أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - أبو الحسن سلام - المسرح وفن صناعة الأعداء















المزيد.....


المسرح وفن صناعة الأعداء


أبو الحسن سلام

الحوار المتمدن-العدد: 2606 - 2009 / 4 / 4 - 06:29
المحور: الارهاب, الحرب والسلام
    


تجديد ذكري كاتب مسرحي:
هل نقول :" درباله .. وداعا !! " وهل يرحل من ترك أثرا في الناس من أهل حرفته - بخاصة إذا كانت حرفته الكتابة الإبداعية؟! قطعا لم يرحل ، وصدق المتنبى إذ يقول :
" إذا ترحّلت عن قوم وقد قــد روا ألاّ تفارقهم فالراحلون هم"
لا شك أن عبد اللطيف دربالة قد قدّر ألاّ يفارقنا نحن المسرحيين لذا ترك لنا إنتاجه المسرحي ، حتى يجد من يتساءل عما تبقي من درباله إنتاج درباله نفسه يجيب عنه.
ذلك ما تبقّى من درباله ؟! وما الذي يتبقى من الإنسان غير عطائه ؟! لا شيء لا شيء !! عاش درباله عاشقا للمسرح ، يكتب له ويبدع نصوصا تجاوزت ثلاثين نصا مسرحيا ، شكلت مشروعه الإبداعي ، الذي عرض فيه وجهة نظره في مجريات حياتنا الاجتماعية مصريا وعربيا . في بداية معرفتي به كاتبا مسرحيا حدث بيننا صدام في ندوة عامة بقصر ثقافة الحرية بالإسكندرية ، حيث أنابني د. لطفي عبد الوهاب في عام 1984 في القيام بديلا عنه في نقد نص مسرحية درباله ( الأجلاف ينصبون المشانق) مشاركا للناقد جلال العشري . اتبعت في خطة نقدي لذلك النص منهجا قائما علي تحليل ( مادة النص وشكله ثم تعبيره الذي هو مناط تاثير الدرامي والجمالي) ولأن المرحوم الناقد جلال العشري كان قد استهل الندوة النقدية وقال رأيه في النص من مدخل انطباعي ، وأبدي تعاطفا أو مجاملة للكاتب . غير أنه أضطر إلي طلب الكلمة بعد أن انتهيت من عرضي التحليلي النقدي للنص وفق المنهج الذي رسمته لنفسي ، فإذا بالعشري يقلب ظهر المجّن للنص ولعرضه الانطباعي الذي استهل به الندوة ، مراجعا نفسه – فيما يبدو - مراجعة موضوعية لا تبتغي سوى وجه النقد - حرصا علي فن الكتابة المسرحية ، وحرصا علي تجويد الكتابة نفسها. وهنا ثارت ثائرة الأستاذ عبد اللطيف دربالة - رحمه الله- و(باظت الليلة حيث ألغي ترتيبات الاحتفاء بالناقد الكبير ).
وأذكر صداما آخر حدث بيننا في لقاء جمعنا بقصر ثقافة التذوق بالشاطبى عام1988- قبل إغلاقه لخلاف بين مدير عام فرع ثقافة الإسكندرية ومدير القصر الأستاذ نبيل مسعد – وقد كان ذلك خلال مناقشة احتجاجية ، احتدادية أعلن فيها درباله سخطه علي ثورة يوليو وعلي عبد الناصر ، وكنت أنا المدافع عن الثورة وعن زعيمها . كما أذكر أنني دعيت لإلقاء كلمة عن درباله في احتفال أقيم له تحت رعاية الأستاذ الدكتور سيد الخراشى رئيس مجلس إدارة قطاع البترول بالإسكندرية بفندق رمادا بسيدي بشر بمناسبة حصول الأستاذ عبد اللطيف درباله علي جائزة الدولة التشجيعية عن إحدى مسرحياته وقد حضر لفيف من أصدقائه وبعض المسرحيين السكندريين فضلا عن حضور الأستاذ الدكتور عبد الحميد إبراهيم رئيس جماعة الوسطية وأستاذ الأدب العربي - الذي حصلت ابنته علي درجة الدكتوراة من إحدي الجامعات الأمريكية في مسرحي بنتر ودرباله - . وأذكر أيضا لقاء جمعنا والفنان المخرج حسين جمعة والفنان علي الجندي في ندوة أقامها معرض الكتاب بالإسكندرية حول المسرح في الإسكندرية. وأذكر لقائين أخيرين تما بيننا أحدهما في منزله لتسجيل لقاء تليفزيوني لبرنامج ( ذاكرة الوطن)بالقناة الخامسة حول مسرحه بمشاركة د. سيد الخراشي ، د. سعيد الورقي ، أما اللقاء الثاني فكان بمكتبة الإسكندرية حيث أقام إتحاد الكتاب فرع الإسكندرية عام2008 ندوة تكريم لثلاثة المسرحيين السكندريين ( الشاعر الناقد والكاتب المسرحي مهدي بندق – عبد اللطيف درباله – أبو الحسن سلام) .
ومما لا يغيب عن الذاكرة هي الصورة المتكررة لمشاغبات درباله وبندق ، في كل لقاء يجمعهما وهو أمر اعتادت عليه الأوساط الأدبية بالإسكندرية ، وقد كان ذلك – من جهة نظري – أمرا طبيعيا ، ذلك أن منابع كل منهما الفكرية متعارضة – أحدهما محافظ والآخر حداثى – فضلا عن إختلاف مشروع كل منهما المسرحي ، فمسرح مهدي الشعري حداثي أو متجاوز للحداثة أحيانا إلي ساحة التفكيك علي درب التنوير باستعادة بعض من إشراقات التراث المصري الفرعوني أو العربي وإعمال آلة التفكيك فيها خدمة للحاضر والمستقبل المأمول . أما مسرح درباله فيرتكز علي الواقع الاجتماعي المعيش ونقده ، ارتكازا علي طرح عبثية ذلك الواقع من حيث محتواه وصوره، في لغة النثر الفصيح . ومما يجدر ذكره في شأن لغة الحوار في مسرح درباله أن حوار الشخصيات كان باللغة العربية الفصحي ، دون استثناء أو تفريق بين لغة فلاح أو عامل أو جندي أو أحد من عامة الشعب . وقد كان ذلك مثار مناقشات عديدة بينه وبعض النقاد والمسرحيين ، غير أن درباله رحمه الله كان يدافع باستماتة عن رأيه ، متذرعا بطريقة الحكيم فيما زاوج به حوارات شخصياته المسرحية بين الفصحى المهجنة بالعامية إذ هي وسط يينهما ارتكازا علي ما أسماه(باللغة الثالثة) . وجدير بالذكر أيضا ، أن نصوصه المسرحية كلها – تقريبا- قد نشرت كما أنها مثلت بالبرنامج الإذاعي الثاني (الثقافي) بإخراج الشريف خاطر. ولم تخرج له علي المسرح سوي مسرحية ( فر وطار) . رحم الله الكاتب المسرحي عبد اللطيف دربالة الذي أثري مكتبة النصوص المسرحية العربية بعشرات النصوص المطبوعة والمنشورة ، التي تنتظر من يتعرض لها بالدراسة والتحليل والنقد ، للوفاء بحق هذا الكاتب الذي عاش متبتلا بحب المسرح وقضى حياته يكتب له بوله المحب العاشق .

• درباله وموقفه من زعامات تجيد فن صناعة الأعداء:
رسم "عبد الطيف درباله" في مسرحيته التي عنوانها ( فر وطار) صورة نقدية ساخرة لنموذج الحاكم الدكتاتور ، وهي صورة تعكس ببلاغة درامية صورة حاكم من حكام دول العالم المتخلف الذين تمتليء الميادين والشوارع الرئيسية بصوره في البلد الذي يتربع الواحد منهم على سرير الحكم فيه لثلاثة عقود أو تزيد . وهذا يذكرني بمشاهداتي في بغداد عام 2000 في أثناء زيارتي لها على رأس وفد وزارة الثقافة حيث ( فرقة رضا للفنون الشعبية ) كانت مشاركة في فعاليات مهرجان ( بابل ) الدولي الثالث والعشرين للفنون الشعبية . فما من ميدان وقفت فيه ، وما من شارع مرت بي سيارة الضيافة إلاّ وكانت صور الزعيم القائد تطالعنا، وتماثيله تتطلع إلينا . وأذكر وأنا أجلس إلى جوار زميلى وكيل وزارة الثقافة أن طويت صحيفة المهرجان ووضعتها أمامي في المدرج الأثري الكبير ، فإذا بوكيل الوزارة ، يلفتني بشيء من الحزم الذي لا يخلو من عتاب أشبه ما يكون بالتحذير ، لأعيد الجريدة بسرعة ، لأنه لا يجوز أن تطوي فيظهر من صورة الزعيم القائد نصفه الأعلى ، بينما يختفي نصف صورته الأسفل ، لابد من أن تكشف الصورة بكاملها . هكذا كان الأمر بهذه الصرامة ، وهذه القداسة للزعيم الفرد . ذكرتني شخصية الزعيم الغائب الحاضر تمثاله في غرفة نوم عروس مع عريسها الشاب في أول لقاء معاشرة زوجية شرعية توشك أن تتم بينهما في ليلة عرسهما ، وفي مسكنهما الخاص ، حيث قد تقضي البروتوكولات الرسمية لنظام الحكم الكاريزمي الشمولي الأوحد ، بوضع تمثال للزعيم الأوحد في غرفة العروسين ، هدية من الزعيم بمناسبة عرسهما ، وهو أمر حال أضاف إلى حالة التوتر الطبيعية المصاحبة لشاب وفتاة ، في أول لقاء شرعي بينهما المزيد من التوتر، وحال من ثمّ دون قدرة من العريسين على التركيز فيما كان عليهما أداؤه من واجب شرعي مقدس . حيث يتوهمان بأن تمثال الزعيم ينظر إليهما!! وهنا يحاول الشاب التخفيف من فزع العروس ، فيدير وجه التمثال نحو الحائط ، ليطمئن العروس الخجلة إلى أن التمثال الزعيم ( وشه في الحيط) ، قد أعطى ظهره للسرير. غير أنها كانت ( فرحة ما تمّت) ذلك: أن التمثال – ربما رغب في أن يختلس النظر – فاختل توازنه وسقط مغشيا عليه ، وتحطم . وهنا ( انقلب الفرح إلى مأتم) ، دار كل من العريسين حول نفسه . ماذا سيحدث ،لهما في الصباحية عندما يأتي التجريدة الرسمية لتسلم التمثال ، بعد أن ناب عن الزعيم في الفرجة على طقوس الخلوة الشرعية الأولى لعريسين شابين ؟! وقبل أن يلم أيا منهما شعث نفسه المبعثرة ، إذا بصفارات الإنذار تنطلق من كل أرجاء الحي الذي يقع في دائرته مسكن العروسين ، وقبل أن يفكر أيا منهما في كيفية مواجهة قائد التجريدة الاستخباراتية ، التي لاشك جاءت مهرولة على إثر الإشارة التي لابد أن تكون قد صدرت من التمثال مستغيثا بمركز القيادة العليا ليدركوا الجناة الخونة المتأمرين ضد أمن الدولة . وهل هناك أمن دولة غير أمن المندوب السامي للزعيم القائد ؟! على أنه ما كان يجب أن يظن العروسان هذا الظن السيئ في دولة الزعيم القائد !! لقد خاب أفق توقعاتهما ، ذلك أن قائد التجريدة الاستخباراتي ، يهون من أمر الحادث ،ويخفف من روع العروسين ، ويكشف عن سماحة الزعيم القائد ، الذي قدر لكل شيء قدره ،إذ عظمته يدرك أن بعض التوتر ، لا بد أن يصيب كل من طالع وجه عظمة مندوبه السامي ، ومن ثمّ يكون طبيعيا أن يؤدي الهلع بمن ينظر طلعته البهية المهيبة إلى ما كان منهما عند المواجهة الأولى لفخامة مندوب القائد الزعيم . الأمر بسيط كل البساطة وعادي ، في لحظات ، سيصعد الرجال بنسخة بديلة لتمثال فخامة الزعيم القائد لتنوب عن فخامته في مباركة خلوتهما حتى تكتمل لها الشرعية . وفي التو واللحظة يخل حملة النسخة الجديدة البديلة لينصبوا تمثال الزعيم القائد في مواجهة سرير العروسين .
تذكرني هذه الدراما البرلسكية الطريفة بما كان يحدث بدءا من الملك هنرى – الملقب " بذي الساقين الطويلتين " – والتي تتمثل في حق الأمير الإقطاعي بالليلة الأولي لكل عروسين من خدم الإقطاعيات أو الإمارات في العصور الوسطي ، حيث يدخل الأمير بالعروس قبل العريس نفسه ، وهو الأمر الذي لم ينته إلاّ بعد التجريسة الانتقادية التي صنعها عرض مسرحية ( زواج فيجارو) للكاتب الفرنسي ( بو مارشيه) في القرن السابع عشر. فانتهاك خلوة عروسين في ليلة عرسهما الأولى تمت بمناظرة تمثال الزعيم القائد لطقوس الخلوة !!
هكذا دربالة رسم نموذج الزعامة في بلاد عصرية يعيش حكامها المزمنون بعقلية القرون الوسطى ، فيضعون أنوفهم في أخص خصوصيات أفراد شعوبهم تحت شعارات ( كبير العائلة ) أو ما أنزل الله به من سلطان !!
• مقولة المسرحية:
نخرج من هذه المسرحية الساخرة بمقولة مؤداها: أن الطغاة يجيدون صناعة الأعداء ، ذلك أن الديكتاتور يعيش حالة رعب دائم من عدو موهوم ، يصنعه لنفسه ولشعبه الذي يستحيل عندهم إلى شبح مخيف ومرعب ، على مدار اليوم – ليله ونهاره- ذلك إن لم يصنعه له زبانيته ومستشاروه المقربون. ذلك هو المغزى الذي تشخصه لنا مسرحية عبد اللطيف درباله ( فر وطار).
والسؤال الذي يثيره ذلك المغزى الذي يشخصه المؤلف في مسرحيته تلك هو ( لماذا لا يجيد الطغاة سوى فن صناعة الأعداء؟! ) والذين يحكمون شعوبهم من منطلق ( رب العائلة) حكما بطريركيا !! ويأتينا الجواب من مقولة مهمة ل(ميكيافيللي) – صاحب كتاب الأمير – الذي ينتصح به كل الحكام ، حيث يحرض الحاكم ضد شعبه فيقول له : " إذا لم تصنع لهم قضية جعلوك قضيتهم"
وسواء قرأ الحاكم الفرد الطاغية كتاب الأمير أم لم يسمع به مجرد السماع ، فإن طبيعة التسلط التي هي أصل في جيناته البيولوجية وميماته الوراثية الثقافية ، تدفعه دفعا غريزيا نحو الاستبداد بالرأي ، وهو لم يزل بعد في طور الطفولة . لذلك يعمل بالدفع الذاتي – فور توليه سدة الحكم – على إصدار القرارات الفجائية العشوائية ، حتى يشغل أفراد شعبه ويربكهم . وبذلك يصنع لهم كل يوم – وربما كل لحظة – قضية جديدة مربكة ، حتى لا يتح لأحد من شعبه فرصة للمطالبة بشيء ، ليظفر هو وزبانيته بكل شيء؛ مكتفيا بالخطب والكلمات ، ينثرها عبر القنوات الإعلامية والإذاعات . وليس غريبا ميل الحاكم الفرد الكاريزميالدائم للخطابة ، فهي ( ديماجوجية متأصّلة في كل ديكتاتور ) تراه يدير المعارك الحقيقية التي ورط فيها أمته؛ عبر مكبرات الصوت من غرف النوم ، فهو يخطط للحروب دون أن تكون هناك معارك أو دراية بفنون الحرب ، بل دون أن تكون له أية صلة بالحياة العسكرية . وهو لا يؤمن بأن مستقبل الأمم لا تصنعه أوامر زعاماته المهوشة ، بل هو يعتقد بأنه هو ، وهو وحده صانع الحاضر والمستقبل ، وهو صمام الأمن والأمان وسبب رخاء شعبه ، ويكفي الشعب أن يكون زعيمه الأوحد هو الحر الوحيد ، فهو الرمز ، ومادام هو الحر الأوحد وهو رمز أمته فإن شعبه يكون هو الحر . ألم يدبج له مثقفه الشقي شعار ( الكل في واحد) استلهاما من الحديث النبوي الذي يحفظه كل مؤمن ( "إذا كنتم ثلاثة فأمّروا أحدكم" ).
ذلك هو المغزى الأساسي لمسرحية ( فر وطار) .
• الخطوط الرئيسية للمسرحية:
• لأن المسرحية الهادفة لا تقف عن حدود الإمتاع فحسب ، بل تتجاوز تلك الوظيفة إلى الإمتاع وتعديل السلوك وإيقاظ الضمائر أو تغييرها ؛ لذا فقد وضع درباله نصب عينيه – عبر وعيه أو عبر حسه – وضع المعلومة على لسان الشخصيات بحساسية وفن ، بحيث تصبح جزءا من وعي الشخصية نفسها، بحيث يستشف منها المتلقي المغزى الذي أراد المؤلف نفسه إيصاله . وبذلك يستطيع المتلقي – بقليل من التركيز – أن يقرأ فكر الكاتب دون تلفظ الشخصية به لفظا مباشرا . وقد استدعاه ذلك إلى بث أفكاره الفرعية التي تصب جميعها على تنوع أسلوب صياغتها محمولة على لسان ما يعرف دراميا بالشخصية القناع حيث يتخفى الكاتب خلفها.
• مقولات الشخصية القناع :
في سياق بنية الحوار تتخفى المقولات الفرعية لتعبر عن الدلالات المتعددة المستشفة والمحمولة على لسان (الشخصية القناع) ومنها:
• الإنسان الخائف يصنع أشباحه بنفسه أو يصنعها له بعض المقربين منه.
• حالة التهديد الدائم ، تجعل الإنسان يكشف من تلقاء نفسه عما عزم على إخفائه .
• الخائف متهم دائما من الغير – من دون اتهام –
• لا مستقبل لمجتمع بعيش حالة رعب دائم من شبح حاكم مستبد.
• الزعيم الديكتاتور ، يحرك كل الموجودات وهو غائب غيابا ماديا.
• الديكتاتور شبح لا يظهر إلاّ في الظلام الاجتماعي لوطنه.
• الأسلوب والبناء الفني للنص:
تظهر طرافة مسرحيات درباله في أنها تخدع المتلقي لها ، فما أن تبدأ تجدها بأسلوبها التقليدي - من حيث إطارها الخارجي- ، إلاّ وتنقلب سريعا إلى أسلوب غير تقليدي . فهي تبدو تقليدية في بنيتها الكبرى ، فإذا دلفت متأملا ومحللا بنياتها الصغرى ؛ أخرج لك العبث لسانه . ولكنه عبث واقعنا العربي السياسي المعيش الذي يشكل كابوس حياته اليومية .وهذا الأسلوب يسير بالفكرة الأساسية على النقيض من أسلوب كتابة توفيق الحكيم الذي تبدأ مسرحياته الطليعية بداية درامية غير تقليدية ، لتنتهي بنهايات تقليدية ، في حين تبدأ مسرحيات درباله تقليدية لتتحول بنيتها الفرعية ( الصغرى ) إلى الأسلوب غير التقليدي
* إنتاج الخرافة في بنية حدثية:
تأسست فكرة المسرحية على حكاية ذات خرافة – بالتعريف الأرسطي غيرأن الكاتب يعيد إنتاجها في بنية حدثية ، لتناسب عصرنا ، عصر المعلوماتية ، فالزعيم أو الملك الطاغية ( سامبو) ، يرسل الورود مع مندوبه السامي لتهنئة العروسين ومعها صورته لتوضع بأمر ملكي سام في مخدع الزوجية إلى جوار السرير . ويتلقى العروسان الهدية بالامتنان والعرفان ، ويمتثلان للأمر الملكي السامي . غير أنهما فى غمرة النشوة ، وفي أثناء أدائهما لرقصة الفرح منفردين في غرفة نومهما يصطدمان بالصورة الملكية الضخمة فيتهشم زجاجها . وقبل أن يعبر أي منهما عن الحسرة أو الندم والخوف ، يدق عليهما أحدرجال الحرس الملكي أو الشرطة جرس الباب الخارجي للمسكن ، يفتح الباب والرعب يسيطر عليهما يسأله الشرطي ماذا حدث في شقتكما؟ ، ودون أن ينتظر الرد يقتحم السكن ويتفحصه ، حتى يقف إلى جوار الصورة المهشمة ، فيوجه لهما الاتهام :
" الشرطي: (يصرخ) هذه طريقتكما في التعبير عن آرائكما
العريس : نحن في ليلة زفافنا ..
الشرطي : أنتما تكرهان الزعيم سامبو ( النص : صص18 19 )
يدفعان الاتهام عن نفسيهما بأنهما على العكس مما يقول أو يظن كانا مستمتعين بقدسية صورة الزعيم . يطلق الشرطي صافوره عندما ينصت إلى صوت صافور سيارة تمر في الشارع ، فيصعد ( العمال يحملون تمثالا ضخما للزعيم سامبو ، وبحجمه الطبيعي ، ليضعونه في غرفة نوم العروسين وينصرفون . غير أن العروسين ينصتان إلى وقع أحذية غليظة النعال تروح وتجيء أمام باب مسكنهما فينكمشان ، باعتقادهما أنهما يعيشان حالة حبس ، فهما سجينان في غرفة النوم ، يختلسان النظر من خلف ستارة ليجدا أن حركة السير المنتظم بخطوات عسكرية ، ليست لشرطي ، فيرتد بصرهما إلى داخل غرفة النوم ليكتشفا أن التمثال الزعيم بداخل الغرفة هو الذي يذرع الغرفة مجيئة وذهابا . كما لو كان التمثال ( روبوت) هكذا يوظف دربالة تكنولوجيا الغرب في قهر الشعوب المتخلفة. كما يرمز إلى أن زعماء البلدان المتخلفة ما هم إلاّ روبوتات من صناعة الغرب لقهر شعوبهم .
هكذا تحولت فكرة الأشباح في عصر المعلوماتية إلى تماثيل لزعماء بلاد تحكمها العسكرتارية ، إذ لم يعد إنسان العصر يؤمن كثيرا بفكرة الأشباح التراثية ؛ فقد حّلت محلها تماثيل زعماء الأمم المتخلفة ( عربية و إسلامية ، آسيوية وإفريقية ولاتينية) فالزعامات في تلك البلاد هم الأشباح ، ولا أشباح سواهم ف] هالمنا اليوم ، فالدكتاتور شبح لا يظهر إلاّ في عتمة الاجتماعية والظلمة المدنية :
" العروس: التمثال ثابت في النور
العريس: ومتحرك في الظلام " (نفسه ص 28)
إذن لتمثال الزعامة خصائص الأشباح ، لا ظهور له إلاّ ليلا . ، ومن ذا الذي يعيش مع شبح في غرفة عرسه ، ليلة زفافه ؟! لذلك تطلب العروس من رجلها أن يدير وجه التمثال إلى الحائط ، وألاّ يطفئ ضوء الغرفة ، منعا للتمثال من الحركة:
" العروس: ... ما رأيك لنغيّر اتحاه وجهه إلى الناحية الأخرى .. إلى الحائط .
العريس : فكرة لا بأس بها . ( يحاولان تحريك التمثال وتغيير وضعه .. فجأة ينهار ويتحطم تماما ..) ( نفسه ص 28)
وهنا تكون الطامة الكبرى ( أو الذروة الدرامية بحسب النظرية الأرسطوية) فالتمثال فيما يبدو ضد اللمس !! ولم لا ، فهو زعيم ، وهو دكتاتور ، لذا يتحطم فور لمسه فكل ديكتاتور هو كائن هش ، خرافة ، تتلاشي عند ملامستها ملامسة مادية ، فكأنه لا وجود لتلك الزعامة الصنم إلاّ في ذهن أناس مهددين بتصوراتهم الموهومة عن الزعماء
*عمد المؤلف إذن إلى تفريغ الخرافة من مضمونها التراثي ، وشحنها بمضمون جديد في صورة جديدة تتناسب مع عصر التكنولوجيا المعرفية .
• جماليات الصورة :
تنبع جمالية الصورة في الجمع بين نقيضين في موقف درامي واحد حيث اللقطة العبثية في موقف منطقي ، فمن المنطق أن يختلي العروسان في فراش عرسهما ، ومن العبث أن يتجسس على خلوتهما أحد – حتى ولو كانت صورة أم العروس أو صورة والدة العريس – أما تجسس صورة زعيم البلاد وحاكمها ، فهذه مبالغة ما بعدها مبالغة. على أن هدفها التهكم والسخرية ، حيث مغايرة العرف الاجتماعي بما هو قلب للمألوف في ثقافة الإنسان حتى في المجتمعات البدائية أو المشاعية الفوضوية.
ومن المنطق أن يدور غزل بين العروسين ، مع تبادل القبلات والهمسات في ليلتهما الأولى ، لكن من العبث أن ينصرف العريس عن أداء طقوس الغزل ، إلى الحديث مع عروسه في الأمور السياسية ، وهي تنصت له ببلاهة إلى وصف شوارب الزعيم وهو يقف أمام صورته مشيرا بإعجاب إلى ضخامة جثة الزعيم وطول شاربه الذي يقف عليه الصقر!!
" العريس : .... آه .. ياإلهي !! كم هو رجل ضخم .. ضخم جدا ( يقيس شاربه) شاربه شبران ( يحضر كرسيا ويقيس طوله) أطول منّي بأربعة أشبار" (ص 12)
هذا سلوك عبثي ، حتى وإن كان لشغل الشخصية نفسها بشيء ما في أثناء دخول العروس إلى الحمام – افتراضا – فالمنطق أن يفكر في العروس ويتخيل ، تمهيدا لحميمية اللقاء ، أما أن ينصرف عن التركيز في (ذبح القطة) لعروسه فهذا هو العبث بعينه . وهذا التناقض في مخالفة المألوف في مثل ذلك الموقف الذي هو حلم العرسان ، ففيه ما يستفز شعور المتلقي من الجنسين ، وطالما أنه موقف مستفز ، فهو إذن محرك للشعور ، والجمالية ماثلة في قدرة الصورة الدرامية على تحريك شعور المتلقي
لا يجد العروس وعروسه حلا لمشكلة تحطم التمثال إلاّ أن يقولا ما قاله الفران لصاحب الإوزة في مسرحية ( مجلس العدل) عندما جاء صاحبها لاسترداد إوزته بعد أن أنضجها له الفران ، فبادره الفران بالقول : " طارت" وعندما وقفا بين يدي القاضي المرتشي زجر صاحب الإوزة : ( ألا تؤمن بالله ..ألاذ تؤمن بالآية الكريمة التي تقول : " يحيي العظام وهي رميم" ) وهنا أسقط في يدي الرجل صاحب الحق . وهكذا استلهم دربالة عنوان نصه المسرحي ( فر .. وطار) من عبارة الفران لصاحب الإوزة . كما ختما موقفهما أمام المسؤول الذي جاء للتأكد من أن التمثال في أتم صحة وأقصي درجات الانتشاء ، وكانا قد تخلصا من حطامه بعد تهشمه ، فأجاباه في صوت واحد :" فر .. وطار "
* الخلاصة:
هذه المسرحية من حيث الشكل تتخذ الإطار الواقعي ، والمضمون العبثي .
وإذا كانت الدراما العبثية تقوم على طلب المنطق في واقع عبثي ؛ فإن دربالة يعكس ذلك المفهوم ؛ إذ يجعل واقع الأحداث منطقيا ، بينما الطلب عبثيا .
وإذا كانت الكتابة الدرامية العبثية ترى العبث في الشكل ، فإن دربالة يشخص لنا العبث في المضمون ، متخذا روح التهكم من أحوال حكام البلاد المتخلفة ، من زعامات عصرنا الجوفاء ، التي يطلع علينا الواحد منهم من أيّة فرجة بين حائطين ، حتى لم يتبق لأي منهم إلاّ أن يشارك الرجل في فراش عرسه في ليلته الأولى.
* تؤكد هذه المسرحية الموشاة بصور برلسكية أن السياسة تدخل في كل شيء حتى في فراس العرس ، وتنفي إلى الأبد – ربما- قول القائلين ( فلنبتعد عن السياسة ، عملا بالمثل السائر : ابعد عن الشر وغني له ) ذلك أن السياسة وراءك ، والسياسة أمامك وعلى يمينك وعلى شمالك . فأنت لا تستطيع أن تفر أو تطير ، حتى مع إيمانك بما استشهد به قاضي مجلس عدل توفيق الحكيم.



#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فكرة أنصاف الآلهةبين الوجودية والفرعونية
- المسرح وعاقبة العبث بعلاقات الإنتاج
- حكامنا وفن صناعة الأعداء
- الذكاء الاصطناعي بين الرخاء السلمي والرخاء الإحتكاري
- رجل القلعة وعلاقات الإنتاج الثقافي
- فطنة الكتابة القصصية
- الكمبوشة طوباوية معروف وطوباوية هنية
- بلاغة الصورة بين غرق سفينة نوح وفيلم تيتانيك والعبارة المصري ...
- البلطة والسنبلة والمهدي غير المنتظر
- بنات بحري بين محمود سعيد ووليد عوني
- فنون السرد بين الرواية والمسرحية
- الإنتاج المسرحي بين التنمية والأمراض الثقافية
- حتمية التحول بين نهار اليقظة وعمى البصيرة
- المسرح الشعري ولا عزاء للنقاد
- أحلام سيريالية
- ثقافة الفالوظ
- لويس عوض والبصيرة الحداثية
- المسرح ومفهوم الإيقاع
- (البلطة والسنبلة) .. المهدي غير المنتظر
- طالما .. وطال ما


المزيد.....




- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...
- انفجار ضخم يهز قاعدة عسكرية تستخدمها قوات الحشد الشعبي جنوبي ...
- هنية في تركيا لبحث تطورات الأوضاع في قطاع غزة مع أردوغان
- وسائل إعلام: الولايات المتحدة تنشر سرا صواريخ قادرة على تدمي ...
- عقوبات أمريكية على شركات صينية ومصنع بيلاروسي لدعم برنامج با ...
- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...


المزيد.....

- كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين) ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل / رشيد غويلب
- الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه ... / عباس عبود سالم
- البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت ... / عبد الحسين شعبان
- المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية / خالد الخالدي
- إشكالية العلاقة بين الدين والعنف / محمد عمارة تقي الدين
- سيناء حيث أنا . سنوات التيه / أشرف العناني
- الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل ... / محمد عبد الشفيع عيسى
- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير ... / محمد الحنفي
- عالم داعش خفايا واسرار / ياسر جاسم قاسم


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الارهاب, الحرب والسلام - أبو الحسن سلام - المسرح وفن صناعة الأعداء