أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي المسعودي - العلاقة الازلية بين الفن التشكيلي والذات الإنسانية وبيئتها















المزيد.....


العلاقة الازلية بين الفن التشكيلي والذات الإنسانية وبيئتها


محيي المسعودي

الحوار المتمدن-العدد: 2610 - 2009 / 4 / 8 - 01:20
المحور: الادب والفن
    


مصادر الفن التشكيلي العراقي
ثمة أسئلة ما انفكّت تراودني وأنا أراقب وأتابع جانبا من مُنتج الفن التشكيلي . تتمحور الأسئلة حول الباعث الحقيقي على أنتاج هذا الفن ومدى علاقته بالبيئة والتاريخ والذات المنتِجة بكل خفاياها وتجلياتها . وإذا كانت حاجة الإنسان مقرونة ببيئته سبباً في نشأت الفن الأولى كما يقول الباحثون والدارسون له (وأنا لا أطمئن لهذا التفسير مع قبول المنطق له .. معتذرا بانعدام المعرفة الحقيقية لذات ذلك الإنسان وخفاياها المادية والغيبية .. ) وإذ كانت الحال هكذا في العصور القديمة فأن اليوم قد اختلفت البيئة والذات الإنسانية ولم يختلف معها هذا الفن كثيرا ً, خاصة في ماهيته من جانب المضمون المتعلق بنزعة الإنسان للفن . بل حتى على مستوى الشكل وتقنيته . فلا نكاد نصدق أن بداية الفن (المكتشف) قبل 35000 سنة أي في العصر الحجري القديم هي بداية بسيطة لأن هذه الأعمال تقدم لنا أداءً واثقا وتأنقاً, وخطوطا قوية, وأشكالاً متقنة . يصعب علينا اعتبارها بدايات متواضعة ولسنا ميالين إلى انبثاقها بانفجار مفاجئ فريد كما انبثقت اثنا مكتملة من رأس زيوس ...
إذن هل هي عملية تراكم بطيء في نمو هذا المُنتج الإنساني ..؟ وهل هذا النمو في الخبرات المتراكمة قائم في التقنية وحسب - بموادها وإداءاتها – أم أنه تراكم وعي وشعور ..؟ مع الإقرار بأن الخبرة والممارسة والتجريب وتحضّر الإنسان وارتقاؤه لابد من أنها تؤثر في نوعية العمل الفني ....
واذا كانت الحال هذه .. كيف نفسر صور الحيوانات المنقوشة والمرسومة والمنحوتة في الكهوف كتلك الصور الموجودة على جدران كهف لاسكو في فرنسا وصورة – الثور الجريح – التي عُثِر عليها في كهف بالتامير شمال أسبانيا .. وهي تمثل هذا الحيوان في لحظة إنهياره على الأرض, وعندما نتابع هذه الصورة نجد ساقي الثور قد عجزت عن حمل جسمه الثقيل . بينما انحنى رأسه في وضع دفاعي ..أنها صورة ناطقة بكل مكونات الحياة سواء على مستوى الشعور الداخلي - من الم ومقاومة للموت وحب وتعلق بالحياة - او على مستوى الشكل الخارجي الحرفي المتقن والمعبّر عن هذه الحال – كالخطوط والتكوينات - .. ولا نتلمس في هذا العمل دقة ملاحظة الفنان وحسب بل نجد الخطوط القوية الواثقة والسيطرة الأكيدة التي تعطي الأشكال استدارة وحجماً .. أضف إلى ذلك اننا نتلمس الكبرياء والقوة لدى الحيوان المحتضر .. ونجد صورة أخرى من حضارة بلاد الرافدين وصل بها فنانها إلى حد النطق . تلك هي صورة اللّبوة المحتضرة والتي تعود إلى 650 سنة قبل الميلاد وقد عثر عليها في نينوى – قونجق- وهي من الحجر الجيري هذا إضافة إلى القيثارة في أور وتماثيل معبد "آبو" في تل اسمر ونصب النصر لـ "نارام سين" حوالي 2200 سنة ق. م. ومسلة حمورابي ..وإذا رجعنا إلى العصر الحجري في اوروبا نجد ان هذه الرسوم والنحتيات مخبّأة في اعماق الكهوف لا يمكن الوصول إليها إلاّ بصعوبة وكأن القصد من ذلك الأخباء او الاخفاء هو منع الناس من النظر إليها أو ملامستها او لأسباب آخرى نجهل بعضها.. وهي بهذه الحال عكس طريقة التعامل مع الفن هذه الأيام . حيث تعرض الاعمال في الجاليريهات والبنالي وتُدعى الناس إلى مشاهدتها ويقوم النقاد المتابعون بالحديث عنها نقداً وقراءةً وتعليقاً في الاتصال المباشر او وسائل الاعلام .. هذا التناقض ربّما يفتح الباب حول معرفة الغاية من الفن قديماً وحديثاً ويجعلنا نعتقد أن الغاية الأولى "القديمة" من الفن تختلف عن الغاية المعاصرة . وهنا نستطيع القول ان كل فن يكاد أن يكون محكوماً بغايته التي يعبر عنها بعرضة للناس أو أخفائه .
ويبدو أن قوة الفن تتمركز في قدرته على تحريك الوعي الإنساني الكامن والمتحرك في الذات الإنسانية مع التركيز الأكبر على أعماق الوعي الكامن والبعيد عن الحركة أو التحريك ويكون ذلك من خلال بحث الفن عن قوى حقيقية أو وهمية يتم إكتشافها أو خلقها لردم الفجوة أو النقص الحاصل نتيجة عجز الإنسان فكرياً أو جسدياً أو روحياً في رحلته الأبدية بالبحث عن الحقيقة المطلقة "وجوده على الارض" أو في الحالات التحضيرية والتنفيذية التي ترافق هذه الرحلة من أجل الإكتشاف أو التفكير أو التغيير بل حتى الخلق . والخلاصة فأن الفن أما أداة لصياغة قوة الإنسان المثالية أو أنه "نفسه " قوة انسانية تحقق للإنسان اكتشاف المجاهيل وسر الوجود الأعظم الذي لا يزال هاجس الإنسان وغاية بحثه.
اعتقد أن خصائص الفن المتمثلة بالحرية المطلقة للفنان المتحرر من التابوات والمساحات الشاسعة واللامنتهية في الوجود الكوني التي يجد الفنان نفسه فيها وهو يتحرك بهذه الحرية . هي التي تجعل من الفن طريقاً أمثل للوصول إلى الغايات (الحقيقة)


فهم الفنان لماهية الفن
قد لا نستطيع التأكد تماماً من حقيقة نوع معرفة الفنان في العصور الأولى لماهية الفن ..لأننا نجهل بداياته الحقيقية وبواعثها ، وأن جرى الاتفاق على بدايات معينة مفترضة والاتفاق على بواعثها . سواء في العصر الحجري او في عصور مختلفة آخرى ، ناهيك عن عجزنا عن فهم شخصية ذلك الفنان آنذاك .. ولكننا في عصرنا الراهن نستطيع فهم قدرٍ كبير من ماهية الفن المعاصر متمثلة بأسبابه وأهدافه وبواعثه والحال هذه تنطبق على الفنان أيضاً مع الإقرار بأن شخصية الفنان المعاصر لازالت بعض جوانبها وخصائصها عصية على الفهم خاصة مع الفنان الحقيقي والفطري الذي لا يستطيع هو نفسه تحديد ومعرفة مصادر طاقته غير رغبته في العمل ..أما لماذا هذه الرغبة ..؟ولماذا هذه الجودة في الإنتاج ..؟ ومن أين أتى هذا الإبداع المتميز ..؟ كل هذه الأسئلة تظل موضوعاً جدلياً لا يصل معه الفنانون ولا النقاد ولا علماء النفس الى جوابٍ كاملٍ ومقنع تماماً ..
واذا ما ثبتنا كل هذه الاعتقادات والتصورات حول الفن فأننا نستطيع اليوم أن نرى الفن المعاصر - في الغاليريهات والورش والمحترفات والبنالي – نراه بصورة تختلف تماماً عن ماهيته وحقيقته الأولى والأساسية – الغائبة عنا -...
ويبدو لنا الفن بصورته المعاصرة عملاً قصدياً عالي الحرفية والإتقان مفعماً بالجمال والمعرفة والأفكار التي تصل جميعها بنا الى القول أن الفن نزعة انسانية واعية تغترف من عالم الجمال والمعرفة حتى تصل في بعض مراحلها الى حال الترف من خلال الألوان والخطوط والتكوينات وغيرها كما نرى ذلك في اعمال لفنانين عراقين مثل رافع الناصري وضياء العزاوي وجبر علوان وغيرهم .. وهم لا يختلفون عن الفنانين في دول العالم الآخرى ..اذ نجد لوحات ضياء العزاوي في صالات الفنادق الراقية كتعبير عن الترف والفخامة..
هنا تبرز اسئلة جديدة منها.. هل الفن منقطع للفنان نفسه فقط – على أقل تقدير – في لحظة إنشغاله واشتغاله به .. ؟ ومن اين يأتي الفنان بمنتجه الفني ..؟ أ من ذاته التي توظف ما يحيط بها وما تمتلكه من معرفة ووعي..؟ وما هي درجة الوعي عند الفنان في لحظة الصياغة ..؟ وهل تراه عندما يعمل يشعر بحال المنافسة مع غيره ..؟ ثم المنافسة من أجل ماذا .. ؟ من أجل أن يشيد به النقاد والجمهور أم من أجل أن يشعر هو بالرضا عن نفسه..؟ وهل يدرك الفنان حقيقة عمله هذا وماهيته ؟ وإذا كان يدرك, هل أن هذا الأدراك يخرج عن الوصف الذي رسمناه له والمتعلق بالبيئة والحاجة والتنافس والرغبة والقصدية و.و ....
يقول الفنان العراقي المقيم في إيطاليا جبرعلوان "وهو من أهم الفنانين العالمين المعاصرين" - أنني حين أرسم في القاهرة أو دمشق أعود بذاكرتي إلى إيطاليا كي أستلهم المكان في عملي– ويضيف واصفاً إيطاليا بأنها غاليري كبير يعج بالمتلقين الشغوفين بالفن . ليصل بقوله - أن البيئة بالإنسان والمكان هي التي ترتقي بالفن- حقيقة لا أستطيع من هذا القول فهماً غير أن المحرض على إنجاز الفن وتطوره ورقيه هو المكان والإنسان أما لماذا يقبل الفنان هذا التحريض وأين يكمن قبوله داخل نفسه وما هي الخصائص التي تجعله متميزاً ومصراً على الاستمرار في عمله الفني .. هذا ما لا استطيع الإجابة عنه .. الكثيرون من الفنانين يفصحون عن مشاعرهم وأفكارهم وفهمهم لعملية الفن .. ولكن كل هذه الأفصاحات تظل ضمن الشكل الخارجي ولا تتوغل للأعماق البعيدة في نفس الفنان وماهية الفن .
الفن فعلٌ وتفاعل وانفعال
نستطيع أدراك ومعرفة تفاعل الفنان مع بيئته وقضاياه وموروثه وربما حتى مع خلجاته ومشاعره الطارئة . وقد ندرك أيضاً انفعال الفنان – ظاهرياً – لكننا لا ندرك حقيقة هذا الأنفعال لأننا لا نمتلك معرفة تامة لخصوصية نفس الفنان دون غيره . أي لا نعرف كيمياءه النفسية ومعادلاتها وأن عرفنا بعض نتائجها ..أما الفن بوصفه فعلاً مكتملاً فيظل غائباً عن فهمنا . وأن تشكل بظاهره من التفاعل والانفعال ولكن الفن في جوهره شيء أساسي مستقل يدخل عليه التفاعل والانفعال كروافد أو مكملات تماماً مثل المعرفة الفنية عند الفنان المتعلم للفن مقارنة مع الفنان الفطري. مثلاً نستطيع القول أن فنانين مثل شاكر حسن آل سعيد وضياء العزاوي ورافع الناصري واسماعيل الترك لديهم معرفة وعلم بالفن استطاعوا الحصول عليها من خلال دراساتهم الأكاديمية وما رافقها من تجارب عملية وبحوث ودراسات ولكن الفنانين الفطرين هم الذين يحملون جوهر الفن المجرد الذي نبحث عنه والذي قد يعود بنا الى معرفة حقيقة الفن الأولى التي كانت في بداياته ولا زالت .. ففي العراق فنانون فطريون كثيرون يمارسون الفن بنوازع وإمكانيات يصعب علينا تحديدها . مثلا.. ما الذي جعل عبد القادر الرسام يمارس هذا الفن غير الظواهر الشكلية التي نعرفها وما الذي يجعل فنان مثل عبد الأمير علوان يبدع فيه ؟ هل هي الرغبة فقط ..!؟ لا أعتقد ذلك لأن الرغبة وحدها لا تصنع فنانا, بل حتى البيئة لا تستطيع ذلك رغم ان جانباً منها يحرض الفنان على الرسم أو النحت لِما فيه من المتعة والمنافسة وحب الشهرة وهي عناصر لا تعد من المقومات الحقيقية للفن .. وعليه لا يبقى أمامنا سوى الموهبة التي يكمن فيها السر . ولكن الموهبة خاصية نعرف نتائجها ونجهل ماهيتها وجوهرها ولم يُقدم تفسير متكامل لها حتى في العلوم الطبية "النفسية والتشريحية .." لأن هذه العلوم تُقدم شيئاً مادياً في كثير من الأحيان, لا يكفي كدليل قاطع, يؤكد أنها النواة التي تكبر عند اتحادها بالرغبة ومؤثرات البيئة والذاكرة والتاريخ ..الخ .
إذا سلمنا بأن ألإبداع بصورة عامة والفن بصورة خاصة فعلٌ إنساني – بغض النظر عن بواعثه ومادته وأسبابه وأهدافه – فأننا نجد أنفسنا على نقطة في خط زمني يتجه أسفله إلى نقطة نجهلها وأعلاه إلى نقطة نريد الوصول إليها وهي مجهولة ايضا.. ومن المحتمل عند وصولنا أو اكتشافنا لأحدى النقطتين عندها نصبح على أبواب الحقيقة أو داخلها ، والحال هذه تفرض علينا الاستمرار بالإبداع بجد وجهد كبيرين . والانتظار طويلاً حتى بلوغ الغاية .. وعليه يتوجب علينا إعادة قراءة ما نعرفه وتحليله ودراسته وربط حلقاته حتى نتمكن من التقدم نحو غايتنا . ونحن في العراق نمتلك خطاً فنياً طوله يقارب الستة آلاف سنة .. وهو متنوع بالفن من حيث الأساليب والمواد والغايات والأهداف والظروف والمجتمعات بكل عقائدها وأعرافها وثقافتها وقدراتها وبيئاتها وغير ذلك من الاختلافات وحتى نصل الغاية علينا إعادة بناء هذه الأحداث أو المشاهد وربطها البعض بالبعض بروابط حقيقية – غير افتراضية اوقصرية تُمليها علينا نزعاتنا الذاتية أو الوطنية أو غيرها . وتبدو لنا النقطة التي يجب الانطلاق منها هي الفن العرقي المعاصر لأننا عشناه ولازلنا نعيشه ، ولكن قبل البدء علينا الاندماج بهذا الفن في مسارين الأول : المسار الوجداني أي الإحساس بالعمل الفني وتذوقه ومضغه وهضمه والاستمتاع به والمسار الثاني استخدام الأدوات والتقنيات العلمية والعملية في البحث والدراسة والتحليل .
مصادر الفن التشكيلي العراقي
الفن العراقي جزء من الفن العالمي لا يختلف عن أي فن في أي مكان . فالرسم رسم والنحت نحت والريليف ريليف وهكذا كل الأنواع الفنية لاخرى أي انه عطاء إنساني من حيث مقومات الإنتاج ونوعيته وبواعثه وشخصية الفنان التي يشكلها المكان بكل عناصره من البيئة والثقافة والمجتمع والمزاج الذي يتشكل متأثراً بهذه العناصر . ولكي نبدأ بمعرفة هذا الفن لابد لنا من البحث في مصادره وبيئته وشخصية الفنان .. فما هي مصادر الفنان العراقي وهو ينجز عمله ..؟ لاشك أبداً أن الموهبة هي الخامة الأساسية .. ولكننا سلمنا سابقاً بعجزنا عن تحديد أسباب وجود وحدود هذه الموهبة في شخص دون آخر .. وعليه سوف نتجاوزها ونحاول البحث عن المصادر التكميلية أو الروافد التي ينهل منها الفنان العراقي.. وهي كثيرة قد تختلف من فنان إلى آخر .. ولكن من أبرزها وأكثرها تأثيراً هي :
البيئة
البيئة مصطلح يتسع لكل ما يحيط الفنان في حياته فهي الناس والبيت والشارع والمدينة والقرية الأرض والسماء وسواها الكثير . كل هذه العناصر تمثل مصدراً مهماً وأساسياً في عمل الفنان ومن المؤكد أن بعض هذه العناصر هي موضوعات للأعمال فنية . والبيئة تتدخل في خلق مزاج الفنان وإلهامه وقد تكون السر الخفي إضافة إلى أنها تمنح الفنان أشكال وألوان عناصرها وتحرضه في كثير من الأحيان على العمل .. فالبيئة هي موضوع الفنان ومصدر مواده ومخزونه من الوعي الكامن والظاهر .. والبيئة العراقية لها خصوصيتها الطبيعية من حيث المناخ والأرض والآثار والنباتات والحيوانات وغيرها .. هذه الخصوصية_ البيئوية _ تؤثر على الفنان العراقي وهي تصوغ جانباً كبيراً من مضمون وشكل عمله سواء كان ذلك في وعي الفنان أو خارج وعيه .. وهي تؤثر أيضاً على تقنية الفنان ومواده وبالتالي تؤثر على طبيعة اللوحة من حيث هي مادة تتأثر بالطبيعة والظروف البيئية .. بينما يكمن فيها وعي الفنان بالبيئة ولذلك نلحظ الكثير من سمات البيئة لدى الفنانين العراقيين ومنها الفضاءات الواسعة في لوحة الفنان .. وهي تمثل العمران العالي والواسع الذي يعالج حرارة الجو .. وكأن الفنان يستشعر الطبيعة من خلال وعيه الكامن فيجسد هذا الوعي في عمله . لا نجد هذا طابعاً ثابتاً لدى الفنان الواحد ولا عند معظم الفنان ولكنه حال واقعة يحدُ منها تدخل عناصر أخرى كالمزاج والثقافة وغيرها أما الطبيعة متجسدة في الشكل أو المضمون فهذا ما نجده بغزارة في أعمال معظم الفنانين العراقيين وخاصة الفطريين .. إذن البيئة مصدر رئيسي من مصادر الفنان العراقي .
المجتمع
الفنان فرد من المجتمع يحمل جلّ ما يحمله مجتمعه ولكنه يختلف كثيراً عن المجتمع في نظرته ورؤيته للأشياء ويختلف أيضاً بالتعبير عن هذه الرؤية .. ولكن الفنان يستمد أغلب موضوعاته من المجتمع وقضاياه . ولذلك فأن المجتمع يتدخل في صياغة الموضوع من حيث أنه هو نفسه منشأ موضوع الفنان . كما يمارس المجتمع ضغوط على الفنان في صياغة رؤيته ومزاجه .. ثم أن الفنان ومهما حلّق بعيداً يظل مرتبطاً بالمجتمع لأن مادته تحتاج إلى متلقي والمتلقي في الغالب هو المجتمع العريض .. كما أن المجتمع أفراداً أو جماعات يشارك في فعل الفنان وانفعاله وتفاعله وغالبية الفنانين مرتبطين بمجتمعاتهم وهم يعبرون عنها ويقدمون رؤاهم وأعمالهم لها ..وتكفي نظرة سريعة على الفن العراقي المعاصر لنجد مدى ارتباط الفنان بمجتمعه ودلالة على ذلك تلك الأعمال التي رسمها الرائد فائق حسن أو تلك النحوت التي صاغها الرائد جواد سليم وهكذا مع اسماعيل الشيخلي وجميل حمودي وصولاً إلى جيل الشباب نزار يحيى ,علي عبد الجليل , دلير شاكر , فاضل الدباغ , احمد غريب وغيرهم الكثير.. أن خصائص المجتمع العراقي بانتقالها إلى الفنان صارت مصدراً من المصادر التي ينهل منها . بل صارت علامات أو تكوينات تميز الفن العراقي عن غيره ولا أعني هنا التزويق بل التكوين أو العنصر الأصل في العمل الفني .. مثل الطبع الحاد والثقة بالنفس التي ظهرت جلية في أعمال فنانين عراقيين شعر بعضهم بها عندما انتقل لمجتمعات أخرى .
التراث اوالموروث
لا اعني هنا التراث الفني لأن هذا التراث يمثل القواعد لامتداد الفن ولكني أقصد ذلك الكم المتراكم من لتقاليد والعقائد والسلوكيات والعمران وأساليب الحياة وغيرها .. كل هذا المتراكم التراثي إلى جانب التراث الفني والفلكلور هي مصادر ينهل مها الفنان العراقي على مستوى الموضوعات ومضامينها والأشكال وتكويناتها .. واذا كان بعض الفنانين يحاكون هذا الموروث أو يبنون عليه فأن البعض الأخر يستلهم منه أو يعالجه أو يبحث فيه أو ينجز نصاً بصرياً موازياً له ويكون المورث هو الباعث الأساسي له .
يجد الفنان العراقي موروثه على الأرض أو في المتاحف أو الكتب أو على لسان العامة والخاصة او في سلوك المجتمع وعاداته وتقاليده . فهناك على الأرض لازالت بعض الآثار باقية وهي تحمل الكثير من خصائص الحضارات العراقية القديمة كآثار بابل وأكد وسومر وأشور والآثار الأسلامية وهي أما باقية في مكانها أو في المتاحف ويُعد العراق من أغنى الجغرافيات بهذه الآثار والتحف الفنية القديمة التي مثلت طفولة الحضارة الإنسانية .. هذا إضافة إلى الموروث المتواتر الشفوي والسلوكي الذي لازال المجتمع العراقي يتداوله في حكاياته وسلوكياته وحياته, بل حتى في العملية التعليمية والتربوية .. وما دام الفنان جزء من هذا المجتمع فهو يمتلك بعض هذا الموروث في وعيه الكامن والظاهر .. فالدائرة مثلاً هي من الموروث التاريخي ظلت سلوكاً اجتماعياً عراقياً يمارسه العراقيون في الزيارات عندما يطوفون حول الأماكن المقدسة أو عندما يلعبون . حتى وصلت معهم إلى التسميات التي تطلق على المؤسسات التي يدعوها دوائر رسمية كدائرة الكهرباء ودائرة البريد وغيرها .. ويشكل الموروث مصدراً مهماً للفنان العراقي لأنه يرفد الفنان من جهة ويشكل قاعدة في هرم الفن الذي نجد الفنان العراقي مشغول بتشيده.
الثقافة والتعليم
تُعد الثقافة والتعليم من المصادر المهمة التي تُغذي قدرة الفنان العراقي على الإبداع. ويتميز التعليم بأنه مصدر القدرة التقنية للفنان إذ يمتلك من خلاله الفنان معرفة أكاديمية في طرق الصياغة الفنية ودلالات الألوان والأشكال والرموز ويطور حرفته ويتقنها أو يهذب نزعته الفنية . والتعليم هو أختزال للتجارب الفنية العالمية التي أصبحت قواعد وأنظمة تحمي الفنان من الخطأ الفني وتسهل عليه الوصول إلى درجة الاستعداد الكافي للأنخراط في العمل الفني .. ولا يقبل التعليم الخروج عن القواعد ولكنه يسمح للفنان بالأبداع وفق الضوابط والقوانين والأنظمة التي أقرت في عالم الفن .. وقد لاحظنا النهضة الكبيرة للفن التشكيلي العراقي عندما فتحت المعاهد والأكاديميات الفنية في العراق اوبوابها, والتي سبقها ومهد لها الفنانون الذين درسوا الفن في أوروبا ودول العالم المختلفة عندما ذهبوا في بعثات دراسية كما حدث مع جيل الستينات عندما ذهبوا يدرسون الفن وكان من أبرزهم مهر الدين الذي درس في بولونيا واسماعيل فتاح الترك الذي درس في أيطاليا ورافع الناصري الذي درس في الصين . وقبلهم اساتذتهم الرواد الفنان فائق حسن والفنان جواد سليم وشاكر حسن آل سعيد وآخرون هذا إضافة إلى الأساتذة الاجانب الذين جاءوا إلى العراق ودرّسوا في المعاهد والأكاديميات العراقية . وإلى جانب التعليم تشكل الثقافة لدى الفنان المصدر الأكثر ثراء له . وقد لوحظ أن الفنان الذي يمتلك ثقافة واسعة قادر على العطاء الفني المتميز نوعياً . والثقافة تيسّر على الفنان تناول موضوعاته ومعالجتها ناهيك عن كون هذه الثقافة تشكل بذاتها مصدراً وترتقي بالفنان إلى ذروة الإبداع الفني وتجعله ينافس فنانين عالمين وهذا ما نلمسه باستمرار عند الفنانين العراقيين ذوي الثقافة الحقيقية وقد وصل بعضهم مكانة عالمية مرموقة مع ان الثقافة معرفة مكتسبة أي غير منبثقة من ذات الفنان انبثاقا فطريا .
الأتصال بالآخر وذات الفنان
يعتبر اتصال الفنان العراقي بالفنان العالمي مصدراً مهماً من مصادر ابداعه لأنه اضافة للخبرة والتجربة المكتسبة من الآخر فأن الفنان العراقي عند إتصاله بالفنان العالمي أنما يعني خلق منافسة مباشرة وحقيقية مع ذالك الفنان وهذا الاتصال يخفف من الرهبة والخوف لدى الفنان العراقي إزاء نظيره العالمي ويمنح العراقي الثقة بالنفس وقد شهدنا عند هجرة الفنانين العراقيين إلى دول العالم المختلفة وإقامتهم هناك ، شهدنا بروز الفنان العراقي ومحاولاته الدائمة لكسر حاجز الخوف والرهبة فاندفع بعض الفنانين في غربتهم إلى المنافسة مستندين على ثقافتهم المتنوعة وموروثهم الحضاري إضافة إلى تجربتهم مع فناني البلاد التي يقنطونها وقد حقق بعضهم تميزاً واضحا على فناني البلد المضيف . فنال بعضهم جوائز عالمية هامة كالتي نالها الفنان أحمد مظهر والفنان جبر علوان وغيرهم وإلى جانب ما يمنحه الاتصال بالآخر من ثراء للفنان العراقي. نجد هناك ذات الفنان العراقي بتكويناتها المتنوعة والتي تنوعت المعرفة لديها وتنوع مزاجها وخيالها فزاد استلهامها للعالم الجديد وإلى تراثها وتاريخها الوطني....
تبقى ذات الفنان هي سر الأسرار لأن ماتحمله من تفاعلات كيميائية " نفسية واجتماعية وابداعية" هي دائماً الأصل وراء كل إبداع فني. وتتميز ذات الفنان العراقي بالتحدي والرغبة بتسنم هرم الإبداع ولا يكاد الفنان العراقي يرتضي مكانا غير سنام هذا الهرم وهذه الحال عادة ما تخلق منافسة شرسة بين الفنانين العراقيين أنفسهم من جهة وبنهم وبين الفنانين العالميين من جهة اخرى وغالبا ما نرى الفنان العراقي واثقا من نفسه حتى تصل به الثقة بعض الأحيان إلى الغرور ويقف الفنان العراقي على ارض وتاريخ غنيين بالإبداع مما يمنحه مادة غنية لفنه ودعما معنويا وماديا لنفسه .



#محيي_المسعودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في مثلث انتخابات مجالس المحافظات العراقية
- ردة عن الوطنية وتألق نجم العشائرية في انتخابات مجالس المحافظ ...
- حوار مع رئيس مجلس محافظة بابل
- المرأة في الانتخابات المحلية العراقية حضورٌ خَجِلٌ وغيابٌ مُ ...


المزيد.....




- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي المسعودي - العلاقة الازلية بين الفن التشكيلي والذات الإنسانية وبيئتها