أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود يعقوب - الفراشة الميتة : قصة قصيرة















المزيد.....



الفراشة الميتة : قصة قصيرة


محمود يعقوب

الحوار المتمدن-العدد: 2601 - 2009 / 3 / 30 - 08:22
المحور: الادب والفن
    



بحق السماء .. ماذا تـُسَمـّون هذا ؟ .. هلال ٌ ونجمة ٌ لوحدهما .. فرقدان منيران ، وحيدان في السماء ؟.. من أتى بهذه النجمة جنب الهلال ؟.. هلال ٌ بقرنيه المرفوعين إلى الأعلى ، ثغر باسم ٌ ، قرب نجمة ٍٍ هامسةٍ تنبض بشبق ٍ .. أضواؤهما البيضاء والصفراء والحمراء معجونة بالرغبة الراعشة في المساء .. في المساء الذي كان لهما وحدهما فقط .
السماء التي فوقنا ، كانت تغطينا هائلة ً ، شاسعة ً كالبحار ، ربداء فاهية العتمة ، بدت كواكبها نائيةً، متضائلة بوجوهها الشبحيّةً مثل نجم السهى . السماء القفراء ، خالية ً من زخرفتها الإلهية .. خالية ً من شمعداناتها ، من ثريـّاتها ، ومن مصابيح زينتها ..يا للسماء العظيمة كم تبدو مهجورة !..
فقط .. فقط كانت هنالك هذه النجمة بثوب سهرتها الفاضح ، وقريبا ً منها كان الهلال بقرنيه كالثور الهائج ، بحق السماء ماذا تـُسـَمـّون هذا ؟.. أنا لا أسمـّيه إلا ّ موعدا ً للغرام ، ترضون أو لا ترضون إنهما في خلوة عشق ٍ أكيدة ٍ ..
لا أعرف كيف أكتب عن جَدّي ، ولا من أين أبدأ ، إلا ّ أن من المؤكد أنني أعرف جيدا ً أن جَدّي كان مراهقا ً في الثالثة والسبعين من عمره حين أنهى مضاجعاته ، التي لا تعد ولا تحصى ، بتلك المضاجعة المشؤومة التي كادت تدَمـِره ،وتنهي حياته ، حينما أنشب النيران في عضوه الذكري !.. ولولا نجدة الجيران ، لكانت سمعة العائلة الكريمة قد تقوَضَت وأ ُطيح بها إلى الحضيض ..
ثلاث وسبعون سنة ً نزلت من شلا ّل العمر الهادر ، كالحلم ،نزلت في ثلاث وسبعين لحظة ٍ ، خطفت كالبرق ، إلى حد ّ أنها لم تترك له فرصة حتى يهرم ويشيخ ، ليظل مراهقا ً يتمرغ في أتون الشهوة .. في هذه السهول .. تحت فيء النخيل جرى العمر سريعا ً..
كان يؤكد لي أن عمر الإنسان ليس أطول من عمر الفراشة ،ما إن تذبل الأزهار ، وتجف الأوراق ، حتى ترحل الفراشات بعيدا ..
في سهل ٍ من تلك السهول الفقيرة ، في سهل ٍ يجلس أمام نهر ( الغرّاف ) كالدرويش
ثانيا ً ركبتيه وسادلا ً يديه الناحلتين فوقهما ، ومائلا ً برأسه إلى الخلف قليلا ً ، ومرخيا ً في نداوة الهواء غناءه المهموس .. في ذلك السهل كان بيت جَدّي .
بيت جَدّي من الطين ، من طين (الغرّاف ) ، بيت صغير ، حين ترشقه زخّات المطر سرعان ما تفوح منه رائحة الطين الحُر . تتسرب الرائحة من الأعماق البعيدة ، عطر ٌ روحاني ٌغارق ٌ في القدم ، يشبّ من أقاصي الطفولة ، ينهمر من خلف السحب العالية ، ويهيج في داخلي شهية ً بدائية ًٍ غامضة ، أيام كنت ُ صغيرا ً أمضغ شيئا ً من هذا الطين اللذيذ خلسة ً عن الأنظار !..
بيت جَدّي مَبني ٌ داخل بستانه الكبير ، يدير ظهره إلى بيوت القرية المتناثرة ، كان سياج البستان من الطين أيضا .. سميكا ً وعاليا ً.. بعلوِ قامة ٍ ورفعةِ يد ٍ ، في أعلاه غرزوا الكثير من الأشواك اليابسة . في هذا البيت يعيش جَدّي وجَدّتي لوحدهما ، بينما كان والدي ، ابنهم الوحيد ، يعيش بعيدا ً عنهما ، كانا يعيشان وكأنهما لم ينجبا أحدا .. يعيشان جنبا ً إلى جنب مع العصافير الكحليّة ، التي ضفرت كل َّ أعشاشها في بستانهم ، والقُبـّرات الغريبة المستوحشة ، وتأتي إليهم الأرانب البريّة بعض الأحايين تلعب في المساء .. تلعب في البراح .. تلعب في حدقات عيونهم الضاحكة !..
كان جَدّي يدير البستان لوحده ، حافيا ً طوال يومه ، رافعا ً ثوبه ، مشمرا ً عن ربلتيه العظيمتين . الجت محصوله الوحيد ، يزرعه في الصيف والشتاء .. يزرعه على الدوام وكأنه يرعى فيه !.. لا يبتعد أبدا ، هنا عالمه الوحيد ، عالمه الشاسع الذي لا تحده حدود ، عالم ٌ أوسع من الكون الذي يتحدثون عنه .. بسهوله اللانهائية وسمائه ِ المنقطعة النظير وشلال نهره الدفـّاق ، وليس خلفه شيء ٌ يضاهي الروائح العابقة ، والفراشات الحنونة ،والهدوء البارد ، ووشوشات الغرّاف الضاحكة ، وأنوار جَدّتي الدافئة ، وبخور العرب المحروق عند الغروب ، الذي يطرد الشر ويجلب الحظ السعيد ..
(إن جَدّك لا يشبه إلا ّ نفسه ) ، كرّروا هذا القول على مسامعي آلاف المرّات ، وأضافوا : ( أنك ستشبّ بشكل ٍ مختلف ٍ ، على الرغم من أنك سليل حامضه النووي ، وأن هذا الفك الكبير ، وتلك الجبهة الواسعة اللذان ورثتهما عنه ، بإمكانك انتزاعهما ورميهما إلى النهر إن شئت ذلك !.. ) .
كان رجلا ً ضخما ً يشبه الطين الحـُر ، بمثل رائحته ، بسيطا ً وليـّنا ً ، يخزن وجهه الغامض الكثير من الأسرار!.. إن فكه الضخم وجبينه العريض ، ينقضـّان
على تقاسيم الوجه الأخرى ويحصرانها في حيّز ٍ ضيق ٍ يورثه الغموض ..
تحت الجبين تبرق عيناه الصغيرتان ، رأسين لفرخين من أفراخ طيور ٍ ،تشرئب من العش ،وتحتهما كان الأنف والفم ضائعين ..إنها معالم وجه صعبة ، تربك من يريد قراءتها . ً
كان دمه ممزوجا ًبالحب ، تائها ً في الحب وسعيدا ً ، رجل ٌ فحل ٌ مهتاج ، تثيره الرغبة بلجاجة ٍ . منذ شرخ شبابه عشق جَدّتي وبذل لها الوجد . كان يلبي نداء الطبيعة كل ليلة ٍ .. كل ليلة ٍ يرتوي من كأس النشوة الأوفى ، وأقول بحق ، كان لا يخلد إلى النوم .. لا يعرف طعم الراحة .. لا يعرف كيف يعيش ، إذا لم يبلل شرشف الليل المخملي بعرقه ، ويندّي الأغطية برطوبة اللهاث !.. وكانت جَدّتي مهرته الكحلاء .
لم تخبُ جذوة ُ ناره يوماً من الأيام ، كان ربّ الوله الجسدي قد أشعل في أحشائه شرارته الأبديّة المقدسة .
قلت أن جَدّي كان لجوجا ً مع جَدّتي ، لا يتوقف عن مطارحاته ليلة ً واحدة ً ، ومن هذه الزاوية .. من هذه الزاوية بالذات ، كان يحيا حياة فطرية وحشيّة ً مثل حياة البداءة الأولى ، لم يكن جَدّي على إستعداد ٍ للتفريط بها لحظة ً واحدة ً ، أشبه بطقوس عباديّة ٍ ..طقوس يعبد فيها ربّا ً منحوتا ًً من التمر ، يأكله في الليل ، يمضغه بتلذذ وازدراء يسيل له اللعاب ، يمضغه قطعة ً قطعة ، وفي النهار يعود ليصنع تمثالاً آخرَ لربـّه ، من ألذ التمور ، يظل ُ يعبده طوال اليوم !..
جَدّتي تعرف أن أي تمنع ٍ كفيل ٌ بقلب مزاجه وقذفه إلى الجحيم ، وانقلاب طباعه اللينة السمحة .. كلمة ٌ ونصف كلمة أخرى من الصدود ، كانت كافية لجرفه بعيدا ً..
إلى حدود الانهيار !..
رجل ٌ سيبقى يعاني من الجوع حتى في قبره . في بستانه الأخضر ، سيبقى جائعا ً إلى الثمار اليانعة .. إلى الشمّام .. إلى الطماطم .. إلى الريحان ..
كان قليل الطلب من الدنيا ، لا يريد إلا ّ ما يُتـَيـّمه ، ولا يقطف منها إلا ّ الأزهار العطرية المُسكرة التي تخـَدِر الدم في عروقه وتجعله تائها ً لا يعرف طريقه !..غير أن الليل ليله .. ليله وحده ، بظلاله البنفسجية الحانية .. بهمساته المثيرة ، الناعمة ، المليئة بالرغبات .. الليل .. آه ٍ من الليل !.. في ملاذ الليل لا عقل في رأسه ، الليل فقط لنبضات الروح والجسد ِ ، وفيه يكون طليقا ً مع نجمته في السماء العظيمة .
كان جَدّي مراهقا ً لم يوقف الزمن مراهقته ، لكنه لم يكن فاحشا ً أو متهتكا ً ، كان يصب جوره الجسدي على جَدّتي وحدها ..
كان رجلا ً حماسيا ً ، مندفعا ً بقواه حين يعمل . في الصباح الباكر كان يؤمه باعة الجت ، يأتون بعرباتهم وحميرهم ، صاخبين ، يطلبون الكثير من الماء والشاي ..
كنت أتساءل كيف يتقبل جَدّي مزاحهم الوقح وكلامهم المتهتك ، كانوا يعكرون
الإصغاء الحالم لتنفس الصباح بلغطهم ويرحلون .
كانت جَََدّتي مقطوعة ً لحنيـّة شجيـّة ،شفيفة ، مشحونة بالعذوبة . احتفظت بالكثير الذي يبقيها جذ ّابة كالفتيات ، ويُذ َكر الآخرين بإنوثتها .. قوامها الناعم المترف .. مشيتها المتغنجة .. وجهها الأبيض الحالم ..ملابسها المسكيّة ، كانت تبدو أصغر من جَدّي بكثير رغم تقارب عمريهما ..
ومع أنني لم أر َ في حياتي أحدا ً يغطي شبابيكه بستائر سوداء اللون ، إلا ّ أني أتخيل جَدّتي ستارة ً سوداء ..ستارة ً من الحرير الأسود المائع مثل الماء .. الحرير الذي حاكته على مهل ٍدودات القز الجميلات الماهرات ِ وقدمنه هدية لرب الرغبة المصنوع من التمر ِ !..
ستارة ٌ ينفذ منها ضوء الشمس بلون الرصاص ، فيضيء في البيت حلما ً رماديـّا ً..
صبحا ً بسحابة ٍ شفافة ٍ شهباء ..شيئا ً من الوقار الملائكي الفيـّاض !..
لم ترتد ِ سوى الثياب الداكنة ، الزرقاء والسُمـّاقية ، التي نثروا فوقها الكثير من الأوراد والعناقيد البيضاء ، عريضة ً وسابغة ًٌ . تقف في فناء الدار فخمة ورصينة ،
وحين ترفرف هذه الثياب في هواء الحقول ، فاضحة ً تضاريس جسدها ، مغرية متدفقة بالحياة ، كان جَدّي يحدق بها مليا ً كل حين ٍ وكأنه يراها لأول مرة ٍ !..
تدافعت السنين ولم تهرم جَدّتي . كانت طفلة ًٌ بوجهها الفارغ اللطيف ، الذي يبرز من حجابها الأشقر المهدّب . كان وجهها ببشرته اللامعة الملساء في الحجاب مثل تحفة ٍ
جميلة ٍ ملفوفة ٍ بشيء من ورق التغليف . فيها الكثير.. الكثير الذي يجعلها تختلف عن النساء القرويات .. ليست من تلك البيوت الطينية ، ولا من ذلك الغبار الأسمر المالح . إنها لا تشبههن بخشونتهن وأقراطهن المضحكة . جَدّتي تكاد تكون حضرية ً .. بل إنها حضرية ًٌ حقا ً لولا حرف الياء .. الياء اللعين الذي يُفسد عليها الأمر في لهجتها حين تتكلم !.. ما فتأت تستبدل حرف الجيم بحرف الياء شأن القرويّات كلهن ّ ، وحين كنا نحاصرها ونحثها أن تلفظ الحرف كما هو ، كانت تثور وتطردنا من أمام وجهها ، آمرة ً أن نغرب عنها بشرورنا وهي تصيح : ـ لم أصل بعد إلى هذا الحد من العهارة والاستهتار ..
صافية حياتهما معا ً .. صافية وغزيرة ..مضمخة بعطر الجت وطعم الليل القاتل بسحره .حياة بلا عثرات ..تجري عارية كالهواء ..لوحدها كالهواء ..
كانت تطاوع جَدّي من غير عناد ، مع أنها باتت تدرك أنه رجل من جيل قديم يوشك أن يندثر .. جيل ٌ يجعل المرأة تكفر بنعمة الجسد !.. كانت لا تني تستجيب لدفق رغباته ،بتلك الاستجابات الحالمة ، تتقبل الأمر وكأنها أنثى طير ٍ شبق ٍ .
إن الأمور لم تمض ِ بعيدا ً على هذا الحال ، فما أن شارفت على السبعين من عمرها حتى انهمر البرد في صدرها دفعة ً واحدة ً.. انهمر وكأن فصل شتاءٍ كان يركن بين ضلوعها . خبت تلك الشعلة التي ظلت متوقدة طوال العمر !.. فجأة ً مثل كل النساء اللائي سبقنها إلى هذا الأمر ، وجدت نفسها تكره الفراش ، تشعر بالضجر منه تارة ً، ولا تطيقه على الإطلاق تارة ً أخرى . أخبرت جَدّي بذلك عشرات المرّات ، لكنه كان يضحك ُ في كل مرة ٍ ، وكأن المرأة تسمعه طرفة ً من طرائفها !.. وعندما أمرته أن يقنن نشاطه .. أن يرحمها قليلا ً ،تسمّر أمامها متسائلا ً بنبرة ٍ محذ ّرة ٍ ونظرات متوسّلة ٍ : - هل تـُريدين دفني حيـّا ً أيتها الجميلة ؟..
أخذت جَدّتي تمانعه في النوم ، ونشبت بينهما بضعة خصومات سهلة ٍ وسريعة ٍ ، كتلك التي تنشب بين الأزواج عادة ً ، لكنها سرعان ما تطوّرت إلى خصومات ٍ عميقة ٍ وشجار ٍ فاضح حينما وجدت المرأة ُ نفسها عاجزة ً تماما ً حيال تلك الرغبات المتأججة ، وانتهى الأمر بأن انتزعت فراشها من جانبه لتنام في ركن ٍ قصي ٍ من أركان الغرفة .
( عجائب وغرائب .. بأية أيد ٍ حملت فراشها وهجرته ) ؟ !..
بعد ثلاثة ليال ٍ كاد يجن جنونه ، انفرط صبره ، وانفجر ثائرا ً في وجهها ، وتشاجرا شجارا ً صاخبا ً في الليل .. في ذلك الليل الذي كان الهلال مختلياً فيه بنجمته .. وكان صوت الليل مسموعا . تشاجر معها وخرج هائما ً متطلعا ً في عتمة السماء .
سمعت جارات جَدّتي صياحهما ، هرعن إليها حائرات ٍ في صباح اليوم التالي ، وما أن عرفن الحقيقة منها ، حتى ذرِفن الدموع سخيّة ً من شدّة الضحك !..
الأسرار لا تُسجَن بين الضلوع في الأرياف .. الليل يسري بتلك الأسرار بعيدا ً .. رياح السهول تهب بها ..الفراشات تحملها من مرشف ٍ إلى مرشف .. وحتى الطيور الثرثارة على الأغصان والأسلاك تفشيها بلباقتها ..
سرعان ما توافدت نساء القرية إلى جَدّتي ، لم يجلبن ً حلولا ًمعهن .. كلا ، لقد عرفن سرّ الخصومة ، وما أردن فعله وحسب ،هو أن يحسدن ّ جَدّتي علانية ً وأمام سمعها ، قائلات ً لها بالحرف الواحد : ( أن هذا الضرب من الفحولة نعمة ً فاضلة ً لا يمنّ بها الله على كائن من كان ) ، وتحدثن عن أزواجهن العاجزين ، وعن شرايينهم المتصلبة ، وسعالهم الصدّاح . وأكدن مرة بعد مرة أن الحياة ليست مجرد عمل ٍ وملء بطون ٍ وحسب ، وأن طراوة النفوس تجعلها دائمة الشهوة .. لقد ثرثرن بكلامهن الفارغ وقتا ً طويلا ً.. ثرثرن إلى حد الصداع .. إلى الحد الذي جعل جَدّتي تثور مسعورة ً ، وتطردهن خارج الدار ، وتصفق الباب خلفهن وهي تصفهن بأبذأ الأوصاف .
لم تأل ُ قريبات جَدّتي جهدا ً في إصلاح الأمر ولملمة الموضوع خشية الافتضاح ، والحيلولة دون تحوله إلى مضغة ٍ للماضغين . كانت معهن ّ عجوز ٌ حصيفة ٌ تمكنت بعد لأي ٍ من تهدئة وإقناع جَدّتي ، وتوصلت معها إلى حل ٍ وسط ٍ ، أن تمنح جَدّي ليلتين فقط في كل أسبوع .. ليلتين يمكن للمرأة الصبورة المتجلدة ، مثل جَدّتي تحملهما بأي حال ٍ من الأحوال . تداولن الأمر بوعورة ٍ .. تداولنه بين الجد والضحك ، ومن خلال الهمز واللمز الذي تتفنن فبه أولئك النسوة ..
رفضت جَدّتي الكلام من أوله ِ ، ثم انتفضت ورفضت حتى هذا الحل المنصف . كان وجهها مزمهرا ً ، وعيناها الجميلتان ، تحت قوسي حاجبيها ، مشرعتان ٍِ ، تتطايران شررا ً . رفضت فكرة العودة إلى فراش جَدّي .. رفضت مثل فتاة تـُكرَه على زواج لا ترغب فيه ، ودافعت عن نفسها بجرأة ٍ . لقد بينت لتلك النسوة الساذجات أن الأمر مقزز من أساسه .. انه ليس بمثل تلك السهولة التي يتصورنها ، حين يصورن الأمر وكأنه وخز ذبابة ٍ !!.. كلا .. ليس الأمر كذلك ، إنه على قدر ٍ من العسر بالنسبة إلى امرأة ٍ في مثل سنـّها .. إنه ليس وخز ذبابة ٍ تحطّ ثم تطير .. لقد طلبت إليهن أن يقدرن الوضع بحكمة ٍ ..كيف بإمكان المرء أن ينهض عند الفجر ، قبل الصلاة ، في ذلك البرد الأزرق الكالح ، كي يغتسل ، ويشطف ثيابه وأغطيته ؟.. ثم تساءلت بحزن ورِقـّة ٍ ( هل هي محكومة حتى الموت بهذا العمل النزواتي الشاق ) ؟.
نجحت تلك العجوز الحصيفة في آخر المطاف أن ترغمها بكثير من التوسل على التضحية بليلتين فقط من كل أسبوع بدلا ً من استشراء الفضيحة التي يصعب إخمادها . تقبلت جَدّتي هذا الاقتراح الكريه على مضض ٍ ، ووقفت وسط قريباتها حابسة ً دموعها تندب حظـّها ، حتى انفجرت أخيرا ًباكية ً بصوت ٍعال ٍ ، وراحت تلطم فرجها بطرف كفها لطمات ٍ سريعة ٍ وهي تصيح :
تعسا ً لفرجي الذي لم يساوِ فروج النساء !..
كان جَدّي جالسا ً ، يسمع ويرى ، لكنه كان واثقا ً أنها لا تعني ما تقول . وصحيح ٌ أنه لم يسمعها يوما ً من الأيام بمثل فساد اللسان هذا ، إلا ّ أن حرقة قلبها المريرة والحرج الهائل الذي وجدت نفسها غارقة ً فيه ، هما اللذان دفعاها ، بلا شك ٍ ، لعمل ذلك !..


تم الاتفاق بين النسوة أن تكون ليلة الاثنين وليلة الخميس هما الليلتان اللتان استقر عليهما القرار .
بعد أن نجحت العجوز بإقناع جَدّتي ، توجهت بلا تأخير إلى جَدّي ، وكان أمره غايةً في السهولة بالنسبة لها ، ذلك لأن الرجل يشعر بالإحراج والخجل ، وسوف يوافق على كل شيء تقترحه من دون تردد ..
بالفعل ، تمكنت المرأة من إقناعه قائلة ًله : ( أن القليل الموجود أفضل من لاشيء ، وأن للشيخوخة ضرائب َ ليس بوسعه أن يمررها .. ) .
اقتنع بالكلام ، أو تظاهر بالاقتناع ، ليفسح الطريق لمغادرتهن بعد أن طال مكوثهن وتعبن كثيرا ً من الكلام . يا إلهي كم تحدّثن ؟.. وكأن نبعا ً ثرّا ً محبوسا ً في جوف الأرض تفجـّرالآن .. تفجـّرإلى الأبد .. إن النساء إذا شرعن بالكلام لا يوقفهن أحد ٌ !.. وحتى تلك العجوز بعد أن أنهت وساطتها بنجاح ، وقفت وهي تعاني من الدوار، هاتفة وواضعة ًيديها فوق رأسها بشكل كرة ٍ كبيرة ٍ :
ـ الله أكبر .. ، لقد صار رأسي بهذا الحجم !..
فور خروجهن ، راح جَدّي يلوم جَدّتي بحرقة من يشعر بالإنخذال ..يلومها بصوته المتحشرج المعذب ، وكان يبدو باكيا ً حين تساءل :
ـ يومان .. يومان فقط أيتها الجاحدة ؟.. يومان يا ناكرة الجميل ؟.. أويقبل الله هذه القسمة ؟.. أويقبل الشرع ؟.. هل من الإنصاف أن أ ُ ترك خمسة أيام ٍ منكب على وجهي كالأرمل؟!..
كان يتفوه تلك الكلمات متمهلة ً ، متباعدة ً ، بصوت ٍ متوحد ٍ غريب ٍ ، يشبه صوت القبـّرات عند الغروب ..
يصح القول أن الأيام ، التي توالت بعد ، كانت وحشية بلا وجدان ، باعدت بينهما ، أمسى كل واحد ٍ منهما ينام على ضفة بعيد عن الآخر . وفي ليلة الاثنين أو الخميس ، كان يقصدها تحت جنح الظلام ، يتنحنح بقربها ، وينغزها بأصبعه . وفي الظلمة الدامسة كان يمارس معها الغرام .. يمارسه من الغلاف إلى الغلاف .. دون أن يهمل صفحة ً واحدة ً من كتابه .. يمارسه بالحرقة الفيـّاضة .. بالشوق المستعر .. بالنشوة الطافحة السكرى !..
مابين ليلتي الاثنين والخميس ، يظل جَدّي نافد الصبر ، كئيبا ً هائما ً في الليل ، كالديك المحروم ، يجول حائما ً حول جَدّتي ، متلصصاً ، محملقا ً بها كالباز ، ينضنض بلسانه كالصل ، وحين يعجز الصبر من الإمساك بخناقه ، كان يسرع وينقض عليها ، متحايلا ً بأن الليلة هي ليلة أثنين أوليلة خميس ، وبعد أن تكتشف جَدّتي في اليوم التالي خداعه ، تشتبك معه ، ويعلو اللغط والصراخ والشتائم ..
كان يستميت لدس الأيام بعضها في البعض الآخر ، ومغالطة ترتيبها ، من أجل غنائمه ..
ثلاث سنوات ٍ عجاف مرّت ، بأيامها ولياليها العنيدة .. لياليها المنخلية الواسعة الثقوب ، المهتزة ، التي أسقطت أجمل رغباته المتوقدة ..
في تلك السهول تسربت حكايته مثل أغنية طرب ٍ . لم يتبق َ رجل إلا ّ وسمع بها ، لكن كل الذين سمعوا عنه وكل الذين عرفوه وخبروه استلهموا منه الحكمة البليغة ، لقد تعلموا أن لا يزدروا السيوف المخبوءة في أغمادها !..
ثلاث سنوات متعثرة مرّت ، قبل أن تأزف الساعة التي انقلبت فيها الأمور رأسا ً على عقب ٍ !.. إذ حلـّت في ضيافتهم امرأة ٌ كريمة من قريبات جَدّتي ، وكانت تشبه جَدّتي شبها ً غريبا ً ، تشبهها في كل شيء .. قوامها ، شكلها ، وصوتها .. وكانت تلك الليلة ليلة خميس .
اعتاد جَدّي في الليالي السابقة نوعا ً من السهر .. سهر طارىء يلجأ إليه في بعض الليالي ما بين الاثنين والخميس . كان يجلس عند جدار البستان الخارجي في مواجهة النهر، يشبّ نارا ً صغيرة ، يدس فيها إناء قهوته ، ويصادف أحيانا ً أن يتسكع بقربه بعض الشبان الذين يصغرونه كثيرا ً . وفي هذه الليلة أنهى سهره وتسكعه معهم ورجع متأخرا ً إلى البيت .
الغرفة الطينية التي يأوون إليها طويلة ورحبة ، تسبح في الظلام . حين عاد جَدّي من سهره وجد المرأتين نائمتين وبوسعه سماع غطيطهما ، وكانت عطور المسك تملأ هواء الغرفة .
ليلة الخميس تلك كانت ليلته ، جلس في فراشه يدعك وجهه ورقبته بمنشفته طويلا ً، سارحا ً ومترددا ً، فشل حين جرّب أن ينام . كان متلهفا ً ، عد ّ ساعات الأيام المنصرمة ساعة ً ساعة لمثل هذه الليلة . وكان يدير عينيه الواهنتين في الظلام صوب فراش ضيفتهم ويقول في سرّه : ( من أين جاء بك الله في هذه الليلة ) ؟. كان جالسا ً ونار الرغبة تلسع قلبه لسعا ً ضاريا ً ..جالسا ً في المسك منتشيا ًً، والدم يتدفق في عروقه كالجمر .
بعد طول تردد نهض على وجل ٍ وقصد أنثاه ، كما كان يفعل ، نغزها بأصبعه وهو يتنحنح بصوت ٍ خفيض ٍ ، توقفت المرأة عن الغطيط دون أية استجابة ، سارع إلى هزها بيده ، ودفع يده متلمسا ً ثيابها . عندها فزّت المرأة مرعوبة ً، أمسكت يده بسرعة ٍودفعتها إلى الخلف وتساءلت بهمس وارتعاش :
ـ ماذا تريد .. ماذا حل ّ بك ؟..
آنئذ فقط عرف أنها ضيفتهم وليست جَدّتي !.. صُعِقَ وانعقد لسانه حيرة ً ، اعتذر بارتباك مهول ،وزحف إلى فراشه كما يزحف الكلب المفروس فراسة ً مميتة !..
تمدد مرتعصا ًً من الخوف والخجل ، في الوقت عينه الذي كانت فيه جَدّتي صامتة ً لم يندّ عنها أي فعل ، ولا يعرف أحد ٌإن كانت قد سمعت بما جرى قربها أو لم تسمع !..
في الصباح الباكر ، استيقظ كالمريض .. مثل مسافر ٍ أمضى ليلته في شاحنة مرعبة ، لم يجد ضيفتهم ، لقد رحلت فجأة ً.. رحلت بصمت وغرابة .. رحلت ونغزة أصبعه بقيت كالخنجر المغروس في جنبها !.. فتح عينيه المذهولتين على منظر جَدّتي جالسة ًبهيئة ٍ غريبة جدا ، مكفهرة ،مطرقة ، منكسرة ، لم ترفع وجهها عن الأرض لحظة واحدة ، كانت تغلي كالبركان الأخرس . وفي هذه اللحظات ، أدرك ورطته ، والحرج الذي ساق نفسه إليه ، وتمنى لو أن الأرض تبتلعه . فجأة ً أحسّ بالخوف من الأيام المقبلة ، وعلى غير عاداته شعر برغبة جارفة في أن يموت !..
الانطباع العابس على محياها يُهدده ..لم يكن قادرا ًً على التحرك من مكانه مترا ً واحدا ً ، فقط كان ينتظر الانفجار .. الانفجار الذي سوف يُزلزله ويعصف بآماله .
كان يعرف أنه متسخ وأنه يجلس بانتظار أن تغسله جَدّتي بدفقات من كلامها الخشن الفوّار!.
ما لبثت أن أخذت بالنشيج .. نشيج أنيني مبحوح ، ينبثق من بين ضلوع امرأة ثكلى .
ثم رفعت وجهها نحوه وصرخت في وجهه :
ـ أف ٍ وتف ٍ لفعلتك ..رجل ٌ قدماك متدليتان في القبر وتفعل هذا .. الله لا يوفقك ..
لقد عملت عملة ً كبيرة .. عملة ً لا يسترها ثوب ٌ من الثياب !..
بلا شك ، أنها تدرك أن الأمر حدث سهوا ً ، وأن المكر بالمحصنات لم يكن من خُلقه وشيمته ، لكنما من يُخيط ؟.. من يرتق الفتق الكبير الذي فتقه ؟..
مثل مريض ٍ مُخدر ٍ كان جالسا ً أمامها شبه غاف ًٍٍ ، مغمورا ً بمشاعر الأثم ، تصب عليه وابلا ً من الشتائم تارة ، وتلومه وتزجره تارة أخرى . عندما تشعر بالإعياء ، تتوقف برهة ً ، تلتقط أنفاسها ، وتمسح أنفها وعينيها ، وتقسم بأغلظ الأيمان وأقدسها أنها لن تشاركه الفراش بعد الآن لحظة واحدة !..
هكذا بخيط ٍ رفيع ٍ من الدمع الممزوج بالكحل أنهت آماله الكبيرة ..
أحجمت عنه وأطلقته في بستان العزلة كالطير الغريب . ثم طفقت تبكي بحرقة . كانت تبدو بائسة وحرية ًبالشفقة .
عيّل صبر جَدّي على تعنيفها وتقريعها ، انصرف عنها بلا فطور ..انصرف بأحاسيس مخزية إلى أرضه . أمضى فيها ساعات ٍ كئيبة ، لم ينجز أي عمل ٍ حقيقي
بقدر ما كان يحوص ضائعا . عند الظهيرة عاد إلى البيت ، ليفاجأ بها جالسة كما تركها ، تجتر شكواها ، تلعن طالعها الأسود . وسرعان ما تشاجرا ، وهي تتهمه تهما ً بشعة ً!..
كانت المشاعر المريرة المتناقضة تضطرم في صدره . وكان يشعر بشيء ٍ ما يضغط على أنفاسه ، شيء أشد حرقة من حموضة المعدة ، شيء ثقيل ينام على قلبه !.. وبالرغم مما عُرِف عنه من صلابة وتماسك ، إلا ّ أنه اهتز ّ بعنف وفقد زمام السيطرة على نفسه ، وبدا هشـّا ً، ركض في فورة انفعالاته وصبّ بعض النفط على صدره وأثقب عيدان الكبريت في ثيابه ، وأخذ يحترق أمام عيونها وهو يصرخ كالمجنون !..
لم تصدق المسكينة ، الخائبة ما حدث أمامها من فعل ٍ شيطاني بمثل هذه السرعة المتناهية .. صبّ النفط وأحرق نفسه برمشة جفن ، وكأنه يحرق كوم َ نفايات في بستانه !.. وكالمجنونة المسعورة ، راحت تشهق وتشق عباب السماء بجئيرها ، وهي تحثو التراب على جسده لإخماد النار ..هرع أحد الجيران وساعد جَدّتي في السيطرة على النار ..حملوه في ذلك النهار الأحمر الرهيب إلى المستشفى . وفي الأيام التالية ظلـّوا يجلبون له مُضـَمِدا ًًمن المدينة ليطليه بالمراهم .
مع كل التعاسات التي حضيت بها جَدّتي خلال هذه الأيام العصيبة ، فأن جميع النسوة اللائي كن ّيترددن عليها ، قد وصفنها وصفا ً تشاؤميا ً يثير الشفقة .قلنَ أن الغم ابتلع وجهها ،وأصبحت عيناها نقرتان ، وشفاهها زرقاء ، وأنها فقدت جميع وزنها ، وصارت بخفة الريشة !.. وتحدثن عن ذبولها ، وحتى ذبول فص خاتمها الشذري ، وتحدثن عن شرودها الدائم .. شرودها الذي يأخذها إلى المجهول .. بل هو أخذها حقا ً !..
أن واحدة ً منهن على الأقل لم تستكن ولم تهيد ، وهي ترى المخالب والمناقير تلتهم العناقيد البيضاء على ثوبها الأزرق .. وترى الدخان يسرق اللون المتورد من ثوبها السُمـّاقي . أن واحدة منهن هز ّت جذعها ورشّت فوقه رذاذ المؤاساة ، ونجحت بمصاحبتها وعرضها على الطبيب ، الذي أكد بعد الفحص أن ضغط دمها مرتفع ٌ
كثيرا !..
باتت جَدّتي تمضي أغلب أوقاتها في النوم ، شاكية ً من آلام الرأس ، وأن دخانا ً أصبح يغشي بصرها !..
كان جَدّي يجلس في فراشه يتطلع إليها بأسف ٍ ، كان يراها امرأة من خريف ، تساقطت قربها الأحلام مُقورة ً مثل لسان الثور ِ ، تدير له ظهرها ، ملتفة كأنها دمية من خرق . كان بردها يهب على جفونه .. على عينيه ، فيسيل بعض الماء في مآقيه ويغشى بصره !.. ثم يتمدد في عباءته الدهماء .. يتمدد في سريان الندم ، وانثيال الحسرات ، بروح ٍ تتآكل ، وإحساس بأنه رجل ٌ هرائي ٌ، تخبط خبط عشواء ، وألحق كلّ هذه الآلام بجَدّتي !.. كانت تذوي صامتة ، مخلفة ً في وجدانه ذكريات لطفها وحرصها عليه . لازمها الشحوب ، وأصبحت بلون ٍ بني ٍ مصفر ، وفي الألوان البنيـّة الصفراء كان يجد الإحساس الملائكي واللمسات الإلهية ، لم يكن قادرا ً على الكلام ، بعد كل ما عمله ، لكنما كانت روحه تتوق بحرارة إلى أن يوقضها من
النوم ويقول لها : ( كم أنت جميلة يا امرأة ) !..
لم يستحوذ المرض على إرادة جَدّي ، إنه رجل ٌ لا يتحطم بسهولة ٍ ، لم تأزف نهايته بعد ، لعق جراحه ونهض من فراشه مسرعا ً . عاد إلى عمله بتوق كبير . أخذ يبدي العطف والعناية بجَدّتي ، لكنها كانت تنحدر بأقدامها الكليلة الواهنة فوق منحدر الهاوية !..
ذات يوم ٍ ، عاد من عمله ليجدها تعاني سكرات الموت ، أسرع إلى إحضار إحدى قريباتهم ، لكن جَدّتي لفظت آخر أنفاسها !.. كانت نائمة بشحوبٍ طاغ ٍ .. شحوب لم يرَ مثله من قبلُ .. شحوب يجعلها شفافة كالفراشات الميتة .. شفافة إلى حد ٍ إذا رفعتها بين يديك أمام نور الشمس أو المصباح يمكن أن ترى قلبها ، رئتيها ، كبدها، والحب والحنان ورائحة طين الغرّاف تملأ صدرها ..
كانت ميتة بحجابها المهدّب ..بكحلتها الفاحمة .. بنظرتها الكاسرة .. بشفتيها المفتوحتين قليلا ً واللتين لم تنطقا بكلمة الوداع .. كانت ربة بيت ٍ تسترخي فسحة ً من الوقت بوجهها الحازم الجميل . كان يحدق فيها مبهورا ً وقد بزغت في رأسه فكرة أن يموت هو الآخر في مثل هذه الملامح .
حين جلس جوارها ممسكا ً بيديها ، كانت فراشة يَتـَقـَطـّر من فمها رحيق الماضي ،
ميتة تحت صورة المنتحبة ، المسمـّرة فوقها ، بين صور الأولياء الورقية ، على الجدار الطيني .. تلك الصورة التي تظهر فيها العذراء منتحبة ٌ فوق جسد المسيح المسجى بين يديها . جثى برأسه على نحرها ونثر دموعه بين ثيابها المسكية !..
وحين حملوها خلال البستان ، هرعت خلفها رائحة الجت ، والريحان ، والطين .. وصمتت الطيور مشدوهة من جلبة العويل والبكاء ..
كانت مُغـَطاة بملاءة ٍ فستقية اللون ، تتخللها خطوط بنية متقاطعة ، وفي البستان أشرق هذا اللون آية ً من آيات الجمال بين النباتات الداكنة الخضرة . وكان شعاع الشمس يتساقط فوق الملاءة ويذوب فيها كالقصدير ، فيشع اللون الفستقي سحرا ً يلف جثمان ساحرة ٍ !..ً
بالتأكيد ، أنتم ، وأنا ، جميعنا ، ندرك أن أحداثا ً مؤسفة مباغتة ، من هذا النوع ، سوف تترك آثارا ً عميقة في نفس جَدّي لا تنمحي ، كآثار الحروق على صدره ، وأنها سوف تسحق نزواته ورغباته ، وتذروها هباءًً في الهواء ..هذا ما تبادر إلى ذهني أول الأمر .
في أيام ترمله ،تبدلت نظراته إلى نظرات ٍمذهولة ٍٍٍٍ ، منكسرة ٍ ، مسافرة ٍ ، تائهة ٍ ،
مثل نظرات جندي عائد من الأسر الطويل . رمى كوفيته جانبا ً ، كاشفا ً عن شعره الأثيث ، الذي ينهمر فيه الشيب غزيرا ً، وأنتصب حاجباه كأنه رجل من سكان الكهوف ، ووضع قدميه العاريتين في حذاء من المطاط الإيراني الأسود .
بدت سحنته بلون التراب ، وجهه الترابي بنظراته المسافرة كان أثراً من الآثار التاريخية .. وجه تمثال من آلاف سنين غابرة .. تمثال لأله الليل و الفِراش المبثوث برائحة الحنـّاء والمسك ..
لم يبق َ جَدّي وحده في البيت ، إنما كانت أطياف مهرته تملأ الأركان . كان حين يتمدد في غرفته الواسعة ، الخالية إلا ّ من منضدة الأفرشة والصور الورقية التي تغطي الحيطان ، يستغرق بعض الوقت في ملاطفتها ونجواها ، وكان يغني لها بصوت ٍ عذب ٍ متحشرج ، إن أجمل ما عثر عليه في سرداب حرمانه هو هذا الغناء المأتمي الذي يحرك الحجر .. وفي الليالي .. الليالي التي تنكأ الجراح ، كان الغناء سلوانه الأخير ..
كان في صوته ونبرته المتحشرجة حنين ًٌ فتـّاك ًٌ إلى الوصال . إن بائع الجت الذي أنصت إليه ذائبا بوَلـَهٍٍ ، قال عن هذه الحشرجة التي يسمعها تتدحرج في صوته انها ذبحة .. ذبحة موس ٍ ليس لها دواء !..
في البستان .. في جريان الحياة ، خضراء ـ زرقاء كالتركواز ، هل كان جَدّي جذعا ً يابسا ً ، متخشبا ً حين أراه وأقدامه مغروزة في الطين كالشجرة ؟.. كلا .. إنه يبدأ من جديد .. بعد الثالثة والسبعين يمضي قدما ً نابضاً بالحياة ، بقلبه وروحه الخضراء والزرقاء وحتى بتلك الاختلاجات السريعة التي تنتابه في أعلى فخذيه مرّات ٍ ومر ّات . وفي كثير من الأحيان ، خلال عمله ، كان يتوقف وهو ينظر إلى الطيور ، متمنيا ً أن تكون جَدّتي قربه ، ليحملها ويطير بها إلى فوق .. إلى الأعالي .. إلى أفنان الأشجار ..إلى أسلاك الكهرباء ، وهناك يحطـّان بين العصافير العاشقة ويمارسان الحب جنباً إلى جنب ٍ مثلها !..
إن باعة الجت ، الذين يمازحونه بقسوة ، كانوا يحبونه بصدق ، وكانوا يأسفون له حقيقة ، وشق ّ عليهم أن يروه وحيدا ً في هذا العمر . في إحدى المرّات اقترحوا له زوجة ً تليق به ..امرأة من معارفهم ، وأكدوا على استعدادهم لترتيب أمر زواجهما .
رفض جَدّي الفكرة تماماً ، رفضها وفاءً لحب جَدّتي ولصون كرامته من ألسن الناس التي لا ترحم وتـَجَنـّب إغتياباتهم المؤذية ..
في الليل ، بين روائح الجت والريحان والنهر .. كان جَدّي يشعل النار للفراشات الملهوفة ، للغناء المتعطش ، للحنين الموجع ، وقرب لهبها الراقص كان يسهر طويلا
هاربا ً من النوم ، وحينما يتعب من الغناء ، وتخبوا ناره ، كان يدفن رأسه في عطور الليل المتأججة ويبكي بصوته المتحشرج الجميل !..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشطرة ـ 2009



#محمود_يعقوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تشابيه
- الشَطريّون : قصة
- حكاية ابن ( علي بابا ) : قصة قصيرة
- أثناء الحُمّى
- أغنية صديقي البَبَّغاء
- ورد الساعة الرابعة
- نبيذ العشق العرفاني من كوز الأمام الخميني
- درس في الرسم :قصة قصيرة
- الندّاف
- تهيؤات : قصة قصيرة
- الحب من آخر نظرة : قصة قصيرة
- برعم وردة على صدر العجوز
- اسقربوط البحر المظلم
- في أرض رجل ليس مريضاً :قصة قصيرة
- غسق الرشّاد البرّي (قصة قصيرة )
- غسق الرشّاد البرّي
- ضريح السرو : قصة قصيرة
- كرابيت GRABEIT
- هكذا تكلمت (خميسة )وهكذا سكتت
- خلدون جاويد: قلب يغرد بالمحبة


المزيد.....




- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود يعقوب - الفراشة الميتة : قصة قصيرة