أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - الاممية الرابعة - تقويم لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية















المزيد.....



تقويم لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية


الاممية الرابعة

الحوار المتمدن-العدد: 795 - 2004 / 4 / 5 - 09:18
المحور: القضية الفلسطينية
    


(نورد فيما يلي نص تقرير عن أزمة م.ت.ف أقرت خطه العام الأمانة الموحدة للأممية الرابعة، في دورتها المنعقدة في شهر يونيو الفائت.)
عن مجلة "المطرقة" ـ مجلة شيوعية ثورية لعموم المنطقة العربية ـ العدد 4 ـ 1986

1- شكل الكفاح ضد المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين، حتى قبل التأسيس الرسمي لدولة إسرائيل في عام 1948، بل منذ فرض الانتداب البريطاني في عام 1920 بوجه خاص، عنصرا مركزيا في النضال القومي العربي ضد الوصاية الغربية. وقد دشنت حرب 1948 بين الدولة الجديدة وجيرانها، مرحلة أخذت فيها الدول العربية على عاتقها وبصورة مباشرة، هدف تحرير فلسطين. بيد أن الهزيمة التي لحقت بهذه الدول قد أثارت موجة أولى من التجذر المعادي للإمبريالية في المنطقة، أدت إلى انقلابات يقودها قوميون في مصر وسوريا والعراق. وقد أعلنت الأنظمة الجديدة جميع عزمها على الثأر من إهانة عام 1948 المنسوبة إلى الأنظمة السابقة، لاسيما وأن اشتراك دولة إسرائيل في العدوان الفرنسي – البريطاني على مصر في عام 1956 جاء يؤكد تماما دورها ككلب حراسة للإمبريالية في الشرق الأوسط.
لكن التقاعس الذي أبدته الأنظمة القومية في وجه استفزازات الصهاينة المتغطرسة، قد غذى التشكيك بها. ومن جهة أخرى، فإن الانتصار النهائي لحرب التحرير الجزائرية، في عام 1962، روج مفهومي "الكفاح المسلح" و "الحرب الشعبية"، وحث على تقليدها لتحرير فلسطين. وقد انتظمت شتى تعبيرات الحركة القومية من أجل ذلك، وجرى خلق منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) تحت الوصاية المصرية وبقرار من القمة العربية الأولى، في عام 1964، لأجل احتواء الدول لموجة التجذر الجديدة التي بدأت ترتسم معالمها. هذا وقد دخلت شتى اتجاهات الحركة القومية غير الحاكمة، هي أيضا، ميدان المنافسة. والحال أن أكثرها تخلفا من حيث الأيديولوجيا، حركة فتح، المستوحية بالإسلام وذات الأصول السلفية، كان لها فضل تدشين الكفاح المسلح، في أول يناير 1965. وكانت هذه الممارسة ـ بالرغم من أيديولوجيا غارقة في يمينيتها، تنفي أي وجه اجتماعي للنضال ـ كافية لعزل فتح عن الأنظمة العربية، باستثناء أكثرها جذرية، نظام يسار البعث الذي استولى على الحكم في سورية، سنة 1966.
إن الهزيمة الساحقة التي منيت بها الجيوش العربية في وجه الجيش الصهيوني، في شهر يناير 1967، قد أكملت تجريد الأنظمة من مصداقيتها وسمحت لموجة التجذر الثانية بالتدفق، على صعيد حركة الجماهير هذه المرة. فإن التعبيرات الرئيسية في هذه الموجة، ألا وهي منظمات الكفاح المسلح المشار إليها عادة بتسمية عامة هي "المقاومة الفلسطينية"، شهدت نموا كبيرا جدا في سنتي 1968-1969، وبالأخص في الأردن. وقد وضعت يدها سنة 1969 على م.ت.ف الرسمية، بعد أن سبقت الأحداث بالكامل هذه الأخيرة. كانت تلك المنظمات امتدادات فلسطينية لشتى اتجاهات القومية العربية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة : فعدا فتح سابقة الذكر، كانت المنظمات الرئيسية هي الصاعقة البعثية، الوثيقة التبعية لسورية، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي تزعمها جورج حبش والتي انبثقت عن حركة القوميين العرب الناصرية. وقد عرفت هذه الأخيرة تجذرا أيديولوجيا بنتيجة أزمة الناصرية عقب الهزيمة المصرية في عام 1967، وانتهى الأمر بالجبهة الشعبية إلى تبنيها "الماركسية – اللينينية"، بعد أن سبقها إلى ذلك سنة 1969 جناحها اليساري المنشق عنها بزعامة نايف حواتمة، والذي أسس الجبهة الشعبية الديموقراطية لتحرير فلسطين (لاحقا الجبهة الديموقراطية). ولم يبق خارج نطاق المقاومة الفلسطينية، بين التيارات المضادة للإمبريالية في المنطقة، سوى الستالينيين ـ على الرغم من محاولة خجولة أجهضت بسرعة. ويجد ذلك تفسيره في سببين: خطيئة الستالينيين الأصلية بتأييدهم لتقسيم فلسطين في عام 1947، ودعمهم "للتسوية السلمية" التي نص عليها القرار رقم 242 (نوفمبر 1967) الصادر عن مجلس الأمن الدولي في منظمة الأمم المتحدة ـ وهما موقفان نبعا كلاهما حصرا من خضوع الستالينيين للاتحاد السوفياتي.
هذا وقد شكل اقتحام منظمات المقاومة الفلسطينية للساحتين الإقليمية والعالمية، بعد عام 1967، واقعا غير قابل للارتداد وذا بعد سياسي عظيم: عنينا تأكيد وجود شعب، هو الشعب الفلسطيني، جهدت الدولة الصهيونية وجارتها الأردنية لمحو هويته طيلة عشرين سنة، بتحويله إلى "عرب إسرائيليين" في جانب من الحدود و"أردنيين (غربيين)" في الجانب الآخر. هذا وقد جندت المنظمات الفلسطينية معظم ألويتها أصلا في صفوف الجزء الثالث من أجزاء الشعب الفلسطيني ـ لاجئي مخيمات (شرق) الأردن ولبنان وسورية، المطرودين من المناطق التي احتلتها الدولة الصهيونية في عامي 1947-1948. إن م.ت.ف، بضمها مجمل تلك المنظمات بعد عام 1969، قد فرضت نفسها عبر السنين كقيادة للنضال القومي لمجموع الشعب الفلسطيني وبالتالي كتعبير عن هوية وكرامة وطنيتين طالما أهينتا.
2- بالرغم من التنوع الأيديولوجي الكبير لمنظمات التحرير الفلسطينية ـ التنوع بين المنظمات، ولكن أيضا داخل أوسعها، حركة فتح، حيث تعايشت تيارات تراوحت بين السلفية والماوية ـ فإن عدة سمات سياسية وعملية كانت مشتركة بينها وشكلت في الواقع حدودها العضوية. هذه السمات تتعلق بميزتين سياسيتين:
- القصوية : إن تحرير فلسطين، وهو الهدف المشترك الوارد في اسم جميع المنظمات الفلسطينية، لا يمكن مماثلته بتحرير الجزائر، مثلا. ففي هذه الحالة الأخيرة، كان ميزان القوى على الأرض بحيث ظهر الهدف معقولا، بينما الهدف في الحالة الفلسطينية يتعدى حجمه بكثير إمكانات الشعب الفلسطيني وحده، لاسيما وأن ستين بالمائة (60 %) من الفلسطينيين يقيمون خارج وطنهم التاريخي، وهم خاضعون لحكومات عربية شتى. من جهة أخرى، فإن تمسك السكان اليهود الإسرائيليين ب"أرض الميعاد" ـ هؤلاء السكان المطرودين من بلدانهم الأصلية من قبل الاضطهاد العنصري والمزروعين في فلسطين من قبل الحركة الصهيونية ـ هو تمسك أقوى بما لا يقاس مما كان لدى المستعمرين الأوروبيين في الجزائر الذين كانوا يحوزون على وطن أصلي هو فرنسا. علاوة على ذلك، فإن الدولة الصهيونية، بالإضافة إلى القوة العسكرية الهائلة التي تميزها، هي في نظر الإمبريالية الأمريكية جزء لا يتجزأ من أرضها الخاصة بها. إن تحرير فلسطين، في تلك الشروط مجتمعة، تحريرها بمعنى التمكن من تفكيك الدولة الصهيونية، مهمة عظيمة النطاق ولا تكفي لتحقيقها "الحرب الشعبية" التي دعت لها المنظمات الفلسطينية بمجملها. لذا فمع افتقادها لأهداف انتقالية كالانسحاب الإسرائيلي غير المشروط من الأراضي المحتلة سنة 1967، اقتصرت هيمنة المقاومة الفلسطينية، خلال سنواتها الأولى، على سكان مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الذين جعلهم وضعهم الاجتماعي الهامشي يتقبلون القصوية: فبدل تصور نشاطات المقاومة المسلحة كعنصر من عناصر استراتيجية ثورية شاملة، مكمل لمختلف أشكال تعبئة الجماهير، درج تصورها "على الطريقة الجزائرية"، أي كوسيلة ملائمة لهدف التحرير وقادرة على تحقيقه. وقد حتم ذلك التصور بلوغ مأزق في أمد قصير، مأزق يفسر لجوء المنظمات الفلسطينية المتزايد، منذ عام 1968، إلى نشاطات من النمط "الإرهابي" خارج أرض فلسطين وخارج المنطقة العربية.
- "القطرية الفلسطينية" : لقد اقترنت قصوية المقاومة الفلسطينية بعجزها عن الانخراط في استراتيجية ثورية إقليمية شاملة. بل وبحفز من الأوهام التي نجمت عن نموها بالغ السرعة في عامي 1968-1969، آمنت المقاومة بإمكانية، إن لم يكن بقرب، انتصارها الخاص بها على الدولة الصهيونية. فلم تبد بالتالي، وفي أحسن الأحوال، سوى اهتمام ثانوي جدا بما كان يفترض به أن يشكل طليعة مهامها: أي تعبئة الحلفاء الذين ليس لنضال المقاومة بدونهم أي أفق انتصار واقعي.
أولا، الجماهير الكادحة في البلدان العربية، وخاصة البلدان حيث يتركز اللاجئون الفلسطينيون وحيث كانت قواعد الكفاح المسلح موجودة. والحال أن م.ت.ف بوضعها المصالح المباشرة لنضالها الخاص بها فوق أي اعتبار ـ وهو خيار تبين لاحقا أنه خاطئ كليا ـ اتفقت مع الحكومات العربية باسم النضال المقدس ضد العدو القومي المشترك، بدل دمج قواها بقوى الجماهير الكادحة من أجل الإطاحة الثورية بالأنظمة الموجودة وقيام حكومات مستعدة حقا لدعم نضال الشعب الفلسطيني.
ومن ثم، الجماهير الكادحة اليهودية، ولاسيما جماهير اليهود الشرقيين الأكثر اضطهادا. والحال أن "نزع الصهيونية" من قسم جدير بالذكر من السكان اليهود الإسرائيليين يقتضي أن يبين بوضوح، من جهة، التناقض بين مصالح الشغيلة اليهود ومصالح المؤسسة الصهيونية البورجوازية، ومن جهة أخرى، وحدة مصالحهم التاريخية مع مصالح مجمل شغيلة المنطقة. ويتطلب هذان الهدفان السياسيان تصورا برنامجيا أمميا للمسألة الإسرائيلية، يعترف بالواقع القومي الذي خلقه الاستعمار الصهيوني، وممارسة سياسية وعسكرية تأخذ هذا التصور بعين الاعتبار. غير أن السلوك العسكري المشترك بين المنظمات الفلسطينية جميعها وتصورها السياسي والبرنامجي المهيمن ـ باستثناء عابر وهامشي في حالة الجبهة الشعبية الديمقراطية ـ تعارضا بالضبط مع الاعتبارات المذكورة.
كانت أوخم عواقب قطرية المقاومة الفلسطينية هي ارتهانها بالأنظمة العربية. فسواء فتح التي جعلت من "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية" أيديولوجيا رسمية، أو الجبهتان الشعبية والشعبية الديمقراطية اللتان كانتا تتكلمان باسم الثورة العربية ـ ناهيكم بالصاعقة، وهي إفراز مباشر للدولة السورية ـ جميع المنظمات الفلسطينية قد ارتهنت منذ نشأتها بهذه أو تلك من دول المنطقة: فارتبطت الجبهة الشعبية بالعراق والشعبية الديمقراطية بسورية وفتح بمجمل الدول العربية وعلى الأخص بأكثرها رجعية، أي المملكة السعودية. وقد اختارت هذه الأخيرة إغراق محروستها بأموال طائلة بالنسبة لحركة تدعي أنها ثورية، بقصد جلي يرمي إلى التحكم بها من خلال "الإدمان" على الثراء الذي خلقته عند الحركة. كانت جميع المنظمات إذن تابعة ماليا إلى درجة أو أخرى، بالرغم من محاولات التمويل الذاتي المسلح التي بذلتها منظمة كالجبهة الشعبية.
3- حملت فتح مجمل السمات الموصوفة أعلاه إلى حدها الأقصى. وبفضل مرونة أيديولوجيتها والمجد الناجم عن دورها الرائد، وآخرا وليس أخيرا، بفضل وسائل مالية فاقت بكثير وسائل منافسيها، فرضت فتح نفسها سريعا جدا كمنظمة الأكثرية والمنظمة المهيمنة في المقاومة الفلسطينية. ومع تضخمها، الذي تجلى في التزايد الهائل لجيشها من "المقاتلين المحترفين" ولعدد المستفيدين من إعاناتها بشتى الدواعي، عرفت فتح سيرورة تبقرط لا تقل سرعة، تغذيها وفرة مواردها في إطار من التبذير الخارق. وقد تدعمت تلك السيرورة من خلال الاندماج، عام 1969، بين منظمات الكفاح المسلح و م.ت.ف التي غدت هكذا تحت هيمنة فتح. ذلك الاندماج كان تجسيدا لزواج فتح مع البورجوازية الفلسطينية الممثلة داخل المجلس الوطني الفلسطيني (الذي يُعين منذ تأسيسه سنة 1964، ولم يُنتخب قط)، كما لانخراطها الرسمي في جامعة الدول العربية التي تشترك فيها م.ت.ف، وهي ذاتها بنت الجامعة العربية.
لقد التف مجمل الرجعية العربية والفلسطينية حول منظمة ياسر عرفات بغية "تقزيم" الخطر الذي شكله الصعود الزاخر لحركة اللاجئين الفلسطينيين المسلحة. هكذا، فإن قيادة فتح غدت مرتهنة بصورة دائمة بالتوازن بالغ التقلب بين ضغط الجماهير التي كانت تؤطرها وضغوطات مموليها العرب. إنما تبرجزها البيروقراطي المتسارع هو الذي حدد قراراتها، في التعيين الأخير، كلما اضطرت إلى الاختيار بين الضغوطات المتناقضة.
تلك كانت الحال على الأخص في الأردن، في فترة 1969-1971، حيث أخذت قيادة فتح على عاتقها قمع أي تدخل من قبل منافسيها اليساريين في الشؤون السياسية والاجتماعية للمملكة، وذلك باسم الأولوية المطلقة ل"التناقض الرئيسي" مع العدو الصهيوني. هكذا جردت قيادة فتح المقاومة الفلسطينية من سلاحها المعنوي في وجه الملكية الهاشمية، التي كانت تستعد بكل وضوح إزالة حركة جماهيرية مسلحة تحملتها رغم أنفها مع علمها بأنها متناقضة موضوعيا مع سلطتها الخاصة بها. فلم يكن ممكنا أن تبقى ازدواجية السلطة إلى الأبد في الأردن، بالرغم من أوهام التعايش التي روجتها قيادة فتح. بيد أنه من بين الطرفين، كان الطرف الوحيد العازم على حسم تلك الازدواجية لصالحه هو الملكية. هكذا فعندما شنت الأخيرة هجومها الكبير ضد المقاومة الفلسطينية في عام 1970، وجدت بوجهها قيادة فتح مترددة وملتزمة بموقف دفاعي صرفا وحريصة فوق ذلك على التمايز عن منافسيها اليساريين، إلى حد إلقائها بمسؤولية المعارك عليهم. والى التجريد من السلاح المعنوي، انضاف التجريد من السلاح بحصر المعنى، عندما وافقت قيادة عرفات على نزع سلاح الميليشيا وسحب المقاتلين من المدن وجمعهم في مناطق معزولة، لم يجد جيش حسين صعوبة كبيرة في طردهم منها، في عام 1971، منهيا بالتالي الوجود الفلسطيني المسلح داخل المملكة. إن تلك الهزيمة الخطيرة لم تكن نتيجة ميزان قوى موضوعي، بل حقا نتيجة سياسة محددة، لاسيما وأن فلسطينيي الأصل لا يشكلون غالبية سكان الأردن (الضفة الشرقية) المدنيين وحسب، بل يشكلون أيضا غالبية جنود الجيش الملكي.
لقد أنجز سحق م.ت.ف في الأردن سيرورة انحطاطها البيروقراطي: من خلال استشهاد خيرة مقاتليها في المعارك، وأكثرهم إخلاصا لقضية شعبهم؛ من خلال انقطاع علاقاتها المباشرة بأهم قاعدة جماهيرية كانت تحوز عليها؛ من خلال ثبوط المعنويات الذي عقب الهزيمة؛ ومن خلال انكفاء مؤسساتها إلى بلد، هو لبنان، حيث كان بالإمكان "التمتع" بالامتيازات البيروقراطية على أكمل وجه.
4- كان محتما أن يترافق التحول البيروقراطي (والبورجوازي في ما خص قيادة فتح) الذي عرفته المنظمات الفلسطينية، بمراجعة برنامجية. وقد نُسبت الهزيمة الأردنية إلى "اليسارية" وأعيد النظر تدريجيا في قصوية سنوات العز. فأضيفت لها، نظريا ـ حلت محلها، في الواقع ـ "أدنوية" (من أدنى) أكثر انسجاما بكثير مع طموحات البيروقراطية الفلسطينية الجديدة. فبعد أن اكتست طابع جهاز دولة حقيقي لكنه "في المنفى"، أخذت تلك الأخيرة تبحث مذاك عن السبيل الأقصر إلى الحصول على أرض خاصة بها، تستطيع أن تنعم عليها بدون موانع بامتيازاتها التي تغذيها الهبة النفطية. وقد أبقي على هدف تحرير فلسطين كأفق بعيد أقرب إلى الطوبى الرسمية منه إلى البرنامج الحقيقي. وغدا الهدف المباشر الجديد، الذي وُصف بالواقعي والقابل للتحقيق، هو إنشاء "دولة فلسطينية مستقلة" في الضفة الغربية وقطاع غزة، الأرضين الفلسطينيتين اللتين احتلهما الجيش الإسرائيلي عام 1967. كان هذا الهدف الجديد واقعيا، في ذهن دعاته، بقدر ما يمكن بلوغه بدون التغلب عسكريا على الدولة الصهيونية: أي بالوسائل السياسية والدبلوماسية، المرفقة بكفاح مسلح فقد هكذا طابعه الأساسي ليصبح وسيلة ضغط إضافية (طالت المراجعة دور الكفاح المسلح وليس أشكاله، فهذه لازالت على حالها حتى اليوم).
إن الجبهة الشعبية الديموقراطية ـ التي اتخذ انحطاطها شكلا خصوصيا هو الستلنة (أي التحول الستاليني) والاصطفاف وراء الاتحاد السوفياتي ـ كانت الأولى في الدعوة للمراجعة البرنامجية. أما قيادة فتح، فلم تتبن علانيا تلك المراجعة إلا بعد الحرب العربية – الإسرائيلية في أكتوبر 1973. وبعد أن قدرت أن الظروف السياسية الجديدة التي خلقتها الحرب ـ ولاسيما التعاظم الكبير لثقل الدول العربية الدبلوماسي، بفضل القفزة الهائلة للمداخيل النفطية، بالإضافة إلى مؤتمر جنيف بين الدول المتحاربة تحت رعاية الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي ـ جعلت "تسوية سياسية" للنزاع العربي- الإسرائيلي معقولة، قررت قيادة فتح المطالبة بحصتها من الحلوى المتمثلة في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967، والتي يشكل ردها من قبل إسرائيل الشرط المطلق لأي "تسوية شاملة". وقد تم تبني برنامج "الدولة الفلسطينية" من قبل م.ت.ف التي تهيمن فتح عليها، منذ عام 1974. غير أن التبني جرى بصياغات تدريجية: من "السلطة الوطنية على كل أرض محررة" (1974) إلى "الدولة المستقلة" (1977). هذا وأيا كانت الصياغة، فإن البرنامج الجديد كان مبنيا على سفسطة: بالفعل، فإذا كان الهدف حقا هو إنشاء سلطة وطنية فلسطينية، مستقلة وذات سيادة، كتعبير جزئي عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وذلك في الضفة الغربية وغزة ـ عدا أنه لمن الوهم بالكامل ادعاء الحصول على استقلال في دويلة واقعة كليا بين فكي الكماشة الإسرائيلية، ظهرها إلى الأردن في جانب (الضفة الغربية) والى البحر والصحراء في الجانب الآخر (غزة)، وإسرائيل تفصل بين الجانبين ـ عندئذ يكون من المستحيل بشكل مطلق بلوغ ذلك الهدف من خلال انسحاب بالتراضي (بالتفاوض) للجيش الإسرائيلي من الأراضي المحتلة سنة 1967. ففي أكثر الاحتمالات تفاؤلا، قد ترضى الدولة الصهيونية بانسحاب جزئي جدا من الضفة الغربية ـ التي "تملكت" حتى الآن ما يقارب نصف مساحتها ـ ومن قطاع غزة، مرفق بشروط تعسفية سوف تجعل من تلك الأراضي نوعا من "البنتوستانات"، وذلك لقاء استسلام سياسي كامل من قبل الدول العربية، على طريقة السادات.
إن تقرير مصير فلسطيني حقيقي، حتى لو اقتصر على الضفة والقطاع، لا يمكن تحقيقه عبر "التفاوض" مع الدولة الصهيونية: لابد من فرضه بالنضال. بهذا المعنى، فإن هذا الهدف الذي تكمن أهميته في أنه يتيح تعبئة أكثر كثافة للجماهير الفلسطينية في الأراضي المعنية، كما يتيح كسب دعم قسم غير هزيل من السكان اليهود الإسرائيليين، هذا الهدف إذن يكتسي طابعا انتقاليا. إنه مكمل لمطلب الانسحاب الكامل وغير المشروط للجيش الصهيوني من الأراضي المحتلة سنة 1967، ولابد من إكماله هو أيضا بذلك التقرير للمصير الجزئي الآخر للشعب الفلسطيني، الذي يمر عبر الإطاحة الثورية بالملكية الهاشمية، ثانية المضطهدين الرئيسيين لذاك الشعب بعد الدولة الصهيونية. إن تقريري المصير الجزئيين هذين هما مرحلتان انتقاليتان نحو الهدف الاستراتيجي، ألا وهو تحطيم الدولة الصهيونية الذي يقتضي الشروط الموصوفة أعلاه (البند 2).
بالرغم ممن أن قيادة فتح – م.ت.ف كانت تدعي سنة 1974 أنها تتبنى التفسير "الانتقالي" للهدف الجديد، فإن السياق السياسي لمشيتها بذاته لم يترك مجالا للشك في نواياها الحقيقية المتجهة نحو "الحل التفاوضي". هذا بالأصل ما أكدت عليه، في تلك الفترة، الجبهة الشعبية التي قررت مقاطعة الهيئات القيادية في م.ت.ف، وأسست جبهة الرفض مع منظمات ثانوية. وقد أعطت قيادة م.ت.ف، أكثر فأكثر، أولوية اهتمامها للنشاط الدبلوماسي، بدءا من عام 1974، مستفيدة من الشروط الجديدة التي خلقتها حرب أكتوبر 1973. فإن برنامجها الجديد، الأكثر "مشروعية" بكثير في أنظار موسكو والأنظمة العربية والدول "غير المنحازة"، وحتى بعض القطاعات الإمبريالية، قد أتاح لها تحقيق خطوات في المجال الدبلوماسي. وهكذا فإن م.ت.ف، بعد أن "عقلت"، حصلت سنة 1974 على اعتراف بها، بصفة "الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني"، من قمة لاهور الإسلامية وقمة الرباط العربية. والحال أن المقاومة الفلسطينية لم تجد من ينافسها، بعد عام 1967، في مجال الكفاح ضد الصهيونية، لكن ما أن وضعت م.ت.ف نفسها في أفق الاشتراك في تسوية تفاوضية حتى اصطدمت بمنافسة حقيقية جدا ـ من قبل الحكم الأردني. لذا أصرت على حقها المطلق في تمثيل الشعب الفلسطيني، الذي اعترفت لها به شتى حليفاتها من الدول العربية والإسلامية وغيرها، بطيبة خاطر يزيدها كون هذه الدول تعلم علم اليقين أن م.ت.ف وحدها قادرة على تمثيل الفلسطينيين بمصداقية في تسوية تفاوضية، أي أن م.ت.ف وحدها بإمكانها الإسهام بفعالية في نزع فتيل إحدى أخطر المسائل التي تهدد استقرار النظام الإمبريالي الإقليمي والعالمي. وفي عام 1974 ذاته، نشأ أيضا التحالف المميز بين م.ت.ف والاتحاد السوفياتي، الذي كان يصف فتح، قبل بضع سنوات، بأنها "مغامرة" و "تروتسكية" (كذا !).
5- إن اختيار قيادة م.ت.ف لاستراتيجية تسوية تفاوضية، حتى لو تضمنت تركيبا من أشكال نضال مختلفة، قد أدى بصورة حتمية إلى مسارها السياسي اللاحق. فإن هدف "الدولة الفلسطينية" ذاته لا يمكن بلوغه بقوى الشعب الفلسطيني وحدها، حيث أن المؤسسة الصهيونية لو اضطرت إلى الاختيار بين احتمالي انسحاب غير مشروط من الأراضي المحتلة سنة 1967 أو ضمها رسميا مع طرد معظم سكانها، لن تتردد في اختيار الاحتمال الثاني. لذا يقتضي الهدف المذكور أعلاه دينامية قوى تسير في اتجاه الهدف الاستراتيجي الأقصى. إلا أن قيادة فتح ـ م.ت.ف لم تكن إطلاقا مستعدة للبحث عن وسائل هذه السياسة الأخيرة، المتناقضة مع طبيعتها البيروقراطية البورجوازية وارتهانها المالي بالمملكة السعودية. فعوضا عن السعي لنيل دعم الجماهير الكادحة في البلدان العربية وإسرائيل والاندماج الكامل، دون لبس، في النضال العالمي ضد الإمبريالية، سعت قيادة عرفات وراء وسائل سياستها الخاصة بها لدى الرجعية العربية والإمبرياليات الأوروبية وجماعات صهيونية "معتدلة"، ووضعت في طليعة أهدافها الحصول على اعتراف بها من قبل الإمبريالية الأمريكية ـ وهي الوحيدة القادرة على فرض "تسوية" على الدولة الصهيونية رغم أنف هذه الأخيرة.
ومع ذلك، فإن الازدواجية ذاتها التي اتسمت بها مواقف قيادة م.ت.ف، وهي تركيب من التصريحات المعادية للإمبريالية وغمزات العين للإمبريالية، تلك الازدواجية التي تعكس ازدواجية موقعها الاجتماعي – السياسي كقيادة بورجوازية مرتهنة بالتوازن بين حركة الجماهير التي تستمد منها قوتها السياسية، من جهة، وعملاء الإمبريالية العرب الذين تستمد منهم مواردها الضخمة، من الجهة الأخرى ـ إن هاتين الازدواجيتين إذن لم يكن إطلاقا بإمكانهما إرضاء الإمبريالية الأمريكية، وكم بالأحرى الحكم الصهيوني. لذلك سعى الطرفان الأخيران بلا كلل، وعبر شتى الوسائل المباشرة وغير المباشرة، لتحطيم العنصر الأكثر جذرية في المعادلة برمتها: ألا وهو حركة الجماهير الفلسطينية المسلحة، التي بات لبنان بعد 1971 ملاذها الرئيسي.
هذا وقد أصبح جليا منذ عام 1973 أن الجيش اللبناني الرجعي عاجز عن إنجاز المهمة بقواه الذاتية وحدها. وقد ظنت واشنطن أن الإنجاز يصبح ممكنا لو أضيفت إلى القوى المذكورة قوى الميليشيات المسيحية الرجعية. فأقحمت هذه الأخيرة في المعركة سنة 1975، ولم تفلح سوى في إثارة رد فعل قومي ـ طائفي من قبل أغلبية سكان لبنان المسلمة، الأمر الذي أدى إلى تفجر الدولة اللبنانية والى تقوية سلطة م.ت.ف في لبنان بشكل بالغ. بيد أن قيادة هذه الأخيرة أعطت دوما الأولوية لشتى الزعامات البورجوازية المسلمة، سواء كانت سنية أو شيعية (أمل !) أو درزية. وقد ذهبت إلى حد مد يدها أمرارا عديدة، لكن بدون جدوى، لأقصى اليمين المسيحي آملة عقد سلم معه. ولما أصبحت القوى المسيحية الرجعية على وشك الانهزام الكامل سنة 1976، تفاوضت واشنطن مع الحكم السوري، واعدة إياه بالكف عن الالتفاف عليه في سعيها وراء سلم منفرد مصري ـ إسرائيلي، وهو الهدف الذي جهد كيسنجر من أجله منذ سنة 1975. وقد تكفلت دمشق، لقاء ذلك، بإنقاذ حلفاء الإمبريالية اللبنانيين وبإعادة النظام البورجوازي في لبنان. إلا أن المحاولة السورية اصطدمت بمقاومة عنيفة جدا من قبل الجماهير اللبنانية والفلسطينية. ورغم ذلك، أفضت إلى هيمنة سورية على مجمل الأراضي اللبنانية، شمالي "الخط الأحمر" الذي حددته إسرائيل، هيمنة تحققت بموجب اتفاق عقد مع قيادة م.ت.ف تحت رعاية سعودية (مؤتمر الرياض، في أكتوبر 1976). كانت الأنظمة العربية قد اختارت التريّث، عشية انتخابات الرئاسة الأمريكية.
لكن التغيير جاء من الانتخابات الإسرائيلية، عام 1977، مع وصول متطرفي الليكود إلى السلطة، بقيادة بيغن. ولما اتضح أن آفاق "تسوية شاملة" تفاوضية أصبحت معدومة، انطلق السادات في "عملية السلام" الشهيرة التي نفذت بعد بضعة شهور، في سبتمبر 1978، على اتفاقيات كمب ديفد. وقد وجدت سورية نفسها من جديد، وبحكم الظروف، في المعسكر المضاد للأمريكيين، فجددت تحالفها مع م.ت.ف واليسار اللبناني على حساب المعسكر المسيحي الرجعي. ولم يبق سوى التدخل الإسرائيلي المباشر كوسيلة أخيرة ضد المقاومة الفلسطينية المتحالفة مع اليسار اللبناني وسورية. فجرى اجتياح إسرائيلي أول، سنة 1978، اقتصر على لبنان الجنوبي وأفضى إلى انتشار قوات الأمم المتحدة في تلك المنطقة. هذه القوات، بدل إزعاج م.ت.ف وحلفائها، شكلت بالأحرى ـ موضوعيا ـ درعا لها. فتحتم اجتياح ثان، أوسع نطاق وأطول مدة بكثير، وجرى بالفعل في يونيو 1982 عندما اكتملت شروطه: ريغان في الحكم في واشنطن والانسحاب الإسرائيلي من سيناء منجز (أبريل 1982)، بحيث لا يعيق الاجتياح "السلام" المصري - الإسرائيلي.
6- إن حصار بيروت من قبل الجيش الإسرائيلي قد وضع قيادة م.ت.ف أمام خيار بين احتمالين لا ثالث لهما: إما خيار المقاومة العنيدة، مع الأخطار الأكيدة التي انطوى عليها، لكن أيضا مع إمكانية حقيقية في النجاح، حيث أن الجيش الإسرائيلي بعيد عن أن يكون جيشا لا يتزعزع، كما أثبته لاحقا انهزامه أمام مقاومة الجماهير في جنوب لبنان؛ أو استسلام سياسي بحيث تحافظ قيادة م.ت.ف على أثاثها... بنقله. هذا الخيار الأخير ـ الذي كانت قيادة عرفات معدة لاختياره بطبيعتها الاجتماعية - السياسية ـ هو الذي ساد منذ أيام الحصار الأولى، عندما بدأت مفاوضاتها مع مبعوث ريغان حول شروط إجلاء المقاتلين الفلسطينيين عن بيروت. وبعد مساع جهيدة، توصلت قيادة م.ت.ف إلى الخضوع لكافة الشروط الأمريكية (خطة حبيب)، بما فيها تدخل قوات متعددة الجنسيات الإمبريالية. وحصلت بالمقابل على وعد باعتراف إدارة ريغان بضرورة انسحاب إسرائيلي من الضفة الغربية وغزة، لأجل قيام "حكم ذاتي فلسطيني" فيهما ـ بشرط جازم فرضته الإدارة الأمريكية، هو أن يكون ذلك الكيان مرتبطا بالأردن. وقد أعلن هذا الموقف الرسمي الأمريكي الجديد، غير المنصوص عليه في اتفاقات كمب ديفد، في اليوم ذاته الذي اكتمل فيه جلاء قوات م.ت.ف عن بيروت : إنه "مشروع ريغان" (أول سبتمبر 1982).
بجلائها عن العاصمة اللبنانية، خسرت قيادة م.ت.ف المكان الأخير حيث كان بإمكان المقاتلين الفلسطينيين العمل بشكل مستقل، لاسيما وأنها قبلت بتوزيعهم على أرجاء المنطقة العربية. كانت بذلك قد تبوأت الهدف الأساسي من العدوان الإسرائيلي – الأمريكي، ألا وهو نسف القوة مانعة الاستقرار التي شكلتها حركة الجماهير الفلسطينية المسلحة ـ حيث وجدت القيادة ذاتها في الأمر ما يناسبها، إذ أنها تحررت في الوقت نفسه من الضغط المحرج الذي ارتهنت به حتى ذلك التاريخ. ومذاك اعتبرت أن أيديها باتت أكثر طلاقا بكثير للسير حتى نهاية خيارها السياسي المقر في السبعينات، لا بل لتعديه حيث أن منطق الاستسلامات القسري قد جرها إلى التخلي عن برنامج "الدولة الفلسطينية المستقلة" ـ الذي بدا، في نهاية المطاف، وكأنه يكاد لا يكون أكثر "واقعية" من قصوية الماضي ـ لأجل تبني "الخيار الأردني" الذي فرضه ريغان. هكذا فلما تجاوب الملك الأردني حسين مع مشروع ريغان، بضعة أيام بعد إعلانه، واقترح إقامة "كونفدرالية أردنية – فلسطينية"، لم يتردد عرفات في الاستجابة لدعوته وذهب بنفسه إلى عمان لبدء محادثات حول حيثيات تعاونه الجديد مع الملك الهاشمي.
هذا وحتى بعد بيروت، وفي إطار سياسة بورجوازية، لم يكن الخيار الأردني وحده مفتوحا أمام قيادة عرفات. كان ثمة خيار آخر، لا يزال ممكنا: الخيار السوري. غير أن هذا الأخير كان يحتم مواجهة مع واشنطن في تواصل مع السنوات السابقة لاجتياح عام 1982 (لم يرد حتى ذكر بالاسم لهضبة الجولان السورية، التي احتلتها إسرائيل سنة 1967، في مشروع ريغان). وكان الخيار ذاته يعني أيضا، بالنسبة لقيادة عرفات، القبول بالوصاية السورية وتأجيل احتمال الحصول على دولة خاصة بها ـ حتى لو كانت ملكيتها مشتركة مع الأردن ـ إلى أجل غير مسمى. هذا في حين أن عرفات آمن بوعود مشروع ريغان، دون أن يخلو الأمر من سذاجة يمينية. فاختار بالتالي الانخراط في الإطار الذي حدده هذا الأخير، وتوصل في أبريل 1983 إلى مسودة اتفاق مع حسين. إنما عرفات كان يعلم أن خياره الجديد لابد أن يثير معارضة واسعة: من قبل سورية أولا، وكذلك ليبيا، المعارضتين للسياسة الأمريكية، ثم من قبل اليسار الفلسطيني، بما فيه الجناح الراديكالي داخل منظمته الخاصة، فتح. فاختار إذن عمدا قطع الجسور مع أخصام الخيار الأردني الأشد حزما، منذ مايو 1983، بحيث يتمكن من المضي قدما في علاقاته مع حسين. وقد أدت الاشتباكات مع سورية وحلفائها الفلسطينيين التي تلت ذلك، أدت إلى جلاء أنصار عرفات، في ديسمبر 1983، عن الأراضي اللبنانية التي بقيت تحت السيطرة السورية. وإثر مغادرته طرابلس (لبنان الشمالي)، توجه عرفات رأسا إلى القاهرة ليلتقي فيها الرئيس المصري مبارك، خارقا بذلك المقاطعة العربية الرسمية للنظام المصري التي أقرت منذ توقيع السادات على معاهدة السلام مع إسرائيل. كان عرفات يشير بذلك السلوك، ودون أي لبس، إلى أنه اختار وضع نفسه في إطار السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. وبقي له الأمل بأن تؤدي الجهود المركبة لمبارك وحسين والملك السعودي فهد إلى الحصول على اعتراف رسمي به من قبل واشنطن مكافأة لسلوكه.
7- إن المعارضة الفلسطينية الأكثر جذرية للسياسة الجديدة التي انتهجتها قيادة عرفات جاءت من صفوف فتح بالذات. فإن "الانتفاضة"، كما درجت تسميتها، تمثل في الواقع الاستمرار الراديكالي لخط فتح في سنوات 1968-1970. أي أنها أعادت إنتاج السمات الأصلية الموصوفة أعلاه (بند 2)، لكن بشكل أكثر انسجاما من فتح في تلك الفترة، التي كانت ترتبط بالسعودية وتهادن الأردن، وهما نظامان وثيقا الارتباط بالإمبريالية ذاتها التي أشار إليها مجمل المقاومة الفلسطينية بوصفها عدوا بمثابة الدولة الصهيونية. ذلك يعني أيضا أن انتفاضة فتح، التي تزعمها أبو موسى، لم تشكل بأي حال نهجا جديدا للمقاومة الفلسطينية، بل أعادت إنتاج عيوبها الفطرية. هذا ما تجلى، بوجه خاص، في موقفها إزاء النظام السوري (وأداته الفلسطينية، الصاعقة)، الذي لم تجد سبيلا إلى التمايز عنه في المجالين السياسي والعملي، وذلك بحجة التحالف "الاستراتيجي" معه. والحال أنه على الرغم من الفائدة التي لا جدال فيها، بالنسبة لمنظمة فلسطينية مسلحة تعمل انطلاقا من لبنان، في عقد تحالف مع النظام السوري، يمكن إبقاء هذا التحالف عند مستوى تكتيك جبهة موحدة مع الاحتفاظ باستقلالية سياسية تتجلى بإبراز الفروقات، بدل طمسها كما هي الحال. وقد مارست م.ت.ف بمجملها هذا النوع من التحالف بدون تواطؤ بين عامي 1977 و 1982، وذلك لما كانت قوات النظام السوري تسيطر مباشرة على قسم من الأراضي اللبنانية (بما فيه بيروت الغربية ومنطقة المقرات الفلسطينية) أوسع بكثير مما هي الحال اليوم. وحتى لو افترضنا أن دمشق باتت ترفض الآن أن تتكيف مع تحالف كذلك وتسعى لفرض هيمنتها بالقوة، لبقي بعد أمام اليسار الفلسطيني خيار بناء نفسه بالرغم من القمع السوري. فإن هذا القمع لم يفلح في منع التيار "العرفاتي" من إعادة بناء نفسه في لبنان، لا بل حتى من فرض نفسه من جديد كتيار الأكثرية ضمن السكان الفلسطينيين في لبنان. أما الانتفاضة فبتفاديها أي إحراج مع النظام السوري، لا تفقد اعتبارها في نظر الجماهير السورية وحسب، بل أيضا وخاصة في نظر أكثرية الجماهير الفلسطينية التي بدون دعمها ينعدم مبرر وجود الانتفاضة.
وأما يسار المقاومة التقليدي ـ الجبهتان الشعبية والديمقراطية، المجتمعتان سنة 1983 في "قيادة مشتركة" ـ فقد تبنى في بداية النزاع بين عرفات وأخصامه، موقفا توفيقيا منسجما مع موقف الاتحاد السوفياتي الحريص على عدم قطع الجسور مع قيادة م.ت.ف الرسمية، بأمل أنها سوف تتخلى عن الخيار الأردني – الأمريكي سواء عن قناعة أو خيبة. هذا الموقف قد نسفه سلوك قيادة عرفات بذاته، عندما دعت، بغطرسة كلية ومن جانب واحد، إلى انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني ـ الذي طالما ضمن تشكيله بالتعيين أكثرية مريحة للقيادة المذكورة، منذ عام 1969 ـ وذلك في عمان (اختيار فصيح بذاته)، في نوفمبر 1984، طالبة من الملك حسين، جزار 1970، افتتاح الدورة. وقد انقطع التحالف بين الجبهتين الديموقراطية والشعبية، إثر قرار الأخيرة التخلي عن الموقف التوفيقي بعد أن فقد مصداقيته، والانضمام إلى انتفاضة فتح والصاعقة ومنظمات أخرى ثانوية لتشكيل جبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني، وهي جبهة قومية تحت الوصاية السورية. أما الجبهة الديموقراطية، فقد بقيت، بالتحالف مع الحزب الشيوعي الفلسطيني، وفية للاتحاد السوفياتي الذي، وإن عبر أكثر فأكثر عن استيائه من عرفات، لم يرض أن يتخلى عن الأمل باستعادة هذا الأخير أو، على الأقل، استعادة م.ت.ف الرسمية التي يقودها.
8- إن أهمية م.ت.ف بقيادة عرفات، في نظر الاتحاد السوفياتي، لا تنجم فقط عن صفتها الرسمية ك"ممثل شرعي للشعب الفلسطيني"، وهي صفة ساهمت موسكو مساهمة كبيرة في إقرارها من قبل الأمم المتحدة وصفة قد تخوِّل عرفات التصديق على "سلام أمريكي". إن تلك الأهمية تنجم أيضا وعلى الأخص من واقع لا جدال فيه، هو أن الصفة تلك تتناسب مع تأييد أكثرية الشعب الفلسطيني لقيادة عرفات، ولاسيما أكثرية السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة. وبالفعل، فإن الجانب الوحيد الإيجابي نسبيا في منعطف قيادة م.ت.ف سنة 1984، كان زيادة الاهتمام بتعبئة جماهير الأراضي المحتلة في عام 1967، التي باتت القيادة الفلسطينية تطالب بها لإقامة "دولة مستقلة" فيها. فإن برنامج م.ت.ف الجديد، بالرغم من قرائنه اليمينية (يجب أن يبقى في البال أنها لم تكن صريحة في البدء)، كان أكثر قدرة بكثير على كسب أكثرية سكان الأراضي المذكورة مما كانت القصوية السابقة. والحال أن أولى المصالح المباشرة لهؤلاء السكان هي في التخلص من الاحتلال الإسرائيلي: إنهم بالتالي ـ وباستثناء أقلية راديكالية نقدية، خاصة بين الشباب ـ مدفوعين بصورة طبيعية إلى تأييد ما يظهر لهم أنه السبيل الأقصر لتحرير أرضهم من النير الإسرائيلي، سواء كان السبيل أردنيا أو فلسطينيا أو، منذ 1983، أردنيا – فلسطينيا. وتتضافر مع هذا الضغط الموضوعي عوامل اجتماعية ومادية تربط جزءا من الوجهاء الفلسطينيين بالعرش الهاشمي، وجزءا آخر بقيادة م.ت.ف، مع حيازة كل جزء على أنصاره الخاصين به.
هذا وبالرغم من اتفاق حسين – عرفات الذي عقد رسميا في فبراير 1985، لم ينفك التنافس بين الطرفين يتجلى في أراضي عام 1967. وبتحديد أكثر، فإن الملكية الهاشمية لم تنفك لحظة واحدة تناور بأزلامها الخاصين بها، بشكل مستقل، بالتعاون فعليا مع شركائها القدامى في حزب العمل الصهيوني، الذين عادوا إلى الحكم سنة 1984 بقيادة بيريز. وقد أدى التواطؤ بين الطرفين إلى تعيين رجل الأعمال المؤيد للحكم الهاشمي، ظافر المصري، على رأس بلدية نابلس محل القومي بسام شكعة، الذي أقاله المحتل الإسرائيلي من هذا المنصب سنة 1982. وانضاف إلى تلك العملية السياسية التي كانت النية قائمة في تعميمها في الضفة الغربية، إعلان حسين، في فبراير 1986، وقف تعاونه مع قيادة م.ت.ف المتهمة بالمماطلة. بيد أن اغتيال المصري في مارس قد عرقل ـ لوهلة ـ مناورة بيريز وحسين المشتركة، دون منع هذا الأخير من المضي قدما بإثارة "انشقاق" فلسطيني عميل له، في أبريل، يتزعمه أحد أكثر قادة م.ت.ف فسادا: أبو الزعيم.
هكذا وجدت قيادة عرفات نفسها خاسرة على كافة الأصعدة، بعد أن وقعت في فخ خيانتها الخاصة بها التي غذتها الأوهام. وقد مدت لها الجزائر، بمباركة الاتحاد السوفياتي، خشبة خلاص، بالدعوة إلى إعادة توحيد م.ت.ف. هذه الدعوة قد تروق بعض معاوني عرفات الأكثر تشكيكا في نهجه، غير أن هذا الأخير ـ مقامرا بكل ما لديه ـ فضل الاتكال على مبارك وصدام حسين (الدكتاتور العراقي)، حليفيه الراهنين، كما على فهد، سنده الدائم، ليضغطوا على الحكم الأردني ويجبروه على التعاون معه من جديد. فعرفات يعلم أنه، بخلاف الملك حسين الذي هو منافس مباشر له، لا يزال سائر الحكام الرجعيين العرب يحتاجون إليه كحليف سياسي. لكن هذا الواقع لا يمنعهم من الضغط عليه كي يمضي حتى نهاية استسلامه ويعترف رسميا بالقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي لمنظمة الأمم المتحدة (نوفمبر 1967)، كما تطالب به واشنطن. هذا الاعتراف يعني بالنسبة لعرفات رمي ورقته الأخيرة، الأمر الذي يطالب لقاءه بضمان رسمي لاعتراف أمريكي به. ومهما تكن نتيجة هذه المساعي، فإن محصلة نشاط قيادة عرفات هي، من الآن، إفلاس كامل في النهج الرجعي الذي اختارته عمدا.
9- إن المقاومة الفلسطينية، بعد عشرين سنة من الوجود، تعيش اليوم أزمة عميقة جدا. ولا يحمل أي من مكوناتها، بما فيها اليسارية، وعدا بتجاوز هذه الأزمة. فإن ذلك يقتضي، في الواقع، تغييرا جذريا في الاستراتيجية والسلوك، بينما يمثل اليسار الفلسطيني، في أحسن الأحوال، استمرارا للماضي في برنامجه وأشكال وجوده. وإنما وحده انبثاق تيار بروليتاري ثوري داخل النضال الفلسطيني، بتداخل وثيق مع الحركة البروليتارية الثورية في البلدان التي يجري فيها ذاك الأخير، سيسمح له، أي للنضال الفلسطيني، بالخروج من مأزقه التاريخي الحالي. ولن يتمكن النضال القومي للشعب الفلسطيني من الانتصار إلا بتداخله مع صراع الطبقات في المنطقة وبتزوده بتوجه أممي.
إن الأممية الرابعة ـ بخلاف الحركة الستالينية العالمية ـ قد أدانت دوما المشروع الصهيوني في فلسطين ودافعت عن حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره بحرية، كما ساندت دوما نضالات الجماهير الفلسطينية ضد الصهيونية والإمبريالية وحلفائها العرب، بغض النظر عن طبيعة قيادات هذه النضالات. لكن المساندة تلك لا تمنع توجيه النقد سواء للسياسة الرجعية التي تنتهجها قيادة عرفات أو للإرهاب الأعمى والمنهجي الذي تمارسه جماعة كتلك التي يقودها أبو نضال، وبصورة أعم نقد سمات المنظمات الفلسطينية ومواقفها التي إنما تجاوزها هو في مصلحة الشعب الفلسطيني ذاتها.
في البلدان الإمبريالية على الأخص، كما في أي مكان آخر، تدافع الأممية الرابعة عن حق جميع المنظمات الفلسطينية في فتح مكاتب تمثيل وفي التمتع بحرية تعبير كاملة. كما تدافع عن المناضلين الفلسطينيين ضد القمع البورجوازي، دون التضامن بالضرورة مع جميع أعمال هؤلاء المناضلين أو الأعمال المنسوبة إليهم. فمع نقدها الأعمال التي تعبِّر عن إرهاب بلا تمييز والتي تسيء بالأساس إلى مصالح النضال الفلسطيني، تدين الأممية الرابعة الإرهابيين الحقيقيين، وهم أكبر القتلة بما لا يقاس، عنينا الدول الإمبريالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والدولة الإسرائيلية. إن دورة العنف التي ولدت في فلسطين مع الاستعمار الصهيوني لن تنتهي إلا عندما يُزال من فلسطين كل شكل من أشكال الاضطهاد القومي، عندما يلغى منها كل تمييز قومي أو ديني، أي عندما تنتصر في فلسطين مبادئ الأممية البروليتارية التي تأسست الأممية الرابعة دفاعا عنها.

عن مجلة "المطرقة" ـ مجلة شيوعية ثورية لعموم المنطقة العربية ـ العدد 4 ـ 1986



#الاممية_الرابعة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تروتسكي ولينين هل من خلاف ؟
- مكانة النظرية في الحزب الثوري
- انتفاضة ماي (أيار) 1968 في فرنسا
- ملف دروس الثورة الصينية
- ملف حول تشيكوسلوفاكيا 1968
- سنوات تأسيس الأممية الرابعة IV 1933 - 1938


المزيد.....




- ما هي صفقة الصواريخ التي أرسلتها أمريكا لأوكرانيا سرا بعد أش ...
- الرئيس الموريتاني يترشح لولاية رئاسية ثانية وأخيرة -تلبية لن ...
- واشنطن تستأنف مساعداتها العسكرية لأوكرانيا بعد شهور من التوق ...
- شهداء بقصف إسرائيلي 3 منازل في رفح واحتدام المعارك وسط غزة
- إعلام إسرائيلي: مجلسا الحرب والكابينت يناقشان اليوم بنود صفق ...
- روسيا تعلن عن اتفاق مع أوكرانيا لتبادل أطفال
- قائد الجيش الأمريكي في أوروبا: مناورات -الناتو- موجهة عمليا ...
- أوكرانيا منطقة منزوعة السلاح.. مستشار سابق في البنتاغون يتوق ...
- الولايات المتحدة تنفي إصابة أي سفن جراء هجوم الحوثيين في خلي ...
- موقع عبري: سجن عسكري إسرائيلي أرسل صورا للقبة الحديدية ومواق ...


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - الاممية الرابعة - تقويم لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية