أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - يوسف محسن - ميثم الجنابي في سؤال التوتاليتارية؟















المزيد.....



ميثم الجنابي في سؤال التوتاليتارية؟


يوسف محسن

الحوار المتمدن-العدد: 2600 - 2009 / 3 / 29 - 09:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


التوتاليتارية السياسية
مقدمات في تشريح الظاهرة الصدامية
تقديم وحوار يوسف محسن



منذ العام 2003 ولحد الان لم يتم طرح سؤال التوتاليتارية الصدامية في الثقافة العراقية حيث تم وضع هذا السؤال طي الكتمان الفكري ولم يتم وضع هذه الظاهرة السياسية والتي هي انتاج تركيبي معقد للبنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية تحت التفحصات النقدية وهذا يدل على عجز بنية الثقافة العراقية عن طرح الاسئلة والاشكاليات وذلك لكون الحقل الثقافي العراقي يستمد مرجعياتة من الثقافات الماركسية التقليدية وثقافات الفكر القوماني العربي او الثقافات الاسلاموية الشعبوية مما جعل الثقافة العراقية عاجزة عن طرح نفسها للتداول في تاطيرات الفكر العالمي فضلا عن ذلك ما تشكلة عملية انتاج المفاهيم والمقولات وذلك لاختزالها نتائج الفكر ومنحه دلالات واضحة للتواصل المعرفي بين الجماعات البشرية رغم اختلاف اللغة والتجارب الفكرية . وبقدر ما تنتظم المقولات والمفاهيم، وتأخذ مكانها في دورة الشغل والاستعمالات ينمو الفكر وتتراكم المعرفة. أما في حالة انكفاء المقولة أو المفهوم على ذاتها وانغلاقها وانعزالها يصبح موت الفكر أمرا محتوما.
فقد ظهرت أعمال المفكر ميثم الجنابي داخل الوسط الثقافي العراقي بعد 2003 لتصدم بصلابة الثوابت العقائدية والأيديولوجية والأنماط المعرفية السائدة في المجتمع العراقي وخاصة قطاع المثقفين وكان ظهور كتبه الفكرية السياسية (العراق ومعاصرة المستقبل) و(العراق ورهان المستقبل) و(العراق والمستقبل – زمن الانحطاط وتاريخ البدائل) (فلسفة الثقافة العراقية البديلة) و(أشجان وأوزان الهوية العراقية) و(حوار البدائل) تمثل بحد ذاتها مسحا شاملا للتركيبات الثقافية والسياسية وتداخل فيه التاريخي والاجتماعي ومثل أنموذجا جديدا تماما لأدراك تاريخ المجتمع العراقي
حيث أن هذه الأعمال الفكرية السياسية تحقق انفصال عن البنية المرجعية للثقافة العراقية. وهي محاولة لتأسيس نمط ثقافي مفارق أو بعبارة أدق بناء منظومة فكرية فلسفية لها منهجها الخاص ومفاهيمها وتصوراتها وأحكامها. ولكون هذا مشروع هو أولا وقبل كل شيء مشروع نقدي لمعرفة مكامن التوتر والتأزم داخل بنية المجتمع العراقي، وثانيا لفهم ديناميكية الظاهرة العراقية، لذا فان أي عملية عزل للمفاهيم والمقولات يمكنها أن تولد فرغ معرفيا كبير. من هنا تصبح إعادة التفكير بهذه الجوانب مسألة علمية ضرورية
فقد تم اجراء حوار مطول مع بروفسور ميثم الجنابي سوف يصدر بكتاب مستقل حول تشريح الظاهر الصدامية ورتباطاتها البنيوية بشبكة البنى وازمات التكوين للدولة العراقية فضلا عن تحليل اليات الضبط والسيطرة الايديولوجية في الدولة الاستبدادية الصدامية ننقل جزء بسيط منة لتعميم الحوار والمناقشات حول هذة الظاهرة




• نشأت التوتاليتارية في تاريخ أوربا كفلسفة بنائية حيث تكونت من مصادر متعددة فكرية وسياسية واجتماعية وتداخلت عناصر متناثرة غير متسقة لتأخذ شكلها النهائي. ما هي اصول الفلسفة التوتاليتارية؟
من الصعب الحديث عن "اصول فلسفية" مستقلة للتوتاليتارية. بمعنى أن من الصعب الحديث عن "فلسفة توتاليتارية" مستقلة قائمة بذاتها. بما في ذلك عن تلك الفلسفات التي اقترنت بها النظم السياسية التوتاليتارية كالشيوعية (الماركسية واللينينية والستالينية وغيرها) والفاشية والاشتراكية القومية(النازية). فالتوتاليتارية أيديولوجية وحالة ومنظومة فريدة وحديثة لحد ما من التحكم بالدولة والفرد والمجتمع والروح والجسد. وإذا كان بالإمكان العثور على صفات مشتركة بينها وبين الأديان و"مؤسساتها" اللاهوتية، كما هو الحال بالنسبة للكنسية، بما في ذلك في اشد حالاتها انحطاطا ودموية (العصر الوسط ومحاكم التفتيش والحروب الصليبية والدينية)، فان الخلاف يبقى كبيرا ولحد ما جوهريا. وذلك لان الأديان ومعتنقيها "يؤمنون" بما يفعلون بوصفهم جزء من "إرادة إلهية" باقية في نصوص "مقدسة" (توراة وإنجيل وقرآن). بينما التوتاليتارية تضع "إرادة الحزب" و"القائد" فوق كل اعتبار. مما يفرغها من فكرة القانون والشريعة والنوازع الأخلاقية. كما أن الفكرة الدينية عامة ومن ثم تتمتع بالقدرة على البقاء، بينا التوتاليتارية جزئية وعابرة.
من هنا عدم دقة الفكرة التي يحاول بعض الفلاسفة والمفكرين والمؤرخين ربط الفكرة التوتاليتارية بأفلاطون وهيغل ونيتشه وغيرهم. فعندما تناول بوبر هذه القضية في كتابه (المجتمع المفتوح وأعداءه) الصادر عام 1945، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة، فانه وجد المصدر الفكري للتوتاليتارية في فلسفة أفلاطون السياسية، استنادا إلى انه أول من قال بان العدالة هي ما يفيد الدولة ويستجيب لمصالحها. مما جعل من فلسفة أفلاطون اقرب ما تكون إلى هندسة سياسية اجتماعية طوباوية. والطوباوية تؤدي بالضرورة إلى العقائدية الجزمية. وليس من الصعب نقض هذا النتيجة، وذلك لأنها مجرد تأويل جزئي لبعض آراء أفلاطون.
إن فلسفة أفلاطون، بل كافة الفلسفات والأديان الكبرى تحتوي بالضرورة على ما يمكنه أن يمدّ التوتاليتارية بأفكار معينة، كما تساعدها بصورة عرضية على تشحذ وعيها الخطابي وهمومها الوجدانية، وذلك لان التوتاليتارية رؤية نفسية ذهنية جمعية ونظام شامل. من هنا إمكانية واحتمال استعمالها لمختلف الأفكار والقيم والشعارات والممارسات التي تخدم فكرة الواحدية.
والواحدية فكرة كبرى. من هنا "كبر" التوتاليتارية وضخامة رؤيتها لنفسها وغاياتها. ومن هنا ايضا حبها للضخامة والتضخيم في كل شيء. بحيث يمكن رؤيته في تسييرها للمظاهرات المنظمة الكبرى واستنفاذ طاقة الضمير والوقت على أمور تافهة، وحب البنايات الضخمة والمشاريع "الكبرى" والتماثيل واللوحات والجداريات الضخمة. ولم يكن ذلك معزولا عن هشاشتها الداخلية وضعفها الذاتي، الذي يمكن العثور عليه في التهامها الفج لقشور القيم والشعارات الرنانة.
إنني أورد هذه الأمثلة من اجل التدليل على أن التوتاليتارية بوصفها نفسية وذهنية خاصة غير قادرة على تمثل الفكر الفلسفي الكبير. انها تقدر وتعمل فقط على تطويع القيم الأيديولوجية، كما نراه بجلاء على نماذج البلشفية (اللينينية) والستالينية والموسولينية والهتلرية. فهي جميعها تفتقد إلى إدراك ومعرفة التراث الفلسفي. فقد كانت معارف لينين الفلسفية (بوصفه الأوسع معرفة مقارنة بمن جرى ذكرهم) بسيطة للغاية ومحصورة بالماركسية المسيسة فقط. إذ لم تتعد معارفه بهذا الصدد أكثر من قراءات سريعة وشخصية لكتب قليلة، كما نعثر عليها فيما يسمى "الدفاتر الفلسفية"، أي في التلخيص الذي لا يتعدى عشر صفحات متعجبة من "اكتشافات" عادية!! إضافة إلى كونها لا تتعدى أكثر من حبيبات الملح الضرورية لطبخة الشهية "الماركسية". وما عداها لا شيء.
وفيما لو تناولت هذه القضية ضمن سياق الرؤية الفلسفية الصارمة، فان من الممكن القول، بان الفلسفة والتفكير الفلسفي العميق يخلو من إمكانية التأسيس النظري للنزعة التوتاليتارية. إذ لا يمكن العثور على منظومة فلسفية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة أسست للمشروع التوتاليتاري. إذ يخلو منها الفكر الفلسفي الإغريقي والصيني والهندي والإسلامي.
وإذا كانت الفكرة الجوهرية للتوتاليتارية تتمحور حول الواحدية، وبالتالي تحتوي على عناصر الوحدانية، فان الخلاف بينها وبين التراث الفلسفي الوحداني (بالمعنى الفلسفي) يبقى جوهريا ولا يمكن ردم الهوة بينهما. فالوحدانية الفلسفية لامبيدوقلس والغزالي وابن عربي وهيغل وأمثالهم هي نفي شامل لمضمون التوتاليتارية.
التوتاليتارية هي منظومة التوليف الخربة للعناصر المتناثرة في المنظومات الأيديولوجية من قيم نفسية وأوهام سياسية وخيال شعبي محكوم بأزمات للقادة والجماهير في مراحل الانعطاف العاصفة للدولة والأمة والثقافة، أي في مراحل "المصير" القومي المتأزم. من هنا ترابط احدهما بالآخر بوصفهما وجهان لحالة واحدة – الأزمة البنيوية الشاملة للدولة والأمة والثقافة من جهة، والصدفة القاتلة للعقل والضمير التاريخي السليم من جهة أخرى. وليس مصادفة أن تلتقي في خصائص تفكيرها الأسطوري، وغاياتها الكونية الكبرى، وأساليبها العملية رغم تباين شعاراتها الأيديولوجية (القومية والأممية وغيرها). من هنا إمكانية توظيف بعض الأفكار الفلسفية لهيغل ونيتشه في التوتاليتارية الألمانية الهتلرية، وكذلك الانتقاء المتحزب للتراث الفلسفي والتاريخ العالمي ككل في التوتاليتارية السوفيتية. طبعا أن ذلك لا يعني تطابقهما بهذا الصدد، إذ تبقى الخلافات بينهما كبيرة ايضا بهذا الصدد. لكن الخلاف يبقى هنا محصورا في الوسيلة والغاية المعلنة. أما من حيث الجوهر فان الهموم واحدة والمضمون واحد، ألا وهو الاستغلال الممكن لكل ما يمكنه أن يخدم "الفكرة الكبرى" الخاصة. بمعنى أولوية وجوهرية التطويع والاستغلال "المفتوح" على كل شيء من اجل وضعه ضمن أغلال "الانغلاق الذاتي". وضمن هذا السياق يمكن الاتفاق مع الفكرة الجوهرية التي وضعها بوبر بهذا الصدد عما دعاه بالمنظومات المغلقة (التوتاليتارية) والمنظومات "المنفتحة" (الليبرالية). فالتوتاليتارية منظومة مغلقة. بينما الفلسفة من حيث كونها رؤية وأسلوب في التفكير وغاية محكومة بحب الحكمة تتنافى وتتعارض وتتضاد مع الانغلاق والتزمت. مع أن ذلك لا يتنافى مع الادعاء الذاتي ببلوغ "الحقيقة النهائية". لكنه بلوغ لا يتعدى من حيث الإعلان والوسيلة والغاية سوى التعبير الفرح بالاكتشاف الحر والاجتهاد النظري. ومن ثم يحتوي في ذاته على نقيضه. الأمر الذي جعل من الأيديولوجيات الصرف مصدر ومرتع النفسية والذهنية التوتاليتارية، وبالأخص الأيديولوجيات الطوباوية السياسية.
فمن غير الصحيح إدراج الطوباويات جميعا بهذا الصدد، وبالأخص العقلية والأخلاقية منها. وهو الخطأ الذي وقع فيه بوبر وكثير غيره من فلاسفة ومفكري ومؤرخي الغرب الحديث في مجرى تناولهم للظاهرة التوتاليتارية. ومفارقة الظاهرة تقوم في أن هذا الموقف من الطوباويات هو النتاج المتناقض لأصول الماركسية وموقفها "النقدي" منها.
فالمساعي العملية والتنظير الفكري للنزعة التوتاليتارية القائمة في العقائدية السياسية تتسم بقدر واضح من الرؤية المباشرة بهذا الصدد. فعلى سبيل المثال، إن المفكر السياسي الايطالي جينتيلي الذي وضع مصطلح التوتاليتارية قد أسس له من خلال الفكرة الأيديولوجية القائلة، بأنه لا حدود لتدخل الدولة، ولا توجد أماكن لا يحق لها التدخل فيها. وهو مطلب استند إلى فكرة أيديولوجية بحت تقول، بان الدولة التوتاليتارية هي تجسيد للروح الأخلاقي للشعب، وذوبان الفرد في البنية العامة للحركات السياسية. وقد جرى وضع هذه الفكرة الأيديولوجية في الفاشية الايطالية، ولاحقا في النازية الألمانية. وقبلهما جرى تجسيدها النظري في الماركسية وتطبيقها العملي في البلشفية (اللينينية الستالينية). فحقيقة الماركسية أيديولوجية صرف. من هنا انتشارها السريع والمريع بين الأوساط البسيطة والجاهلة أو غير المتعلمة. وليس مصادفة ألا يقرأ رؤساء الأحزاب الشيوعية المؤلفات الأساسية لماركس وأنجلس ولينين وغيرهم من أيديولوجي الشيوعية. انها اكتفوا كما هي العادة بالنسبة "لقادة الجماهير" بالشعارات وبعض "مختارات الحكم" التي ترصع الإيمان التقليدي للذهنية البائسة للجماهير و"نخبها" البليدة!
لكن الأمر يختلف بالنسبة للطوباويات العقلية الأخلاقية وذلك لأنها محكومة بنوازع معرفية ووجودية وأخلاقية عقلية، إي فلسفية صرف. ومن ثم فان غايتها ليس تنظيم المجتمع بمعايير ومقاييس العقلانية التكنوقراطية الحديثة، بقدر ما كانت تعمل ببواعث الوحدانية الفلسفية المتسامية وفكرة الخير الاسمي وحكمة رجل الدولة الفلسفية. وهي مكونات لا علاقة لها بالأيديولوجية الحديثة، كما هو الحال في (جمهورية) أفلاطون و(آراء أهل المدينة الفاضلة) للفارابي. والشيء نفسه يمكن قوله عن مشاريع الطوباويات السياسية الأخلاقية العقلية الكبرى كما نراها على سبيل المثال عند توماس مور في (اليوطوبيا)، وكامبانيلا في (مدينة الشمس). فقد كانت تلك وأمثالها الصيغة الخيالية لجزيرة العقل المحاصرة بواقع فاسد. انها نموذج المجتمع العادل. من هنا اختلافها الجذري عما في نماذجها الشكلية اللاهوتية المشابهة، كما هو الحال في (مدينة الله) الاكوينية (توما الاكويني) و(شرح كتاب القيامة) ليوحيم الفلوري (ايطالي- القرن 12) وغيرها.
لقد غذت هذه الطوباويات النزوع الأخلاقي والوجداني الذي عادة ما يلازم الأحلام الطوباوية السياسية. وليس مصادفة أن تشتعل في العقل الصغير والوجدان الكبير للحركات السياسية المتطرفة في أوربا القرن الثامن والتاسع عشر مختلف الحركات الطوباوية. وبالتالي يمكن النظر إلى ما يسمى بتحول الطوباوية إلى علم (الاشتراكية الطوباوية إلى اشتراكية علمية) سوى حلقة في مسار "الحتمية" الملازم لزمن الطوباويات وخروجها الفعلي على مسار التاريخ الواقعي. من هنا يمكننا النظر إلى الشخصيات السياسية الكبرى لتيارات الطوباوية مثل ماليه، مابلي، موريلي، بابوف، سان سيمون وفورييه في فرنسا، ونستينلي واوين في انجلترة، على انها حلقات ربطتها الماركسية في "نظرية علمية" برزت أسسها الكبرى في (البيان الشيوعي) بوصفه احد النماذج الكبرى للتسطيح الفكري والتعبير الوجداني، الذي أشعل لهيب القلوب المرهقة في تأمل جنة التاريخ النسبية في مطلق البديل الشمولي الكلياني أو التوتاليتاري).
كل ذلك يكشف عما في الطوباويات السياسية من مصدر كبير قادر دوما على تغذية النزوع الوجداني للجمهور. من هنا سيادة وانتشار أنصاف المتعلمين، بوصفهم الحلقة الرابطة والواسطة بينها وبين نماذج الأيديولوجيات الصارمة. وإذا كانت الطوباوية السياسية عادة ما تنطلق من فكرة "القرن الذهبي" والبديل "الاسمي" فان ذلك لا علاقة له من حيث الجوهر بما وضعته تقاليد ما قبل الفلسفة الإغريقية (غيسيود – القرن 8-7 قبل الميلاد) والفكرة الأفلاطونية. فالأزمان الذهبية جزء من بقايا الأحجار القديمة للوعي التاريخي وقيمة الثمن الكامن فيها. كما انها تعكس التحسس المر بالواقع المعاش والرغبة في تجاوزه من خلال الرجوع إلى عالم الطفولة "البريء". لكنها براءة محكومة بحنين الجنين إلى أصوله، بوصفها العملية الضرورية الملازمة لطبيعة الأشياء والطبيعة. بينما كانت الفكرة الأفلاطونية سبيكة كبرى للعقل التاريخي والوجدان الثقافي الإغريقي، أي كل ما عمل لاحقا أرسطو على تهذيبه بمعايير المنطق والبحث عن الحقيقة المجردة. ومن ثم لا علاقة للفكرة الأفلاطونية بحد ذاتها بالتوتاليتارية أو الشيوعية. أما الهمسات واللمسات المتناثرة فيها فإنها تتحول إلى "نغم" يدغدغ مشاعر التأويل المتحزب فقط. ومن ثم لا علاقة له بأفلاطون والفكرة الأفلاطونية. وان مفارقة الظاهرة تقوم في أن التأويل المتحزب (السلبي والايجابي) للفكرة الطوباوية الأفلاطونية في العرف السياسي يستمد أصوله من التأويل المسطح والعجول الذي أطلقه ماركس عليها عندما وصفها بأنها الصيغة الأثينية المبجلة (المثالية) لنظام الطبقات المصري القديم!!
بعبارة أخرى، إن "المصادر الفلسفية" للتوتاليتارية تكمن أساسا في الأيديولوجية السياسية الطوباوية أو اليوطوبيا السياسية العملية كما هو جلي في الشيوعية والفاشية والنازية، بوصفها النماذج الكبرى لهذا الاستعمال "العقلاني الشكلي" الصارم لتراث الفلسفة المجزأة وتقاليد الطوباويات الوجدانية السياسية.

• طرحت الباحثة حنة اريندت في كتابها (أسس التوتاليتارية) أن النازية والفاشية والستالينية تمثل الشكل الذي ولد من انهيار البنية السياسية والاجتماعية التقليدية بعد الحرب العالمية الأولى. ما هذا الشكل الجديد للهيمنة داخل المجال الأوربي المتمثل بالظاهرة التوتاليتارية؟
من الأدق ترجمت كتابها بعبارة اصول أو منشأ أو مصادر التوتاليتارية، الصادر عام 1951. في البداية أود القول، بان كتاب حنة اريندت من بين الكتب القيمة بهذا الصدد. وتكمن قيمته الأساسية في تتبع وتحليل مختلف مظاهر التوتاليتارية وأساليبها في تنظيم القمع و"نزع إنسانية الإنسان". بمعنى انه يتسم بصفة التقرير والإشارة والتصوير، إضافة إلى امتلاءه بالتلوين البلاغي، الذي لا يخلو من تأثير اصول المؤلفة والتجربة المريرة التي تعرض لها يهود ألمانيا آنذاك. مما طبع الكتاب في كثير من جوانبه بنزعة نقدية وجدانية عارمة للتوتاليتارية وتعرية أساليبها الهمجية في سحق الشخصية الإنسانية.
وما عدا ذلك، فان مستوى التأسيس النظري الفلسفي فيه يبقى ضعيفا. وقد تكون فكرة أن التوتاليتارية الشيوعية الستالينية والنازية والفاشية هي نتاج لانهيار البنية السياسية التقليدية بعد الحرب العالمية الأولى احد نماذجها. فمما لا شك فيه، أن التطور الرأسمالي كان يجري في جميع البلدان ضمن مسار كسر وتحطيم وتدمير وتذليل البنية التقليدية. لكنه لا يحتوي بحد ذاته على إمكانية الصعود التوتاليتاري. على العكس، أن الصعود التوتاليتاري هو نكوص إلى تقليدية "متسامية"، أي محكومة بطوباوية الأيديولوجية العملية (السياسية) الكبرى "المتسامية". وفي هذا يكمن تناقض النزعة التوتاليتارية. بمعنى انها تنتقد الواقع من اجل الاستيلاء على الماضي والحاضر والمستقبل، بمعنى مصادر الواقع والآفاق. فالتوتاليتارية "فكرة مستقبلية". من هنا احتقارها للماضي. بمعنى انها لا تحتوي على أي نقد تاريخي بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، مما يجعل من الماضي والحاضر والمستقبل زمنا لا قيمة له مقارنة بما في نياتها وإرادتها وغايتها!
فالشيوعية والنازية والفاشية، أي القوى المتربية بتقاليد الأيديولوجيات الكونية الكبرى وبدائلها الشمولية هي قوى راديكالية. وفي هذا يكمن سر عنفوانها زمن الأزمات و"مراحل الانتقال" العاصفة. لكنها خلافا للقوى الأخرى الفاعلة زمن انكسار القيم والمفاهيم والمؤسسات عادة ما يرتبط نقدها للواقع بمحاولة تجاوزه إلى "الأفضل" و"الأسمى". لكنه تجاوز يعادل في حقيقته الرجوع إلى نفسية وذهنية القطيع البدائي. وفي هذا يكمن سرّ وطبيعة "الشكل الجديد للهيمنة"، أي لمصادرة التاريخ والمستقبل والروح الإنساني والعقل الحر، باختصار مصادرة كل شيء من اجل صنع كلّ خاضع وخنوع بوصفها الصيغة "المثلى" و"المتسامية" للبديل. من هنا تنوع مظاهرها، واجتماعها في الغاية والوسائل. باختصار ليست هذه الأشكال الجديدة للسيطرة والاستحكام (الهيمنة) سوى مظاهر متنوعة لفعل الآلة التكنوقراطية الشكلانية الصارمة في "توحيد" الطبيعة وما وراء الطبيعة في بنية أو تشكيلة تتناسب مع الغاية الكبرى للأيديولوجية وشعاراتها المعلنة: اجتماعية -طبقية أو قومية - عرقية.
ذلك يعني أن صعود هذه الأنماط التوتاليتارية ونماذجها في "الهيمنة" داخل "المجال الأوربي" يعكس أولا وقبل كل شيء، كما هو الحال بالنسبة لكل التوتاليتاريات الأخرى، خصوصية الأزمة البنيوية الشاملة والحادة للدولة والمجتمع والثقافة في مراحل الانعطاف الحاسمة وكيفية تنظيم الردود عليها في منظومات نظرية (أيديولوجية) وعملية (سياسية) تستقطب وتستنسخ بصورة مشوهة خليط القيم النفسية والأوهام السياسية والخيال الشعبي المحكوم بأزمات القادة والجماهير، بحيث يجعل منهما كتلة لا عقلانية ترفع هيجانها إلى مصاف "القدر المحتوم". بينما لا تتعدى حقيقة هذا "القدر" ما أسميته بالصدفة القاتلة للعقل الثقافي والضمير التاريخي للأمم. وليس مصادفة أن يكون صعود التوتاليتارية واستحكام سيطرتها في ثالوث القوة "الروحية" الكبرى لأوربا (روسيا وألمانيا وايطاليا). فقد كانت روسيا عند بداية القرن العشرين تحتوي على قدر هائل من الصعود "العالمي"، وإنتاج روحي فكري ثقافي علمي غزير وضعها في أولية "الطليعة الأدبية" العالمية، بينما كانت ألمانيا مصدر الإشعاع الفلسفي العالمي ومنظومات "المطلق" العقلي والروحي والأخلاقي، أما ايطاليا فهي أس "الأنا الأوربية" المادية والروحية، بمعنى جمعها بين تقاليد روما السياسية الحقوقية ومرحلة النهضة التي أسست لبنية الوحدة الثقافية الأوربية ومن ثم "مركزيتها الكونية". إننا نلاحظ ظهور التوتاليتارية في "أقوى" البلدان وأضعفها، أي أقواها من حيث الاحتمال والإمكانية، وأضعفها من حيث الفعل والواقع. من هنا شهية الإرادة في تذليل هذا الخلل من خلال البحث عن قوة بديلة وإرادة عليا ويقين جازم
بعبارة أخرى، إن الأنماط الجديدة للهيمنة الكلية هي الأشكال المتشنجة لتجسيد المشاريع الكبرى الضاغطة على الوعي القومي واللاوعي الثقافي، التي تحطمت أمام مجريات التاريخ الواقعي. وليس مصادفة أن يكون احترابها أساسا فيما بينها وبصورة تتسم بقدر من الشراسة والعنيف لا مثيل لها، سواء ما قبل صعود البلشفية (الحرب العالمية الأولى) وما بعد صعود الفاشية والنازية وهيمنته السياسية (الحرب العالمية الثانية).

• هل نستطيع وضع تعريفا خاصا بالتوتاليتارية الأوربية، وصالحا للاستعمال في نفس الوقت تجاه الظاهرة التوتاليتارية العراقية؟
تفترض الإجابة على هذا السؤال الانطلاق من تحديد ماهية التوتاليتارية وخصائصها وسماتها وتفحص مقدماتها وأصولها لكي يكون بإمكاننا رؤية الحصيلة النظرية بهذا الصدد. عندها يمكنني تحديد موقفي من "التوتاليتارية الأوربية" بمختلف أشكالها، وبعد ذلك إلى ما غيرها.
وسوف لن أتوقف عند الجدل المتعلق بدقة هذا المصطلح من عدمه وعما إذا كان يفي بالغرض أم لا، كما قال بذلك كثير من المفكرين والباحثين أمثال غيدنس وشابيرو. فهي أمور لا تغني البحث كثيرا. بمعنى إنني سآخذه كما هو بوصفه مصطلحا "شائعا" ومعبرا عن ظاهرة فريدة لها خصائصها وتاريخها الذاتي في العالم المعاصر.
فمن حيث المصطلح ليست التوتاليتارية سوى الصيغة المعربة للكلمة اللاتينية totalitas، أي الكل أو الامتلاء. أول من استعمله في ميدان العلاقات السياسية موسوليني. فقد استعمال هذا المصطلح الذي بلوره المفكر السياسي الايطالي جوفاني جينتيلي، الذي انطلق من الفكرة القائلة، بأنه لا حدود ولا أماكن لا يحق للدولة التدخل بها. وان الدولة التوتاليتارية هي تجسيد للروح الأخلاقي للشعب، مع ما يفرضه ذلك من ذوبان الفرد في البنية العامة للدولة وحركاتها السياسية.
غير أن التوتاليتارية، بوصفها ظاهرة تاريخية سياسية فكرية وثقافية ظاهرة غاية في التعقيد. لكنه تعقيد يختبئ وراء ملامحها الجلية والبسيطة! وفي هذا تكمن دوما خصوصية الظواهر الكبرى. إذ ليس هناك من ظاهرة لعبت هذا الدور المأساوي والعنيف في التاريخ الحديث والمعاصر أكثر مما لعبته الظاهرة التوتاليتارية. انها صنعت بقدر واحد "بداية" و"نهاية" التاريخ المعقد للقرن العشرين. إذ احتوت بقدر واحد على "أمل" التاريخ ومأساة الوجود. وما بينهما تراوحت حصيلة تاريخ الحداثة وخاتمته. مع ما في ذلك من كمون هائل للاحتمالات القائمة في العولمة المعاصرة، باعتبارها مرحلة البدائل الكبرى.
وفيما لو أهملت هذه الجانب، رغم ما له من أهمية بالنسبة لفهم خصائص "المشروع الكوني" للنزعات التوتاليتارية الكبرى" ومن ثم أثرها بالنسبة لمصيرها التاريخي في مواجهة المسار الطبيعي التاريخي للعولمة، فان التوتاليتارية كانت وما تزال تحتوي في أعماقها على احتمال التشويه والتخريب الفعال للبحث عن بدائل عقلانية. من هنا عدم دقة الفكرة السائدة في تحديدها للتوتاليتارية على انها مجتمع عقلاني – تكنوقراطي مغلق، ينزع من الإنسان إنسانيته. انها تحتوي دون شك على عناصر عقلانية جزئية بمعنى معارضة للدين والتدين، لكنها لا تقل عنها "كفاءة" في تصنيع الإيمان القهري! أما نزعها لإنسانية الإنسان فهو احد نتائجها الملازمة بسبب سيادة فكرة الواحدية الأيديولوجية التي تقترب من حيث نيتها وغايتها ووسيلتها بنفسية وذهنية العبودية القديمة.
وضمن هذا السياق يمكن الإقرار العام بالفكرة القائلة، بان التوتاليتارية ظاهرة سياسية واجتماعية وثقافية خاصة، بوصفها الصيغة القادرة على اختبار مختلف المنهجيات النظرية في الموقف من ماهية التوتاليتارية وتحديد خصائصها ونقدها الفكري والسياسي. وقد يكون التيار الروسي النقدي في موقفه من التوتاليتارية الأكثر قربا من فكرة التحليل المنهجي السياسي والثقافي للظاهرة التوتاليتارية بوصفها ظاهرة ثقافية – سياسية، كما نلمحها في مواقف وأراء كل من بيردياييف، وبولغاكوف، ونوفوغورودسيف، وستروفه، وفيودوروف، وفرانك وغيرهم. إذ اجمعوا بصورة عامة على ربط ظهور التوتاليتارية بطبيعة الأزمة العامة للحضارة الأوربية الغربية وكيفية انكسارها في الواقع الروسي. إذ وجدوا في الماركسية تعبيرا عن هذه الأزمة وتمثلا لها. كما أن روسيا أصبحت حقلا تجريبا لهذه الأزمة المزدوجة (الأوربية الغربية والروسية في ميدان الثقافة والسياسة). إذ جرى تجريب فلسفة الأزمة (الماركسية في واقع روسيا المتأزمة، بوصفها "الحلقة الأضعف" في سلسلة الأزمات الأوربية بداية القرن العشرين. فقد أدت الأزمة الاجتماعية الثقافية الروسية إلى انتصار الدكتاتورية البلشفية المتلبسة بهيئة دكتاتورية التوتاليتارية. وهي الفكرة التي قال بها بيردياييف ثم أيدها في وقت لاحق كل من فيودوروف وستروفه. إذ أكد فيودوروف على أن طبيعة هذه الأزمة في ظروف روسيا هي نتاج لديناميكية الغربنة الأوربية وانحلال العلاقات التقليدية مع ما ترتب عليها من تشوه في الوعي الاجتماعي وتشوش في الرؤية السياسية والاجتماعية والثقافية.
بعبارة أخرى، إن التيار الروسي في تحليله لماهية التوتاليتارية ودراسة أسباب ظهورها ونقدها انطلق من مواقفه الخاصة تجاه مظهرها الروسي. بمعنى أن مواقفه كانت محكومة بمعايشته لمصير الدولة والنظام السياسي والأمة الروسية التي تعرضت إلى أول تجريب خشن للنزوع التوتاليتاري. وهي الحالة التي وجدت تعبيرها النقدي ايضا فيما يسمى بتقاليد معارضة اليوطوبيا في الإبداع الأدبي والفني كما نراه على سبيل المثال في أولى المحاولات التاريخية الساخرة والعميقة في كتابات زامياتين (نحن) 1920، ورواية بولغاكوف (قلب كلي) 1924، وما تبعها لاحقا بعد عقود من الزمن كما هو الحال في رواية جورج اوريل (1980) التي كتبها عام 1948.
لكننا حالما ننتقل إلى ميدان الفكر السياسي والاجتماعي والفلسفي، فان انعكاس فهم مقدمات ومضمون الظاهرة التوتاليتارية ونقدها يأخذ بالبروز مع ثلاثينيات القرن العشرين، كما هو جلي على سبيل المثال لا الحصر في كتاب اورتيغا – إي- كاسيت (انتفاضة الجماهير) الصادر عام 1930. فهو من بين أوائل من تكلموا عن ظهور "الإنسان الجماهيري" المنظم على أساس أيديولوجيات كارهة وعصبية. غير أن المزج التام بين تحليل مقدمات ظهور التوتاليتارية ونقدها يبدأ بالتراكم مع كتاب هكسلي (حول العالم الغريب الجديد) الصادر عام 1932. إذ نعثر فيه هنا للمرة الأولى على تحديد ماهية النظام التوتاليتاري على انه مجتمع عقلاني تكنوقراطي مغلق، يحول الإنسان إلى مسمار في آلة الدولة تفقده إنسانيته. كما انه مجتمع ونظام يقتل القيم الإنسانية من حب وفنون ودين. في حين ربط هايك في كتابه (الطريق إلى العبودية) الصادر عام 1944 ظهور التوتاليتارية بالاتجاهات الاشتراكية المعارضة لليبرالية، أي تلك الاتجاهات التي رفضت فكرة القيمة المطلقة للفرد والشخصية الإنسانية، بحيث جعلت من الإنسان مجرد أداة لغاية أسمى! وهو الاتجاه الذي عمقه الفيلسوف بوبر لاحقا في نقده للتوتاليتارية كما وضعه في كتابه (المجتمع المفتوح وأعداءه) الصادر عام 1945، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وصراع التوتاليتاريات الدامي. إذ انطلق من مقدمة فكرية تقول، بان التوتاليتارية ظاهرة قديمة. وأنها موجودة في "المجتمع المغلق" في معارضة المجتمع المفتوح. والمقصود بالمجتمع المغلق هو البنية التقليدية البدائية القبلية. وإذا كان مضمون الثورة التاريخية الكبرى للإنسانية يقوم في تأسيس الانتقال من المجتمع المغلق إلى المجتمع المفتوح، فان التوتاليتارية الجديدة هي رجوع إلى المجتمع المغلق. انها تتمثل نفسية الرجوع إلى المغارة وسيادة الانغلاق عبر إرساء أسس السيادة المطلقة للدولة. بحيث نراه يجد فلسفة أفلاطون السياسية مصدرا فكريا أساسيا للتوتاليتارية، انطلاقا من فكرة أفلاطون القائلة، بان العدالة هي ما يفيد الدولة ويستجيب لمصالحها. وبالتالي ليست فلسفة أفلاطون بهذا الصدد سوى احد نماذج الهندسة السياسية الاجتماعية الطوباوية. والطوباوية تؤدي بالضرورة إلى العقائدية الجزمية. بينما المهمة تقوم ليس في إسعاد البشر بل في تخيف معاناتهم. بينما اعتقد كانيتي بان التوتاليتارية هي اقرب ما تكون إلى تمظهر مكثف لصيغة أولية نموذجية تعيد إنتاج نفسها في الوعي والسلوك العملي. وهو تفسير نفسي اجتماعي كما لو انه يريد القول، بان التوتاليتارية موجودة في النفس البشرية وأنها قديمة شأن كل مظاهر السيطرة والخضوع والهيمنة والتحكم. بينما وجد توينبي في التوتاليتارية بديلا وتعويضا عن الدين.
أما حنة اريندت، التي تورد اسمها وكتابها في أكثر من سؤال، انها قد تعرضت إلى ظاهرة التوتاليتارية بصورة محترفة وموسعة منذ وقت مبكر، أو بصورة أدق بعد بروز اغلب معالمها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وسقوط النازية والفاشية. ففي كتابها (اصول التوتاليتارية) الصادر عام 1951 يمكننا رؤية ملامح النازية الألمانية بوصفها النموذج "الأرقى" للتوتاليتارية. وكتابها كما أشرت لا يتسم بمنهجية عميقة ومتجانسة، لكنه يحتوي على تصوير دقيق ومتوسع لمظاهر التوتاليتارية الألمانية وتقديمها على انها نموذجا شاملا. وهو تحليل ونقد لا يخلو من ردود الفعل النفسية والأخلاقية عما في النازية من إفراط في إرساء أسس المنظومة التي "تفقد الإنسان من إنسانيته" وتجعله عنصرا فعالا في "جمهور" أو "رعاع" مبتهج ومتحمس فيما تقوم به الدولة من جرائم تجاهه وتجاه الجميع. من هنا فكرتها عما تدعوه بالطابع المجرم للنظام التوتاليتاري وقدرته في الوقت نفسه على حصول تأييده الجماهيري. الأمر الذي يجعلها تتكلم عن أن اصول التوتاليتارية تقوم في تحول الطبقة (الاجتماعية) إلى جمهور (رعاع) في المرحلة الامبريالية. والرعاع ليس ما هو متعارف عليه، بل ظاهرة اقرب ما تكون إلى رعاع جمعي، أي رعاع من كافة الفئات والطبقات. وهي ظاهرة تبلغ ذروتها في التقاء الرأسمال والرعاع. فالرأسمالية تقضي على الطبقات وتجعل الجميع رعاعا (نزع الطابع الطبقي)، مع ما يترتب عليه من تهشيم وتدمير للتمايز الاجتماعي والفئوي للبشر بوصفها المقدمة الاجتماعية الضرورية لتمثيلهم السياسي في مؤسسات حقوقية. من هنا غياب وتلاشي الحرية السياسية. وهي الحالة التي تجعل من المكن فكرة القائد والزعيم الضروري. مع أن زعماء التوتاليتارية لا يختلفون عمن سبقهم. والفرق فقط في سيطرتهم الشاملة. إذ ليس في الزعامة التوتاليتارية كاريزما (حسب الطريقة الفيبرية). أما شخصية هتلر فإنها لا تتمتع بقوة الكاريزما بقدر ما كانت تقوم في قدرته على خداع القوى المعارضة من خلال نظرتهم إليه باعتباره ديماغوجيا. كما أن ستالين لم يكن شخصية كاريزمية ويفتقد إلى ابسط قدرات الخطابة. إن الجوهري بالنسبة لصعود التوتاليتارية هو "الجمهور" أو "الرعاع" من خلال استنادهما إلى الدعاية والتنظيم، اللذين يتوقفان بدورهما ايضا على "الجمهور". غير أن فاعلية الدعاية تعمل حالما يصبح الشعار السائد هو "إرادة القائد – قانون الحزب". وكذلك سيادة واستحواذ الأيديولوجية على عقول وأفئدة الجماهير من خلال توظيفها الدائم والشامل. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الأيديولوجية هي أداة سياسية وليست معرفية. من هنا قيمة وفعالية المنظمات الأيديولوجية (المؤدلجة) والتنظيم الهرمي الصارم في الإدارة والمنظمات المحكومة بقاعدة "من ليس معنا فهو ضدنا"، أي كل ما يتوج الخطاب التوتاليتاري باعتباره خطابا لا عقلانيا.
إننا نقف هنا أمام تنوع كبير ومختلف لكنه يكمل احده الآخر فيما يتعلق بتحديد مقدمات وماهية التوتاليتارية. لكن الدراسات والأبحاث تجمع فيما يتعلق بتحديد سمات التوتاليتارية باعتبارها ظاهرة مميزة للقرن العشرين. وفيما لو أجملنا نتائج مختلف الدراسات والأبحاث المحترف بهذا الصدد فمن الممكن إجمالها بست سمات كبرى وهي: نظام وسيادة الحزب السياسي الواحد، النظام الدكتاتوري، التحكم العام والصارم للدولة في كل جوانب الحياة الفردية والاجتماعية والسياسية والروحية، استعمال العنف المنظم والشامل (العنف الجماعي والسياسي)، والأيديولوجية الواحدة الشاملة (الحكومية) المتحكمة في كل شيء، وأخيرا الزعامة المطلقة المعصومة للقائد الفرد الفذ.
مما سبق يتضح بأنه لا اتفاق جوهري حول ماهية التوتاليتارية، إلا فيما يتعلق بالحصيلة المتعلقة بسماتها، التي يمكن وضعها في تحديد ماهية التوتاليتارية. وهي سمات دقيقة وتعمم في الواقع الصفات الجوهرية الكبرى المميزة للتوتاليتارية "الأوربية" وغير الأوربية، بما في ذلك "العراقية". إلا أن المضمون الأعمق وراء هذه "الوحدة" تكمن في الاختلاف التاريخي والثقافي والسياسي الفعلي القائم وراء ظهور نماذج توتاليتاريات مختلفة ومتباينة، بما في ذلك بالنسبة لآثارها اللاحقة على الدولة والأمة والثقافة. وهي قضية شائكة وكبيرة لكنني سوف اكتفي بوضع أسس الرؤية المنهجية العامة لمقدمات وماهية "التوتاليتارية الأوربية" ونماذجها المختلفة (الشيوعية والفاشية والنازية) و"العراقية". ذلك يعني إننا نستطيع الحديث عن "توتاليتارية أوربية" غير أن لكل منها خصوصيته القومية والأيديولوجية والاجتماعية. وهي خصوصية تجعلها أحيانا مختلفة ومتعارضة بل ومتضادة. لكن ذلك لا يتعارض مع التقائها الجوهري فيما يمكن دعوته بالمرجعية الخفية الكامنة وراء هذا التباين، ألا وهي مرجعية "فكرة البدائل الشاملة". فالتوتاليتارية هي فكرة "البديل الشامل"، وبالتالي فهي فكرة بدائل الواحدية العقائدية والسياسية. وإذا كان نشوءها وتكاملها النظري (الأيديولوجي) قد برز في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فان النصف الأول من القرن العشرين هو زمن تجسيدها العملي. ذلك يعني أن قرنا من الزمن (البيان الشيوعي عام 1948) وظهور "المعسكر الاشتراكي" والإزالة التامة لمشاريع البدائل المنافسة (الفاشية والنازية) للشيوعية الستالينية (1948). وللاستطراد فقط أود الإشارة هنا إلى ظاهرة تستحق البحث ألا وهي أن هذا "القرن" كان أيضا زمن الصيرورة الخفية للمشروع الصهيوني وظهور "إسرائيل" بوصفها الضريبة التي حصل عليها اليهود مقابل "جرائم النازية" فقط!).
وعندما نضع هذا "القرن" الزمني ضمن سياق تحديد ماهية ومقدمات ظهور التوتاليتارية الأوربية، فان "مأثرته" بهذا الصدد تقوم في انه زمن الصعود العارم للفكرة الراديكالية على ضفاف التيار الليبرالي العقلاني السائد للرأسمالية. ومن ثم لم تكن الراديكالية الأوربية في الواقع سوى الوجه الآخر للمرجعيات المتحكمة في آلية بلورة وفاعلية الليبرالية الأوربية. فقد صنعت الأخيرة في مجرى تطورها مرجعية "الأوربية المركزية" ووضعتها بوصفها جزء من التطور التلقائي الأوربي في صلب رؤيتها لبدائل الكونية. وهي بدائل كانت تتسم في مجرى قرون عديدة بالدموية والعنف المصدر للخارج. فقد جرى التنفيس عنه بإبادة شعوب وقارات واحتلال هو الأقسى والأعنف في تاريخ البشرية. وهذا بدوره لم يكن إلا الوجه المحسن بسبب فاعلية الفكرة الليبرالية والربح المادي من سحق رياء وتناقض المهمة "الأخلاقية والروحية" للكنسية، بوصفها "مركز الوحدة الأوربية". بعبارة أخرى لقد استعاضت الليبرالية الأوربية مركزية بديلها الاقتصادي الاجتماعي والثقافي مركزي الكنيسة الروحية العقائدية. أما الراديكالية الأوربية فقد تكاملت أيديولوجياتها الكبرى من خلال نفي الليبرالية والكنسية. مما كان يحتوي في أعماقه على مركزية المادة والروح. وهو الشيء الجوهري الذي صنع بوعي ودون وعي آلية التوتاليتارية التي وجدت منفذها في مجرى الأزمات الكبرى للدولة والأمة والثقافة بهيئة بدائل كبرى للدولة والأمة والثقافة. فقد أخذت الراديكالية الأوربية رحيق الأنساق القائمة في وعي ولاوعي المركزية الأوربية، بوصفها الوجه الجديد لتقاليد الكنيسة الكاثوليكية (العالمية). فقد ظلت وما تزال تقاليد الكنيسة النصرانية ونظامها المختزن في دهاليز اللاوعي الثقافي (منظومة التحكم والسيطرة الكنسية) كامنة في وعي ولا وعي الثقافة الأوربية السياسية، رغم تعرضها الشديد للنقد والتثلم. وقد يكون تطويع وتأويل تقاليد وتاريخ اليونان والرومان والكنيسة الكاثوليكية من اجل بلورة "بديل" قومي – أوربي – عالمي احد أمثلتها الظاهرية. فقد بدأ "بالاكتشافات الجغرافية" وانتهى بالكولونيالية. وعملت في مجرى قرون من اجل أن تكون "الأوربية" عالمية. ومن هذه الذروة انطلقت الراديكاليات الأوربية الكبرى من شيوعية وفاشية ونازية. والفرق بينهم بهذا الصدد يقوم في أن نفسية وذهنية الهيمنة تعتمد في الشيوعية على "الطوعية" (مع انها كانت مبنية من حيث يقينها السياسي الأيديولوجي الأول على فكرة "الثورة العالمية" و"تصدير الثورة") والإكراه بالقوة والعنف والإرهاب القومي والعرقي الأسطوري في الفاشية والنازية. الأمر الذي يعطي إمكانية القول، بان فكرة المركزية العالمية التي حكمت الكنيسة والليبرالية الأوربية والراديكاليات الكبرى الدائرة فيما يمكن دعوته بفلك قوة المثال ومثال القوة، هي المرجعية الكامنة والخفية وراء صعود "التوتاليتارية الأوربية". وخصوصية كل منها تقوم في شراسة فعلها المنظم من اجل صنع مجتمع تجريبي تكنوقراطي مغلق لا يخلو من عقلانية لكنها شكلية وجزئية. وذلك لان التوتاليتارية "تراكم" في شحذ فكرة وهواجس "الوحدة" المطلقة. من هنا إمكانية جمعها بين كل العناصر المتناقضة من غضب السفهاء إلى حلم الأنبياء! وفي هذا تكمن خطيئتها الفكرية والروحية. إن التوتاليتارية خطيئة وليس خطأ! وهي الصفة التي تجسدها كل توتاليتارية بطريقتها الخاصة. ولا تخرج "التوتاليتارية العراقية" (البعثية الصدامية) عن هذا التحديد الصارم، كما هو الحال بالنسبة للتوتاليتارية الشيوعية (الستالينية) والايطالية (الفاشية) والألمانية (النازية).
• ما هي الأسباب التي جعلت الطبقة الوسطى العراقية تقطع جميع الصلات والروابط بالفكر الليبرالي العراقي رغم بدائية تكوينها الاجتماعي، الذي كان من المفترض أن يصلها بفكر التنوير وتجارب الإصلاح الديني والسياسي خلال حقبة الستينيات؟
إن الانقطاع الفعلي بين الطبقة الوسطى والفكرة الليبرالية هو نتاج حالة معقدة لازمت كيفية الانقطاع التاريخي للتطور الاجتماعي. فالطبقة الوسطى هي صانعة التاريخ الحديث والمستقبل بقدر واحد. انها القوة الفاعلة والفعالة على كافة المستويات وفي كافة الميادين. وبالتالي لم يكن إبعادها عن لعب دورها الخاص بها سوى الانحراف التاريخي الهائل للمجرى الطبيعي لارتقاء المجتمع والدولة. فقد لازم هذا الانحراف صعود الراديكاليات الرثة لما يسمى بالحركات الثورية.
فمن الناحية التاريخية ارتبط هذا الانحراف بالكيفية التي تهشمت بها السلطنة العثمانية. بمعنى تحللها الداخلي دون أن تنشأ بدائل سياسية قومية لمكوناتها في العالم العربي. بينما جرت تجزئته تحت وطأة الاحتلال الكولونيالي الأوربي (البريطاني والفرنسي)، مما أدى بدوره إلى بعثرة ما تبقى من ارث مرحلة النهضة بمختلف تياراتها الدينية والدنيوية. مما أدى بدوره إلى أن يصبح التاريخ الذاتي زمنا فقط، وذلك لدورانه في فلك الهيمنة الأوربية الكولونيالية ومشاكلها. ومنه ايضا وبأثره نشأت القيم والمفاهيم واستيراد النظريات، أي كل أشكال ومضامين التقليد الظاهرية والباطنية. ومن بين أكثرها تشوها بهذا الصدد هو انتشار الفكرة الراديكالية السهلة والمسطحة. فإذا كانت الفكرة الراديكالية الأوربية تسير على ضفاف التيار العقلاني العام، فان انتقالها إلى عالم (عربي) ضعيف ومنهك وخارج للتو من رحم العثمانية المتهرئ، قد جعل من الفكرة الراديكالية عروة وثقى. مع ما ترتب عليه لاحقا من قلب الأمور جميعا رأسا على عقب. فقد أدى ذلك في البداية إلى صعود الفكرة "السياسية" وأولوية الأحزاب ورجل السياسة على المجتمع والنخبة الثقافية العامة. وبلغت هذه العملية ذروتها بصعود الراديكاليات الثورية، أي تلك التي جعلت من الفئات الرثة وغير الناضجة "طبقات" محتوم عليها قيادة الدولة والأمة! ثم تجسد في تيارات متنوعة "قومية" محلية قبلية وعائلية هي النتيجة الحتمية لهذه العملية المقلوبة التي جعلت الأطراف مركزا والفئات الرثة نخبة. وهي إحدى المفارقات الغريبة التي جعلت ايضا من الغباء السياسي عقيدة عصماء! لقد أدى ذلك إلى أول انقطاع تاريخي بنيوي عنيف مازلت آثاره القوية سارية لحد الآن في الفكر والاجتماع والاقتصاد والسياسة والثقافة. بمعنى بقاء وسيادة وإعادة إنتاج البنية التقليدية. وفي هذا يكمن سر الانقطاع عن تراث النهضة.
فالفئات الرثة ومركزيتها الجديدة في السلطة والدولة جعلت من تدمير الطبقة الوسطى هدفها الأساسي، أو أن ذلك لازم بالضرورة نشاطها وفعلها. فالفئات الرثة لا تعاني ولا تنتج لا في المجال المادي ولا الروحي. انها مجرد نقال وحمال. وهي مهام كانت وما زالت باقية بوصفها جزء من تاريخ البحث عن عدالة معقولة هي بدورها جزء من لغز الحياة والوجود. غير انه حالما يتحول الحمال إلى "قائد" فانه يجعل من كل ما حوله مجرد بضاعة أو أشياء تجثم بثقلها على كاهله! وليس هناك من ثقل بالنسبة له اكبر من الفكر وتعقيداته. أما الفكرة الراديكالية المبنية على مجموعة شعارات وقيم وجدانية كاذبة فإنها مجرد تقليد أجوف. أما "الفكر" فيها فانه مجرد غلاف خارجي، فارغ، بلا معاناة. انه "فكر" بلا تلقائية. من هنا هجوم الأيديولوجية، بوصفها "عقلا" بلا تفكر، و"فكر" بلا معاناة، ومعاناة مغتربة عن التاريخ الذاتي والواقع ومن ثم بلا ماض ولا مستقبل. مما يجعل منها اجترارا للحاضر فقط أي لزمن وجود الأشياء.
مما سبق يتضح بان سبب الانقطاع لا يكمن في سلوك الطبقة الوسطى، بقدر ما انه جرى فطمها قبل أن تنمو. ومن ثم سحقها وتحويلها إلى ذرات متناثرة في الكتلة البشرية الرثة التابعة للسلطة التوتاليتارية. وقد ترتب على ذلك اضمحلال واندثار المقدمات الاجتماعية الضرورية للفكرة الليبرالية. فمن المعلوم إن الفكرة الليبرالي، بوصفها بحثا عن الحرية والعقلانية والاعتدال، عادة ما تتجذر في الوعي السياسي للطبقات الوسطى. بل أن الفكرة الليبرالية من الناحية التاريخية والاجتماعية والنفسية هي من صنع الطبقة الوسطى. وليس اعتباطا أن تشترك مختلف التوتاليتاريات السياسية والعقائدية (من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار) بمحاربة الطبقة الوسطى وتصويرها على انها مرتع "القلق" و"انعدام الثبات" في المواقف! أما في الواقع فإن حقيقة "القلق" تعادل نفسية وذهنية البحث الدائم عن الجديد أو ما يمكن دعوته بالثبات الديناميكي. أما اتهامها "بانعدام الثبات" فهي مجرد صيغة أيديولوجية مقلوبة للرؤية التوتاليتارية التي عادة ما تجد في الثبات أسلوبا لوجودها، مع ما يترتب على ذلك من استبداد وقمع لكل اختلاف وتباين وحركة تؤمي بإمكانية خلخلة الوضع القائم. من هنا عدائها السافر والمستتر لكل"خروج" على "ثوابتها" الوطنية والقومية والاجتماعية والفكرية وما شابه ذلك. وليس مصادفة أن تكون الطبقة الوسطى هي الأكثر تضررا ضمن سياق السيطرة التوتاليتارية. وذلك لان الطبقة الوسطى هي الأكثر "ثباتا" بمعايير الديناميكية التاريخية والاجتماعية. وهو ثبات نابع من موقعها الاجتماعي التاريخي بوصفها الطبقة الأكثر ارتباطا بفكرة الحرية والنظام الاجتماعي الديمقراطي. فالطبقات جميعا عرضة للتغير والتبدل من حيث موقعها الاجتماعي وأيديولوجياتها وأفكارها المتعلقة بماهية الدولة والمجتمع المدني وفكرة الحق والحقوق، بينما تبقى الطبقة الوسطى من حيث الإمكانية والواقع الممثل الفعلي لتيار البحث الدائم عن نسب الاعتدال والعقلانية والحرية الفردية والاجتماعية. الأمر الذي يجعلها اشد القوى الاجتماعية معارضة للتوتاليتارية. كما انه السبب الذي يجعلها هدا مباشرا وغير مباشر لسياسة التفكيك الواعية وغير الواعية من جانب السلطة التوتاليتارية. وليس مصادفة أن تكون فترة الستينيات وما لحقها هي مرحلة التدمير الشمال للطبقة الوسطى، كما انها مرحلة الصعود العنيف للنزعات الراديكالية والتوتاليتارية.

• إن أي حقل سياسي اقتصادي هو منظومة قيم وتوازنات وأنماط إنتاج اجتماعي يسمح بخيارات معينة ويعوق أخرى. وهذه المسالة محصلة موضوعية لتفاعلات مجموعة من العناصر التي تشارك في تكوين هذا الحقل. هل يمكننا القول أن الحقل السياسي الاقتصادي سمح بنمو وظهور الكليانية في المجتمع العراقي؟ ومدى قدرة هذا الحقل على إنتاج ظاهرة التوتاليتارية السياسية العراقية؟ وهل يمكن أن يتحول هذا المفهوم (الحقل الاقتصادي السياسي) إلى أداة تفسير؟
إن الظاهرة التوتاليتارية هي نتاج ازمة بنيوية شاملة تعم الدولة والأمة والثقافة في التاريخ الحديث والمعاصر. وتصبح "خيارا معقولا" حالما تقود مهمة تجسيد "البدائل الكبرى" قوى راديكالية. والمادة الاجتماعية لهذه القوى الراديكالية هي الحثالة الاجتماعية والفئات الرثة والطبقات المنهكة، أي تلك التي تعاني أكثر من غيرها زمن الأزمات البنيوية الحادة. مما يجعلها فريسة الأوهام السياسية والأيديولوجية. ذلك يعني أن الجذور الاقتصادية للنزعة الراديكالية بشكل عام والتوتاليتارية بشكل خاص، شيء اقرب إلى البديهة. غير أن الحلقة الرابطة لهذا التلازم تقوم في ميدان السياسة والحياة السياسية للدولة. بمعنى أن الأزمة الاقتصادية في الدولة عادة ما تؤدي إلى نشاط الطاقة الراديكالية، وبالأخص في تلك المراحل والدول التي تشكل فيها نسبة الفئات الاجتماعية الرثة والهامشية والفقيرة أغلبية مطلقة، أو تلك المراحل التي يجري فيها خلخلة الأسس الاقتصادية للمجتمع والدولة. لكن "ارتقاء" الراديكالية إلى مصاف التوتاليتارية يستلزم تكامل الأزمة الاقتصادية بأخرى سياسية وثقافية عامة. وهي حالة أو آلية يمكن رؤيتها على تجارب التوتاليتارية "الكلاسيكية" الكبرى. كما تجد طريقها الأكثر تشوها في البلدان والدول المتخلفة، كما هو الحال بالنسبة للعراق.
فقد كان ظهور التوتاليتارية وسيادتها شبه التام في تاريخ العراق الحديث يعكس طبيعة الأزمة البنيوية الاقتصادية والسياسية والثقافية. بمعنى أن تجربة العراق هي إحدى الصيغ النموذجية لتداخل الأسباب الاقتصادية والسياسية والثقافية. ومن الصعب الآن الاستفاضة في تحليل هذه الجوانب وخصوصية تمظهرها في تاريخه الحديث، وذلك لأنها بحاجة إلى دراسة ميدانية تاريخية سوسيولوجية وكيفية انعكاسها في الفكر السياسي والثقافة السياسية. بمعنى انها بحاجة إلى دراسة متخصصة. وهي مهمة يمكن تركها لأجيال لاحقة بوصفها جزء من وعي الذات التاريخي والسياسي. واكتفي هنا بالقول، بان الصيغة العامة لتلاقي وتفاعل المكونات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي أدت في تاريخ العراق الحديث إلى صعود التوتاليتارية تقوم في عدم قدرته على حل مشكلة الحداثة أو المعاصرة بطريقة عقلانية وواقعية. وهي مهمة كان بإمكان العراق حلها بطريقة سريعة وفعالة ونموذجية لحد ما فيما لو لم تسيطر الفكرة الراديكالية السياسية. وهي مفارقة القرن العشرين التي أنتجت بدورها أشنع أنواع التوتاليتاريات تخلفا! بمعنى المزاوجة بين راديكالية متطرفة في ميدان الأيديولوجية السياسية ومتخلفة من حيث مكوناتها وأصولها الاجتماعية. قوى سياسية راديكالية ذات اصول اجتماعية تقليدية ومتخلفة! ومن هذه المزاوجة ولد مسخ التوتاليتارية العراقية! وليس مصادفة أن يعود العراق بعد قرن من الزمن إلى البداية، أي انه استهلك قرنا من الزمن (القرن العشرين) لكي يبدأ في القرن الحادي والعشرين من ابسط متطلبات بناء الدولة والمجتمع والثقافة! أي البدء من الصفر ولكن على كمية من الخراب المعنوي والأخلاقي! بحيث يشبه العراق الحالي وبشره بأهل الكهف بين عالم علمي تكنولوجي ديناميكي يعيش ويعمل بمعايير المستقبل. غير أن هذه الحالة المزرية تحتوي في أعماقها ايضا على إدراك بالطريق المسدود والمغلق للنموذج التوتاليتاري. الأمر الذي يجعل من الصعب، بل شبه المستحيل تكرار النموذج البعثي الصدامي. فقد كان هذا النموذج نتاج مرحلة انكسار خطرة في تاريخ العراق السياسي والعالم العربي والعالمي. إذ كان من الممكن تعايش التوتاليتارية والدكتاتورية في مسخ من "الثورية" المقبولة ضمن توازن الصراعات الدولية آنذاك. طبعا إن التخلف السياسي والاقتصادي المريع والمنتعش ضمن بنية اجتماعية تقليدية شديدة التخلف يمكنه أن يغذي صعود الراديكاليات الطائفية المغلقة، لكنه لا يوفر لها تلك الإمكانية المادية والمعنوية التي توفرت للراديكاليات السياسية العراقية في النصف الثاني من القرن العشرين.

• تمثل حقبة منتصف الستينيات مرحلة حاسمة في تطور أجهزة الدولة التوتاليتارية العراقية عبر مجموعة من التشريعات والقوانين والإجراءات، التي سمحت للدولة بالتوسع على حساب المجتمع والتدخل الشامل والسافر في مجال الاقتصاد والسياسة. هل يمكننا ربط ظهور النزعة التوتاليتارية بهذه الحقبة من تاريخ العراق، أم أن لها جذور أعمق؟
إن صعود التوتاليتارية مرتبط من الناحية الفكرية والسياسية بصعود الفكرة الراديكالية في العراق، أي بصعود ما يسمى بالأيديولوجية واستحواذها على النفسية الاجتماعية للجمهور والعوام، والذهنية السياسية للأحزاب. والنتيجة هي تكوين سبيكة خطرة من نفسية العوام وذهنية الأحزاب الراديكالية. وفي هذه السبيكة كانت تكمن البذرة المميتة لأيديولوجية النزعة التوتاليتارية. وليس مصادفة أن تعدي هذه البذرة كل ما حولها أو تنتج مختلف نماذجها في قوى سياسية متصارعة ومستقتلة حتى الموت ومتضادة في المظاهر، كما نراه على سبيل المثال في التيارات الشيوعية والبعثية والإسلامية. إذ جسد كل منهم بطريقته الخاصة هذا الكمون. بمعنى اشتراكهم جميعا في سيادة الرؤية الأيديولوجية والعصمة الأبدية واحتقار التاريخ والمستقبل والمجتمع والحرية الفردية والاجتماعية والشرعية والقانون.
وإذا كان النزوع التوتاليتاري جزء من حالة الكمون النسبية القائمة في ثنايا الأزمة المتنقلة التي لازمت النظام الملكي، فان تفجيرها عبر انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 قد أدى إلى نشر الأزمة في كل ثنايا الوجود والوعي التاريخي العراقي المعاصر. كما انه أعطى للراديكالية صفة الصيغة المثلى لوجود الدولة والمجتمع والنظام السياسي والثقافة. بمعنى جعله من التيار الجزئي القائم على ضفاف التيار التاريخي لصيرورة الدولة والأمة والثقافة إلى التيار العارم والوحيد. من هنا إشراكه الجميع في هوس "الثورة" وأوهامها التي لم تكن في ظروف العراق آنذاك أكثر من مجرد انقلابات صغيرة ومؤامرات حزبية لقوى هامشية بالمعنى الاجتماعي والفكري والسياسي والجهوي والفئوي.
إن انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 هو بداية الزمن التوتاليتاري في العراق. ومن ثم انعدام التاريخ الفعلي للدولة والمجتمع. الأمر الذي يستلزم إعادة النظر بالتجربة المريرة لهذا الانقلاب التعيس في تاريخ العراق الحديث. والمهمة لا تقوم هنا في تأسيس الإدانة أو الدفاع عن الملكية. فكلاهما جزء من تاريخ ماض. والمهمة الكبرى تقوم أساسا في إرساء أسس الرؤية المستقبلية. ما يفترض بدوره تحرير الفكر السياسي والرؤية المستقبلية من هواجس الخواطر الأيديولوجية وأوهام الأحلام الحلوة للطفولة.
فالتاريخ يكشف عن أن أنبل الأهواء أشدها تدميرا وتخريبا للنبل. بينما الموقف السليم والحق يفترض السير مع منطق الحق والإخلاص له، أي مع منطق الحقيقة. مما يفترض بدوره تطهير العقل من ثقل الأهواء (الأيديولوجية). فالعاقل يحب أخاه وأباه وأمه وأخته وفي الوقت نفسه يمقت سلوكهم في حال خروجهم على الحق. والشيء نفسه يمكن قوله عن انقلاب الرابع عشر من تموز. فنحن جميعا "جيل الثورة". كما أن أثرها عميقا في كل هذا الكم الهائل من ثقل الأوهام الجميلة المرتسمة في خيال الطفولة عن "الزعماء" و"الأبطال". لكن الأمر يختلف حالما يجري النظر إلى التاريخ بمعايير العبرة التاريخية والمستقبل. فزلات الصغار محببة للقلوب، بينما أخطاء الكبار قد تصل حد الإجرام. كما أن أخطاء الكبار قد تصبح خطيئة تاريخية كبرى. والخطيئة الكبرى لانقلاب الرابع عشر من تموز تقوم في تحوله إلى "ثورة". وفي هذا التحول كانت تكمن بداية ما يمكن دعوته بسيادة زمن الغريزة.
لقد كان انقلاب الرابع عشر من تموز المقصلة التي حزت رقبة التاريخ الطبيعي للعراق الحديث. لقد تحول هذا الانقلاب العسكري، بفعل احتقان الحياة السياسية وضغط الأيديولوجيات الراديكالية إلى "ثورة". بعبارة أخرى، أنها "ثورة مصطنعة". من هنا سيادة الطابع المصطنع لكل ما جاء بعدها وحتى الآن. وهي الصفة التي تلازم وجود التوتاليتارية. بمعنى أن العراق لم يفلح في مجرى نصف قرن من الزمن ( حتى اليوم، أي عام2008) على أي تأسيس جدي لكافة مقومات الوجود الطبيعي للدولة والسلطة والمجتمع والثقافة والاقتصاد والعلم والتكنولوجيا. بل إننا نقف الآن أمام انهيار شبه تام لبنية الدولة في جميع مكوناتها وعلى كافة المستويات. إضافة إلى وطن ودولة ومجتمع تحت الاحتلال، مسلوب الإرادة شأن الحالات الشاذة لقرون الاستعمار والكولونيالية قبل بضعة قرون خلت!! واحتراب شامل يفتقد لأبسط مقومات الرؤية الاجتماعية والوطنية والعقلانية. بعبارة أخرى، إننا نقف أمام حالة انحطاط شامل. وعندما نتأمل تاريخ الثورات الفعلية الكبرى، فإننا نستطيع العثور على "مراحل تراجع"، لكنها جزئية بوصفها مقاطع التوقف الضرورية في معزوفة المستقبل. بينما لا يمكننا قول ذلك عن العراق لا بالمعنى السياسي ولا التاريخي ولا المجازي. وإذا كان الأمر كذلك، فان من الضروري البحث عن المقدمات الفعلية التي أدت إلى هذا الواقع المزري، أي التحولات التي مست بنية التطور الطبيعي للدولة، بحيث جعلت من مسارها اللاحق مجرد اجترار للزمن.
فقد كان المسار التاريخي للعراق حتى الرابع عشر من تموز عام 1958 مسارا طبيعيا. بمعنى انه كان يحتوي على مراحل التوقف والتراجع، لكنه كان في مجراه العام تقدما وتراكما بالمعنى التاريخي. لقد كان يحتوي على تراكم طبيعي في المؤسسات والبنية الذاتية للدولة والسلطة والمجتمع والفكر والثقافة والاقتصاد. وما بعد الرابع عشر من تموز عام 1958 تحول تاريخ العراق إلى زمن الراديكالية السياسية، أي زمن التجريب الخشن والاجترار الأجوف للأوهام. أما رفع الانقلاب العسكري إلى مصاف "الثورة" فهو انقلاب في المفاهيم يعكس استعداد الوعي السياسي لقبول كل ما يفرض عليه. وهي حالة تشير إلى أن المفاهيم السياسية ليست نتاج معاناة علمية ونقدية دقيقة، بل اقرب ما تكون إلى تأييد إعلان أو شعار سياسي. وهو خلل صنعته "ثورة" الرابع عشر من تموز.
إن الخطأ التاريخي لانقلاب الرابع عشر من تموز هو عين خطيئته السياسية. وسبب ذلك يقوم في أنه أسبغ الشرعية على إمكانية الانقلاب العسكري وتدخل الجيش المباشر في شئون الحياة السياسية والمدنية وتحكمه فيهما! وهو مؤشر على ضعف الدولة والمجتمع والنخب السياسية. وحالما جرى رفعه إلى مصاف "المقدس"، فان النتيجة الملازمة هي تقديس بواعث الخراب والتخريب. لقد أدى انقلاب الرابع عشر من تموز إلى جعل المؤامرة والمغامرة السياسية لحفنة من الحزبيين الجهلة ومحبي الجاه والسلطة ولاحقا الإجرام والسرقة، أمرا عاديا! وأصبح تاريخ العراق بعدها سلسلة متصلة من الانقلابات والجريمة السافرة والمستترة. والنتيجة انعدام الاستقرار والأمن والتراكم الضروري للمعرفة والاحتراف والكفاءة. أنها وضعت وأسست لإمكانية الخروج على كل شيء، ورفعته إلى مصاف الممارسة الشرعية. من هنا "شرعية الثورة" وما شابه ذلك من صيغ لا علاقة لها بالشرع والحقوق، باستثناء تحويل غريزة السلطة المتحكمة في نوعية الأحزاب السياسية العراقية إلى "حق شرعي". وهي طريقة أدت، كما تكشف عن نتائجها تجارب الأمم الحديثة جميعا، والعراق بشكل خاص، إلى الغوص في أوحال الدكتاتورية والتخلف والانحطاط.
لقد كان تحول انقلاب الرابع عشر من تموز إلى "ثورة"، الصيغة الملازمة للتشوه التاريخي ولسطحية الوعي السياسي الحزبي. وهي حالة لم يجر بعد دراستها بصورة علمية معمقة، استنادا إلى معطيات التاريخ السياسي والأبحاث السوسيولوجية المتعلقة برؤية طبيعة وحجم الخلل الفعلي في العراق الجمهوري. أما النتيجة كما نراها الآن، فإنها لا تحتاج إلى تدليل كبير لرؤية التخلف المزري. وهو تخلف يرتقي إلى ما مصاف ما ادعوه بمنظومة الانحطاط، بوصفه الوجه الآخر، أو الاسترجاع المعكوس للانقلاب التاريخي الذي أحدثه انقلاب الرابع عشر من تموز.
فعندما نتأمل تاريخ التراكم الطبيعي في ثورات الأمم الناجحة، فإننا نرى ملامح الثورات الفعلية في الانتقال (على مستوى الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي وبنية الدولة والاقتصاد) من المستوى الديني إلى الليبرالي ثم إلى القومي ثم إلى الاشتراكي الديمقراطي (الاجتماعي). بمعنى الانتقال على مستوى الوعي والواقع من مرحلة الأمة الدينية إلى القومية العصرية ومنهما إلى المرحلة الاجتماعية. وهي العملية التي كانت تتراكم في تاريخ العراق الحديث قبل الرابع عشر من تموز، رغم كل حالة التخلف المزري التي ورثها من المرحلة العثمانية. بحيث كان بإمكاننا أيضا أن نرى ظهور حزب شيوعي بعد عقد ونيف من الزمن ممثلا "للبروليتاريا" الساعية للبناء الشيوعي!! أي في بلد كانت الأمية فيه تبلغ 90% وشبه انعدام للتصنيع ومستوى متخلف في الزراعة وعلاقات اجتماعية تقليدية وملك مستورد! وتعكس هذه الحالة بصورة مبطنة حالة التشوه الأولى للوعي الاجتماعي والسياسي، لكنها كانت تتعرض إلى عملية تهذيب وتشذيب ضمن السياق العام للتطور الطبيعي في انتقال الوعي السياسي من المرحلة الدينية والوعي الأسطوري واللاهوتي إلى الفكرة اللبرالية والوطنية. وكانت تتراكم في هذا المسار عناصر الفكرة القومية والاجتماعية. وهو مسار طبيعي. غير أن التحول الجذري (الراديكالي) الذي أحدثه انقلاب الرابع عشر من تموز قد قلب الأمور رأسا على عقب. بحيث تحولت الشيوعية إلى الفكرة السائدة (بعد 1958)، ثم تلتها الفكرة القومية (بعد 1963) ثم الفكرة الدينية (بعد 2003). وهو خط بياني يعكس ما يمكن دعوته بالانقلاب التاريخي للتاريخ مازال العراق يعاني من نتائجه المريرة، لكنه يسير الآن ضمن السياق التاريخي الطبيعي. وهي التعزية الوحيدة الكبرى لما يجري الآن. بمعنى أن رجوع العراق إلى "المرحلة الدينية" هو مقدمة صعود الفكرة الليبرالية اللاحقة فالقومية فالاجتماعية.
إن الرؤية المطروحة أعلاه تتضمن موقفي من طبيعة التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي أحدثها انقلاب الرابع عشر من تموز، الذي جعل من كل انجازاته اللاحقة أشياء اقرب ما تكون إلى وليمة سرقة! كبيرة ومبهرجة وسريعة الزوال! وليس التوتاليتارية سوى ذروتها الكبرى.
ذلك يعني أن نقد المرحلة التوتاليتارية في العراق ينبغي أن تبدأ من نقد انقلاب الرابع عشر من تموز الذي مازال يخيم بأوهامه على صدأ الذاكرة والفكر السياسي. بمعنى يمنعهما من التفكر بمعايير المستقبل. إن مهمة هذا النقد تقوم في تحرير العقل السياسي من قيود الأوهام الأيديولوجية. فالعراق بحاجة إلى منظومة إصلاح عقلانية وإنسانية وواقعية، أي منظومة إصلاح شاملة تعمل بمعايير المعاصرة والمستقبل. انه ليس بحاجة إلى انقلابات يجري تجليلها لاحقا بمسوح "الثورة" وما شابه ذلك لكي لا تتكرر مأساته من جديد. والخطوة الأولى هي تأسيس الوعي السياسي بالشكل الذي يحصنه من الوقوع في شبكة الأوهام العنكبوتية للراديكالية الدنيوية منها أو الدينية. وذلك لأنهما كلاهما يؤديان بالضرورة إلى مختلف أشكال ومظاهر ومستويات التوتاليتارية، أي الاستبداد والإرهاب الشامل.
• يشكل مفهوم (الدولة الريعية) من المفاهيم الحديثة عن الدولة الأحادية الاقتصاد وهو احد الإسهامات المهمة في حقل العلوم السياسية. ما هي الأسس الفكرية لمفهوم الدولة الريعية؟
إن مفهوم "الدولة الريعية" في محاولاته تفسير خصوصية الدولة في إيران ودول الخليج العربية، طوع المواقف السياسية والأيديولوجية عبر هالة الرؤية الاقتصادية. وبهذا يكون شأنه شأن اغلب ما ظهر في بداية النصف الثاني من القرن العشرين من مفاهيم ومقولات ونظريات بهذا الصدد. بعبارة أخرى، إننا نقف أمام ماركسية مقلوبة! وكلاهما يصبان في منحى واحد، ألا وهو تغليب الرؤية المسبقة والقيم الأيديولوجية والسياسية على تعقيد الواقع، أو من خلال سحب الواقع المتحرك والحركة التاريخية المتراكمة وتنوع الأشكال المتناقضة في كمون البدائل تحت خيمة التعميم السياسي. طبعا أن ذلك لا ينفي ما في هذا التحديد الاقتصادي السياسي من قيمة علمية وعملية في إدراك خصوصية النظام السياسي، على الأقل في ستينيات القرن الماضي (العشرين) لكنه لم يعد يمتلك قيمة علمية دقيقة في تفسير ظاهرة الدولة الحديثة والنظام السياسي في منطقة الخليج. كما انه يعجز عن تفسير وإدراك خصوصية الدولة والنظام السياسي الذي تبلور في العراق في مجرى النصف الثاني من القرن العشرين، وسقوطه المريع تحت ضربات الغزو الأمريكي عام2003.
فنظرية "الدولة الريعية" كانت من حيث مادتها المباشرة مهتمة بالدولة الإيرانية ودول الخليج العربية. بمعنى أن العراق لم يكن موضوع اهتمامها المباشر آنذاك. وقد تبلورت هي سوية إلى جانب النظرية القبلية الخلدونية والنظرية الميراثية الفيبرية والطبقية الماركسية وغيرها، تحت ثقل الهيمنة "التاريخية" للأيديولوجية السياسية التي حكمت نفسية وذهنية الباحثين آنذاك. فهو العقد الذي أمات العلم وأنعش الأيديولوجية. من هنا سيطرة رجال الأحزاب في تفسير التاريخ والدولة والنظام السياسي والمستقبل، رغم جهلهم الشديد بهذه الأمور المعقدة. لكن مفارقة الظاهرة تقوم في أن الأحزاب، أو الأصنام الجديدة حالما جعلت من وساوسها وهواجسها ورغباتها وحيا، فإنها سرعان ما استسهلت الرؤية السياسية والمواقف الحزبية في النظر إلى ظاهرة الدولة والسلطة والنظام السياسي وصيرورة الطبقات والفئات الاجتماعية. طبعا أن ذلك لا ينطبق على نظرية "الدولة الريعية" بصورة مباشرة، لكنه ينطبق على استنتاجاتها السياسية بشكل عام وعلى تغلغلها في الوعي "المنهجي" بشكل خاص، بعد أن عجزت أو وقفت نظرية القبيلة والميراث والطبقات عن "العمل" بصورة جدية على خلفية التحولات البنيوية الكبيرة في دول الخليج العربية.
فمن الناحية النظرية الاقتصادية ليس بإمكان نظرية "الدولة الريعية" الصمود أمام النقد العلمي الصارم. لكنها مقبولة نسبيا عند تخوم ستينيات القرن الماضي، عندما كان "الريع" والإيجار الصفة السائدة في الموقف من السلعة السحرية الجديدة- النفط. ولكن حتى هذه الحالة لا تشكل في الواقع أساسا لاستنتاجات نظرية عميقة. والسبب يقوم في أن تلك المرحلة كانت إحدى مراحل الانتقال العاصفة على النطاق العالمي ودول الخليج العربية بشكل خاص. كما انها كانت تحتوي في طياتها كمون التحول العنيف في تاريخ العراق الحديث.
مما لاشك فيه أن لاقتصاد السلعة الواحدة اثر تخريبي هائل على بنية الدولة. وهي حالة مختلفة المظاهر والنتائج في تاريخ الدول. الأمر الذي يجعل من الضروري دراستها دوما بصورة ملموسة. فجمهورية النفط والغاز ليست كجمهورية الموز والقهوة. كما أن تأثيرهم في الأنظمة الجمهورية والملكية ليس سواء. بل ويختلف بين الأنظمة الجمهورية نفسها، كما يختلف بين الأنظمة الملكية. والقانون "الحديدي" الوحيد القائم في جعل الدولة التي يعتمد اقتصادها على هيمنة مادة طبيعية واحدة قابلة للتصدير يقوم بالطبيعة الاجتماعية للقوى الحاكمة وأيديولوجيتها السياسية. وعموما يمكنني القول، بان اقتصاد السلعة "الجمهورية" أو "الملكية" الذهبية الواحدة هو تعبير أما عن بقاء وسيادة وهيمنة وتأقلم القوى التقليدية ضمن تصوراتها ومفاهيمها وقيمها ومصالحها الخاصة، أو ترسخ دكتاتورية الهامشية والقوى الرثة وأيديولوجياتها الراديكالية السياسية. وقد كان العراق البعثي الصدامي الصيغة "الكلاسيكية" لهذا القانون!
بعبارة أخرى، إن نظرية "الدولة الريعية" لا يمكنها أن تكون منظومة منهجية في دراسة الدولة العراقية الحديثة. انها تستطيع تسليط الضوء على بعض جوانبها، أو رسم معالم الممارسة التي قامت بها السلطة في مجرى تحولها من "ثورية" إلى دكتاتورية، ومن دكتاتورية إلى توتاليتارية، مع ما ترتب عليه من مزج بينهما وصنع سبيكة التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. وذلك لان صيرورة الدولة العراقية لم يرتبط بتاريخ "السلعة الذهبية"، بل على العكس إن هذه "السلعة الذهبية" قد قطعت مساره الطبيعي عبر هيمنة وسيطرة الراديكالية السياسية. بحيث أدى في نهاية المطاف إلى صنع ما يمكن دعوته بالدولة الرخوية التوتاليتارية! وهو إخطبوط مسخ يعكس مستوى الانحراف عن ماهية الدولة والمجتمع والتاريخ الثقافي للأمة.

• إن القراءة الفاحصة للتاريخ الاجتماعي والسياسي العراقي تكتشف عن انه منذ أربعينيات القرن الماضي (العشرين) أخفقت النخبة العراقية السياسية في طرح برنامج إصلاحي. بعدها ساد الخمول الفكري إزاء مشكلات ضخمة كانت التوتاليتارية الصدامية إحدى ثمراتها. ما هو السبب في عدم وجود تصورات فكرية متماسكة لمعالجة الظواهر الكبرى في المجتمع العراقي مثل النخبة والثقافة والإصلاح والتقاليد الإصلاحية؟
إن السبب الجوهري القائم وراء انعدام أو ضعف التصورات الفكرية المتجانسة في رؤيتها لإشكاليات الواقع العراقي ووضع الحلول لها يقوم أولا وقبل كل شيء في غياب مرجعيات نظرية ومنظومات فلسفية متراكمة في مجرى تأمل التجارب الذاتية للمجتمع والأمة والدولة. بعبارة أخرى إن سبب الخلل يقوم ليس في غياب تصورات ونظريات فكرية. فالعالم العربي والعراق يعج بها في مجرى القرنين الأخيرين. إلا انها نظريات تعكس أولا وقبل كل شأ تجارب الأمم الأوربية. ومن ثم فان رؤيتها وحلولها تراكمت في مجرى معاناة الأمم الأوربية حل إشكاليات وجودها التاريخي. من هنا تجانسها في الرؤية والحلول وتغلغلها في نسيج الوعي الاجتماعي والثقافي الأوربي العام. أما في العالم العربي (العراق ايضا) فان الانقطاع التاريخي الذي حدث بعد الحرب العالمية الأولى وسيادة الفكرة السياسية بشكل والراديكالية بشكل خاص قد أدى إلى إحداث احد النماذج الحادة للقطيعة مع النفس والتاريخ. مع ما ترتب عليه من جهل بالتاريخ الذاتي وفقدان وعي الذات القومي الثقافي.
فقد أدى هذا الانقطاع أو التحول الراديكالي في الوعي النظري والمزاج العملي إلى تغليب مرجعيات الرؤية الأوربية عند النخب الجديدة. وإذا كانت أربعينيات القرن العشرين قد بدأت تكشف عن هذه الحالة، فلأن ثلاثة عقود من الزمن التي سبقتها قد كانت تعيش على بقايا مرحلة عصر النهضة والإصلاح. وهي تيارات وشخصيات كانت تتعامل مع التراث الأوربي بمعايير الرؤية الحضارية وليست السياسية. بينما انقلب الأمر رأسا على عقب بعد الحرب العالمية الأولى وتقسم العالم العربي واحتلاله المباشر وغير المباشر عبر "الانتداب". لقد أدى ذلك إلى دوران العالم العربي (العراق) ضمن فلك التاريخ البريطاني والأوربي. من هنا التقاء "اليسار" و"اليمين" في موجة الاغتراب المتزايد عن اصول الرؤية التاريخية الثقافية الذاتية. والانهماك المتزايد في تلقي والتقاف فتات الأفكار المسطحة والمباراة في إبراز حسناتها ونموذجيتها مع كل اكتشاف سريع ومباغت للنظريات الأوربية. من هنا افتخار هذه النخب الطارئة بكل ما تعثر عليه. بمعنى افتخارها بكل ما تعثر عليه بوصفه "اكتشافا". من هنا اعتزازهم بكل ما يجري العثور عليه وتقديمه على انه "آخر الاكتشافات" و"آخر الحقائق". من هنا تساويهم في نفسية وذهنية الإتباع واختلافهم في المدارس. من هنا تباهي احدهم بالفابية والدارونية والوضعية والفرويدية والوجودية والماركسية وعشرات المدارس الأخرى العامة والفرعية. بمعنى انك تستطيع العثور على متحمسين ومتنافسين في إبراز وإعلان التبعية التامة والإخلاص لها. من هنا اختلاف ودموية "الماركسي" عن "الماركسي – اللينيني"، وهذا بدوره عن "الستاليني" و"التروتسكي" و"الماوي" وغيرها.
باختصار إننا نقف أمام حالة أشبه بحالة القرود المتبجحة في كشف عوراتها في المعابد الهندية المهجورة! فكل منهم يتبجح بعرض اكتشافاته "المذهلة"، أي عورات تقليديته الفجة. ومكن الممكن رؤية ملامح هذه الحالة لحد الآن فيما يسمى بالاتجاهات الداعية "للتحرر" من "أيديولوجيات" الماضي والانخراط في أنواعها الجديدة من بنيوية وحداثية وما بعد حداثية وتفكيكية وما شابه ذلك. أما في الواقع فإنها جميعا مجرد صيغ مختلفة لنزوع أيديولوجي يمتثل لباطن الاغتراب والتقليد.
فالفكرة الأوربية الفلسفية حالما تصبح "فلسفة" في العالم العربي أو العراق فإنها تكف عن أن تكون فلسفة. انها يمكن أن تكون جزء من نمو الرؤية المنهجية ولكن فقط في حال تفاعلها داخل نمو وتكامل وعي الذات الفلسفي القومي. وهو ما لم يحدث لحد الآن في العالم العربي. ولنأخذ مثال التفكيكية. فمن الناحية المجردة تبدو كما لو انها خارج نطاق وتقاليد الأيديولوجيات التقليدية. رغم أن ذلك لا يحررها أو يخلصها من إنتاج قواعد للرؤية في الوعي الاجتماعي قادرة على تصنيع كليشات جديدة وأحكام نمطية. غير أن جوهر القضية ليس هنا، بل في طبيعة تحولها إلى أيديولوجية مقلوبة حالما تصبح جزء من رؤية المثقف في التعامل مع نصوص التراث القومي (العربي والإسلامي). وذلك لان الانهماك بها هو تفعيل لهدم إمكانية نمو الفكر المنظومي ومنظومات الفكر المحتملة. فإذا كانت التفكيكية في العالم الأوربي وفرنسا بشكل خاص هي جزء عضوي وتلقائي في نمو فكرة الحرية والنظام، بعد أن استطاعت الأمم الأوربية انجاز منظوماتها الخاصة في بناء الدولة والأمة والثقافة و"تشبعها" بفكرة النظام، أصبح تفكيك هذه "المنظومات" جزء من إعادة بناءها الحر، أي جزء من نمو منظومة الحرية في الوعي والسلوك والمواقف. أما في العالم العربي والعراق بشكل خاص، فان كل شيء فيه مفكك: الدولة والأمة والمجتمع والفرد والثقافة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والطرق ومجاري المياه وعوالم الشخصية، باختصار كل شيء! بمعنى انه مشتت في رؤيته الخاصة وبنية وعيه الثقافي. كما انه لم يتعلم ولم يتكامل في أي مجال أو ميدان أو مستوى من مجالات وميادين ومستويات الحياة والمعرفة. من هنا فان توجيه ذهنه صوب تعميق وتأسيس "التحرر" من ثقل نصوص الماضي قبل أن يتعلم الحرية الفعلية في ابسط مظاهرها، هو من حيث الجوهر خروج على منطق وغاية الفكرة التفكيكية. بمعنى انه لا يعمل على تعميق بنية الثقافة الحرة. فالثقافة منظومة وبنية تاريخية. والمقصود بالتفكيك هو إعادة تأسيسها وتعميقها وليس بالعكس. وهو المقصود من كلامي بان الفلسفة الأوربية حالما تصبح جزء من التقليد، فإنها تؤدي بالضرورة إلى أيديولوجية رعناء أو صماء. والنتيجة واحدة في كلتا الحالتين! طبعا ليس المقصود من وراء ذلك إبراز قيمة التفكيكية. وذلك لأنها تبقى في نهاية المطاف جزء من التجربة الأوربية وذهنية النقد المعرفي من جهة، وطابعها الجزئي من جهة أخرى. إن المقصود بذلك هو أن هذه التقاليد الخربة والنزعة التقليدية قد أدى إلى تخدير وتخريب النخبة. أو بالأحرى إننا نقف أمام نخبة ونخب سقيمة رغم مظاهرها الأنيقة الظاهرية. الأمر الذي يجعل من هذه الظاهرة سريالية بلا واقع ينتجها أو تتمثل ما فيه! وهي من غرائب الأمور! غير أن الانحطاط لا يعرف ولا يفقه ولا يتحسس الغرائب لأنه غربة غريبة! أي كل ما نعثر عليه في ظاهرة صعود التوتاليتارية البعثية والظاهرة الصدامية. بل و"تمجيدها" من جانب "النخبة الثقافية" والانغماس في ملذاتها الزهيدة!
طبعا أن لهذه الظاهرة المتعلقة بالنخبة الثقافية وإشكالاتها وعلاقتها بصعود التوتاليتارية مقدمات خاصة بها ما قبل نشوء الدولة العراقية الحديثة، واستمرارها النسبي في المرحلة الملكية وتفجرها المريع بعد انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958. وفي مجرى هذا التاريخ المحزن والدموي والمأساوي تتحمل النخبة الثقافية وزرها الكبير. رغم انها بمعنى ما ضحية الانحراف التاريخي والانقطاع الراديكالي الذي جرت الإشارة إليه أعلاه. غير أن المسألة تختلف بالنسبة للنخبة السياسية. فقد كانت هي وما تزال من حيث الجوهر صانعة الخراب الفعلي للعراق. وهذا بدوره لم يكن معزولا عن خراب النخبة العامة والفكرية منها بشكل خاص. فقد كان من الصعب عليها آنذاك التبلور في فئة خاصة ومتميزة وفاعلة ومستقلة، بسبب المقدمات التي جرت الإشارة إليها. غير انها كانت مع ذلك تتراكم في مجرى تراكم بنية الدولة ومؤسساتها. غير أن الانقطاع التاريخي الذي قامت به الراديكالية السياسية قد جعل من تاريخها مجرد عقدين من الزمن، أي منذ عشرينيات القرن العشرين حتى الأربعينيات. وليس مصادفة أن تغيب فكرة الإصلاح والفكر الإصلاحي بشكل عام منذ أربعينيات القرن العشرين. فانتشار الفكرة الراديكالية وهيمنتها القاهرة على الوعي الاجتماعي واحتمائها بهوس "الجماهير الشعبية" قد اقفل من حيث الجوهر إمكانية الفكر الحر والإبداع المستقل. الأمر الذي جعل من الفكر الإصلاحية مقارنة بفكرة الثورة والانقلاب مضحكة ومثيرة للريب والشكوك! وذلك لان الفكرة الراديكالية تؤمن وتريد وترغب بأمور وشعارات "واضحة" و"جلية" و"بسيطة" و"مفهومة". بل انها تحتقر "التعقيد" و"الصعوبة". ذلك يعني انها تريد وترغب وتخضع فقط للأمور البينة والحسية الفجة، أي لكل ما لا يتعارض أو يستثير خمولها الذهني. من هنا ولعها بالتقليد والاندفاع العارم وراء الصيغة البيانية المغرية للحس البليد. بعبارة أخرى، إن الخمول الذهني وليس الفكري كان النتيجة المترتبة عل صعود الأيديولوجية السياسية الراديكالية. وفي الواقع ليس هناك شيئا اشد تخريبا للعقل والضمير ومنتجا لعمى البصر والبصيرة أكثر من الأيديولوجية الراديكالية السياسية. أما صعود التوتاليتارية فقد كان الثمرة المرّة لهذا الانقطاع الراديكالي في تاريخ الفكر والمجتمع والدولة والثقافة السياسية، أي كل ما أدى إلى ما ادعوه بالخروج التاريخي على التاريخ. مع ما ترتب عليه من إضعاف مستمر للنخب العامة والخاصة وتلاشيها الفعلي في ظل السيطرة الصدامية. وفي ظل هكذا واقع يصبح من الصعب صيرورة الفكرة الإصلاحية، كما أن من المستحيل توقع ظهور منظومات فكرية متماسكة.

• يتميز الخطاب السياسي للسلطة البعثية الصدامية بالانحطاط والهلوسة واستثمار المخزون الأسطوري. هل هو تجسيد ملموس وفعلي للثقافة العربية؟
إن ماهية الخطاب البعثي محكومة بالفكرة القومية. وهو خطاي يحتوي بقدر واحد على عقل ووجدان. لكنه غير مؤسس بمعايير ومنهجية علمية تاريخية. وفي هذا يكمن احد أسباب إمكانية خضوعه للاستحواذ والتوظيف غير العقلاني. مع ما يترتب عليه من هلوسة وانفصام وتجزئة وانتقاء وتحزب وما شابه ذلك من نواقص مميزة بدورها للنفسية الراديكالية. وعادة ما تبرز هذه الصفات بقوة حالما تكون مسنودة بقوة السلطة. وقد تكون تجربة البعث الصدامي في العراق احد مظاهرها الفاقعة. من هنا ضرورة التفريق بين خطاب سياسي بعثي وآخر سياسي بعثي صدامي سلطوي.
فالسلطة تكشف عن حقيقة ومعدن الأحزاب وأيديولوجياتها. فإذا كان الخطاب البعثي الصدامي في أول أمره يتسم بقدر غير متناسب من تمازج وتدال العقلانية وغير العقلانية، فانه انحدر في مجرى استتباب الدكتاتورية وتكاملها اللاحق في توتاليتارية خربة، إلى خطاب لاعقلاني صرف. بحيث تحول الخطاب السياسي البعثي الصدامي إلى خطاب سلطوي خالص مهمته تثبيت الدكتاتورية. وأصبحت الأنا الصدامية جلية ومستترة، ظاهرية وباطنية، بداية ونهاية الخطاب السياسي. وهذا بعينه تمام الهلوسة والانفصام الشخصي والسياسي. بعبارة أخرى إننا نستطيع أن نلمح في مجرى انحداره على مظاهر ومحطات الانتقال من الخطاب الراديكالي السياسي إلى الخطاب غير العقلاني، ومنه إلى الخطاب المتشنج ثم الدكتاتوري ثم الأهوج. والهمّ الجامع لكل هذه الانقلابات والتحولات أو الانحطاط هو تثبيت وترسيخ وتوسيع حدود الأنا الاستبدادية.
وليس مصادفة أن تتسم العبارة الصدامية بصفة المسامير المدقوقة في نعش الخطاب العقلاني. من هنا مفرداته القاسية والضيقة والجزمية والقاطعة. بمعنى احتواء على كل ما يقطّع ويقيد الوعي الحر والعقلاني والنزعة الإنسانية. أما النتيجة فتقوم في غلبة وسيطرة المحتوى البدائي الدموي فيه. بمعنى غلبة وانتشار عبارات ومفاهيم الغريزة والقتل والموت. ومن ثم افتقاده شبه التام إلى مكونات ومعايير الرؤية الجمالية والأخلاقية والقيم النبيلة. بحيث تنعدم فيه فكرة الاعتدال والتسامح والإنسانية. وليس مصادفة أن يتسم خطاب السلطة الصدامية بالفجاجة والبدائية والهلوسة. ومن هنا ايضا إثارته للاشمئزاز والقرف والتقزز.
إن الخطاب السياسي الصدامي لا يحتوي على مخزون أسطوري. إن الخطاب الصدامي خطاب خرافي. والفرق كبير بين الأسطورة والخرافة. والشيء نفسه ينطبق، مع فارق الفكرة والمضمون، على ما إذا كان الخطاب السياسي للسلطة الصدامية يتمثل أو يجسد الثقافة العربية!
إن الخطاب الصدامي هو احد النماذج المتخلفة والمريعة للخطاب السلطوي الراديكالي. بمعنى انه خارج السلطة لا قيمة له ولا اثر. من هنا عدمه خارج السلطة. ومن ثم اضمحلاله وتلاشيه بل وإعدامه التام خارج السلطة. لهذا لا يتمتع من حيث الجوهر بجوهرية الخطاب الثقافي. لكنه يعكس أنموذج من نماذج الذهنية الحزبي للراديكالية السياسية والحثالة الاجتماعية والهامشية الثقافية. من هنا لا معنى للحديث عن كونه تجسيد فعلي للثقافة العربية. فالثقافة العربية صيرورة وكينونة وتراث هائل لا يمكن لأي فرد أو اتجاه أو مدرسة أو مرحلة مهما كانت قيمته وفاعليتها وأثرها التاريخي أن تكون تجسيدا فعليا لها. وفيما يخص الخطاب الصدامي فانه لا يجسد إلا بعض نماذج الثقافة العربية وأشكالها المتخلفة، كما هو الحال بالنسبة لكافة الثقافات الكبرى.
إن الخطاب الصدامي مناف للثقافة العربية الكبرى، كما انه على ضفاف وخارج تياراتها الكبرى بالمعنى التاريخي والقومي والثقافي الصرف. فالثقافة العربية الكلاسيكية هي ثقافة كونية. كما انها ثقافة حضارية ومدنية كبرى. والاهم من ذلك انها ثقافة منظومات فكرية وتنوع محكوم بمرجعيات متسامية. وذلك لان الثقافة العربية الكونية تحتوي على وحدة علوم العربية والدينية والفلسفية والتصوف والفقه والأصول والتاريخ والأدب والموسوعات والسياسة وغيرها من العلوم الطبيعية والإنسانية. انها ثقافة لها نظامها ونسقها الخاص. انها ثقافة المدارس المتنوعة، ومن ثم تنوع مرجعياتها الثقافية الكبرى، كما نراه على سبيل المثال في الفلسفة والكلام والتصوف والفقه وغيرها من العلوم والفنون. وقد كانت هذه الثقافة غريبة على الصدامية غربة تامة. كما أن تراث الصدامية بعيدا كل البعد عن الثقافة العربية الحديثة بمختلف مراحلها وتياراتها ومستوياتها من نهضة وإصلاح وليبرالية وتنويرية. بمعنى انها كانت خارج نطاق قراءة الأحزاب السياسية الراديكالية العراقية بشكل عام والبعث بشكل خاص. كل ذلك يعطي لنا إمكانية القول، بان الصدامية لا علاقة بكل هذا الموروث. ومن ثم لا علاقة للخطاب السياسي للسلطة الصدامية بالثقافة العربية بالمعنى المشار إليه أعلاه. بل يمكنني الجزم، بأنه حتى في مجال الموقف الشخصي لا اعتقد أن صدام قرء في حياته كتابا جديا واحدا في حياته، أقول قرأ وليس درس وحلل. وينطبق هذا في الواقع على كافة رجال الأحزاب والسياسة في العراق. إن الصدامية هي تجسيد للثقافة الحزبية المتخلفة والضيقة والبدائية. انها ثقافة حزبية و"سياسية" لا علاقة لها بالعلم الأكاديمي كما انها جاهلة بالمعنى الثقافي. أما صدام فقد كان صدام نصف متعلم، نصف جاهل، نصف قارئ، أي مخرب فعلي للثقافة.

• الصدامية تمثل أسطورة سياسية – قومية. هل يمكننا الحديث عن أيديولوجية صدامية؟ ذات اصول خاصة بها؟ وما هي بنيتها المعرفية؟ وهل تتطابق مع أيديولوجية البعث القومي؟
إن الأسطورة هي إحدى المفاخر والمآثر الكبرى للأمم. كما انها تعكس معالم الخيال التاريخي للقوم. وفيما من خلالها عادة ما تتبلور رموز المعرفة والمواقف. ومن ثم فإنها تحتوي على ما يمكن دعوته بالمخزون الفعال في إنتاج وإعادة إنتاج القيم الرمزية في الأقوال والأعمال. ومن ثم تحتوي ايضا على قدرة كبيرة بالنسبة لتفعيل الوعي السياسي من خلال تقريبه إلى الوعي العام والخاص بوصفها جزء من معاناة الفرد والجماعة. فالأسطورة قابلة على صنع سياسة، لأنها قادرة على تحريك الحس والعقل والوجدان. أما مسارها الفعلي فعادة ما يتوقف على نوعية التأويل والإدماج النظري في الآراء والأحكام والمواقف. الأمر الذي يجعل منها طاقة عقلانية وغير عقلانية بقدر واحد، أو بصورة أدق انها قادرة على أن تخدم الاثنين. والسبب يكمن في كونها مرجعية رمزية وليست منطقية. وفي هذا يكمن سر اختلافها العميق عن الخرافة. أما عبارة "الوعي الأسطوري"، فإنها عادة ما تتطابق مع الصيغة غير العقلانية. ومن الأدق استبدالها في مجال التقييم النقدي بكلمة الخرافة.
من هنا فان الصدامية ليست "أسطورة سياسية – قومية" بل خرافة حزبية أيديولوجية ملازمة لبعث الأشباح والأموات! وإذا كان بالإمكان الحديث عن وعي أسطوري فيها فهو مجرد خرافات الريف والهامشية. فالصدامية تخلو من الأعماق الوجدانية السحيقة في مخزون الوعي التاريخي. وهي اقرب ما تكون إلى قوة شطارة وبلطجة مرحل الانحلال والتحلل. من هنا خلوها من بطولة وفروسية الأسطورة المميزة لمراحل الصعود التاريخي للأمم. وبالقدر ذاته لا يمكننا الحديث عن الصدامية بوصفها أيديولوجية.
إن الصدامية اقرب ما تكون إلى نمط من السلوك السياسي. وذلك لان الصدامية لم تتمتع بأي قدر أيديولوجي لحاله. و"كيانها الأيديولوجي" هو نتاج تصنيع الدعاية والإعلام الممول والمحكوم من قبلها نفسها بوصفها سلطة دكتاتورية. وخارجها سرعان ما تتلاشى وتندثر باعتبارها غبارا. بينما تفترض الأيديولوجية وجودها النسبي المستقل عن أشخاصها وموقعهم في السلطة أو خارجها.
بعبارة أخرى إن الصدامية و"أيديولوجيتها" نتاج السلطة واستغلال مصادر وثروات ومؤثرات الدولة. وذلك لان صدام عاجز وعقيم فيما يتعلق بإنتاج الفكر. كما انه غير قادر على إنتاج أيديولوجية لها مبادئها وقيمها ومفاهيمها. فخارج السلطة صدام لا شيء. لنفترض جدلا بان صدام لم يستطع الوصول إلى السلطة عبر مغامرات الأحزاب والانقلابات. فالاحتمال الاكبر لوجوده في ضني وتخميني لا يعدو تسكعه في إحدى مقاهي تكريت، أو شيء ما من هذا القبيل. بمعنى انه لم يكن قادرا على تسطير صفحات أو مقال صغير حتى لإحدى الجرائد المحلية الخربة. وبالتالي لا معنى لعدد القراء!!
إضافة لذلك ليس للصدامية أصولا فكرية، لأنه لا وجود للصدامية في ميدان الأيديولوجية. إن صدام مشبع ببعض الشعارات والقيم والمفاهيم السياسية البعثية (العفلقية). لكن الفرق بينهما يبقى كبيرا وهائلا. كما انه لا توجد في الصدامية بنية معرفية. انها عبارة كبيرة بالنسبة للصدامية. فالصدامية جهل مرفوع إلى مصاف "الفكرة" بقوة السلطة وأموالها وعنفها المادي والمعنوي. فقد انتقى صدام معلوماته "الفكرية" مما هو مرمي على طرقات الأحزاب المغامرة ومقالات وخطابات البعث وبياناته وبعض ما هو متوفر من كتابات عفلق. وهي أشياء يصعب قراءتها والاستفادة منها. بل انها مثيرة للغثيان. ودعني استعرض هنا حادثة شخصية طريفة بهذا الصدد. فقد واجهتني صعوبة العثور على المصادر الأساسية الكبرى لفكر البعث وأيديولوجيته السياسية. ففي موسكو نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن العشرين (قبل انتشار الكومبيوتر والانترنيت) لم يكن من السهل العثور على كل ما تريد. وهذا ينطبق في الواقع على كل بلدان العالم آنذاك. وكنت في وقتها منهمكا في جمع المصادر الفكرية المتعلقة بفكر البعث ضمن إطار دراستي للفكرة القومية. وقد اقترح علي احد الأصدقاء الاتصال بالسفارة العراقية بعد معرفته بأنها تنوي تفريغ "المكتبة" من الكتب. واستطعت في وقتها الحصول عبره على كل ما فيها من كتب ومجلدات عديدة عن تاريخ البعث والخطابات والكتابات والكتب. وقد كانت جميعها (وما زلت احتفظ بالكثير منها) مغبرة متربة ملصوقة الأوراق، أي انها "عذراء" من قراء البعث وعنفوانهم الصامد! بعبارة أخرى انها كانت مختبئة بين جدران "المركز الثقافي" كما لو انها بين جدران مركز من مراكز الشرطة في إحدى القرى النائية! ذلك يعني أن أي من أعضاء حزب البعث أنفسهم لم تمتد يده ولو عن طريق الخطأ إلى هذه "التحف" المرمية على رفوف "المكتبة الثقافية". وهو فعل يستحق الاستحسان. وذلك لان اغلبها يتسم بقدر هائل من الحشو المرهق للأعصاب! ولا اعتقد أن صدام ما قبل السلطة أكثر اهتماما من "مثقفي" الحزب بعد تشبعهم بتخمة الاحتراف الفعال في القتل والجريمة، بقراءة ما لا يمكن قراءته! بعبارة أخرى، إن معارف صدام الفكرية لا تتعدى كمية من المعلومات العادية والمسطحة، التي يمتلكها في الواقع كل بعثي عادي. فصدام شبه أمي في ميدان المعرفة (وهذا ينطبق في الواقع على اغلب أن يكن جميع رجال الأحزاب في العراق). ولم يكن ذلك بدوره معزولا عن واقع كون الحزب والثقافة في العراق على طرفي نقيض.
فقد استقى صدام تصوراته وأحكامه من أيديولوجيا البعث دون أن يعني ذلك تطابقهما. فأفكار البعث الكبرى تحتوي على رؤية قومية وجدانية متجانسة نسبيا. كما انها تحتفظ بقدر كبير من الأبعاد الإنسانية. وخلل الأيديولوجية البعثية يكمن في طابعها المذهبي السياسي الضيق، أي فقدانها لأبعاد الرؤية الفلسفية للتاريخ والدولة والأمة والثقافة والنظام السياسي. أما صدام فقد اخذ الأبعاد الوجدانية، أي غير العقلانية. كما كان محكوما بأصوله الاجتماعية الرثة، ومستوى معارفه الصغيرة والقليلة، ونوعية الصراع السياسي، وفكرة الانقلاب والثورة (المؤامرة والمغامرة). كل هذه المكونات جعلت من السلطة أداة سحرية. أما الدولة فهي حاضنة الأحلام. أما القومية والأمة فهي مجرد مفاهيم مجردة أسبغت عليهما "قدسية" سرعان ما جرى ابتذالها مع أول احتكاك بالواقع. وذلك لان السلوك العملي للبعث والصدامية لم يكن (ولن يكون) محكوما بقدسية الأفكار، بل بالمكونات الفعلية للتخلف.
• إحدى المقاربات السوسيولوجية لولادة الظاهرة الصدامية تكمن في انحطاط الثقافة العراقية. ولم يكن ذلك معزولا عن النسيج التاريخي للثقافة العراقية الحديثة وانغلاقها البنيوي. ما هي مرتكزات الظاهرة الصدامية داخل الحقل الثقافي العراقي؟
إن العلاقة بين الثقافة ومختلف مظاهر الحركات السياسية علاقة عضوية. إذ يحدد كل منها الآخر بما فيه وعلى قدر ما يحمله من قيم ومفاهيم وتأثير فعلي في الحياة المادية والمعنوية للمجتمع والأمم. بمعنى أن كل منهما مرآة للآخر و"أداة" قادرة على الفعل. وفيما لو تجردنا عن المطلب المتسامي بتحرر الثقافة والمثقف عن السلطة، فان ذلك لا يتعارض مع ضرورة تفعيل دوره السياسي. فالثقافة قوة سياسية من طراز خاص. وبالقدر ذاته يمكننا وصف السياسة بقوة ثقافية من طراز خاص. سواء ارتقت الثقافة والسياسة إلى مصاف المنظومة أو انحطت إلى مصاف العبارات والشعرات المتفرقة والطائشة. ففي حالة كونها منظومة فإنها تعمل على تنظيم الوعي والعمل، وفي حال خلاف ذلك فإنها تنتح ايضا تشتيت الوعي والمواقف.
إضافة لذلك أن الحركات والتيارات السياسية تعبير عن واقع الثقافة، وذلك لأنها تمثل وتتمثل القيم الثقافية السائدة وأنماطها. وهي العلاقة الجلية فيما آلت إليه أحوال العراق الحالية. بمعنى أن انحطاطه الحالي ليس معزولا عن انحطاط حالته الثقافية. وقد تكون المشكلة الكبرى بالنسبة للعراق في ميدان الثقافة تقوم في انعدامها أو ضعفها بمعايير المنظومة. إذ لا توجد منظومة أو منظومات ثقافية فيه بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. فالسائد فيها أشياء اقرب ما تكون إلى الأعراف والتقاليد والتقليد (العصري ايضا!).
فقد كانت المرحلة الملكية، مرحلة التراكم الثقافي. انها مرحلة التجريب الحر. ومن ثم فهي ثقافة متراكمة وطبيعية. لكنها لم تبلغ درجة الثقافة الاجتماعية الوطنية والقومية لكي يجري تحولها النوعي صوب النفس، بوصفه المسار الطبيعي والتلقائي لوعي الذات التاريخي. وبدون ذلك لا يمكن تأسيس المسار الطبيعي لارتقاء الثقافة صوب الرؤية الثقافية المتسامية. أما التحول الراديكالي وصعود الفاعل السياسي والأحزاب منذ خمسينيات القرن العشرين فقد أدى إلى قطع هذه العملية الطبيعية. وهنا ظهرت للمرة الأولى فكرة ورغبة وممارسة وأساليب جعل الثقافة خادما وضيعا للسياسة والأحزاب.
ففي تحول الثقافة إلى خادم وضيع للأحزاب والمثقف إلى تابع لرجال الأحزاب يكمن المصدر الاكبر لانحلال وتخلف الثقافة وسقوطها شبه التام. مع ما رافق ذلك من ازمة ذاتية بنيوية. ولعل أهم سماتها وخصوصيتها في العراق تقوم في تحول الأحزاب إلى ملجأ شبه وحيد للمثقفين. بحيث أصبح الصراع من اجل كسبهم لحضيرة الأحزاب مرجعية سياسية فكرية ثقافية كبرى، وليس للعقل الثقافي للأمة. وأصبح "المسئول الحزبي" يتحمل "مسئولية" تقديم المثقف للمجتمع! بمعنى فقدان المسئولية التامة. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار طبيعة ونوعية وحجم الجهل المعرفي المميز لرجال الأحزاب الراديكالية في العراق. عموما أن الحزبي لا يمكنه أن يكون مثقفا. تماما كما أن المثقف لا يمكنه أن يكون حزبيا. فالثقافة الكبرى منظومة حرة، أي متحركة وعاملة ومبدعة بمعايير المرجعيات المتسامية للأمة وتاريخها الذاتي. بينما الأحزاب أيا كانت تبقى جزئية وعابرة وأيديولوجية.
إن سيطرة الحزب السياسي على الثقافة والمثقف أدى أولا وقبل كل شيء إلى انحلال وتحلل فكرة ومؤسسة النخبة بشكل عام والثقافية بشكل خاص. وقد تكون نماذج الشيوعية والبعثية، بوصفهما التياران الاكبر للفكرة والممارسة الراديكالية للأحزاب السياسية على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، يكشف عن أن معيار الارتقاء في سلم الحزب هو الجهل والحثالة والهامشية الاجتماعية أو القومية أو الدينية أو الثقافية أو مختلف تركيبتها أو بمجموعها! وهي إحدى المفارقات الكبرى للتاريخ الحديث والمعاصرة في العراق. إذ نقف أمام أحزاب تدعو للمعاصر والحداثة بينما في جوهرها هي تمثيل وتمثل لقيم التقليد والتخلف. مما أدى بدوره إلى ظهور ثقافة حزبية مسطحة ومثقف حزبي أجير ومثقف مرتزق. أما الثقافة فقد أصبحت جزء من مغامرة الأحزاب الراديكالية والحثالة الاجتماعية. وحصلت هذه الظاهرة على ذروتها وتجسيدها التام في الصدامية بوصفها الممارسة التي أكثر من تمّثل ومّثل هذه الظاهرة. وذلك لأنها كانت نتاجها الأكثر تجانسا وتشوها في الوقت نفسه، كما نعثر عليه في دفعها هذه الظاهرة إلى أقصى واقسي أطرافها وأشكالها.







#يوسف_محسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سياسات العنف الجماعي
- رهاب جماعي
- كامل شياع .... طفل العذراء الهارب نحو حافات التنوير
- النخب العراقية وازمة سؤال الهوية
- خفة الكائن الذي يطير
- سيرورات التمركز في الثقافة العراقية {خطابة الهوية
- سيرورات التمركز في الثقافة العراقية
- سؤال الثقافة في الدولة الوطنية
- الرسوم الدنماركية
- تخطيطات اولية حول تأهيل الدين العقلاني
- ماركس او فخ النظام الاستشراقي
- قراءة في كتاب هوبزبوم (نحو تأسيس تاريخية نقدية)
- الاوهام المقدسة
- السرديات الاسطورية للدولة التوتاليتارية العراقية ........... ...
- الاستعارات الكبرى التمركز الاوربي ، الهوية ،الاسلامويه الاصو ...
- لاتقلع جذور القلب انها في القلب ( حلبجة )
- المخرج السينمائي العراقي جمال محمد امين : السينما أداة ثقافي ...
- فخ الخطاب الشعبوي العراقي
- في تركيب صوره هجائيه للسياب
- اختراع الشرق: وظيفة النظام الثقافي الاوربي


المزيد.....




- لعلها -المرة الأولى بالتاريخ-.. فيديو رفع أذان المغرب بمنزل ...
- مصدر سوري: غارات إسرائيلية على حلب تسفر عن سقوط ضحايا عسكريي ...
- المرصد: ارتفاع حصيلة -الضربات الإسرائيلية- على سوريا إلى 42 ...
- سقوط قتلى وجرحى جرّاء الغارات الجوية الإسرائيلية بالقرب من م ...
- خبراء ألمان: نشر أحادي لقوات في أوكرانيا لن يجعل الناتو طرفا ...
- خبراء روس ينشرون مشاهد لمكونات صاروخ -ستورم شادو- بريطاني فر ...
- كم تستغرق وتكلف إعادة بناء الجسر المنهار في بالتيمور؟
- -بكرة هموت-.. 30 ثانية تشعل السوشيال ميديا وتنتهي بجثة -رحاب ...
- الهنود الحمر ووحش بحيرة شامبلين الغامض!
- مسلمو روسيا يقيمون الصلاة أمام مجمع -كروكوس- على أرواح ضحايا ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - يوسف محسن - ميثم الجنابي في سؤال التوتاليتارية؟