القومية . اختلف مع متزيني في عام 1865 وأيد الملكية . كان وزيراً للداخلية ورئيساً للوزراء في مناسبات مختلفة خلال الفترة 1856- 1896 . كان أكثر المدافعين ثباتاً عن توسع إيطاليا الاستعماري ، وخاصة في أثيوبيا . وفي 1893- 1894 قمع بوحشية بالغة عصبة صقلية . وهو يعتبر من وجوه كثيرة رائد الحركة القومية والفاشية في القرن العشرين .

** أنطونيو لابريولا : 1843- 1904 ، أهم الماركسيين الإيطاليين الأوائل كان له تأثير جوهري في فكر غرامشي الفلسفي [كراسات ، من هامش المترجم الإنكليزي ص 482] .



#نايف_سلوم (هاشتاغ)       Nayf_Saloom#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العلاقة العربية الكردية تعدّد مستويات المقاربة
- القول النظري والقول السياسي حدّ العلم والقول السياسي
- خمر تمور العراق يُسكر الأكراد السوريين
- في الفهم المادي للتاريخ- مدخل إلى الأيديولوجية الألمانية- ال ...
- في الفهم المادي للتاريخ -مدخل إلى الإيديولوجية الألمانية- ال ...
- في الفهم المادي للتاريخ مدخل إلى الإيديولوجية الألمانية- الق ...
- في الفهم المادي للتاريخ مدخل إلى الأيديولوجية الألمانية- الق ...
- اللينينية- قراءة نقدية في كتاب مارسيل ليبمان اللينينية في ظل ...
- قراءة نقدية في مشروع موضوعات المؤتمر السادس للحزب الشيوعي ال ...
- ديالكتيك إنتاج الهوية الاجتماعية في الفكر الماركسي
- الحلقة المسحورة
- حول المركزية الديمقراطية
- ملاحظات نقدية حول النظام الداخلي الذي أقره المؤتمر التاسع لل ...
- الدولة و السياسة - قراءة في فكر غرامشي
- المجتمع المدني - عودة المفهوم
- في الإديولوجيا والثقافة
- الجامعة في العصر المعلوماتي
- حول الديمقراطية السوفييتية
- موقع رزكار ساحة لاختبار الرأي ، وللإسهام في صياغة مشكلات الي ...
- الوصية الموجهة إلى الهنود - الأفغان


المزيد.....




- هدفنا قانون أسرة ديمقراطي ينتصر لحقوق النساء الديمقراطية
- الشرطة الأمريكية تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة ...
- مناضل من مكناس// إما فسادهم والعبودية وإما فسادهم والطرد.
- بلاغ القطاع الطلابي لحزب للتقدم و الاشتراكية
- الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي (الإتحاد المغربي للشغل) تدعو ...
- الرفيق جمال براجع يهنئ الرفيق فهد سليمان أميناً عاماً للجبهة ...
- الجبهة الديمقراطية: تثمن الثورة الطلابية في الجامعات الاميرك ...
- شاهد.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيم ...
- الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا ...
- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - نايف سلوم - قراءة في -كراسات السجن- لـ أنطونيو غرامشي