أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - طارق حجي - سجون الثقافة العربية : السجن الثاني : المفاهيم السلبية الشائعة















المزيد.....



سجون الثقافة العربية : السجن الثاني : المفاهيم السلبية الشائعة


طارق حجي
(Tarek Heggy)


الحوار المتمدن-العدد: 2589 - 2009 / 3 / 18 - 09:34
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مقدمة

في محاضرة لي بجامعة فيينا(والتي أشرت إليها آنفاً) حملت معي عشرات التقارير ذات المصداقية العالية عما يسميه الغرب (الإرهاب الإسلامي). وقلت للحاضرين (وكلهم أساتذة من دارسي الشرق الأوسط من سائر الجوانب): أن كل التقارير عن أنواع وأعمار وخلفيات العناصر التي شاركت في كل عمليات العنف في العالم خلال السنوات الثلاثين الأخيرة تشير لوجود عناصر مخططة أو منفذة من سائر المجتمعات الإسلامية بإستثناء ثاني أكبر هذه المجتمعات ، وهو مجتمع المسلمين في الهند. فبينما تضم إندونيسيا أكبر مجتمع مسلم فإن الهند (وليست باكستان) تضم ثاني أكبر مجتمع مسلم. وهذا المجتمع (مجتمع المسلمين في الهند والذي يتجاوز عدد أبناءه وبناته المائة وخمسين مليون إنسان) لم يصّدر للعالم هندي مسلم واحد خطط أو شارك في عملية عنف في أي مكان خارج الهند.
وفي هذه المحاضرة قمت بمقارنةٍ مستفيضةٍ بين مسلمي الهند ومسلمي باكستان. وخلاصة هذه المقارنة أنهم من نسيج واحد تماماً ، فكل مسلمي باكستان هم من مسلمي الهند الذين إختاروا عدم البقاء في الهند (سنة 1947) عند تكوين باكستان. وأن الخلاف الوحيد بينهم هو أن مسلمي الهند يعيشون في مناخ عام ديمقراطي وأن مسلمي باكستان يعيشون في مناخ عام أبعد ما يكون عن الديمقراطية.
إن مسلمي الهند (والذي يمثلون أكثر من عشرة في المائة من مسلمي العالم) يثبتون بجلاء أن "أتباع الأفكار المتطرفة" لا يوجدون (ولا يتزايدون) إلاِّ بفعل المناخ العام. وأن العنف هو البديل عن المشاركة الديمقراطية الفعّالة عندما تنتفي هذه المشاركة أو توجد بشكل مسرحي كما هو الحال في عددٍ كبيرٍ من المجتمعات الإسلامية.
وللأمانة العلمية ، فإن علىّ أن أذكر أن أستاذاً بجامعة ألمانية حضر تلك المحاضرة دعاني لأن أؤمن معه بأن التفسير الحقيقي للظاهرة التي أعرضها هو تأثر مسلمي الهند بثقافة اللا عنف الهندوسية. وكان ردي كما يلي:
- أن آباء وجدود كل الباكستانيين المعاصرين عاشوا عقوداً (وقروناً) في ظل المناخ الهندوسي المتسم بعدم العنف (قبل سنة 1947) ؛ فكيف يمكن أن نعقل أن الصفات الحضارية التي تكتسب خلال قرون يمكن أن تزول بهذه الدرجة وهذه السرعة؟ (نصف قرن)
- حتى لو قبلنا هذا التفسير ، فإنه لا ينفي أن "ذهنية العنف" هي "منتج ثقافي" ليس إلاِّ. وهنا فإنه لن يكون فقط منتجاً ثقافياً للبيئة الهندوسية وإنما (وبنفس الدرجة) للمناخ العام الهندي الديمقراطي – وهو ما يعيدنا لنفس النقطة.
والخلاصة ، أن مشكلة إنخراط العديد من الشباب المسلم في تيار العنف سببه الأكبر هو "مناخ الفساد العام لمجتمعاتهم" وفي ذات الوقت "إنعدام طرق التعامل السياسي المشروعة مع هذا الواقع" أي إنعدام الحياة السياسية الحرة التي تسمح لشباب مسلمين بالتعامل مع عناصر بيئتهم الفاسدة (بشتى أشكال الفساد السياسي والإقتصادي والإجتماعي) تعاملاً سياسياً من فوق الأرض لا من تحتها. فبداخل عدد غير قليل من البشر كائن سياسي ، إما أن يجد قنوات صحية وشرعية لممارسة الطاقة السياسية الموجودة داخله ، وإما يتجه إتجاهات أخرى أبرزها العمل السياسي غير الشرعي.







الفصل الأول
إشكالية الذهنية العربية


بداخل معظم البشر أكثر من شخص واحد. فبإستثناء الأشخاص المتعصبين الذين يعتقدون أنهم بلغوا اليقين (ملاّك الحقيقة المطلقة) ، وأنهم لا يشكّون لحظة في صواب وجهات نظرهم، ففي داخل معظم البشر ما يشبه شخصان يرى كل منهما الأمور من زاوية مختلفة. وهذه ظاهرة إنسانية صحية. فالشك في كل الأمور (الأصوب: الشك في فهمنا لكل الأمور) هو أمر صحي وعلمي ويضمن لنا (كبشر) أن نستمر في التعلم ومراجعة الأمور مراجعة لا تتوقف ، يكون من شأنها مزيد من النضج العقلي. وكذلك "أنا": فبداخلي رجلُ إدارةٍ دربته مؤسسةٌ إقتصاديةٌ عالميةٌ مما أوصله للموقع التنفيذي الأول في شركة بترول عالمية لها ثقافتها المكتسبة من أصولِها الأوروبية العريقة ومن تجربتها الدولية الواسعةِ في سائرِ أرجاءِ العالم منذ القرن التاسع عشر. ولكن إلى جوار هذا الشخص يوجد شخصٌ آخرٌ ولع بالمعرفة منذ صغره وبالعلوم الإجتماعية والإنسانيات وإبداعاتها. وكثيراً ما تكون أفكار هذين الشخصين متناقضة ومتضاربة وأحياناً متعاركة. ومن الأمور التي تناقض فيها هذان الشخصان الموقف من السياسة الأمريكية والسياسة الأوروبية بالشرق الأوسط. فالمثقفُ بالغ الإعجاب بالرقي الأوروبي ، أما المدير التنفيذي فبالغ الغضب من عطالة السياسات الأوروبية (ويضاعف من هذا الغضب علمه بدقائقِ المنافعِ والدوافعِ الإقتصادية لتلك السياسات والتي تبدو لسذج العالم الثالث كمواقفٍ طوباويةٍ رومانسيةٍ). والمثقف بداخلي يشعر بالغثيان من نقص المعرفة وندرة الرقي في المواقف الأمريكية ، أما المدير التنفيذي فيرى مزايا الحركة والفعل الخلاّق والتأثير على الواقع في السياسة الأمريكية بل والعقل الأمريكي.

والمثقفُ يتوق لطور متقدم تكتسي فيه القرارات والتحركات على مسرح الدنيا بالشرعية الدولية، أما المدير التنفيذي فيزدري عجز أجهزة الشرعية الدولية في تسعة أعشار الحالات على التحرك السليم والسريع والصائب والمؤثر.

وفي زياراتي (ومحاضراتي) لجامعات ومراكز بحوث في الولايات المتحدة ، أردد دائماً (في داخلي): يا ليت هذا التقدم كان مضفراً بالرقي المفقود في بعض المجالات. وفي زياراتي (ومحاضراتي) لجامعات ومراكز بحوث في فرنسا أردد دائماً (في داخلي): يا ليت هذا الرقي كان فعالاً وخلاقاً ومؤثراً ولم يكتف بأن يبقى "مجرد كلام جيد ورائع الصياغة" ولكنه عاجز على الفعل بل ولا يريد الفعل أساساً ، لأن فرنسيين عديدين صاروا يظنون مثل عرب كثيرين أن "القول" هو "فعل" !!!
وأنا أعرف أنني سأصدم كثير من القراء إذا أقول أنني لو أُضطررت (ولا مسوّغ لهذا الإضطرار) أن أختار واحداً من النهجين ، فسوف أختار (مستاءً) النهج الأمريكي. والسبب أن "القائد التنفيذي" في داخلي لن يغفر لي أن أجلس على مقاعد العجز والكلام الكبير وسيفضل "الفعل المتسم بالأخطاء" عن "العطالة" التي تتشح بها مواقف فرنسية وعربية كثيرة ، مع إدراك واضح أن الموقفين معيبان ، وأنهما لن يثمرا ما يتوق إليه الذين يحلمون بعالم تسوده مبادئ العدل والشرعية والحق في التنمية والإزدهار والإستقرار مع حق مماثل لكل إنسان على وجه الأرض أن تحترم معتقداته ولا تكون مجالاً للتهكم والتهجم. فبلوغ ذلك يقتضي خلطة من مزايا الموقف الأمريكي (بعد إسقاط عيوب كثيرة به) ومزايا الموقف الفرنسي والأوروبي (بعد إسقاط عيوب كثيرة به). ومن مزايا الموقف العربي (أيضاً: بعد إسقاط عيوب كثيرة به). بل ولدى من الشجاعة الفكرية ما يجعلني أضيف: ومزايا الموقف الإسرائيلي (بعد إسقاط كل ما به من عيوب اليمين أو الأجندة القائمة على تصورات دينية أو أحلام توسعية – فالمتعصب الإسلامي لا ينافسه في درجة التعصب ويتفوق عليه إلاِّ المتعصب اليهودي وإن سهلت على الثاني عملية التجميل لسبب إنتمائه الثقافي للغرب ، وصعبت على الأول عملية التجميل بسبب بدائيته وإنفصاله عن العصر وعدم فهمه للحضارة الغربية).

وإذا سألني سائل: كيف ترتب هذه المواقف من حيث منطقيتها وواقعيتها ، لقلت:

- الموقف الأمثل هو الموقف الذي يجمع مزايا الموقف الأوروبي مع مزايا الموقف الأمريكي ويتجنب كل أو معظم عيوب الموقفين.
- يأتي بعد ذلك الموقفان الأوروبي والأمريكي رغم كثرة سلبيات كل منهما.
- ثم يأتي في ذيل القائمة الموقف العربي. والحقيقة أن حتى هذه العبارة هي عبارة لا معنى محدد لها. فما المقصود بالموقف العربي؟ هل هناك موقف عربي محدد من العلاقة مع العالم الخارجي؟ .. هل هناك موقف عربي موحد من الديمقراطية والتقدم والحداثة؟ هل يوجد موقف عربي موحد من حقوق الإنسان وحقوق المرأة؟
ويجب أن أوضح أنني وضعت الموقف العربي في الذيل ، لأنه في الحقيقة ليس موقفاً ، وإنما خلطة من المشاعر والإنفعالات والأفكار المتضاربة والتي يتسم معظمها بالخيال منبت الصلة بالواقع أو الإغراق في الماضوية أو التلون الشديد بالمذهبية أو الأيدلوجية في زمن ترجع فيه بشدة دور المذهبية أو الأيدلوجية. ناهيك عن إتسام معظم المواقف العربية بعيوب الفكر العربي المعاصر (الأفكار النمطية .. ثقافة الكلام الكبير .. الخلو من الموضوعية .. الهجرة لأمجاد قديمة مشكوك علمياً في أن بعضها قد وجُد يوماً .. إلخ).

ويجب قبل توجيه أي إنتقاد للسياسة الأمريكية أن نثبت أنه إنتقاد من باب الرغبة في التصحيح لا الهدم. ولا تثبت هذه النية إذا كان المتحدث لا يوافق على ان الولايات المتحدة بكل ما يمكن أن يوجه لها من إنتقادات هي صاحبة المكانة الأولى على ظهر الأرض علمياً وتكنولوجياً وعسكرياً وإقتصادياً – وأنها ما كان لها أن تكون كذلك لو لم تكون تملك من مؤهلات النجاح ما لا يملكه (بنفس القدر) أحد. كذلك فإن المجتمع الأمريكي هو صاحب أفضل بيئة لكل ذي القدرات والمواهب لكي يبلغوا ما يريدون وما يستحقون. ويضاف لذلك أنه وإن لم تكن هناك ديمقراطية كاملة ، فإن النظام السياسي في الولايات المتحدة هو من أفضل ما يتوق له محبو الحريات والديمقراطية.

ومع ذلك ورغم ذلك ، فالولايات المتحدة ليست "كاملة" وليست "ملاكاً" وفي مطبخها السياسي أشياء وأشياء بحاجة للتصويب. ونفس الشيء يقال عن أوروبا الغربية بوجه عام وعن فرنسا بوجه خاص. فالمواطن العربي المعجب ببعض مواقف فرنسا لا يعرف ما وراء تلك المواقف من دوافعٍ لا علاقة لها بالحق والنزاهة أو بالغضب من أجل الحقوق العربية. إنني أكتبُ هذه الكلمات وعلى مقربةٍ مني تقارير عديدة عن حجم التعاملات الإقتصادية الفرنسية والألمانية بعراق صدام حسين وأيضاً تقارير عن مطالب فرنسا بحصصٍ من عقود إعمار العراق رفضها الأمريكيون. إن العقل العربي المنعزل عن العصر والذي كونته ثقافة الشعر العامر بمفاخر لا أساس لها يعجز عن فهم الأمر الواقع بمعزلٍ عن الإنفعال. فملايين العرب الذي يتباكون على أن العالم أصبح تحكمه قوة عظمى واحدة ووحيدة ويتباكون على نهاية القوة العظمى الثانية (الإتحاد السوفيتي) يغفلون عن أن الإتحاد السوفيتي كان مع الولايات المتحدة أول من إعترف بإسرائيل. ويتغافلون عن أن العرب لقوا وهم في ظل علاقةٍ حميمةٍ بالإتحاد السوفيتي أكبر كارثة في تاريخهم (5 يونيه 1967) والتي بسببها فإنهم الآن غارقون فيما هم فيه.
إن الفهم العلمي والمنطقي للواقع يجعل المرء يرى أن الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية البريطانية والولايات المتحدة اليوم لم تكن أي منها في موقع الصدارة بسبب فكرة أو نظرية وإنما بحتمية الواقع والتاريخ والإقتصاد والجغرافيا. وبالتالي فإن الذي يعترض على كون الولايات المتحدة هي القوة المنفردة بإدارة العالم يشبه من يعترض على أن الدولة الرومانية كانت سيدة العالم القديم. فهو إعتراض لا معنى له ولا فائدة من وراءه لأن الإعتراض على الحتميات من قبيل السذاجة الفكرية المطلقة.

إن العقل العربي في هذه المرحلة بحاجةٍ لقيادةٍ تحقق له التصالح مع الماضي (الذي لم يكن في يومٍ من الأيام بروعةِ الروايات النوستاليجية) وأن تصالحهم مع الواقع (الذي ليس هو أسوأ من واقع أي زمنٍ من أزمنة القوى العظمى السابقة) ، وأن تقوده لأن يُسقط السؤال العبثي: "كيف يمكن أن نغير الواقع تغييراً كلياً؟" .. وتعلمه أن السؤال الوحيد المفيد (والممكن) هو: "كيف يمكن أن نوجد لأنفسنا أكثر الأدوار نفعاً لنا في ظل الواقع الذي يشبه في حتميته أن الشمس تأتي من المشرق ولن تأتي إلاِّ من المشرق؟".














الفصل الثاني
الإذعان و التبعية العمياء

يتفق الدارسون الأجانب للشئون المصرية المعاصرة على حدوثِ تدهورٍ كبيرٍ في لغةِ الحوار في مصرَ لا سيما عندما توجد وجهتا نظر مختلفة حول شأن من الشئون الهامة . وقد استغرقني التفكير في هذه المسألة مرات ومرات خلال السنوات الأخيرة . وعندما حاولت تقصي موضوع "مستوى لغة الحوار" في العشرينات من القرن الماضي ، فوجئت بأن اللغة المتدهورة التي كنت أظنها من منتجاتِ العقودِ الأخيرةِ كانت موجودةً في دوائر معينة من الحياة الثقافية في مصر . وأبسط دليل على وجود هذه اللغة مجلدات مجلة الكشكول التي غرقت في مراجعة أعدادها التي صدرت خلال السنوات الأربع من 1923 ، فوجدتها عامرة بنفس أساليب الكتابة التي كنت أظنها لم تُوجد في حياتنا الثقافية إلا خلال العقود الأخيرة فقط. ولكن طول التحليل للمواد العديدة المنشورة خلال عشرينات القرن الماضي أوضحت لي أنه كان بحياتنا الثقافية "تيار أساسي" يشبه في حواراته حوارات الغرب المتقدمة ولكن كان بمحاذاته (وعلى مستوى من الأسماء أقل شهرة) تيار آخر يماثل في لغته وأساليب حواره ما نشكو منه اليوم . فعندما نشر طه حسين كتابه الشهير (الشعر الجاهلي) كانت هناك كتابات رصينة ترفضه وتنقده ولكن إلى جوارها كانت هناك كتابات هابطة لا تدخل إلا تحت مسمى "السباب" (بالفصحى) و"الردح" (بالعامية) . وقد تعرّض عباس العقاد لنفس التيار عندما نشر مصطفى صادق الرافعي كتابه (على السفود) والذي ضِمنه أسلوباً بالغ الهبوط في السباب والتجريح الشخصي .
وخلاصة الأمر ، أن حياتنا كانت تعرف لغة متحضرة تتسم بالموضوعية والبُعد عن السباب والتجريح الشخصي ولكنها كانت أيضاً تعرف أسلوباً آخر في الكتابة يقوم على التنابذ والسباب والتجريح .
وخلال السنوات الخمسين الأخيرة أخذ التيار الموضوعي في الحوار ولغته يفقد تدريجياً أرضاً واسعة لصالح تيار الكتابة الغوغائية التي يترك فيها الكاتبُ "الموضوع" ويأخذ في تمزيق وطعن وتجريح "شخص الطرف الآخر" . ولا أعتقد أنني بحاجةٍ لأضرب أمثلة على شيوع هذه الظاهرة في أجواء حياتنا الثقافية ، فمعظم المساجلات تبدأ بخصوص موضوع محدد ثم تستمر الكتاباتُ بعيداً عن الموضوع الذي بدأت بسببه ولا تكون إلا اتهامات شخصية وتراشق بالحجارة وسباب متُبادل .
وإذا استعرضنا "الحملات العاصفة" لبعض صحف المعارضة لدينا ، لوجدنا أنها بدأت من "موضوعٍ محددٍ" ثم تركته ووسعت جبهة الحرب مع الشخصية التي كانت على خلافٍ معها بخصوص موضوع معين وأصبحت تكيل لهذه الشخصية الاتهامات على كل الجبهات العامة والخاصة . وقد ظننتُ في البداية أن بصدور معظمنا تراكمات هائلة من الإحباط والغضب من حقائق الحياة التي تُحيط بنا ، وأن البعض يغتنم فرصة انفجار الحوار مع طرفٍ آخرٍ ليفرّغ فيه تلك الشحنة المتراكمة في صدره وعقله من إحباط وغضب . ورغم أنني لا زلت أعتقد أن هذا العامل هو أحد العوامل المُسببة للظاهرة التي نحن بصددها ، إلاَّ أنني أعتقد أن السبب الأول والأكبر يكمن في وجود "تيار فاشي" في الحوار العام منذ قرابة نصف القرن من الزمان .
فخلال العقود الخمسة الأخيرة ، كانت الحياة العامة في واقعنا متأثرة (أقوى تأثير) بحقيقتين كبيرتين هي أن نظام الحكم الذي أُسس في مصرَ سنة 1952 كان ضيق الصدر للغاية بآراء معارضيه بل وناقديه . ولست هنا بصدد تقييم عهد برمته ، ولكنني أقول فقط أن هذا العهد كان (من البداية) يتعامل مع معارضيه وناقديه بيدٍ من حديد مع إعلام موازٍ يبث على هؤلاء المعارضين والناقدين حمماً بركانيةً بما كان لا يبقى ولا يذر . وفي نفس الوقت (وهذه هي الحقيقة الثانية) فإن أقوى تيار سياسي نزل لعمليات تحت الأرض كان تيار الإخوان المسلمين والذين كانوا ولا يزالون متفوقين على الجميع في التعامل مع مُعارضيهم وناقديهم إما بيدٍ من حديد أو بسيول من الخُطب والكتابات التي لا تقل "فاشية" عن اليد الحديدية الفعلية . وهكذا كنا فوق الأرض مع أُناس لا يقبلون أقل من (مسح الأرض) بمُعارضيهم وناقديهم ، وكنا في نفس الوقت تحت الأرض مع أُناس يتفوقون على الجميع في تحطيم مُعارضيهم وناقديهم مادياً ومعنوياً .
في ظل هذه الأجواء الفاشية في التعامل مع المُعارضين والناقدين شبت أجيالٌ وتكّون مُناخ عام يكاد لا يعرف الحوار الخالي من التهم وتوسعه جبهة المعركة والنزول لدرك التراشق بحجارةٍ مهولةٍ من السبابِ والتجريحِ في محاولةٍ لاستئصال الوجود المعنوي للطرف الآخر (المُعارض أو الناقد) .
في ظل مُناخ عام كهذا ، يصبح الكلام عن (قبول الآخر) و(اتساع الصدور للنقد) و(تعميق النقد الذاتي) و(توسعة الهامش الموضوعي) في التفكير والجدل وقبول (التعددية) قبولاً حقيقياً راسخاً وواسعاً .. تصبح هذه القيم نغمةً نشاذ وإستثناء بحت . ورغم أن هناك نماذج رائعة ومثالية في هذا المجال ، إلاَّ أنها للأسف أقل عدداً بشكل كبير في مواجهة تيار عارم من الحوار والكلام والكتابة الفاشية التي نبتت ونمت وأستفحل وجودها وانتشارها في ظلال الفاشية ؛ وأغلب الظن أننا سنعيش مع هذه الظاهرة لعدةِ سنواتٍ حتى تكتمل (وتنجح) عمليةُ التحول الاقتصادي الجارية حالياً وتختلف مكونات الحياة العامة اختلافاً لا يترك مجالاً لأبناء التيار الفاشي في الفكر والخطابة والكتابة إلاَّ أن يكونوا مجرد "آثار" تُمثل مرحلة مررنا بها ولّونت العديد من أبناء مجتمعنا بلونها حتى انتهت (بسبب المتغيرات العالمية) كل أسباب بقاءهم .. وهو أمر (كما ذكرت) سيستغرق عدة سنوات .






الفصل الثالث
العقلية المتمترسة (أو المتخندقون)


١

منذ نحو أربعين سنة وهاجس الغزو الثقافي يسيطر على تفكير الكثيرين في واقعنا. وعندما سقط تقسيمُ العالم إلى كتلةٍ شرقيةٍ وكتلةٍ غربيةٍ في نهايةِ الثمانينيات وبدأ العالمُ يتحدث عن ظاهرةٍ جديدةٍ سماها البعضُ (ثم إنتشرت التسمية) بالعولمة بدأنا نتحدث عن "العولمة الثقافية" ومخاوف إجتثاثِ ثقافةِ العولمةِ لخصوصياتنا الثقافية. وقد كتبت كثيراً في هذا الموضوع وكانت خلاصة وجهة نظري أن أصحابَ المحصولِ المتواضعِ من الخصوصيات الثقافية هم المهددون فقط بسحقِ ثقافةِ العولمِة لثقافاتهم أما أصحابُ المحصولِ الهائل من الخصوصيات الثقافية مثلنا والذين ترجع خصوصياتهم الثقافية لعواملٍ متصلة بالتاريخ وعوامل متصلة بالجغرافيا فإنهم يكونون مثل اليابانيين غيرَ معرضين لزوال الخصوصيات الثقافية الكبيرة لهم. وكنت أكررُ أن كلَ الأمثلةِ التي يعطيها البعضُ على تأثر اليابان ثقافياً برياحِ تغيرٍ من الخارج كانت تصبُ في خانة "البنود الثانوية" مثل تناول الوجبات السريعة وإرتداء الملابس الأمريكية إلى آخر هذه السلسة من البنود الثانوية أما العلاقاتُ الإنسانية والقيم المعطاة للكبار في السن والعلاقات الأسرية اليابانية وغيرها من القيمِ الأصليةِ ومن بينها فهمُ الياباني للعمل، كل ذلك لم يطرأ عليه أي تغيرٍ منذ ستين سنة كانت فيها اليابان ذات تعاملات عارمة مع الآخرين.

ومع ذلك فإذا كان من حقِ البعض أن يتخوف على خصوصياتنا الثقافية في مواجهةِ ما يسمى بثقافةِ العولمٍة فإن الأمرَ مختلفُُ تماماً بالنسبةِ لقيمِ التقدم: فهذه القيم تجد كلها تأيداً وتعضيداً من الأسس التي ترِتكز عليها خصوصياتُنا الثقافية إذ يستحيل أن يقول قائلُُ أن الأسسَ المصريةَ أو العربيةَ أو الإسلامية أو المسيحيةَ تقف بأي شكلٍ من الأشكالِ موقف المخالفةِ والتضاد في مواجهةِ قيمٍ مثل الوقت والإتقان وعالمية المعرفة وعمل الفريق وثقافة النظام عوضاً عن ثقافة الأفراد أو الإيمان بأن الإدارة هي أحد أهم وأكبر أدوات صنع النجاح. بل إنني أتصور أن يزعم عديدون في واقعنا أن هذه القيم وجدت دعوة وتعضيداً لها في تاريخنا قبل مئات السنين وقبل أن تأتي دورةُُ من دوراتِ الحضارة الإنسانية وتوظفها توظيفاً جيداً لصنع حياة أفضل. وقد يظن البعضُ أن ما أقوله في هذا الفصل قد يكون منطبقاً على معظم قيم التقدم ولكن يصعب إنطباقه على قيمة التعددية إذ يعتقد البعض أن التفكيرَ الديني الإسلامي يقوم على "وحدانية نموذج الصواب" - وهذا في إعتقادي خطأ بحت فهناك العديد من النصوص القرآنية التي تعضد التعددية ولعل أهمها النص الذي يشير إلى أن الله لو أراد أن يكون الناسُ على دينٍ واحد لفعل ذلك (سورة يونس - آية 99) كما أن هناك العديد من النصوص الواردة في السنة التي يمكن أن تكون دليلاً معضداً لكون التعددية من سنن الحياة.

وسيكون من الغريبِ (والمهينِ) للغاية وجود حوار حول "تضاد" بين خصوصياتنا الثقافية وقيم مثل الوقت أو الإتقان لأن زعماً كهذا سيكون بمثابة ترويج لقيم التخلف والبدائية(ناهيك عن كونه إهانة ذاتية منّا لنا). كذلك مما يدل على عدم وجود تضاد بين قيم التقدم وخصوصياتنا الثقافية أننا شهدنا خلال القرن الأخير فترات كان التواجد النسبي لمعظم هذه القيم في واقعنا أعلى منه في فترات لاحقة عندما تمت عمليةُُ يسميها البعض "تفكيك المجتمع المصري" فواكب ذلك إنخفاضُُ كبيرُُ في نسبةِ توفرِ قيمِ التقدمِ.

وأُذكرُ أنني (في الثمانينات) كنتُ في أحدِ مراكزِ التقدمِ الإقتصادي المبهرِ في جنوب شرق آسيا وكان الشعارُ العام للمؤسسات الإقتصادية في هذا الجزء من العالم أننا أمام مجموعتين بشريتين "المجموعة الصينية" و "المجموعة المالاوية" وكان العرفُ السائد أن من يريد تكوين تنظيم عملٍ على درجةٍ عاليةٍ من التميُز والكفاءة فإن عليه أن يعتمد كليةً على العنصر البشري الصيني لأنه يتقن العمل ويخلص فيه كما أنه مجبولٌ على العمل الجماعي ويبلغ تقديسه للعمل مبلغ تقديس كبار المتدينين لعقائدهم. أما المجموعة الأخرى فسماتها الأصلية الكسل وعدم الإتقان والتشرذم والبعد الكامل عن تقديس العمل. وكانت هذه المقولة شبه مطلقة حتى جاء رجلُُ واحدُُ في دولةٍ أكثر ثلثي سكانها من الطائفة المستبعد تميّزها في العمل وهي ماليزيا والتي يشكل المسلمون والمالاويون المنتمون للطائفة الثانية السواد الأعظم من سكانها وحقق معجزة وصول هذا الشعب لأعلى مستويات التميز في كل مجالات العمل الإنتاجية والخدمية ، وإذا بنا في أقل من عشرين سنة نرى كلَ قيم التقدم مجسدةً في هذا المجتمع الذي كان قبل ذلك يغط في سباتٍ التخلفِ والعجزِ والكسلِ ... وإذا بالعالم يكتشف حقيقتين كبيرتين لم يكن من الممكن تصديقهما من قبل:

• الحقيقة الأولى أن التأخر ليس نتيجةً لحتميةِ بيولوجية وإنما لظروف إن تغيرت تغيرت الأحوالُ كليةً .
• الحقيقة الثانية أن قيم التقدم يمكن أن تُزرع في بيئاتٍ مسيحية وبيئات بوذية وبيئات مسلمة بل وفي أية بيئةٍ من البيئاتِ وأنها ليست حكراً على أحدٍ.

وإذا أردنا أن نضيف الآن حقيقة ثالثة فهي أن كل الخصوصيات الثقافية الماليزية والمتعلقة بالعلاقات الإنسانية والعلاقات الأسرية وإستمداد القيم من الدين بقت كما هي في زمن الإزدهار ولم يحدث أي تضاؤل لها عما كانت عليه في زمن الإنحدار . حتى الذين يقولون أن ما حدث في ماليزيا كان بتأَثير الأقلية الصينية فإننا نقول لهم أن هذا الكلام لا معنى له إلا معنى أخر غير الذي تقصدونه فالمعنى الوحيد لهذه الملاحظة أن (التقدم) يمكن أن يحدث بالعدوى.وهي فكرة لا بأس بها على الإطلاق وأن كنت أعتقد أن دحضَها في النموذج الماليزي سهلٌ للغاية : فالأقليةُ الصينية كانت دائماً متواجدة في ماليزيا أما الذي لم يكن متواجداً فهو الرؤية والقيادة.

١.1
(إن العقلَ المصري قد اتصلَ من جهةٍ بأقطارِ الشرق القريبِ اتصالاً منظماً مؤثراً في حياته ومتأثراً بها، واتصل من جهةٍ أخرى بالعقل اليوناني منذ عصورِه الأولى).
"طه حسين..."


من الحَقائقِ التي كان ينبغي أن تكون واضحة، وأن تكون نتائجُها – بنفس الدرجة - واضحة ومتسقة مع مقدماتها، هي أن هويتنا الثقافية تقوم على الحقائقِ التالية:

• أَننا -تاريخياً - جزءٌ (بدرجة ما) من الثقافةِ العربيةِ الإسلامية.
• أَننا -جغرافياً- جزءٌ من ثقافةِ شرقِ البحرِ المتوسط.
• أَننا -حالياً- جزءٌ من العالمِ الحديثِ والذي يقوده "الغربُ" - وإن كانت الثقافةُ الذائعة والشائعة باسم "الثقافةِ الغربيةِ" هي ثقافة ذات بُعدٍ غربيٍّ (لا ينكر) إلاِّ أنها أيضاً ثقافةٌ ذات بعدٍ "إنساني"، بمعنى أَن الكثير من "المحصولِ الثقافي الغربي" ليس غربياً وإنما وفَد من ثقافاتٍ أُخرى سابقة.....

تلك حقائق ما كان لها أن تكون "غائبة" أو "غائمة" وإنما كان من المنطقي أن تكون واضحةً وجليةً، ولكن في ظلِ انهيارِ المستوياتِ الثقافية وانحسارِ التألق الفكري والثقافي (كنتيجةٍ لظروفٍ حياتيةٍ طاغيةٍ وعاتيةٍ) فإن الصورةَ أَبعدُ ما تَكون عن الوضوحِ، بل إن مُعظم المُهتمين بالشئونِ العامةِ في واقعنا يعانون من "رؤيةٍ" بالغة الضبابية في هذا الشأنِ تجعل من كثير منهم أصحاب أفكارٍ ومواقفٍ بالغة الفقر ثقافياً. ولننظر معاً لتلك الحقائق الثلاث الكبرى من منظورِ واقعنا ومفرداتِ وحقائقِ ومواقفِ هذا الواقع.

نحن وثقافتنا العربية:
المفُترض ألا يكون هُناك إنكار لحقيقةِ أننا -تاريخياً- جزءٌ من الثقافةِ العربيةِ، ويَعنى ذَلك أَن مثقفينا والشَخصيات العامة لدينا يفترض فيهم أَن يكونوا أَصحاب إِلمام طيبٍ بالثقافةِ العربية. ولكن الواقعَ يؤكد أن ذلك وإن كان ينطبق على البعض إِلا أَن تعميمه أبعد ما يكون عن الحقيقةِ. إِذ أَن نظرةً مُتفحصة تُظهر ما يلي من حَقائقٍ مؤلمةٍ:

رغم أَن إِتقان اللغة العربية هو العمودُ الفقري للتعاملِ مع دنيا الثقافةِ العربيةِ والإسلاميةِ، فإن أعداداً كبيرة من مُثقفينا والشَخصيات المُهتمة بالشؤونِ العامةِ في واقعنا تملك محصولاً هزيلاً من اللغة العربية، بل وأكاد أجزم أن بعضهم لا يملك أن يتكلم بلغةٍ عربيةٍ سليمة لمدةٍ وجيزةٍ لا تَتَعدى الدقائق القليلة. ومن المؤكد أن أيَّ مُراقبٍ مُنصفٍ لحياتنا العامة سيلاحظ بوضوحٍ أن قدرةَ الشخصياتِ العامةِ على الحديثِ والكتابةِ بلغةٍ عربيةٍ سليمةٍ قد واصلت الانهيار والانحدار خلال السنوات الأربعين الأخيرة حتى بلغت اليوم ما هي عليه من وضعٍ مؤسفٍ (بل وأراه كثيراً كوضعٍ "مهين" لكبريائنا الوطني والقومي) (والإرتباك اللغوي – كما يقول المفكر المصري الكبير مراد وهبه إنعكاس للإرتباك الفكري) .

أَن عدداً من مثقفينا والشخصيات المهتمة بالشؤون العامة لدينا لا يكاد يعرف شيئاً عما أنتجته الثقافةُ العربية. فمُعظم هؤلاء يكاد يكون مطلق عدم المعرفة بالشعر العربي وهو أهم أشكال الإبداع الأدبي العربي. وبإستثناءِ معرفةٍ سطحيةٍ ببعضِ الأسماء كأَسماءِ عنترة وإِمرئ القيس وجرير والفرزدق وبشار وأبى نواس وأبى تمام والبحتري والمتنبي وأبى العلاء، فإِن معرفة هذه الشريحة العليا من مجتمعنا بشعر بعض أَو كل هؤلاء (وغيرهم) تَكاد تَكون مُنعدمةً. وقل نفس الشيء على معرفةِ مُعظم مثقفينا والشخصيات العامة لدينا بالنثر العربي، فمُعظم هؤلاء لم يقرأ شيئاً يذكر لابن المقفع والجاحظ والجرجاني وأبى هلال العسكري وإبن قتيبة وإبن عبد ربه الأندلسى وياقوت الحموي والمبرد وأبى على القالي (وعشرات غيرهم).

أَما إِذا وصلنا لعالمِ الفكر وكان قصدنا مناطق كفكرِ المعتزلةِ والأشاعرِة وسائر المذاهب الفكرية (والتي تعرف بالفرقِ عند المتكلمة أَي أَهل علم الكلام -أى الفكر والفلسفة) بما في ذلك الأسماء العظيمة لرؤوس من أجَّل رؤوس الفكر على مستوى التاريخ أمثال ابن رشد وأبى حيان التوحيدي والفارابي والرازي وإبن خلدون (وعشرات غيرهم) فإن عدمَ المعرفةِ تَبلغ مَداها الأقصى.

أن غير قليلين من المتحمسين للثقافة العربية هُم أَصحاب مُطالعاتٍ وقراءاتٍ ومعرفة متواضعة بأمهات الكتب العربية والإسلامية مما أدى بهم للخلطِ بين ما هو "مُقدس" (لأنه جزء من الدين) وما كان ينبغي أَن يبقى خارج دائرة القداسة، (لأنه عمل بَشرى مَحض)، إذ تُضفي القَداسة على الكثير من المسائل التي لا علاقة لها بالقداسةِ لأنها -كما ذكرت- من عملِ الإنسان. وعلى سبيل المثال، فإن كثيرين من هؤلاء لا يعرفون الفارق بين (الشريعة الإسلامية) و(الفقه الإسلامي). بل أَن كثيرين منهم يخلطون في معظمِ ما يقولون ويكتبون بين الدائرتين، مع ما يجرنا إليه ذلك من نتائجٍ وخيمةٍ وخطيرةٍ. فمعظم الآراء والأفكار والمفاهيم التي يُرددُها الكثيرون على أساسِ أنها ضمن (الشريعة الإسلامية) هي في الحقيقةِ من أفكارِ ومفاهيمِ (الفقه الإسلامي). والذي لا يَعرفه مُعظم هؤلاء أَن الفقه الإسلامي "عملٌ بشرىّ" قابل للنقدِ والنقضِ والتطويرِ. ويرجع علمُ أصول الفقه لأبى حنيفة النعمان الذي يُعد أول الفقهاء الكبار. وهذا الرجل العظيم هو الذي قال عن أصول الفقه، "علمنا هذا رأى فمن جاءنا بأفضل منه قبلناه". وهو تعبير بالغ الوضوح. وأبو حنيفة أيضاً هو الذي يرفض إضفاء القداسة على أحد عندما يقول عن التابعين (أي الجيل التالي للصحابة) "إِذا كان التابعي رجلاً، فأَنا رجل". ورغم أن الإمام مالك ليس كمثل أبى حنيفة فيما يتيحه لنفسه من حرية الفكر والتصرف فهو أيضاً القائل لكل من يدلو بدلوه في المسائل الفقهية: "ما منا إلا من يخطئ ويرد عليه". ومع ذلك، فإِن الخلط بين الدائرتين عندنا على أوسعِ نطاق بل وبين العديد من المتخصصين، وهو خلط شكّل (ولا يزال) قيداً على الفكرِ المُستنيرِ. ويبلغ هذا الخلط أقسى مداه في البيئات التي تأثرت بالثقافة الوهابية وهي ثقافة ظلامية لا يكاد يوجد مجال فيها لإعمال العقل .

ورغم هذهِ الحقائق الجلية، والتي تَدل على أَن أعداداً كبيرة من مثقفينا... لا تعرف شيئاً عن ثقافتنا العربية، فإِن البعض من هؤلاءِ لا يَتورع عن تنصيبِ نَفسه مُدافعاً (بعاطفية متأججة وانفعال عنفواني) عن ثقافتنا العربية التي هو أَبعد ما يكون عن معرفتها، لأنه -ببساطة- لم يقم بالجهدِ الواجبِ ويُطالع الثمار العديدة لهذهِ الثقافة في مجالاتِ الشعرِ والنثرِ والفكرِ...

وإذا كان أَحدُ روادِ الأدبِ العربي البارزين قد قال في مقدمةِ أَحدِ كتبِه: "إِن من لا يعرف شيئاً لا يملك حق الحكم عليه"، فإِننا لا نملك إِلا أَن نَقول أن مُعظم المتحمسين عاطفياً لثقافتنا العربية يفتقدون تماماً لأهلية الدفاع عن هذهِ الثقافة العظيمة، لأن من لا يَعرف شيئاً لا يَحق له الحكم عليه ناهيك عن الدفاعِ عنه.

ولهؤلاء نَقول: إِذا كُنتم في شَبابكم لم تُطالعوا عشرات الدواوين الشعرية العربية ومئات الآثار العربية الأخرى في مجالاتِ الأدبِ والفلسفةِ (الكلام) فمن أَين تَستمدون الحق في الدفاعِ عن ثقافةٍ لم تأَخُذوها مأَخَذ الجد الكافي عندما لم تعكفوا على الاطلاعِ على آثارها العظيمة؟

وخلاصة القول هنا، أَننا عندما نَقف أَمام مُعظم المتحمسين للثقافةِ العربيةِ فإِننا نَقف أَمام مُتعصبين عن غيرِ علم. أَما الذين عرفوا هذه الثقافة حق المعرفة وطالعوا المئات والآلاف من آثارها، فهم وحدهم الذين يحق لهم الفَخر ببعض آثارها (كأعمال ابن رشد مثلاً) . وحتى أَكون مُحدداً للغاية، فإِنني أَقول إن رجلاً مِثل أحمد أمين صاحب موسوعة "فجر الإسلام" و"ضُحى الإسلام" و"ظُهر الإسلام" و"يوم الإسلام" يمَلك أَن يَحكم على الثقافةِ العربيةِ، ويَملك أَن يعجب ويَفتَخر بها، لأنه أَحاط بثِمارها العَديدة وعَرف ثمارها، فمما لا شك فيه أن من حق العرب والمسلمين أن يفتخروا – بما كان لبعض أجدادهم من نصيب في إثراء الفكر والثقافة الإنسانية.

نحن وثقافة البحر المتوسط:
خلال العقود الأربعة الأولى من القرنِ العشرين كان المجُتمع المصري شديدَ الصلةِ بالدوائرِ المُحيطة بمِصرَ جغرافياً وأَعنى مَنطقة شرق البحر المتوسط. وخلال هذه الفترة كان من الواضحِ أَن مِصرَ وإِن كانت تَنتمي –تاريخياً- للثقافةِ العربيةِ والإسلاميةِ إِلا أَنها في نفسِ الوقتِ ذات صلة قوية بحضارة البحر المتوسط وما يَعكسه ذَلك ثقافياً على مِصرَ والمصريين. وكان العَقلُ المصري على درجةٍ من الوضوحِ تَسمح له أَن يرى الحكمةَ الواضحة في كلماتِ الدكتور طه حسين في كتابهِ "مُستقبل الثقافة فى مِصرَ" الذي صَدَر في سنةِ 1938، عندما أَبرز أهميةَ البعدِ الحضاري والثقافي الناجم عن كوننا منْ دول البحر المتوسط كما أَننا (بنسبٍ متفاوتة) منْ الدولِ العربية والإسلامية والأفريقية. وتأتى أهميةُ هذا البعد من حقيقةِ أَن مُعظم الحضاراتِ القديمة كانت حَضاراتٍ مُطلة على البحر المتوسط (الحضارة المصرية... الحضارة الفينيقية... الحضارة الإغريقية... الحضارة الرومانية). وأَن إِنكار هذا البُعد (لحسابِ أبعاد أخرى) هو عملية غير علميةٌ ومُخالفة لحقائق التاريخ والجغرافيا التي لا يمكن مخالفتها.

وإِذا كان العقلُ المصري قد اتسم دائماً –عبر التاريخ- بصفةٍ تسامحٍ قويةٍ، هي أَهم مزايا الشخصيةِ المصريةِ، فأَنها سِمةٌ أَو صفةٌ تتصل بهذا البُعد (بعد البحر المتوسط) أكثر من اتصالها بأبعادنا الأخرى. ومن المؤكد، أَن الهزالَ الثقافي الذي اعترانا خلال السنوات الأخيرة وما واكب ذلك من جموحِ بعض التياراتِ الفكرية وعدم إِعتزازها إِلا ببعدٍ واحدٍ من أَبعادنا الثقافية، قد لعب دوراً كبيراً في إضعافِ هذا البُعد من أَبعادنا الثقافية، رغم عظيم أهميته كجسرٍ بيننا وبين العالمِ كلهِ، وكمصدرٍ من مصادر مَلمحٍ منْ أَهم ملامحنا الحضارية وأَعنى"التَسامح".


نحن وثقافة العصر:
من أكثر المسائل الفكرية والثقافية التي حيرتني ولسنواتٍ طويلة والتي كلما شُغلتُ بها فكرياً وظننت أنني وصلت فيها إلى يقينٍ قاطعٍ جاءت محاوراتٌ ولقاءاتٌ وحواراتٌ وقراءاتٌ ووجهاتُ نظرٍ شخصية لتثبت لي أنني لم أبلغ فيها بعد حد اليقين وأَعنى علاقة العقل العربي بالثقافة التي تُعرف بالثقافة الغربية وما أكثرَ ما حيرتني الطريقةُ التي نتعامل بها مع هذا الموضوع. فهناك كثيرون في واقعنا يظنونَ أن الإيمانَ والاعتدادَ والإعتزاز بثقافتنا الخاصة وهى الثقافة العربية إنما يعني أن نكونَ في موقفِ المعاداةِ أو التحفز أو التوتر تجاه الثقافة الغربية. والبعضُ الآخر يرى أن العصرية ومسايرة الزمن يعنيان معرفة الثقافة الغربية والتفاخر بها، دون اكتراث بالثقافة العربية الإسلامية أو الإسلامية العربية.

وقد لاحظتُ في مُعظَمِ الحالات أن الذين يقولون بأن علينا أن نعتز بثقافتنا الخاصة يضمون أعداداً كبيرة ممن أُتيحَ لهم أن عرفوا بعضَ الأشياء عن الثقافة العربية دون أن يتاح لهم معرفة القدر الكافي عن الحضارة الغربية. بل وحيرني كثيراً أن بعضَ هؤلاء "المعتزين" لا يعرف إلا أقل القليل عن ثقافتنا.

نحن إذن بصدد فريقٍ يعتز ويفتخر بثقافتنا العربة وهو يعرف القليل عنها ولا يعرف تقريباً أي شيء عن الثقافة الغربية، كما أننا بصددِ فريق ثان يعتز بثقافتنا العربية ولا يكاد يعرفُ شيئاً عنها، وهو في نفس الوقت لا يعرفُ شيئاً عن الثقافة الغربية، وكان الفريقُ الثاني يذهلني كثيراً لأنه كان يشبه أمامي رجلاً يعتز بقبيلته اعتزازاً يقوم على العصبية لا غير. أما الفريقُ الأول فكنت أفهم موقفه لأنه أُتيحَ له القليل من المعرفة عن الثقافة العربية ولم تُتَح له معرفة وافية بالثقافة الغربية فكان من الطبيعي أن يتخذ موقفاً فكرياً هو أيضاً أقرب ما يكون للموقفِ الوجداني العاطفي عن الموقف الفكري.

وكانت حيرتي تمتد لدائرةٍ ثالثة من دوائر الحيرة عندما كُنتُ أخوضُ في حواراتٍ طويلة مع فريق ثالث مختلف تماماً إذ أنه يزدري الثقافة العربية ويُعجب كل الإعجاب بالثقافة الغربية وهؤلاء كانوا ينقسمون أيضاً إلى فريقين، فريق لا يعرف إلا أقل القليل عن الثقافة الغربية. في نفس الوقت لا يعرفُ شيئاً عن ثقافتنا العربية، وفريق رغم ولعه الشديد بالحضارة الغربية فإنه لا يعرف عن الثقافة الغربية شيئاً يذكر ناهيك عن عدم معرفته شيئاً يذكر عن الثقافة العربية. وفى سنواتِ التفكير والحيرة بصدد هذه المسألة وجدتُ أنني لا أملكُ إلا التعجب، وأنا أرقبُ هذه المجموعاتِ الأربعة.

وكما ذكرت، فقد حيرتني هذه المجموعات الأربعة وأذهلني موقفُ كلٍ منها وأذهلني موقفُ أفرادها كما أضناني الحواُر معها لأنه حوار يشبه ما يسميه العربُ بحوار الطرشان، لأنك تتكلم مع أي فردٍ من أي مجموعةٍ من هذه المجموعات فيردُ عليكَ رداً ينبئ بأنه يتكلم كلاماً ما هو إلا صحيفة اتهام كانت جاهزة لديه من البداية وهى صحيفةُ اتهام تقومُ على التعصبِ والتشددِ والتحيز الوجداني والعاطفي، ولا تقوم على فهمٍ ودرايةٍ واسعة وثقافةٍ عميقةٍ أو عريضة. ولا شك عندي اليوم بعد سنواتٍ طويلة من الاهتمامِ بهذا الموضوع أن معظمَِ الأفرادِ في مجتمعنا المصري والعربي يندرجون تحت واحدة من هذه الفئات الأربعة.

ولكن هناك أيضاً فئة خامسة تختلفُ اختلافاً كبيراً عن الفئات الأربعة التي ذكرتها ولكنها فئة لا تضمُ إلا أعداداً صغيرة للغاية، إنها الفئة التي يؤمنُ أفرادُها بأن الثقافة العربية أنتجت ما يجعلنا نفتخرَ بها. وأفراد هذه الفئة يعرفون عن هذه الثقافة الكثير، فقد قرءوا عيون إبداعات هذه الثقافة منذُ ازدهرت بعد أقل قليلً من مائةِ سنة على ظهورِ الإسلام، ثم إرتفع نجمُها في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين حتى بلغَ آفاقاًَ بعيدة من آفاقِ التألق. هؤلاء يعرفون عن الشعر العربي الكثير ويدركون قيمة ما توصل إليه الفكر العربي من أبعاد رائعة من التأنقِ والتألقِ تجلَّت في إبداعاتِ فكرِ المُعتزلة، كما تجلت في آثار ابن رشد الفذة .

إن أفراد هذه المجموعةِ القليلة يتيهون إعجاباً بفكرِ ابن رشد وابن سينا وابن خلدون كما يفتخرونَ بعبقرياتٍ شعرية مثل أبى نواس والمتنبي وأبى العلاء المعري. وبعبقرياتٍ في النثرِ العربي مثل المعري (مرة أخرى) في رسالة الغفران. وإذا تذكروا الشأو البعيد الذي بلغه علامةٌ مثل الرازي شعروا بدرجةٍ رفيعةٍ من الزهو والمجدِ. إذن أفراد هذه الفئة الخامسة مطلعون بعمقٍ على الثقافة العربية وهم يفتخرون بما يعرفون، ولكنهم أيضاً يدركون أن الثقافة العربية هي عمل إنساني ولا يضفونَ عليها القداسة وإنما يكتفون بإضفاء هذه القداسة على القرآن الكريم.
إن أفراد هذه المجموعة الخامسة يعرفون أيضاً عن الثقافةِ الغربية الكثير ، فهم غطوا مساحاتٍ واسعة من مناطقِ الثقافة الغربية بل ومن منابعها القديمة مثل الثقافة اليونانية والرومانية وثقافة عصر النهضة أو الرينيسانس. أما ثقافات الحضارة الغربية الحديثة فقد أحاطوا بها إحاطةً جيدةً وخاضوا في معظم فروعها كالأدبِ والفنون والتاريخ وعلوم السياسةِ والإجتماع والاقتصاد وعلوم الفلسفة وعلم النفس كما توسعوا في الاطلاع على موجات العلوم الحديثة المتصلة بحركة الاقتصاد المعاصر. وأفرادُ هذه المجموعة وإن كانوا يعجبون بالكثيرِ من إنجازاتِ الحضارة الغربية إلا أنهم لا يصلون إلى حد الافتتان والتقديس لأنهم يعلمون أن الحضارة الغربية حضارة إنسانية لها ما لها وعليها ما عليها، وإن كانت صاحبة إنجازات عظمى مثل خلقِ نظامِ عملٍ مُنتج وفعال، ومثل تطوير علاقة الحاكم بالمحكوم أو المحكوم بالحاكم في ظل منظومةٍ راقية تسمى الديموقراطية ومثل حقوقِ الإنسان، إلاَّ أن الحضارة الغربية تبقى "عملاً إنسانياً" لا يخلو من العيوب والنقائص – شأنه شأن كل شئ بشري.
وقد حيرني أن الأغلبية العظمى في واقعنا تنتمي لمجموعةٍ من المجموعاتِ الأربعة الأولى. أما المجموعة الخامسة فلا يكاد أفرادُها يتجاوزون في عددهم المئات على مستوى الوطن العربي بأسره وهم في الأغلب الأعم يتخوفون من إبداءِ وجهاتِ نظرهم، لأنهم كثيراً ما يقابلون بالهجوم وغالباً ما يكون الهجوم ظالماً عندما يتهمون بأنهم مبهورون بالحضارةِ الغربيةِ. والحق أن معظم هؤلاء غير مبهورين بالحضارة الغربية لأنهم يعرفون عنها ما يجعلهم يعجبون بالكثيرِ من ثِمارها ولكن دون أن يمنعهم إعجابهم من رؤية سلبيات الثقافة الغربية.

ومع ذلك فإن معظم أفراد المجموعات الأربعة الأولى لا يفهمون موقفَ هذه المجموعة الخامسة ولعل السبب أن الإنسانَ عادةً لا يرى ما يجهل ويفقد تماماً القدرة على الحكم على ما لا يعرف. ولكن في داخل المجموعات الأربعة تختلف المواقفُ، فبينما يتسم أفرادُ المجموعة الثالثة والرابعة بمسحةٍ تظهرهم وكأنهم عصريون ومتمدنون، فإن أفرادَ المجموعة الأولى والثانية يظهرون في موقفٍ بالغ التعصب. والحقيقة أن أفرادَ المجموعات الأربعة يشتركون في صفةٍ أساسيةٍ وهى أنهم يحكمون على أشياءٍ لا يعرفونها وأنهم يفتقدون ويفتقرون لأهم عناصر الحكم. كذلك فإن أفراد المجموعة الثالثة والرابعة ليسوا بالضرورةِ أكثرَ تحضراً وتمدناً من أفرادِ المجموعةِ الأولى والثانية وإن كانت المظاهرُ الشكلية قد تدل أحياناً على ذلك وهو غير صحيح.

والمشكلة الكبرى أن الحوارَ يكاد يصبَحُ مستحيلاً بين أفراد المجموعة الخامسة والمجموعات الأربعة الأخرى، فإن ما يطلبه أفرادُ المجموعة الخامسة لا يجد أذناً صاغيةً لدى أفراد المجموعات الأربع الأخرى. لأنهم في الحقيقة يظنون أنهم يُهاجمون ويُطعَنونَ في مُقدساتهم فيتخذون موقفاً عاطفياً وجدانياً قد يبلغ حد العنف لأنهم يشعرون أن الواجب يملي عليهم الدفاع عما يعتزون به ويفتخرون به. ولا شك أن المسؤولية الثقافية والفكرية بل والوطنية، تلقى على أكتاف المجموعة الخامسة مهمةً كبرى. هي إقامةِ حوارٍ متحضر مع أفراد المجموعات الأربع الأخرى يؤسسُ على تسليطِ الضوء على الحقائق والأخذِ بيدِ أفرادِ المجموعاتِ الأربع الأخرى، ليروا أنه لا تعارض في الحقيقة بين أن يعرف الإنسانُ ثقافته ويفتخر بها ويبلغ في الاعتزاز بها أبعد الحدود وأن يكونَ في نفس الوقت ملماً بثقافةِ العصر المتمثلة في الثقافةِ الغربيةِ دون أن يسْقطَ في وهدةِ الانبهار الأعمى والتقديس الذليل لهذه الثقافة لأنها مجرد ثقافة إنسانية لها مزاياها ولها أيضاً عيوبها. ويجب على أفراد المجموعة الخامسة أن يحيطوا الحوارَ دائماً بإطارٍ من الاحترامِ مع بذلِ كل الجهودِ الفكريةِ والعقليةِ والثقافيةِ والموضوعيةِ لكي يظهروا لأفراد المجموعة الأولى والثانية بالذات أن الثقافة التي تسمى بالثقافةِ الغربيةِ ليست في الحقيقة حضارة غربية محضة وإنما ثقافة إنسانية تمركزت حالياً في الدولِ الغربيةِ المتقدمة ولكنها في جذورِها أخذت الكثيرَ من الحضارةِ اليونانية القديمة ومن الحضارة العربية في عصورِ ازدهارها كما أنها أخذت الكثير من حضاراتٍ أخرى قديمة كالحضارةِ الرومانية وغيرها من الثقافاتِ الحديثةِ.

إن على أفرادِ المجموعة الخامسة أن يظهروا أن الجمعَ بين فهم ثقافتنا الشرقية (العربية والإسلامية) وبين فهمِ واستيعابِ الثقافةِ الغربيةِ أمرٌ ممكنٌ وميسورٌ، دون أن يفقد الإنسانُ هويته ودون أن يصير تابعاً للثقافة الغربية بشكل أعمى. لذا لا يجب أن نسقط أبداً في حفرة التساؤل المستحيل: "هل نتبع أم نأَخذ هذه أو تلك؟" لأن الجواب السليم هو “هذه وتلك". نأخذ من ثقافتنا الكثير، ونأخذ من ثقافة الغرب الكثير أيضاً . ويبقى المحورُ الهام هو أن يعترف أفرادُ المجموعاتِ الأربعة الأولى بأن من لا يعرف شيئاً لا يملك حق الحكم عليه، وبالتالي فإن على أفراد المجموعتين الأولى والثانية أن يؤمنوا أن أحكامهم على الثقافةِ الغربية لا يمكن أن تكون سليمةً لأنهم بسهولةٍ وبوضوحٍ تامٍ لا يعرفونها، ولا يعني ذلك على الإطلاق أن ثقافتهم العربية الإسلامية خاطئة، ولكنه يعني أن أحكامهم على الثقافة الغربية لا تستند على أي أساسٍ من منطقٍ أو علمٍ. كذلك ينبغي أن نصل بأفرادِ المجموعةِ الثالثةِ والرابعة ليقينٍ واضح بأن مواقفهم ليست أفضل من موقف المجموعة الأولى والثانية لأنهم أيضاً يؤمنون إيماناً يقوم على التقديس في غير محله والانبهار وهو ما لا يصلح لأن يكون أساساً للأحكام. ناهيك عن أن سوادهم الأعظم لا يعرف عن الثقافة الغربية إلا القليل والقشور كما أنهم يجهلون عن ثقافتهم العربية كل شيء تقريباً، وهنا فإنهم يقعون مرة أخرى تحت طائلة الحكم المنطقي الذي لا يقبل النقاش بأن من لا يعرف شيئاً لا يملك حق الحكم عليه - وقد يكون أفرادَ المجموعةِ الثالثةِ والرابعةِ غير مهتمين بالحوار أصلاً. أما أفراد المجموعة الأولى والثانية فإن الانفعال والالتهاب الوجداني الذي يتخذونه والربط الشديد بين المناقشة هنا وبين الكرامة والإعتزاز التي تشوب تناولهم للأمر تجعل الحوار شبه مستحيل وتجعله صعباً للغاية فهم أقرب ما يكونون للصدام، الأمر الذي يحول بينهم وبين أن يفتحوا أعينهم على حقائق إذا رأوها وجدوا أنهم يمكن أن يظلوا متمسكين باعتزازهم وفخرهم وانتمائهم لثقافتهم مع تعلم واسع وإدراك ومعرفة بثقافة الغرب التي هي ثقافة العصر دون أن يفقدوا هويتهم أو كرامتهم ودون أن يصبحوا تابعين لأحد. والحقيقة أنهم في هذه الحالة يزدادون ولا ينقصون ويقوون ولا يضعفون، إلا أن الموقف الوجداني الذي يتخذونه يجعل من الحوار معهم مهمة صعبة-وليست مستحيلة -وعلى أفراد المجموعة الخامسة أن يعرفوا أنه بدون الموضوعية والبعد عن الانفعال عن مس المقدسات، فإن الحوار مع أفراد المجموعة الأولى والثانية سرعان ما ينقطع ويُصبح من شبه المستحيل وصله مرة أخرى.

************

٢

في السنوات العشر من 1960 إلى 1970 كنت محظوظاً إلى أبعدِ الحدودِ عندما وفرت لي مجموعةٌ من الظروفِ والأسبابِ والدوافعِ أن أقرأ (بنهمٍ وحبٍ عميقين) معظمَ كلاسيكيات الأدب العالمي . ففي هذه الفترة طالعت روائعَ الأدب الروسي ولا سيما الأعمال الفذة لكتابِ وشعراءِ روسيا العظام أمثال بوشكين وجوجول وترجينيف وديستويفسكي وتولستوي وتشيكوف ومايا كوفسكي وغيرهم . كذلك غطت الرحلةُ أعلامَ الأدبِ الألماني (والأدب الذي يُكتب بالألمانية) منذ جوته وشيللر إلى ديرنمات مروراً بأدباءٍ وشعراءٍ عظام مثل هاينى وتوماس مان وكافكا وبريخت . وكذلك أعلام الأدب الإيطالي منذ دانتي إلى بيرادنللو وعشرات الأعلام الأفذاذ من بريطانيا وفرنسا وأسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية مثل شكسبير وراسين وفلوبير وديكينز وبرناردشو واناتول فرانس ولوركا والبيركامو وسارتر وفوكنر وهيمنجواى واليوت وتنيسى وليامز وآرثر ميللر وناتالي ساروت وصمويل بيكيت ويونيسكو .. وعشرات غيرهم إلى جانبِ أعلامٍ من بلدان أخرى مثل هنريك ابسن عبقري النرويج . وساهم في إتاحة هذه الفرصة لأمثالي ممن خُلقوا وفي دمائهم حبُ الإبداعِ وجودُ حركةٍ نقديةٍ عارمةٍ في تلك الأيام مع حركةِ ترجمةٍ موازيةٍ كانت تتخذ من لبنان رأس حربة لها . وبسبب الحركة النقدية عرفنا ما الذي علينا أن نقرأه من كلاسيكيات الآداب العالمية ومن حركة الترجمة التي كانت تشع من بيروت تابعنا – عن كثب – إبداعاتِ البشريةِ دون عائقٍ من عوائقِ اللغة (قبل أن يكون بوسعنا أن نطل على تراث البشرية من نوافذ لغات أوروبية كنا وقتئذٍ نملك القليل من مكنها ) .
وكان النقادُ الكبار وقتئذٍ أمثال محمد مندور ولويس عوض ومن ورائهما الدكتور عبد القادر القط والناقد الشاب اللامع رجاء النقّاش هم السلة التي كنا نقطف منها الدليل والبوصلة تجاه ما ينبغي أن يُقرأ من ثمارِ العبقريةِ الأدبيةِ العالميةِ ، كما كان بعضُهم يقودنا أيضاً لعالمٍ وعرٍ آخر هو عالم الفلسفة الغربية وعددٍ كبيرٍ من العلوم الاجتماعية مثل التاريخ والاقتصاد السياسي وعلم النفس والاجتماع وغيرها . ولعل الدكتور عبد الرحمن بدوي ثم الدكتور يوسف مراد ثم الدكتور زكي نجيب محمود ثم الدكتور مراد وهبه كانوا بمثابةِ الأضواءِ الكاشفةِ والهاديةِ لساحاتِ تلك الأودية من أودية الفكر الإنساني .
وخلال تلك السنوات لم تكن عند كاتبِ هذه السطور أيةَ فكرةٍ عن الانشقاقِ الذي سيميز حياته بعد ذلك عندما تنقسم إلى نهرين : نهر العمل (في مجال اقتصادي هام هو مجال البترول وبالتحديد في مجال الإدارة العليا في صناعة البترول) ونهر الهواية (والذي سيظل محتفظاً بنفسِ الولعِ بالأدبِ والفلسفةِ وفنونِ الموسيقى والفنونِ التشكيلية) .
وخلال تلك السنوات (1960 – 1970) لم يدر بخلدي قط (كما لم يدر بخلد كل أقراني ممن أحبوا المعرفة والثقافة وشغفوا بهما ذلك الشغف الطوفاني) أن نتساءل عن جنسيةِ ما نقرأ . فقد كنا نحب نجيب محفوظ ويوسف إدريس وبدر شاكر السياب ونزار قباني وأحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور و سهيل إدريس ومحمد ديب ويحيى حقي كما كنا نحب عشرات الأسماء غير العربية (والتي ضربت أمثلة لها آنفاً) دون أن نشعر بأن يوسف إدريس مصري وسهيل إدريس لبناني ومحمد ديب جزائري ويوجين يونيسكو روماني وجراهام جرين بريطاني والبير كامو فرنسي والبرتو مورافيا ايطالي وابسن نرويجي ويوجين يونيل أمريكي .. لم نكن نشعر بذلك ولم يكن يعنينا ذلك ، لأننا كنا قد نشأنا في ظلِ مُناخٍ ثقافيٍّ عامٍ كان يُقدم لنا الإبداعَ بصفته ظاهرة عبقرية إنسانية دون أدنى لمسة شوفينية ودون أي خوفٍ من التعبيرِ المريضِ الذي بدأنا نسمعه لأول مرةٍ في أواخر الستينات وأوائل السبعينات وهو تعبير "الغزو الثقافي" .
وللأسف الشديد فقد واكب استعمال البعضِ لهذا المصطلح الرديء (الغزو الثقافي) نمو تيار سلفي لم يكن له أي تأثير على المثقفين في عقدِ الستينات . ومع وجودِ هذا المفهوم الجديد وشيوع أفكارٍ سلفيةٍ مخاصمةٍ للعصر والحضارة ورافضة لفكرةِ أن مسيرةَ التمدنِ الإنساني قد إستقت عناصرَها من عناصرٍ وحضاراتٍ وثقافاتٍ شتى ، أصبح عدد الذين يؤمنون بكابوس الغزو الثقافي أكثرَ وأكبرَ .
ثم جاء التراجعُ القوي في الحركةِ التعليميةِ وفي الحركةِ الثقافيةِ خلال السنوات التي تلت منتصف السبعينات ، ليساهما في استفحالِ الرعبِ (الوهمي) من الغزو الثقافي ، مع ما صاحب ذلك من تقسيمٍ معيبٍ للحضارةِ الغربيةِ إلى شقين : شق مادي يتمثل في الآلات والعلوم التطبيقية والتكنولوجيا وشق معنوي هو كل الفكر والثقافة والفن التي أنتجتها تلك الحضارةُ . وهنا بدأ البعضُ (ممن يؤمنون بخرافةِ الغزو الثقافي) يروّجون لفكرةِ أن علينا أن نأخذ من الغربِ بضاعته المادية فقط (أي العلم التطبيقي والآلات والتكنولوجيا) وأن نتجاهل كل ما عدا ذلك (من فلسفةٍ وأدبٍ وفكرٍ وفنونٍ) . وقد غاب عن هؤلاء أمران كبيران :
الأول : أن الشق المادي في الحضارة الغربية هو ثمرةٌ طبيعيةٌ للشقِ غير المادي (أي الثقافي) لهذه الحضارة . فقد بدأت الحضارةُ التي يسميها البعضُ اليوم بالحضارةِ الغربيةِ بالفكرِ والفنونِ والآدابِ وعندما خلقت مُناخاً عاماً إيجابياً وخلاقاً يسمح بتفتق الإبداع أنطلق "العلمُ التطبيقي" في إبداعاته المتوالية .
والثاني : أن ما يسمى بالحضارةِ الغربيةِ ليس غربياً بشكلٍ كلىٍّ . فالحضارةُ الغربية تتكون من مادتين ، الأولى مادة إنسانية وليست غربية ، وأعني بذلك خلاصة تراكمات الحضارات والثقافات الإنسانية الأخرى . أما الثاني فغربي محض . وهذا أمرٌ منطقي ، فالحضارةُ الغربية لها بعدها الإنساني ( أي كونها ثمرة حركة التمدن الإنساني بوجه عام) كما أن لها بعدها الغربي (والمتصل أساساً بتاريخ أوروبا الغربية منذ نهاية القرون الوسطى وبدايات عصر النهضة) .
وما يجب علينا أن نبذل قصارى الجهد لغرسه الآن وفي المستقبلِ في أذهانِ وعقولِ وضمائرِ الناشئة في مصرَ أن الإبداعَ لا جنسية له وأن الفكر كذلك بلا هوية وأن اشتراكنا مع الإنسانية في التعرف على ثمار الإبداع والعبقرية والعقول الإنسانية لا يمثل هجوماً على خصوصياتنا، وأننا بوسعنا أن نكون مثل جيل لطفي السيد وطه حسين وأحمد أمين والعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ مصريين إلى أبعدِ حدٍ وعلى معرفةٍ بإبداعاتِ الإنسانيةِ الفذةِ دون أن يجنى ذلك على خصوصياتنا أو أن ينتقص من هويتنا الثقافية ، فقد كان طه حُسين من أكثر المصريين معرفةً وحباً لآداب اليونانيين القدماء وللأدب الفرنسي دن أن ينقص ذلك من معرفته الواسعةِ والعميقةِ بآدابنا وتاريخِنا العقلي .
أن مصرَ وهي تقفُ على أعتابِ القرنِ الحادي والعشرين بحاجةٍ لصلحٍ ثقافيٍّ بين ما هو "إنساني" وما هو "خصوصي" – وستجد أن ذلك الصلح ممكن وسهل وفعّال ومُجدي وقادر على التعامل مع معطياتِ وتحدياتِ العصر أكثر من قدرة أولئك الذين وصفتهم في أحد مقالاتي بأنهم (محليون للنخاع) .

************

٣
تجتمع عدةُ أسباب لجعل (جرعة المحلية) عند المواطن المصري المتوسط المعاصر مفرطة في الاتساع، كما أن نفس الأسباب تجتمع لتجعل (جرعة العالمية) عند نفس المواطن بالغة التواضع.

فالمجتمعات القديمة من جهة، كثيراً ما يعانى أبناؤها من الإغراقِ في المحليةِ، فالدنيا عند هؤلاء هي هذا الوطن في المقامِ الأولِوالأخير.... ومن هنا خرجت المقولة الدارجة (مصر أم الدنيا).

ومن جهةٍ ثانية، فإن سنوات الستينيات والسبعينيات والتي كانت بمثابة "قاعدة الانطلاق" على مستوى العالم الخارجي لما جاء بعد ذلك من ثورة الاتصالاتِ وسقوط الجدران الفاصلة والعازلة بين الدول والشعوب وبداية الإعلام الذي يتخطى حدود الدول والاقتصاد الذي يتبع نفس النسق، خلال هذين العقدين، كنا نحن ممعنين في المحلية والحد من التواصل مع "دنيا الخارج".

ومن جهةٍ ثالثة، فإن برامجنا التعليمية قد توالت التركيز على الداخلِ (تاريخنا وحضارتنا وآدابنا) بشكل يناقض –مثلاً- برامج التعليم في دولة مثل فرنسا تولى مقررات دراسة تاريخ مصر القديمة والصين والحضارتين الإغريقية والرومانية ما توليه لمقررات دراسة تاريخ فرنسا ذاتها.

ومن جهةٍ رابعة، فإن نشأة جهاز الإعلام المصري من بدايته كذراع للحكومة وما حدث (على نفس الشاكلة) للصحف المحلية، قد جعل "رسالة الإعلام المصري" لسنوات غير قليلة "رسالة محلية بحت"، ولا أدل على ذلك من مقارنةِ نشرة الأخبار الرئيسية لدينا بنشرة الأخبار في معظم دول العالم -فالأخبار المحلية لدينا تكتسح الصورة، بينما معظم نشرات الأخبار تتابع الأحداث أياً كان موقعها الجغرافي.

ومن جهةٍ خامسة، فإن نمو التيار السلفي (نسبياً) في مجتمعنا كان انتصاراً قوياً للمحلية على حساب الدولية. ولا شك أن مستقبل العالم بأسره يشهد إنحساراً نسبياً للمحلية وازدياداً واضحاً للدولية أو العالمية. وإن ذلك يقع على أرض الإقتصاد كما يقع على أرض الثقافة والفكر والتعليم والإعلام.

وبالتالي، فإن عدم استفاقتنا على ضرورة العمل العلمي الجاد على خلق معادلة متوازنة بين (المحلية) و(العالمية) سيجعلنا أقل قدرةً على التعامل الفعّال والإيجابي والمثمر مع آليات الواقع الجديد.

وإذا كنت قد ذكرت –مكرراً- في العديدِ من الكتاباتِ والمحاضرات، أن المحرك (الموتور) الذي ستعتمد عليه المؤسسات والشركات والمجتمعات هو (الإدارة الفعّالة)، فإنني أُضيف هنا أن الإدارة الغارقة في المحلية (ستكون عاجزة تماماً عن خوض لعبة المستقبل بنجاح فأساس هذه اللعبة مزدوج:

• الإدارة الفعّالة، بمعنى القيادة المثمرة.
• المعرفة الواسعة بعناصرِ اللعبة على المستوى الدولي.

وسينطبق ذلك على (الشق الاقتصادي) من حياة المجتمعات كما سينطبق على (الشق السياسي).










الفصل الرابع
غياب السماحة و غياب العقل النقدى

١
لكم دينكم ولي دين" .
(قرآن كريم..)

الإنسانُ - بطبيعتهِ - قابل لأن يَكون ضَيق الصدر ورافضاً (وفى أحيانٍ غير قليلة: "معادياً") لمن يَختلفون عنه اختلافات كبيرة. ومن صور الاختلاف التباين في الدينِ والعرقِ والمعتقداتِ والعاداتِ والمقدساتِ والاختلافات الحضارية والثقافة بشتى صورِها. وعبر التاريخ، كانت هذه الاختلافاتُ (مع اختلاف المصالح) بمثابةِ الوقود الذي أَشعل - مراراً - الحروب والصراعات العديدة التي حشد بها تاريخُ الإنسانِ على الأرضِ.

ومن المؤكد ، أَن تاريخ الإنسانية قد شَهد تحَولات إيجابية في نموِ ظاهرة قبول الإنسان لكونِ هذهِ الاختلافات من الأمورِ الطبيعيةِ والملازمة لحياةِ البشر على الأرض . بمعنى أَن الإنسان أَصبح عبر القرون أقل رفضاً وغضباً منْ تِلك الاختلافات وأَكثر قبولاً للتعايش معها. ومع تطور الحياة المدنية ، نما شعور بأَن لوم الآخرين لمجردِ كونهم مُختلفين ، هو مَوقف غير إِنساني وقد يَبلغ حد أَن يَكون هَمجياً.

ومما لا شَك فيه ، أَن الحضارة الإسلامية كانت أَفضل من الحضاراتِ القديمة الأخرى في اتسامِها بدرجةِ تَسامح عالية مع "الآخرين". والدَليل القاطع الذي نشير إليه دائماً، هو الفارق بين "المسلمين" و"المسيحيين" خلال العصور الوسطى. فبينما عاش "المسيحيون" و"اليهود" حَياة طيبة في ظلِ الدولةِ الإسلامية (من العباسيةِ حتى العثمانية) فإن المسلمين قد تَعرضوا في أسبانيا -بعد خروج العرب- لاضطهاد وتَعذيب بربري فظ. أَما اليهود فقد عاشوا في "حاراتِ اليهودِ" وكأنهم "أمراض خبيثة" يَخشى المجُتمع على نفسه مما بها من أوبئة فَتاكة.

ومن المُهم للغاية أن نُبرز أَن الدولة العثمانية التي عاش يهود ومسيحيو فلسطين وسوريا ولبنان والعراق ومِصرَ تحت رأيتها كان من الميسور لها عملياً أَن تَفعل -على الأقل - مَثلما فعلُه المسيحيون بالمسلمين في الأندلسِ عندما أَفل نجم الدولة الإسلامية في هذا القطرِ.

أَما إِذا عدنا للعصرِ الحديثِ، فإِن التَسامح بمعنى قبول أَن الآخرين مُختلفون في أشياءٍ عديدةٍ منها الدين والعرق والعادات والمقدسات والتقاليد، كان ولا يزال ظاهرة ثقافية في المقامِ الأولِ. فكلما تَشبع المجُتمع بالتعليم والثقافةِ، كلما كان أَبناؤه أََكثر تَسامحاً مع الآخرين وأَكثر قبولاً لفكرةِ أَن الاختلاف بين الناس أَمرٌ طبيعي ويجب أَن نَعيش معه في هدوءٍ وسكينةٍ.

ورغـم يَقيني أَن الحَضـارة التي تُعـرف الآن بالحضارةِ الغـربيـة إتسمت تاريخيـاً بالتـعصبِ العرقـي، إِلاَّ أَن الواقع يُحتم علينا أَن نَعتـرف أَن الازدهـار الثقـافــي في العالمِ الغــربي قـد حــوّل أبناء هـذه المجتمعات لدرجةٍ أفضـل من التَسامح . ويكفي أَن نُلاحظ التَحول الكبير الذي تم خلال نصف القرن الأخير في الموقف الأوروبي من القضية الفلسطينية . فإسرائيل لم تَعُد تجد اليوم في أَوروبا من التفهمِ والتأييدِ والمساندةِ ما كانت تجَده عندما تَكونت (في سنةِ 1948) لأن الثقافة والوعي جَعلا مُعظم الأوروبيين يرون شرعية الحق الفلسطيني ويرون إسرائيل وهى تكيل في العديد من الأمور بمكيالين ، ولولا الوعي والثقافة لظلت الشعوب الأوروبية سادرة في غيها الذي كانت عليه منذ قرابة نصف القرن. ولكن هذا القول لا يَنطبق على الولايات المتحدة لاعتبارات لا تخفى عن أَحد وأَهمها أَن مُستوى مَعرفة المواطن الأمريكي بالعالمِ الخارجي هو مُستوى ضَحل بشكلٍ لا يكاد عقل الإنسان أَن يَتَصَوره - ناهيك عن كونِ الإنسانِ الأمريكي بَعيداً للغايةِ عن أَن يوصف بأنه إِنسان مُثقف .

ولكننا عندمـا نَعود لمنطقتـنا مـن العالـمِ ، فإننـا لا نمَلك إِلاَّ أَن نَعترف بحقيقةٍ بالغـة الخطورة ، وهى أَن درجة تَسامحنا قد أَخذت في التقلصِ والضمورِ خلال العقود الأخيرة بشكلٍ مُذهل . فمنُذ قرابة نصف القرن، كان المُناخ الثقافي العام لدينا مَشحوناً بعددٍ من القيمِ الإنسانية المُستقرة في وجداننا بوجه عام وفى وجدان الطبقة التي تمثل قيادة المجتمع فكرياً وثقافياً بوجه خاص ، وكان من هذه القيم أَن الإختلاف سنةٌ من سُننِ الحياة ومعلم من معالمِ التَواجد الإنساني على الأرض . وكان هذا الجو الثقافي يَجعلنا أَبعد ما نكون عن "الصيغةِ الفكريةِ" التي نمَت خلال السنوات الأخيرة والتي تُقَسم الناس إلى "نحن" و"هم" وفى نفسِ الوقتِ تجَعل "نحن" في "رصيفِ الصوابِ" أَما "هم" ففي "رصيفِ الخطأِ". وهى صيغة أقل ما يُقال عنها إنها تَتَسم بالسماتِ التالية:

• أَنها صيغةٌ "غير إنسانية" و"عدوانية" وتُشكل حالة تَضاد فكرى وثقافي كاملة مع حقائق العصر العلمية والثقافية.

• أَنها صيغةٌ "غير سلمية"، بمعنى أن مسايرتها حياتياً أمرٌ لا يؤدي لاشتراكنا في حياةٍ سلمية على الأرض مع الآخرين، إِذ أَنها صيغة تَقود إِلى "المواجهةِ" و"التضادِ" و"الصدامِ" مع الآخرين .

• أَنها صيغةٌ تُخالف روح السلام والإنسانية العميقة الواردة في أصولِنا الحضاريةِ الدينيةِ الإسلاميةِ والمسيحيةِ على السواءِ .

كنا إذن - منذ قرابة خمسين سنة - نعيش في ظلِ مناخٍ ثقافيٍ يَسمح لمبدأ التسامح أَن يَحكم روحنا العامة . إِلاَّ أَن واقعنا قد شهد - في سنواتٍ لاحقة - أَشكالاً من الفشل ، جعلت هذا المُناخ الثقافي العام يتزلزل. ففي صباحِ الخامس من يونيه 1967 تجَسد الفشل الكامل لتيار سياسي بُرمته . وخلال السنوات التالية، ظهرت معالم الفشل العام في إِدارة حياتنا الاقتصاديـة . وتبع ذلك ، تَشققات كُبرى في واقعنا الإجتماعي . ولما تجَسَدت تلك الأشكال المُختلفة للفشلِ ، صار من حق البعض أن يَظُن أَنه صاحب "طرح" أَفضل . وعندما سَمحت الظروف العامة لأصحاب هذا الطرح بأَن يروجوا لطرحِهم الفكري (المُجافى تماماً لروحِ العصر والتمدن والعلم) ظهر بوضوح أن هذا الطرح لا يحمل ذرة من التسامح الفكري ، بل أنه التَجسيد الأوضح أَمام عيوننا لصيغة "نحن" و"هم" بكل ما تَعنيه من مُغالاة وتَشَدد.

ومن المهم للغاية أن نبدأ عملية التصحيح الثقافي لهذا العيب الخطير والذي أصبح يشوب تفكيرنا المعاصر بالوقوف على حقيقة وكنه المشكلة: فنحن -اليوم- أقل تسامحاً وأكثر تعصباً لمعتقداتنا عن الحد الذي كان يجب أن يكون أقصى مدى نصل إليه في هذا الصدد . ويجب أَن نُدرك أَن عدم تَعاملنا - بموضوعية وعلمية - مع هذا العيب من عيوب تفكير معظمنا سوف يؤدي لاتساع الهوة بيننا وبين العالم (لاسيما العالم السائر على طريق التقدم).

كذلك يجب أَن نَرى العلاقة الوثيقة بين هذا العيب من تفكيرنا (تَقلص التَسامح) وبين عيب آخر شاع وذاع في طرائقِ تفكيرنا وهو الإيمان الغريب بنظريةِ المؤامرة. فاجتماع العيبين سيؤدي بنا لعزلةٍ هائلةٍ عن العالمِ الخارجي وبالذات الأجزاء ذات القيمة والأهمية الاقتصادية والثقافية والاستراتيچية من هذا العالم الخارجي .

ورغم أَننا أَصحاب حق تاريخي لا يدحض في عددٍ من المعضلاتِ السياسية الكُبرى في واقعِنا، إلاَّ أَن اتسـام تَفكير معظمنا بهذين العيبين (الإيمان المُطلق بنظريةِ المؤامرةِ وتَقَلص التَسامح) جعل خطوط التفاهم والحوار بيننا وبين القوى المؤثرة في العالمِ الخارجي إما مقطوعة أو شبه مَقطوعة . كذلك فإِن اجتماع العيبين أَعطى أَعداءنا التاريخيين (في قضايا ليسوا هم أصحاب الحق الأقوى فيها) مكانة أَفضل في عينِ القوى المؤثرة في العالمِ الخارجـي .

ومن المُؤكد أَن تَقَلص التَسامح هو عيب لا يشوب تَفكيرنا -فقط- في تعاملاتنا مع الغير أي مع العالم الخارجي ، بل أَنه عيب يؤثر فى مواقفِنا الداخلية ، بمعنى أَننا في حواراتِنا الداخلية أصبحنا محكومين بهذا العيب الكبير بشكلٍ مهول بل أن الآراء المُختلفة داخل كل جبهة أصبحت تتناحر بروحٍ لا تُعبر عن شئ مثل تعبيرها عنْ تَقَلصِ التَسامح.
ومما لا شك فيه أَن "مؤسسات التعليم" ثم "وسائل الإعلام" ثم "سائر الجهات الثقافة" هي المنابر ذات القدرة على التعامل العلمـي والموضوعي مـع هـذا العيب الفتــاك من عيـوبِ تفكير السـواد الأعظـم فـي واقعِنـا . وللأسف الشديد أَن إِحـراز نجاح وتقدم كبيرين في هذا المجال هو أمرٌ بالغ الصعوبة ، إِذ أَن آثار وثمار برنامج إصلاحي فعّال في هذا المجال (من خلال المنابر المذكورة) لا يمكن أن تُلمس قبل بضع سنين، فكل الإصلاحات التي تَتم منْ خلالِ مؤسسات التعليم والإعلام والثقافة هي من قبيل الاستثمار طويل الأجل، وإن كان استثماراً مضمون النتيجة ومُجدياً وفعالاً على المدى البعيد ، ولا يتوفر أي بديل يغنينا عنه .

************

٢
لأقل قليلاً من عشرين سنة أتاح لى العملُ في مؤسسةٍ دولية أن أكتشفَ -وبجلاءٍ تامٍ- قدرَ التباين بين ثقافةِ ما يسمى بالعالمِ الغربي وثقافتنا فيما يتعلق بجزئية مُحددة هي "رحابة الصدر للنقدِ". وخلال النصف الثاني لهذه الفترة -غير القصيرة- أتاح لي تبوأُ الموقع القيادي الأول في هذه المؤسسة رؤيةً أَعمق لهذه الجزئيةِ ولحقيقةِ أَن "النقدَ" هو أهمُ أدواتِ الفكرِ التي صنعت المجتمعاتِ الغربيةَ المتقدمةَ، وأَن النقدَ يوجه للكبار بنفس قدر توجيهه لمن هم أقل منهم أهمية وموقعاً على خريطةِ الهرمِ الإجتماعي.

لقد أَثبتت لي تجربةُ السنوات العشرين أَن الهوةَ بين ثقافتِنا وثقافتهم في هذا المجال شاسعةٌ. فالنقدُ للأشياء والظواهرِ والأفكارِ والأشخاصِ والمسلماتِ هو "معلم"ٌ من "معالمِ" الثقافة التي ساهمت في بناءِ المجتمعاتِ الغربية المتقدمة. والنقدُ أداةٌ يتعلمها ويكتسبها الإنسانُ منذ فجرِ وعيه وإدراكِه. فهو يتنفس هواءً يسمحُ بالنقدِ -من البدايةِ- لكل ما حوله. فالصغيرُ يتعلم أن كلَ ما يحيطُ به من "أشياء وأشخاص" قابلٌ للنقدِ، كما يتعلم أَن يُمارس هذا النقد في ظلِ قبولٍ عامٍ له ودرجةٍ عاليةٍ من الهدوءِ وعدم التوتر والغضب الذين يحدثهم النقدُ في أَجواءٍ ثقافيةٍ أُخرى.

وتأَتى برامجُ التعليمِ لترسخ هذا الإهتمام بالنقدِ. كما أن المناخَ العام (بعناصرِه السياسيةِ والاجتماعيةِ والثقافيةِ) يعملون على ترسيخِ نفسِ الاهتمامِ بالنقدِ كأَداةِ بناءٍ بالغةِ الأهميةِ وكأَهمِ وسائلِ الارتقاءِ بكلِ النظمِ والمؤسساتِ والأفكارِ والممارساتِ.

أَما ثقافتُنا، فقد واصلت نظرتَها العاطفية الممزوجة بالغضبِ تجاه النقدِ بوجهٍ عامٍ وتجاه نقدِ المسلماتِ (وما أَكثرها في واقعِنا) والشخصياتِ التي تتبوأ مواقعَ القيادةِ. بل أَننا -في حالاتٍ غير قليلة- ننظر لنقدِ هذه الجهاتِ وكأَنه عملٌ تخريبي وهدّام بل ويصل الشعورُ تجاهه أَحياناً لحدِ اعتباره عملاً يقرب من أعمال الخيانة.

وضيقُ الصدرِ بالنقدِ من المسائلِ التي تتغلغل في عقولِ أبناءِ وبناتِ مجتمعنا منذُ الصغر ويترسخ كأحدِ ملامحِ ثقافتنا ثم تأتى سلبياتٌ أُخرى شاعت في تفكيرِنا المعاصر لتجعل المسألةَ بالغة الحدة: فعندما يجتمع ضيقُ الصدر بالنقدِ مع تقلصِ السماحةِ واتسامِ التفكيرِ بالشخصانيةِ (والبعدِ عن الموضوعيةِ) مع النظرةِ الضيقة للآخرين (بصفتِهم إِما معنا أَو ضدنا) والتعصبِ الشديدِ لأمجادِ ماضينا والميلِ الجارفِ لمدحِ الذاتِ -عندما يجتمع "ضيقُ الصدرِ بالنقدِ" مع هذه المعالم الأخرى الواضحة التي شاعت في جونا الثقافي، فإن حدةَ ودرجةَ الضيقِ بالنقدِ تبلغ أبعدَ مدى وتصبح النظرةُ للنقدِ مشوبةً بالغضبِ والتوترِ والشكِ في النوايا والإحساس بوجود خطر متربص بنا، ولن يكون من العسيرِ علينا إِدماج كل ذلك في الاعتقادِ بوجودِ تآمرٍ كاملٍ ضدنا.

ولا أعتقد أنني بحاجةٍ لضربِ أمثلةٍ على اتسامِ جونا الثقافي العام بالضيقِ الشديدِ من النقدِ، فخلال سني العقود الأخيرة تكررت مئاتُ الحالاتِ النمطيةِ التي جسدت هذه الظاهرة بل وأَكدت أَن هذه الصفة (ضيق الصدر الشديد بالنقد) قد أصبحت من معالمِ الكثيرين بما فيهم قيادات فكرية وثقافية، فأصبح الجدلُ والحوارُ حولَ مسائلَ فكريةٍ تجسيداً جديداً لدرجةِ ضيقنا من النقدِ وتوترنا وغضبنا منه.

ولنأخذ أمثلة قليلة تكررت وقائع مماثلة لها بأَشكالٍ تكاد تكون مضاهية تماماً:

فالذين يدعون للاحتفالِ بمرورِ قرنين على العلاقاتِ المصريةِ الفرنسيةِ يتبادلون مع الذين يستهجنون هذا الاحتفال أنماطاً من التهمِ وأساليبَ من التجريحِ تُجسد عجزنا عن الاختلافِ والنقدِ بتعقلٍ ورويةٍ.

والذين يعتقدون أَن الحوارَ مع العدو التاريخي هو السبيل الوحيد للخروجِ من واقعٍ مترعٍ بالجراحِ، يواجهون بطوفانٍ من الكلماتِ والألفاظِ الحادة التي تجردهم من كلِ ميزةٍ وصفةٍ طيبةٍ بما في ذلك صفة المواطن المحب لوطنِه الحريص على واقعِه ومستقبلِه.

وعشرات . . . بل مئات الأمثلة التي تؤكد أَننا إِما أن نتفقَ تماماً وإما أن ننطلق إلى مرحلةِ التراشقِ بأَشدِ الكلماتِ حدة وتجريحاً. أَما مرحلةُ النقد الهادئ والموضوعي والقائم على أُسسٍ عقلانيةٍ، فمرحلة يندر أن نمر بها، لأن مُعظمنا لم ينشأ ولم يتدرب عليها ولم يكتمل وعيه وإِدراكه في جوٍ ثقافيٍ عام يؤمن بجدوى وإيجابيةِ وفعاليةِ النقد. ولا يدل على أَننا لا نعترف بالنقدِ (إلاِّ عند التشدق بالشعاراتِ) من خلاءِ وسائل إعلامِنا خلال السنوات الثلاثين الأخيرة من مقالٍ أو حديثٍ واحدٍ يتضمن نقداً لرموزِ الحكم السياسي في مجتمعِنا. فإذا كنا نسلم بوجودِ النقدِ في حياتِنا العامة، وإذا كنا نسلم أَن الذين حكمونا خلال السنوات الأخيرة هم بشرٌ غيرُ معصومين، وإذا كنا نؤمن بأَن اختلافَ الرأي لا يفسد للود قضية، فليدلنا من يقدر على مقالٍ أو حديثٍ واحد نشر في مصرَ في وسائلِ إعلامِنا المرئية أو المسموعة أَو المطبوعة ويتضمن نقداً للتوجهات السياسية الأساسية للحكمِ. فإذا لم يوجد كان ذلك أوضحَ دليلٍ على ضيقِ الصدرِ بالنقدِ ضيقاً يجب أن يقلقنا ويجعلنا متحمسين لمعالجةِ هذا الداء من أدواءِ جونا الثقافي العام بكلِ السبلِ التي تسمح بنموِ قبولنا للنقدِ والذي بدونه لا يمكن صنع المستقبلِ المنشودِ.

لقد حاولَ إبنُ رشد منذُ ثمانية قرون إحياءَ العقلِ وإبرازَ قيمته الكبرى فضربه الجميعُ في مجتمعاتنا وتبنته فرنسا ليكونَ أداتَها الكبرى في هزيمةِ الثيوقراطيةِ . أنظر لما يكتبُه رجلٌ جاء لنا (عقلياً) من رحمِ القرونِ الوسطى كل أسبوع بجريدةِ الأخبارِ لتعرفَ لماذا نتحركُ (بسرعةٍ) للخلفِ ، إنه معولُ هدمٍ أسبوعيٍّ (وفي جريدةٍ واسعةِ الإنتشارِ) لكل قيمِ الإنسانيةِ والتمدنِ والتقدمِ ولا يعرف هذا الكاتبُ الجيوراسي (أي من الحفرياتِ) أنه يتكلم عن صورةٍ مجيدةٍ لم توجد في يومٍ من الأيامِ – إنها صورةٍ من صنعِ الخيالِ والوهمِ أما الواقع فقد كان عامراً بالقتلِ والدمِ (مثله مثل أحوال الدنيا في تلك القرون). ويتحدث هذا الكاتب الجيوراسي عن "الآخر" كشيطان. والواقع أن الآخرَ ليس شيطاناً وليس أيضاً ملاكاً . ولكن العقلَ القبليَّ لا يستطيع أن يدركَ إلاَّ أن الآخرَ هو العدوُّ الذي يريدُ هدمنا وينبغي علينا محاربته بالسيفِ واللسانِ – وتلك ظاهرةٍ طبيعيةٍ بالنسبةِ لمناخٍ ثقافيٍّ مثل مناخِ الصحراء التي ليس فيها إلاَّ القبلية والعزلة والرمال التي من ورائها يأتي الخطرُ . إن الآخرَ هو (في الحقيقةِ) ما ينبغي أن نندمجَ في حواراتٍ لا تنقطع معه للإستفادةِ والعملِ المشتركِ والتواصلِ الإنسانيِّ – علماً بأن العقلَ القبليَّ البدويَّ ليس بوسعِه أن يفهمَ معنى كلمة "الإنسانية" . لقـد كان للآخرِ دوراً رائعاً في حياتنا خلال القرنين الماضيين في سائرِ المجالاتِ ومن بين ذلك الصحافةِ والمسرحِ والأدبِ والترجمةِ والفكرِ بل إنني أزعمُ أن مصرَ كانت بوتقةَ إنصهارِ المصريِّ مع الآخرِ إنصهاراً إيجابياً مُنتجاً وفعالاً، أنتجَ عشرات الآثارِ الراقيةِ والجميلةِ، أما العزلة فقد أنتجت قبحاً لا يخفى اليوم على أحد . إن أمليَ كبيرٌ أن تكونَ الأقلياتُ في البلدانِ الناطقةِ باللغةِ العربيةِ هي "الموصل" لعدوى التقدمِ والتمدنِ والسيرِ تجاهِ "العصرِ الذي نعيشه" لا "تجاه الماضي الذي ينتمي لظلامِ القرونِ الوسطى" .
وهنا فإِنني لا أَجد عبارة أفضل من عبارةِ الفيلسوف العظيم "كانط" والتي أكررها دائماً والتي تقول "أن النقدَ هو أفضلُ أداةِ بناءٍ عرفها العقلُ البشرى".







الفصل الخامس
مرونة الوسطية (أو مرونة الحلول الوسط)


وإلى جانب غياب العقل النقدي في عموم حياتنا فإنني أتشككُ في وجودِ طبقة إنتليجنسيا في سائر البلادِ التي تتكلمُ باللغةِ العربيةِ. فمنذ الخمسينات ومعظمُ النظم العربية شديدةُ الحرصِ على إيجادِ ما أُسميه "المثقف الرسمي" . هذا المثقف قد يكون قارئاً ممتازاً وباحثاً جيداً ، ولكنه في معظمِ الحالاتِ "موظفٌ عامٌ" لا يملك من الإستقلاليةِ ما يَلزم لتكوينِ طبقةِ إنتليجنسيا حرة ومؤثرة لا تدور في فلكِ الحكوماتِ كما هو الأمرُ في معظمِ البلادِ العبريةِ. فمن المؤسف أن أعداداً غير قليلة من العقولِ في مجتمعاتنا تم إصطيادهم بالبترودولار البدوي وعددٌ أخرٌ تم إصطيادهم بالبترودولار البعثي … وأعدادٌ غفيرةٌ تم إصطيادهم بقانونِ جاذبيةِ الوظيفةِ العامةِ – وهكذا أصبح الواقعُ في معظمِ هذه البلادان شبهَ خالٍ من المثقفِ الحرِ، ودليلي الإضافي على ذلك أن معظمَ المثقفين في واقعنا يرددون ذات الآراء في معظمِ المسائلِ، وهي ظاهرةٌ غير إنسانيةٍ وغير ثقافيةٍ .

وتكتمل درامية الصورة بأن ندرك أن "العقل" في مجتمعاتنا قد أصابته ضربتان أو هزيمتان كبريان: أما الهزيمةُ الأولى فهي التي تمثلت في إكتساحِ مدرسةِ النقلِ في القرونِ من العاشرِ إلى الثالثِ عشر (الميلادية) مدرسةَ العقلِ التي تمثلت في تلاميذِ أرسطو وشُرَّاحه وعلى رأسهم العقلُ الفذُ (إبن رشد) . إن هزيمةَ هذه المدرسةُ أغلقت قروناً من الإنتعاشِ الفكريِّ النسبيِّ ومهدت لقرونٍ من الركودِ والجمودِ والخمودِ . وأما الهزيمةُ الثانيةُ فهي هزيمة مدرسةِ التنويرِ المصريةِ والتي شخَّصها أحمد لطفي السيد وسلامة موسى وطه حسين وعلي عبد الرازق والعقاد (قبل تراجعِه الذي عاصر فصلَه من الوفدِ) وربما كان آخرُ هؤلاءَ لويس عوض وحسين فوزي وزكي نجيب محمود . كانت مصرُ في العشرينيات تبحثُ عن تألقٍٍ ثقافيٍّ بوصفِها واحدةٍ من دررِ البحرِ الأبيضِ المتوسطِ وعلى أساسٍ من ثمارِ عصرِ النهضةِ . ولكن ظروفاً معروفةً واكبت المدَّ الفاشيَّ في الثلاثينياتِ وكذلك هزيمةِ الليبراليةِ المصريةِ جعلت مدرسةَ التنويرِ الحديثةِ في مصرَ تنهزمُ لصالحِ قوى الفاشيةِ أو الرجعيةِ . ومع ذلك ، فإنني على يقينٍ أن مدرسةَ تنويرٍ ثالثةٍ بدأت في التواجدِ على الساحةِ الآن وأن المستقبلَ لها حتى وإن لم ير التنويريون المعاصرون حدوث ذلك في حياتهم . فيقيني مطلق أن معركةَ التقدمِ مع التخلفِ لها نهايةٍ واحدةٍ هي إنتصارُ التقدمِ وإنحسارِ التخلفِ – ولكننا قد لا نرى نهايةَ هذه المعركةِ.

لقد إسترعى إنتباهي منذ سنواتٍ أن لغتنا (الفصحى والعامية) لا توفر ترجمة لكلمةِ Compromise الإنجليزية إلاِّ بأكثرِ من كلمةٍ واحدةٍ . فأغلبُ الظن أن الترجمة الشائعةَ والذائعةَ لهذه الكلمة الإنجليزية هي "حل وسط" . وقد حاولتُ كثيراً أن أجدَ في المعاجمِ والقواميسِ العربية القديمة والحديثة ترجمة لهذا المصطلح الأجنبي والشائع (بتغييراتٍ طفيفة في الحروف) في كل اللغات الأوروبية سواءً منها التي تعود للعائلة اللاتينية أو للعائلة الجرمانية أو للعائلة اليونانية أو أخيراً التي للعائلة السلافية . وقد واجهتني نفسُ المعضلةِ مع كلماتٍ أخرى ليس هذا مجال التطرق إليها وإن كانت أهمها كلمة Integrity التي ذاع إستعمالهُا في لغاتِ أوروبا وأمريكا الشمالية خلال العقودِ الأخيرةِ ذيوعاً واسعاً للغايةِ ، وهي أيضاً كلمة لن تترجم إلى العربية بأقل من ثلاث وربما أكثر من الكلمات . ولما كانت اللغة هي ليست مجرد "أداة إتصال" وإنما هي "وعاء ثقافي" تصبُ فيه القنواتُ الثقافية وطرائقُ التفكيرِ وروحُ التعاملِ مع الأشياء والآخرين فقد إنتهيت (بشكلٍ نسبي)، إلى أَنني أمام ظاهرة ذات دلالاتٍ ثقافية (وبعد ذلك: سياسية وإقتصادية وإجتماعية عديدة). وأثناء ما يقلُ قليلاً عن عشرين سنة من التواجدِ في مؤسسةٍ دولية، أتيح لي أن ألاحظ في ظلِ وجودِ زملاء ينتمون لأكثر من مائة جنسية أن الأفرادَ الذين ينتمون لخلفيةٍ أوروبيةٍ غربية يستعملون الكلمة (Compromise) أكثر من الذين يجيئون من خلفياتٍ ثقافيةٍ شرقيةٍ بل لاحظتُ أن الآخرين أقل إستعمالاً للمصطلح من المجموعةِ الأولى . ولما كانت دراسةُ الثقافاتِ المختلفة واحدة من أهم هواياتي ولاسيما المقارنة بين العقل العربي والعقل اللاتيني والعقل الأنجلوسكسوني ، فكما أنني لاحظتُ أن العقلَ العربي أقل إستعمالاً للكلمة من العقل اللاتيني فإن العقل اللاتيني أقل إستعمالاً للكلمةِ من العقل الأنجلوسكسوني ، وهي ملاحظة لن يكون من العسيرِ تفسيرها: فتأصيل التفكير على أرضيةٍ من المبادئ الفلسفية/ الدينية (وهو ظن أكثر منه واقع) بالنسبة للعقل العربي تجعل من الطبيعي أن يكون إستعمال الكلمة (Compromise) ومعناها أقل من إستعمال العقل اللاتيني لها وإن كان العقلُ اللاتيني أيضاً محكوماً بأساسٍ فلسفي (وإن كان أثر الدين فيه أقل) إلاِّ أنه بالمقارنةِ بالعقل الأنجلوسكسوني يُعتبر عقلاً أقل إستعمالاً للكلمةِ ومعناها (Compromise) . فالعقلُ الأنجلوسكسوني والذي يسود ويقود العالمَ اليوم بإنفرادٍ لا مثيل له (الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا) مؤسسٌ على قواعدٍ مختلفةٍ : فأبرز فلاسفة بريطانيا منذ ثلاثة قرون "جريمي بينتام" كان يؤسس النظم والقوانين والمؤسسات والأفكار على أساس النفع (النفعية) أما الولايات المتحدة الأمريكية فيمكن ببعض التبسيط أن يقول المرءُ أنها أنتجت فيلسوفين كبيرين هما ويليامز جيمس وجون ديوي ترجما في أعمالهما نفس أفكار جريمي بينتام ولكن بإختلافاتٍ أملتها تطوراتُ الزمنِ والأحداث وتحت مسمى آخر هو البرجماتية (Pragmatism) . ورغم تمسك الشعوب الآسيوية (من الأرومات الصينية واليابانية والهندية) بمعظم خصوصياتها الثقافية إلاِّ أنها (بذكائها غير المنكور) قد تعلمت معنى المصطلح الإنجليزي (Compromise) قبل أن تتعلم شكله اللغوي وصارت في كل أمورِها تميلُ إلى حلولٍ متسمة بطابع الـ(Compromise) . وحتى الشعوب اللاتينية فقد غزتها فكرةُ المصطلح قبل أن يغزوها المصطلح نفسه (Compromise) وأصبح ذلك واضحاً لكل من يطالع الكتابات السياسية في الفكر السياسي في الدول اللاتينية .. بل أن الإنسانَ لا يعجب عندما يجلسُ ليشاهد واحدة من القنوات الفضائية الفرنسية فيجدُ مسئولاً إقتصادياً كبيراً يتحدثُ باللغةِ الإنجليزية (وهو ما كان من المستحيلاتِ منذ ثلاثة عقودٍ فقط) ويعرضُ أفكار تحركها روحُ المصطلحِ محل هذا المقال (The Compromise) .

فإذا ما إنتقلنا إلى منطقتنا من العالم وجدنا أعداداً كبيرةً من الناس ومن المتعلمين بل ومن الصفوةِ تقرن المصطلح (Compromise) بمجموعة من المعاني الأخرى مثل "التنازل" و"التراجع" و"التخلي" و"الضعف" و"الهزيمة" – وهي أمور لا تخطر على بال الإنسان الغربي وهو يستعمل مصطلح (Compromise) لأن تعليمه بكل أشكالِه (في مجالاتِ العلومِ التطبيقيةِ وفي سائرِ مجالاتِ الدراساتِ الإجتماعيةِ والإنسانياتِ) يغرسُ في أعماقه أن ما يسود من أفكارٍ ما هو إلاِّ (Compromise) .. بل أنه يعرفُ ببساطة من دراسته قبل الجامعية أن معظمَ الظواهرِ الطبيعية هي من قبيل الـ Compromise . كما أن ثقافات الأمم التجارية (ولعل بريطانيا هي أكبر أمة تجارية في التاريخ الإنساني) قد عملت على تأصيل فكرة الـ(Compromise) في شتى مجالات الحياةِ والتفكيرِ والتعاملاتِ السياسيةِ والإقتصاديةِ والثقافيةِ والإجتماعيةِ بل والإنسانيةِ . وإذا كانت الأمثال العامية لدينا تعكسُ صورةً واضحةً لفهمٍ سلبي لمعنى ومصطلح (Compromise) فإن عشرات الأمثال الشعبية البريطانية تدلُ على العكس تماماً .

ورغم أن النصوص الأصلية في الدين الإسلامي تصلحُ بشكلٍ كامل لتأسيس ثقافةٍ متسمة بالـ Compromise إلاِّ أن التاريخ الإسلامي (والعربي منه بوجهٍ خاص) قد شابته روحٌ مناقضة تماماً للروح التي تخلقها ثقافةُ الـ(Compromise) . ويشهدُ تاريخنا الحديث عشرات الخسائر التي ما كان لها أن تحدث لو أننا لم نكن ننظر إلى مصطلح ومعنى الـ Compromise كمرادفٍ للتنازلِ والتراجعِ والخضوعِ والتفريطِ وأحياناً يبالغ كثيرون منا من عشاقِ الإنتصارات الخطابية فيضيفون كلماتٍ مثل (التركيع والإنبطاح) .

والحقيقة المؤكدة أن أي خلافٍ أو تعارضٍ أو صراعٍ هو موضوع تجاذب (متعارض) بين آراء مختلفة ومستويات قوى مختلفة : وكلُ ذلك يملي أن حلاً لا يقومُ على مصطلح ومعنى الـ Compromise هو أمرٌ مستحيل لأنه يعني إلغاء إرادات ومصالح وقوى طرف بشكلٍ كامل . وهو أمرٌ مخالف لقوانين العلم والطبيعة والحياة بأسرها . وعندما يكتبُ مفكرٌ مصري هو الدكتور ميلاد حنا مئات الصفحات عن نظريته في قبول الآخر وعندما يكتبُ مفكرٌ كصري عظيمٌ آخر هو الدكتور مراد وهبة مئات الصفحات عن إستحالةِ أن يتملك أحدٌ الحقيقة المطلقة فإنهما معاً يساهمان بنبلٍ فكريٍّ نادرٍ في واقعنِا في عمليةِ إرساءِ قواعدِ وثقافةِ وفكرِ ومعاملاتِ الـ Compromise .

ولا أزعمُ أنني أولُ من يتطرق بين كتابِ مصرَ لهذا الموضوع: ففي منتصف الخمسينيات حاول توفيق الحكيم ذلك في كتابه "التعادلية" ولكنه من جهة كان يعيشُ زمناً مختلفاً بالكليةِ عن الزمنِ الراهنِ مما إنعكس على المنتجَ النهائي الذي قدمه كما أنه (ويؤسفني أن أقول ذلك نظراً لإعجابي العميق بعبقرية توفيق الحكيم الإبداعية) لم يتطرق بعمقٍ للموضوع الذي عرضه – وربما كانت الثقافة السائدة في مصرَ يومها هي السبب وراء إفتقاد كتابه "التعادلية" للعمق الواجب ناهيك عن أن مصطلح التعادلية يعطي أبعاداً ومعانٍ تختلفُ عن مصطلح الـ Compromise .

وأعتقدُ أن إنتشارَ ثقافةٍ دينيةٍ تقومُ على (النقلِ) كان من الأسباب بالغة الأثر على عدم تطوير فكرة وآلية الـ Compromise في تفكيرنا : فإذا كنا نتحدث (الآن) مع إبن رشد أو الجاحظ (والأخير من أدباء المعتزلة) لكان من الممكن أن نشرح لهما ويقبلا منا أن التفكيرَ العام يجب أن يتسم بروح وأبعاد معاني مصطلح الـ Compromise ولكننا إذ كنا نتحدث مع أئمة "مدارس النقل" مثل أحمد بن حنبل إلى إبن تيمية إلى إبن قيم الجوزية إلى محمد بن عبد الوهاب إلى عشرات الدعاة المعاصرين الذين أفسحوا المجال كاملاً أمام "النقل" وأغلقوا الباب كليةً أمام "العقل" فإن محاولاتنا ستكون أشبه بمحاولة إبن رشد منذ ثمانية قرون وقد تحدثُ لكتاباتنا مثلما حدث لكتابات إبن رشد (وإن كان إبن رشد بشكلٍ ما محظوظاً إذ في مواجهة عدم تمكنه من هزيمةِ النقليين في دنيا الحضارة العربية/ الإسلامية إِلاَّ أنه هزم النقليين في دنيا الثقافة المسيحية - فلا شك أن إبن رشد وأفكاره قد قضت على أفكار توما الإكويني كليةً في القرن الثالث عشر ومن خلال المتحمسين لأفكار إبن رشد بكلية الآداب بجامعة باريس في ذلك الوقت - وربما ينصفنا التاريخُ في يومٍ من الأيام ويقول أن عربياً مسلماً كان وراء إنتصار "العقل" على "النقل" في زمن كانت أوروبا فيه ضد العقل وحرية التفكير بشكلٍ سافرٍ - ولولا هذا الإنتصار للعقل على النقل لكانت أوروبا اليوم مثل القارة الأفريقية في درجاتِ التقدمِ والنهضةِ والرقي.

إن فريقاً من المفكرين الذي يجمعون جمعاً راقياً بين الثقافة العربية والثقافة الإسلامية والثقافات الإنسانية عليهم أن يضعوا دستوراً موجزاً لغرس قيمة ثقافة الـ Compromise في عقول أبناءِ وبناتِ هذه الأمة (مصرَ) من خلال برامج التعليم ومن خلال منظومة فكرية تؤصل أن الـ Compromise هي المنتج الأقوى للطبيعة والحياة ومسيرةِ الحضاراتِ والثقافاتِ وأن الرأي الواحد أو الحصول (في نهاية الحوار) على كل شئٍ هو ضد منطق العلم والطبيعة والإنسانية والثقافة والحضارة.

ونظراً لعدم تمكني من العثورِ في القواميسِ والمعاجم على كلمةٍ واحدة أُترجمُ بها مصطلح Compromise فقد إقترفت في هذا الفصل أمرين كنتُ أودُ عدم إقترافهما : أنني أستعملتُ أولاً الكلمة الإنجليزية Compromise مرات عديدة ...كما استعملت ترجمة للمصطلح لا يمكن أن أكون راضياً عنها، ولكنني تشبعاً بفكرة الـ Compromise عملتُ بموجبِ الحكمةِ المأثورة (ما لا يدرك كله لا يترك كله).























الفصل السادس
السلبية

السلبية كجزء من ثقافة الفقر :
هناك منظومتان لأثرِ الفقرِ على الشعوبِ ، منظومة توّلد التذمر والرفض والتعبير عن ذلك بشكلٍ ظاهرٍ ، ومنظومة توّلد "الرضا بما قسم القضا" – وهناك أسباب عديدة تؤدي إما للمنظومة الأولى وإما للمنظومة الثانية . والشعوب التي طال عهُدها بالإستبدادِ والقمع وتقديس الحكام والإمتنان الشديد لهم هي الشعوب التي تعيش في ظلِ المنظومةِ الثانيةِ مكتفيةً بسخريتها من الأمور العامة واللاعبين على مسرح الحياة العامة في الأحاديثِ الخاصةِ. وفي بعض الشعوبِ تأخذ هذه الآلية شكل إفرازِ النكاتِ على السياسيين، وغالباً ما تكون هذه النكات مرآةً لما كانت الشعوبُ تودُ أن تعبر عنه جهاراً ولكنها لفقدانها (لأسبابٍ عديدةٍ) سبل وإمكانية ذلك فإنها تترجم حقائق رأيها في شكل سخريةٍ ونكاتٍ تبلغ أحياناً حدَ العبقريةِ في قدرتها على تكثيف الآراء والانطباعات في عباراتٍ ومشاهدٍ صغيرةٍ .ومما لاشك فيه أن الحكامَ الطغاة يدركون بوضوح أن استقلال شعوبهم الاقتصادي عنهم ووجود طبقة وسطى ذات استقلالية اقتصادية هما بوابة الجحيم بالنسبة لهؤلاء الحكام الطغاة، والتي من خلالها ستمر الشعوبُ من "أرضِ السلبيةِ" إلى "أرضِ المشاركةِ والمسائلةِ" وهو آخر ما يرغب فيه الحكامُ الطغاةُ ، فكيف لهم بأن يسمحوا بأسئلةٍ علنيةٍ عن مصادرِ شرعيتهم وشرعيةِ مزاياهم ومزايا مساعديهم (خدمهم في الحقيقة) .

السلبية والتعليم والعمل الجماعي :
تقوم النظمُ التعليمية الحديثة في المجتمعات المتقدمة على أساليبٍ تربويةٍ لا يكون المدرسُ فيها بمثابة جهازِ إرسالٍ (مُحاضر) ولا يكون التلميذُ أو الطالبُ فيها بمثابةِ جهازِ إستقبالٍ (مُستمع). وإنما تقوم على المُشاركةِ والحوارِ وتبادلِ وجهاتِ النظرِ وتقسيم التلاميذ إلى مجموعاتٍ تقوم بنفسها بالبحث عن الأجوبة والحقائق كما تقوم بتقديم خُلاصات بحثها بنفسها بعد جلساتِ تشاورٍ بين أعضاءها وبعد أوقات تٌقضى في المكتبات . ويؤدي ذلك لتأصيلِ" روحِ الفريقِِ " وتعويدِ الأفرادِ على المُشاركة الإيجابية والإيمان بأن لكل إنسان الحقَ في البحث عنَ الحقيقة بنفسه والتعبير عما يُحصّله من معارف( أيضاً بنفسه) ويتم كلُ ذلك في جو تشيع فيه روحُ السماحة واحترام حق كل إنسان في الاختلاف دون أن يكون معنى الاختلاف تقسيم الناس إلى فريق أعلى وفريق أدنى . كذلك يتم ذلك دون إضفاء قدسية على المدرسين أو المؤلفين أو حتى القادة. وبسبب ذلك تتأصل قيمةُ روحِ العملِ الجماعي (الفريق) والتي هي المصدر الأول لوجود مواطن إيجابي – والعكس صحيح ، ففي ظل نظم التعليم القائمة على التلقين وكون العلاقة بين المدرس والتلميذ هي علاقة بين (مُرسل) و(مُستقبِل) فإن روحَ العملِ الجماعي تذبل ولا يُتاح لها النمو المنشود ويكون من الطبيعي أن تنمو في ظل ذلك(السلبيةُ) وما تعنيه من تقاعس عن المشاركةِ في الأمورِ العامةِ بعد أن تَرسَخَ في العقولِ والنفوسِ أن واجبَ كل منا أن "يستقبل" المادة التي يرسلها المدرسُ ويحفظها عن ظهرِ قلبٍ ويقوم (بمفرده) بتفريغها على ورقةِ الإجابةِ .
كذلك فإنه عندما يكون النظامُ التعليمي قائماً على "كم المادة محل الدراسة" وليس "نوع القيم المراد زرعها في العقول" ، وعندما يكّرس النظامُ التعليمي (تقديس الحكّام) و(الإمتنان لهم) ، وعندما تسود الثقافة والبيئة التعليمية روحُ البعدِ الواحد ، فالصوابُ هو أمرُُ محددُُ بالذات ، وليس روح التعددية وهي جوهر التمدن والتحضر والتقدم ، وعندما تخلو برامجُ التعليم من تأصيل قيمة قبول النقد وتعلم النقد الذاتي ، عندما تتوافر كل هذه الأبعاد في البرامج التعليمية والبيئة الدراسية فمن الطبيعي أن تكون مؤسسةُ التعليمِ قد شاركت بدورٍ رئيسي في تدعيمِ السلبية عند من سيكونون في الغدِ القريبِ المواطنين اللذين يتسمون بأكبرِ قدرٍ من السلبيةِ في مواجهةِ الحياةِ والشئون العامة والقضايا السياسية والمجتمعية بما في ذلك تقاعسهم المفهوم عن المشاركةِ في الحياةِ السياسيةِ وكفرهم بجدوى ذلك ناهيك عن إفتقادهِم في المقام الأول لعنصر الاختيار والذي هو جوهر عملية المشاركة في الحياة السياسية .

السلبية وسيادة القانون :
تتشدق معظمُ النظمِ السياسيةِ في العالم الثالث بأنها " دول سيادة القانون " – وهو أمر يحلق في " سماءِ الكلامِ والتمني " ولكنه غالباً ما لا يوجد في سماءِ الواقعِ . فمعظمُ هذه الدول تسود فيها القراراتُ الكبرى الصادرة عن " سيادة القوى العظمى للحكام " وهي قرارات تنبع من زوايا غير ديمقراطيةٍ وكثيراً ما تكون إما غير علمية وإما مساندة للفساد والانحراف والمصالح الشخصية مع غيبةٍ شبه كاملةٍ لسيادة القانون المتشدق بها بالحناجر لا بالمواقف – بالأقوال لا بالأفعال . وفي ظل مُناخٍ عامٍ كهذا ، لا يكون من المُستغرب أن تتفشى السلبيةُ ، فالناسُ يشعرون بجدوى المشاركة في الأمور العامة عندما تكون محكومةً بحقٍِ بسيادةِ القانون وعلى العكس فإنهم ينكمشون داخل ذواتهم ويتقاعسون عن المشاركةِ عندما تسود تصرفاتُ الأقوياءُ النابعة من الهوى أو المصلحةِ وغالباً ما تكون غير ذات جدوى بالنسبة للمجتمع . وهكذا ، فإن هناك علاقة طردية بين (عدم سيادة القانون) و(سلبية المواطنين).

سلبية المواطنين ونظم الحكم الأوتوقراطية :
تتحدث معظمُ نظمِ الحكمِ غير الديموقراطية عن الشعبِ بصيغِ تمجيدٍ مُبالغ فيها ، وقد كان لنظامى هتلر وموسوليني السبق الأكبر في هذا المجال. وفي ظل هذه النظم يكون هناك (شعب) دون أن يعني ذلك أن ألفاظ التمجيد و التفخيم و التعظيم التي تطلق عليه (أي على الشعب) تنطبق بنفسِ القدرِ على مفرداتِ كلمةِ الشعبِ أي (المواطن). فنجد إلى جوار صيغ التمجيد و التفخيم للشعب العظيم والمعلم معاملات يومية للمواطنين من جهاتِ الإدارةِ الحكوميةِ تشبه معاملة الأسرى الذين توجد سياسةٌ واضحةٌ لكي يساموا سوءَ العذاب و الهوان في كل تعاملاتهم سواء في الطريق العام أو مكاتب الإدارة أو مخافر الشرطة أو المستشفيات ففي كل هذه الجهات لا نجد أن تعبيرات تمجيد الشعب العظيم و المعلم تتحول لمعاملاتٍ إنسانيةٍ متحضرة لمفردات كلمة الشعب أي –المواطن- بل نجد معاملات تشبه السخرة . ومعنى ذلك ببساطةٍ أن نظمَ الحكمِ غير الديموقراطية تتشدق بمدح كائنٍ معنويِّ غير موجود تسمية (الشعب) . أما الشعبُ الحقيقي أي المواطنين فيلقون من نظم الحكم هذه و إداراتها من المعاملة ما يشبه معاملة المماليك للمصريين في زمنٍ من أكثر أزمنةِ تاريخنا ظلاماً حيث قمنا بأنفسنا ولأسبابٍ خفيةٍ بشراءِ عبيدٍ (المماليك) ثم وضعناهم على سدةِ الحكمِ لكي يمارسوا فينا أشكالاً وأنماطاً من الطغيان يصعب تصورها وأن كانت قد سادت و شاعت و ذاعت لقرونٍ من تاريخنا غير البعيد ولا تزال آثارٌ منها باقية في مناخنا الثقافي العام كما ذكر بإتقانٍ كاتبٌ مصري مجيدٌ في كتاب له بعنوان (تراث العبيد ).

السلبية وثقافة القطيع :
لا شك عندي ان النظمَ غير الديموقراطية قد أفرزت جواً ثقافياً عاماً يمكن (من زاويةٍ معينةٍ) أن نطلق عليه " ثقافة القطيع ". فالحكومةُ من جهةٍ تتعامل مع الشعب كقطعان .و الشعب من جهة يعتاد على ذلك فيسلك المواطنون أشكالاً عديدة من السلوك .تدخل كلها ضمن " سلوك القطعان " حيث تتواري الفردية التي هي (مع الديموقراطية) أعظم انجازات الحضارات الانسانية وأساس كل ما يُقال عن حقوق الإنسان (بحق لا على سبيل تكدير البعض لنظم الحكم الطغيانية). ومن الواضح أن ثقافة القطيع لا يمكن أن تفرز إلا السلبية، فالإيجابية موقف فردي للإنسان بوصفه فرداً لا عضواً من أعضاء القطيع .و ينسجم مفهوم القطيع ونظرة الحكومة للشعب كقطعانٍ مع فكرةِ الشعبِ المجردة والمطلقة والتي لا تعني دائماً أن الشعبَ هو مجردُ لفظٍ للتعبيرِ عن مفرداتٍ مفصلةٍ هي المواطنين. وهكذا تكتمل الصورة : فالطغيان يخلق كياناً وهمياً اسمه "الشعب" (ليس هو بالضرورة المواطنيين) ويخلق ثقافة القطعان وفي ظلها ينعم الطغاةُ بسلبية هائلة من المواطنين (أفراد القطيع) تبلغ قمتها عندما يكون السواد الأعظم من المتعلمين مخاصمين للمشاركة في أية انتخابات.
الفصل السابع
ثقافة الكلام الكبير (الحناجرة!)

مقتلُنا يكمن في لساننا -
فكم دفعنا غالياً ضريبةَ الكلامْ. "نزار قباني..."

إذا خسرنا الحربَ - لا غرابةْ.
لأننا ندخلها بكلِ ما يملكه الشرقٌ من مواهب الخطابةْ.
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابةْ.
لأننا ندخلها بمنطق الطبلةِ والربابةْ. "نزار قباني..."

في الستينيات كنا نتحدث عن قوتنا واصفين إياها بأكبر قوة في الشرق الأوسط ... ثم جـاء صبـاح الخامـس من يونيه 1967 ليفتـح عيوننا على حقيقة أن ذلك لم يكن إلا مجرد "كلام كبير" . وخلال نفـس السنوات كنـا نتكلـم عـن عـدونا التاريخي بصفـتـه "عصـابات يهـودية" ... ثـم جـاءت الأحـداث لتـثـبـت أن هــذا العـدو كان شيئـاً أخطــر بكثيـر مـن "مجـرد عصـابات" ... كان كلامُنـا مـرة أخـرى مجرد "كلام كبير" . وعندما وصفنـا رئيـس وزراء بريطانيـا بأنه (خـرع) وهو لفـظ عامـي مصـري يعنـي أنه ليس رجلاً بالمعنى الكامل ... وعندما اقترحنـا على الولايات المتحدة الأمريكية أن تشرب من البحرين (الأحمـر والأبيـض) ... وعندما تحدثنا عن الصاروخ القاهـر وشقيقـه الظافـر... لم يكن ذلك فـي الحقيقـة إلا مجرد "كـلام كبيـر" . وعندما نستمـع الآن للأغانـي الوطنيـة التي أُنتجت في الستينيـات (ورغم إعترافنـا بجودة العمـل الفني وروعـة الحلـم الوطنـي والقـومي) فإننا نجـد عشـرات الأمثلة على كلام لم يكن إلا مجرد "كـلام كبيـر" . وعندما نترك الستينيات ونمر على السبعينيـات والثمانينيـات والتسعينيــات نجد أن "داء الكلام الكبير" ظل ملازماً لنا بشكل لا يخفى على أحد ؛ بل أنه وصل الآن إلى معظم مناطق حياتنا العامة ، وأصبح الذين يتكلمون بلغةٍ غير لغته "ثلة من أشباه الغرباء" الذين يعزفون لحناً غريباً يصدمُ الآذان .

فنحن عندما نتحدث عن تاريخـنا ، لا نستعمل لغة العلم والموضوعيـة وإنمـا نغـرق فـي زخم من الكلام الكبير . وعندما نتحدث عن واقعنا المعاصر، نحشر مرة أخرى "قوافل الكلام الكبير" . وحتى عندما نفوز في مباراة لكرة القدم ، ينهمر "الكلام الكبير" ؛ فرغم معرفتنا بأن مستوانا في هذه اللعبة الرياضية يقع ما بين “المتوسط" و"المتواضع" (على المستوى العالمي) فإننا لا نتردد ولا نتأخر عن استعمال أوصاف مثل (الفراعنة يهزمون( ونكون هنا متسقين مع "تبار الكلام الكبير" الذي عم واستفحل في تفكيرنا خلال نصف القرن الأخير .

وإذا تأملنا الصفحات الأولى بصحفنا ومجلاتنا وجدنا "جيوشاً عارمة من الكلام الكبير"... فكل لقاء هو "لقاء قمة"… وكل قرار هو "قرار تاريخي"..

ومن الواجب أن نقول إننا لا نفتعل ذلك افتعالاً ، لأنه أصبح جزءاً من نسيج تفكيرنا ، بمعنى أننا نكتب ونتكلم بهذه الكيفية (كيفيـة الكـلام الكبيـر) لا مـن (باب التملق) وليس من باب (النفـاق) ولا من باب (الكـذب المقصـود) وإنمـا نكتب ونتـكلم هكـذا من باب الاتســاق مـع "عيـب كبـيــر" استـقــر في ثقافتنا وعقولنا وأصبح من الطبيعي والمنطقي أن يجد طريقه لخارج رؤوسنا عن طريق أَلسنتنا .

ورغم أن البعض (وربما القلة) يلاحظون هذا العيب الخطير من عيوب التفكير، إلا أن معظمهم عندما يتصدرون للحديث يقعون في المحظور وينساقون مع تيار "الكلام الكبر" ، وهو ما يثبت أن هذه السمة قد أضحت متفشية إلى أبعد الحدود وأن "الهواء الثقافي" لنا أصبح متشبعاً بهذه الخصلة إلى أبعد حدود التشبع .

ولعل ضرب الأمثلة يكون أيضاً مفيداً هنا : بعد حادثة الأقصر المفجعة في خريف عام (1997) أَذاع التلفزيون المصري تغطية لماراثون الجري (العدو) حول أهرام الجيزة ، وقامت الكاميرا بمقابلة نحو عشر أشخاص مختلفين .. كرروا نفس الكلام وبنفس الصيغ وقال كل منهم (وكأنه يكرر حديثاً محفوظاً) : "أن مصر هي بلد الأمن والأمان .. وأن العالم كله يعرف ذلك… وأن الإرهاب لا يقع على أرض مصر فقط وإنما في كل مكان بالعالم… وأن الدنيا كلها تتطلع لزيارة آثارنا التي لا مثيل لها في العالم" .

وكان مصدر دهشتي تصوري أن تطابق الكلام بهذه الكيفية يكاد يكون مستحيلاً بين عشرة أشخاص مختلفين ... ولكنها سطوة "الجو الثقافي العام" المشبع إلى أقصى حد بخصلة "الكلام الكبير" .

وقد كانت السنوات العشرين التي قضيتها فى واحدة من أكبر المؤسسات الصناعية العالمية فرصة هائلة لكي أكتشف أننا في هذا المضمار أصبحنا (وأكرر: أصبحنا) مختلفين عن معظم شعوب العالم بشرقه وغربه .

فأبناء الحضارة الغربية (بما في ذلك أمريكا الشمالية) تواصل نموهم الثقافي في اتجاه مختلف يقوم على اعتبار "الكلام الكبير" انعكساً مؤكداً لعدم المعرفة. فالمعرفة الإنسانية معقدة ومركبة ولا تسمح بالغرق في "الكلام الكبير" ، بل تأخذنا إلى لغة متوسطة تحاول -قدر الطاقة- أن تعكس حقائق العلم والثقافة .

أما أبناء الحضارة أو الحضارات الأسيوية (مثل اليابان وغيرها) فإن التحفظ كان ولا يزال من سمات هذه الحضارة بشكل واضح، وهو ما يمنع أيضاً استفحال ظاهرة الكلام الكبير .

أما شعوب العالم العربي، فإنها تشترك معنا -بدرجة أو بأخرى- لكون الثقافة العربية قد اتسمت في مراحل عديدة بسمة "الكلام الكبير". فالشعر العربي عامر بقصائد المدح والهجاء التي تطفح بالكلام الكبير الذي لا يعكس بالضرورة حقائق الواقع والأشياء . بل أن ثقافتنا اعترفت بأن معظم هذا "الكلام الكبير" مجرد "كلام" ولا أساس له من الواقع، عندما نحتنا المقولة المشهورة (أعذب الشعر: أكذبه) .

وكان النص القرآني (كالعادة) رائعاً في وصفه الشعراء (في هذه البيئة) عندما وصفهم بأنهم في كل واد يهيمون (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) .

وكاتب هذه السطور يرى أن من أوجب واجبات من يهمه تصويب مسار العقـل المصـري أن يقـوم بإيقاظ هذا العقل وينهره بشدة أمام ظاهرة اتسامه بعلة الكلام الكبير وحقيقة أنها ظاهرة منبتة الصلة بالواقع وحقائق الأشياء . وأن يُظهر الآثار الهدّامة لهذه الظاهرة التي جعلت البعض يصنفنا (بخبث وأغراض) بأننا حضارة كلامية أو حضارة حنجرية أو (مع التطور العلمي) حضارة ميكروفونية…

ومن المهم للغاية أن نفتح عيون أبناء وبنات هذا الوطن (من خلال برامج التعليم) على حقيقة هذا العيب وما يجره علينا من عواقب وخيمة؛ إذ يجعلنا من جهة مثار تعجب العالم… ويجعلنا من جهة أخرى "سجناء عالم خرافي من صنعنا ولا أساس له في الواقع".. كما أنه يجعلنا “سجناء الماضي" حيث نصف ماضينا بزخم من الكلام الكبير ثم نهاجر إليه . ولا شك أن "علة الكلام الكبير” تتصل بعلل فكرية أخرى مثل: عدم الموضوعية.. والهجرة للماضي… والمغالاة في مدح الذات… وضيق الصدر بالنقد. بل أنني لا أبالغ إذ أقول أن "علة الكلام الكبير" تقيم جسوراً للتواصل بين هذه العلل الأخرى .

كذلك، فإنه من الضروري أن نناقش الصلة بين هذه العلة الفكرية (علة الكلام الكبير) وضيق الهامش الديموقراطي . ففي ظل مناخ ثقافي عام يتسم بداء الكلام الكبير يكون من الصعب تطوير الهامش الديموقراطي كما يكون من السهل نجاح فرق سياسية تملك من "الخطاب الغوغائي" (الديماجوجي) أضعاف ما تملك من "الخطاب الموضوعي" . فالذي يقول لنا أن مشروعه الفكري هو "الحل" إنما يقدم لنا وجبة أخرى ساخنة من وجبات "الكلام الكبير"، فمعضلات الواقع الاقتصادية والاجتماعية أكثر تعقيداً من أن يكون علاجها بشعار عام يستمد جذوره من تربة الكلام الكبير كهذا الشعار .

وما أكثر ما رددت لنفسي وأنا أسمع جولات الحوار العام تتلاطم أمواجها بفعل "الكلام الكبير" ما أكثر ما رددت لنفسي أبياتاً من شعر نزار قباني يقول فيها (بعبقرية) :

لقد لبسنا قشرة الحضارة
والروح جاهليةْ.









الفصل الثامن
ضآلة الموضوعية

خلال سنـوات تواجدي في مؤسسة دولية (و هو التواجد الذي أشرت إليه أكثر من مرة) كان لهذه المؤسسة تعاملات واسعـة مع "الواقع المحلى". وكنت خلال ذلك أرى تطبيقاتٍ يوميةً ساطعةً وواضحةً لإختلافِ الحضاراتِ والثقافاتِ. وكان أحد أبرز هذه الاختلافات هو ما درجت على تسميته بشخصانية التفكير المحلى. وأَعنى بذلك أن تفكيرَ أعدادٍ كبيرةٍ منا تنطلق من "زوايا شخصية" وتستمر في ذلك في عملية الأحكام التي تطلقها والآراء التي تعتقدها ووجهات النظر في الأشياء والأشخاص التي تطرحها.

وربما يكون من المجدي ضرب مثال واضحٍ – لحالات عديدة مُتكررة، فهذا المثال يشخّص الظاهرة التي أود أن أجسدها أمام عين القارئ :

خلال تلك السنـوات الطـويلة أَجريت آلاف المقـابلات ممـا يُعرف في مجـالِ الأعمـال بالـ Interviews أي المقـابلات التي يكـون الغـرضُ منهـا الحكمَ على شخصٍ بهدفِ الوقوفِ على إمكـاناتـه وقـدراتـه ومـواهبـه (إن وجـدت) وفـى ألف (مـرة أخـرى : ألف) مقـابلة مـع مصريين حاصلين على درجـات علميـة عاليـة في مجالات مُتعـددة بعضهـا يقـع تحت مُسمـى العلـوم التطبيقيـة والبعض يقـع تحت مُسمى العلـوم الاجتمـاعيـة والآخر يقع تحت مُسمى الدراسات الإنسانية.

وإلى جانب الهدفِ الأساسي من تلك المقابلات وهو الحكم على "قدرات" الشخص الذي تجرى معه المقابلة كنت معنياً بجوانب أخرى يمكن أن توصف بأنها "ملاحظات حضارية وثقافية" وكنت أدون هذه الملاحظات بإستفاضة لأهمية معظمها. ومن بين هذه الملاحظات أنني في ألف (1000) مقابلة من هذا النوع كنت أطرح أسماء لشخصيات عامة لأسمع وأسجل وأقيّم تعليقات من تجرى معه المقابلة عنها. وقد انتهيت لملاحظة يصعب دحضها، فقد انقسمت تلك التعليقات إلى نوعين أو طائفتين :

• الطائفـة الأولـى: يمكن أن تُسمـى بالتعليقاتِ الشخصيـة وهـى انطباعـات كـان الأشخـاصُ يعبــرون عنهـا بكلمـات مثـل (طيب).. (متواضـع)..(لطيف)..(علـى خلقٍ رفيـع)..(مـتدين)..(معروف بالسلوك المستقـيـم)… (مجـامـل)… (ودود)… إلـى آخـر هـذه النوعيـة مـن الانطباعـات. وأحياناً كان التعليقـاتُ تأتـى أيضـاً "شخصيـة" وإن كانت التعبيـرات (والمعانـي) على نقيض تلك الكلمـات، كأن يقـال (شرير).. (مغـرور)… (غير لطيف)… إلـى آخـر نفس السلسلة مـن المعانـي وإن كانت فـي الاتجـاهِ المعاكـس.

• أمـا الطائفـة الثانيـة: فيمكن أن تُسمى "آراء موضـوعيـة" حيث كـان الشخص الذي تجـرى معـه المقـابلة يعبـر عـن آرائـه بكلمـات مثـل (كفء)… (مثقف)..(يتقـن عمـله بشكـل ملحـوظ)..(منتـج بشكل كبيـر)….(له قـدرة بارزة علـى القيـادة)… (صـاحـب قـدرة كبـيــرة علـى التحليـل )…. إلـى آخـر هـذه النوعيـة مـن الانطباعات. وأحياناً أيضاً كانت هذه الطائفة الثانية من الآراء تأتى في صورةِ ما يخالف أو يمثل عكس هذه الآراء كان يقال (غير كفء)… (محدود الدراية)… (لا يتقن ما يعمله)… (متواضع الإنتاجية)… (لا يملك القدرة على قيادة الآخرين)…إلى آخر هذه السلسلة الثانية من المعاني.

وكانت "الملاحظة الصدمة" أن عددَ الذين كانت تعليقاتهم تندرج ضمن الطائفـة الأولـى كانوا أكثـر من 90% من عدد من أجريت معهم هـذه المقابلات والذين سجلت نتائـج المقابلات معهم (1000مقـابلة). ونظراً لأن الأسمـاء التي كانت تطـرح للحـوار بشأنها أسماء لشخصياتٍ عامـةٍ لا تربطهم صـلات خاصـة بمن كانت المقـابلات تجـرى معهـم، فإن المعنـى الواضـح والكبيـر كان أننـا لا نفـرق بين دائـرة الأهل والأقارب والأصدقاء أي الدائرة الصغيرة الشخـصيـة، ودائرة الحيـاة العامة. وأننـا نستعمـل أدوات الحكم علـى العلاقات الخاصـة في دائرة الحيـاة العامـة. وكان مـا يـزيـد الطينـة بـلـة، أن كون الأشخـاص الذين كانت تجـرى معهـم المقـابلات لا يعرفون -بصفة شخصية- أصحاب الأسماء التي كانت تُطرح من الشخصيات العامة، كان يعني أن حتى هذه المجموعة من (الانطباعات الشخصية) ليست وليدة (تجربة ذاتية) وإنما هي ما يتكرر قوله وسماعه في المجتمع. وهى ملاحظة أخرى جديرة بالاهتمام، وإن كانت لا تعنينا هنا كما تعنينا الملاحظة الأساسية وهى اختلاط الخاص بالعام وقيام الأحكام على اعتباراتٍ شخصية وغير عامةٍ وغير موضوعيةٍ.

وأغلب الظـن أن هـذا العيب الكبيـر الشائع فـي تفكيـر العديدين منـا إنما يرجـع لخصلة أخـرى متفشيـة في واقعنـا قوامها أن نقطـةَ البدايةِ في حكمِ إنسـانٍ علـى آخر هي نقطةٌ ذاتيـةٌ أو شخصيـةٌ بمعنـى أن البدايـةَ تتمثـل في حبٍ (بسبب عوامـل شخصيـة صـرف) أو كرهٍ (أيضاً بسبب عوامل شخصية بحتة).

ونظـراً لأننـي كنت خـلال تلك السنـوات وإبان إجراء هـذه التجـارب معنيـاً بالوقوف علـى أكثر ما يمكنني معرفته من جوانبها، فقد أجريت نفس التجربة على 300 أجنبي (من جنسيات أوروبية غربية) من طوائف مماثلة (وأعنى من حيث التعليم العالي) وكانت النتيجة معاكسة تماماً؛ فأكثر من 90% ممن أجريت معهم المقابلات لم يستعملوا إلاَّ تعبيرات موضوعية تتعلق بالعمل والكفاءة والقدرات والمواهب، وأن أقل من 10% استعملوا تعبيراتٍ شخصيةٍ.

ولا شك أننا لو اتفقنا على وجودِ واستفحالِ انتشارِ هذا العيب بين أعدادٍ كبيرةٍ منا (متعلمين وغير متعلمين) فإن المنطق يُحتمُ أَن نرى الأثرَ الهدّام لهذا العيب على مسائل عديدةٍ لعل من أهمها ما يلي:
• الاختيارات للوظائف.
• الترقية.
• المكافآت.
• الترشيحات للمناصب القيادية والعليا في كل الدوائر.
• الانتخابات بشتى أنواعها ومجالاتها.
• الأحكام على الشخصيات العامة ومتولي الوظائف العليا والقيادية ورموز المجتمع.
• الكتابات الصحفية التي تتناول الشخصيات العامة.
• الكتابات النقدية في سائر مجالات الإبداع.
• أعمال الأجهزة الثقافية والإعلامية والفنية.

ولعل تصاعد هذه الظاهرة واستفحال استشرائها ووصول جذورها وفروعها لنقاطٍ بعيدة ... لعل ذلك يكون هو التفسير المنطقي لبعض الظواهر التي يجمع معظمُنا على ذيوعِها وشيوعِها في واقعِنا اليوم مثل:

• المناخ بالغ التوتر الذي تجرى فيه معظم الانتخابات في معظم المجالات، وما يعقب ذلك من تراشق بالتهم.
• حملات الهجوم الشخصية الفاضحة على العديدِ من الشخصياتِ العامةِ.
• ندرة الاتفاق على عددٍ كبيرٍ من رموز المجتمع. فالاختلاف حول معظم هذه الرموز على أشده ويقع بعضه تحت مسمى "الافتتان الشامل" بينما يقع البعض الآخر تحت مسمى "الاستهجان الكامل".
• شيوع الاعتقاد بأن العلاقاتِ بين الناسِ أصبحت مهترئةً ولا تقارن بما كانت عليه في الماضي، وذلك أمرٌ طبيعيٌ، لأن الأحكام أصبحت تنطلق من (زاوية الحب) أو (زاوية الكره) وليس من زاوية (الرضى الموضوعي)أو (الرفض الموضوعي).

ومن المؤكد أن من حق البعض أن يطالع كل هذا التشخيص للداءِ ثم يتساءل: وما العمل؟

والجـواب، أن معالجـة هـذا العيب الكبيـر مـن عيـوبِ التفكيـرِ الشائعـة فـي واقعِنا اليوم لا يمكن أن تتم بدون وسيلتين؛ أحدهما ذات "بعض الأثر" ولكنه "أثر على المدى القصير والمتوسط" والثانية ذات أثر شبه مطلق، ولكنه من قبيل الاستثمار طويل الأجل أي الذي لا تأتى ثماره إلاَّ بعد سنوات عديدة.

أما وسيلة الأمد القصير فهي ذات ثلاثة أبعاد:
• القدوة العليا في المجتمع.
• الأنشطة الثقافية.
• وسائل الإعلام.

فهـذه الجهـات الثـلاثـة قـادرة علـى إحـداث "بعض التغيير" علـى المـدى القصيـر والمتـوسط إذا وضحت الرؤيةُ وشحـذت الهمـمُ ووظفت القـدرات والإمكـانات الكبيـرة المتاحـة لتسليطِ الضـوءِ علـى هـذا العيب الكبيـر مـن عيـوب التفكير الشائعة لدينا اليوم.

أما "العلاج الكامل الشامل" والذي هو"طويل المدى" بمعنى أن آثاره لا تظهر إلاَّ بعد سنوات غير قليلة (وإن كانت أيضاً تبقى موجودة لسنوات عديدة) فهو "التعليم"، فمن المؤكد أن برامج دراسية تنطلق من رؤية واضحة للعيب وإسهاب في تعريته أمام العيون وشرح كارثة آثاره على العديد من جوانب حياتنا لقادرة على استئصال شأفة هذا العيب وتفريخ أجيال أكثر موضوعية وأَقل "شخصانية"..

ورغـم أن مـا سـجـلتـه عــن الألـف مقـابـلـة مـن مـلاحـظـات حـافـل بمـئــات مـن القـصـص والعـبـر، فإننــي أود أن أخـتــم هــذا الفـصـل بقـصـة واحدة منها ذات دلالة واضحة وضوح الشمس. ففي مقابلة من هذه المقابلات العديدة تطرق الحديث لاسم أحد الوزراء (وكان بكل الموضوعية من المشهود لهم بالكفاءة والقدرة العالية على التخطيط والتنفيذ) فكان تعليق الشخص الذي كانت تجرى معه المقابلة (أن هذا الوزير من أعظم الوزراء قاطبة في بلدنا)… ودون ما حاجة لسؤال...أو استفسار استرسل المتحدث يقول (تصور أنني ذهبت لمقابلته، ورغم فارق المكانة فقد أصر على توصيلي للمصعد وانتظر حتى ذهبت)!

وهكذا لم تكن مبررات الحكم مستمدة من كفاءةٍ إداريةٍ أو عبقريةٍ في التخطيط والتنفيذِ أو نتائجٍ مبهرةٍ لسنوات من العمل الشاق.... وإنما كان المبررُ بسيطاً للغاية: مجرد لمسة شخصية في التعامل لا علاقة لها على الإطلاق بقدرات ومواهب وإمكانات وإنجازات من كان الحديثُ يدور حوله!




الفصل التاسع
الآخرون: "معنا"...أم "ضدنا"؟

تجتمع عناصرُ وأبعادُ عددٍ من عيوب التفكير التي انتشرت في واقعنا فيما يشبه المعادلة الكيميائية لتخرج لنا عيباً (أو عيوباً) إضافية جديدة. فمن اختلاط "تقلص السماحة" و”تآكل هامش الموضوعية" ينبثق عيبٌ آخر جديد هو عجز الكثيرين منا عن رؤية (من ليس معنـا) إلاَّ بصفته (ضـدنا) أو (علينا). وقد ضاعف من عمق جذور هذا العيب، أن تاريخنا المملوكي الذي ترك أعمق الآثار في تكوين شخصيتنا قد عرف هذا الأسلوب في التفكير والحكم على الآخرين على أوسع نطاق. فطيلة القرون التي قبض فيها المماليكُ على زمـامِ الأمـور فـي حياتنا، كان المجتمـعُ يرى بوضوحٍ وكل يوم تطبيقاً عملياً على (أن من ليس معنا فهو ضدنا أو علينا) مع تـوابـعِ هـذه المقـولـة وآثارها المترجمة في مواقفٍ كثيراً ما اتسمت بالعنفِ والقسوةِ والدمِ. وكما يقول أُستاذ جامعي مرموق، فإن علم الاجتمـاع التاريخـي يؤكد أن آثار العهد المملوكـي علـى التفكيـر المصـري لا تـزال قـويـةً وحيـةً رغم انتهاء دولة المماليك في مصر بمذبحة القلعة منذ أكثر من مائة وثمانين سنة، (وبالتحديد في سنة 1811).

وجـوهـر هـذه المسـألـة، أننا ننشـأ في منـاخٍ ثقافـيٍّ عـام يتسمُ -إلى حد بعيد- بالشـخـصـانيـة أو الذاتية في مواجهـة الموضوعيـة، كما يتسم بضيقِ الصـدرِ بالنقدِ وعدم الاحترام العميق لكون الآخرين مختلفين وهو ما يحتم أن يرى الكثيرون منا "الآخرين" من منظورِ السؤال النمطي: أهو معي؟.. أم ضدي؟ ويزيد من تأصيلِ حقيقةِ هذا البعد من أبعادِ تفكير الكثيرين منا أن أعداداً كبيرة منا "قرويون" جاءوا حديثاً إلى المدن وهم يحملون في تكوينهم قانون تأسيسِ الانتماءِ على أرضيةِ الاشتراكِ في الخلفيةِ المكانيةِ والعائليةِ. وهذه الضفيرة من الأبعاد (ذاتيون لا موضوعيون.... تقلص السماحة تجاه الآخر المختلف.... الضيق بالنقد) هي ما تجعل العملَ الجماعي أبعد ما يكون عن التوفر. فروحُ الفريق تنسفُ نسفاً عندما تضربها هذه الأبعادُ في ذاتِ الوقت. وهذا الجانب هو أحد أهم أسباب تأخرنا عن عددٍ من الشعوبِ الآسيوية في اللحاقِ بركبِ التقدم الاقتصادي الحديث، فبينما كانت الحضارةُ الآسيوية (لا سيما في اليابان والمجتمعات التي انتشرت فيها الأقلياتُ الصينية )عاملاً من أقوى عوامل دفع العمل الاقتصادي والصناعي إلى درجاتٍ مرتفعةٍ للغاية، لوجود هذا الاستعداد القوى للعملِ الجماعي، كنا نحن بعيدين إلى حدٍ بعيدٍ جداً عن توفر روح الفريق في العملِ التي يصعب بدونها تصور أي إنجازٍ كبيرٍ في العملِ والإنتاج.

وقد أرتني سنوات تواجدي في بيئة مؤسسية أوروبية كيف ينفرط عقدُ أي مجموعةٍ عمل منا بفعلِ غيابِ روحِ الفريقِ والعملِ الجماعي وغلبةِ تأسيسِ العلاقات على أرض (معنا أم ضدنا؟). وفى نفسِ الوقتِ كانت مجموعات العملِ التي ينتمي أفرادُها لخلفياتٍ أوروبيةٍ أو آسيويةٍ تنخرطُ في العملِ الجماعي دون أية تشققاتٍ في وحدة الفريق بسببِ العوامل الثقافية التي تلغى أسباب الفرقة وتغلب أَسباب الوحدة. ومن الضروري أن أُبرز أنه في ظل ظروف عامة معينة، وعندما تكون قيادة وحدات العمل في يدِ من هو مشربُ للغاية بنفسِ الروح ("معنا" أم "علينا"؟) فإن قيمَ تفسخِ روحِ الفريق تتعاظم وتضرب المناخ العام بسهامها من كل جانبٍ، تاركة إيانا أمام ما يشبه حالة استحالة لأن نعمل كفريقٍ واحدٍ متجانس ومتوائم.






الفصل العاشر
نحـن ...وآراؤنــا

تناولتُ آنفا النظرةَ الشائعةَ للآخر إما بوصفِه "معنا" أو "علينا". ولاشك عندي أن ذلك ليس سوى عيب ثقافي ذائع وليس سمةً مؤبدةً من سماتِ ثقافِتنا، فكاتبُ هذه السطور لا يؤمن بوجودِ سماتٍ ثقافيةٍ أبديةٍ، وإنما هي مكتسبات أو نتائج أو ثمار طبيعية لعناصرٍ عدةٍ. ومن العيوبِ الثقافيةِ التي تشبه هذا العيب وإن كان عيباً ذا وجود مستقل اعتبارُ العديدين منّا أن آراءهم جزءٌ منهم ومن كيانِهم وبالتالي فإنها جزءٌ من كرامتهم وكبريائهم. وما أعنيه هنا أن أعداداً كبيرة للغايةِ منا ترى أن الإنسانَ وآراؤه يكونان "كلاً واحداً"، بمعنى أن شخصية الإنسان تشمل آرائه ووجهات نظره.

وقـد أظهـرت لـي تجربـةُ التعامـلِ الطـويـلِ مع أبناءِ الحضارةِ الغربيةِ وكذلك مع أبناءِ الحضارتين الشرقيتين الكبيرتين اليابانية والصينية أن الإنسانَ في مجتمعاتِ هذه الحضارات لا يعتبر أن آراءَه جزءٌ منه وبالتالي من كرامِته وكبريائه بل كنت أرى -طيلة ما يقرب من عشرين سنة من التعاملِ الكثيفِ واللصيقِ مع أبناءِ هذه المجتمعات أن إنسانَ هذه الثقافاتِ يفصلُ بوضوحٍ تامٍ ما بين "ذاته" و"آرائه"، بل وكنت في مئاتِ الحواراتِ أرى أن إنسانَ هذه الثقافاتِ يبدو أثناء الحوار وكأنه يضع آراءَه على مائدةِ الحوار مع آراء أخرى يضعها على نفسِ المائدةِ غيرُه ثم تتعامل وتتفاعل الآراءُ مع بعضِها بمعزلٍ عن اتصالِها بكينونةِ أصحابِها . . . في عمليةٍ يستقلُ فيها الإنسانُ عن الآراءِ المطروحةِ. وبعد تفاعل الحوار، فإن كل إنسان يأخذ من فَوق المائدة "منتجاً" جديداً غير الذي وضعه بيده عليها -أنه نتاجُ تلاقحِ الأفكارِ والآراءِ ووجهاتِ النظرِ بشكلٍ حرٍ وخالٍ من العصبيةِ والانفعالِ الناجمِ عن التصاقِ الآراءِ بأصحابِها وكرامتهم وكبريائهم.

أَما عندنا، فالأمرُ مختلفٌ كل الاختلاف إذ أن الآراءَ تكاد تكون لأصحابِها مثل الأعضاءِ والملامحِ فهم من جهةٍ يعتزون بها اعتزازاً يخرج بالعلاقةِ عن إطارِ الموضوعية ويدلف بها إلى دائرة الذاتيةِ والشخصانيةِ، وهم من جهةٍ أُخرى يخلطون ما بين كرامتهم وكبريائهم وأي مساسٍ بتلك الآراء أو محاولة لدحضها أو تفنيدها أو حتى تعديلها. وفى ظل عيوبٍ ثقافيةٍ أُخرى، مثل تقلص السماحة وتآكل هامش الموضوعية والنظرة للآخر من منطلق السؤال الكبير: أهو معنا؟ .. أم علينا؟ مع حقائقٍ اجتماعيةٍ أُخرى يصعبُ إنكارُها مثل حداثة مفهوم المواطنة وغلبة الانتماء للعائلة والقرية وتفشى السطحية التعليمية والثقافية ونحافة التربية الديمقراطية في المجتمع من قاعدتِه لقمتِه مروراً بالأسرة والمدرسة والوظيفة والمناخ الثقافي العام. . . في ظل كل ذلك معاً، فإن أسبابَ دمجِ “الذات” مع "الآراء" تتعاظمُ وتجعلنا أمام واحدٍ من أهم عوائق التقدم: فالتقدمُ يتطلب هواءً طلقاً ينمو فيه الحوارُ ويتطور وتتفاعل فيه الآراءُ ووجهاتُ النظرِ في معادلةٍ مستمرةٍ تدفعُ بالعقولِ ودرجاتِ ومكوناتِ الوعي بل والمجتمع بأسره لمقاماتٍ أعلى من مقامات التطور الفكري والثقافي وهو أساس التقدم الأول. وأكرر هنا أن تطورَ الشق الثقافي كان دائماً سابقاً لتطور الشق العلمي المادي في كل الحضارات الكبرى، لأن خلقَ المناخِ الفكري والثقافي الرحب والخصب والثرى والذي يسمح بطرح الأفكار الجديدة وتلاقح وجهات النظر وتفاعل الرؤى هو الذي يخلق المناخَ الأمثل للتقدم العلمي والتقني.
وكاتبُ هذه السطور لا يمل من تكرار قوله أن هوميروس ويوروبيدوس وأفلاطون وسقراط وأرستوفان وأرسطوطاليس كانوا مؤسسي المناخ العام الذي ازدهرت فيه العلومُ التطبيقيةُ في الحضارةِ الإغريقيةِ. . . وأَن الأدباءَ والشعراءَ والمتكلمة (الفلاسفة) كانوا السابقين في الحضارة العربية وفى ظل المناخ العام الذي أوجدوه جاء العلماءُ من أمثال ابن الهيثم وابن سينا والرازي ... ونفس الشيء هو ما حدث في عصر النهضة إذ جاء الفلاسفة والأدباء والشعراء والفنانون الكبار ليخلقوا المناخ العام لما يسمى الآن بالحضارة الغربية.
ويستحيل أن تحدث تلك الفورة الفكرية والخصوبة الثقافية في ظل مناخٍ عامٍ يكون الإنسانُ وآراؤه فيه شيئاً واحداً.






















الفصل الحادي عشر
الإقـامة فـي الماضــي


أجدادكم إن عظموا وأنتم لم تعظموا
فإن فخرَكم بهـم عارٌ عليكم مبرمُ.
"العقاد...”

"علاقتُنا بالماضي" موضوعٌ يمكن أن يفرغ مفكرٌ لدراستِه طيلة حياته دون أن يوفيه حقَه من الدراسةِ المعمقةِ كما ينبغي أن تكون الدراسةُ. لذلك فمن المستحيلِ تقديم تغطية كاملة لهذا الموضوع في فصلٍ مقتضبٍ كهذا الفصل بكتابٍ موجز كهذا الكتاب. ولكن من الممكن تركيز الاهتمام حول عدةِ محاورٍ بشكلٍ يصلح لأن يكون أساساً لمزيدٍ من النظرِ والتفكيرِ.

فمن جهةٍ أولى، فإننا من أكثر شعوبِ العالمِ "فخراً بماضيها"...
ومن جهةٍ ثانية، فإن ملايين المفتخرين بهذا الماضي يكادون أن يكونوا جميعاً من غير العالمين بألف باء هذا الماضي ناهيك عن العلم الواسع والعميق بسائر جوانبه...
ومن جهةٍ ثالثة، فإن هناك "خلطاً دائماً" بين هذا الماضي والحاضر...

أما كوننا من أكثرِ شعوبِ العالم فخراً بماضينا، فأمرٌ لا يحتاج للإثبات، إذ أن مطالعةَ جريدة ٍأو مجلةٍ أو مشاهدةِ أي برنامج تليفزيوني تنبئ بهذا القدر الهائل من الفخرِ بالماضي، فنحن في حالةِ تذكيرٍ مستمرةٍ للدنيا وللآخرين ولأنفسِنا بأن ماضينا أعظمُ وأمجدُ وأفخمُ من أي ماضٍ لأية أمةٍ أخرى.

ومن المؤكد، أن ماضينا "متميزٌ" و "خاصُ" ولكن من المؤكد، أن هذا الماضي يضم صفحات بيضاء كما أنه يضم أيضاً صفحاتٍ سوداء. والوقوف على الصفحاتِ البيضاءِ والسوداء في ماضينا من الأمور التي تستغرق أعماراً كاملة لأشخاص وقفوا أَنفسَهم على دراسةِ ذلك. وبالتالي، فإن حديثنا الذي لا يتوقف عن ماضينا يعيبه -من الناحية الموضوعية- أنه يفترض أن صفحاتِ هذا الماضي كانت كلها بيضاءً ناصعةً- وهذا غير صحيح. كذلك فإن ظاهرةَ التغني المستمر بالماضي تحتاجُ للتفكير والدراسة. فمن غير الطبيعي ألاَّ يكون هناك توازنٌ بين "الفخر بالماضي" و"الانشغال بصنع حاضر ومستقبل مجيدين". ولاشك أن هناك خللا في تفكيرنا في هذه المسألة إذ أن الانشغال بصنع الحاضر والمستقبل يعتبر متواضعاً إلى جانب الإنشغال بالتفاخر بالماضي.

كذلك فإن افتراضَنا (الضمني) أننا الوحيدون الذين يملكون ماضياً مجيداً هو الآخر أمرٌ مخالفٌ للواقعِ والثابتِ. فكما أن من حقنا أن نفخر بتاريخنا المصري القديم فإن أبناء اليونان وإيطاليا (أحفاد الإغريق والرومان) هم أيضاً أصحاب حضارة وماضٍ مجيد لا يحق لمن يحترم الحقائق التاريخية أن يستهين بهما.

وفى اعتقادي أن "فقرَ مكوناتِ الواقع" هو ما يدفعنا باستمرار للتغني والتفاخر بالماضي، كأننا نشعر أنه بدون ذلك الماضي فإن المعادلةَ ستكون مختلةً وفى غير صالحنا. والمنطقي، أن نفتخر بجوانب عديدة من ماضينا افتخاراً متزناً غير مشوبٍ بالحماسةِ الزائدة والتعصب وعدم إعطاء الآخرين حقوقهم، على أن يكون هناك "فخر متوازن" بمعطياتِ الحاضرِ ومكونات المستقبل.

وإذا كان العربُ هم الذين نحتوا المقولة الشهيرة والصائبة والتي تقول: (ليس الفتى من يقول كان أبى، وإنما الفتى من يقول هأَنذا) فإن الأمرَ هنا يكون بغيرِ حاجةٍ منى لمزيد من الشرحِ والتبيانِ. ومن جهةٍ ثانيةٍ، فإن افتخارَ معظمنا بماضينا يعطى الإحساس بأننا نعلم الكثير عن هذا الماضي. والحقيقة أن السوادَ الأعظم منا لا يعرف أي شيء (إلا الشعارات العامة) عن ماضينا وتاريخنا. بل أنني أزعم أن الأغلبية العظمى من المتعلمين تعليماً عالياً بمجتمعنا لا يعرفون -مثلاً- أعلام الأسرة الثامنة عشرة في تاريخنا الفرعوني القديم ولا يعرفون -مثلاً- الترتيب الزمن لفراعنة عظماء أمثال سنوسرت وأحمس وتحتمس الثالث وسيتي الأول ورمسيس الثاني، رغم أن معرفة ذلك لا تعنى أي تضلع في تاريخنا القديم. بل وأزعم أن معظم المتعلمين تعليماً عالياً في مصر لا يعرفون الترتيب الزمني للعهود التالية: العصر الإخشيدي والأيوبي والطولوني والمملوكي في تاريخنا الوسيط. وأكرر، أن معرفة ذلك لا تسمح في حد ذاتها بالاعتقاد بوجود أي تضلعٍ في معرفةِ الموضوعِ محل الحديث، ولكن عدم المعرفة بها يعني الجهل التام بأبسط المعارف التاريخية وهو ما يجعل الافتخار الحماسي بهذا الماضي (ممن لا يعرفون أي شيء عنه) ظاهرةً عقليةً ونفسيةً تحتاجُ للدراسةِ والتحليلِ.

وتنطبق هذه الحقيقة (حقيقة جهل السواد الأعظم منا بمفردات وعناصر ماضينا) على تياراتٍ فكريةٍ بأكملِها. فما أكثر الذين يسمّون أنفسَهم بأنصار مصر الفرعونية وهم لا يعرفون ألف باء تاريخ هذه الحقبة. وما أكثر الذين يسمون أنفسهم بالإسلاميين وهم على غير علمٍ بمعظم التاريخ والتراث الذي لا يكتفون بالفخر به، بل ويضفون على عناصره من القداسة ما لا ينبغي أن يقدس لأن معظمه "عمل وفكر بشرى".

وأذكر هنا حواراً مع شابٍ متحمسٍ للتيارِ الذي يُسمي نفسه بالإسلامي وجدته يلحن (أي يخطي في تحريك الكلمات العربية) وهو يستشهد ببعض النصوص. أذكر أنني قلت له إن الفقهاء المسلمين الأوائل كانوا يعتبرون كل علم أصول الفقه عملاً بشرياً ولا أدل على ذلك من أمرين:

الأول، تعريف الفقهاء لعلم أصول الفقه بأنه "علم استنباط الأحكام العملية من أدلتها الشرعية" وهو تعريف عبقري ولكنه يثبت "بشرية" هذا العلم. والثاني، كلمة أول وأكبر الفقهاء أبى حنيفة النعمان الشائعة (علمُنا هذا رأي، فمن جاءنا بأفضلَ منه قبلنَاه). ثم ذكرت لذلك المتحمس لما يسمى بالتيار الإسلامي أن هؤلاء الفقهاء الأوائل قد وضعوا ستة شروط لأهلية الإفتاء، كان أولها العلم باللغة العربية علم العرب الأوائل. ثم قلت له، ونظراً لأنك (ومعظم زملائك في الحماس لما يُسمى بالتيار الإسلامي) تلحنون (أي تخطئون في اللغة العربية) فإنكم -وفق الشرط الأول من شروط الإفتاء- قد فقدتم أهلية إبداء الرأي في المسائل التي تتعرضون لها.

كل ذلك كان ضمن حديثي عن غرابةِ أن يفخر أناسٌ بماضٍ لا يعلمون عنه شيئاً يذكر. وهو ما يدل -مرة أخرى- على أننا أمام "ظاهرة عقلية ونفسية" لا علاقة لها -في الحقيقة- بالماضي الذي يتحمسون له.

وأخيراً، فإن الحياةَ المعاصرة في مجتمعنا تجعلنا نشاهد – يومياً - عروضاً متكررةً للخلطِ بين هذا الفخر المتحمس بالماضي وبين الفخر الآني أي الفخر بما نحن عليه الآن.

وهذه ظاهرة مفهومة، لأَننا نستشعر في أعماقنا تلك المفارقة المهولة بين "ماض مجيد" نفخر به وحاضر نبحث في جوانبه عن أسباب للفخر فلا نكاد نجد إلا أقل القليل؛ فمعظم إنجازات عصرنا المادية والفكرية من أعمالِ الآخرين.






الفصل الثاني عشر
ثقافة مدح الذات

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم.
ومن البلية عذل من لا يرعـوى
عن جهله وخطاب من لا فهــم.
"المتنبـي...”

نتطرقُ هنا لعيبٍ آخر من عيوب العقل العربي والتي شاعت في مناهجِ تفكير معظمنا، وهو (مغالاتنا في مدحِ الذاتِ) ومـا يتصـل به من قيمٍ اجتماعيةٍ شاعت وذاعت في واقعِنا . فنظـرةٌ متأنيـة لمـا يذاع في النـاس من مـواد إعلاميـة مكتوبـة أو مقـروءة تظهــر بوضـوحٍ أن وسـائلَ إعلامِنــا المختلفة (المرئية والمسموعة والمقروءة) أَصبحت لا تخلو –بصفةٍ يومية- من مدحِ الذاتِ وإطراءِ إنجازاتنا ومزايانا. وعلى المستوى الفردي ، فإننا نمارس نفس الشيء بصفةٍ شبه دائمة . وإذا قارنا وسائل إعلامنا الحالية بصحفنا ومجلاتنا منذ نصفِ قرنٍ لاكتشفنا أَن هذه الصفةَ لم تكن متفشيةً في الماضي كما هي متفشية اليوم . كذلك إذا قارنا هذه الصفة الشائعة عندنا بالأوضاع المماثلة عالمياً ، ولا سيما في الدولِ المتقدمة ؛ وجدنا أنفسنا –أيضاً- منفردين بهذا "الكم الهائل" من مدحِ الذاتِ بصفةٍ دائمةٍ .

وقد قمت شخصيـاً بمراجعـةِ مئـات الصحف والمجلات المصرية التي صدرت طيلة الأربعينيـات ؛ فاتضح لي بجلاءٍ تامٍ أننا لم نكن نعرف تلك الصفة منذ قرابة خمسين سنة ولكنها بدأت - على استحياء- منذ نحو ربع القرن ، مع ملاحظة أَن معدلَ ازديادِها في سني العقدِ الأخير كان الأكبر والأشد ظهوراً بشكلٍ تصعب عدم رؤيته .

واليوم ، فلا تكاد جريدة أو مجلة تخلو من موضوعٍ أو مواضيعٍ تتضمن إطراءَ الذاتِ والإشادة بتميزنا وتفوقنا وإنجازاتنا . وكثيراً ما تكون عباراتُ إطراءِ الذات منسوبةً لمصدرٍ خارجي ، وهو ما يؤكد اعتقادنا بأن المصدرَ الخارجي يُضفي "مزيداً من القيمة" على عباراتِ الإطراءِ المذكورة .

ورغم أَن الكثيرَ مما يُنشر في هذا المجال يبدو بوضوحٍ أَنه يثيرُ من التعجبِ أَضعافَ ما يحدثه من مصداقيةٍ ، إلا أَن "الظاهرة" تبقى ماثلةً أمامنا وهى أَننا نفعل (في هذا المجال) ما لا يفعله (الآخرون) ... وأَننا بحاجةٍ ماسةٍ لهذا الإطراءِ للذات، لأنه يُعالج عندنا (شيئاً ما) .

فما معنى أن صحفَنا لا تكاد تخلو- كل يوم- من صيغةٍ تماثل أو تقترب من واحدةٍ من هذه الصيغ :

• المجتمعُ الدولي يشيدُ بتجربةِ الإصلاحِ الاقتصادي في مصرَ .
• البنك الدولي يبرز إنجازاتِ التجربةِ المصريةِ في التنميةِ الاقتصادية .
• جامعة (......) تقول: الاقتصاد المصري قوى ويقف على أرضيةٍ قويةٍ .
• مركز (......) للدراسات الاقتصادية يقول: الاقتصاد المصري لا يمكن أن يتعرض لهزةٍ مثل هزة النمور الآسيوية .
• اليونسكو يقرر تكرار تجربة مصرَ في ....... على مستوى العالم .

ما معنى ذلك؟ … ولماذا لا نقرأ مثل هذه "الصيغ" في أية صحيفة من صحف فرنسا وألمانيا وإنجلترا واليابان والولايات المتحدة؟

وما معنى التكرار شبه اليومي؟

المعنى الحقيقي بالغ السلبية ، وهو أننا (رغم معرفتنا بأننا لا نزال في معظم المجالاتِ على أولِ الطريق) نحتاج لخلقِ عالمٍ خاصٍ من اختراعنا "نرتاحُ فيه" وهذا النمط من السلوك هو (العكس) و(النقيض) و(الضد) لسلوكٍ آخرٍ إيجابيٍّ وبناءٍ وينبئ بأننا سنخرج حتماً من أتون مشاكلنا العديدة العويصة . النمطُ الإيجابي والبناء من السلوك يحتمُ علينا أن نعترف لأنفسنا و(بوضوحٍ تامٍ) بأن واقعنا عامرٌ بالمشاكلِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ ، وأننا (للأسف الشديد) دولةٌ من دول العالم الثالث (وما كان ينبغي لنا أن نكون) وأن أوضاعَنا ترجعُ كلُها للطريقةِ التي أديرت بها حياتنا العامة خلال أكثر من قرنٍ من الزمان (منذ وفاة محمد على في سنة 1849 وحتى الآن) .

إن التخلي عن تلك الصيغ والتي نعلم جميعاً أنها خاويةٌ من الجوهرِ والمعنى والتزود بشجاعةِ الاعترافِ بالواقعِ ، هو نقطة البداية الفعلية لتقدمٍ حقيقيٍّ على كافةِ المستوياتِ .

ومن المؤكد أن إنجازَ هذه المهمةِ (مهمة إيقاف طوفان مدح الذات وشحذ الهمم لتكون قادرة على فعل النقيض) لا يمكن أن يتم (على المستوى البعيد) إلا عن طريق غرز قيم إيجابية مختلفة عن طريق برامج التعليم ، أما على المدى القصير فإن إنجاز هذه المهمة يبقى "مستحيلاً" ما لم تبدأ هذه العملية من رأس الهرم لا من سفحه . كذلك فإن للاتجاه الذي أدعو إليه تداعيات لا يمكن تجنبها : فعندما نعترف بسوءِ الأحوالِ .... فإننا نكون على حافةِ السؤالِ الخطير : ولماذا وصلنا لذلك؟… ولا جواب إلاِّ لأن بعض القيادات التي تولت أمورنا العامة في منتصف القرن الماضي لم تحسن الأداء . وأن علينا في نفسِ الوقتِ أن ندرك أن "حسن الأداء" لا يحدث الآن في عالمنا عن طريق تبنى أيدولوجيات معينة ، ولكنه يحدث كنتيجةِ توفرِ "كادرٍ تنفيذي" على رأس المجتمع يقتفي أثرَ التجاربِ الناجحة منشغلاً بهذه المهمة "البرجماتية" عن أَيةِ إضاعة للوقتِ في جدلٍ أيدولوچي عقيم لا يزيدنا إلاِّ إمعاناً في التأخرِ .

وأعتقد أن "المغالاةَ في مدحِ الذات" ترتبطُ ارتباطاً وثيقاً بمجموعةٍ أخرى من "القيم السلبية" التي شاعت في حياتنا لأسبابٍ عديدة (قد يكون يوم 5 يونيه 1967 من أقواها تأثيراً) . وأهم هذه القيم هي :

انفصال (الأقوال) عن (الأفعال) وتحولنا (بدرجة ما) إلى "واقع خطابي" أكثر من أن نكون "واقعاً عملياً" . وهى ظاهرة تعم المنطقة التي ننتمي إليها بشكلٍ بالغ الظهور والقوة . وترجع هذه الظاهرةُ لتواريخٍ بعيدةٍ وعواملٍ ثقافيةٍ ضاربة في عمقِ هذه التواريخ . فنحن - بلا شك- من أكثر شعوب العالم تغنياً (بالألفاظ) بتاريخنا وأمجادنا الماضية وميزاتنا عن الآخرين . وإذا قارنا مجتمعاتنا (من هذه الزاوية) بمجتمع كالمجتمع الياباني وجدنا اليابانيين على أعلى درجاتِ الفخرِ بوطنهم دون أن يتخذ هذا الفخرُ شكلَ "كبريات الألفاظ" و "القصائد" و"الأغاني" و"الشعارات" .

ارتكاز الأحكام العامة عند كثيرين على منطق (الحب) أو (الكراهية) وهو ما يقود إلى شيوع الشخصانية ((Subjectivity عوضاً عن "الموضوعية" (Objectivity) ثم يؤدى -أخيراً- إلى انطلاق الأحكام والآراء والمعتقدات من زوايا شخصيةٍ بحتةٍ .

ولاشك أن هاتين النقطتين الأخيرتين بحاجة ماسة لمزيد من الإيضاح وهو ما ستعنى به الجزئية التالية.






الفصل الثالث عشر
تمجيـد الفـرد

(نجاهد ليرضى "الجهاد" لا ليرضى "عمر بن الخطاب"…)
"أبوعبيدة بن الجراح"
أقوامُ هذا الشرق ما سئمت
شيمَ العبيدِ، وقبحت شيما
لا يحفلون بغير من رفعت
سادتُهم .. فليرفعوا الخدما.
"العقاد ..."

موضوع تمجيد الفرد من الأمورِ التي تقف على الحدِ الفاصلِ بين مناطق عديدة، لذلك فإن تناوله ينبغي أَن يتم بمزيد من الموضوعيةِ وبدون انفعال لا مبرر له، رغم أنه موضوع يدعو للانفعالِ. ولب الموضوع هو علاقة المصريين بحكامِهم (تاريخياً) وهى علاقة تختلف عن علاقة معظم شعوب العالم بحكامهم. فمصرُ التي ألّهت حكامها منذ عشرات القرون ... ومصر التي أعطت حكامها المماليك "الأبهة والسلطان المطلق والتفخيم العظيم"، لا تزال آثار منها في وجدانِ وعقولِ أبنائها وهم يقفون اليوم على مشارف القرن الحادي والعشرين.

فهل هذه "العلاقة الخاصة" بين المصريين وحكامهم أمر إيجابي يجب الاحتفاظ به، أم أنه أمر تشوبه جوانب سلبية يجب أن ننعم النظر فيها وندرسها كعيوب يجب العمل على التخلي عنها؟.. ثم ما هي الجهة المسئولة عن وجود هذه العلاقة: التاريخ؟.. أم الحكام؟ .. أم نحن أبناء هذا الوطن؟ وإذا كانت هناك سلبيات، فما هي الجهة القادرة على بدءِ مشروع العلاج؟

وهكذا، يجد القارئ نفسه (معنا) في خضم مناطق بالغة الحساسية وتحتاج لأن يكبح المرء عنان انفعالاته وهو يتدبرها ويعتمد –أساساً- على العقلِ والتفكيرِ الموضوعي الذي يتجنب الحماس الزائد والشطط.

أَما الجزئية الأولى، فأعتقد أن علاقة المصريين بالشخصياتِ العامةِ تحتاج لأن تُخلى من هالاتِ التقديس التي تكتنفها أحياناً. فحتى الحاكم فإنه ابن من أبناء هذا الوطن يتحلى بقدرات وإمكانات عقلية ودراية وخبرة وموضوعية واتزان وإخلاص تجعله قادراً على تنفيذ ما هو منوط به من مهام. ويعني ذلك أن العلاقة يجب أن تكون مؤسسة على هذه الأرضية وأن تخلى مما يشوبها من أبعاد تضرب جذورها في التاريخ الطويل لهذا الوطن وبالذات للتاريخ الفرعوني والمملوكي.

فنحن إذن نخرج بالعلاقة من كونها (مهمة بالغة الأهمية) إلى صيغة عاطفية نحيطها بهالاتٍ من التقديسِ والارتفاعِ عن أرضِ الواقعِ. ونحن نفعل ذلك -بنفس الكيفية- مع كل حكامنا. ويقيني، أن "الحاكم" ليس هو مصدر هذه الظاهرة، وإنما هي "ظاهرة" ذات جذور عميقة في وجداننا بشكلٍ يجعلها تتكرر -منذ قرون عديدة- وبنفس الكيفية مع أشخاص مختلفين.

وهناك الكثير الذي يمكن أن يقال عن أثرِ العهد المملوكي على تكوين الشخصية (أو العقلية) المصرية في هذا المجال بالتحديد، ولكن ذلك سيخرجنا عن المحور الذي يدور حوله اهتمامُنا. فنحن نزعم أن هناك شبه اتفاق تام بين المثقفين في هذا الوطن على أن علاقة "الحاكم بالمحكومين" والموجودة في الديمقراطيات المستقرة هي هدف نتطلع لأن نبلغه. وإن هذه العلاقة تقوم على أساس أن الحاكم يقوم بمهمة وأنه مسئول عن تحقيقِ أهداف هذه المهمة دون أن ننتقل به إلى مكانة غير واقعية محاطة بالتقديس المبالغ فيه والذي يخرج بالعلاقةِ عن الحدودِ التي يسمح بها الزمن وتطور الديمقراطية.

ونحن هنا لا نبسط الأمور بتوجيه الاتهام لأحد، فالتاريخ هو الصانع الأول للظاهرة التي نتناولها، ونحن (الشعب) الجهة الأساسية التي تنبع منها هذه الظاهرة. والمثقفون في هذا الوطن يأملون أن يحدث تطوير في هذه الجزئية بحيث تتحول العلاقة إلى ما يشبه "علاقات العمل" وإن كانت "علاقة عمل" على أعلى درجة من الأهميةِ.

وأما الجزئية الثانية، فتتعلق بآلية إحداث التغيير في هذا الشأن. ورغم تسليمي بأن "المحكومين" في هذا الوطن هو مصدر "الظاهرة" إلاَّ أَن التغيير يبقى مستحيلاً ما لم يبدأ من قمة الهرم المجتمعي، إذ أن البدء من القاعدةِ مستحيل لعمقِ الظاهرة ومدى اتساعها.

وأَعنى، أَن رأس المجتمع هو القادر على البدءِ في بث قيم أخرى مختلفة في هذا المجال: قيم تناسب حقيقة العلاقة بين الطرفين (كما آلت إليه مع التطور الإنساني) وتناسب القيم التي استقرت في المجتمعات ذات الحظ الوافر من الديموقراطية.

ولا شك أن بدء هذه المهمة من قمة المجتمع يجب أن تتبعها تغيرات في برامجِ التعليمِ والإعلامِ تبث (بهدوء وعقلانية) القيم المعاصرة للمجتمعاتِ المتقدمة في هذا الشأن.








الفصل الرابع عشر
ثقافة عدم الرحيل

رغبةُ الإنسانِ (بوجهٍ عامٍ) في البقاءِ في موقعٍ متميّزٍ هي "رغبةٌ إنسانيةٌ". ولكن "درجةَ التمسكِ بهذه الرغبةِ" هي "ظاهرةٌ ثقافيةٌ ذات دلالاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ وذهنيةٍ". وقد راقبتُ هذه الظاهرةَ عبر سنواتٍ عديدة نظراً لأنني كنتُ حسنَ الحظِ عندما أمضيتُ في مؤسسةٍ عالميةٍ نحو عقدين من الزمان رأيتُ خلالهما عكسَ ما هو سائد اليوم في واقِعنا المصري. فخلال ربع القرنِ الأخير تصاعدت بشكلٍ كبيرٍ وحادٍ رغبةُ - معظم - من تواجدوا في مواقعٍ متميّزةٍ في عدمِ تركِها بدرجةٍ (نسبيةٍ) أعلى بمراحلٍ (وبكثيرٍ) مما كانت الأمورُ عليه قبل ذلك عندنا، وأعلى بمراحل (وكثير) مما هي الأمور عليه في المجتمعاتِ التي تشهد حِراكاً سياسياً وإجتماعياً- أي في المجتمعاتِ ذات النصيبِ الأوفر من الديمقراطية. و كان من دروس التواجد في بيئة مؤسسية أوروبية بالغة التقدم أن أرى القوانين التي صنعتها الحضارة الغربية متجسدة أمامي و أهمها:
 شيوع ثقافة عامة تقوم على أن المؤسسةَ وليس أي فردٍ (أيا كان) هو سبب نجاح هذا الكيان الاقتصادي العملاق.
 شيوع ثقافة تقوم على أن البقاءَ في ذاتِ المنصبِ لا يمكن أن يكون مكافأةً على "الأداء المتميز". لأن الإيمان بأن (كل إنسان يوجد من يحل محله) هو أكثر صحية للتنظيم والمؤسسة من الإعتقادِ بأن من حقِ من يجيد عمله وتحسن نتائجه أن يبقى في موقعهِ.
 البقاءُ في أي منصبٍ كبيرٍ يجب أن يكون لفترة ما بين ثلاث وخمس سنوات.

 ما من إنسانٍ إلاَّ ويتقاعد عند بلوغ سن التقاعد ولو كان أذكي وأعلم وأقدر خلق الله قاطبة. ومنذ القرن التاسع عشر لم تمد هذه المؤسسةُ العملاقة عملَ أحدٍ بلغ سن التقاعد.

وفي المقابلِ، فقد شاعت في واقعنا خلال ربع القرن الأخير "ثقافةُ عدمِ الرحيلِ" :فروؤساء النوادي… ونقباء المهن… وروؤساء الأحزاب…وكل من هو "الأول" في موقعٍ من المواقعِ المتميزة يريد الخلودَ في موقعِه. وأصبح الناسُ يتحدثون عن "الوزير السابق" وكأنه "المرحوم" أو "الفقيد"، وأصبح تركُ منصبٍ أمراً ذا دلالةٍ على "عدم الرضى السامي" أو "سوء الأداء" أو "ما هو أسوأ من ذلك من الموبقات". وكما ذكرت في مستهلِ هذا الفصل، فإن الرغبةَ في البقاءِ في المواقعِ المتميّزةِ ظاهرةٌ إنسانيةٌ. إلاَّ أن استفحالَ الرغبةِ بالشكلِ الشائعِ في واقعنا اليوم هو الظاهرة التي تحتاج للنظر (وربما المعالجة).

منذ أكثر من ربع قرنٍ خرج الرئيسُ فرانسوا ميتيران من منزلِ الرئيسِ الراحلِ أنور السادات وهو يقول له أنني ذاهب الآن للقاء الأستاذ محمد حسنين هيكل. في أقلِ من ثانيةٍ قال الرئيس السادات: "ولكنني فصلته"!!! وقد أَسرَّ الرئيس ميتيران لأصدقاءه بعد ذلك أنه عجز عن فهمِ تعليق الرئيس السادات الفوري. فالرئيسُ ميتيران لم يقل "أنني ذاهب إلى محمد حسنين هيكل بصفته رئيساً لتحرير الأهرام" وإنما قال " إنني ذاهب لمحمد حسنين هيكل". قلت لمن روت لي تلك القصة (وهي ابنة الرئيس ميتيران التي أعلن للناس أبوته لها قبيل موته بوقتٍ غير طويل) أن إختلاف الثقافةَ والذهنيةَ هي التي جعلت رجلاً مثل أبيكِ يعجز عن فهمِ كلماتِ السادات:"ولكنني فصلته!". إن السادات (شأنه شأن العديدين من أبناء واقعنا) إعتقدَ أن قيمةَ "محمد حسنين هيكل" هي معادلُ "منصب رئيس تحرير الأهرام". فإذا كان ذلك كذلك، وكان الرئيس السادات قد فصل "هيكلاً"… فإن النتيجة الطبيعية تكون أن ميتيران كان يرغب في زيارة "العدم"!! وهو ما يخالف الحقيقة. فرغم اختلافي مع الأستاذ هيكل في معظم المسائل السياسية، فأنا أعرفُ أنه (صحافي بلا نظير اليوم في المجتمعات الناطقة باللغة العربية). وأعرفُ أن كل من يهاجمونه اليوم إنما يفعلون ذلك لارضاء أشخاص (هم أصحاب فضل على هؤلاء المهاجمين ، كما أن هؤلاء المهاجمين "ممتنون" لأصحاب الفضل عليهم إمتناناً فاض فيضاناً واسعاً)… وأعرفُ ماذا سيحدث لو ذهب أيٌّ من هؤلاء (الذين يهاجمون الأستاذ هيكل) لناشرٍ عالميٍّ يعرض عليه كتاباً له لنشره عالمياً (كما تنشر مؤلفات الأستاذ هيكل) (!!)
رغم خلافي في معظمِ المسائلِ السياسيةِ مع الأستاذ هيكل ، فأنا الذي كنت أشاركُه الطعامَ في أحد مطاعم لندن منذ سنوات قليلة عندما إتصل تليفونياً بالقصرِ الملكي الأسباني يطلب موعداً مع الملك خوان كارلوس (بعد غدٍ!)… وبعد 15 دقيقة دق الهاتفُ وجاء تأكيدُ الموعد (سيكون جلالة الملك سعيداً بمقابلتك يا أستاذ هيكل بعد غد في القصر الملكي في مدريد). هذا "واقع" .. كما أن وجود مؤلفات للأستاذ بلغاتٍ أُخرى وصلت لعشرات الملايين من القراءِ في مشارق الأرض ومغربها هو أيضاً "واقع" .. وكذلك فإن حدوث ما أعلم أنه سيقع لو أن معظم مهاجمي الأستاذ هيكل اليوم تقدموا بنص من تأليفهم لناشر عالمي هو أيضاً "واقع"…… وأخيراً…… فإن تصنيف كتابات مهاجمي الأستاذ هيكل اليوم على أنها (من باب الاستغراق في الإمتنان لبعض أصحاب الفضل) هو أيضاً "واقع".
الشاهد: أن واقعنَا اليوم يرى درجةً من إرتباط "القيمة" بالموقع ربما تكون الأعلى في دنيانا المعاصرة. هذه الدرجة، تجعل الأستاذ (م.م) "نائب رئيس حزب الأمس!" يخون زميله ورئيس حزبه (أ.ن) لحساب "فلان" .. مطبقاً (بشكلٍ عمليٍّ) بيت المتنبي المعروف:


أكلما إغتالَ عبدُ السوءِ سيدَه
فله في أرضِ مصرَ تمهيدُ.

وأستاذ القانون وعميد كلية الحقوق الأسبق يقاتل (بالمعنى الحرفي للإقتتال، بما في ذلك الهجوم على خصومه بالأسلحة النارية) ليبقي رغم إرادةِ أعضاءِ الحزب رئيساً له ولهم (!!) .. وهو الحزبُ الذي كان أولُ رئيسٍ له يفوق في شعبيته (وهو بدون أي منصب رسمي) شعبية ملك مصرَ ورئيس حكومتها.

وفي نادي رياضي شهير بالقاهرة تتكرر "مناظر" الاقتتال (الفعليّ) من أجل رئاسة النادي.

وهناك عشرات ومئات الأمثلة على أن أحداً لا يقبل أن وجودَه في موقعٍ متميّزٍ هو "بطبيعةِ الحالِ" (أمرٌ مؤقت .. ولأجل).

نشرت "دارُ الهلال" حديثاً كتاباً عن حكامِ مصرَ منذ أكثر من خمسة آلاف سنة أي منذ موحد القطريين الملك مينا (مؤسس الأسرة الأولى سنة 3100 قبل الميلاد) قمت بإحصاءٍ بسيطٍ فوجدت أن هؤلاء الحكام ينقسمون لثلاث مجموعات متساوية في أعدادها:
- مجموعة الذين أُزيحوا عن/من السلطةِ.
- مجموعة الذين ماتوا وهم في السلطةِ.
- مجموعة الذين قتلوا وهو في السلطةِ.

بحثت عن أفراد يكونون مجموعة رابعة هي "مجموعة الذين رحلوا" فلم أجد أحداً. وربما يقتضي المقام أن أذكر ما يلي: يوم الأربعاء 8 أكتوبر 1917 توفي حاكمُ مصرَ السلطان حسين كامل. عُرض العرش على ولي عهده الأمير كمال الدين حسين .. فرفض تولي حكمَ مصرَ .. فذهب العرشُ للأمير "الدون" أحمد فؤاد (الشقيق الأصغر للسلطان حسين كامل). وقد سألت في محاضرة عشرات الطلاب الذين يدرسون التاريخ عن إسم رجلٍ عُرض عليه عرشَ مصرَ منذ أقل من مائة سنة فرفض هذا العرش .. فلم يعرفه واحدٌ من دارسي التاريخ الذين كنت أحاضر لهم. لماذا لم يذكره أحد؟ .. لأنه في ثقافتنا "معتوه" .. ولا أدل على ذلك من رفضه العرش .. فكان جزاؤه (النسيان) وأن بدا لرجل مريض بالمثالية (بطلاً من أبطال الإرادة الإنسانية). أما ماذا قصدت بكلمة (الأمير الدون) فهو ما قصده بيرم التونسي الذي سخّر من أن يجلس أحمد فؤاد (وهو من أشهر رواد الكباريهات في مصرَ) على عرش بلد الفراعين العظام. يقول بيرم التونسي (ولما عدمنا بمصر الملوك/ جابوك يا فؤاد الإنجليز قعدوك/ على العرش تمثل دور الملوك/ وفين يلقوا زيك خاين ودون؟).

يردد صديق لي (فيلسوف) دائماً عبارة فذة وهي (أن الأجوبة عمياء- والأسئلة مبصرة)…… وهاأنذا أسأل مؤرخينا الأفاضل: ما هو تفسيركم العلمي لظاهرة شيوع وذيوع واستفحال "ثقافة عدم الرحيل " في واقعنا حتى وصلنا لمعركة "جمعة" المشهورة بالأسلحة النارية الخفيفة!









الفصل الخامس عشر
ثقافـة الموظفيـن

إن فاتك (جاءك) الميري، اتمرغ (تمرغ) في ترابه.
"مثل عامي مصري"..

في كل مجتمع من المجتمعات يكونُ المناخ الثقافي مُشبعاً بعدة أفكار عن العملِ والوظائف يُشكلُ اتجاهها عنصراً من عناصرِ المناخِ الثقافيِ العام. فماذا عن هذا البعد في "عقلِنا المصري"؟

إن نظرةً سريعةً لتاريخِنا الممتدِ عبر قرونٍ عديدةٍ تثبت أن (العملَ للحاكمِ أو للأميرِ أو للحكومةِ) كان دائماً شيئاً بالغَ القيمةِ والأهميةِ في ذهنِ وعقولِ وتفكيرِ المصريين …. إن نظرةً سريعةً لتاريخِ مصرَ كما كتبُه مؤرخون ثقاةٌ مثل المقريزى وابن إياس (صاحب أوثق تاريخ للحقبةِ المملوكيةِ التي امتدت بشكلٍ سافرٍ حتى سنة 1517 وهى السنة التي قُتلَ فيها طومان باي بعد دخولِ الجيش العثماني لمصرَ بقيادةِ السلطان سليم شخصياً وصيرورة مصرَ "ولايةً عثمانيةً"..) إن نظرةً سريعةً لهذهِ الكتاباتِ التاريخيةِ الرائعةِ تُثبت أن (العملَ للحاكمِ أو للأميرِ أو للحكومةِ) كان دائماً شيئاً قيماً ومميزاً عند المصريين … وما أن بدأت الحكومةُ تتحول إلى شكلٍ عصريٍّ من أشكالِ الإدارةِ في عهدِ محمد على حتى تعاظمتُ قيمة أن يعمل المصري في عملٍ مرتبطٍ بالحكومةِ ... أو بالأميرِ... وهو مصدر كلمة (أميري) أو ميري التي كانت دائماً ذات دلالةٍ واضحةٍ...الموظف الميري... والثياب الميري... وكل ما هو (ميري)، كان دائماً ذا دلالةٍ واضحةٍ ومميزةٍ.

وإذا كانت الأمثالُ الشعبية هي ترجمةً واضحةً ودقيقةً لمكوناتِ عقلِ الجماعةِ، فإن كتابَ الأمثالِ الشعبيةِ المصريةِ لأحمد باشا تيمور يقفُ شاهداً بما احتواه من أمثلةٍ عن قيمةِ وأهميةِ العمل تبع الحكومة عند المصريين الذي عبّرُوا عن حبِهم الشديد للارتباطِ مدى الحياة بالعملِ الميري والذي جاءت الأمثلةُ لتبالغ في تصويرِه عندما تحدثت عن روعةِ التمرغ في ترابِ الميري أي الأميري أي الحكومي.

ومن هذا الارتباط الوثيق بين المصري والميري، نبتت عدةُ مفاهيمٍ صارت كالمسلماتِ، لعل من أهمِها ما يلي:
• أن التوظفَ الحكومي أرقى وأكرم من التوظفِ للقطاعِ الخاص.
• أن التوظفَ الحكومي هو (الضمانةُ الكبرى) في مواجهةِ مخاطرِ الرزق والحياةِ.
• أن التوظفَ الحكومي أفضلُ من التوظفِ للقطاعِ الخاصِ حتى لو كان مردودُه المادي أقلَ بكثيرٍ.
• أن التوظفَ الحكومي مصدرُ "وجاهةٍ اجتماعيةٍ" لاسيما عندما يرتقي الموظفُ العام لقممِ الوظائف العامة، وهذه الوجاهةُ الاجتماعية بالذات أصبحت عبر السنين مصدرَ "قيمة عظمى" عند المصريين.
• أن "الاستقالةَ" و"تغييرَ العملِ" هما من الأمورِ نادرةِ الحدوث نظراً لأنهما ينطويان على إخلالٍ جسيمٍ بالمفهومِ المستديمِ للوظيفةِ العامةِ، لدرجةِ أن المجتمعَ أصبح ينظر للمستقيلِ نظرتَه للمغامرِ أو الطائشِ الذي لا يحسن تقديرَ الأمورِ.
وقد قصَّ على أحدُ الأصدقاء وهو مؤلفٌ لأكثر من خمسين كتابً نصفها عن الحضارةِ المصريةِ القديمةِ والنصفُ الآخر عن الآدابِ الأوروبيةِ الحديثةِ أنه عندما قدم استقالته من العملِ الوظيفي وهو وكيل وزارة النقل قام رئيسُه بتمزيقِ الاستقالة في موقفٍ يعبرُ عن أنه إنقاذٌ له من مغبةِ ورقةٍ طائشةٍ لابد أن صاحبَها قد سطرَها في لحظةِ إحباطٍ أو غضبٍ أو طيش! وهذا المؤلف هو الأستاذ/ مختار السويفي الذي أَصرَ على قرارِه وعلى تفرغهِ للتأليفِ والكتابةِ. وهناك عشرات الأمثلة المشابهة والتي تعبرُ كلُها عن "عمقِ قيمةِ الوظيفةِ الحكوميةِ الآمنةِ والمستمرةِ" عند معظمِ المصريين.

وربما لا توجد قصةٌ تدلُ على عمقِ هذا المفهومِ من حوارٍ دار بيني وبين شابٍ كنت أعلم أنه يعملُ بإحدى الصحف إلاَّ أنه أدهشني بقوله أنه ما زال لا يعمل ... فلما سألته عن عمله بالجريدةِ التي كنت أعلم أنه يعملُ بها قال لي (أنا لم أثبت بعد ...يعني لا أعمل) . . . وهكذا فإن العملَ الذي يقومُ به والأجر الذي يحصلُ عليه ليسا في اعتقادِه دليلاً على أنه يعمل لأنه (غيرُ مثبتٍ) وهي حالة تعبر بوضوحٍ كاملٍ عن مفاهيمٍ إداريةٍ ثقافيةٍ تنبعُ كلُها من دائرةِ الوظيفةِ الحكوميةِ.

ولكن من المؤكدِ أن المستقبلَ لن يكون -في هذا المجالِ- صورةً مكررةً من الماضي. فمن المؤكدِ أن دورَ الدولةِ الواسع في الحياةِ الاقتصاديةِ والذي بلغ قمةَ اتساعِه في مصرَ في الستينيات سوف يكون مختلفاً تماماً في المستقبلِ القريبِ. فالدولةُ التي كانت بمثابةِ (ربِ العملِ) للسوادِ الأعظمِ من المصريين، لن تكون كذلك في المستقبل. وسيقتصر دورُ الدولة -كما ذكرت- على وضعِ السياساتِ والتشريعاتِ ومراقبةِ تطبيقها. أما الأنشطةُ الاقتصاديةُ الإنتاجيةُ والخدميةُ فسيتحول معظمُها للقطاعِ الخاصِ، وستكون فرصُ العملِ لدى الحكومةِ أو القطاعِ العام في انحسارٍ مستمرٍ. وفى المقابلِ، فإن معظمَ فرصِ العملِ الجديدةِ ستكونُ فرصاً يطرحُها القطاعُ الخاصِ.

ولاشك أن ذلك سيعني - فيما يعني- ذبول العديدِ من المفاهيمِ الإداريةِ التي كانت تنبعُ من كونِ الأغلبيةِ تعملُ لدى الحكومةِ. ولاشك أن مفاهيماً أخرى جديدة سوف تبرز وتصبح هي (الأساسَ) للثقافةِ الإداريةِ الشائعةِ في المجتمعِ.

فما هي أهم ملامح تلك المفاهيم التي يعتقد أنها ستصاحبُ وتواكبُ تحولَ المجتمعِ لاقتصادِ السوقِ؟

من الممكن الاسترسال في العديدِ من ملامحِ هذا التغييرِ، ولكنني أفضلُ الإيجازَ والاقتصارَ على بعضِ (لا كل) المفاهيمِ المتوقعِ أن تكوّن ما نسميه بثقافةِ المستقبلِ الإداريةِ:

فرصُ العملِ بين احتياجاتِ السوق الفعليةِ والمؤهلات الدراسية:
بينما تحكم سوق الوظائف نوعية وخلفية المؤهلات الدراسية للشخصِ في نظمِ الاقتصادِ الموجه، فإن نظم إقتصاد السوق تنطلق في هذه الجزئية من زاوية مختلفة وهى حقائق واحتياجات السوق وهو ما ينعكسُ على المدى الطويلِ على البرامجِ الدراسيةِ وتوجهاتِ الأشخاصِ الذين يأخذون في الاعتبارِ حقائقِ السوقِ قبل أي اعتبارٍ آخر.

تراجع عددِ الوظائف التي تستغرق الحياةَ العملية للإنسان:
منذ سنوات غير بعيدة كان أشخاص عديدون يقضون عمرهم العملي أو الوظيفي في مكان عملٍ واحدٍ ولكن من المؤكد أن حقائق الحياة الاقتصادية العصرية لن تسمح بالعديدِ من هذه الحالاتِ حيثُ سيكون من الصعبِ تصور وجود وظيفة لمدى العمر العملي لأعدادٍ كبيرةٍ من الناسِ وقد بدأت مجتمعات عديدة تشهد ظاهرة تنقل الإنسان في حياته العملية من وظيفةٍ لأخرى ومن مجالِ عملي لمجالٍ آخر، ومع ذلك فمن الضروري أن نذكر أن المناخ الحضاري والثقافي يلعب دوراً هاماً في ما يتعلق بهذه الجزئية ولا أدل على ذلك من النموذج الياباني.

ذبول واندثار مفهوم "الأقدمية" الذي نشأ واستقر في ظل الوظيفةِ العامة:
كان شغل الوظائف الكبرى في مجتمعنا، مثله مثل العديد من المجتمعاتِ، على أساسٍ من مفهوم الأقدمية الذي رسخ في مفاهيمنا الإدارية لسنواتٍ طويلةٍ ولكن حقائق الإقتصاد المعاصرة تؤكد أن تولى الوظائف العليا سيكون في المستقبل لأسبابٍ ليس من بينها الأقدمية.

ذبول واندثار أهمية (السن) و(المؤهل الدراسي) كمعيارين أساسيين للعديدِ من الوظائفِ. وفى المقابلِ، فإن المستقبلَ سيشهدُ حالاتٍ عديدةٍ يرأسُ فيها من هم (أصغر سناً) أشخاصاً في سنٍ أكبرْ… كما سيشهدُ المستقبلُ حالاتٍ عديدة يرأس فيها أصحابُ مؤهلاتٍ دراسيةٍ ما أشخاصاً يحملون درجاتٍ علمية أكبر وأعلى، وهو الوضع الشائع في المؤسساتِ الاقتصاديةِ العالميةِ الكبرى كالشركاتِ متعددةِ الجنسياتِ، حيث يكون المعّول على (الكفاءة) كما تُعبر عنها النتائجُ لا كما تُعبر عنها (الأوراقُ).

تعاظم قيمةِ (الكفاءةِ الشخصيةِ) Personal Competence محل القيم التي تأخذ طريقها للاندثارِ مثل قيم (السن) و(الأقدمية) و(مسميات الدرجات العلمية).

تعاظم أهمية قيم جديدة مثل:
أ- القدرة على الاتصالات. Communication Skills.
ب- القدرة على القيادة. Leadership Ability.
ج- التمييز بين فئة الـ Generalist وفئة الـ Specialist.
د- التمييز بين الأداء Performance والقدرة Potential.

كذلك سينحسرُ دورُ القياداتِ الإداريةِ ذات الأبعادِ المحليةِ (Localized) لصالحِ القياداتِ الإداريةِ ذات البعد الدولي، وهي نتيجةٌ طبيعيةٌ لنظمِ العولمةِ (Globalization) ولاتفاقياتِ الجات وما يماثلها من نظمٍ تهدفُ للتقليلِ من الحمائيةِ وتعظيمِ المنافسةِ.


الفصل السادس عشر
معتقدات هدامة

١

كنت – أعتقدُ أن "قبولَ النقدِ" وشيوعَ مُناخٍ ثقافي (وفكري) عام يهتم بالنقد ويأخذه مأخذَ الجدِ ولا يتخذ أمامه "موقف الدفاع الوجداني عن الذاتِ" وكذلك ممارسة النقد الذاتي بدون موانعٍ أو حواجزٍ أو تحفظاتٍ أو مناطقٍ محظورة – كنت - لعدةِ سنواتٍ - أعتقدُ أن هذه هي البدايةُ الفعلية للسيرِ على طريقِ التقدمِ . وكنت - ولا أزال - أؤمن بأن تعبير الفيلسوف الألماني الشهير كانط (أَن النقدَ هو أهمُ "أداةِ بناءٍ" ابتدعها العقلُ الإنساني) هو تعبيرٌ بالغ الصواب والحكمة. ولكن أحداث منطقتنا خلال السنواتِ الأخيرة جعلتني أرى أن هناك خطوةً أُخرى تسبق هذه الخطوة (خطوة قبول وممارسة النقد على أوسعِ نطاقٍ) وأعني "زوال ثقافة النفي". وأقصدُ بثقافِة النفي ما شاع في حياتنا خلال العقودِ الأخيرةِ من نفي متواصلٍ لمسئوليتنا عن عيوبِنا ومشاكِلنا وأزماتِ واقعنا (سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً وأعلامياً وتعليمياً). فمن غير المتصور قيامنا بعمليةِ نقدٍ إيجابيةٍ شاملةٍ للأخطاءِ والعيوبِ التي شابت واقعَنا خلال نصف القرن الأخير ما لم يسبق ذلك توفرُ القدرِة على التخلي عن "النفي الدائم لوجودِ أخطاءٍ وعيوبٍ محددةٍ". فالطريق الصحيح للخروجِ من أزمتنا يمر بمرحلةٍ أولى نُسقط فيها ذلك النفي (الذي يتخذ صوراً إيجابيةً أحياناً عندما نصرح بالنفي ويتخذ صوراً سلبيةً في الكثيرِ من الحالاتِ عندما يكون النفي ضمنياً أي في شكلِ سكوتٍ عن إعلانِ الأخطاء والعيوب) ... وتلي ذلك مرحلة نقدٍ موضوعي يتعامل مع الأخطاءِ والعيوبِ ولا يكون نقداً شخصانياً يقصد به تجريح أشخاصٍ بعينهم – فمصرُ كلُها شريكةٌ فيما يعتري واقعَها وحياتِها من أخطاءٍ وعيوبٍ ومن غير المفيد أن يتخذ النقدُ أشكالاً شخصانيةً ...ثم تلي هاتين المرحلتين مرحلةُ وضعِ تصوراتٍ واضحةٍ للحلولِ. وفي إعتقادي أن القفزَ إلى المرحلةِ الثالثةِ (مرحلة وضع تصورات للحلول ) بدون المرور الكامل بمرحلتي إسقاطِ ثقافةِ النفي وممارسةِ عمليةِ نقدٍ موضوعي شاملٍ لسائر أخطاءِ وعيوبِ حياتنا (وهو ما يتبعه كثيرون اليوم في واقعنا) لا يمكن أن يحقق الغايةَ المرجوة والأهدافَ المنشودة. ومن المفيدِ هنا - في تصوري - أن نستعير منهجاً هاماً من مناهج تقنياتِ الإدارةِ الحديثة، إذ تستلزم عملية "إدارة الجودة" (Quality Management ) وجود ثلاث عملياتٍ: مراجعـة ما تـم مـن منظور الجودة ( Quality Audit ) وهو ما يقابل ما أُسميه هنا بإسقاطِ ثقافةِ النفي، ثم مراجعة ما هو في طور التنفيذ من منظورِ الجودة (Quality Assurance ) وهو ما يقابل العملية الثانية التي أدعو لها وهى عملية ممارسةِ نقدٍ كاملٍ وشاملٍ (موضوعي) لسائر ما هو سائد في حياتنا وواقعنا، ثم وضع تصوراتٍ للمستقبل تقوم على مستخلصات ودروس العمليتين الأوليين ويطلق على ما يقابل هذه المرحلة في تقنيات علوم الإدارة الحديثة "تخطيط الجودة" (Quality Planing ) أي وضع نظمٍ وسياساتٍ جديدةٍ إستفادت من عمليةِ مراجعةِ ما تم (مراجعة نقدية) ومن عملية مراجعة ما هو سائد وقائم (أيضاً مراجعة نقدية).

وكما ذكرت من قبل، فقد علمتني عشرون سنة من التعاملِ الوثيق مع كبرياتِ مؤسساتِ المجتمعاتِ الأكثر تقدماً في أوروبا الغربية وشرق آسيا وأمريكا الشمالية أن وجودَ عددٍ كبيرٍ من الإيدولوجيين في أي مجتمعٍ يكون دائماً حائلاً وعائقاً يمنع مرور المجتمع بهذه المراحل من مراحلِ الإنطلاق على دروبِ التقدم. بل أنني لمست في كلِ المجتمعات الأكثر تقدماً وجود نظرة للإنسان الإيدولوجي تشبه النظرة لمريضٍ يجب دراسة وفهم حالته ومحاول علاجها: فلا يوجد مجتمع واحد متقدم على ظهر الأرض اليوم تتكون النخبةُ القائدة والرائدة فيه من أيدولوجيين. فمشكلاتُ الحياةِ المعاصرة يكون حلها عن طريق العلم والحلول التي نجحت في أماكن أخرى وليس الحلول المستقاة من عقلٍ أو تفكيرٍ أيدولوجي. وبتعبير أبسط، فإن للتقدم "روشتة" من القيمِ والنظمِ والسياساتِ تنبع من التجاربِ الناجحة ولا تنبع من "منهج أيدولوجي". ومكونات (عناصر) "روشتة التقدم" بقدر ما أنها بعيدة كل البعد عن أن تكون منبثقة من "منهج أيدولوجي" فإنها مكونات إنسانية أكثر من كونها أوروبية أو غربية أو مسيحية أو يهودية. ولا أدل على ذلك من إحتواء تقرير التنمية البشرية الذي أصدره مؤخراً برنامج الأمم المتحدة الانمائي UNDP عن عام 2003 يظهر أن الدولَ الخمس وعشرين الأولى في العالم تنتمي لخلفياتٍ حضاريةٍ وثقافيةٍ مختلفة فمنها ما هو أمريكي وما هو أوروبي غربي وما هو آسيوي ياباني وما هو آسيوي صيني وما هو آسيوي مسلم مثل ماليزيا وما هو يهودي مثل إسرائيل وهو ما يثبت ما أكرره دائماً أن "روشتة التقدم" إنسانية في المقامِ الأول (ولا ينفي عنها ذلك أنها نبتت أول ما نبتت في العصورِ الحديثةِ في ظلالِ النهضةِ الأوروبيةِ الغربيةِ). وأؤمن أن أَنا إذا بلا حدود أن شيوعَ العقل الإيدولوجي في النخبِ المؤثرةِ بأي مجتمعٍ هو حائلٌ مهول بين هذا المجتمع والتقدم ؛ لا سيما وأن "الإيدولوجي" بطبيعته مجبول على الدفاعِ المستميت عن الذاتِ والتصرفاتِ وهو ما لا يسمح إطلاقاً بإسقاطِ ثقافةِ النفي … كما يجعل القدر الممارس من النقد ضئيلاً وأحياناً هزلياً إذا يكون محتوى النقد نوعٌ من مديحِ الذاتِ والهجومِ على الآخرين.

وإذا كان البعضُ يتصوّر أن زوالَ "ثقافةِ النفي" و "ذيوع ثقافة قبول وممارسة النقد" هي عمليةٌ ثقافية وتعليمية تحتاج لقرونٍ لتأصيلها وشيوعها، فإنني أُعارض ذلك كليةً وأقول أن دليلَهم يُستقى من "الفكرِ" أما دليلي فُيستقى من "الواقعِ" : فهناك (اليوم) ثمان مجتمعات آسيوية متقدمة أسقطت ثقافة النفي وأشاعت ثقافة قبول وممارسة النقد خلال الأربعين سنة الأخيرة فقط (وفي حالةِ بعضٍ منها مثل كوريا الجنوبية وماليزيا فإن هذه المدة تقلصت إلى نحو عشرين سنة فقط).

ونظراً لأنني أَوليت فوائدَ وعوائدَ ثقافةِ قبولِ وممارسةِ النقد الموضوعي مساحات غير قليلة في كتاباتي، فإنني أُركز الآن على مجموعة من الأمثلة توضح لأي حدٍ نسبحُ مع "ثقافةِ النفي" أما بشكلٍ إيجابي يتمثل في القيام بعملٍ أو قولٍ واضحٍ يشخصّ نفينا لحقائقٍ يراها العالمُ وننفيها نحن جهاراً ، وأما بشكلٍ سلبي يتمثل في "الصمت" كشكلٍ من أشكال التعبير عن "ذهنية النفي":

يذخر العالمُ (الخارجي) بما في ذلك من كنا نصفهم بالأعداء (كالبريطانيون والأمريكيين) وأيضاً من كنا نصفهم بالأصدقاء (كالروس والهنود والصينين واليابانيين والفرنسيين) بكتاباتٍ ودراساتٍ وبحوثٍ توضح كم كان "أنور السادات" محقاً وصائباً وحكيماً في الخط الذي إتخذه في التعامل مع الصراع العربي/الإسرائيلي لا سيما إبان سني حياته الأربع الأخيرة...وفي المقابل فإن هذه الكتاباتِ والدراساتِ والبحوث تدمغ بالخطأ الإستراتيجي الدول (والقيادات والنخب) العربية التي لم تكتف فقط بمعارضة النهج الساداتي بل واجتمعت في بغداد (يا لهول السخرية التاريخية !! ) في سنة 1978 لتعلن قرارات المقاطعة والمعاقبة للساداتِ ومصرَ بل وقتل أحد وزراءه (يوسف السباعي) لمجرد أنه شارك في زيارةِ السادات للقدس في نوفمبر 1977. ورغم أن حالَ الذين فعلوا ذلك الآن "تراجيدي" ورغم أن معظم الذين شاركوا في موكبِ العداءِ للساداتِ يومئذ قد ساروا على دربه (بكفاءةٍ أقل) وصرح عديدون منهم أنه كان من الخطأ عدم مشاركة السادات فيما كان يفعل، بل وصرح أمير الرياض منذ سنوات قليلة (وهو أخ الملك خالد الذي قال في سنة 1977 أنه يتمنى لو كان بوسعه إسقاط طائرة السادات المتجهة للقدس) أن السادات كان على حقٍ وصوابٍ وكان من الخطأ معارضته...رغم كل ذلك، فإن "ثقافة النفي" تجعل معظمنا يتجاهل هذه الحقيقة، وهي أن السادات كان على صوابٍ وأن ناقديه ومهاجميه كانوا على خطأ في الرؤية الحسابات. ولا تفسير عندي لوجود تجسيد قوي لثقافة النفي هنا إِلاَّ شيوع المنهج الإيدولوجي (القومي أو الناصري أو الإشتراكي أو الأخواني). وينطبق نفس الشيء على محطتين من محطاتِ الصراع العربي/الإسرائيلي: فرغم أن الجميع يتمنى لو يُعرض علينا اليوم قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة في سنة 1947 فإن ثقافة النفي القوية تجعلنا (في العلن) نتجنب الحديث في هذه المسألة ... كذلك فرغم أننا لو نجحنا اليوم في إعادةِ الجولان كاملةً لسوريا وأخرجنا الضفةَ الغربيةِ من قبضةِ إسرائيل وجعلنا القدسَ الشرقيِة غير إسرائيلية وأعدنا سيناء لمصرَ (وهو الشيء الوحيد الذي تحقق من كل ذلك) فلن نكون قد حققنا أكثر من تصحيح عواقب وخسائر أداءنا في شهري مايو ويونية 1967 – وحتى لو آمن البعضُ أن مصرَ تم اصطيادها للدخول في النفق الذي بدأ في مايو 1967 وانتهى في 7 يونيه 1967- فان من أهم مسئوليات القيادة ألا تمكن أحداً من إصطيادها. ومع ذلك فإن كتاباتنا وصحفنا وسائر المحاضرات والبرامج التليفزيونية والإذاعية حاشدةٌ بشكل من أشكال "ثقافة النفي" يتمثل في الصمت تجاه هذه الحقائق وعدم الاقتراب منها – بينما لا تخلو دراسةٌ في العالم (عند – من كانوا أَعداءاً وعند من كانوا أصدقاءاً) من دمغ أداءنا في كل هذه الحالاتِ (1948- 1967- 1977) بالأداء المعيب والخاطئ – أما نحن فأذُن لدينا من "طين" وأذن من "عجين" (كما يقول المثلُ المصري) لأن هذا من مقتضيات "ثقافة النفي".

نحتل المرتبة العشرين بعد المائة (120) بين دولِ العالم في تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP عن "التنمية البشرية في العالم – سنة 2003" ولكن وسائل إعلامنا تبرز بعض النقاط التي تبدو إيجابية ولا تقدم الصورة الكلية لوضعنا (وهي سلبية وليس فيها ما يدعو للفخر حسب تعبير الدكتور حازم البيبلاوي) ...بل وتصدر معظم الصحف الكبرى وعناوينها الرئيسية تبرز نقطةً واحدةً إيجابيةً من التقرير وتخفي الصورة الكلية...لماذا؟ …لأن هذا من مقتضياتِ "ثقافة النفي" السائدة.

نشكو جميعاً من عدمِ وجودِ نظمِ وتقنياتِ إدارةٍ حديثةٍ تقود العمل في المؤسسات الإقتصادية (الخاصة والعامة) وتقوم العمل في كل الإدارات الحكومية وإدارات الخدمات… ونكرر ليل نهار أن لدينا مشكلة إدارة عويصة – ولكننا نكتفي بأن نقول أن شخصاً ما مريض ولا نفتح الأفواه بكلمةٍ عن حقيقةِ المرض لأنه يتعلق بدورِ الدولةِ بوجهٍ عام (والسلطة التنفيذيةِ بوجهٍ خاص) في واقعنا وحياتنا وهو دور لم يختلف ( إلاَّ قليلاً ) عن دور الدولة عندما كنا نعيش تحت شعاراتِ الإقتصاد الموجه والدولة الإشتراكية…نحن هنا مرة أُخرى ننساق مع آلياتِ ثقافةِ النفي وفي موضوع من أَهمِ وأَخطرِ المواضيع.

نعلم جميعاً أن مؤسساتنا التعليمية أصبحت تفرز خريجاً وخريجات لا تقبلهم - كل (مرة أخرى: كل) المؤسساتِ العالميةِ . فهم غير مؤهلين لعملِ الفريق (العمل الجماعي) ولا تسعفهم لغتهم الإنجليزية .. وعاشوا طويلاً مع فلسفةِ تعليمٍ تقوم على التلقين والحفظ وليس الإبداع والإبتكار...وتم حشو رؤوسهم بأن هناك "نموذج وحيد للصواب" ولم يتم إضافة الإيمان العميق بالتعددية وقيمة الحوار وقبول الآخرين والتسامح في "جسم تكوينهم العقلي والمعرفي" كما أن معظمهم لا يجيد كتابة أفكارِه أو البحث بشكل عصري.ورغم ذلك فإننا نستعذبُ الحديثَ عن إنجازاتنا في مجال التعليم ويغض معظمنا البصرَ عن عيوبٍ هيكليةٍ أساسيةٍ في نظامنا التعليمي الدليل الأكبر على وجودها رفض معظم المؤسسات العالمية في الدول الأكثر تقدماً قبول خريجينا وخريجاتنا. نحن هنا (مرة أخرى) بصدد عرض (من أعراض الأمراض) حتمي لثقافة النفي.

"أوضاع المرأة في مجتمعنا" أمرٌ يحتاج لمراجعةٍ كاملةٍ وشاملةٍ. فالمرأةُ التي هي نصف المجتمع عددياً وأكثر من ذلك بكثير من ناحية القيمة والتأثير (كأم) تحتاج أوضاعها لتناول يبدأ بإسقاط نفينا الغريب أن أوضاعها سيئة للغاية وتحتاج لمراجعة كاملة...ثم (ومن خلال عمل منهجي منظم) نعكفُ على نقدِ هذه الأوضاع لننطلق بعد ذلك لوضع تصوراتٍ وسياساتٍ ترقى بأوضاعِ المرأةِ المصريةِ لما تستحقه ولما يناسب العصر. ولكن "ثقافة النفي" تبلغ هنا مداها: فيكثر الحديثُ عن إنصافِ المرأة في تراثنا وإعطاءها ما لم تحصل عليه المرأةُ الغربية (ولا نمل هنا من الحديث عن الذمة المالية المستقلة للمرأة) ثم نعض بالنواجذ على حالاتٍ إستثنائيةٍ (ورمزية) أُنصفت فيها المرأة – وهنا، فإن ثقافةَ النفي تظلل الأمرَ كله بظلالها السوداء (الظلامية).

وفي تعاملنا مع "الفساد" نكتفي بتكرار أن الفسادَ ظاهرةٌ بشريةٌ (وهذا صحيح) وأنه موجود في كل المجتمعاتِ (وهذا أيضاً صحيح) وننسى أننا يجب أن نركز على النسبِ والمعدلاتِ ودرجاتِ تفشي الظاهرة ولا نكتفي بأحكام عمومية مثل (الفساد موجود في كل المجتمعات)...نحن نعلم ذلك كما نعلم أن "الإجرام" موجود في كل المجتمعات، ومع ذلك فهناك مجتمعات بها نسب منخفضة من الجرائم ومجتمعات بها نسب متوسطة ومجتمعات بها نسب مرتفعة – ولكن "ثقافة النفي" الشائعة تضعنا مرةً أخرى بعيداً عن طريقِ حلِ المشكلاتِ. وبوسعي أن أضرب "ألف مثال" على ترجماتٍ وتطبيقاتٍ وتجسيداتٍ واقعيةٍ لشيوعِ ثقافة النفي في واقعنا وحياتنا – ولكن ذلك سيكون من باب الإستطراد غير المطلوب: فالصورةُ واضحةٌ بالعدد القليل الذي ضربته من الأمثلة.

نحن بحاجةٍ لمؤتمرٍ أو حلقة عمل جادة تجمع النخب العقلية والفكرية والقيادات المختلفة سواء من القيادات الحكومية أو قيادات المجتمع المدني لدراسةِ مرضٍ ثقافيٍّ عضالٍ متفشي في واقعنا وحياتنا هو "مرض ثقافة النفي" والذي يمنعنا من الإنتقال لمرحلةٍ تاليةٍ من التعاملِ مع مشكلاتِ وأخطاءِ وعيوبِ واقعنا وهي مرحلة النقد الموضوعي لهذه المشكلات والأخطاء والعيوب ثم الإنطلاق للمرحلة الثالثة وهي مرحلة وضع تصوراتنا وسياساتنا لكيفية التعامل مع مشكلاتِ وأخطاءِ وعيوبِ الواقع وأخيراً مرحلة رابعة حاسمة هي مرحلة تنفيذ هذه التصورات والسياسات العلاجية – والتي قد يكون بعضها غير سليم ويحتاج لمراجعة وتصويب – وهو أمر بديهي وإنساني وهو ما برر وجود علم من علوم الإدارة الحديثة باسم علم المراجعة من منظور الجودة (Quality Audit ).
************
٢

أَسيرُ على نهجٍ يرى الناسُ غيرَه.
لكل امرئٍ فيما يحاولُ مذهبُ.
"محمود سامي البارودي . . .”

لكلِ إِنسانٍ منشغلٍ بأمورِ الفكرِ ولاسيما ما يتصل بالعلومِ الاجتماعيةِ وحركةِ وفكرِ المجُتمعاتِ مسائل تكون محلَ اهتمامِه وانشغالِه أكثر من غيرِها. ومن المسائل التي لم تغادر تفكيري منذ سنواتٍ شيوع الاعتقاد في عالمِنا العربي وواقعِنا المصري "بنظريةِ المؤامرة". فمن المؤكد أَن هُناك الكَثيرين -بالملايين- في واقعِنا الذين لا يساورهم شكٌ في صحةِ المقولاتِ التالية:

• أَن وقائعَ ماضينا القريب وحاضرنا جاءت وفقاً لمخططاتٍ وضعتها قوى كبرى وأن الواقعَ كان في معظمهِ ترجَمة عملية لهذهِ المخُططات.

• أَن هذه القوى التي صاغت تِلك المخُططات والتي سار على دَربِها ماضينا وحاضِرنا هي في الأغلبِ القوى العالمية العُظمى وبالتحديدِ بريطانيا وفرنسا في الماضي والولايات المتحدة (وابنتها إسرائيل) في الأمسِ القريبِ والحاضرِ.

• أَن مُخططاتِ هذه القوى موضوعة بشكلٍ تفصيلي وأن الأطرافَ الأقل نصيباً من القوةِ (ونحن من بينها) لم تَكن تملك (ولا تمتلك الآن) إلا أن تَنصاع لتيارِ تِلك المخُططاتِ.

أَننا -بناءً على ما سبق- غيرُ مسئولين مسئوليةً كبيرةً "عما حدث" . . . وبنفسِ الدرجة "عما يحدث" . . . ويضيف البعضُ "عما سَوف يحدث". وتلك نَتيجة مَنطقية -في رأى واعتقاد الكثيرين لتلك "المنظومة الفكرية".

وعندما يضاف "العامل الإسرائيلي" لتلك "النَظرة" تَكون الصورةُ بالغةَ "الحرارةِ" و"الإثارةِ". وإِذا انتقلنا من "العمومياتِ" "للجزئيات" كان من الطبيعي أَن يردد البعضُ -حَسب تلك "النظرة"- أَن أَكبرَ وقائعِ تاريخِنا الحديثِ ما هي إلاَّ نَتائج المخُططاتِ التي وضعتها القوى العظمى... فحرب 1956 وانفصال سوريا عن مِصرَ في سنة 1961… وحرب اليمن من سنة 1962 وكارثة 5 يونيه 1967 وعدم استكمال عملية العبور العظيمة لقناة السويس في أكتوبر 1973 حتى نحرر –عسكرياً- سيناء كلها… وزيارة الرئيس السادات للقدسِ في نوفمبر 1977 وتوقيع اتفاقية "كامب ديفيد" بين مِصرَ وإسرائيل وسقوط الاتحاد السوفيتى وانهيار "هيكل الاشتراكية" في كلِ مكان ... وانفراد الولايات المتحدة بدورِ القوى العظمى وأشياء أخرى كثيرة مثل "النظام العالمي الجديد" و"اتفاقيات الجات" وخلافه... كل ذلك ليس إلاَّ نتائج مباشرة وترجمات عملية لتلك المخُططاتِ التي يعتقد كثيرون منا أَنها وُضعَتْ من طرفِ القوى العظمى ليسير التاريخُ وفق مفرداتِها.

ومن الجدير بالاهتمامِ والتحليلِ أن الأطرافَ أو المجموعاتِ التالية تشترك في هذا المفهومِ بدرجاتٍ مُختلفةٍ:

فكل من يمكن أن يندرجوا تحت مسمى "الإسلاميين" يؤمنون إيماناً صخرياً واضحاً كضوءِ الشمس بصحةِ هذهِ المقولات والتي من مجموعِها تكتمل "نظريةُ المؤامرة"… وينضوي تحت هذه الرايةِ الإخوانُ المسلمون وغيرهم كالجماعةِ الإسلامية وتنظيم الجهاد والحركات السلفية بل والمعتدلون للغاية من أصحابِ "الطرح الإسلامي" ويوجعني أن أصف فرقة هي مجرد "مجموعة سياسية لا غير" بمصطلح "الإسلامية" لأن ذلك يعني أَن "غيرهم" يجب أن يصنف ضمن "غير الإسلاميين" أو"ضد الإسلاميين"؛ وهو أمر خاطئ تماماً – ولكن ضرورات استعمالِ الشائعِ والذائعِ من "المصطلحاتِ" قد تملي على المرءِ أن يستعمل تسميةً هو أول المعترضين على صوابِ ومعقوليةِ استعمالِها وإذا كان لابد أن نختار أكبر المؤمنين “بنظرية المؤامرة”، فلابد أن نسلم للإسلاميين بهذه الرتبةِ.

أما كل من كانوا - بشكلٍ أو بآخر تحت اللواء الاشتراكي، من ماركسيين إلى اشتراكيين ومروراً بعشراتِ تصنيفاتِ الفرعيةِ للتوجهاتِ اليسارية أو الاشتراكية بما في ذلك الاتجاه الناصري -فإنهم يؤمنون بنظريةِ المؤامرةِ ولكن بدرجةٍ أقل من "التصخر" إن جاز لنا نحت هذا التعبير. فهم إن كانوا يؤمنون بالنظريةِ ككلٍ وبالتالي بالمقولاتِ التي أوردتها في مستهل هذا الفصل ؛ إلاّ أن إيمانهم هذا غير مشوبٍ بما يمكن تسميته بالروحِ الجهاديةِ أو الحربيةِ أو "الضد –صليبية" التي تشوب موقف الإسلاميين في هذا الصدد. ولاشك أن الاختلافَ في "صخريةِ" الاعتقاد هنا و”نارية “ اليقين و”التِهابية" الموقف إنما ترجعُ للروحِ الثيوقراطية (الدينية) للحركاتِ المسماةِ بالإسلاميةِ وفى نفسِ الوقتِ للروحِ الأكثر علمية وتقدماً وعصرية للأفكار الاشتراكية (وإن ثبت أنها كانت كلها خاطئةً وعاجزةً عن تحقيقِ أهدافِها وشعاراتِها).

وثالثاً (وأخيراً) فإن السوادَ الأعظم من "المواطنين العاديين" في واقعِنا العربي والمصري والذين لا ينتمون للفريقِ الإسلامي (سياسياً) أو الفريق الاشتراكي (عقائدياً)، فإن معظمَهم يميلُ ميلاً واضحاً لتبني "نظرية المؤامرة والتسليم –بالتالي- بصوابِ وصحةِ "المقولاتِ" المنبثقةِ عن الإيمانِ بهذه النظريةِ.

ولكن من الضروري للغايةِ أن نذكر أن أسبابَ إيمانِ كل مجموعةٍ من هذه المجموعاتِ الثلاث الكبرى بنظريةِ المؤامرةِ إنما ينبعُ من مصادرٍ مختلفةٍ:

فالمجموعةُ الإسلامية (بمختلفِ فرقِها) ترى أَن تاريخَ منطقتنا هو تاريخُ الصراعِ بين (الإسلام) و(المسيحية واليهودية)... وأَن الحروبَ الصليبية لا تزال مستمرةً ولكن من خلالِ أشكالٍ مختلفةٍ. وتعطي هذه المجموعةُ للبعدِ اليهودي أهميةً كبرى، فهي تعزو له جل أسباب مشاكلنِا وكوارثِنا.

أما المجموعةُ الاشتراكية (بالمعنى الواسعِ) فإنها ترى الأمرَ من خلالِ تصورِها المعروفِ للصراعِ بين القوى التي تسميها بالقوةِ الإمبرياليةِ والجانب الآخر والذي يضم الشعوب المقهورة والمستغَلة (بفتح الغين).

وأما مجموعةُ المواطنين العاديين، فإنها كوّنَت ميلها هذا للإيمانِ بنظريةِ المؤامرةِ كأثرٍ حتميٍّ إما لسطوةِ اللون الاشتراكي أو لسطوةِ اللون الإسلامي على مواقع غيرِ قليلةٍ من عالمِ الإعلام في واقعنا ومن كثرةِ تكرارِ المقولاتِ المنبثقةِ عن نظريةِ المؤامرةِ والتي غَدت وكأَنها من المُسَلماتِ. وفى المجتمعاتِ التي لا تتسم بمستوى عالٍ من التعليم والثقافة، فإن دورَ الإعلام (بما في ذلك منبر المسجد) قد يصل إلى حدِ (غسل العقول) و(تشكيل الوجدان)… ويكفي أن نذكر أن أولَ اسمٍ لوزارة الإعلام في بعض البلدان كان "وزارة الإرشاد" وهو اعتراف صريح وواضح بالرسالةِ الأساسيةِ وهي "الإرشاد" أي "التوجيه".

والحقيقةِ، أن هذه "المنابع" لإيمان كل مجموعةٍ من المجموعاتِ الثلاث بنظريةِ المؤامرةِ هي "منابعٌ وهميةٌ" ولا سند لها من الواقعِ والتاريخِ والمنطقِ ... فشعوبُ منطقتنا من العالمِ كانت سَوف تلقى نفسَ المسَارِِ التاريخي بما فى ذلك استعمار الغرب لها حتى لو كانت منطقتنا من العالم "مسيحيةً" تماماً. فالغرب لم يُستعمرَ منطقتنا لأننا مسلمون، ولكن لأننا من جهةٍ كنا متخلفين وفى وضعٍ يسمح بأن نُستعمر ... ومن جهةٍ ثانيةٍ فإن دافعَ الغرب لاستعمارنا كان دافعاً تحركه عواملٌ "إقتصاديةٌ" في المقَامِ الأولِ و"حضاريةٌ" في المقامِ الثاني. والعواملُ الحضارية أوسع وأرحب من العواملِ الدينيةِ. وهناك الكثير الذي يمكن أن يقال لدحضِ هذه الوجهة الساذجة من النظرِ، ولكننا نعتقد أن كثرةَ ووضوحَ القرائنِ تغنى عن الاسترسالِ والإسهابِ :فمن الجلي للغايةِ أن منطقتنا كانت سوف تُستعمرَ حتى لو كانت شعوبُها كلُها مسيحيةً. ومن الغريب، أَن الذين يتبنون هذه الوجهة من النظرِ يغيبُ عنهم أن علاقةَ شعوبِ المنطقةِ بالدولةِ العثمانيةِ كانت أدنى ما تكون لعلاقةِ الضعيف ِالمستعمَر (بفتح الميم الثانية). بالقوى المستعمِر (بكسر الميم الثانية) رغم أن الطرفين مسلمان (!!!). فقد كانت شعوب منطقتنا خلال القرن الثامن عشر مرتعاً للتأخرِ والتخلف والرجعيةِ رغم أننا كنا (مسلمين) يحتلهم (مسلمون)، بمعنى أن الغربَ (المسيحي) كان لا يزال بعيداً عنا... كذلك فقد كنا عندما ولدت الحركةُ الصهيونية المعاصرة على يد النمساوي المعروف تيودور هرتزل في أواخرِ القرنِ التاسع عشر قد قطعنا شوطاً بعيداً فى التخلفِ لأكثرِ من ستةِ قرونٍ لم يكن اليهودُ فيها قادرين على تحريكِ أيّ حدثٍ تاريخيٍّ.

أما منطقُ المجموعةِ الاشتراكيةِ ففيه الكثيرُ من الصوابِ، دون أن يكون صواباً خالصاً. فمن المؤكد أن "الدافعَ الاقتصادي" هو العاملُ الأول الذي "ساقَ" الغرب في علاقتهِ التاريخية بنا خلال القرنين الأخيرين. إلاَّ أن الأمرَ -كما سنوضح بعد قليلٍ - كان في إطارٍِ آخرٍ مُختلف تماماً عن إطارِ "المؤامرة".

وأما منطقُ المواطنين العاديين، فإنه وإن كان متهافتاً ولا يصمد أمام التحليلِ والتفنيدِ الدقيقين، إلا أنه مفهومٌ. فمن الطبيعي أن كثرةَ ترديدِ مقولاتٍ معينةٍ على مسامعِ شعوبٍ نصفها من الأميين والنصف الآخر أصحاب نصيبٍ متواضعٍ للغايةِ من التعليمِ والثقافةِ والوعي من شأنِه أن يخلق انطباعاً بصوابِ مقولاتٍ لا تَستند إلا على "التوهمِ" و"الديماجوجية".

وجوهرُ القضيةِ في اعتقادي أن معظم من تناول "نظرية المؤامرة" لا يعرف إلاّ أقل القليل عن طبيعةِ وحقائقِ وآلياتِ الاقتصادِ الرأسمالي أو الاقتصاد الذي يسمى باقتصادِ السوق أو الاقتصاد الحر؛ فجوهر الاقتصاد الرأسمالي هو "المنافسة". وفكرةُ المَنافسة تعني –فيما تعني- أشياءً عديدةً إيجابيةً وصحيةً، ولكنها تعني أيضاً أشياءً سلبيةً وغير صحيةٍ. ولكن نظراً لأن كلَ البدائلِ الفكريةِ (للرأسمالية أو لاقتصاد السوق) قد باءت بفشلٍ ذريعٍ وأحدثت من الدمارِ والخرابِ لمجتمعاتها ما أحالها لمتحفِ الأفكارِ المنقرضة، فإن الواقعَ يحتمُ علينا ونحن نمعن النظر في حقائق وطبائع الاقتصادِ الحرِ ألاَّ يدفعنا الانفعالُ وجموحُه للعودةِ بأي شكلٍ لدوائرِ الأفكارِ الاشتراكية، فقد أحدثت هذه الأفكارُ من الأضرارِ والخسائرِ ما لا يسمح بإعطائها أيةَ فرصةٍ أُخرى. والواقع (لا الفلسفة) يؤكد أن كلَ ما هو اشتراكي (في الفكرِ والتطبيقِ) مآله إما لمتحفِ الأفكار وإما للانقراض التام بفعل ما يسببه من إخفاقٍ وفشلٍ وخسارةٍ. فإذا عدنا للمنافسةِ بوصفها العمود الفقري للاقتصاد الرأسمالي، كان علينا أن نعى أن "المنافسةَ" ليست فقط تلك "الفكرة الجميلة" التي تعنى فوائداً للأفراد، حيثُ تؤدى المنافسة لعملية تجويد مستمرة في نوعية ومستوى البضائع والخدمات وحيثُ تؤدى في أحيانٍ كثيرةٍ لخفضِ السعرِ أو التكلفة، وإنما هي – أيضا- صراعٌ شرسٌ بين المنتجين بعضهم البعض: صراع يتجسد في أشكالٍ عدةٍ.... كالطرد من السوقِ (إن أمكن) أو تهميش دور الآخرين والاستئثار بأكبر حصصٍ من السوقِ أو الأسواقِ. وهذه الطبيعة أو هذا المعلم من معالمِ النظامِ الاقتصادي الغربي هو الذي يفرزُ ما يبدو للأكثريةِ في دول العالم غير العريقِ في الصناعةِ والخدمات الرأسمالية المتقدمة وكأنه "مؤامرةٌ محبوكةٌ".

وهذا الجانب من جوانبِ "عنصر المنافسة" هو ما أود أَن أُسلط مزيداً من الضوءِ عليه، لأننا إذا لم نفهمه جيداً وبوضوحٍ تامٍ ونقبل فكرةَ حتميته ونوّلد استراتيچيتنا للتعاملِ معه كحقيقةٍ لا تقبل التجاهل من حقائقِ الحياةِ المعاصرةِ، فلن نبلغ أيَّ شيءٍ مما نريد. وأعني هنا أن المنافسة التي هي من أهم أسس الحياةِ الاقتصاديةِ القائمةِ على ديناميكيات اقتصادِ السوق هي التي كانت خلال القرونِ الثلاثةِ الأخيرةِ سببَ كلِ المنازعاتِ الداخليةِ في أوروبا بل وسبب الحروبِ التي كانت الحربان العظميان (حرب 1914/1918 وحرب 1939/1945) من أهم صورِها. ولكن أوروبا التي تطاحنت وتشاحنت طويلاً تطاحناً وتشاحناً داخليين وصلت خلال العقودِ الثلاثةِ الأخيرةِ ليقينٍ بأن فوائدَ عدمِ التشاحن الأوروبي الداخلي أعظمُ من فوائدِ استمرارِ هذا التشاحن الذي لا سبب له إلا "المنافسة". وبذلك خرجت المنافسةُ (في درجاتها الأعلى) من ملعبها الأوروبي لملاعبٍ أُخرى خارج القارةِ الأوروبية، وإن بقت الساحةُ الأوروبية زاخرةً بأشكالٍ وألوانٍ شتى من المنافسةِ ولكن التي يحكمها قانونُ التعايشِ معاً وقانون الإتفاق على عددٍ من الحدودِ الدنيا.

وحتى تزداد الفكرةُ وضوحاً، فإنني أَودُ إبراز حقيقةٍ بسيطةٍ للغايةِ إلاَّ أَنها لا تحظى بالوضوحِ أمام الكثيرين، وهى أن النظامَ الاقتصادي القائم على المنافسةِ يحتم أن تكون مصالحُ المنتجِ أو البائعِ الاستراتيجية أن يظل "بائعاً" وأن يبقى "المشتري" لأطولِ مدةِ أو دائماً "مشترياً"؛ وألاَّ يحدث –هنا- تبادل في المواقع. هذا المفهوم البسيط هو جوهر جانب المنافسة الذي يراه الكثيرون في عالمِنا كمؤامرةٍ محبوكةٍ- والحقيقة أنه يشبه المؤامرة لحدٍ ما، إلاَّ أنه يختلف عنها تماماً في الدوافع وقوانين الحركة. وهذا "القانون” من قوانين حركة "الاقتصاد الحر" والمنافسة إنما هو قانون يعمل “داخل" المجتمعات الصناعية المتقدمة، وبالتالي فإن "عمله" خارجها أمرٌ حتميٌ ومُنتظر ولا مَحيص عنه.

والمعنى هنا أن النظام الاقتصادي السائد في الدولِ الأكثر تقدماً صناعياً (والآن: تكنولوچياً وخدمياً) يقوم على صراعات لا يمكن تجنبها وقودها المنافسة وتتمثل في محاولاتٍ لا تنتهي للاستئثار بالأسواقِ أو بأكبرِ حصص ممكنة من الأسواق، وأن ذلك يعني أن "السمك الكبير" لا يتوقف عن محاولة "أكل السمك الصغير" وأن ذلك التفاعل وجوانبه السلبية (الشرسة) يعمل في داخل المجتمع الواحد وخارجه (وعندئذٍ يكون أكثر شراسة)، وأن مفردات علوم وممارسات الإدارة العصرية تتضمن العديد من المفاهيم التي تخدم في المقام الأول "المنافسة" بجوانبها المختلفة (الإيجابية والسلبية) ورغم أنني لا أريد أن أدخل بالقارئِ في دقائقِ علومِ الإدارة الحديثة، إلا أن السياق واكتمال التحليل في هذا الفصل يحتمان أن أذكر أن المفاهيم الكبرى التالية من مفاهيم علوم الإدارة الحديثة: إدارة الجودة Quality Management تقنيات التسويق على مستوى العولمة Global Marketing سرية البيانات Data Confidentiality والزخم الهائل من نظم المحافظة على الصحةِ المهنيةِ Occupational Health والاعتبارات البيئية Environmental Considerations وعشرات غيرها من مفردات علوم وممارسات الإدارة العصرية إنما تهدف - في أولوية عالية من أهدافها - إلى أن يكون أصحابها من "السمك الكبير" القادر عن طريق هذه المفاهيم وتطبيقها تطبيقاً ناجحاً إما لأكل السمك الصغير وإما لزيادة حجمه صغراً... ويمكن الآن أن نُضيف لقانون "إن السمك الكبير يأكل السمك الصغير" قانوناً جديداً يسير في موازاة هذا القانون وهو قانون "إن السمك الكفء السريع يأكل السمك الأقل كفاءة وسرعة"… وقد ظهرت خلالالعقود القليلة الماضية في عالم المؤسسات الصناعية والخدمية والتكنولوجية والتجارية الكبرى على مستوى العالم الأدلة القاطعة على مولد وتعاظم شأن هذا القانون الجديد. ومن المهم للغاية هنا أَن نمُيز بين "ما نحب أن نراه" وما لا وسيلة أمامنا "لكي لا نراه" إلا غش أنفسنا. فهذه القوانين موجودة وسائدة ولم يعد هناك أمل بعد نفوق (وفاة) الاشتراكية أن تستبدل بقوانين تضمن النجاح والوفرة وتتجنب هذه المثالب (عند الذين يرونها كعيوبٍ).

ومن غيرِ الممكنِ أن نتجنب هنا التصريح بأن المثقفين أوسعَ ثقافة عالمية لن يكون بوسعِهم أن يروا بوضوحٍ هذه الحقائق والقوانين وجوانب هذه القوانين المختلفة إذا كانت ثقافتَهم تعنى معرفةً شاملةً بكلِ العلومِ والمعارفِ الإنسانيةِ والاجتماعيةِ دون علوم العصرِ الحديثِ في مجالاتِ الإدارةِ والتسويقِ والمواردِ البشريةِ وما انبثق عن هذه المسميات الكبرى من عشراتِ المجالاتِ الجديدةِ المتخصصةِ. فالإنسانُ الذي يعرف كلَ ثمارِ الثقافةِ والمعرفةِ الإنسانيةِ من "سقراط" إلى "براتراند رسل" ومروراً بآلافِ الأسماءِ ومناطق المعرفةِ الإنسانية الاجتماعيةِ والسياسيةِ والاقتصاديةِ والأدبيةِ والفلسفيةِ يظل عاجزاً عن رؤيةِ هذه الحقائق وقوانين الحركة وجوانبها المختلفة إذا كانت جعبتهُ الثقافية لم تتسع لتشمل علومَ العصرِ في مجالاتِ الإدارةِ والتسويقِ والموارد البشريةِ- ويكون الإنسانُ عندئذٍ مثل عالم فيزياء أمضى نصف قرنِ في دراسةِ الفيزياء منذُ فجرِ تاريخِ هذا العلمِ خلال نصف القرنِ الأخير، فإنه عندئذ يكون ملماً بمعظمِ تاريخ هذا العلم إلا أن ما لديه يكون مثل متحفٍ للماضي دون أن يصلح بأي شكلٍ للحاضرِ - وللأسف الشديد، فإن عدداً غيرَ قليلٍ من مثقفي العالم الثالث يندرجون ضمن هذا الفريق الذي يعلم أصحابُه الكثيرَ دون أن يمتد علمُهم ليغطي المناطق الحديثة والتي بدونها يكونون شخصياتٍ متحفيةٍ لا تقدر بأيةِ حال على فهمِ قوانين الحركة المُعاصرة وجوانبها المخُتلفة - بل أن هؤلاء لا يكتفون بذلك وإنما يستمرون في حوارات طويلة لا يستعملون فيها إلا مفردات ومفاهيم تعيد تأكيد حقيقة أنهم يواصلون العيش في الماضي وإنهم بنفسِ الدرجةِ غيرُ قادرين على فهمِ ما يحدث" بل أن هذه المفردات والمفاهيم تصبح أداة إعاقةِ للمجتمعِ عن ركوبِ وسيلة المواصلات الوحيدة القادرةِ على الوصولِ للأهدافِ المرجوةِ، وأعنى الاشتراك في اللعبةِ حسب قواعِدها القائمة لا حسب القواعد المُثلى التي لا وجود لها إلا في خيالِ أصحابِها.

وإذا وصلنا بالتحليلِ لهذهِ النقطةِ المتقدمة، كان من المحتم علينا أن نُلقى بعض الضوء على "الظاهرةِ اليابانيةِ" لما تتصل به من أوثقِ الصلاتِ بهذا التحليل. ففي محاضرةٍ ألقاها كاتبُ هذهِ السطور في طوكيو في ديسمبر 1996(بمعهد الشرق الأوسط المنبثق عن وزارة الخارجية اليابانية) قال إن اليابان قد لعبت في حياتهِ الفكرية واحداً من أخطرِ الأدوارِ، إذ أنها كانت أكبر دليلٍ أمامه على أن نظريةَ المؤامرةِ إما أنها "متوهمةٌ" وإما حقيقية، ولكنها ليست بالقيمةِ التي يعتقد الكثيرون أنها تتسم بها. فإذا كانت هناكَ "مؤامراتٌ" فلاشك أن أقصى ما يمكن أن تصل إليه المؤامرةُ هو ما حدث لليابان في سنةِ 1945، إذ تكون أبشع وأفظع المؤامرات قد بلغت ذروتها القصوى بإلقاءِ قنبلتين ذريتين على اليابانِ. فالمؤامرة إذا وجِدت فإن هدفها يكون هو "الإضرار بالطرفِ الذي حيكت المؤامرة ضده"، ولاشك أن ضرب اليابان بقنبلتين ذريتين لا يجسد الرغبة في الإضرارِ فقط بل يُجسد قمة تِلك الرغبة.

ومعنى هذا الكلام أننا لو افترضنا وجود مؤامرة ثم افترضنا أن هذه المؤامرة ستبلغ الحد الأقصى وهو محاولة إنزال أكبر الأضرار بالطرفِ الذي تقصده المؤامرة فإن تحقيق الغاية المرجوة من طرفِ الجهةِ المتآمرة لا يمكن حدوثه إلا إذا كان الطرفُ الآخر (الذي توجه المؤامرة ضده) قابلاً ومستعداً لأن ينكسر. فاليابان التي ضُربت بالقنبلتين الذريتين هي اليوم المنافس الاقتصادي الأول للقوى التي كانت تبدو في سنة 1945 وكأنها قد قضت قضاءً مبرماً على اليابان.

يبقى بعد ذلك أهم ما يجب أن يقال عن نظريةِ المؤامرةِ إذ أن الإيمانَ بها بالكيفيةِ المتفشيةِ إنما يعتبرُ - بلا أدنى شك عندي - نقضاً كاملاً لأسسِ لا يجب أن نفرط فيها:

فمن جهةٍ أولى، فإن الإيمانَ بنظريةِ المؤامرةِ بالشكلِ الذائعِ حالياً يعني أن "إرادة الفعل" بقدرِ ما توجد بشكلٍ مطلقٍ عند المتآمِر (بكسر الميم الثانية) فأنها تكون مُنعدمةً عند المتآمَر عليه (بفتح الميم الثانية). وهو وضع يلصق صفات الكفاءةِ والقدرةِ والعزمِ والإرادةِ ومُكنة الإحداث بالطرفِ "المتآمِر" (بكسر الميم الثانية) وفي نفسِ الوقتِ يجرد الطرف المتآمَر عليه (بفتح الميم الثانية) وهو جانبنا نحن من كل تلك الصفات، فيكون "الفاعل" هو "المتآمِر" (بكسر الميم الثانية) أما المتآمَر عليه (بفتح الميم الثانية) فيكون "المفعول به" دائماً والجهة التي تسّير وكأنها جمادٌ أعجم.

ومن جهةٍ ثانية، فإن الإيمانَ بنظريةِ المؤامرةِ بهذهِ الكيفيةِ ينفي عنا (أي عن المتآمر عليهم) صفة الوطنية ويسبغُها أَسباغاً كاملاً على الجهةِ (أو الجهاتِ) المتآمرة وبنفس الدرجة.

ومن جهةٍ ثالثة، فإن هذا الاعتقاد يجعل من المتآمِر كياناً أُسطورياً في مخيلةِ المتآمَر عليه.

ومن جهةٍ رابعة، فإن هذا الإيمان يحتم ترسيخ الواقع ويفرض السلبية والانهزامية ويعارض كرامة الاعتقاد بأن "الإنسان يصنع واقعه ومستقبله" وأن الأممَ تملك بنفسِ القدرِ أن تصنع واقعها ومُستقبلها.

ويبقى كل ما كتبته عن نظريةِ المؤامرةِ ناقصاً (ومخالفاً لتصوري) إذا فهم القارئ أنني أُروج لهذين المفهومين:

أَن "المؤامرة" هي "الصراع"، وبالتالي فإنني أنفى وجود "صراع دائم" بدوام مسيرة التاريخ الإنساني. أو أَنني أنفي وجود "مؤامرات" عبر مسار التاريخ الإنساني. فالواقع أنني أؤمن إيماناً قوياً بأَن التاريخ الإنساني هو سلسلة من الصراعاتِ، كما أَنني أؤمن بنفس القدر أَن واقعنا العالمي المعاصر هو مسرح لصراعات مريرة وكبيرة. ولكنني أؤمن أَن "الصراع" مفهوم مختلف عن معنى المؤامرة.

فالصراع يعني العمل الدؤوب من جانب (أَو من جوانب معينة) بهدف استمرار تفوقها أَو حتى توسيع دوائر هذا التفوق وما يصاحبه من مزايا وامتيازات ولكن الصراع يعني أَن هناك "لعبةً لها في كلِ زمن قواعد" وأَن على من يريد لنفسِه مكانة بارزة فوق الأرض أَن "يخوض الصراع" بأدواتٍ وقواعدٍ تضمن أَطيب النتائج. وهنا فإن المثال الياباني يَبرز مرةً أخرى كأحد أقوى الأدلة على هذا التشخيص. ومن بديهيات الأمور أَن "الصراع" هو لعبة مفتوحة (نسبياً) عن المؤامرة، كما أَن قدر الغموض الذي يكتنف "لعبة الصراع" (بل والكثير من المعالم التي تشبه معالم "السحر" و"الشعوذة") هو غموض أقل (نسبياً) مما يكتنف "لعبة الصراع". كذلك، فإن تصوير الأمر على أَنه "لعبة الصراع" وليس "مؤامرة عامة محبوكة" تحكم مسار التاريخ، يحفز أصحاب الإرادة والكرامة والهمم على أَن يدخلوا اللعبة بنية إحراز نتيجة طيبة، وهو وضع يختلف عن "الروح العامة" التي أفرزها الإيمان المترامي بنظرية المؤامرة العامة، وهى روح تميل إلى جانب الشكوى والبكاء والاستسلام والرضى بالنتائج (الوخيمة) سلفاً وليس التحدي والانخراط فى لعبة الصراع (رغم ضراوتها) بنية بلوغ نتائج كريمة وعظيمة كالتي حققها اليابانيون الذين خاضوا خلال نصف القرن الأخير واحدة من أشرس لعبات الصراع على مستوى التاريخ الإنساني. كذلك فإنني لم أقصد على الإطلاق أَن أقول إن التاريخ خال من المؤامرات. فمن الميسور لأي قارئ واسع الإطلاع على التاريخ أن يرصد العديد من "المؤامرات" المحددة، ولكنى أقول إن التاريخ ، وإن عرفَ مؤامرات عديدة، فإنه ليس "مؤامرة عامة" وإنما هو صراع دؤوب لا يهدأ ولا مجال فيه للكرامة والظفر لمن دخله مهزوم الروح والوجدان مبلل الخدود بدموع البكاء والشكوى.

وأخيراً، فإنني أجد من اللازم هنا أن أُبرز جانباً هاماً من كوارث الإيمان المستسلم بنظرية المؤامرة العامة وهو الجانب الذي يتعلق بالحكام غير الديمقراطيين (مثل بعض حكام العالم الثالث). فالحاكم غير الديموقراطي يساهم بأفكاره وأقواله وأجهزة إعلامه في ترسيخ الإيمان بالنظرية العامة للمؤامرة، لأنه بذلك يكون قادراً على إخفاء خطاياه وأخطائه وراء الادعاء المستمر بأن "كل هذا الحجم من الفشل والمشاكل والمعاناة" إنما يرجع لعناصر خارجية (على رأسِها "المؤامرة العامة") وليس للسبب الأكبر والحقيقي وهو غياب الديمقراطية ووجود حكام على شاكلته (ليسوا هم في معظم الأحوال من أكثر أبناء المجتمع كفاءة وقدرات ورؤية ونزاهة وثقافة).

أما كاتب هذه السطور، فإنه يؤمن أَن "الصراع العالمي" شرس ومضني وبالغ الصعوبة ولكن الأمم تكون أكثر قدرة على خوضه بنجاح وكرامة إذا كانت مستعدة ومهيأة له، وهى لا تكون كذلك إلاَّ إذا كانت تُقاد قيادة فعَّالة وناجحة وذات رؤية صائبة وعن طريق كوادر تتسم بأعلى درجات الكفاءة والقدرة والنزاهة والثقافة (وأكرر: والثقافة لأنه لا "رؤية" في اعتقادي لمن لا ثقافة له).

وخلاصةُ وجهة نظري هنا، أن دعاةَ نظريةِ المؤامرةِ يتحدثون كوطنيين يحبون أوطانهم واعتقادي الراسخ أنهم وإن كانوا بلا شكٍ وطنيين يشغلهم همّ الوطن العام، إلا أَنهم بالطريقةِ التي يؤمنون بها بنظريةِ المؤامرة العامة وبتداعيات وآثار هذا الإيمان المطلق فإنهم يكونون انهزاميين و"دعاة استسلام وخنوع وخضوع" قبل أن يكونوا "وطنيين" يبكون على الحظِ العاثرِ الذي جعلهم في موضعِ الطرفِ "المتآمَر عليه".

٢.1

يؤمن الكثيرون في منطقتنا بأن هناك "مؤامرة" ضدنا . وهؤلاء يختلفون بشأن "مبررات المؤامرة" ، فهناك من يقول : لأننا مسلمون وعرب وأَن المتآمرين يكرهون المسلمين والعرب .. وهناك من يُرجع ذلك لخوف المتآمرين من نهضتنا لأننا سنصبح خطراً ماحقاً عليهم .. وهناك من يُرجع التآمر لدس اليهود لنا .. وهناك من يُرجعها لرغبة المتآمرين في إستغلالنا إقتصادياً . وقد عنيت كثيراً بموضوع نظرية المؤامرة وكتبت عنها وعن أصحابها ومنطقهم وعواقب التسليم بنظرتهم الكثير بالعربية والإنجليزية . والآن ، فإنني أعود للموضوع لا بنية مؤازرة الجانب الذي ينكر وجود تآمر علينا ولا لنسف مبررات القائلين بالتآمر علينا ، وإنما في محاولة (قد تبدو "مستحيلة" في نظر الكثيرين و"ممكنة" في نظر عددٍ قليل في منطقتنا) لتجاوز السؤال العقيم: هل هناك تأمر علينا أم لا .. والإنطلاق من فرضية أن هناك "تأمراً" ...ثم السؤال: بفرض أن هناك تأمراً فما الذي ينبغي علينا إتخاذه من أفعال (وليس من أقوال كما يكتفي الكثيرون منا)؟ …وفي إعتقادي أن هناك (عند التسليم الجدلي بوجود تآمر علينا) سيناريوهات محددة لرد الفعل . أما السيناريو الأول، والذي يجسده الكثيرون في واقعنا فهو "إستمرار التصايح ضد المتآمرين" والحديث المسهب (بالكلام الكبير) عن حقد المتآمرين علينا… وتكون تلك مناسبة (كلامية) للإسهاب في إستعراض مناقبنا (مزايانا) التي تجعل المتآمرين يحقدون علينا...وأسمي هذا السيناريو (منهج التعامل الخطابي مع المتآمرين). وهناك ثانياً "سيناريو الصدام" أي الدخول في مواجهة مع من نقول أنهم يتآمرون علينا. وهناك ثالثاً ما أود أن أسميه "السيناريو الآسيوي" وقد قمت بنحت تلك التسمية له بعد حوار بيني وبين شخصية يابانية مرموقة عندما قال لي: لماذا أنتم منشغلون بالحديث عن "المؤامرة" و"المتآمرين" على خلافنا نحن في الجزء الشرقي من آسيا أي اليابان والصين، وعدد من دول جنوب شرق آسيا. ففي هذه البلدان والتي تعرض بعضها للضرب بالقنابل النووية من الغرب كان تعاملنا مع هذا الموضوع خالياً من إضاعة الوقت في الحديث عن التآمر والمتآمرين، ولماذا يتآمرون علينا… وكان فعلنا (قبل قولنا) متجهاً لبناء داخل قوي إقتصادياً وسياسياً وإجتماعياً وتعليمياً وثقافياً . لأننا كنا على يقين أن "سيناريو التصايح الخطابي" لا يجدي فتيلاً أي لا يفيدنا ولا يضر أحداً...كما أن تكلفة سيناريو الصدام تتراوح ما بين ("الأذى الباهظ الكلفة" و "الدمار والانهيار وضياع الوقت والموارد والهمة في طلب المستحيل") وقد كررت الصين نفس السيناريو الآسيوي الفعال في موضوع أخر مختلف كلية: فعوضاً عن الإنشغال بحوار لا ينتهي حول "الإقتصاد الإشتراكي القائم على التخطيط المركزي" "وإقتصاد السوق" : طبقت الصين نفس النهج فبقيت معظم الأقاليم تسير على أساس من النظام القديم...بإستثناء أقاليم محددة إتبعت آليات (وأهداف) إقتصاد السوق ، وبعد نجاحها بدأ التوسع التدريجي في التحول من الأطر الإقتصادية القديمة الى الأطر الجديدة دون تمزيق المجتمع بحوار لا ينتهي وصدوع لا ترأب مع "ضياع همة المجتمع" فيما يضر ولا ينفع (وضياع "همة المجتمع" مسألة في غاية الأهمية- فما أحكم القول المأثور "رب همة أحيت أمة").

وأضاف محدثي: أنظر الى الصين، إنها (نظرياً) أشد خطراً على الغرب منكم (ربما ألف مرة) ومع ذلك فإنها لم تنخرط في سيناريو الصراخ حول التآمر والمتآمرين وإنما إنشغلت كلية بعملية بناء الداخل ...ثم أضاف: وأعتقد أن روسيا والهند مثل الصين مرشحون أكثر منكم (أي من العرب) لأن يكونوا خطرين على الغرب، ومع ذلك فإن هذه الجماعات لم تنغمس فيما أنتم منغمسون فيه من "تصايح عن التآمر والمتآمرين" وهو ما يدل - على أنكم تفعلون ذلك لأسباب أخرى ...ربما تكون عد القدرة على التعامل مع الواقع على أنه "صراع"...وأن "الصراع" له أدوات تدخل كلها تحت مسمى "بناء داخل قوي وصحي وفعال ومثمر ومزدهر ومستقر".

وأعتقد الآن أن الحديث عن التآمر والمتآمرين هو مضيعة لهمة المجتمع (مثلما أن الإنخراط في الحديث عن صراع الحضارات مضيعة أخرى لهمة المجتمع) وأنه بفرض جدلي أن هناك تآمراً ومتآمرين فإن الأهم هو :ماذا نفعل؟ أننخرط في سيناريو التصايح والكلام الكبير؟…أم نسير على درب الصدام المواجهة؟…(أم نقرأ على إختلاف مذاهبنا) أن السيناريو الأول عاطل وعقيم وغير قادر على التحول من "عالم الأفعال" إلى "عالم الأقوال" وأن سيناريو الصدام لن يقود (في الأغلب) إلا لإهدار الموارد بشتى صورها…وأن سيناريو التركيز على بناء داخل قوي من كل الجوانب: السياسية والإقتصادية والإجتماعية والتعليمية والقافية – هو أفضل ما نقوم به من عمل لخدمة هذا الوطن ولخدمة الأجيال القادمة من أبنائه وبناته… وأن نتذكر ما ورد في حوار شكسبيري بأحد أعماله عندما تحدث شخص عن "كرامة بريطانيا" وكان يعني أن كرامتها في الصدام… فرد عليه محدثه (أو في الحقيقة شكسبير نفسه) قائلاً: "ان كرامة بريطانيا تكمن في أن تنجح"…وهو رد بالغ الحكمة على السيناريو الكلامي وسيناريو الصدام في وقت واحد: فالأول لا يحقق الكرامة ،لأن "الأقوال" تبقي عاجزة عن أن تحل محل "الأفعال"…والثاني لا يتوقع منه (على الأقل في مراحل ما قبل بناء داخل قوي) الإ "الخسران المبين" .

وأنا أعلم أنه بينما يسهل إقناع معظم المتحاورين في واقعنا بعدم جدوى أو قيمة "سيناريو التصايح والكلام الكبير" إذ أننا من جهة عايشناه لسنوات عديدة ورأينا عقمه وعجزه عن إنتاج أي واقع أفضل كما أننا رأينا (في غير قليل من الحالات) كلفته الباهظة في المرات التي أدى فيها "الكلام الكبير" لمواقف لم نكن مستعدين لمواجهتها – فكانت الخسارة فوق كل التصورات… إلا أنني أتصور أن البعض في واقعنا قد يرى أن قولي "بأن سيناريو الصدام أو المواجهة" له احتمال واحد مؤكد هو الخسارة إنما هو "تفكير إنهزامي" أو بتعبيرات فرسان الكلام في واقعنا "تفكير إنبطاحي" وهو قول يسهل الرد عليه: فحتى غلاة المؤمنين بالتآمر علينا لا ينكرون أن "الداخل" في مجتمعاتنا "ضعيف" و "هش" وبحاجة لجهود قائمة على المزاوجة بين "العلم" و "تقنيات الإدارة الحديثة" و "التفاني في الإخلاص لعمليات الإصلاح والتطوير" و "ثورة تعليمية" تلحق بركب التعليم العصري القائم على الإبداع لا إختبارات الذاكرة "ومساحات أوسع للحريات" و "مشاركة أكبر للشعوب في كل الإختيارت" ...فإذا كان ذلك أمراً لا يصعب الإتفاق عليه، كان من المنطقي الإتفاق على أن "المواجهة بدون إستعداد" ضرب من الهوس الذي لا يقود إلاَّ للخسارة...وأن بناء داخل أفضل (وهو المهمة الأولى لنا جميعاً) إنما هو السبيل الوحيد إما لتعايش أفضل مع الواقع الخارجي أو حتى لمواجهة أنجح مع الواقع الخارجي – وكلاهما ("التعايش" و "المواجهة") مستحيلان بدون تركيز كلي على بناء داخل أفضل. ولتبقي أمامنا تجربة"محمد علي" ماثلة طوال الحوار حول هذه الجزئية: فعندما كان منشغلاً ببناء الداخل لم تفرض عليه مواجهات كتلك التي قامت بقص ريشة والحيلولة بينه وبين الطيران...وعندما تحول من الإكتفاء بالعمل الداخلي وسيطرت عليه أفكار التحول لقوى عظمى ذات نشاط خارجي (وكان ذلك قبل الأوان) فقد حدث له ومعه ما تكرر بعد ذلك مع عشرات من الحكام المخلصين الذين خانهم التوفيق وانجذبوا لإغراءات الأدوار الخارجية – فكانوا كمن صعد حلبة الملاكمة قبل الأوان (أي بدون التكوين والتمرين والإستعداد اللازمين)...مما جعل النتيجة في كل مرة هي نفس النتيجة" أي إتاحة الفرصة لعناصر أكثر قوة لتدمير "الخارج" و"غير قليل من الداخل".

وخلاصة هذا الحديث: أننا نوافق كل أطراف الحوار (جدلا) أن هناك "تآمراً" و "متآمرين"...ولكننا نبرز عواقب "سيناريو التصايح والكلام الكبير" (والذي يجعل المجتمعات في حركة "محلك سر" دائمة) وكذلك عواقب "سيناريو الصدام أو المواجهة" فإنه وإن كان يشبع عند البعض جوانب نفسية ويعالج عند البعض مشاعر معينة ويرضي عند آخرين "غرائز أساسية" إلاَّ أنه على أرض الواقع والمصالح والنتائج يتسم باحتمالية كبيرة لخسارة مؤكدة ذات تكلفة باهظة ويستحق أن يواجه بعبارة شكسبير الرائعة (مع تحوير بسيط فيها): "كرامتنا في أن ننجح!!! ولعل عبارة أخرى مأثورة تبقى جديرة بالذكر هنا، فما أسوأ عمل وحظ من يُصر على إضاعة الممكن من أجل أن يبقى في محاولة (منهكة) لبلوغ المستحيل!

************

٣

"الأفكارُ النمطية" هي ترجمتي الخاصة لتعبير (Stereotype) الإنجليزي وأُرحبُ من البدايِة بأن أعرف أن هناك ترجمةً أو مصطلحاً عربياً أفضل من ذلك (وقد أستبعدت أن أسميها الأفكار الإكليشيهاتية – لأن كلمة "إكليشيهات" وإن كانت مستعملة في حديثنا اليومي إلاِّ أنها من أصل فرنسي). وما أقصده بالأفكارِ النمطيِة، تلك الصيّغ التي تشيع بين الناسِ بحيث يرددها كثيرون دون أن يتصدى معظمُهم لفحصِها وتمحيصِها وعرضِها على "العقلِ" و "المحصولِ المعرفي" لرفضِها أو قبوِلها. و"الأفكارُ النمطية" ظاهرةٌ إنسانيةٌ – بمعنى أَنها توجد (بدرجاتٍ مختلفةٍ) في كلِ المجتمعاتِ – وإن كان ذلك "الشيوع" أو "الذيوع" لا يمنع من وصفِها بأنها "ظاهرةٌ إنسانيةٌ سلبيةٌ".ففي الغربِ، عشراتُ "الأفكارِ النمطيةِ" عن المجتمعاتِ والحضاراتِ والثقافاتِ الأخرى. ولدينا أيضاً الكثير من هذا الفيضِ من الأفكارِ التي يكررها الناسُ لا لسببٍ إلاَّ لشيوعِها وذيوعِها. والذي يحضني على وصفِ هذه الظاهرةِ بأنها وإن كانت "إنسانية" إِلاَّ أنها "سلبية" أنها ظاهرةٌ تعمل لصالحِ "النقلِ" (وهو الوقود الأكبر لها) وتعمل في نفسِ الوقتِ ضد مصلحةِ العقلِ (وهو الذي كان يستوجب عرض تلك الأفكار عليه وعلى المحصولِ المعرفي (من تراكماتِ العلمِ والتجربةِ الإنسانيةِ) للرفضِ أو القبولِ. وفي إعتقادي أن الإنسانيةَ لن تتخلص بشكلٍ مطلقٍ من "الأفكارِ النمطيةِ" ولكن بوسعِها أن تحد من ذيوعِها. وفي تصوري أن أهم مصادر إستفحال حجمِ وعددِ وتأثيرِ "الأفكارِ النمطيةِ" هي أربعةُ مصادرٍ أساسيةٍ.أما المصدرُ الأول فهو عدم وجود محصولٍ معرفي ثري ومتعددٍ الجوانب وعصري. وأما المصدر الثاني فهو عدم شيوع "الحوارِ الحرِ والمتواصلِ" بصفته –في ظني- أكبر أعداء "الأفكار النمطية".وأما المصدر الثالث فهو عدم خروج (عولمة إنسانية) من رحمِ إرهاصات العولمةِ الحاليةِ والتي تقف على أرضيةٍ "إقتصاديةٍ/سياسيةٍ" أكثر بكثيرٍ من وقوِفها على أرضيةٍ "إنسانية/ثقافية" .وأما المصدرُ الرابع فهو التواجد نفسياً في حالةِ دفاعٍ عن النفسِ متفاقمة – وسأحاولُ إلقاء بعض الضوءِ على تلك المصادر الأساسية وعلى الأدوات الفكرية التي أظنُ أنها ذات قدرةٍ عاليةٍ وفعاليةٍ كبيرةٍ في "تحجيمِ" و"تقزيمِ" "ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ".

أًما المصدرُ الأول من مصادرِ شيوعِ "ثقافة الأفكار النمطية" فهو إتسام المحصول المعرفي لأفرادِ أي مجتمعٍ بوجهٍ عام وأعضاءِ النخبةِ المتعلمةِ والمثقفةِ بوجهٍ خاص إما بهزالِ التكوينِ أو بمحليةِ التكوينِ أو بعدمِ الإتساعِ الأفقي للتكوين – وهي كلها عناصر تجعل العقول غير مزودةٍ بالآراءِ الأُخرى العديدة المحتملة في كلِ حالةٍ . وقد يكون حتى أعضاء النخبة المتعلمة والمثقفة أصحابَ محصولٍ معرفي لا بأس به ولكنه قد يكون من جهةٍ "محصول تقليدي" أي لا يضم مستحدثات المعرفة ولا سيما في العلومِ الإجتماعيةِ .. وقد يكون محصولُهم المعرفي لا بأس به ولكنه إما مغرق في الماضويةِ (بقرونٍ) أو نسبي الماضوية (بعقودٍ) - فما أكثر المثقفين (لا سيما في العالم الثالث) الذين ينتمي محصولُهم المعرفي لعقدِ الخمسينيات والستينيات أكثر من إنتماءهِ للزمنِ الآني . كذلك قد تحول ظروفٌ عديدةٌ دون إتسام محصولهم الثقافي بالتخلي عن الإغراقِ في المحليةِ والإبحارِ في ما وراء حدود ذلك . كذلك قد يكون المحصولُ المعرفي ثرياً في جوانبٍ ومفتقراً لجوانبٍ عديدةٍ لا سيما من جوانبِ العلومِ الإجتماعية الأحدث . وهكذا يتضح أن وجودَ محصولٍ معرفي (لأفرادِ أي مجتمعٍ بوجهٍ عامٍ ولأعضاءِ النخبةِ المتعلمةِ والمثقفةِ بوجهٍ خاصٍ) متسم بثراء التكوين وعدم الإستغراق في المحلية والإتساع الأفقي بما يعنيه من ضم مناطقٍ جديدةٍ من مناطقِ المعرفةِ هي عوامل تجعل العقلَ أكثر تحصناً (بشكل نسبي) من المجاراةِ الكاملةِ (أو شبه الكاملة) لصيغِ الأفكارِ النمطيةِ - إذ يكون متاحاً لهذا العقلِ التعرف على بدائلٍ فكريةٍ قد تكون (عند التمحيص والمفاضلة) هي إختياره عوضاً عن ترديد ما لا قوة دفع له في الكثير من الحالات إلاِّ الشيوع والذيوع والإنفراد بالساحة .

وأًما المصدرُ الثاني من مصادرِ شيوعِ "ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ" فهو عدم قيام الحياةِ التعليميةِ والثقافيةِ والإعلاميةِ على أساسٍ متينٍ من ثقافةِ الحوارِ (الديالوج) . فكلما كانت أساليبُ التعليمِ على دربِ التلقينِ وإختباراتِ الذاكرةِ وكلما كانت العلاقاتُ في دنيا التعليمِ بل وفي المجتمع بوجهٍ عامٍ هي علاقات تقوم على المنولوج (أي مرسل ومستقبل) ولا تقوم على الحوار (الديالوج) فإن شيوعَ الأفكارِ النمطيةِ يجد مناخَه الأمثل ، إذ أن "المنولوج" هو أداةُ إنتقالِ وشيوعِ وسيادةِ الأفكارِ النمطيةِ. والعكسُ صحيح : فالحوارُ (الديالوج) هو أداةُ تحجيمِ فرصِ شيوعِ الأفكارِ النمطيةِ .

وأًما المصدرُ الثالث من مصادرِ شيوعِ "ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ" فهو أن أنصارَ ودعاة العولمة لم ينجحوا بعد في تحويلها من ظاهرةٍ تقف على "أرضيةٍ سياسيةٍ/إقتصاديةٍ" إلى ظاهرةٍ تقف (في نفسِ الوقتِ) على "أرضيةٍ إنسانيةٍ/ثقافيةٍ" . فلا تزال مفاهيمُ العولمة بحاجةٍ ماسةٍ لبعدٍ إنساني وبعدٍ ثقافي يجعلها في عيونِ أبناءِ العالمِ غير المتقدم أقل توحشاً وأقل قابلية للفتكِ بمجتمعاتهم (سواء كان الفتكُ هنا سياسياً أو إقتصادياً أو ثقافياً) . ورغم عدم وجود حساسية عندي للإيمان بأن "الغرب" (وهو منبع مفاهيم العولمة) هو الجهة التي تجلس اليوم على مقعد قيادة التقدم (بكل المعاني) فإن ذلك لا يمنعني من أن أؤمن بوجودِ حاجةٍ ماسةٍ لأن يقوم الغربُ بإضافةِ بعدين على نفسِ الدرجةِ من الأهميةِ لمفاهيمِ العولمةِ ، وهما البعد الإنساني والبعد الثقافي – وأتصوَّر أن وجودَ قيادةِ العالم اليوم في يدِ الولايات المتحدة الأمريكية هي من أسبابِ هذا القصور الكبير – وإن كنت أتصورُ أيضاً أن تجاوز هذا القصور يكون بالحوارِ لا بالعداءِ والمقاطعةِ وكيلِ التهم (من الجانبين). وهذا القصور لا يعتري فقط "مفاهيمَ العولمةِ" ولكنه يعتري مفاهيماً أخرى مثل "حقوق الإنسان" و"الحريات العامة" و"الديمقراطية": فلا شك عندي أن الغربَ (الذي طوّر هذه المفاهيم في مجتمعاته) بحاجةٍ لأن يدرك حتمية إضفاءه بعداً إنسانياً على هذه المفاهيم ، بمعنى أن يتعامل معها كمفاهيمٍ عامة سامية (غير إقليمية) ينبغي أن تعم وتضم سيادتها كل الإنسانية ، وإلاِّ يشوب ذلك ما هو متواتر اليوم من كيلٍ بمكيالين حتى لا تكفر شعوبُ العالمِ بهذه المفاهيم (أو "القيم") التي تسمع عن وجودِها في الغرب ولكنها لم تر حرصاً كبيراً من الغرب (خلال نصف القرن الأخير) على أن تكون "منافع إنسانية عامة" . وفي تصوري ، أن عدمَ تطويرِ مفاهيمِ العولمةِ بحيث تكون وحداتُ بناءِها الإنسانية والثقافية مماثلة لوحداتِ بناءِها السياسيةِ والإقتصاديةِ هو أحدُ أهم مصادر شيوع الأفكار النمطية – لأننا (مرةً أُخرى) بصدد حالةِ دفاعٍ بالغةِ الذعرِ عن النفسِ .

وأًما المصدرُ الرابع من مصادرِ شيوعِ "ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ" فهو وجود مناخ ثقافي ونفسي عام متسم بالرغبةِ الملحةِ في الدفاعِ عن النفسِ . فالشعورُ بالإنجازِ وصنع التقدم يعطي أبناء أي مجتمعٍ رغبةً أقل في أمرين: الأول هو الدفاع عن الذات ، والثاني هو إلصاق تهمة عدم الإنجاز والتقدم بالآخرين . ونحن هنا أمام مصدرين كبيرين ليس فقط من مصادر الشعور القوي بالرغبة في الدفاعِ عن النفسِ بل والإمعانِ في الإيمانِ بنظريةِ المؤامرةِ . ويخلق هذان العاملان مناخاً أمثل للأفكارِ النمطيةِ ، إذ تكون الأفكار النمطية عادةً في خدمةِ درءِ الشعورِ بلومِ الذاتِ (عن عدم الإنجاز والتقدم) وتفعيلِ عمليةِ الدفاعِ عن الذاتِ وإلقاءِ مسئوليةِ الأوضاعِ (أوضاع عدم الإنجاز وعدم التقدم) على "الآخرين" .

وإذا كانت تلك – في تصوري – هي أهم مصادرِ شيوعِ ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ ، وإذا كان القضاءُ المبرم على الأفكارِ النمطيةِ مستحيلاً (لوجودها في كلِ المجتمعاتِ بنسبٍ متفاوتةٍ) فإن أدواتِ التعاملِ مع هذه المصادر تبقى واضحة وإن كانت نسبيةَ الأثرِ .

وهنا ، فإنني أعتقدُ أن المهمةَ الكبرى منوطةٌ بالتعليمِ (البرامج والفلسفة والمعلم والمناخ التعليمي العام) إذ أنه القادرُ على بذرِ قيمةِ "التعدديةِ" من جهةٍ وقيمةِ "العقلِ النقدي" من جهةٍ ثانيةٍ وقيمةِ "العقلانيةِ" (أي عرض الأفكار على العقلِ من جهةٍ ثالثةٍ) – وكلها أدوات تحد من إمكانيةِ سيادةِ ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ . إلاِّ أن دورَ وسائلِ التثقيفِ والإعلامِ أكثرُ جدوى على المدى القصير والمتوسط: فهي القادرة على فضحِ تهافت ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ وخلوها من الحجة والمنطق - وإيضاح الصلة بينها وبين عيوب أخرى في التفكيرِ مثل "ظاهرة الكلام الكبير" و"المغالاة في مدحِ الذاتِ" و"الإيمان المتطرف بنظريةِ المؤامرةِ" – إذ أن هناك علاقات جدلية لا شك في وجودِها بين كل تلك الظواهر الفكرية السلبية .





















الفصل السابع عشر
الضحايا

المحور الرئيسي لكتاباتي منذ سنوات هو "التقدمُ". فعندما أُفرد فصولاً عديدةً لمسائلٍ مثل تطويرِ التعليمِ أو إستعمالِ تقنياتِ الإدارةِ الحديثةِ في شتى المجالاتِ لتحسين الظروف الحياتية، وعندما أُصدرُ كتباً تتعلق بعيوبِ تفكيرِنا المعاصرِ ... فإن كلَ ذلك يصب في نهرٍ واحدٍ هو نهر تكوينِ عناصرِ التقدم. ومن أهمِ جوانبِ قضيةِ صنع التقدمِ (وضع المرأة في المجتمع) ونوعية الثقافة (الذهنية) التي يتعامل بها المجتمعُ مع المرأة. ويقيني أن هذا البعدَ هو أحدُ أهمِ أَبعادِ عمليةِ الحكمِ على مدى تقدمِ أي مجتمعٍ (أو تأخره). و يأتي على نفس المستوى من الأهمية الحضارية موقف أى مجتمع من "الآخر" بما في ذلك "الآخر الديني".

************

١

ورغم إيماني بأن المرأةَ هي (على الأقل) مساويةٌ للرجلِ في كلِ شئٍ وفي كافِة مناحي الحياة، إِلاَّ أن حماسي لهذا الموضوع ينبعُ من إيماني بأن أَخطرَ ما في الذهنيةِ الذكوريِة التي تضع المرأة في مواضعٍ أدنى من الرجلِ هو تلك (الذهنية) ذاتها – فرغم أن الثقافة التي لا تساوي مساواة كاملة بين الرجلِ والمرأةِ هي ثقافةٌ ماضويةٌ متخلفةٌ عن العصر وثقافتِه وعلومِه، ورغم أنها "ثقافةٌ ظالمةٌ" وبالتالي "غير إنسانية" ؛ وهو ما يستحق أكثر بكثيرٍ من مجردِ الإدانةِ ، إلاَّ أن الدمارَ والضرر الكبيرين يأتيان من "الذهنيةِ" التي بسببها تسود تلك الثقافةُ الذكورية الرجعية – وبسبب شيوعِ وسيادةِ تلك الذهنية يستحيل (أكرر مرة أخرى: يستحيل) إنجاز التقدم الكلي المنشود للمجتمع.
ولا شك عندي أن العمودَ الفقري لذهنيةِ وضعِ المرأة في مواضع أدنى من مواضع الرجل هو (نقص الثقة بالذات). فالرجلُ الذي لا يُعاني من مشكلِة نقصِ ثقةٍ بذاته وعقلِه وفكرِه وكيانه لا يحتاج لثقافةٍ عامةٍ تضع له المرأةَ في مواضعٍ أدنى منه. وقد علمتني خبرةُ التعاملِ مع آلافِ الشبابِ أن أصحابَ النصيبِ المتواضعِ من القدراتِ أشدُ تمادياً في التمسكِ بالثقافِة الذكوريةِ التي تضع المرأةَ في مواضعٍ أدنى من الرجلِ – والأمرُ مفهوم : فمن أخفق على المستوى العام لا يبقى له (في الأغلبِ) إِلاَّ أن يتفوق (ويسود) بشكلٍ مصطنعٍ (وهزلي) في دائرته الخاصة الصغرى.

ومن العجيبِ أن الأجيالَ التي كانت في سنِ الشبابِ في الستينيات (مثلي) تُعتَبر أكثرَ تقدماً في هذه المسألِة من الأجيالِ التاليةِ. وربما يُفسر ذلك ذيوع فهمٍ رجعيٍّ للعديدِ من المواضيعِ الدينيِة وكذلك خروج المرأة للعلمِ والعملِ مما أثبت (عملياً) أن تفوقَ الرجلِ على مستوي الذكاءِ والقدراتِ والكيانِ هو مجردُ "أسطورةٍ وهميةٍ" وهو ما حض الكثيرين من الشبابِ على أن يعوّضوا ذلك بإنتصارٍ وهميٍّ يستمدون مرجعيته من ذهنيةِ الثقافِة الذكوريِة التي تجعلهم "الأفضل" لمجرد كونهم ذكوراً (وما أسهل العثور على نصٍ يسوغ تلك الأفضلية المنافية للعلم والفكر).

وقد جعلتني المراقبةُ المدققةُ لسنواتٍ طويلةٍ أصلُ ليقينٍ واضحٍ بوجودِ علاقةٍ عكسيةٍ بين "تناقص ثقِة الرجلِ في نفسهِ" و "استعدادِه لقبولِ أن المرأَةَ مساويةٌ للرجلِ في كل المجالاتِ" (وأكررُ أن المرأةَ مساويةٌ للرجلِ "على الأقل" – فقيمةُ المرأةِ في مجالاتٍ أُخرىٍ غير التي تتساوى فيها مع الرجل أعلى بكثيرٍ من قيمِة الرجل وأعني أنها مساويةٌ للرجلِ كإنسانٍ وأعلى منه قدراً كأمٍ هي مدرسة الإنسانية الأولى).

ومن السطحيةِ أن يستند بعضُ دعاةِ ذهنيةِ ثقافةِ التميّزِ الذكوري لنصوصٍ دينية. فمن جهةٍ فإن هناك نصوصاً أُخرى تؤكد الإنسانية الكاملة للمرأة وعدم أفضلية جنس على آخر، كما أن العبرةَ دائماً ليست بالنصوص وإنما بنوعيةِ العقولِ التي تتعامل مع النصوص. ويقيني أن المرجعَ الحقيقي لما يظنه البعضُ سنداً دينياً لتميّز الرجلِ على المرأةِ هو مرجعٌ يتعلق بالتاريخ الإنساني بوجه عام في مراحل خلوه من التمدن والإنسانية وكذلك بالتاريخ البدوي/القبلي بوجه خاص ولا يتعلق بالدينِ – ولا أدل على ذلك من أن لا أحد من أصحابِ ذهنيةِ التميّز الذكوري يهتم بإبراز خصائص الحياةِ الزوجية الأولى لنبي الإسلام – فقد كانت فوق كونها مثالاُ واضحاً على الإنسانيةِ الكاملةِ المتساويةِ لكل طرفٍ ، مثالاً على أشياء أُخرى لا يحب المتطرفُ بطبعه أن يراها مثل كون العصمة في يد الزوجة ومثل عدم زواج الزوج عليها وغير ذلك من الأمور التي لا تخفى على أحدٍ وإن مال أصحابُ ذهنية التفوق الذكوري (الوهمي) لعدم إظهارها أو ضرب الصفح عنها وكأنها لم تكن.

إن أولَ إنسانٍ في الكونِ حصل على جائزةِ نوبل في العلوم لأكثر من مرة كان "إمرأة" (مدام كوري) : ولو لم يوجد أمر آخر غير هذا ، لكان ذلك كافياً لإسكات أي إنسانٍ يردد تلك الآراء الرجعية عن تميّز "النوع الذكوري" عن "النوع الأنثوي" – ولعل معظم الذين يؤمنون بهذا التميّز (الوهمي) يوافقونني على أنهم سيكونون في موقفٍ بالغِ الحرجِ عندما يقارنون بتلك السيدة الفذة التي تفوقهم (في كل المجالات) بآلاف السنوات الضوئية. وإذا قال قائلُ أَن مدام كوري محض إستثناء، قلنا له أن الرجال قيدوا النساء عدةَ قرونٍ ثم جاءوا يقولون أنهن لا يربحون في السباق. وقد دلتني قيادتي لمؤسسة عالمية عملاقة تضم الآلاف من الجنسين على عدم وجود أي دليل على أي تفوقٍ ذكوري في أي مجالٍ من مجالاتِ العلمِ والعملِ والإدارةِ والقيادةِ – بل أن ما رأيته من أشكالِ التفوقِ الأنثوي كان أبرز بكثيرٍ (بسبب التحدي والرغبة في إثباتِ الذات).

منذ أعوام قليلة شهدنا تعيينَ أولِ امرأةٍ كقاضيةٍ بالمحكمةِ الدستوريةِ العليا بمصر، وهى خطوة حضارية عظيمة ؛ ولكنها تحتاج لأن تُستكمل، فتعيين عددٍ من النساءِ في كلِ وظائف القضاء (من بداية السلم الوظيفي) هو الضمانة الوحيدة لإنتهاء تلك الفضيحة الحضارية: فعن طريق ذلك سيكون لدينا بعد عشرين سنة جهازٌ قضائي نصفه من النساء – وهو الوضع الطبيعي، بل وهو الوضع الذي يجب أن يحتذى به في كلِ وكافةِ المجالاتِ. فالمجتمعَ الذي يقصر المواقع الهامة على الرجال مجتمعٌ يعطل نصف طاقاته من الذكاءِ والتفكيرِ والعملِ والعلمِ والعطاءِ والإنتاجِ: فإذا لم يكن بعد ذلك مجتمعاً متقدماً فليس من حق أحد أن يتعجب: فكيف يعدو الإنسان بقدمٍ واحدةٍ.

والأمرُ يحتاج من الأجهزةِ المعنية بوضع المرأة في مجتمعاتنا العربية لخطةٍ متكاملةٍ للقضاءِ على الثقافةِ الذكوريِةِ الرجعيِةِ في مجتمعنا : في الأسرةِ وفي التعليمِ وفي المؤسساتِ الدينيةِ وفي الثقافةِ والإعلامِ - وأن يكون محورُ الحملةِ أن المصدَر الوحيدِ لإيمان رجلٍ بتميّزه النوعي على النساء (لمجرد كونه رجلاً) هو مخزون هائل من نقصِ الثقِة بالنفسِ – فالأحرارُ يحبون التعامل مع الأحرارِ والعكس دائماً صحيح. وأضيف أنني أجزم بأنني ما سمعت رجلاً في واقعنا يروّج لأفضلية الرجال على النساء وعدم قدرة النساء على تبوأ كافة المواقع والمناصب إلاِّ .. وكان واضحاً لي خلوه الظاهر (هو نفسه) من التميّز .

إن نظرةَ أي مجتمعٍ غير متحضرةٍ للمرأة دائماً ما تتفنن في البحثِ عن مرجعياتٍ وأسانيدٍ لتأيد نظرتها ، رغم أنها (أي هذه النظرة غير المتحضرة) ليست ظاهرة دينية أو قانونية وإنما هي ظاهرة ثقافية بحت . ومعنى ذلك أنه في ظل إرتقاء المناخ التعليمي والثقافي بشكل عصري لأي مجتمع فإن نظرة أفراده للمرأة ترتقى على الفور بحيث تتجاوز السؤال الرجعي بطبيعته: هل المرأة مساوية للرجل أم لا ؟ ويكفي للتدليل على أن القضية ثقافيةٌ في جوهرِها ومادتها ومظهرِها أمثلة قليلة ولكنها واضحة الدلالة: فرغم وجود نص قرآني واضح ينهي الرجال عن إبقاء زوجاتهم لمجرد الإضرار بهن وهن راغبات في عدم بقاء الزوجية (ولاتمسكوهن لتعضلوهن) فقد ظل النظامُ القانوني لدينا لسنواتٍ طويلةٍ يسمح بنظامِ بيتِ الطاعةِ والذي هو تجسيد لإمساكِ رجلٍ لامرأةٍ في بيته ليعضلها (أي ليسبب لها الأذى المادي أو المعنوي) – نحن هنا أمام حالةٍ صارخةٍ تؤكد وتترجم ثقافة بالغة التخلف والرجعية وتعارض أكثر من سند كان من الممكن الإستناد إليه لو أن الذهنية التي تتعامل مع الأمر كانت ذهنية مستنيرة – وفي يقيني أن نظامَ بيتِ الطاعِة كان عاراً قانونياً وإجتماعياً وثقافياً يجلب من الخزي ما لا مثيل له على سمعة عقولنا وثقافتنا. وفي سنواتٍ لاحقةٍ عندما تحمست الدولةُ لقانون الخلع (وهو حق إنساني لا يتصور أن يعارضه منصف) أصيب آلافُ الرجال في مجتمعِنا بغصةٍ شديدةٍ : فكيف يجردهم القانونُ من أداةٍ من أدواتِ البطش الغاشم كانت بيدهم، ولو أنهم كانت لديهم جرعة معقولة من الثقةِ بالنفس لما أزعجهم على الإطلاق هذا التطوير التشريعي الذي جاء بمثابةِ خطوة بالغِة الأهمية للأمام. بل أن الإنسان ليتعجب : كيف تستقيم أفكار مثل الرجولة والشهامة والمروءة والكرامة مع موقف رجل يرغب في أن يساعده القانون على أن تبقى في الحياة معه امرأة لا تريده – إن الصفحاتِ العديدة المليئة بالتراث العربي المتعلق بالرجولة والشهامة والفروسية والكبرياء والمروءة تداس بالأقدام عندما يُبقي رجلٌ واحد امرأة في حياة زوجية لا ترغب فيها. ولا أدل أيضاً على كون المسألة حالة عفونة ثقافية من أن آلاف الشباب بل وآلاف الفتيات يرفضون أن تكون العصمة في يد الزوجة في الوقتِ الذي كانت فيه العصمة في يد الزوجة الأولى للنبي ولا يستطيع أحدٌ أن يقول أن ذلك كانت له أية دلالات سلبية في حق الزوج الكريم.

ولا يفوتني أن أذكر أن متابعتي الطويلة لتراجيديا ثقافة التميّز الذكوري (الرجعية بل والجاهلية) في بعض المجتمعات هي مرضٌ لم يصب الرجالَ فقط (وإن كانوا هم مصدره والمستفيدين منه في دوائرهم الخاصة) إذ أن المرضَ قد أصاب الكثيرَ من النساء والفتيات لدينا، فأضحين أمهاتٍ ينشئن أبنائهن وبناتهن على تلك الذهنية التي لا أجد كلمات مهذبة لوصفها سوى أنها ذهنية رجعية وغير مناسبة للتقدمِ والعصرِ والعلمِ والمدنيةِ. إن تحرير المرأة من ربقة الثقافة الذكورية الرجعية (والتي هي شكل من أشكال الرق وهزيمة الرجولة والمروءة) تبقى أمراً مستحيلاً ما لم تصبح المرأة نفسها في طليعة الساعين لتغيير هذه الثقافة الدونية بثقافة عصرية تكون فيها المرأة على قدم المساواة تماماً وكليةً في سائر المجالات وشتى المواضيع بل ويسود إقتناعٌ (هو جزء لا يتجزأ من تكويني العقلي) بأن المرأة أكثر بكثير من نصف المجتمع : فهي كما ذكرت نصف المجتمع عددياً ، وأكثر من ذلك بكثير كأم للرجال والنساء معاً – وما أعمق حزني أن تكون تلك قضية مثارة في زمنٍ ينشغل المتقدمون بالعلم والتقدم والحريات العامة وحقوق الإنسان ، بينما نسأل نحن سؤال يحمل أطناناً من الخزي : (هل المرأة مساوية للرجل؟) ..

يقول الشاعرُ الفرنسي "أراجون" (أن الإنسانية لو واصلت الإعتذار لمدة خمسين ألف سنة للنساءِ على ما إقترفَه الرجالُ في حقهن – لما كان ذلك كافياً) … وهو قولٌ صحيح إلى أبعدِ حدٍ . وأضيفُ إليه أنني بعد رحلةٍ عارمةٍ مع المعرفة لا أجد شيئاً أسوأ في سجل البشرية من أمرين: الحروب (وما يلحق بموضوعِها من إنفاقٍ أحمقٍ على التسلح) ثم موقف أعـدادٍ كبيرةٍ من الرجالِ من المرأةِ – وهو موقف مشين ومهين للبشريةِ جمعاءِ (لاحظ أن الموضوعين الرئيسيين في خطبة الوداع كانا عدم العودة للتقاتل وعدم إهانة النساء). لقد ذكرت في أكثر من موقع بكتاباتي أنه من المستحيل إحداثِ التقدمِ في أي مجتمعٍ لا يساوي بين المرأة والرجل – وأن المشكلة تكمن في أن "الذهنية" التي لا تستطيع أن تستوعب ذلك لن تستطيع أن تستوعب متطلبات التقدم . وأن الرجلَ الذي يتحدث عن تميّز الرجال عن النساء هو صاحب "إرث مهول" من ضعفِ الثقةِ بالذات . وأن الذين يعتقدون أنهم يؤسسون آراءهم الرافضة للمساواة المطلقة بين المرأة والرجل على أساسِ ما يسمونه "رأي الدين" هم في الحقيقة أناس جعلوا ثقافة العصور الوسطى وقيم المجتمع القبلية ومفاهيم الجماعات الرحل (البدو) مرجعية سموها (خطأً) "برأي الدين" … والحقيقةُ أنها آراؤهم هم بما يمثلونه من ضعفٍ واضحٍ في الثقةِ بالذاتِ وسقوطٍ كلي في ثقافةٍ هي ضفيرة من "البداوةِ" و"القبليةِ" و"القرون الأوسطية" . لقد لامتني كاتبةٌ أقدرها كثيراً لأنني أتحدثٌ عن المرأةِ كركنٍ لازمٍ للتقدم ولا أتحدث عن مساواتها بالرجل من منطلق أن ذلك "حقها الإنساني" - والحقيقة أنني أؤمن بالزاويتين : فالتقدمُ لا يحدث في مجتمعٍ لا تشيع فيه ذهنيةُ المساواة بين المرأة والرجل … كذلك فإن هذه المساواة المطلقة إنما هي "حق إنساني أصيل للنساء" لا يجادل فيه من تكوَّن عقلياً وثقافياً بشكل علمي وعصري ومتمدن .

لقد كان "قانون الخلع" في مصرَ إنجازاً حضارياً عظيماً – إلا أن إعترافنا بهذا الإنجاز وتقديرنا العميق له لا يتناقض مع حتمية الدعوة لإيجاد ضماناتٍ قانونيةٍ دستوريةٍ تجعل "من المستحيل" على دعاةِ الظلام والرجعية أن يتمكنوا من إلغاء هذا القانون … بل وأطالب بخطوة أخرى للأمام: وهي النص في كل وثائق الزواج على حق المرأة في طلب التطليق لمجردِ التضرر (مادياً كان أم معنوياً) … كما أُطالب بنشرِ ثقافةٍ تدعو للوصول بوثيقةِ عقدِ الزواج لما قام عليه زواج النبي من خديجة بنت خويلد – والتي كانت بيدها أن تلغي عقد الزواج وقتما تشاء كما كان الإتفاقُ على عدم التزوج بأخرى عليها منصوصاً عليه .

كذلك من الواجب واللازم اليوم إيجاد برنامج محدد لتعيين عددٍ كبيرٍ من النساءِ في معظم المجالات. فبدون ذلك ، ستكون هناك فرصاً لذهنية الرجعية والثقافة الذكورية القرون أوسطية لمحو الخطوات والإنجازات الحضارية التي تتم. إن "الأمرَ الواقع" هو الذي سيحول دون حدوث نكسة حضارية.

إن الذين يتحدثون تحت مظلة ما يسمونه "رأي الدين" في بلد مثل مصر هم الذين ساندوا الملك فؤاد في عشرينيات القرن الماضي في سعيه لمنصب الخلافة … ثم أرادوا أن يكون تتويج الملك فاروق في سنة 1937 في الأزهر وليس تحت قبة البرلمان … وهم الذين قالوا في الستينات أن الإسلام هو الإشتراكية … ثم قالوا نقيض ذلك بعد سنوات قليلة … وهم الذين قالوا في مرحلةٍ أن الحربَ مع إسرائيل واجب ديني – ثم قالوا في السبعينات أن الصلح معها هو "رأي الدين" (إن جنحوا للسلم فاجنح لها) … وهم الذين قالوا لعقود عديدة أن إذلال المرأة والإتيان بها قسراً لبيت الطاعة هو "حكم الدين" .. ثم عدلوا عن ذلك . لهؤلاء نقول: أننا نعلم عن الفقه الإسلامي مثلما تعلمون (وعلى استعداد لمناظرتكم أجمعين) .. وأول ما نعلمه أن تعريف الفقه الإسلامي هو (إستنباط الأحكام العملية من أدلتها الشرعية) … والإستنباط "عمل بشري" وهذا هو ما عبَّر عنه الإمام أبو حنيفة عندما وصف "دنيا علم أصول الفقه" بقولته الرائعة: (علمنا هو رأي – فمن جاءنا بأفضل منه قبلناه) . وأبو حنيفة (لمن لا يعلم) لم يقبل من الأحاديث إلا عشرات في مقابل قبول أحمد بن حنبل لعشرات الآلاف . كما أن الرجل المعروف بالإمام الأعظم (أبي حنيفة) هو الذي يقوم مذهبه على إمكانية رفض تأسيس الأحكام على الأحاديث التي تعتبر من "أخبار الآحاد" . والخلاصة، أن مطالعتنا لآلاف المراجع في علم أصول الفقه جعلتنا نرى بوضوح أننا أمام عمل بشري أنجزه عمالقة أفذاذ … ثم جاء الشّراحُ (وهم أصحاب محصول معرفي ومكن عقلية أقل) فأضفوا قداسة (لا محل لها) على عملٍ بشريٍّ .

إن هذا الوقت هو الأنسب لكسر حلقة الجمود في موقفنا العام من المرأة – فلنتقدم ونحدث كل الخطوات التي تجعل من المستحيل أن يتمكن أحد في المستقبل من إحداث نكسة حضارية في هذا المجال .

ولنكن على يقين أن هناك علاقة مؤكدة بين التكوين الثقافي للإنسان وما يعتقده في هذا الموضوع بالغ الأهمية - وهو ما سيقودنا لإكتشاف حقيقة جوهر ومنبت الرأي الذي يتجه للمحافظة على وضع المرأة على ما كان عليه في معظم تاريخنا: وأعني أن إستعمال "الدين" ما هو إلاِّ "غطاء سياسي" لوجهات نظر تنبع من الثقافة التي كونتها مصادر أربعة هي: ثقافة البداوة وثقافة القرون الوسطى والثقافة الذكورية المتأصلة في ثقافة القبيلة الصحراوية وإنعدام (أو ضعف الصلة) بالمعرفة الإنسانية الواسعة. فما الذي نتوقعه من "رجل" نهل من تلك المنابع وإستكملها بعزلته الثقافية عن إبداعات الإنسانية العظيمة والتي يندر توفرها لمن لا تكون له أدوات طيعة من لغات دول عصر النهضة؟ .. كما أن إنعدام الموضوعية في ذلك الأمر "مطلق": فنحن هنا أمام "رجعية" تزاوجت مع "البدائية" وتلونت "بالقبيلة" – ثم كستها بعد ذلك رقيقة من العزلة عن "منابع الإبداع الإنساني العالمية" ثم اكتملت المأساة بكون صاحب الشأن يدافع عن ذاته (والتي هي ضعيفة لدرجة مذهلة).

************

٢
و كما ذكرت، فإن الموقف من "الآخر" هو مفتلح من مفاتيح التقدم. و أذكر هنا أن صديقا سألني ونحن في أحد إجتماعات مؤسسي كرسي الدراسات القبطية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة (ومن بين مؤسسيه ثلاثة مسلمون هم الأمير طلال بن عبد العزيز ووزير السياحة المصري الأسبق فؤاد سلطان وكاتب هذه السطور): لقد لاحظت في إجتماعاتنا هذه أنك لابد وأن تكون قد طالعت عشرات الكتب عن تاريخ المسيحية في مصر وتاريخ الكنيسة المصرية كما لاحظت أنك تبحرت في مسائل اللاهوت المسيحي بوجه عام وحسب الإيمان الأرثوذكسي القبطي.. كما تذهلني معرفتك بالأديرة المصرية-فما الذي دفعك لهذا الإبحار في هذا المجال بهذه الكيفية؟.. قلت: الشعور بالذنب!.. رأيت الدهشة الممزوجة بالتساؤل الحائر في عينيه قبل أن ينطق لسانه بالسؤال: مما؟ قلت: في يوم سمعت شخصاً يتحدث عن خلاف البابا كيرلس الخامس مع كل من بطرس باشا غالي والمجلس الملي وتدخل الخديوي في الخلاف وإتخاذه لموقف مؤيد للمجلس الملي-فشعرت بغصة في حلقي: كيف طالعت مئات الكتب عن فلاسفة من ألمانيا والدانمارك وفرنسا وبريطانيا وكيف طالعت عشرات الكتب عن الثورة الأمريكية وعن الثورة الفرنسية وعن الثورة الروسية وكيف طالعت العديد من الكتب عن كونفوثيوس والصوفيين المسلمين (وبالذات المغاربة والعراقيين)… كيف حاولت ألا أترك مجالاً من مجالات العلوم الإجتماعية والإنسانيات إلا وطوفت به-وهاأنذا أجد نفسي أمام حقيقة مضعضعة: أنني لم أقرأ كتاباً عن تاريخ الكنيسة المصرية.. ولم أقرأ كتاباً عن الخلافات اللاهوتية الكبرى التي أدلت فيها الكنيسة المصرية بدلوها الهام.. ولم أعرف من هو أثناسيوس وما هو دوره في صياغة قانون الإيمان المسيحي… ولم أعرف شيئاً عن أنطونيوس أبو الرهبان في العالم كله.. ولم أعرف شيئاً عن المجامع.. وعن مجمع خلقدونيا بالذات وأثر الإختلاف الذي شقه… ولم أرى ديراً واحداً في أديرة البحر الأحمر أو برية شيهيت (الصحراء الغربية) أو أديرة الصعيد وأشهرها "المحرق" و"درنكة". ولم أعرف من هو المصري من بين مشاهير القديسين…

وكعادتي مع نفسي-إذ آخذها بالشدة والصرامة اللتين لا يكاد معظم الناس يقدرون على تخيلهما-كذلك فعلت-وكانت النتيجة بعد عشرين سنة أنني أصبحت أستقبل الطلبة الذين يعدون رسائل الدكتوراه في تاريخ الكنيسة المصرية أو تاريخ الرهبنة المصرية أو اللاهوت الأرثوذكسي المصري أو الفن القبطي أو تاريخ الأقباط السياسي والإقتصادي والإجتماعي منذ دخول الإسلام مصر لأسلط الضوء على جوانب لم يكونوا عارفين بها… ولأدلهم على مراجع لا ينبغي لهم ألا يكونوا مطلعين عليها.

سألني محدثي:وماذا كان أثر ذلك عليك؟ قلت: أنني أصبحت على دراية جيدة بقرون من تاريخ وطني (مصر) وبعناصر أساسية من عناصر تكوين التاريخ المصري والشخصية المصرية… وأهم من ذلك أنني تخلصت تدريحياً من أية رقائق من التعصب قد أكون عشت بها سنوات.

سألني محدثي في دهشة: وهل تنتظر أن يفعل كل مصري ذلك لكي نتخلص من التعصب؟ قلت: لا… أنتظر ذلك من خاصة المثقفين والنخبة التي تسمى بالإنتلجنسيا. هؤلاء هم الذين سيجبرون برامج التعليم على أن تزرع في عقول وضمائر أبناء وبنات هذا الوطن (مصر) الإحترام الأصيل لمعتقدات الآخرين… والتعايش البناء مع التعدد… مع قدر معقول من التعرف على "الآخر". أنا لا أتوقع أن يعرف المصري المسلم العادي معنى أن يرفع السيد المسيح في أيقونة إصبع واحد (ترجيح نظرية الطبيعة الواحدة) ومعنى أن يرفع إصبعين (ترجيح نظرية الطبيعتين التي تأخذ بها الكنيسة الكاثوليكية).. ولكنني أن يعرف ذلك (وكثير غيره) كبار المثقفون وقادة الفكر… وهؤلاء هم الذين يبثون قيم قبول الآخر والتسامح الديني والثقافي والتعايش الإيجابي مع التعددية… وفي نفس الوقت فإن هؤلاء هم الذين سيدمرون مؤسسة مُلاَّك الحقيقة المطلقة.

إن التعصب وعدم إحترام حق الآخرين في الإختلاف هو من جهة من ملامح العقل البدوي الذي غزا بثقافته (أو ببعض ثقافته) الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية وتسلل لها من عدة طرق مثل أبناء هذه المجتمعات التي ألجأتها ظروف الحياة للعمل عند البدو… ومثل إمتلاك البدو للمحطات الفضائية.. وكذلك للصحف والمجلات… بفضل "البترودلار" والذي جعل رجلاً مثل الشيخ "ص.ك" من "قادة الإعلام" في بلد أحمد لطفي السيد وطه حسين وسلامة موسى (يقف شعر رأسي وانا أكتب تلك الحقيقة)… كما أن التعصب ينتقل من "الطبقة القدوة" أي رموز المجتمع في كل المجالات.. وأخيراً فإن مؤسسة التعليم هي إما باذرة بذور التعصب في القول أو باذرة بذور السماحة والتآلف والتعايش مع الإختلاف والتعدد.



٢.1
مقدمة لازمة:
رغم أن مصرَ كانت كلهَا "مسيحية" لعدةِ قرونٍ ورغم أن المساهمةَ المصرية في بقاء العقيدة المسيحية بالشكل الحالي كانت هي المساهمة الكبرى وبرغم أن أكثر من مليون مصري قد ماتوا دفاعاً عن إيمانهم المسيحي فإن معظم المصريين المعاصرين بما في ذلك المثقفين وخاصة المثقفين إما أنهم لا يعرفون شيئاً على الإطلاق عن المسيحية وتاريخها في مصرَ أو أنهم على الأكثر يعرفون القليل جداً عن كل ذلك . وتدلني خبرتي المعرفية والثقافية على أن الإنسانَ كما أنه دائماً مُعرّض لأن يكون عدوَ ما يجهل فإنه يكون أيضاً أكثر قدرة على التعايش والتجاور المتحضرين مع "الآخر" عندما يكون مزوداً بمحصولٍ معرفيٍّ واسعٍ عن هذا "الآخر" . كان ذلك من جهةٍ ومن جهةٍ أخرى تعاطفي مع "الآخرين" كمعلمٍ من معالمِ تفكيري ووجداني هما الدافع لي أن أغوص في عالمِ المسيحية كما فعلت في عوالمٍ أخرى درستها وتعرفت على دقائقها فأصبح من المستحيل أن توجد بيني وبينها علاقة رفض قائمة على التعصب والشعور بالتميّز في جانبٍ والدونيةِ في جانبٍ آخر (فالمعرفة تمحو إمكانية ذلك كليةً) .

ويمكن تلخيص رحلتي المعرفية مع المسيحية بوجهٍ عامٍ والمسيحية في مصرَ بوجهٍ خاصٍ في المحطات الرئيسية التالية :

- الكتاب المقدس :
رغم مطالعتي للكتابِ المقدس (بعهديه) مرات عديدة منذ منتصف الستينات إلاِّ أنني أوليته عنايةً خاصة خلال السنوات العشر الأخيرة حيث طالعته عشرات المرات بدقةٍ شديدةٍ كما طالعت خلال هذه السنوات مئات الدراسات التي وضعها المتخصصون في الكتاب المقدس بمراكزِ بحثٍ عالميةٍ مرموقةٍ وبالذات الدراسات المُعمقة فيما يُعرف بالمصدر الألوهيمي والمصدر اليهووي الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب المقدس ثم تركيز أشد على الفترة التي تتعلق بالأنبياء من صموئيل إلى أنبياء الأسر البابلي مع عناية فائقة بعهد وشخصية وأسفار النبي الملك داود . وبنفس القدر كان إهتمامي بالعهد الجديد وبدراساتٍ مرتبطة مثل كل ما نُشر من أبحاثٍ عن لفائف البحر الميت ونجع حمادي .

- تاريخ المسيحية :
خلال السنوات العشر الماضية طالعتُ مئات المراجع عن تاريخ المسيحية بوجهٍ عامٍ وتاريخ المسيحية في مصر بوجهٍ خاصٍ وهو ما قادني إلى منطقتين أُخريين من مناطق البحث والدراسة هما دراسات اللاهوت المسيحي بوجهٍ عامٍ ومواقف الكنيسة المصرية من هذه المسائل اللاهوتية ولا سيما في حقبة الخلاف الكبير الأول (الآريوسية والنسطورية) والخلاف الكبير الثاني (حول الطبيعة الواحدة أو الثنائية للسيد المسيح لا سيما إبان باباوية الأنبا ديسقورس) … وثانياً موضوع "تاريخ البطاركة في مصر" حيث أوليت إهتماماً كبيراً بتاريخ البطاركة بوجهٍ عامٍ وبالمحطات الرئيسية في هذا الموضوع ومن أبرزها عهود وشخصيات مثل البابا أثناسيوس الرسولي وكيرلس عمود الدين وديسقورس ثم في العصر الحديث البابا كيرلس الرابع كما أوليت عناية فائقة بعهد البابا كيرلس الخامس .

- الرهبنة والأديرة المصرية :
وكان من الطبيعي أن تؤدي رحلة المعرفة بالمسيحية (سواء من زاوية الكتاب المقدس أو من زاوية تاريخ المسيحية ومواقف الكنيسة المصرية من المسائل اللاهوتية وتاريخ البطاركة في مصر) إلى التعرف على عالمٍ رحبٍ آخر هو عالم الرهبنة والرهبان والأديرة في مصر وهو ما تطّلب مطالعة عشرات المجلدات وزيارة عشرات الأديرة في شتى أنحاء مصر .

توضيح :
هذه "المقدمة اللازمة" هي من جهة الكلمة التي بدأت بها واحدة من محاضراتي عن (الُبعد القبطي في رقائق التكوين الثقافي المصري) وهي هنا مقدمة لازمة لورقة إستراتيجية قدمتها لمؤتمر آخر يبحث في الأصولية والتعصب – وهدفي من جمع النصين معاً هو أن أقول ببساطة : أن الجهلَ هو أبُ التعصبِ … كما أن التعصبَ هو الآفةُ التي من رحمها تخرج "المسألة القبطية المتأزمة في مصرَ اليوم" ، وبالتالي فإن المعرفة الواسعة من جهة هي الأداة الوحيدة لاستئصال شافة التعصب (ثقافياً) كماّ أن علاج أعراض المسألة القبطية يبقى أمراً غير مُجدي بدون التعامل مع المطبخ الذي أفرز هذه الأزمة وأعني (مطبخ التعصب). ونظراً لأن هذه الكلمة والورقة التي ستأتي بعد هذه الكلمة كانتا قد أُلقيتا في معهد علمي طالب من المشاركين فيه الالتزام بسرية الندوة لاعتبارات منطقية للغاية فإنني أنشر ما قلته أنا (لإنه بضاعتي الخاصة) ولا أنشر شيئاً آخر قيل في تلك الندوة كما لا أشير لإسم المعهد المنظم للندوة ومكان وتاريخ إنعقادها.



٢.2
كان المجتمعُ المصري حتى أوائل الخمسينيات متسماً بقدرٍ كبيرٍ للغايةِ من السماحةِ والقبولِ والاحترامِ المتبادلين بين الطوائف المختلفة بما في ذلك الطوائف الدينية وكانت هذه السماتُ أمراً مشهوداً لمصرَ من الأجانبِ الذين يعيشون بها وفي العالمِ الخارجي. ومع تصاعد ما يعرف الآن بالإسلامِ السياسي بدأ المجتمعُ المصري يفقد تدريجياً هذه الملامح الحضارية المتميزة. ومن أكبرِ الأدلةِ على كونِ نقطةِ البدايةِ هي تنامي الإسلام السياسي أن حركةَ التطرفِ عند الأقباط والتي تشكلت تحت إسم جماعة الأمة القبطية والتي قامت بإختطافِ البطريرك يوساب في سنة 1954 كان شعارُها مجرد إعادة صياغة لشعار الأخوان المسلمين : فبينما كان شعار الأخوان المسلمين (القرآن دستورنا) جاء شعار جماعة الأمة القبطية يرفع النداء بأن (الإنجيل دستورنا) وكان الشعارُ القبطي متأخراً بسنواتٍ عديدةٍ عن شعارِ الأخوان المسلمين بما يفيد أن الثاني كان ردَ فعلٍ للأولِ.

وعندما وقعت هزيمةُ يونيو 1967 بدا أمام أصحاب مشروع الإسلام السياسي أن الساحةَ خاليةُُ أمامهم: فبعد أن فشل المشروعُ النهضوي الذي تألق في عشرينيات القرن العشرين ثم تراجع أمام مدِ الأفكارِ الفاشيةِ التي مهدت للحربِ العالميةِ الثانيةِ ثم فشل المشروع القومي الذي تأجج في الخمسينيات وفي الستينيات ظن أصحابُ مشروعِ الإسلامِ السياسي أن الساحةَ أصبحت ممهدةً أمامهم وضاعف من هذا الشعور الشعاراتُ التي رفعت في أوائل السبعينات بهدف تحجيم تيار الإشتراكيين والناصريين وأهمها شعار (دولة العلم والإيمان) وشعار (الرئيس المؤمن ) وقد أدي هذا الزخمُ من التصاعد إلى حدث من أسوأ الأحداث في تاريخ مصر المعاصر وهو اغتيال أشخاص ينتمون للإسلام السياسي لرئيس الدولةِ يوم 6 أكتوبر 1981.


٢.3

و يعرفُ الكثيرون إهتمامي الفائق بالشأنِ القبطي وما تفرع عنه من تعمقٍ في دراسةِ تاريخ المسيحية في مصرَ والتعرفِ على الموروثِ الثقافي القبطي بكل تفاصيِله ودقائِقه كذلك يعرفُ هؤلاء أن هذه الرحلة أقتضت أن أكون قريباً من مئاتِ بل والآفِ الأقباط بما في ذلك عددٌ كبيرٌ من رموزِ الكنيسةِ المصريةِ . وقد طالبني كثيرون من هؤلاء بأن أكتبَ وجهةَ نظري فيما يمكن أن يُسمى بالمسألة القبطية والتي يقولُ البعضُ بأنها متأزمةٌ بينما يقولُ البعضُ الآخر بأنها وهمٌ من اختراعِ الخيالِ وأنه لا توجد مشكلة أو أزمة قبطية على الإطلاق .
وأَود أن أبدأ بما سأشير إليه بعد ذلك بالعبارة الديباجة ، فأقول أن الحقيقةَ المُؤكدة أن الأقباطَ هم (أو يجب أن يكونوا) مواطنون مصريون أُصلاء بمعنى أَنهم مصريون من الدرجةِ الأولى وأن هذا هو وطنُهم وأنهم لا يعيشون فيه عالةً في ظلِ تسامحِ الآخرين وإنما لهم ما للشركاءِ من حقوقٍ ومكانةٍ – وفارقٌ كبير بين الشريكِ ومن يُمن عليه .
فإذا كانت هذه العبارةُ التمهيدية محلَ إختلافٍ ، فلا مجال لأي حوارٍ لأنه سيكون بمثابةِ حوار الطُرشان : فكل من يعتقد أن الأقباط مواطنون من الدرجةِ الثانيةِ وأننا نتسامح معهم فنسمح بوجودِهم وقد يضيفُ آخرون أنه يجب أن تُطبق عليهم الجزية – فليس لأولئك أسوقُ هذا الحديث إذ إنني وإياهم مختلفان إختلاف المشرق عن المغربِ ، ومن بابِ العبثِ إضاعةُ الوقتِ في حوارٍ مع من يعتقد في شئٍ من هذا . أما إذا كان القارئُ يُسلم معي بصوابِ العبارةِ الديباجة في هذا الفصل، فإنه يكونُ هناك مجال للحوارِ ولبحث الأمر على أَلاَّ ينوب أحدٌ عن الأقباط في التعبيرِ عن جوانبِ شكواهم – فليس من حقِ أية جهةٍ رسميةٍ أو غير رسميةٍ أن تقف وتقول : أنه ليست للأقباط في مصر مشاكل أو شكاوى وإنما الذي يملك حقَ التعبيرِ عن ذلك هو الأقباط أنفسهم . وعندما أكتبُ أنا هذه السطور فإنني أعكسُ ما سمعته مراراً وتكراراً من المواطن المصري القبطي العادي والذي لا يمكن تصنيفه كمتمردٍ أو آبق أو مُبالغ في الأمر لأنني أعرفُ مزاعمَ المُبالغين ولن أتطرقُ إليها في هذا الفصل وإنما أكتبُ ما لمسته (وصدّقته) خلال سنواتٍ طويلة ممن يمكن وصفهم بأواسطِ الأقباط المُعتدلين .


٢.4
الموضوع الأساسي هو: هل يعاني أقباطُ مصرَ (وهم في بلدهم) من مشكلاتٍ كبيرةٍ؟ .. والجواب الوحيد هو: "نعم".

نعم: يشعر الأقباطُ بمخاوفٍ على أنفسهم وأسرهم وأموالهم وسلامتهم بدرجة أكبر مما يشعر به المسلمون (وإن لم يكونوا أيضاً في مأمنٍ كاملٍ).

نعم: يعاني الأقباطُ من شيوعِ وذيوعِ مُناخٍ عامٍ متعصبٍ وغير متسمٍ بالمودة تجاههم.

نعم: يعاني الأقباطُ من تحدياتٍ إضافيةٍ في مراحلِ التعليم والتوظيف والترفيه لمجرد أنهم أقباطٌ.

نعم: يشعر الأقباطُ أنهم (وإن كانوا بشهادةِ معظم المسلمين أكثر كفاءة من المتوسط العام للمسلمين) فإنهم لا يشغلون مناصباً عامة هامة كمنصب المحافظ ونائب المحافظ ورئيس المدينة ورئيس الجامعة وعميد الكلية ومعظم مناصب الصف الثاني في وزاراتِ الخارجيةِ والدفاعِ والداخليةِ .. وغيرها.

نعم: يشعر الأقباطُ أنه في حالاتٍ كثيرةٍ ما أن يذكر القبطي إسمه الدال على قبطيته إلاِّ وشعر بتدهور شديد في درجة المودة في الطريقةِ التي يُعامل بها.

نعم: يشعر الأقباطُ أنه من غيرِ المنطقي أن نسبتهم في المجتمع قرابة سدس (خمسة عشر في المائة) من السكان بينما عدد النواب الأقباط في مجلس الشعب أقل من 1%. ولا يحتاج الإنسان لكثير ذكاء ليتيقن أن ذلك لا يمكن أن يكون حادثاً بالصدفة وإنما بفعل عواملٍ لا يمكن إلاِّ أن تكون رديئة وغير منطقية وظالمة وغير إنسانية ومخالفة لأبسط معاني المواطنة.

نعم: يشعر الأقباطُ أن الإدعاءَ بأن "كل شئٍ على ما يرام" لأن شيخ الأزهر يعانق البابا في بعضِ الصور هو إهانةٌ لذكاءِ كل قبطي وكل مصري.

نعم: يشعر الأقباطُ أنه من الغريبِ أن يسددوا ضرائباً تبنى منها المساجدُ وينفق منها على جامعة الأزهر – بينما يعانون هم أشد المعاناة في إنشاء كنائس بأموالهم الخاصة.

نعم: يشعر الأقباط (ولا سيما من تجاوز الستين منهم) أنهم اليوم محاطون بأخلاقيات وطرائق تعامل معهم ومع زوجاتهم وبناتهم وأبنائهم تختلف كلية عما عايشوه منذ أكثر من أربعين سنة في نفسِ المكان (مصر).

هذه هي الجوانب الجوهرية للموضوع ، أما إتهام كل من يتحدث في هذه الأمور بالعمالةِ لأطرافٍ معاديةٍ لمصرَ والإنخراط في مؤامرةٍ ضد مصر ، إنما هو عبث وإهانة للحقيقة وهوان للمنطق.
و من الجدير بالذكرأن هناك إجماع داخل المجتمع القبطي على أن كل ما يُحيط بقوانين وإجراءات ورسميات إنشاء كنائس جديدة أو ترميم أو إصلاح كنائس قديمة كان يخضع لأمورٍ تخرج عن نطاقِ العقلِ – وقد حدث بعض الإنفراج في هذا الأمر ولكنه في إعتقاد معظمهم إنفراج لا يُصاحبه إيمانٌ عميقٌ بفداحةِ الموقف الذي كان يُحيط بهذه المسألة ، ولا شك أن العلاجَ الوحيد المُرضي هو أن توجد قوانين تُنظم إنشاء دور العبادة (بصرف النظر عن أسمها : مساجد أو كنائس) وتضم قواعد منطقية وعقلانية تنطبق على الجميع – فليس من العقل ولا من المنطق أن يُحاط جانب بقيودٍ غليظة ويتمتع جانبٌ بحريةٍ تصل إلى حدود الفوضى والخروج عن كل القوانين بينما يكونُ موقفُ البعضِ منهم هو الخوف والفزع . ولكن هل مشكلة الكنائس هي لُب شعور الأقباط بوجود مضايقات أو أزمة ؟ .. الجواب قطعاً بالنفي فهناك مشاكل أشد حدة مما يُعاني منه الأقباط من أجل الحصول على تصريحٍ بإنشاءِ كنيسةٍ جديدة – رغم عجزي الدائم عن فهمِ المضار التي يمكن أن تُحيط بأحدٍ من جراءِ إنشاءِ كنائسٍ جديدةٍ – فالكنائسُ إما دور للعبادةِ (لأصحابها) وإما مكان لمناسباتٍ مثل الأفراح أو الجنازات وهي من صميمِ الحقوقِ الإنسانيةِ.
أما المشاكلُ الكبرى التي يُعاني منها الأقباطُ فيمكن أن تُوجز فيما يلي :
- وجود مُناخ عام تشيعُ فيه في بعضِ الأزمنةِ وفي بعضِ الأمكنةِ روحُ التعصبِ التي يستشعرها القبطي بحساسيةٍ عاليةٍ وبمجرد ذكر إسمه .
- وهناك الشعورُ السائد بين الأقباط أن تمثيلهم في الحياة العامة والمناصب الكبرى قد إنخفض تدريجياً خلال السنوات الخمسين الأخيرة حتى بلغ حد عدم إنتخاب قبطي واحد في مجلس الشعب في سنة 1995 .
- وهناك أيضاً الأحداث المُحتقنة التي تقع بين الحين والآخر مثل أحداث الكُشح .
وفيما يلي بعض الملاحظات التحليلية على جوانبٍ من الشعور القبطي بالتأزم من تلك المسائل :
- أما المناخُ العام الذي توجد في كثيرٍ من مواقعِه روحُ تعصبٍ بغيضةٍ ، فهو أمرٌ لم يحدث بقرارٍ حكومي أو سياسي وإنما جاء كنتيجةٍ طبيعيةٍ لهزيمة المشروع المصري النهوضي وما واكب هذه الهزيمة (لا سيما منذ يونيه 1967) من تصاعدٍ للفكرِ والثقافةِ الأصوليةِ والتي عرضت نفسها كبديلٍ عن قادةِ المشروع النهوضي ، ومع استشراء مفردات ثقافة هذا التيار (وهو التيار الذي قتل أنور السادات ونفذ العديد من الجرائم الأخرى) تشبع المناخُ العام بروحٍ محافظةٍ بل ورجعيةٍ كان من المُحتم أن تُفرز موقفاً متعصباً من الأقباط . وكما قال مفكرٌ مصري مرموقٌ ، فكلما إنهزم المشروعُ النهوضي في مصرَ إنعكس ذلك بالسلب على فريقين من أبناءِ مصرَ هما النساء والأقباط – والعكس صحيح ، فمع إزدهار جو ثقافي نهوضي تكون الآراءُ السائدة تجاه المرأة وتجاه الأقباط متحضرةً وموائمةً للعصرِ والتمدنِ. ولكن إذا كان من الظلمِ أن نقول أن النظام السياسي في مصرَ اليوم هو سببُ وجودِ هذا المُناخ العام الذي ينتشر في ظله في بعض الأحيان وفي بعض المواقع "التعصبُ" ، فإنه من الموضوعي أن نقول أن الحكومةَ كان ولا يزال بوسعِها أن تفعل الكثيرَ للحدِ من هذا العنصر السلبي (التعصب) في مُناخنا الثقافي العام من خلال ضرب المثل والقدوة ومن خلال برامج التعليم والإعلام فبوسع الحكومة من خلال ذلك التعامل الفعّال والناجع مع "ثقافةِ التعصبِ" . ولكننا نحتاج هنا لرؤيةٍ شاملةٍ تبذر بذورَها في برامج التعليم كلِها وفي وسائل الإعلام والأنشطة الثقافية بل وتبذر في المنابر الدينية ، فلا أمل في التقدم إذا وقفت المؤسساتُ الدينية الإسلامية موقفاً مُناهضاً لمشروع ثقافي يهدف لإستئصال شأفة التعصب من مُناخنا العام – وهنا فإن على الأزهر أن (يُقاد) من طرف رؤية النظام لا أن (يقود) ، فترك أيَّ أمرٍ لرجالِ الدين يعني قبول إنتشار ثقافة ثيوقراطية لا يمكن بالمنطق والتجربة أن تكون من أنصارِ ثقافةِ عدمِ التعصب والقبولِ العميقِ بحق الآخرين في الإختلاف (وهنا فإننا نتحدث عن حالة واضحة من حالات الإختلاف في ظلِ منظومةِ الوحدةِ) .
وكاتبُ هذه السطور يعلم أن "الكلام" في هذا الموضوع أسهل بكثير من "الفعل" – ولكنه أيضاً يعلم أن وظيفة "القيادة" (بالمعنى الواسع ، أي كل القيادات التنفيذية العليا) هي بلورة الرؤية وأن تقود لا أن تُقاد . وأي زعم بأن النظام السياسي الحالي في مصرَ بطبيعته عدوٌ لهذا الفكر هو زعم غير صحيح ، فالنظام لم يخلق – في إعتقادي – روح التعصب وإنما "سكت" على وجودها زمناً طويلاً ثم إكتشف عن قُرب أن الفكرَ الواقف وراء ثقافةِ التعصبِ هو العدو الأول للنظام وهو الذي أفرز حادثة المنصة وحادثة أديس أبابا وغيرها من الأحداث التي ما هي إلاِّ "ذروة" ثقافةٍ معينة .
وأما الشعورُ السائد بين الأقباط أن تمثيلهم في الحياةِ العامةِ والمناصبِ الكبرى قد إنخفض بشكلٍ كبير خلال العقودِ الأخيرةِ ، فتلك حقيقةٌ تثبتها مئاتُ الإحصائيات ولا ينبغي أن تُفهم على أن النظام يقصدُ ذلك ولكن الحقيقة أن الحكوماتِ المتوالية سمحت بتفاقمِ الظاهرةِ وأصبحت هذه الظاهرةُ السلبية يتعاظمُ حجمها في ظلِ مناخٍ من عدم رؤيتها وهو ما يستحقُ الدراسة ، وإن كنتُ أعتقد أنه يُفسر بثقافةٍ ذاعت وشاعت في حياتنا العامة خلال العقودِ الأخيرة جوهرها إنكار المشكلات والحديث بإصرار على أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان وهي ظاهرة تخرجُ من رحم بُعدٍ ثقافي آخر هو عدم قبول النقد وعدم تأصيل القدرة على ممارسةِ النقدِ الذاتي . وقد يندفعُ البعضُ قائلاً أن السببَ الوحيد هو "سلبيةُ الأقباط" وإنكبابهم على الأنشطةِ المالية – والحقيقةُ أن هذا من باب وضع الحصان أمام العربة ، فالأقباط سلبيون لا شك كما أنه لا ريب أنهم إنصرفوا إلى الأنشطة المالية والإقتصادية ولكن ذلك كان نتيجة لا مقدمة : نتيجة لإنغلاق أبوابٍ عديدةٍ أمامهم وهم أصحاب الكفاءات الحقيقية التي لا يجوز لعاقلٍ أن ينكرُها .
ورغم يقيني أن التحليلَ الوارد أعلاه سليم إلاَّ أنني أعلم أنه ناقصٌ : فكما أن هناك أَبواباً عديدة مغلقة أمام أصحابِ الكفاءاتِ العاليةِ من الأقباط فإن معظمَ هذه الأبواب أيضاً مغلقٌ أمام أصحاب الكفاءات العالية بوجهٍ عام ، فأساسُ اللعبة هو المُشاركة في المطبخ السياسي الذي تكوّن خلال العقود الأخيرة وهو مطبخٌ مُنفّر بطبيعته لأصحاب الكفاءات إذ إنه يقوم على قواعدٍ من الولاءِ الشخصي وغير ذلك من مفرداتِ المطبخ السياسي المصري المُعاصر وهي مفردات طاردة لأصحاب الكفاءات وأصحاب الكبرياء .
أما الأحداثُ المُحتقنة التي تقع بين الحين والآخر مثل أحداث الخانكة ومروراً بعشراتِ الأحداثِ حتى نصل إلى مآسي الكشح الحديثة فإنها ناجمةٌ عن عناصرٍ واضحةٍ لعل أهمها ما يلي :
- الرغبة في تصغير حجم ما يحدث خوفاً من آثارِ إنعكاس الحقيقة على سمعةِ مصرَ – والحقيقةُ أن سمعةَ مصرَ تُخدم بمواجهةِ الحقيقة لا بإدارة الظهر لها .
- تفشي ثقافة تجاهل المشكلات والتغني بالإنجازات ومدح الذات .
عدم أخذ العبرة من الجهود المخلصة التي بُذلت في دراسة وتحليل مثل هذه الأحداث وأشهر الأمثلة على ذلك عدم الإستفادةِ من التقريرِ المشهور بتقرير الدكتور العطيفي عن أحداثٍ من هذا النوع وقعت في السبعينات وكان يمكن الإستفادة القصوى منها لولا ذيوع ثقافة أن ما حدث أمرٌ بسيط حرضت عليه قوةٌ خارجيةٌ تريد السوء بمصرَ .
وفي كل الأحوال فإننا ندعو لا لتوجيه إتهامٍ أو لوم لأحدٍ وإنما لدراسةٍ موضوعيةٍ محايدةٍ تهدفُ (مثل دراسة الدكتور العطيفي) للوقوفِ على عناصرِ ما يحدث ولا تهدف للقول بأن الحكومة تضطهد الأقباط فليس من الحكمة أو العقل أن يكون هذا هو الهدف كما أنه ليس من الحكمة والعقل أن يُقال أن كلَ شئٍ على ما يرام.
٢.5
منذ سنوات حضر لمكتبي بالقاهرة شخص لموقعه المرتفع وعمله (من خلال منصب رفيع) إتصال مباشر بالشأن القبطي ، وسألني عن سبب تحمسي الشديد لما أسميه في كتاباتي "المسألة القبطية". قلت له يومئذ أن كوني مصرياً يحتم علىِّ أن أفعل ذلك. وهو ما يحتم علىِّ أيضاً مناصرة قضايا المرأة في مصر. فمصر العليلة اليوم لن تكون على بداية درب الشفاء ما لم يندرج أقباطها وتندرج نساؤها في معالجة قضايا مصر ومعضلاتها من موقع المواطنة الكاملة الخالية من الشوائب (وما أكثرها). إن المظلوم المفتئت على حقوقه لا يمكن أن يساهم في دفع العربة المتعطلة. وكنت على يقين أن ذلك الزائر لم يفهم ما قلته – فهو مدربٌ على أن يتعامل مع الأقباط كخطرٍ على مصرَ .. رغم أنهم "أصل مصر". يومها قلتُ له أيضاً: "إذا لم تناقش المسألة القبطية هنا في مصر فستناقش في الخارج .. وإذا لم نقرْ بكل جوانبِ المسألة ، فإن الأقباط في الخارج سيطورون من أسلوب تناولهم للأمرِ من "مجرد الصياح بكونهم مظلومين" إلى "مسألة حقوق إنسان" – وعندئذٍ سيسمع لهم كثيرون ، ومنهم كبار صناع القرار على مستوى الكرة الأرضية.

سمعنا في مُقتبل العمر المقولة العربية الصغيرة (معظم النار في مستصغر الشرر) .. واليوم: فإن معظمَ البلايا من تجاهلها وقت أن كانت صغيرة لا تكاد تلحظ.

أننا نطالب العالم بأن يصدق (زعمنا) أننا ممتازون مع (غير المسلمين) ومع (النساء) .. ونستمرئ تكرار ذلك والعالم ينظر لأفعالنا فيجدها عكس أقوالنا كلية.

وعودة لمسألة أقباط مصر ، أقول أن إستمرار معظم المسئولين في مصر في تجاهل المسألة القبطية قد يأخذ مصر لأزماتٍ أكاد أراها في الأفق ، وهي تشبه أزمات آخرين في المنطقة سولت لهم أنفسهم من قبل تجاهل بعض المشكلات وأهمها تجاهلهم لحقائق العالم الجديد : عالم ما بعد نهاية الحرب الباردة .. وهو عالم لن تنفع أحد فيه "فكرة السيادة" بمنطقها ومفهومها القديم والذي إستقر لعقود طويلة قبل أن ينهار سور برلين وتصبح الدنيا غير الدنيا ، ويفهم البعض الدنيا الجديدة ، ويعجز البعض عن فهم واستيعاب طبيعة وخصائص وكيف وكم ومعاني التغيير.

ولعلي لا أجد شيئاً أختم به هذه الفقرة أفضل من القصة التالية : في حوارٍ عن المسألةِ القبطيةِ سألني أحدُ الحضور عن إحتياجاتِ الأقباط ومطالبهم فبدأت بالمطلب الثاني ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس ... وعندما سألني عن المطلب الأول قلتُ له أن ما يحتاجه الأقباط أولاً وقبل كل شئ هو (حضن إجتماعي) بمعنى أن يشعروا أن هناك رغبة عميقة في الإستماع إليهم وإلى شكواهم ومشكلاتهم من موقع المحبة والتعاطف والإيمان بأنهم شركاءٌ في هذا الوطن وليسوا أقلية من الدرجةِ الثانية عليها أن تقبل وتقنع بعطايا الأغلبية . ولعلي لا أتجاوز الموضوعية إذ أقول أن دراسةَ حالةِ ونموذج سعد زغلول وعلاقته بالأقباط يمكن أن تكون نقطة بداية رائعة لمن يرغبون في حلٍ أصيلٍ وكاملٍ فقد كان سعدُ زغلول معبودَ الأقباط لأسبابٍ عديدة من صناعته وتصميمه هو.

٢.6
أما اليوم ، فإن ملفاً حساساً مثل ملف الأقباط في مصرَ بما يثيره من تأزمٍ موسميٍ في العلاقات المصرية الأمريكية ما هو إلاَّ انعكاس من انعكاساتِ تفاقمِ ثقافةِ التعصبِ في المجتمع المصري- وعليه فإن علاج الأعراضِ يكون أمراً بالغ الخطأ وغير ذي جدوى،فالحكمةُ تقتضي علاج منبع المشكلة أي (ثقافة التعصب) والتي شاعت في المجتمع قرابة 50 سنة.

ويقتضي التعاملُ مع مشكلةٍ بمثل هذا الحجم والخطورة والأهمية والتشعب وجود جهة معنية بالمشكلةِ وعلاجِها كمجموعةِ تفكيرٍ "Think-Tank " بهدف أن تقوم هذه المجموعة بالإتفاق على السياسات والإستراتيجيات والآليات التي ستستعمل لإحداث التغير الكمي (التراكمي) في عددٍ من المجالات الهامة على رأسها (التعليم) و(الإعلام) و(الثقافة) و(الخطاب الديني في المؤسستين الإسلامية والمسيحية)...وغيرها.

ونظراً لإن هذه "المعالجة" ستكون "طويلة المدى" بطبيعتها فإنه ينبغي أن يسير بمحاذاة هذه المعالجة طويلة المدى تدخلُُ قصير المدى بهدفِ إحداثِ علاجٍ فوريٍّ لبعض حالات الخلل الناجمة عن التعصب لتكون "قدوة" على المدى القصير تساعد برنامج المدى الطويل- على أن تكون الإعتبارات الموضوعية هي أساس هذه التدخلات (مثال: كأن يتم إختيار عدد من الأقباط لشغل مواقع بارزة لا لكونهم أقباطاً ولكن لكونهم الأكثر كفاءة في تلك المواقع في نماذج واضحة لإبرازِ مرجعيةِ "المواطنة" قبل أية مرجعية أخرى).

ويمكن أيضاً تفيعل عدد كبير من "تدخلات المدى القصير" بمحاذاة آليات المدى الطويل بهدف تشجيع وترسيخ روح عامة مناهضة للتعصب مثل وضع قواعد جديدة لإنشاء دور العبادة وإعادة تفعيل دور وزارة الهجرة بهدف إنشاء ديالوج إيجابي جديد مع المصريين بالخارج يقوم على الحوار الذي يهدف لاستئصال ثقافة التعصب من كل جوانب المجتمع المصري.

1- آليات التعامل.
يمكن تصور عدد من الجهات (المجموعات) التي تعمل على تقليص روح أو ثقافة التعصب وإشاعة روح وثقافة مختلفة تقوم على عدم الخلط بين التَمسك بالدين (أياً كان) وبين التعصب – ونظراً لأن لهذا الغرض مجالات مختلفة فإنه يتصور وجود مجموعات عمل لا تقل عما يلي :

أ – مجموعة التعليم:
وهدفها وضع السياسات والبرامج الكفيلة بغرس قيم التسامح والتعددية وقبول حق الآخرين في الاختلاف والتواجد وتأصيل هذه القيم كقيمٍ تستمد جذورها من الأديان السماوية نفسها ومبادئ الأخلاق والمدنية.
ب – مجموعة الإعلام:
وهي المجموعة التي يمكن أن يكون لها تأثير سريع وملموس على المدى القصير والمتوسط نظراً لما لوسائل الإعلام من قدرةٍ عاليةٍ على التأثير في مجتمعنا – وتقوم هذه المجموعةُ أيضاً بوضع التصورات الأساسية للسياسات والتوجهات التي تمكّن وسائل الإعلام من غرس وتأصيل قيم التآخي والسماحة والتسليم بأن الاختلاف والتعدد من سمات الحياة الإنسانية ومحاربة التعصب والتطرف بشكل عام.

ج – مجموعة الخطاب الديني (الإسلامي والمسيحي) :
لا شك أن الخطاب الديني (الإسلامي والمسيحي) ذو تأثير بالغ على العقول والرأي العام في المجتمع المصري، لذلك ينبغي وجود مجموعة خاصة لوضع سياسة عامة (ثم تفصيلية) للخطاب الديني بهدف نزع بذور وأسس التعصب من الخطاب الديني ذي التأثير الواسع للغاية على الرأي العام في مصرَ.

د – المجموعة الثقافية:
رغم أَن أثرَ "العمل الثقافي" في مصرَ أبطأ وأقل وضوحاً من العمل "التعليمي" و "الإعلامي" إلاَّ ان قطاعات الثقافة المختلفة هي التي تؤثر في "الذين يؤثرون في الناس" لذلك ينبغي وجود خطط قصيرة المدى لتوظيف الثقافة لمحاربة قيم التعصب في المجتمع.

واليوم ، فإن ملفاً حساساً مثل ملف الأقباط في مصرَ بما يثيره من تأزمٍ موسميٍ في العلاقات المصرية الأمريكية ما هو إلاَّ انعكاس من انعكاساتِ تفاقمِ ثقافةِ التعصبِ في المجتمع المصري- وعليه فإن علاج الأعراضِ يكون أمراً بالغ الخطأ وغير ذي جدوى،فالحكمةُ تقتضي علاج منبع المشكلة أي (ثقافة التعصب) والتي شاعت في المجتمع قرابة 50 سنة.

ويقتضي التعاملُ مع مشكلةٍ بمثل هذا الحجم والخطورة والأهمية والتشعب وجود جهة معنية بالمشكلةِ وعلاجِها كمجموعةِ تفكيرٍ "Think-Tank " بهدف أن تقوم هذه المجموعة بالإتفاق على السياسات والإستراتيجيات والآليات التي ستستعمل لإحداث التغير الكمي (التراكمي) في عددٍ من المجالات الهامة على رأسها (التعليم) و(الإعلام) و(الثقافة) و(الخطاب الديني في المؤسستين الإسلامية والمسيحية)...وغيرها.

ونظراً لإن هذه "المعالجة" ستكون "طويلة المدى" بطبيعتها فإنه ينبغي أن يسير بمحاذاة هذه المعالجة طويلة المدى تدخلُُ قصير المدى بهدفِ إحداثِ علاجٍ فوريٍّ لبعض حالات الخلل الناجمة عن التعصب لتكون "قدوة" على المدى القصير تساعد برنامج المدى الطويل- على أن تكون الإعتبارات الموضوعية هي أساس هذه التدخلات (مثال: كأن يتم إختيار عدد من الأقباط لشغل مواقع بارزة لا لكونهم أقباطاً ولكن لكونهم الأكثر كفاءة في تلك المواقع في نماذج واضحة لإبرازِ مرجعيةِ "المواطنة" قبل أية مرجعية أخرى).

ويمكن أيضاً تفيعل عدد كبير من "تدخلات المدى القصير" بمحاذاة آليات المدى الطويل بهدف تشجيع وترسيخ روح عامة مناهضة للتعصب مثل وضع قواعد جديدة لإنشاء دور العبادة وإعادة تفعيل دور وزارة الهجرة بهدف إنشاء ديالوج إيجابي جديد مع المصريين بالخارج يقوم على الحوار الذي يهدف لاستئصال ثقافة التعصب من كل جوانب المجتمع المصري.

2- آليات التعامل.
يمكن تصور عدد من الجهات (المجموعات) التي تعمل على تقليص روح أو ثقافة التعصب وإشاعة روح وثقافة مختلفة تقوم على عدم الخلط بين التَمسك بالدين (أياً كان) وبين التعصب – ونظراً لأن لهذا الغرض مجالات مختلفة فإنه يتصور وجود مجموعات عمل لا تقل عما يلي :

أ – مجموعة التعليم:
وهدفها وضع السياسات والبرامج الكفيلة بغرس قيم التسامح والتعددية وقبول حق الآخرين في الاختلاف والتواجد وتأصيل هذه القيم كقيمٍ تستمد جذورها من الأديان السماوية نفسها ومبادئ الأخلاق والمدنية.
ب – مجموعة الإعلام:
وهي المجموعة التي يمكن أن يكون لها تأثير سريع وملموس على المدى القصير والمتوسط نظراً لما لوسائل الإعلام من قدرةٍ عاليةٍ على التأثير في مجتمعنا – وتقوم هذه المجموعةُ أيضاً بوضع التصورات الأساسية للسياسات والتوجهات التي تمكّن وسائل الإعلام من غرس وتأصيل قيم التآخي والسماحة والتسليم بأن الاختلاف والتعدد من سمات الحياة الإنسانية ومحاربة التعصب والتطرف بشكل عام.

ج – مجموعة الخطاب الديني (الإسلامي والمسيحي) :
لا شك أن الخطاب الديني (الإسلامي والمسيحي) ذو تأثير بالغ على العقول والرأي العام في المجتمع المصري، لذلك ينبغي وجود مجموعة خاصة لوضع سياسة عامة (ثم تفصيلية) للخطاب الديني بهدف نزع بذور وأسس التعصب من الخطاب الديني ذي التأثير الواسع للغاية على الرأي العام في مصرَ.

د – المجموعة الثقافية:
رغم أَن أثرَ "العمل الثقافي" في مصرَ أبطأ وأقل وضوحاً من العمل "التعليمي" و "الإعلامي" إلاَّ ان قطاعات الثقافة المختلفة هي التي تؤثر في "الذين يؤثرون في الناس" لذلك ينبغي وجود خطط قصيرة المدى لتوظيف الثقافة لمحاربة قيم التعصب في المجتمع.






الفصل الثامن عشر
الواقع الذى نتجاهله


عندما إندلعت الحربُ العالمية الثانية في سبتمبر 1939 لم تكن الولاياتُ المتحدة الأمريكية بين أطرافِ هذا النزاعِ الكبيرِ إذ تأخر دخولُها حتى سنة 1941 عندما جاء هذا التدخل نتيجة الجهود التي كان يبذلها رئيسُ الوزراء البريطاني يومئذ ونستون تشرشل بهدفِ إقحامِ الولاياتِ المتحدة الأمريكية في الحربِ (مع الحلفاءِ)، وأما الأمر الثاني (والمباشر) فهو الهجوم الياباني على بيرل هاربر في سنة 1941 والذي ألقى بالولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ في قلبِ النزاعِ. وفي صيف سنة 1945 أنهت الولاياتُ المتحدة الأمريكية الحربَ العالمية الثانية بذراعها العسكريةِ القويةِ سواء في أوروبا أو في أقصى شرق آسيا. ورغم أن الولاياتِ المتحدة الأمريكية كانت هي العاملَ الحاسمَ لإنتصارِ الحلفاءِ وإنتهاءِ الحربِ العالميةِ الثانيةِ بالصورةِ التي إنتهت بها إِلاَّ أن حصدَها لثمار هذا الواقع لم تظهر بعد إنتهاءِ الحربِ العالمية الثانية (1945) وإنما تأجلت لأقل قليلاً من نصف قرنٍ- فبينما كان منطقُ حساباتِ القوى يحتم أن تحصد الولاياتُ المتحدة الأمريكية ثمارَ إنتصارها العسكري في سنة 1945 إلاَّ أن واقعاً جديداً (وهو واقع الحرب الباردة 1945 – 1990) قد ‍‍‍‍حال دون أن تجلس الولاياتُ المتحدة الأمريكية على مقعدِ المنتصرِ على العالمِ وتمارس دوراً تمليه حساباتُ القوى، فخلال الحرب الباردة حال وجودُ الإتحاد السوفيتي بين الولايات المتحدة الأمريكية وممارستها لهذا الدور ولكن ما أن إنهار إلاتحاد السوفيتي ومعه الكواكب التي كانت تدور في فلكِه حتى عاد للمسرحُ الدولي إلى اللحظة التي كانت تنتظرها الولايات المتحدة الأمريكية في سنةِ 1945 وأصبح (منذئذ) من الممكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تحصد الثمارَ المادية والواقعية لكونها القوى السياسية والإقتصادية والعلمية والعسكرية الأولى (بلا منازع) في العالمِ. وإذا كانت ظروفُ الحربِ الباردة قد أرجأت أن تكون الولاياتُ المتحدة الأمريكية في موقعٍ يسمح لها بحصدِ ثمارِ مكانتها ، فإن وصولَ كلينتون لمنصب الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية في يناير 1993 قد أحدث أيضاً إرجاءاً طفيفاً لظهور هذه الحالة (التي تعكس موازين القوة) على مسرحِ العالمِ بشكلِ واضحٍ وكاملٍ. وفي تصوري أنه إذا كان الرئيس جورج بوش قد فاز بفترة ولاية ثانية (في إنخابات نوفمبر 1992) لكان العالمُ قد شاهد ما بدأ يشاهده منذ وصولِ الجمهوريين للحكمِ مرة أخرى في يناير 2001 – فمجموعةُ اليمين في الحزب الجمهوري الأمريكي أكثر وضوحاً في التعاملِ مع حقائقِ ونتائج هذا الواقع الجديد أكثر من غيرهم في الولاياتِ المتحدة الأمريكية .

وخلال سني الحرب الباردة كان من الميسورِ لأي مراقبٍ من خارج الولايات المتحدة الأمريكية أن يرى أن مجموعة القيمِ والنظمِ الأمريكية السائدة داخل المجتمع الأمريكي والتي تسببت في وجودِ مجتمعِ بالغِ التقدمِ على كافةِ المستوياتِ: مجتمع تشيع فيه درجةٌ عاليةٌ من الديموقراطية وينتج إقتصادياً أكثر من ربع مجمل الناتج العالمي و يحتل موقعَ الصدارة علمياً وبحثياً وتقنياً وتكنولوجياً وعسكرياً ...كان من الميسور للمراقبِ أن يرى أن هذه المجموعةَ من القيمِ والنظمِ التي تعمل داخل الولايات المتحدة الأمريكية هي أمور مناقضة للعديدِ من جوانبِ السياسةِ الأمريكيةِ الخارجية: فبسبب ظروف الحرب الباردة تعاملتُ السياسية الخارجية الأمريكية مع مارشالات وجنرالات جمهوريات أمريكا الجنوبية والوسطى الطغاة والفاسدين كما تعاملت السياسةُ الخارجيةُ الأمريكيةُ مع العديدِ من أشباهِ هؤلاء في أفريقيا وآسيا كما أنها تبنت مجموعاتٍ فكريةٍ وسياسيةٍ متطرفة ورعتها وإستعملتها ومن بينها جماعات ومنظمات ودول أصبحت الولايات الأمريكية بعد ذلك تشكوا منها.

ومن أهم ثمار ثقافة الحرب الباردة أن السياسية الخارجية الأمريكية تجاهلت أن الديموقراطية ليست فقط حقاً إنسانياً لكل البشر (بما في ذلك بشر منطقة الشرق الأوسط) وإنما هي صمام الأمان الوحيد للبشرية جمعاء من عواقب الطغاة والديكتاتوريات الشمولية والمنظمات المتطرفة.

وإبان سني الحرب الباردة كانت السياسة الخارجية الأمريكية أحياناً تهتم بالديموقراطية وحقوق الإنسان ومحاربة الطغيان والفساد عندما يقترف شيئاً من ذلك المخالفون لها والذين يعملون ضد مصالحها بينما كانت تغض البصر نهائياً عن تلك الخطايا الأخرى عندما يكونون من أنصارها أو من الذين هم على علاقات مصلحية معها. واليوم فإن الأزمةَ الكبرى في عددٍ من دول العالم أن الولايات المتحدة الأمريكية تعلن أنها تتوخى توفير الديموقراطية لمجتمعاتٍ كانت (قد تركتها بإختيارها) لطغاة فاسدين قاموا بعملية غسل أدمغة لشعوبهم تضمنت إفهام هذه الشعوب أن الكرامة تتلخص في مناطحة ومواجهة وتحدي الحضارة الغربية : مما يجعل كل أطراف العالم في أزمة.

وإذا كان من حق البعض ألاَّ يرضى عن هذا الواقع المادي الناجم عن موازين القوى ...وإذا كان من حق آخرين ألا ترضيهم حقيقة إنفراد الولايات المتحدة الأمريكية بكتابةِ القواعدِ الأساسية للسياسية والإقتصاد في العالم... وإذا كان فريق ثالث من حقه أن يتسأل عن معنى مصطلحات مثل (السيادة) و (الشرعية الدولية) ...وكلُها أسئلة ومواقف يجب إحترامها ، فإن من حق فريقٍ رابعٍ أن يطرح الأسئلة التالية:

 هل ثقافة المقاومة والتحدي والمواجهة هدف أم وسيلة؟ …وإذا كانت هدفاً فما هي العواقب العملية لها! وإذا كانت وسيلة، أفليس من حق البعض أن يتسأل عن فرص نجاحها أو فشلها ؟

 هل رفض مجيء الإصلاح والتطوير والتحديث من الخارج (وهو رفض له معقوليته) يعني رفض مجيء ذلك من الخارج فقط؟ …أم رفض الإصلاح والتطوير والتحديث بشكل مطلق؟ وهل هناك وسيلة لتجنب فرض ذلك من الخارج إلاًّ بالمبادرة به من الداخل لا لكونه مطلباً لأحدٍ وإنما لكونه حقاً ومطلباً لنا؟

قامت دولة من دول منطقتنا برفع (شعار التطوير بدون تغيير) في أوائل التسعينيات: فهل بذل المثقفون لديناً جهداً كافياً لمعرفة أسباب ومنابت ثقافة معاداة التغيير في واقعنا سياسياً وإقتصادياً وإدارياً وإجتماعياً وتثقيفياً وإعلامياً وتعليمياً ؟‍!





#طارق_حجي (هاشتاغ)       Tarek_Heggy#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إصلاح التعليم : ماذا يعني ؟
- سجون الثقافة العربية السجن الأول : الثقافة الدينية السامة.
- هل من تفسير ؟
- لو كنت كرديا من سوريا ... : سلسلة - لو كنت ..... - الحلقة ال ...
- مرة أخرى: مسيحيو مصر (عرض لمرض مجتمع).
- بمثل هذا الموقع (الحوار المتمدن) -قد- نستطيع بدء نهضة ثقافية ...
- من ذكريات زيارة حديثة لكردستان الرائعة
- قرار تقسيم فلسطين نوفمبر 1947 : من دفاتري القديمة
- تراجيديا المرأة فى مجتعنا - بمناسبة اليوم العالمي للمرأة...
- الشرق والغرب : الفهم المفقود.
- رسالة للحكام العرب - بمناسبة اليوم العالمي للمرأة
- نصيحة مجانية للرئيس إبن الرئيس ...
- المرأة : نصف البشرية المعطل فى مجتمعاتنا الظلامية
- بين ثقافة السلام وثقافة الحرب .
- الصراع العربي الإسرائيلي في مفترق طرق .
- العقلية العربية المعاصرة : عقلية خارج مسيرة التمدن !
- هوامش على دفتر الإصلاح.
- الثقافة .. أولاً وأخيراً .
- .هلع العاجزين عن التغيير
- عن التسامح المنشود.


المزيد.....




- مقتل فلسطينية برصاص الجيش الإسرائيلي بعد مزاعم محاولتها طعن ...
- الدفاع المدني في غزة: العثور على أكثر من 300 جثة في مقبرة جم ...
- الأردن: إرادة ملكية بإجراء الانتخابات النيابية هذا العام
- التقرير السنوي لـ-لعفو الدولية-: نشهد شبه انهيار للقانون الد ...
- حملة -شريط جاورجيوس- تشمل 35 دولة هذا العام
- الصين ترسل دفعة من الرواد إلى محطتها المدارية
- ما الذي يفعله السفر جوا برئتيك؟
- بالفيديو .. اندلاع 4 توهجات شمسية في حدث نادر للغاية
- هيئات بحرية: حادث بحري جنوب غربي عدن
- وزارة الصحة في غزة تكشف عن حصيلة جديدة للقتلى والجرحى نتيجة ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - طارق حجي - سجون الثقافة العربية : السجن الثاني : المفاهيم السلبية الشائعة