أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أبو الحسن سلام - فطنة الكتابة وقطرات المطر















المزيد.....


فطنة الكتابة وقطرات المطر


أبو الحسن سلام

الحوار المتمدن-العدد: 2605 - 2009 / 4 / 3 - 00:44
المحور: الادب والفن
    


فطنة الكتابة القصصية ..في قطرات المطر
- دراسة نقدية لمجموعة" سعدية عبد الحليم" القصصية –

(الكتابة فطنة ).. هكذا يقول "لوك" . (الكتابة خيال ).. هكذا يقول "هوبز" . لم يكن أحد من هذين الفيلسوفين يقصد ظاهر القول الذي ورد علي لسان الروائي الإنجليزي" ألدوس هكسلي" ، في رده علي من سأله: ( كيف يتسنّى لي أن أكتب قصة ؟!) حيث أجابه "هكسلي" ببساطة لا تخلو من العمق ، قال: (عليك بريشة ومحبرة وبعض الأوراق ، وابدأ في الكتابة )
إن غاية ما قال به ثلاثتهم ، علي اختلاف الكلمات ، إنما يرمي إلي دلالة واحدة وهي الإبداع . فإذا قلنا الإبداع فإننا نقول ما قاله الناقد المسرحي الإنجليزي ( ألاردايس نيكول) في كتابه( علم المسرحية) وما قاله الفيلسوف الأمريكي البراجماتي ( جون ديوي) في كتابه ( الفن خبرة) وما قاله الناقد والكاتب المسرحي الأمريكي ( إلمر رايس) في كتابه ( المسرح الحي) حيث يجمعون علي أن الفن ( اختيار وخبرة) و هو ما يتوافق مع ما قاله من قبلهم الناقد العربي العباسي( القاضي عبد العزيز الجرجاني ) في كتابه ( الوساطة بين المتنبي وخصومه) وهو يعرّف صناعة الشعر بأنها ( ذوق ودربة) .
علي ما تقدم فإننا نفهم من مجمل تلك الآراء أن الإبداع الأدبي والفني أساسه الاختيار والخبرة ، ذلك أن الاختيار لا يتم إلاّ إذا توافرت لدينا ذخيرة كافيه من المعارف النظرية والخبرات العملية. ولما كانت الصورة هي تاج الإبداع الأدبي أو الفني الذي هو مبعث ألقه ، وكانت تعتمد علي الخيال مصدرا وعلي الوجدان تبتلا في حالة تزاوج تعبيري سردي لتجسيد هوية المنتج الإبداعي الممتعة المقنعة في آن واحد ؛ وصولا للتأثير تطهيرا أو تغييرا ؛ لذلك استلفتتني فطنة الكتابة في مجموعة القاصة ( سعدية عبد الحليم) فيما أفاضت به خبرتها الحياتية من صور ترقي بكتابتها مرقي الإبداع القصصي .
استوقفتني في البداية ( برقية عزاء) ولا أدري لماذا بدأت بها !! ربما لأنني مازلت متأثرا بالرحيل الفجائي لواحد من أعز أصدقائي ( فتوح الطويل) الذي أرجعني موته إلي ذكري رحيل رفيق عمري الفنان (ناجى عتمان) مغتربا وغريبا في ( قطر) وهو رفيق مسيرة الزوجية للقاصة نفسها ، فقد ظننت من الوهلة الأولي أن تلك القصة هي أثر مباشر يتماس مع وجدان سعدية علي إثر رحيل ناجي .
فرحت عندما انتهيت من قراءتها ، إذ تأكد لي أن سعدية قد اكتسبت حنكة كبار الكتاب والمبدعين في تجنبهم الكتابة عن تجربة ما يمر بها أحدهم ، ويظل يتحاشي العمل عليها إلي أن تتلاشي ملامح وقائعها من ذهنه وتستحيل إلي بقايا ذكريات ؛ عند ذلك تكتبه تلك الملامح الباهتة مخزون مبعثر تبقي له من تلك الذكريات الغائمة ، هكذا فعل شكسبير عندما تحاشي الكتابة تعبيرا عن ألمه الدفين الذي أعقب موت ابنه( هامنت) غرقا ؛ حيث مضت سنوات طويلة قبل أن تتفجر بعدها بقايا الشظايا التي خلّفتها ذكري موت ابنه غرقا ، وكانت شظايا تلك الذكري الأليمة الباهتة كافية لإبداع أروع مآسيه ( روميو وجوليت - هاملت – مكبث – الملك لير) . ومع أن المعري قد فقد بصره وهو في الرابعة من عمره إلا أن إحساسه الشعري بالعمى ظهر خلال لزومياته . ومنها قصيدته التي يقول فيها:
( كأن نجوم الليل زرق أسنة بها من علي ظهر التراب طعين )
تكشف القصيدة عن إحساسه الدفين بالفقد ، الأمر الذي جعله يصور الكون بأسره مطعونا من النجوم ، التي أصبحت في رأيه سيوفا وحرابا حادة أنصالها الموجهة إلي الأرض كلها بما عليها ومن عليها . وهي صورة ما كان ليبدعها خياله لولا تلاشي مأساة فقدانه لبصره بعد أن مرت علي الحادثة عشرات الأعوام . وهكذا صورت سعدية عبد الحليم أقصوصة ( برقية عزاء ) من رماد احتراق فؤادها علي أعز ما عرفته في حياتها ، لذلك لم نلحظ فيما صورت ما ينم عن أثر ذاتي مباشر ، وإنما تمكنت بفطنة الكتابة من تضفير المشاطرة في العزاء ، لتصبح ملتبسة بين ما هو فردي ، وخاص بالتعزية في وفاة المواطن المغترب داخل وطنه والمغترب خارجه ، لتصبح برقية عزاء في وفاة الوطن نفسه .. فلقد ماتت المواطنة فمات الوطن ، فهي برقية عزاء في الوطن الذي سلّم مواطنيه للكفيل برقية عزاء في المواطنة إذن!! هكذا تحول الخاص إلي عام،أوأنهما امتزجا فأصبحا شيئا واحدا . وهذا هو مناط الفطنة ، الذي تسلح بالخيال والخبرة ، فأحال الخيال إلي طاقة تخييل بصمت القصة ببصمة الإبداع.
تتبدي فطنة الكتابة في ( برقية عزاء) كما تتبدي في المجموعة القصصية التي بين أيدينا في خصوصية التصور ، وبساطة العرض ، ودقة التصوير ، وانسيابية التخلص السردي ، مع تدفق الإيقاع .
ولأن المعمار القصصي في أبنية القصة القصيرة يقوم علي حدث بسيط ، لذلك نجد الحدث في ( برقية عزاء) غير متفرّع خارج الحدود التي يسترجعها ذهن شخصية السارد الثاني ( وهو الراوي ) بما يشخص لحالة الإسقاط النفسي التي هي نتيجة اقترابه من الشخصية الرئيسية التي كانت محور الأحداث الماضية المحكي عنها وتعاطفه مع حالتها،التي هي حال الكثيرين ممن يدورون في حلقة الاغتراب المفرّغة ، دون عمل ، أو هدف من البقاء خارج تراب الوطن الأم الذي لفظهم في الثلث المتبقي لهم من العمر، بعد أن بذلوا لأجله النفس والنفيس ، وخاضوا معارك أنظمته التي لا تنتهي ، وكانوا وقودها ، ومات منهم من مات شهيدا ، وتبقي من تبقي ، ليصبح شهيد الاغتراب في وطنه ، ثم شهيد الغربة والاغتراب في وطن غريب قريب معا !! هذا الإسقاط النفسي للمرارة التي عاشتها الشخصيتان ( الشخصية المروي عنها والشخصية الراوية) ، التي تستحضر ما علق في ذاكرتها البصرية والتخيلية من صور ماضي شخصية القصة الرئيسية نفسها ، هروبا من الحاضر ، وتأسيا ببقايا من صور باهتة ، تعويضا عما تعانيه نيابة عن الآخرين من المرتحلين عن الوطن الأم ارتحالا ماديا ونفسيا في آن واحد ، هربا من مرارة الحياة المعيشة المهمشة ، التي عاشتها وعاشها غيرها في الغربة ، والتي انتهت بالشخصية الرئيسية إلي ما انتهت إليه .
هو إذن استحضار قائم علي فطنة القص ، بعرض صور باهتة متداخلة ، مسترجعة من الماضي ، لنصبح هي الحاضر نفسه ، الحاضر البعيد الذي يصبح الحاضر القريب الافتراضي عبر ذهن السارد وخيالاته ، عن طريق تقنية القطع والوصل حيث تمكّن المبدع شاعرا كان أم روائيا من ( تجميع الأفكار ووضعها معا في خفة وتنوّع ، حيثما يوجد تشابه أو تجانس ؛ فتصنع منها صورا بهيجة ورؤى مقبولة في التصور) – بتعبير لوك - ذلك أن قدرة التصور علي ربط الصور المتشابهة تتوسع بالترابط عن طريق التماس بين حاضر الشخصية : ( السارد) وما يرد علي ذهنه من صور تخلفت من الماضي ، غير أنه عادت لتقتحم حاضرها، إذ تبرق في ذهنها وتمضي بسرعة الضوء . ويشكل هذا الترابط لونا من ألوان العادة العقلية ، التي توجد لدينا جميعا،وعن طريقها تتوالد الصور بعضها بعضا ؛ بقدرة تركيز خيال القاص في عملية تجميعه لشظايا الصورة الرئيسية و استدعاء صور أخري متشظية علي هيئة غائمة مبعثرة في فضاء ذاكرة السارد / الراوي ؛ بما يمكنه من أن ينظم فسيفساء الصورة الباهتة لينسج منها جميعا وفي خفة وتنوع صورة يعيد المتلقي تشكيلها بنفسه تشكيلا تخيليا .

علي أن الأفكار في قصة ( برقية عزاء) لا تترابط ترابطا عقليا – حسبما تذهب نظرية (هوبز) وإنما تترابط ترابطا نفسيا – تبعا لنظرية( لوك) حول ترابط الأفكار. وهكذا تؤدي الصور إلي خلق حالة من الترابط العاطفي في تلك المجموعة القصصية ، لأن الشخصيات تعيش حالة غربة وحالة اغتراب في آن واحد. وهي إذ تتأسس علي نظرية الحكى فإنها تقتحم الذهن المتلقي لتحيطه علما بمغبة الاغتراب .
تقدم لنا قصة ( برقية عزاء) شخصية تستشعر القهر ، بعد حياة حافلة بالمعاناة ، فلقد ودّع الأحباب إذ واري من بينهم من واري... وعاش مرارة الحروب ، وتباهي بمشاركته فيها ، لأنها في سبيل إعلاء شأن أمته ، لذا كانت معاناته - آنذاك – معاناة ممتعة ، لا تقارن مع معاناة الحاضر الذي يعيشه ، لأنه حاضر خلا من الرفقة ومن القيم الرفيعة للأيام الخوالي .
علي أن تلك المرارة ، وذلك الشعور بالقهر الذي تصدمنا به السطور الأولي من هذه القصة لابد أن يترجم عبر الصورة السردية المتشظية ، ترجمة مكثفة تنم عن مصداقية التعبير عن تلك الحالة التي تجتاح كيان تلك الشخصية المنقسمة الذات ، مابين حالتين من المعاناة ؟؟ معاناة مرارة الضياع في الحاضر غير المستحب ، ومعاناة الحنين للماضي المحبب ، فضلا عن المقارنة التي تجريها الشخصية عبر استرجاعاتها لصور من الماضي الحاضر وما يقابله من صور الحاضر الغائب علي مسرح ذهنه، بين معاناة الشعور بالفخر ومعاناة الشعور بالقهر. وهنا لا يكون أمام الصورة السردية سوي أن تتزيىّ بزي الكلمات والجمل المتّشحة بالقتامة:
( ورفع جثثا تفحّمت– وودع الأحباب– وعاني الفرقة والعزلة– وترهّلت الآمال) ولنا أن نلاحظ مما سبق ابتداء الجمل الفعلية المتكررة بحرف الواو ( واو العطف) لإلحاق رد الفعل بالفعل . فمفتتح القصة نسج علي منظومة ردود الأفعال ، لتوكيد دور الباعث الخارجي في إرهاق شيخوخة تلك الشخصية - محور الحدث- فضلا عن حالة العطف التي تؤكد حالة تتابع ردود الأفعال بما يشي بحجم المعاناة التي يحملها الرجل علي كاهله.
وترتيبا علي البواعث الخارجية التي تتحكم في مصيره فإن تشخيص حالة الفعل الحاضر باستخدام القاصة للأفعال المضارعة في ثنائية منظومة أفعال الشخصية ، لا تنفي عن أفعال المضارعة ، التي تلت أفعال الماضي في المنظومة اللغوية، محمولة علي لسان السارد في روايته لأزمة ذلك الكهل المغترب ؛ لا تنفي وقوعها كردود أفعال تخفت في لباس المضارعة:
(يدمن مشاهدة التليفزيون – تراوده أحلام الماضي - يدخن بشراهة – ينفض همومه – لا يدري بما يجيب – يرفع عينيه لأعلي طلبا للرحمة –يواجهه إطار خشبي عتيق بشريط أسود - يمسح أتربة علقت بزجاج الإطار ويتأمل الصورة – تتآكل أحلامه – يتناساه الجميع - تندثر أوسمته – يغترب – يلوذ بالصحبة – يعيد جلسات الماضي – يحلو اجترار الماضي – يبقي وحيدا – يشاطر المغتربين سكنهم وخبزهم ولا يشاطرونه زمنه)
إن متانة البنية في منظومة أفعال المضارعة – هنا - تشير إلي أن (البنّاء ) الذي خطط وهندس حائط صد هجوم بواعث القهر بسلسلة أفعال المضارعة ، كان من المهارة والفطنة إلي الحد الذي تشهد به دقة تتابع الأفعال تتابعا منطقيا بحيث يأتي الفعل بعد الفعل كنتيجة للفعل الذي سبقه في منظومة الفقرة كلها. وهي مهارة في الصياغة ، تشهد بفطنة الكتابة للقاصة سعدية عبد الحليم .
لم تخرج صياغة منظومة الأفعال ماضيها وحاضرها عن كونها ردود أفعال للشعور بالقهر ، وهي تعكس الحالة النفسية للشخصية وتصب في مجملها في بؤرة واحدة تتلخص في العبارة الأخيرة المركبة ، التي هي بمثابة تذييل لمنظومة ردود الأفعال التي وضعتها بين الأقواس ، وهي العبارة التي يعلق بها السارد الثالث (الضمني) الذي تتقنع القاصة خلفه ، يعلق علي ردود الأفعال المواجهة لحالة القهر وهي عبارة : ( يشاطر المغتربين سكنهم وخبزهم ولا يشاطرونه زمنه) .هذا التعبير الذي يشخّص مأساة الرجل ؛ حيث يعيش عصره في عصر لا ينتمي أي منهما للآخر . هي مأساة فقدان الانتماء إذن!! وحيثما يغيب الانتماء يغيب الوطن؛ وحيثما يغيب الوطن تغيب المواطنة .
على أن فقدان الانتماء أو غيبوبة المواطنة ليست طرفا وحيدا في معادلة ناقصة؛ ذلك أن الانتماء فعلان توأمان فعلان متكافئان متلازمان ؛ وعندما يشعر المرء أنه مفتقد الهوية في وطنه ، أو أن وطنه يضيق به ، يفكر في الرحيل أو الانتقال إلي مكان آخر ، عبر رحلة استكشاف تقتضيه الانتقال بنفسه انتقالا ماديا ، لاستكشاف واقع جديد في مكان جديد ، يحتمل أن يجد فيه بعضا من نفسه ؛ فيسترجع بعضا من شتات هويته التي افتقدها في وطنه الأم . فإذا ما وفق عبر ارتحاله الاستكشافي هذا إذ وجد ضالته المنشودة ، استقر أو شرع في شيء من الاستقرار. أما إذا لم تسفر رحلة استكشافه تلك عما يرضيه ويطمئنه ، عاش حالة الاغتراب ، وفقدان الانتماء من جديد . وتلك كانت حالة بطل قصتنا هذه . لا يشاطره المغتربون وحدهم زمنه ، مع أنه يشاطرهم سكنهم وخبزهم ، ولكن أهله وذوويه في وطنه الأم لا يشاطرونه زمنه أيضا ؛ مع أنهم يشاطرونه ماله الذي يرسله لهم كلما اتصل بهم ، لا يشاطرونه زمنه ، بينما يشاطرهم مشكلاتهم اليومية عبر الهاتف ، كلما دفعه الحنين إلي التماس رائحة الانتماء ، ورنين الجرس الصوتي لأجرومية اللهجة المصراوية : " يطلب أرقاما بالهاتف ، تجيب زوجة ابنه بجفاف: عمي ابنك يتركني والأولاد حتى منتصف الليل ، يدخن بشراهة برغم تدهور أحوالنا المادية ، يهملني ، لا يلبّي طلبات البيت . تواصل شكاويها ، يستوقفها ، يسألها : متى يعود؟، تجيب : لا أدري ، يغلق الهاتف " هكذا صدمته برودة الصوت إذ توحدت مع برودة الوحدة التي يعيشها هو نفسه ، زوجة الابن والابن يعيشان حالة اغتراب مع أنهما زوجان ، ويعيشان تحت سقف واحد ، لا يشعر الابن ولا تشعر زوجة الابن بانتماء أحدهما للآخر، ولا تشعر الزوجة بانتمائها إلي بيتها ، بيت الزوجية . يعيشان الحالة التي يعيشها هو ( عم اسماعيل) في غربته ، لذلك يغلق سماعة الهاتف ، لأنها لم تحقق له ما كان يأمل من حميمية صوت وطنه محمولا علي صوت من أهله . غير أن صوت زوجة الابن لا يعوض عن صوت أحد من صلبه ، لذا سريعا ما يعاود الاتصال " يطلب أرقاما أخر يأتيه صوت ابنته باكيا : "بابا الحمد لله .. اتصلت في موعدك " ينفض همومه وانفعالاته ، يتفرغ لابنته ، أخيرا يوجد من يحتاج إليه عاجلا يجيبها : ما بك؟ الحياة يا أبي صعبة . الغلاء يقتلنا . مصروفات الأولاد والدراسة . تعبنا يا أبي ، كل يوم شجار ، أزمة يا أبي ، ليس لها من حل . لا يدري بما يجيب . وهي تعلم أن الإجابة المرضية تتمثل في رحلة صباحية إلي مكتب الصرافة وأوراق تفيد تحويل مبالغ نعين الأسرتين علي الحياة ، وليس أمامه إلاّ أن يفعل . يأتيه صوتها : بابا .. هل تسمعني ؟ تنتهي المكالمة أو ينهيها هو ." هنا توفق القاصة في توظيف صيغة ( المسكوت عنه) في مكانها الملائم لها دراميا:
(" يرفع عينيه لأعلى ، طلبا لرحمة من السماء .. يواجهه إطار خشبي عتيق ، بشريط أسود ، يحمل صورتها . يحدّثها: مضى علي غيابك القهري زمنا بعدد سنين الغربة . ترى لو لم ترحلي .. هل كنت ستشكين مما تشكو منه الزوجات ؟ هل كنت ستضيقين بالحياة معي ؟ أحبك الله وأحبّني حين رحلت مفعمة بالود ، فلا أحد يدري ماذا تفعل الأيام بنا. يمسح أتربة علقت بزجاج الإطار ، ويتأمل الصورة ؛ عروسا في ثوب الزفاف ، زفوها إليه عند أول إجازة بعد النصر والعبور " )
الله !! الله!! وكأن الرجل قد كوفئ علي مشاركته في حرب العبور في رمضان 73 بعروسه تلك !! توظيف بديع يوفق مابين الوقف والصورة ليشف عن المسكوت عنه ؛ ما اختفي كاختفاء اللحم في قعر طبق عميق، ملء بالمرق – بتعبير بريخت -
ليس هذا فحسب ، فبلاغة الصورة هنا تستأهل أكثر من وقفة ، حيث تربط قوة ارتباط بالماضي وحنينه الذي يشده إليه ولا يفارقه بقصر مكافأة نصر حرب 73 عليه هو وحده ، ليس هذا فحسب ، بل إرجاع الفضل في تلك المنحة ، ليس للنخبة الحاكمة ، التي حارب هو وغيره لتحقيق مصالحها ، وتثبيت دعائم بقائها وتخليد ذكرها ، ولكن لأهله وأهل زوجته الراحلة . والمسكوت عنه الذي تنضح به هذه الصورة تحقيقا لأثرها الدرامي والجمالي ؛ تتبدي في النقد المستخفي من وراء ظاهرها الأدبي ، بما يشي بالعاطفة الحاكمة التي سيطرت علي إنسانية ذلك الإنسان ، الذي رفع صورة حبيبته الراحلة كعبة يحج إليها كلما عصف به زمان يشارك فيه متاعب غيره وهمومهم ، فوق ما يحمل من هموم ؛ وبهذا الطواف النفسي المتبتل أمام صورة الزوجة يتطهر من كبت عصر يعيش فيه ، بينما هو مسكون بعصره الذي انتهي .أما جمالية ذلك التعبير السردي نفسه فماثلة في أسلوب محادثة الجماد ( صورة الزوجة المعلقة علي الحائط يزين إطارها شريط أسود- علي عادة الثقافة الغربية المتمدنة) ، وأسلوب محادثة الجماد أو الحيوان أو النفس أمام مرآة أسلوب وظف في عديد من إبداعات الشعراء والروائيين والكتاب المسرح ، ومن أمثلته في المسرح اليوناني: ( براكساجورا : فتاة الميادين) في مسرحية ( برلمان النساء ) لأرستوفانيس ، حيث تكلم مصباح مضيئا في يدها عند تسللها خارج بيت الزوجية بملبس زوجها فجرا لتصطحب نساء مؤامرة الانقلاب ضد الرجال والاستيلاء علي البرلمان والحكم ، ولا تخفي علينا الدلالة الرمزية للمصباح ، إذ هو المعادل الرمزي للضوء الذي تحتاجه البلاد بعد أن أظلمت بحكم الرجال.
ولأن هذه الشخصية التي لا يتلاشي الهم الوطني والقومي من كيانها ، فهي لا تكتفي بهمها الذاتي ، بل يسكنها الهم القومي ، لذا تعيش ( كانون وشباط وآذار ونيسان) تتنفس البيانات السياسية المتواترة عبر أذنيها يغفو ويستيقظ علي الترقب ، انتظارا لوعيد طيش اليانكى بضرب العراق. وكعادة كل من تسكنه أفكار القومية يسهر الليالي ويعد الساعات انتظارا للمخلص القومي البطل ، الذي سيهزم ذلك العدو ويلقنه درسا عرفه الغرب من قبل علي يد (صلاح بن يوسف بن أيوب) ومن قبل ذلك عرفه علي يد الظاهر بيبرس . ، عم إسماعيل مازال يعيش المرحلة القومجية ؛ حيث تعكس ظلال الواقع السياسي الفعلي المناقض للفكرة القومجية التي تسكنه نفسها على واقعه الفعلي ؛ وترتد مشفوعة بالنفور ، لأنها لا تتناظر مع الواقع الذهني الذي يسكنه . ولأن فكرة الزعيم مخلّص الأمة هي مثله الأعلى ؛ لذا يتداعي ، مع تداعي صنم الزعامة العربية في عصر عسكرة العولمة ، عصر الرأسمالية المتوحشة ، بأيدي صبية تحرسهم مدافع أعدائهم التاريخيين ، عند ذلك الحد لا مندوحة عن مسكن يخفف عنه دوار الصدمة التراجيدية ، وهو في متناول يده ، ما على أصابعه إلاّ أن تدير زر مذياع السيارة ليتوقف آليا عند غنج لعوب تظن أنها تغنى ، وهنا يشعر بالتفاهة ، لذا يسرع بالبحث عن مضاد حيوي يقتل به ميكروب التفاهة ، ويتعاطاه من أذنيه كلمات من صيدلية نجم والشيخ إمام عيسى ، دون أن يهتم بأن صلاحية ذلك الدواء قد انتهت فور تسليم مراسم التخطيط للمنطقة العربية إلي يد الحاخامية . ، ينهار عم إسماعيل مع انهيار فكرة القومية ، فالانهيار في حياته الخاصة معال موضوعي للانهيار في حياة الوطن ، غير أنه لا ينسي قبل أن يترجل لا ينسي أن يكتب قيمة التحويل النقدي باسم ولده ، والتحويل النقدي باسم ابنته غير أن التحويلات النقدية فور وصولها إليهما تتبعها برقيات عزاء متعددة تحمل أسماء غرباء لا تعرفهم الأسرة . وهنا تطل علينا رأس القاصة، متقنعة خلف السارد ( الراوي ) وتتخذ منه قناعا .



#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المسرح وفن صناعة الأعداء
- فكرة أنصاف الآلهةبين الوجودية والفرعونية
- المسرح وعاقبة العبث بعلاقات الإنتاج
- حكامنا وفن صناعة الأعداء
- الذكاء الاصطناعي بين الرخاء السلمي والرخاء الإحتكاري
- رجل القلعة وعلاقات الإنتاج الثقافي
- فطنة الكتابة القصصية
- الكمبوشة طوباوية معروف وطوباوية هنية
- بلاغة الصورة بين غرق سفينة نوح وفيلم تيتانيك والعبارة المصري ...
- البلطة والسنبلة والمهدي غير المنتظر
- بنات بحري بين محمود سعيد ووليد عوني
- فنون السرد بين الرواية والمسرحية
- الإنتاج المسرحي بين التنمية والأمراض الثقافية
- حتمية التحول بين نهار اليقظة وعمى البصيرة
- المسرح الشعري ولا عزاء للنقاد
- أحلام سيريالية
- ثقافة الفالوظ
- لويس عوض والبصيرة الحداثية
- المسرح ومفهوم الإيقاع
- (البلطة والسنبلة) .. المهدي غير المنتظر


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أبو الحسن سلام - فطنة الكتابة وقطرات المطر