أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عزو محمد عبد القادر ناجي - محددات الوحدة الوطنية في الفكر السياسي الحديث (الجزء الأول )















المزيد.....



محددات الوحدة الوطنية في الفكر السياسي الحديث (الجزء الأول )


عزو محمد عبد القادر ناجي

الحوار المتمدن-العدد: 2609 - 2009 / 4 / 7 - 11:05
المحور: المجتمع المدني
    


لا تقوم الوحدة الوطنية إلا على عناصر أو محددات يستطيع من خلالها الباحث السياسي معرفة إذا كان ثمة وحدة وطنية في هذا البلد أم لا ، وقد رأينا أن الدراسة اعتمدت على مفهوم محدد له عناصر (محددات) تكوًّنه ، فما هي هذه العناصر التي اعتمدتها الدراسة ؟ وما أثر كل منها على مفهوم الوحدة الوطنية في الدولة ؟ هذا ما سيبنه هذا المطلب من خلال شرح كل مؤشر على حدة ، وتبيان تأثيره على مفهوم الوحدة الوطنية ، إضافة إلى تبيان الخلل في الوحدة الوطنية عند عدم وجود هذا المؤشر أو وجوده بشكل منقوص بحيث لم تكتمل أجزاءه كلها.

أولاً : احترام وحدة البلاد ولغتها الرسمية ( لغة الأكثرية) وثقافتها الوطنية.
• احترام ووحدة البلاد :
يعد احترام وحدة البلاد والحفاظ على ثقافتها الوطنية أحد أهم مقومات الوحدة الوطنية في الدولة ، وتدخل في إطاره اللغة الرسمية للدولة ، فالدولة التي تريد الحفاظ على الوحدة الوطنية عليها إتباع ما يلي :
A. تعويد الشعب على ممارسة حق النقد والنقد الذاتي.
B. الاهتمام بمنظمات الشباب والمرأة ، والنقابات العمالية ، والجمعيات التعاونية الزراعية ؛ ليتعود أفرادها على العمل الجماعي والاهتمام بالأمور العامة ،ومحاولة كشف الأخطاء وترشيد العمل ، وكل ذلك يساعد على التفكير العلمي المنظم ، وينمى في المواطن ملكة النقد البناء .
C. تملك الشعب لوسائل الإعلام من صحافة وإذاعة وتلفاز ..الخ، لأن من يسيطر على هذه الأجهزة يشكل الرأي العام .
كما يجب على الدولة أن تستنكر أي تعصب وتنشر الوعي والتسامح وسعة الأفق وبذلك تستطيع القضاء على التعصب، وإدراك الدولة أن حق وحدة الوطن والتراب الوطني هو أساس محل سيادة الدولة ، ورد كل حق آخر مدعي للانفصال عن سيادة الدولة ، وما يتبع ذلك من تجزئة للوطن وللسيادة وهما حقان ثابتان، وهذا يتوافق مع المبادىء الدولية ، فقد جاء في الفقرة رقم (1514) من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة فيما يتعلق بحق الدول في الحفاظ على وحدتها الوطنية :" إن كل محاولة ترمى إلى القضاء الجزئي أو الكلي على الوحدة الوطنية أو الوحدة الترابية لبلد ما تكون مناقضة لأهداف ومبادىء ميثاق الأمم المتحدة"، كما جاء قرار هيئة الأمم المتحدة رقم 2625 في سنة 1965 بقوله :" يرفض تأويل نصوص مقررات الأمم المتحدة ، بما يمكن أن يسمح أو يشجع أي عمل كيفما كان نوعه من شأنه أن يقسم التراب الوطني أو الوحدة السياسة لأية دولة مستقلة ، وذات سيادة ، أو يهدد بتقسيمها كلياً أو جزئياً".
أيضاً جاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 143/46 ، حول المساعدات الإنسانية التي تقوم من بعض الدول بقصد التدخل في شؤونها الداخلية بما يمس سيادة واحترام وحدة البلد الذي هو بحاجه إلى هذه المساعدات : " السيادة والوحدة الترابية والوحدة الوطنية للدول يجب أن تحترم بشكل كامل ومتطابق مع ميثاق الأمم المتحدة ، وعلى هذا الأساس فان المساعدة الإنسانية يجب أن تقدم بموافقة البلد المعنى ، ومبدئياً على أساس طلبه من ذلك المبدأ".
وبالنسبة لمبدأ حق تقرير المصير الذي تطالب به بعض الأقليات العرقية أو الدينية في الدولة ، فهو ليس في جوهره سوى وسيلة لغاية نبيلة ، وللاعتداد بالغاية النبيلة وحتى يمكنها أن تنتهج أثرها القانوني يجب أن تكون الوسيلة مشروعة للوصول إلى غرض مشروع ، أما إذا كانت الوسيلة غير مشروعة ، وتهدف إلى غرض غير مشروع فلا يمكن الاعتداد بها ولا يمكنها أن ترتب أي أثر قانوني لأن العبرة دائماً بالوسيلة ، فلا يمكن التضحية بالغرض المشروع ولا يمكن الاحتجاج بالوسيلة المشروعة ، وهي حق الشعب في تقرير مصيره للوصول إلى غرض غير مشروع وهو تقسيم البلاد ، وعلى هذا الأساس يجب على قيادات الدول أن يلتزموا بتجاهل هذا المبدأ إذا كان استعمال هذا الحق والتمتع به يؤدى إلى تقسيم البلاد ، لأن تقسيم البلاد هو تقسيم للسيادة ،والسيادة لا تقبل النزول عنها ولا تقبل الانقسام، لأن استعمال هذا المبدأ لم يكن سوى لتصفية الاستعمار ، وليس وسيلة للتخريب أو وسيلة للانقسام وتفتيت الكيانات الوطنية ، ولا للإيقاع بالدول المستقلة ، وذات السيادة في نيران الفتن الداخلية التي تشغلها عن التنمية وتحقيق الرفاهية والعدالة لأفراد الشعب .
كما أنه إذا كان استعمال هذا المبدأ أو التمتع بحق الشعب في تقرير مصيره يؤدى إلى تقسيم الدولة ، فإن هذا المبدأ يكون مخالفاً للمنطق السليم ، و يتناقض مع الاقتصاد والمصلحة العامة ، ومبدأ الحرية والديمقراطية ، وهو سلبي بالنسبة للاستقرار والسلام ، ويعادي البلاد وتاريخها ، ولا يتوافق مع مصالح الجماعة المطالبة به ، ويصبح هذا المبدأ نقيض لما وضع من أجله ، لأنه عندما وضع عقب معاهدة فرساي عام 1919 جاء فيه " يمكن تطبيق مبدأ حق تقرير المصير إلا إذا تعارض مع المصالح الإستراتيجية أو الاقتصادية أو السياسية " وعملياً فإن تقسيم البلاد يتعارض مع هذا كله ، وبالتالي فلا يمكن أن يكون وسيلة لتقسيم الدولة لأنه ضد مصالحها.
والفكر السياسي المعاصر يؤكد حقوق الشعوب في التميز ، لكنه يعني بذلك التحرر الحقيقي وليس التشتت ، لذلك فمن الواجبات الملقاة على عاتق الدولة القيام المستمر بدور الوحدة وممارسة الانسجام بين فئات الشعب في جميع الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية ، مهما اختلفت النظرات إلى هذه الوحدة من المركزية القوية إلى الاتحادية المرنة ، لأنه إذا كان حق الشعوب في تقرير مصيرها ينطلق من وعى خلقي يرتبط بمبدأ حقوق الإنسان ، فإن ضمانة الوحدة الوطنية ضمن الوحدة الترابية تنبع من ضرورة حيوية ومن حق طبيعي ، وإن ضرورة الحفاظ على البقاء يسمو على الاعتبارات الأخرى.
فمبدأ الانفصال غير مقبول حتى لو استند إلى مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها ؛ لأن هذا المبدأ يتنافى مع مبدأ وجود الدولة ككيان منظم حقق وحدته وأصبح واقعاً ملموساً ، لذلك فيجب على القيادة السياسية في الدولة رفض كل مشروع يمس وحدة البلاد وتقسيم شعبها ، لأن الوحدة الوطنية شيء أساسي لا يمكن التفريط فيه ، كما يجب عليها أيضاً ألا تقبل تطبيق هذا الحق على جزء من الدولة أو الشعب ، إذا كانت تدرك أن ذلك يشكك في وحدة الدولة ويمس في وحدتها ووحدة شعبها.
فالحفاظ على وحدة الشعب واجب مقدس يفرضه الدستور على القيادة السياسية في الدولة ويجعله واجباً دستورياً بالنسبة لجميع المواطنين ، وبناءاً على ذلك جاء في الدستور المصري الصادر في 13 سبتمبر 1972 ، بشان حماية الوحدة الوطنية في المادة الأولى منه:
" حماية الوحدة الوطنية واجب كل مواطن ، وعلى جميع مؤسسات الدولة والمنظمات الجماهيرية العمل على دعمها وصيانتها ، ويقصد بالوحدة الوطنية في تطبيق أحكام هذا القانون القائمة على احترام نظام الدولة كما حددها الدستور على وجه الخصوص بما يلي :
1- تحالف قوى الشعب العاملة.
2- تكافؤ الفرص والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات العامة.
3- حرية العقيدة وحرية الرأي بما لا يمس حريات الآخرين أو المقومات الأساسية للمجتمع.
4- سيادة القانون.

وفي نفس السياق يقول جورج فيدل :
" إن من واجب رئيس الدولة أن يدافع عنها أمام الخطر الانفصالي لأنه واجب دستوري ، وأن حماية الوحدة الوطنية هو جزء من القانون الدولي ، ولكن هذا لا يعنى أن يمارس رئيس الدولة القمع للحفاظ على السيادة ، بل عليه أن يتعامل مع حركة الانفصال بالنظر إلى قوتها أو ضعفها ، ففي حال قوتها يمكن التعامل معها والاستجابة لبعض رغبتها وحل بعض مشكلاتها في إطار المحافظة على سيادة الدولة الأم، لأن إعمال الحكمة والحنكة السياسة أمر لابد منه ، وأن يكون مثل ربان السفينة آخر من يغادر موقع القيادة ، إذا تغلبت الحماقة على الحكمة ".
فوحدة الشعب هي ركيزة أسباب القوة في الدولة ، وبدون هذه الوحدة تفشل الشعوب في تحقيق أهدافها وتتعرض للفناء ، وعلى هذا الأساس فإن أعداء الوطن يعملون على تدمير وحدة الشعب ، لأن ذلك سيكون وسيلتهم لتحقيق أهدافهم ، من هنا كانت صيحة ستالين عقب الهجوم النازي على روسيا عام 1940 بقوله " دافعوا عن أرض الآباء والأجداد "فهو قد اعتمد على الإحساس الوطني أكثر من اعتماده على العقيدة السياسية ؛ لأن الدفاع عن البلاد هو مسؤولية كل مواطن في البلاد ، أما الأيديولوجيا فقد لا يقبل بها جزء من الشعب.

كما أن القضاء على الطائفية والعنصرية في المجتمع لا يتم إلا من خلال المسؤولية الجماعية لأفراد الشعب وقياداتهم ، فالإحساس بالاشتراك بالمسؤولية يجعل الجميع يتطلع إلى موقف فكري بناء ومستنير لكل أهل الوطن من جميع فئاتهم ، ويتجاوز هذا الفكر صفحات الماضي بما فيه من تناقضات ، فعصرنا هو عصر التكتلات الكبيرة ، لأن التطورات التي حدثت في الحياة الاقتصادية وفى الوسائل الحربية والتكنولوجية وثورة الاتصالات ، صارت تحمل الجميع على التكتل الجماعي ، حتى وإن كانت تلك الجماعات متباينة تاريخياً وثقافياً ولغوياً ، وعلى هذا الأساس يعتبر الفرد الصيني نفسه ينتمي حضارياً إلى حضارة واحدة تتضمن ثقافة وقيماً ومبادىء تختلف عن ولاءه القومي ، وهذا ماساهم في تشكيل الاتحاد الأوربي الذي اعتبر الفرد نفسه فيه لا يتناقض حضارياً وثقافياً مع أي فرد آخر في أوروبا ، أما انتماء الفرد عضوياً إلى عشيرة أو طائفة ، وموالاته لها وتفضيلها على موالاة الوطن والدولة ، فسيقود إلى إضعاف وحدة الشعب التي تؤدى إلى إضعاف الوحدة الوطنية ، إضافة إلى أن تناقض الفرد الريفي مع الفرد الحضري في بعض المجتمعات النامية سيضعف الوحدة الوطنية.
فالتكامل القومي يؤكد على الولاء القومي أو الوطني ويتجاور الولاءات المحلية ، والتكامل الإقليمي في الدولة يؤكد على امتداد السلطة المركزية على كامل إقليم الدولة ، وتكامل القيم يأتي من وجود تناسق موحد في القيم بما يكفل الحفاظ على النظام الاجتماعي واستمراريته ، والتكامل بين الصفوة والجماهير يؤكد على وحدة السلوك الجماعي والقدرة التنظيمية لتحقيق الغايات المشتركة ، وعلى ذلك فيجب أن تجتمع في الدولة جميع هذه التكاملات للمساهمة في وحدتها ووحدة شعبها ، واحترامها ؛ لأنها تساهم في تحقيق الوحدة الوطنية في الدولة.

• احترام اللغة الرسمية للدولة ( لغة الأكثرية)

تعتبر اللغة الرسمية في الدولة من العناصر الأساسية في تحقيق الوحدة الوطنية فيها ، لأن اللغة جزء من الثقافة وعملية الاتصال بين الفئات والأمم داخل الدولة التي تحتوى على خليط غير متجانس من الأعراق والطوائف والإثنيات يتحدد على أساس لغة أكبرها، ولذلك يعد احترام الثقافة من المقومات الأساسية في تحقيق الوحدة الوطنية ، ولقد أثبتت التجربة الأوروبية أن تحقيق الوحدة الوطنية لهذه الدول كان من خلال اللغة التي وحدتهم في دول مستقلة ، وكان ولاءهم لحكومة واحدة تقود وتحكم بلغة الشعب ، لكن هذا ليس قانوناً ثابتاً بل له بعض الحالات الشاذة ، ففي الصين لا يتكلم الشعب لغة واحدة عملياً ، ولكنه يتكلم لهجات عديدة متباينة وغير مفهومة ، إلا أن المثقفون منهم يتصلون فيما بينهم بلغة واحدة وهى لغة بكين ، وعلى هذا الأساس فرض النظام الشيوعي الصيني ومن قبله نظام تشانج كاي تشيك ، لغة واحدة على البلاد هي لغة إقليم بكين ، ووضع نظاماً من الكتابة لكل الصين ، وهذه العملية سهلتها وتطلبتها عملية الاندماج الاقتصادي والسياسي السريعين لهذه المنطقة.
والحوارات التي تدور حول اللغة الرسمية للدولة تخفي ورائها قضايا تتعلق بالحقوق اللغوية للأقليات داخل الدولة ، وبالتالي تنتج إحساساً بالهوية المتميزة مع أبناء الوطن الآخرين ، لكن هذا لا يحصل إلا عندما تكون سياسة الدولة خاطئة ، لأن المنافسة بين الفئات العرقية واللغوية داخل الدولة تكون بناءة عندما تكون سياسة الدولة ناجحة.
وهذا ما يفسر شيوع اللغة الفرنسية الحالية في كافة أرجاء فرنسا ، حيث أنه حتى عام 1789 وهو عام الثورة الفرنسية ، لم يكن يتكلم بها سوى 50 % من السكان و 12% فقط يتكلمونها بشكل صحيح ، أيضاً الإيطالية لم يكن يتكلمها سوى 2.5% من السكان حتى عام 1860 ، لكن سياستي الدولتين ساهمتا في نشر اللغة ( لغة العاصمة) وبناء الدولة ، وبالتالي تحقيق الوحدة الوطنية من خلال اللغة، وينطبق نفس الأمر على مواطني الولايات المتحدة الذين في معظمهم من أصول مهاجرة ، ولم يطالبوا بأي امتيازات لغوية أو امتيازات أخرى لقوميتهم ، من قبل الحكومة الفيدرالية ؛ بسبب السياسة الديمقراطية للحكومة الأمريكية ، التي جعلت النداءآت الموجهة إلى كل أصل من الأصول لتكوين روابط مشتركة ( كالأيرلنديين ، والبولنديين .... الخ) حيث كانت هذه السياسية مثمرة وجيدة وتخدم الوطن.
وعلى العكس من ذلك فإن السياسات الخاطئة لجمهورية مولدوفيا ، جعلت النزعة الانفصالية عند الأتراك والروس الموجودين داخلها بحكم تمايزهم اللغوي ، وهذا ما حدث بين الصرب والكروات حيث انفصل الاثنين عن بعضهما البعض ، بسبب غياب لغة الحوار ، وعدم الاتفاق على لغة رسمية محددة تجمع أجزاء الوطن الواحد.
لذلك فاللغة بما تحمله من ترابط بين الناس ببعضهم البعض ، وواسطة تفاهم بينهم وآلة للتفكير وواسطة لنقل الأفكار والمكتسبات من الآباء إلى الأجداد ، وبما تؤديه من وحدة الشعور ، والتفكير على الذين يشتركون بها ، وتجعلهم يتعاطفون ويتماثلون ويؤلفون أمة لها دور أساسي في تحقيق الوحدة الوطنية في الدولة ، وهذا ما أكده الفيلسوف فيختيه ، من أن اللغة هي التي تجمع الأمة ، وأن التربية والتاريخ بها وبالمبادىء العلمية سيقود إلى نهوض الأمة.
لكن هذا لا يعنى إلغاء الخصوصيات للأقليات اللغوية والعرقية داخل الدولة ، من خلال ممارستهم للغتهم ، لأن ذلك سيساهم في إضعاف الوحدة الوطنية ، بسبب أن هذه الأقليات ستعتبر أنها مضطهدة ؛ بسبب منع لغتها من التدوال ، فعلى سبيل المثال ، القانون القومي الجزائري الذي صدر عام 1995 ، ونص في متنه على :
" جعل اللغة العربية لغة قومية ، وفرض غرامات ثقيلة على استعمال أي لغة أخرى في المعاملات الرسمية "،اعتبر تعد على ثلث السكان الجزائريين الذين يتكلمون البربرية ، لذلك تم تعديل هذه المادة بحيث يكون للغة البربرية مكانتها ، مع احترام اللغة الرسمية للدولة ، وهى لغة الأكثرية العربية".
فاللغة عامل موحد للوطن وللشعب إذا كانت اللغة الرسمية لأكثرية أبناء الوطن وإن تداولها وتعلمها واجب كل مواطن في الدولة سواء كان من الأقليات أم من الأكثرية ، ولكن يجب أن يكون ذلك من خلال توعية الشعب الواحد وتحقيق الاتحاد والوئام بين أفراده ، لأن القلوب لا تتفق إلا إذا اعتادت الاتحاد والوئام منذ الصغر ، وهذا يتحقق من خلال السياسة الحكيمة للدولة التي تراعى فيها كافة أفراد الشعب ، وتتيح المجال للأقليات اللغوية لممارسة حقوقها اللغوية ضمن قوانين وأعراف الدولة ، ولا تعمل على إلغاء خصوصيات هذه الأقليات حيث تتأقلم وتنصهر مع بقية فئات الشعب ، فكثير من الأزهار والنباتات أتت من الخارج وتأقلمت في البيئة التي جاءت إليها ، وأصبح شأنها شأن النباتات الأصلية التي لا يعرف أي شئ عن أصولها.

• احترام الثقافة الوطنية للدولة ولأبناء الوطن :

تعد الثقافة الوطنية مفهوماً مركباً يحتوى على المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات ، التي حصل عليها الإنسان كعضو في المجتمع( ) ، ومن المعلوم به أن كل جماعة وطنية لا يمكن أن تتطابق مع غيرها في سماتها الأساسية الروحية والمادية والفكرية والعاطفية ، كما يوجد ثقافات عديدة داخل المجتمع ، حيث نشأ ذلك الاختلاف والتباين بين هذه الثقافات ؛ بسبب عوامل كثيرة منها اللغة ، والدين ، والعرق ، وغير ذلك ، أو بسبب عوامل اجتماعية ، مثل الطبيعية الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد ، وعلاقة ذلك بالمستوى الاقتصادي والحالة التعليمية ، إضافة إلى العوامل الاجتماعية مثل وضع أي جماعة فرعية داخل الدولة بحكم الإقليم الذي تنتمي إليه.
ووجود ثقافات فرعية إثنية ضمن إطار الثقافة الوطنية أو السياسية السائدة لا يؤثر سلباً في تماسك الجماعة الوطنية أو تلاحمها ، ولا يقوض وحدتها الوطنية ، لأن مثل التنوع الثقافي لو أحسن توظيفه فإنه لن ينال من الثقافة الوطنية الشاملة ، الواحدة ، أو الموحدة ، بل قد يثيرها و يغذيها( ) فعلى سبيل المثال التراث الذي ينسب لجماعة ما في الدولة في الدولة ، يساهم في رفع مكانة جميع أفراد الدولة حتى ولو لم يتعلق ذلك التراث بهم ؛ لأن الآخرين من سكان الدول الأخرى لا يميزون تبعية هذا التراث ، بل يعتبرونه لكل سكان الدولة.
كما أن قيام النظام السياسي بتبني سياسة واحدة وجامعة ونشرها على مجموع أفراد الجماعة الوطنية ، ودون تجاهل أو تجاوز الثقافات الفرعية ، بما يخلق وحدة ثقافية سياسية شاملة لجميع أعضاء الجماعة الوطنية ، مع الحفاظ على الخصوصية الفرعية ، سوف يسهل من عملية بناء وحدة وطنية متماسكة.
وانتماء الفرد إلى الثقافة الوطنية العليا هو أساس الانتماء إلى الجماعة الوطنية لأنه قاعدة المساواة في الاشتراك بالسلطة ، فسيطرة الثقافة العليا على الثقافات الدنيا تلغي التفاوت في الاشتراك في السلطة ، حيث أن هذا التفاوت الذي يقوم عليه في البداية العزل السياسي لبعض الجماعات يولد من فقدان ثقافة عليا مشتركة ، كما أن الثقافة العليا لا تصبح ثقافة شاملة وشمولية بالمقارنة مع الثقافات الدنيا إلا لأن محركها الأساسي يكون بناء الدولة لا بناء المذهب.
كما أن الثقافة هي التي تحدد الأسس النفسية والاجتماعية للشخصية على أرض الدولة ، حيث تقوم تلك الشخصية بتعديل الأسس على ضوء التجربة الاجتماعية التي تعيشها وتمر بها ، وذلك في سياق التغيرات والتبادلات التي تمر بها الثقافة بناءاً على منطقتها وقانونها في عمليات التخلي والاكتساب، التي تقوم بها داخل شروطها الخارجية.
ولكل شخصية اجتماعية ردودها واتجاهاتها وسلوكها الاجتماعي النابع من وحدة العلاقة الجدلية بين الثقافة والشخصية الأمر الذي يؤدى إلى اختلافها عن الشخصيات الاجتماعية التي تكون خارج الدولة ، لأن هناك ثمة قواسم مشتركة بين الشخصيات الاجتماعية في المجتمع ، لأن الوحدة والتنوع في الشخصيات الاجتماعية ظاهرة محلية ووطنية قومية وعالمية ، وهي خلاصة الاختلاف والتشابه في التجربة الاجتماعية وفى نشاط الناس الثقافي والحضاري داخل المجال الجغرافي على اعتبار أنه الموقع والمكان لهذه الشخصية.
وكل تغير تمر به الشخصية يكون محكوماً ومنقاداً لمجموعة من القوانين العامة داخل وحدتها واستقلالها الجدلي ، حيث تكون العنصر المشتركة بين الشخصيات ؛ بسبب تناقض القوانين العامة مع القوانين الخاصة ، والذي بناءاً عليه يحدث التناقض في الحياة الاجتماعية ويجعلها تنفرد بخصوصية معينة محددة، كما يلعب الصراع الفكري ، والتطور التكنولوجي في أدوات الإنتاج ، والعوامل التاريخية والجغرافية في بروز الثقافات المختلفة أو تطورها.
ويرى البعض أن حدوث انصهار للعناصر المختلفة داخل الدولة من خلال الاختلاط والذوبان والامتصاص سيؤدى إلى تجانس جنسي وحضاري طبيعي ، وثقافي سواء كان دينياً أم لغوياً ، والسبب في ذلك يعود إلى التقارب الجذري بين معظم العناصر والموجات المستقرة أو التي دخلت ، وهذا يؤدى إلى عدم وجود حاجز لونى أو ديني أو لغوى ، كما أن صغر مساحة الدولة سيكون له دور كبير في ذلك، لكن عدم وجود مساواة داخل الدولة مع وجود عملية انصهار للجماعات العرقية و الدينية المختلفة داخل الدولة ، لن ينتج وحدة وطنية ، فالهنود والأفارقة الذين استوطنوا في منطقة الكاريبي ، عانوا من التمييز العنصري من قبل العنصر الأوربي الأبيض الذي حاول صهرهم في بوتقته ، مع استمرار سيطرته الاقتصادية و السياسية ، في دول الكاريبي ، مما جعل الأعراق من أصول إفريقية ، وهندية ، تسعى إلى الحفاظ على هويتها الثقافية ، مما شكل حاجزاً ساهم في إضعاف الوحدة الوطنية.
كما يتضمن احترام الثقافة الوطنية للدولة ، وأفراد شعبها ، احترام دين الدولة الرسمية ودين أفرادها، فالدين هو الأسلوب الأساسي الذي يطبع تصرفات الإنسان وتفكيره ودفق عواطفه بطابعه ، وهو أفضل سبيل لتقويم الإنسان ، وقد انقسم الناس إلى أديان ، وانقسم كل دين إلى مذاهب ، حيث نشأت هذه المذاهب من التفسيرات المختلفة له ، وكل محاولة لتوحيد الأديان أو القضاء على التنوع وصهر المذاهب والأديان كلها في دين واحد ، ستخون إحدى قضايا الدين الأساسية ، وهى السلام ، لأن فرض هذه الوحدة لا يحصل إلا بالحرب والعنف، وفى ذلك بقول عضو الجمعية التأسيسية في الثورة الفرنسية ( فوكروا) :
" إن ما نراه في كل مكان من الاحتفال بيوم الأحد والتردد على الكنائس يعنى أن غالبية الفرنسيين تريد العودة إلى العادات القديمة ، ولم يعد الوقت مناسباً لمقاومة مثل هذا الميل القومي .... إن الأغلبية الكبرى من البشر بحاجة إلى الدين ، والشعائر والكهنة وقد مر بعض الفلاسفة المحدثين ومررت أنا شخصياً إلى نفس الخطأ عندما اعتقدنا بأن نشر التعليم في أوساط جماهير الشعب سوف يؤدى إلى تدمير الأحكام المسبقة الدينية ، فالواقع أن هذه الأحكام المسبقة والعقائد تشكل بالنسبة للعدد الكبير من البؤساء مصدر للعزاء ، وبالتالي فينبغي أن نترك لجماهير الشعب كهنتها وهياكلها وطقوسها".

وعلى ذلك فيجب على القيادات السياسية عدم التدخل في أديان المجتمع ، لأن ذلك يؤثر سلباً على الوحدة الوطنية وفى ذلك يقول رفاعة الطهطاوي :
" إن الملوك إذا تعصبوا لدينهم ، وتدخلوا في قضايا الأديان ، فإنما يحملون رعاياهم على النفاق ، وينزعون منهم الحرية فلا يوافق الباطن الظاهر".
كما يجب على أفراد الشعب أن يكونوا متسامحين وأن لا تؤثر فيهم الأخطاء الفردية التي تحصل من بعض المتعصبين الذين لا يهتمون بمصير الوطن ، ووحدته الوطنية والمصيرية ، وفى ذلك يقول الإمام محمد عبده :
" إن التحامل على شخص بعينه لا يعنى أن يتخذ ذريعة للطعن في طائفة أو أمة أو ملة ، فإن ذلك اعتداء على غير متعمد ، ومحاربة لغير محارب ، وكما يقال جهاد في غير عدو وضرره أكثر من نفعه ، إن كان له نفع فإنه يثير الساكن ، وينطق الساكت ، ويؤلب القلوب المتفرقة على مقاومة رأى الطاعن ، ومخالفته إلى عكس ما يريده ، فليس من اللائق أن يعمد أحد إلى إحدى الطوائف المتوطنة في أرض واحدة فيشملها بشيء من الطعن أو ينسبها إلى شائن من العمل ، تعللا بأن رجلا أو رجالا منها قد استهدفوا لذلك ، فإنه مما يرسل العداوات إلى أعماق القلوب ، ويدلى بالضغائن إلى بواطن الأفئدة ، فإذا تنافرت الطوائف تشابكت كل منها بما يحط شأن الأخرى ، فكانت كل مساعيهم ضرراًُ على أوطانهم ، فالتوى على الطاعن قصده ، وبعدت عنه غايته ، فقد كان يريد بقوله انتقاص شخص واحد تأديباً له أو استصراخاً لدفع سره ، فادى سوء استعماله إلى خيبة آماله".

لكن استبعاد الطائفية والشقاق الديني من صفوف أبناء الوطن الواحد ، لا يعنى انتهاء الخلافات والتناقضات بين الشرائع الدينية لأبناء الشعب ، ولكنه يعنى إقرار حقيقة أنها أمة واحدة ، تضع الخلافات الدينية والتناقضات المذهبية في إطارها وحجمها ، وتعالجها بالحوار والحكمة والموعظة ، كما أن الاختلاف في الفكر له دوره في إثراء المجتمع ، واكتساب الطابع الإنساني البريء من العنصرية وضيق الأفق والنظرة الوحيدة الجانب ، ومسئولية ما يحدث من طائفية أو شقاق في المجتمع ليس مسؤولية أي دين من الأديان ، وإنما هو مسؤولية الدولة ، ومسؤولية رؤساء الأديان، الذين قد يبررون تجاوزات القيادات السياسية في الدولة، فبالوحدة الوطنية نستطيع أن نقضى على الطائفية والعنصرية في المجتمع ، التي هي مسؤولية جماعية ، فالإحساس بالاشتراك في المسؤولية يجعل أبناء الوطن يتطلعون إلى موقف فكري بناء ومستنير لكل أبناء الوطن من جميع الأديان ، ويتجاوز هذا الفكر صفحات الماضي المتخلف الطائفي ، ومثال قريب على ذلك ما حدث في مصر عام 2004 عندما اعتنقت إحدى الفتات القبطيات الدين الإسلامي ، وهو الدين السائد في مصر، حيث تدخلت الكنيسة القبطية ،وضغطت على الحكومة من أجل عودة الفتاة إلى المسيحية ، وهذا ما أساء للوحدة الوطنية في مصر ، كون الدولة علمانية ، وحرية الفرد مقدسة ، فلا يجوز حرمان أي شخص من اعتناق الأيديولوجية الدينية التي توافقه ، ولا يؤثر ذلك على الوحدة الوطنية في الدولة ، لكن ما حدث لابد أنه أثار مشاعر الأكثرية من السكان الذين يعتنقون الإسلام ، وأثر سلباً على الوحدة الوطنية في مصر.
وبناءً على ذلك فلن يتحقق بسهولة الولاء لثقافة وطنية واحدة ، بما تشمله من الإرادة المشتركة لأبناء الوطن كافة ، لأن هذا لا يتحقق إلا من خلال زيادة درجة التعليم في الدولة ، للقضاء على الجهل والتعصب، وهذا ما تحقق لأوروبا ، التي عانت من حروب الأديان في داخلها ، وسقط مئات الآلاف بسبب ذلك، لكن بعد إدراك الشعب في كل دولة منها أن هذا سيضر بالوطن ، اندفع وراء وحدته الوطنية وتنميته الاقتصادية والسياسية وحقق تطوره في جميع الميادين.



ثانياً: مدى تحقق الحرية والعدالة والمساواة في الدولة.
• مدى تحقق الحرية في الدولة .
ترتبط الحرية بالعدالة ، فالعدل يولد الحرية والتسامح ، لكن لن تكون هناك حرية بدون وجود ديمقراطية ، تحقق حرية الفكر للفرد داخل الدولة ، وأهم ضمانات حرية الفكر هي:
1- مجانية التعليم ، لأن الفكر مرادف للمعرفة التي لا تتحقق إلا بالتعليم ، وعندما يصبح العلم سلعة تباع وتشترى ، فإنه يصبح احتكارا للقادرين عليه ، ويكون معبراً عن مصالح الطبقات القادرة اقتصادياً.
2- تثبيت مبدأ المشروعية من خلال سيادة القانون في كل أرجاء الدولة.
3- مكاشفة الشعب بالحقائق ، لأن الحرب النفسية من أخطر الأسلحة على الوحدة الوطنية ، وقد زاد من خطورة هذه الحرب الاكتشافات العلمية الحديثة ، التي تجعل من العسير إخفاء المعلومات الحيوية عن الأعداء ( أقمار صناعية ، وسائل تجسس ، وسائل الاتصال السمعية والبصرية ) كل ذلك جعل من السهل على الدول المتقدمة معرفة أدق الأسرار عن الدول الأخرى.

وتتجلى حرية الفكر في مظاهر متعددة ، منها حرية التعبير عن الرأي بوسائل التعبير المختلفة شفاهة وكتابة ورسمياً ... الخ ، وقد تقف حرية الفكر عند اعتناق رأى معين ، وقد تتعدى ذلك إلى دعوة الآخرين لاعتناق هذا الرأي ، ولايتنا قض حق الإنسان في وطنه مع حق الدولة التي هو منها ولا يحد من استقلالها ، وفى ذلك يقول انزيلوي " إن الحد من حرية الدولة المترتب عن القانون الدولي أو الالتزامات التعاقدية ، لا يشكل إطلاقا مساساً باستقلالها"، فللشعب حقان ، هما الحق في مواجهة البلدان التي تحتل بلاده من أجل استقلال بلده وسيادتها ضد أي تدخل خارجي ، والحق في مواجهة دولته من خلال حقه في اختيار النظام السياسي والاقتصادي والإجتماعى من أجل إقامة نظام قانوني وحكومي يقبله ، وبمعنى آخر إقامة الديمقراطية.

وبناءاً عليه يقع على الدولة مسؤولية إقامة نظام ديمقراطي يحقق الحرية لجميع أبناء الوطن ، وبالتالي يحقق لهم حقوقهم كاملة ، وإذا أخلت الدولة في ذلك فعلى الشعب استعمال كافة الوسائل لإسقاط نظامها ، وقد يستعين الشعب بالمجتمع الدولي عندما يتعذر التخلص من هذا النظام الذي يكبلها ، خاصة وأن المجتمعون في الأمم المتحدة قد قرروا أنهم لا يمكن أن يسمحوا بأن تبقى قضية حقوق الإنسان حبيسة الحدود الوطنية للدول ، في ظل وجود نظام عالمي جديد ، بعد انتهاء الحرب الباردة ، واعتبروا أن الأمم المتحدة يجب أن تتوسع لتشمل مهامها مراقبة الانتخابات ، واحترام حقوق الإنسان في الدول التي تنتهك هذه الحقوق ، وفى البيان الختامي لمؤتمر الأمم المتحدة المنعقد في فينا حول حقوق الإنسان جاء فيه :
" جميع حقوق الإنسان عالمية وغير قابلة للتجزئة ، ومترابطة ومتشابكة ، وإن من الأهمية ضمان العالمية والموضوعية ، وعدم الانتقائية عند النظر في قضايا حقوق الإنسان " .
كما أكد الأمين العام في ذلك المؤتمر على ذلك بقوله :
" إن حقوق الإنسان هي التي تحرك كل نشاطات منظمتنا باعتبارها قاعدتها الأصلية وهدفها الأكبر........ وأنه إذا أتضح أن الدولة غير جديرة بمهمة حماية حقوق الإنسان ، وعندما تنتهك المبادىء الأساسية التي جاء بها ميثاق الأمم المتحدة ، وتسيء معاملة مواطنيها عوض أن تحميهم ، في تلك الحالات لابد للمجتمع الدولي أن يأخذ مكان هذه الدولة التي أخلت بوجباتها...... إن حقوق الإنسان بطبيعتها قد ذوبت الحاجز التقليدي الذي يفصل بين النظام القانوني الداخلي والنظام القانوني الدولي ، وهكذا خلقت حقوق الإنسان بين هذه الأنظمة علاقات جديدة"
كما أن حرية التكتل جزء متمم لحرية التعبير وهى التي تعطى حرية التعبير تجسيداً لقيمتها ومعناها، لأنه يمثل مرحلة الانتقال من حيز الفكر إلى حز العمل الاجتماعي العام ، فالإنسان تربطه مع أخوته وأبويه علاقات أسرية ، وتربطه مع أنداده في السن علاقة الجيل الواحد ، وتربطه مع زملاءه علاقة المهنة ، ومع أبناء حيه علاقة الجوار ، ومع مماثليه في الفكر علاقة الجمعية أو الحزب ، وهكذا ، فالمجتمع الواحد ليس مجرد مجموعة كتل منفصلة عن بعضها البعض ، بل هو مجموعة كتل منفصلة ومتداخلة في نفس الوقت.

ومن سمات الحرية أنها لا تستمر إلا في ظل توازن متعادل بين الكتل والأحزاب والطوائف الموجودة في الدولة ، فمبدأ " عش ودع غيرك يعيش" هو أساس كل اتحاد أو وحدة بين البشر ، لأن القاعدة التي تبنى على أساسها الدولة هي الرضى بالتعايش والتعاون والتضامن في إطار جغرافي معين بين أقوام وجماعات قد تختلف عن بعضها البعض بالجنس والدين واللغة ، لان الشعب يجتمع من خلال وحدة الجغرافيا والاقتصاد والتاريخ المشترك.

ومن سمات الديمقراطية بما تعينه من مشاركة معظم المجموعات السكانية في العملية السياسية وفى صنع القرارات الحكومية ، ومن سماتها وجود دستور مكتوب يحد من سلطتها حيث أن هناك أسلوبين لنشأة الدساتير هما:
1- الأسلوب غير الديمقراطي : وهو الأسلوب الذي تسود فيه إرادة الحاكم في إنشاء الدستور ، سواء أنشأ هذا الدستور بإرادته وحده أم تلاقت إرادته مع إرادة الأمة ، لذلك يطلق على هذا الأسلوب غير الديمقراطي لأن إرادة الأمة لم تستقل وحدها في إنشاء الدستور.
2- الأسلوب الديمقراطي : وهو الذي تسود فيه إرادة الأمة وحدها دون إرادة الحاكم في إنشاء الدستور ، ويكون الدستور وليد إرادة الأمة وحدها.

وإن أي تدخل من الحاكم أو السلطة الحاكمة في الدستور سيجعله غير ديمقراطي ، فبسبب المطالب الشعبية أو الرأي العام يضطر الحاكم أحياناً إلى وضع دستور للبلاد ، ولكن رغم ذلك لا يتنازل الحاكم عن أي شيء من سلطته أو عن بعض أجزاء من سلطاته للأمة ، فلا يكون وضعه للدستور ، إلا أنه قد قام بأسلوب لا ديمقراطي من خلال المنحة الاضطرارية.

كما أن الإرادة العامة للأمة هي التي يجب أن تسن القانون ، وتشرع لنفسها بعد أن تذوب كل الميول الخاصة ، وتخضع المصالح الخاصة للمصلحة العامة ، والأمة وفق هذا المبدأ هي كل نفساني أو جهاز له روح ، ويجب أن تنسجم معها القوانين، ويجب أن تنفصل السلطة التشريعية عن التنفيذية ويتحقق التوازن بينها كي لا تظلم أي منهما المواطن الحر ، فالحرية هي حق طبيعي لكل إنسان ، وهذا ما أكده منتسكيو في كتابه روح القوانين، وعلى هذا الأساس كان الفارق بين الإنسان الحر وغير الحر عند أرسطو ، حيث أكد أن الإنسان الحر يستطيع أن يمارس الثقافة كأن يكتب أو يفكر أو يخطط للمجتمع في ذهنه، أما العبد فإنه دون هذا المستوى فهو وجد من أجل القيام بالعمل الجسدي ، حتى وإن حاول تحقيق حريته.

كما يجب على النظام الاجتماعي والسياسي السائد في المجتمع أو الدولة أن يسمح بالحوار الحر وبحرية التعبير للأجيال الجديدة ، لأن مشكلة الشخصية الوطنية تنعقد بسبب الفجوة بين الأجيال ، وتزداد حدة بضعف الروابط والقيم التقليدية المستمدة من الأسرة ، والعلاقات المجتمعية الثابتة ، ويصبح الحوار بين الأجيال مستحيلاً وليس له أي معنى ، فانهيار الاتصالات بين الأجيال ، كان له جذوره في عدم ملائمة الرموز القديمة للكثير من الشباب ، فالجدل يتطلب القبول بإطار عام يمكن الرجوع إليه ، وعلى هذا الأساس فإن الصدام بين الأجيال غالباً ما يقع بسبب أن الكثير من الشباب يرفضون قيم من هم أكبر منهم سناً ، كما أن بعض الشباب يتهربون من مسؤولية تحمل القيم ، وبالتالي فإن وصول أجيال من الشباب تدعي الخبرة وحقها في الاشتراك في سلطة الحكم ، بحكم أنها مدربة على أعمال متقدمة أكثر من الجيل الذي سبقها ، بينما الجيل السابق ( النخبة الأقدم) تدافع عما تعتبره مصالحها المكتسبة الخاصة وطريقتها الخاصة بالحياة ، وبنتيجة الصدام يتولد عدة قضايا حادة.
ومن غير المتوقع تحول الدولة الديكتاتورية إلى الديمقراطية ؛ لأن النخبة الحاكمة فيها غير مستعدة أن تتخلى عن تحكمها غير المقيد بالدولة والاقتصاد والمجتمع ، وإن فعلت ذلك فهي تحتاج إلى إجماع أغلب فئاتها بشكل عقلاني ، وهذا مستحيل ، كما أنها لا تستطيع أن تعمل ضد مصالح الطبقة المستفيدة التي انحدرت منها ، إضافة إلى أنها دولة تعانى من مشكلة التبعية للخارج ، وخاصة إذا كانت دولة من الدول المتخلفة اقتصادياً فتكون الصناعة فيها استهلاكية ، وأي تحول ديمقراطي فيها سيؤدى إلى انفراج سياسي ، وإطلاق العنان لقوى كانت حبيسة السياسية الديكتاتورية الخانقة مثل : القبلية السياسية ، والطائفية ، والإقليمية ، والإثنية ، وتبدأ فيها مطالب الانفصال في جسم الدولة أو المطالبة بالتمثيل السياسي بالحصص والأنصبة ، بناءاً على نسبة أفرادها إلى باقي السكان.
ويرى منيف الرزاز أنه لا قيمة للبرلمان في الدولة الديكتاتورية ، لأن العضو لا يتمتع فيه بأن يقول رأيه بحرية تامة لو خالف رأيه هذا رأى الحاكم ، ولا قيمة للبرلمان المنتخب من الشعب ، إذا كان الشعب قد فرض عليه رأى واحد ، ولا يمكن في هذا البرلمان أن يختلف نائب مع آخر ، ولا يمكن أن يميز الناخب نائباً من آخر ، لأن الجميع يكونوا موالين للنظام ولا يحققون سوى رغباته ، وعلى هذا فإنه يجب أن تتوفر حرية التعبير بحيث تختلف الآراء وتتصارع ، وتنزل إلى حلبة الجدال والنقاش ؛ لذلك يجب أن تكون المجالس النيابية منتخبة انتخاباً حراً ، وأن يكون للشعب رأى حر في انتخاب أعضاء المجلس ، وإذا كان هناك ثمة بعض المساوىء لهذه المجالس إلا أنها تعتبر أفضل طريقة وجدتها الشعوب من أجل حكم ذاتها ، ومن أجل التخلص قدر المستطاع من حيز الاستعباد والطغيان الشخصي.
وبناءاً عليه فإن تحقق الحرية الدستورية والبرلمانية والانتخابية ، وحرية الفكر والتعبير والتعليم ، من خلال نظام ديمقراطي يحقق المصلحة الوطنية قدر استطاعة الدولة ، من خلال برلمان منتخب ، ودستور يصدر عن الأمة ، ومن خلال وجود قيادة سياسية معبرة عن رغبات الأمة ، مع ضرورة الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وتحقيق التوازن بينهما ، سيقود إلى المساهمة في تقوية الوحدة الوطنية في الدولة ، كما أن للدولة الحرية في محاسبة من يسعى للعبث في الوحدة الوطنية ، أو يسهم في إضعافها من خلال تعصبه العشائري أو الإقليمي أو الطائفي أو الإثنى ، بغية الحفاظ على وحدة الدولة وتماسكها ، وبذلك تتقوى الوحدة الوطنية في الدولة.

• مدى تحقق العدالة والمساواة في الدولة
يرى البعض أن السياسية هي جهد يبذل في سبيل إقرار العدل والأمن من خلال تأمين المصلحة العامة والخير المشترك من قبل السلطة السياسية ، وحماية هذه الأشياء من المطامع الخاصة ، إلا أن وجود الطبقية داخل المجتمع يجعل الطبقة الفقيرة المحرومة ترى أن السلطة السياسية لا يمكن أن تكفل الأمن والنظام إلا لمصالح أصحاب الإمتيازات في المجتمع ، بخلاف أفراد الطبقة الفنية الذين يرون أن السلطة تحقق الأمن والنظام الصادق ، وتحاول أن تقنع أفراد الطبقة الفقيرة أن الصراعات السياسية لا تؤدى إلى خير، وما يؤكد هذا الرأى قول هيردورت ، أن الحكومة أو الدولة لا توجد إلا إذا توافر فيها شرطان هما:
1- الشعور الجماعي بحاجتها .
2- ثقة الجميع في عدالة القضاء وقراراته وأحكامه .

فعلى أساس العدالة التوزيعية ظهرت النظرية الماركسية ، التي رأت بأن السياسية هي صراع المصالح ، وأن الحكومات تمثل مصالح جماعة ما وليس مصلحة الشعب ، والصراعات التي تكون السياسية هي صراعات طبقية ، والمصالح التي تمثلها الحكومات هي مصالح طبقية بشكل ثابت ورئيسي ، ومحرك أي تغيير في المجتمع هو الصراع الطبقي، لكن الدولة الشيوعية السوفيتية أو الصينية ، أو غيرهما ، رغم ما حققتاه من عدالة توزيعية حسب أسس الماركسية ، إلا انهما ضحتا بالحرية ، فقدمتا شيئاً وأخذتا شيئاً أهم وهو الحرية ، بخلاف الدول الرأسمالية ، التي أعطت الحرية مقابل عدم عدالتها التوزيعية ، وفى ذلك يقول أرنولد تونبي في كتابه " العادة والتغيير " :

" إن الرأسمالية الغربية أخطأت في تضحيتها بالعدالة في سبيل الفردية ، والشيوعية أخطأت في تضحية الحرية من أجل العدالة ، وكلتا النظريتين مادية ، وتفسير العدالة على هذا الوجه تفسير خاطىء ، فالإنسان ليس حشرة اجتماعية ، ولكنه مخلوق ذو كرامة وإدراك واختيار ، وجميع المذاهب والنظريات المادية لا تستطيع أن تحقق الانعتاق الروحي الذي يمنحه له الدين" .

لكن يرى ابن خلدون أن الظلم في المجتمع ليس بسبب التفاوت المادي ، بل بسبب الجاه والسلطة ، لأن المال التابع للجاه والسلطة ومستخدميها ، فالوظيفة الاجتماعية للفرد لم تكن تتحدد بما يملك ، وإنما تتحدد بمقدار الجاه الذي له ، والنفوذ الذي يملكه ، فالانتقال من مرتبة إلى أخرى بالسلم الاجتماعي لا يتم للفرد وحده من خلال سعيه واجتهاده بالكسب ، بل من خلال انتقاله الجماعي ؛ فالمال الذي يحصل لصاحب الجاه يتم من خلال قربه من الحاكم ، واستعمال سلطة القهر في جمع الأموال مثل الضرائب والجبايات والمصادرات على فاقدي الجاه، وأن وجود طبقة أرستقراطية في المجتمع، تعتمد على التطفل ، وتتسم بالأخلاق الذميمة ، بسبب انغماسها في ملذات الحياة ، وتقربها من السلطان ، وعدم تأديتها أي وظيفة اجتماعية ، سوى الاعتداء على أموال الناس وممتلكاتهم ، سيؤدى إلى فقدان الأمن في المجتمع ، ويسبب الأزمات الاقتصادية في الدولة ، وتقاعس الناس عن العمل ، واشتعال نار الفتنة والتوتر في الدولة ، ومن ثم انهيار الدولة.
كما يؤكد لينين أن الثورات الاجتماعية تنجح من خلال توافر شرطين هما:
1- قيام وضع ثوري.
2- وجود تنظيم جماهيري ثوري.
وعلامات الوضع الثوري عند لينين هي :
• أن يستحيل على الطبقات السائدة الاحتفاظ بسيادتها دون أى تغيير ، لأنه لابد أن ينشيء صدع في الطبقة السائدة يؤدى إلى استياء الطبقات الأخرى وغضبها ، فتفجر الثورة يحتاج إلى رفض القاعدة الوضع القائم ، وأيضاً رفض القمة الوضع القائم.
• أن يتفاقم بؤس الطبقات وشقائها أكثر من المألوف .
• تعاظم نشاط الجماهير ، فقدرة الطبقة الثورية على القيام بأعمال ثورية جماهيرية قوية ، يحدث أنها تصدع ، أو تحطم الحكم القديم ، أو تسبب له الأزمات .

وحول العدالة التوزيعية في القيم يرى ويلسون أن الإنسان ولد حراً ، لكنه مكبل بالأغلال في كل مكان ، بسبب الظروف الاجتماعية التي تسود مختلف البلدان ، ويمكن للإنسان أن يتحرر منها وأهم هذه الظروف:
1- عامل التنشئة الاجتماعية : وهى الخبرة التي يكتسبها الإنسان من محيطه الخارجي.
2- عامل نشاطات المجتمع التي يتأثر الإنسان فيها.

كما يرى أن هناك صراعاً يحدث بين المواطنين للحصول على أفضل المراكز في المجتمع ، وقد ينقلب هذا الصراع ليصبح صراعاً ضد السلطة التي تختار أناس معينين دون الآخرين في تلك المراكز.
كما يرى البعض أن الخلافات العرقية والطائفية في المجتمع كانت بالدرجة الأولى ؛ بسبب عدم وجود العدالة التوزيعية للقيم المادية والمعنوية ، من موارد للدولة ، إضافة إلى الرغبة في المشاركة السياسية ، والحفاظ على القيم الثقافية ، فعندما تكون الحكومات قاصرة ، إما بسبب سوء الفهم أو الغطرسة أو الاستخدام السيىء للموارد ، يتبلور الجفاء بين السلطة المركزية ، والقوى العرقية والمذهبية ، مما يهدد الوحدة الوطنية ، كما يؤثر ذلك على استقرار الدول المجاورة ؛ حيث في مثل هذه الظروف تتحول الإثنية والمذهبية إلى قضايا أمنية ، فتلجأ المؤسسة العسكرية لقمع المشاعر التي تعتبرها انفصالية.
لذلك على السلطة السياسية عاتق تحقيق العدالة والمساواة في المجتمع ، لأن تحقيق العدالة الاجتماعية يزيد من تضامن الشعب ، ويجعل الوطن للجميع ، كما أنه من شروط اندماج الأقليات في المجتمع هو في قدرة الدولة على تحقيق المساواة بين أبناءها ، وعلى ذلك فالنظام الذي لا يلبي متطلبات الشعب المحكوم من قبله يكون يلبى حاجة الطبقة الحاكمة ، ويحول الشعب إلى عبيد ، ويؤدى ذلك إلى الثورة الاجتماعية وسقوط النظام، وهذا ما يفسر عدم رغبة سكان كيوبك في كندا، في الانفصال عن جسم الدولة ، رغم تمايزهم عرقياًُ ولغوياً وطائفياً عن باقي سكان كندا ، والسبب في ذلك يعود إلى المساواة والعدالة الاجتماعية ، والحرية في ممارسة اللغة والاشتراك في كل مؤسسات الدولة بلا أدنى تميز ، وعلى العكس من ذلك كان التميز في إعطاء الوظائف بين الشماليين والجنوبيين في السودان في عهد التمهيد للاستقلال عام 1954 ، قد جعلت النزعة الانفصالية للجنوبيين تتولد إلى أن شكلت في النهاية حرباً أهلية بدأت في أغسطس 1955 ، وما تزال آثارها إلى الآن.
ولكن لكي تتحقق العدالة داخل الدولة لابد أن يكون هناك قوانين ودستور ، وأن يكون هناك توافق بين القوانين والدستور على أن تتوافق هذه القوانين مع روح الشعب وطبائعه ، فالثورة الفرنسية لم تتصور أن القانون يمكن أن يكون من صنع فرد أو مجموعة أفراد ، لأن الفرد لا يكون بطبعه إلا مستبداً أو محدود التفكير ، تسيره دوافع شخصية ، وطبيعية القانون غير الشخصية ، لا يوافقها إلا سلطة تشريعية غير شخصية ، وفى ذلك يقول مونتسكيو :
" لجميع الدول بشكل عام هدف واحد هو البقاء ، ولكل دولة هدفها الخاص ... ومتى عرف هذا الهدف ، فإنه يحتاج إلى قوانين خاصة كيما يتحقق ، ولكن القوانين مرتبطة بمعطيات أخرى كأحوال الإقليم ، وطبيعية التربة ، وكثافة السكان ، والديانة السائدة ، وكل منها يقتضى تشريعاً صالحاً ينسجم مع التشريع المتعلق بالمجموع".
كما أن الدولة القوية لا يقوم بناءها على العامل القانوني وحده ، بل لابد لها من العامل الأخلاقى فالطاعة ممكن أن تحققها القوة ، لكن الولاء لن يأتي إلا إذا أحس المواطن أن النظام لا يجسد إلا ما يعتبره الناس عدلاً ، لذلك لابد من توافر العدل حتى يسهل تطبيق القانون عن رغبة لا رهبة والأفضل توفر العنصرين معاً ، فالعدل يتضمن وسيلة وغاية ، الوسيلة هي المعاملة بالقسط ، والغاية هي التعرف على مصالح الأفراد و تطلعاتهم في محاولة لتحقيقها وإشباعها في ضوء الإمكانات المتاحة أملا في إنجاز الانسجام وتحقيق التكافؤ فيما بينها جميعاً ، لكن امتلاك السلطة المطلقة من قبل الدولة ستجعلها تضحى بالعدل ، لترضى مؤيديها ، وهذا سيضعف الوحدة الوطنية في المجتمع ، لهذا فقد رأى منتسكيو ضرورة الفصل بين السلطات حتى يقل الصراع في المجتمع ، ووجود دستور يحدد سلطات كل من هذه السلطات ، إلا أن بعض الأنظمة الديكتاتورية تلجأ لوضع دستور يلائمها ، رغم ما يعنيه الدستور حقيقة كونه القانون الأساسي للدولة ، الذي ينظم قواعد الحكم ويوزع السلطات ويبين اختصاص كل منها ، كما يضع الضمانات لحقوق الأفراد ، ويبين مدى سلطات الدولة عليهم ، هو قانون يعلو على جميع القوانين الأخرى التي تتفرغ عنه ، وتستمد شرعيتها من شرعيته ، على اعتبار أن الأعمال الإدارية لا تكون مشروعة إلا إذا توافقت مع الدستور ، ورغم ذلك تلجأ تلك الأنظمة إلى الادعاء بأن شرعيتها هي شرعية دستورية بناءاً على الدستور الذي وصعته ، لكن هذا لا يقود إلى شرعية النظام ، لأن الدستور هو وليد إرادة الأمة ، بدون أي تدخل من السلطة الحاكمة ، وعلى هذا فينشىء عدم الشرعية في النظام السياسي ، وهذا يؤدى إلى تحطيم السلطة ، ويسبب عبئاً كبيراً على الميزانية العامة للدولة ، وكل هذا سيقود إلى ضعف في الوحدة الوطنية ، بسبب عدم وجود عدالة للنظام السياسي.
وفى الأنظمة الديكتاتورية أيضا فإن تمثيل النظام السياسي للشعب يجد قاعدته في القدرة على تلبية حاجات الجماهير الأساسية ، أي على حماية وتشجيع مبادراتها الذاتية ، وقابليتها لتحطيم قيودها جميعاً ، أما الدعم الذي تقدمه الجماهير في ظروف معينة لمثل هذه الأنظمة ، فهو علامة ضعف مؤقت من الجماهير ، وعجز سياسي عابر منها على توحيد نفسها وتنظيم صفوفها وفقاً لحاجتها الأساسية ، هذا الدعم الشعبي يصبح عند قادة النظام رصيداً أساسياً في حوزة النظام ، وورقة في اللعب يمارسها داخل الطبقة المسيطرة لخدمة المصالح الأساسية لجهاز الاستغلال الذي يحميه ، لكن هذا سيكون مؤقت فعدم وجود العدالة والمساواة ، وخضوع الشعب فترة محدودة لذلك النظام سيقود حتماً إلى الثورة الاجتماعية ، بسبب الهوة بين الشعب والنظام ؛ وحدوث ثورة ، يعنى عدم وجود وحدة وطنية.

وبالعكس ففي الدول الديمقراطية تعمل الأنظمة على تحقيق أعلى درجات العدالة والمساواة في الحياة العامة وفى النظام السياسي ، فعلى سبيل المثال يكون التمثيل فيها تبعاً لأعداد المواطنين ، لكن الكثافة أو الخلخلة السكانية تؤدى إلى تفاوت في التمثيل السياسي ، مما يؤدى إلى خلق بعض الضغائن بين المناطق المختلفة للوطن الواحد ، ولحل هذه المعضلة ، عمدت هذه الأنظمة إلى اتخاذ نظلم المجلسين ( إحداهما عن طريق التمثيل النسبي لعدد السكان في كل إقليم إدارى ، والآخر يتساوى فيه عدد الأعضاء الممثلين لكل إقليم ) ، وهذا ما ساهم في تحقيق الوحدة الوطنية داخل هذه الدول.
فالوحدة الوطنية تتطلب تحقيق المساواة والعدالة في جميع المجالات السياسية ، والاقتصادية والعسكرية ، والاجتماعية ، لأن عدم تحقيقها سيؤدى إلى تشتت أفراد الوطن وسلبيتهم في العمل وفى النضال ، وفى التضحية من أجل الوطن ، وفي إطار هذا السياق أرجع البعض أن هزيمة الخامس من يونيو عام 1967 ؛ كان من أهم أسبابها عدم وجود عدالة توزيعية ووجود فجوة بين الضباط والجنود العرب ، وفى ذلك تقول يائيل ديان في كتابها "يوميات جندي" :
" لقد افسد الترف الضباط المصريين ، فقد كانوا أثناء المعركة -1967- ، يرتدون الملابس العسكرية المصنوعة من الحرير ، وينتعلون الأحذية الملمعة ، أما جنودهم فقد كانوا في حالة مزية من القذارة ، وكانت ملابسهم خرقاً ممزقة ، أما جنودنا - أي الجنود الإسرائيليون - فقد كانوا يرون ويعرفون أن الجنرال أريك شارون وسائقه يورام يرتديان نفس الملابس ، وينتعلان نفس الأحذية ، ويأكلان نفس الطعام ".
فالمساواة والعدالة التوزيعية للقيم المادية والمعنوية هي عنصر أساسي في تحقيق التضامن والوحدة بين أبناء الوطن الواحد ، وتضيق الهوة التي تفصلهم عن بعضهم البعض ، وتجعلهم يداً واحدة تعمل من أجل التنمية في الداخل ، والدفاع عن الوطن في الخارج ، وبذلك تتقوى الوحدة الوطنية وتصبح دعامة للدولة والقيادة السياسية في تحقيق أهدافها الداخلية والخارجية ، وتحقيق أمنها القومي.

المراجع
• سليمان محمد الطماوي ، الوحدة الوطنية ، القاهرة : مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1974 .
• عبد العزيز رفاعي ،وحسين عبد الواحد ، الوحدة الوطنية في مصر عبر التاريخ ،القاهرة : عالم الكتب ،1972

• مجموعة باحثين ، رؤساء الدول أمام حق تقرير المصير وواجب الحفاظ على الوحدة الوطنية والترابية ، فاس : مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية 1994.
• أحمد وهبان ، الصراعات العرقية واستقرار العالم المعاصر ، الإسكندرية :دار الجامعة الجديدة للنشر ،1999
• محمد جابر الأنصاري ، تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية ، ط2 ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1995 .
• ميخائيل غورباتشوف ، اليروسترويكا :تفكير جديد لبلادنا وللعالم ، ط4 ، ترجمة : حمدي عبد الجواد ، بيروت : دار الشوق ، 1999
• جون كاوتسكي ، التحولات السياسية في البلدان المتخلفة ، ترجمة : جمال نعيم عون ، بيروت : دار الحقيقة ، 1980

• فيبي مار ووليم لويس (تحرير) ، امتطاء النمر : تحدي الشرق الأوسط بعد الحرب الباردة ، ترجمة عبد الله جمعة الحاج ، أبو ظبي : مركز الإمارات للدراسات و البحوث الإستراتيجية ، 1995 .
• أريك هوبسباوم ،
• أبو خلدون ساطع الحصري ، محاضرات في نشوء القومية العربية ، مرجع سابق ، ط2 ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1985
• أريك هوبسباوم ، الأمم والنزعة القومية ، ترجمة : عدنان حسن ، بيروت : دار المدى للثقافة ، 1999 .

• عبد السلام إبراهيم بغدادي ، ، الوحدة الوطنية ومشكلة الأقليات في إفريقيا ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1993

• Khin Maung Nyunt. ‘The law to protect and preserve cultural heritage regions’. MP , September 1998


• إبراهيم العيسوى ، قياس التبعية في الوطن العربي ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ،1989 .

http://www.uog.edu.gy/files/documents/prochancellor/toward_national_unity_in_multicultural_societies.pdf

• سمير عبده ، المسيحيون السوريون خلال ألفي عام ، دمشق : دار علاء الدين ،2000

• غوستاف لوبون ، سيكولوجية الجماهير ، ط4 ، ترجمة هاشم صالح ، بيروت :دار الساقي ، 1997

• محمد عمارة ، الإسلام والوحدة الوطنية ، الإسلام والوحدة الوطنية ، القاهرة : دار الهلال ، 1979.




• Hasan Abu Taleb
• , "National unity in Egypt; is it a crisis?" , center for political & strategic studies , Issue 25, Dec.2004

• Cairo institute for human rights studies, Shall we bid National Unity Farewell 30/4/2006


• A lecture about the problem in Alexandria Between Moslems and Christians
• Cairo institute for human rights studies, Shall we bid National Unity Farewell ,30/4/2006

• محمد خليل ، الطائفية والنظام الدستوري في لبنان ، بيروت : المؤسسة العربية للدراسات و النشر ، 1980

• جواد بولس ، الكيان اللبناني و الوحدة الوطنية ، المجلة اللبنانية للعلوم السياسية ، العدد2 ، السنة 1976 .


• جون كاوتسكي ، التحولات السياسية في البلدان المختلفة ، ترجمة : جمال نعيم عون ، بيروت : دار الحقيقية ، 1980
• محمد خليل ، الطائفية والنظام الدستوري في لبنان ، بيروت : المؤسسة العربية للدراسات و النشر ، 1980


• برنار غروتويزن ، فلسفة الثورة الفرنسية ، ترجمة : عيسي عصفور، بيروت : منشورات عويدات ، 1982

• زبغينيو برجنسكي ، بين عصرين : أمريكا والعصر التكنتوتروني ، ترجمة محجوب عمر ، بيروت : دار الطليعة ، 1980

• خلدون حسن النقيب ، الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر ، ط2 ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1996

• منيف الرزاز : الحرية ومشكلاتها في البلدان المختلفة ، بيروت : دار العلم للملايين 1965

• عبد الرحمن خليفة ، أيديولوجية الصراع السياسي ، القاهرة : دار المعرفة الجامعية ، 1999


• سعد جمعة ، مجتمع الكراهية ، ط4 ، م د ، م م ، 1969

• محمد عابد الجابري ، فكر ابن خلدون العصبية والدولة ، ط6 ، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية 1994
• فيبي مار ووليم لويس ، امتطاء النمر : تحدي الشرق الأوسط بعد الحرب الباردة ، ترجمة عبد الله جمعة الحاج ، أبو ظبي : مركز الإمارات للدراسات و البحوث الإستراتيجية ، 1995 .


• شمعون بيريس ، مستقبل إسرائيل حوارات أجراها معه ، روبرت ليتل ، ترجمة : محمد نجار ، عمان : الأهلية للنشر ، د ت

• أحمد وهبان ، الصراعات العرقية واستقرار العالم المعاصر ، الإسكندرية : دار الجامعة الجيدة للنشر، 1999

• برنار غروتويزن ، فلسفة الثورة الفرنسية ، ترجمة : عيسي عصفور، بيروت : منشورات عويدات ، 1982 .



• Cairo institute for human rights studies, Shall we bid National Unity Farewell , 30/4/2006



#عزو_محمد_عبد_القادر_ناجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأثير الانترنت على ثقافة الشباب العربي
- مفهوم الوحدة الوطنية قديماً وحديثاً
- الدور القومي للمناضل أحمد الشريف في المقاومة الليبية
- عدم الاستقرار السياسي في القرن الإفريقي (الجزء الثاني)
- عدم الاستقرار السياسي في القرن الإفريقي (الجزء الثالث)
- عدم الاستقرار السياسي في القرن الإفريقي (الجزء الأول)
- أثر العوامل الداخلية والخارجية فى عدم الاستقرار السياسي في أ ...
- دور بريطانيا في عدم الاستقرار السياسي في سوريا
- اتفاقيات ومعاهدات دولية تجاه منطقة الهلال الخصيب
- وثائق في تاريخ سوريا
- النص الكامل لدستور الجمهورية العربية السورية الصادر في 9/2/1 ...
- حقوق الإنسان بين الدستور السوري والقانون
- الدور الفرنسي في عدم الاستقرار السياسي في سوريا
- الدور الأمريكي في عدم الاستقرار السياسي في سوريا
- أول دستور عربي هو دستور المملكة السورية
- الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة 1958
- الحق في تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية في الجزائر
- من حق كوسفو أن تستقل عن صربيا
- دور دول الهلال الخصيب في عدم الاستقرار السياسي في سوريا
- دور المحور المصري السعودي في عدم الاستقرار السياسي في سوريا


المزيد.....




- أبو الغيط يأسف لاستخدام ‎الفيتو ضد العضوية الكاملة لفلسطين ب ...
- إسرائيل تشكر الولايات المتحدة لاستخدامها -الفيتو- ضد عضوية ف ...
- -الرئاسة الفلسطينية- تدين استخدام واشنطن -الفيتو- ضد عضوية ف ...
- فيتو أمريكي بمجلس الأمن ضد العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم ...
- مؤسسات الأسرى: إسرائيل تواصل التصعيد من عمليات الاعتقال وملا ...
- الفيتو الأمريكي.. ورقة إسرائيل ضد عضوية فلسطين بالأمم المتحد ...
- -فيتو-أمريكي ضد الطلب الفلسطيني للحصول على عضوية كاملة بالأم ...
- فيتو أمريكي يفشل مشروع قرار لمنح فلسطين العضوية الكاملة بالأ ...
- فشل مشروع قرار لمنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة ...
- فيتو أمريكي ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عزو محمد عبد القادر ناجي - محددات الوحدة الوطنية في الفكر السياسي الحديث (الجزء الأول )