أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - صبحي حديدي - الاقتصاد السياسي للأدب: عولمة المخيّلة، أم مخيال العولمة؟ 1 ـ 2















المزيد.....

الاقتصاد السياسي للأدب: عولمة المخيّلة، أم مخيال العولمة؟ 1 ـ 2


صبحي حديدي

الحوار المتمدن-العدد: 791 - 2004 / 4 / 1 - 09:29
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


I
في مقالة شهيرة بعنوان « ما يُرى، وما لا يُرى»، روى الإقتصادي والسياسي والكاتب الفرنسي فردريك باستيا Bastiat (1801 – 1850) الحكاية التالية، ولم يكن يدري أنه إنما يستبطن واحداً من أطرف ــ ولكن أدقّ ــ تعريفات العولمة كما نعيشها في هذه العقود. قال باستيا: لو ألقى صبيّ حجراً على نافذة متجر صغير وكسر الزجاج، فإنّ صاحب المتجر سيخسر ستة فرنكات لإصلاح الزجاج. هذا خبر سيء بالنسبة إليه. ولكن مهلاً! قد يكون خبراً سارّاً تماماً للبعض من مراقبي المشهد، خصوصاً الاقتصاديين. هذا الفعل التدميري أمر مفيد في الواقع: فكّروا في بائع الزجاج الذي سيركّب لوحاً جديداً وسيقبض أجره! فكّروا في هذا الأخير وهو يدفع الفرنكات الستة إلى سواه، لينفقها هذا الشخص الثالث، ثمّ ينفقها الرابع، وهكذا... منافع كسر زجاج المتجر لا عدّ لها ولا حصر!
وباستيا روى الحكاية هذه ليميّز بين الاقتصاديّ الرديء الذي ينظر إلى النتائج القريبة، التي تُرى مباشرة، والاقتصادي الجيّد الذي يستبصر النتائج البعيدة التي لا تُرى إلا بصفة غير مباشرة. ما يُرى في مشهد الصبي وهو يكسر زجاج المتجر ليس سوى انتعاش سلسلة من الصناعات واستفادة حفنة من قابضي الأجور. ما لا يُرى هو أنّ المواطن صاحب المتجر، والذي وجد نفسه مجبراً على إنفاق ستة فرنكات، سيجد نفسه مضطراً أيضاً لحرمان نفسه من حاجيات أخرى ضرورية كان سيبتاعها بالفرنكات إياها! وفي المحصلة، ثمة صاحب المتجر الذي خسر، وبائع الزجاج الذي ربح.
وضمن نطاق هذه الورقة، الذي يُعنى أساساً بواقع الثقافة والأدب في سيرورات العولمة، سوف نكتفي بالإتكاء على الدلالات التي تنطوي عليها حكاية لوح الزجاج المكسور، وسنتجنّب عن سابق قصد متاهة تعريفات العولمة. لا بدّ، مع ذلك، من القول إنّ العولمة تشير إلى اتساع الروابط العالمية، وتنظيم الحياة الإجتماعية على ركائز عالمية أكثر منها محلية، وتنامي الوعي العالمي، وتوطيد ما يسمّى «مجتمع العالم». والعولمة تنطوي في آن معاً على انضغاط العالم وعلى تكثيف الوعي بالعالم بوصفه مجموعاً كلّياً، وتسفر عن بلورة أربعة مكوّنات رئيسية لشرط الوجود الإنساني: المجتمعات (أو الدوَل ـ الأمم)، النظام العالمي، الأفراد (بوصفهم نفوساً)، والبشرية قاطبة. ولأنها سيرورة تربط الوعي وتحرّض على الوعي بالارتباط في آن، تسعى العولمة إلى حلّ الاستقلال الذاتي لأطراف النظام العالمي وأعرافه.
وفي ما يخصّ العواقب الثقافية للعولمة، هنالك نوعان من السيناريوهات. الأوّل، والأكثر شيوعاً، يرى أنّ العولمة تجانس ثقافي جوهرياً، حيث يجري جَرْف المجتمعات ذات الثقافات المتميّزة في فيضانات عولمة البضائع ووسائل الإعلام والأفكار والمؤسسات. وفي عالم يستهلك شطائر الماكدونالد من أقصاه إلى أقصاه، ويرتدي سراويل الـ «جينز»، ويشاهد الـ CNN، ويتحدّث عن حقوق الإنسان، ويعمل على برامج بيل غيتس الكومبيوترية... في عالم كهذا ثمة أخطار كبرى تتهدّد الخصائص الثقافية المحلية. ولأنّ معظم هذه البضائع غربية أو أمريكية، فإنّ العولمة تُرى كظاهرة غربية أو أمريكية حصراً. السيناريو الثاني يتنبأ بالكارثة لأنه يفترض التشظي الثقافي والنزاع ما بين ثقافة وأخرى، وأبرز تنظيراته نظرية صمويل هنتنغتون الشهيرة حول «صراع الحضارات».
وقبل مغادرة الحكاية التي رواها الاقتصادي الفرنسي باستيا حول وجود خاسر أوّل بالضرورة في نظام العولمة، أتوقف عند مقولة «الإمبريالية الثقافية»، التي إذا كانت نتيجة مباشرة للطابع الغربي ـ الأمريكي للعولمة، فإنها أيضاً نتيجة مباشرة لتراث الاستعمار القديم والاستعمار الجديد، فضلاً عن طونها ثمرة توازنات الضعف والقوّة في النظام السياسي العالمي الراهن. ومثالي هنا هو دافيد روثكوف، المدير الإداري لمؤسسة «كيسنجر وشركاه»، أشهر معاقل الاستشارات الكونية الجيو ـ سياسية حيث يعمل عشرات الخبراء، وحيث يقوم ساسة كبار متقاعدون (شغلوا مناصب رفيعة في الإدارات الأمريكية، من مرتبة مستشار الأمن القومي إلى وزير الخارجية) بتحليل أحوال الكون في الماضي والحاضر والمستقبل، وحيث يقترحون على كبار صانعي القرارات السياسية والاقتصادية هنا وهناك في العالم هذه أو تلك من الحلول الكفيلة بعلاج اعتلال الكون. وإلى جانب منصبه هذا، يدرّس روثكوف العلاقات الدولية في جامعة كولومبيا، وسبق له أن شغل موقعاً بالغ الحساسية في وزارة التجارة أثناء الولاية الأولى للرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون.
إنه، بالتالي، لا يفتقر إلى المؤهلات التي تعطيه الحق في الخروج على أمريكا، ولكن على العالم بأسره أيضاً، بنظرية جديدة تلمّ شتات ما قاله فرنسيس فوكوياما حول نهاية التواريخ غير الأمريكية ونهاية الإقتصادات غير الرأسمالية، وشتات ما قاله ويواصل قوله صمويل هنتنغتون حول صراع الحضارات بدل صراع الأنظمة والمصالح والإيديولوجيات. روثكوف عرض نظريته في الفصلية الأمريكية النافذة Foreign Policy، ضمن محور خاص بالعولمة. أفكاره الأساسية تسير كما يلي، باختصار شديد:
ـ تكنولوجيا المعلوماتية، وبالأحرى انفجار تكنولوجيا المعلومات، هو أبرز مظاهر العولمة الراهنة التي يشهدها العالم بأسره.
ـ الولايات المتحدة هي سيّدة هذه الثورة وصاحبة الباع الأطول في تطويرها وتصديرها. إنها تسيطر تماماً على أوتوستراد المعلومات وأكثر من أي بلد آخر على الإطلاق. العالم يصغي إلى الموسيقى الأمريكية، ويشاهد التلفزات الأمريكية، ويستخدم البرامج الكومبيوترية الأمريكية، ويأكل الأطعمة الأمريكية، ويلبس الثياب الأمريكية. الأمريكيون يتحكمون في سمع وبصر وذوق ومعدة وعقل العالم. العالم يتأمرك بقوة واضطراد.
ـ ثقافات العالم الأخرى لا تستطيع مقاومة هذا الغزو الأمريكي الشرعي، وحالها أشبه بحال الملك كانوت (أحد ملوك الفايكنغ في القرون الوسطى)، الذي نصب عرشه أمام البحر وأمر الأمواج بالإنحسار. مطلوب بالتالي أن تستغل مختلف إدارات البيت الأبيض هذا الوضع الاستثنائي، فتترجم شعار «الولايات المتحدة بلد لا غنى عنه» إلى واقع فعلي يدشّن القرن القادم، بل ويهيمن عليه... حتى يشاء الله!
ـ لا ديمقراطية، ولا أوهام ليبرالية أيضاً، حول ضرورة إفساح المجال أمام الثقافات الوطنية لكي تترعرع وتحتفظ بهوياتها الوطنية. ولا مجال أيضاً أمام فكرة «التعددية الثقافية»، الرومانتيكية في الجوهر، المنتمية إلى عصور القوميات في الجوهر والشكل، المعرقلة للمزيد من نشر وانتشار العولمة الشاملة.
ـ البديل الوحيد المتاح، بل المطلوب بإلحاح شديد، هو تعميم الثقافة الأمريكية، وحدها وحصراً. ويقول روثكوف حرفياً: «قد يجادل الكثير من المراقبين بأنه من غير المستحب انتهاز الفرص التي تخلقها الثورة المعلوماتية العالمية من أجل فرض الثقافة الأمريكية على الآخرين. ولكنني أجادل بأن هذا النوع من النسبوية خطير بقدر ما هو خاطىء. ذلك لأن الثقافة الأمريكية مختلفة جوهرياً عن جميع الثقافات الأصيلة في العالم، وهي جماع متجانس من المؤثرات والمقاربات الكونية، وهي منصهرة في خلاصة خاصة تتيح تطوّر الحريات الفردية والثقافات الفردية على حدّ سواء».
ـ تأسيساً على هذه المحاجّة، يتابع روثكوف: «ينبغي أن لا يعفّ الأمريكيون عن القيام بما هو في صلب مصالحهم الإقتصادية والسياسية والأمنية، التي ليست في نهاية الأمر سوى مصالح العالم على اختلاف جغرافياته وثقافاته. وينبغي على الولايات المتحدة أن لا تتردد برهة واحدة في تعميم قيمها وأخلاقياتها. وينبغي على الأمريكيين أن لا ينسوا لحظة واحدة أن ثقافتهم، وحدها ودون ثقافات جميع الأمم على امتداد تاريخ العالم، هي الأكثر عدلاً، والأكثر تسامحاً، والأكثر استعداداً لإعادة تقييم وإعادة تطوير عناصرها، والنموذج الأفضل من أجل مستقبل الإنسانية».(1)

II
فلنعد، مرّة ثانية، إلى الماكدونالد...
ولا ريب أنّ الماكدونالد مؤسسة معولمة تماماً، شعبية في أكثر من 100 بلد، وتخدم أكثر من 100 مليون زبون يومياً. وعالم الاجتماع جورج ريتزر نحت فعلاً خاصاً لوصف عمليات التجانس: Macdonaldization، وهو بالطبع فعل تصعب صياغته في العربية. ولنقرأ ما يقوله عن هذه الشطيرة الشهيرة شاعر عربي هو عباس بيضون:
"لم يستفزّ ماكدونالد مزارعينا ولا مثقفينا، فقد سبقته ماركات كثيرة. ففي مدى عقود تغيّرت تماماً مآكلنا كلها، وكذلك ملابسنا وأثاثنا ومعمارنا وطرق عيشنا وكيفية تمضية وقتنا وفراغنا. كان البنطلون بالتأكيد غازياً أكبر من الماكدونالد، وزال الطربوش ببطء أكثر من زوال القنباز ــ الثوب القديم الواسع. كانت المقاومة غير فعالة كثيراً على مستوى المعيش، مما جعلها أكبر على مستوى الفكر. تغيير الحياة لم يتمّ بصعوبة كبيرة، لكن ترافق بكراهية أكبر للغازي الغربي وربما للذات التي تقبلت جرثومته وتركتها تتوسع في داخلها. المهم أن الماكدونالد يمكن أن يستفزّ الأوروبيين، أما العرب فلن تشكل بالنسبة إليهم فارقاً، فقد باتوا منذ زمن بعيد في تصرّف كل الماركات الأوروبية أولاً، ولن تزيد الماركات الأمريكية شيئاً".(2)
بالطبع بيضون شاعر حداثي، وهو يكتب قصيدة النثر أو لم يكتب في حياته سوى هذا الشكل الشعري الحداثي الذي يعدّ بدوره ماركة أوروبية. وهو يساري سابقاً، أو لعله ما يزال أيضاً، وذاق طعم الاعتقال أثناء الاجتياح الاسرائيلي للبنان. ليست لديه أسباب مبدئية لكي يعلن الاستسلام لأقدار العولمة، وهو هنا يبدو كمن يقرّر واقع الحال ليس أكثر، أي دون أن يطلق أيّ نوع من أحكام القيمة على ضعف المقاومة في مستوى المعيش. ولكن هل اقترن هذا الموقف الفلسفي، بموقف جمالي على صعيد الإبداع؟ أي، في عبارة أخرى، هل قدّم بيضون قصيدة تنهض على مخيّلة معولمة؟
وضاح يوسف الحلو يردّ بالإيجاب، وهو يعتبر أنّ مجموعة بيضون الأخيرة «الجسد بلا معلّم» تدخل في سياق ما يسمّيه «شعر الحداثة الثانية»، وهو شعر "ليس مجرد إفرازات عولمية، لأنّ دعاة العولمة الشعرية يرون أنّ الاندماج بالعولمة لا يقتصر على اكتساب مهارات، وقدرات لغوية، وعلى الشعراء الذين يسعون إلى الإفادة من العولمة الشعرية وجني ثمارها، أن يندمجوا في منظومتها الثقافية». من جانبه يقول جورج جحا: «ويبدو شعر بيضون هنا حالة غريبة زئبقية تخلو من الملامح المحلية، الجغرافي منها واليومي والعادي والتعبيري في غالب الأحيان، وكأنه ليس ذا علاقة بمكان محدد خاص في عالمنا العربي. إنه غالباً ما ينتمي إلى عالم فكرة أو عالم عمل فني، فكأنّ موطنه الإنسان نفسه وتجاربه التي تمور بالحياة».(3)
ليس كلّ هذا الكلام مؤكداً بالطبع، غير أنّه يشير في اقع الأمر إلى جانب هامّ في مجموعة بيضون الشعرية الأخيرة، هو أنّ التخييل في القصيدة منفلت من المكان المحليّ، ولعلّه منفلت من كلّ مكان محدد، وهو بالتالي تخييل عولمي أو معولم. ولكن أيّ أدب يمكن أن يكون مركزياً وله موقع الصدارة في سياقات العولمة؟ وهل يمكن الحديث عن «اقتصاد سياسي» للأدب في ظلّ وبفعل العولمة، وبالنظرإلى أنّ الآداب الوطنية تولّت ــ على مدار التاريخ ــ مسؤولية التعليق على أحوال الشعب بصفة عامة، ومستويات وطرائق العيش الاقتصادية بصفة خاصة؟ هذا من جانب أوّل، جمالي وموضوعاتي صرف، ولكن الأدب من جانب ثان كان ويظلّ سلعة أيضاً، ومهنة، ومؤسسة لا تتيح التفاعل والتواصل بين الثقافات فحسب، بل تدخل مباشرة في شبكات من التبادل التجاري آخذة في الاتساع أكثر فأكثر.
وينبغي القول إنّ معظم نظريات العولمة مالت، في البدء، إلى منح الصدارة للثقافة "غير الأدبية» إذا جاز القول، أي وسائل الإعلام و«الميديا» بصفة عامة، إلى جانب التركيز على عناصر العولمة الكلاسيكية (تكنولوجيا المعلومات، رأس المال التمويلي، اضمحلال سيادة الدولة ـ الأمة، صعود القيم الكونية...). ذلك كله جرى على حساب دور الأدب. ويبدو أن الحال قد تغيّرت جذرياً في السنوات الأخيرة، وبدا واضحاً أكثر ذلك التشديد على العلاقة بين العولمة والثقافة (وفي مستوى أضيق: العولمة والأدب). فمن ناحية أولى بدت النصوص الأدبية وكأنها تكمل صورة وسيرورة عولمة العالم، كما في مثال عباس بيضون وسواه. ومن ناحية أخرى، ولكن أشدّ أهمية ضمن منطوق العولمة ذاتها، ترسخ مبدأ الملكية الفكرية وحقوق المؤلف وأخذ يصنع اقتصاداً نشطاً قائماً على «سلعة» من نوع جديد.
ومن الإنصاف القول إن الأدب، في معترك مثل هذا، لا يبدو وكأنه فقد قدرته على تمثيل مختلف الموضوعات الاجتماعية والنفسية والسياسية («الأدبية» التقليدية في عبارة أخرى)، أو أنّ النضال من أجل نيل أو تطوير أساليب وأجناس جديدة في التعبير قد انحسر أو كلّ أو تراجع. لكنّ الأدب، بوصفه ملكية فكرية، أخذ ينحني أكثر فأكثر لمتطلبات العولمة ولاقتصاد سياسي محدّد خاصّ بقوانين وشروط وسياقات تلك العولمة. وهذا، في الواقع، ليس أمراً باعثاً على الدهشة.
فمن المعروف أنّ حركة الحداثة التي تمثّل، في الغرب على الأقلّ، أحد أبرز تجليات العولمة في الفنون والآداب، اقترنت بمبدأ الاستثمار المالي على نحو وثيق ومدهش، منذ البدء. وفي كتاب ممتاز، وبالغ الأهمية، بعنوان «مؤسسات الحداثة: النُخب الأدبية والثقافة العامة»(4)، يرصد لورانس رايلي تاريخ «المؤسسة» التي وقفت وراء ممثّلي الحداثة، وحوّلت أعمالهم إلى بضاعة ــ وربما إلى صناعة ــ قابلة للترويج بهذه الطريقة أو تلك. و«المؤسسات» تلك كانت تبدأ من المجلة التي تنشر القصيدة، إلى دار النشر التي تطبع الرواية أو المجموعة الشعرية، دون أن تنتهي عند أهل المال والأعمال الذين لاح في طور محدّد أنهم نظروا إلى أعمال الحداثة نظرتهم إلى منافع جمع اللوحات والتُحَف والمجموعات النادرة.
والكتاب، بذلك، ينطوي على مراجعة جذرية للتناقضات العديدة التي حكمت علاقة الحداثة مع الشارع العريض والقارىء العريض، مع الذائقة السائدة، ومع «الثقافة العامة» على وجه التحديد. مَن الذي نشر قصيدة ت. س. إليوت «الأرض اليباب» للمرّة الأولى، ولماذا؟ مَن الذي قرأها، وهل قفزت أرقام المبيعات بسبب القصيدة؟ ما المبلغ المالي الذي قبضه إليوت لقاء نشر القصيدة، ولماذا كان أعلى من أيّ مبلغ قبضه شاعر آخر في ذلك الزمان؟ أليس من الطريف أن نعرف، في واحدة من أكثر حكايات الكتاب إثارة ودلالة، أنّ إليوت خاض مفاوضات طويلة حول ما يستحقه من مكافأة لقاء نشر «الأرض اليباب»، وأنه كاد أن يصرف النظر عن نشر القصيدة بسبب خلاف مالي لا يتجاوز 100 دولار أمريكي؟
وفي مطلع القرن كانت صورة الحداثة تتمثّل في أنها «استراتيجية تمكين العمل الفنّي من مقاومة محاولات تحويله إلى بضاعة». رايني يقول العكس: «الحداثة، بين أشياء أخرى، كانت استراتيجية تمكين العمل الفنّي من دعوة وتشجيع محاولات تحويله إلى بضاعة، وإنْ كانت قد فعلت ذلك بطرائق تجعل البضاعة ذات صنف خاصّ تماماً، معفاة مؤقتاً من متطلبات الإستهلاك الفوري السائدة في الإقتصاد الثقافي الأعرض، ولكن المندرجة في دائرة اقتصادية مختلفة، قائمة على الرعاية المالية، وجَمْع النادر، والمضاربة، والإستثمار».
وفي تشرين الأوّل (أكتوبر) من العام 1922، نُشرت قصيدة إليوت «الأرض اليباب» في المجلة الإنكليزية Criterion والمجلة الأمريكية Dial، قبل أن تظهر في كتاب مستقلّ حمل للمرّة الأولى شروحات إليوت التوضيحية. ولا حاجة لتكرار ما هو معروف من حقائق حول أثر القصيدة في تسجيل أكبر انتصارات الحداثة الشعرية، ولا الأسباب التي أتاحت نشر القصيدة في أوروبا والولايات المتحدة معاً. ما يريدنا لورنس رايني أن نعرفه هو التالي: لماذا لم تُنشر القصيدة حيث كان ينبغي أن تُنشر أوّلاً، أي في اثنتين من أبرز الدوريات الحاضنة للحداثة: Vanity Fair وLittle Review؟
فقرة واحدة في رسالة إليوت إلى سكوفيلد ثاير ــ صاحب مجلة Dial، وتاجر التُحف واللوحات، والمستثمر في ميدان الفنّ والأدب، وأكبر منافسي المجلات الحداثية ـ توضح بعض السبب: «لقد أعطيت لنفسي بعض الوقت للتفكير في عرضك [الخاص بنشر «الأرض اليباب» في المجلة]، وخلال هذا الوقت سمعت من مصادر موثوقة أنكم دفعتم مبلغ 100 جنيه استرليني إلى جورج مور مقابل قصة قصيرة، وأعترف أنّ هذا حفّزني على رفض عرضكم المتمثل في 150 دولاراً لقاء قصيدة صرفت عاماً كاملاً في كتابتها وهي عملي الأضخم».
ورغم أنّ إزرا باوند كان يعمل في المجلة، وتعرّض بالتالي لضغط مباشر من ثاير جرّاء موقف صديقه إليوت، فإنّ صاحب «الأرض اليباب» واصل مفاوضاته المالية الشاقة مع مجموعة Dial ونجح أخيراً في الحصول على المبلغ الذي يراه مناسباً لقصيدة صرف سنة كاملة في كتابتها! وإذا كان حرص إليوت على حقوقه المالية لا يدهش كثيراً بذاته، فإنّ نبرة التفاوض الباردة حول عمل إبداعي مرشح لموقع حجر الزاوية في الحداثة الشعرية هي التي تهمّ لورنس رايني: «لم تكن المؤسسات هي وحدها ناقلة القصيدة، بل أصبحت القصيدة ذاتها ناقلة للمؤسسات».
أمثلة الكتاب الأخرى تتناول إزرا باوند وما حظي به من رعاية سياسية، ولكن مالية أيضاً، من جانب موسوليني والأجهزة الفاشية عموماً؛ ومثال الشاعرة الأمريكية هيلدا دوليتل (1886ـ1961)، المعروفة أكثر باسم H.D.، والتي تُعدّ قصيدتها «ثلاثية» في مصافّ قصيدة إليوت «رباعيات» وقصائد باوند «أناشيد بيزا» من حيث صياغة المشهد الشعري الحداثي في العقود الأولى من القرن. و كانت H.D. ضحية ما يسمّية رايني «شعريات الِشلّة»، لأنها تورّطت في صداقة مع سيّدة بريطانية بالغة الثراء، تحوّلت بعدئذ إلى علاقة غرامية، وحوّلت قصائدها العميقة المتميّزة إلى «قِطع من الحلوى تُوزّع بعد حفلات العشاء على ثَريّات بوهيميات، اعتبرن الحداثة جزءاً من أثاث الصالون» كما يقول رايني.

إشارات
-----------
(1) David Rothkopf, "In Praise of Cultural Imperialism." Foreign Policy, 107, Summer 1997. P 67.
(2) عباس بيضون: «التحول إلى لا شيء»، مجلة Qantara.de، 543 http://www.qantara.de/webcom/show_article.php/_c-345/_nr-7/_p-1/i.html
(3) جورج جحا: «العالم الحي وألوان الأفول»، صحيفة «الوطن»، 32/11/3002.
(4) Lawrence Rainey, Institutions of Modernism: Literary Elites & Public Culture
Yale University Press, New Haven, 1999. P. 227



#صبحي_حديدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوصايا الكاذبة
- استشهاد الشيخ أحمد ياسين: هل تنقلب النعمة إلى نقمة؟
- صباح الخير يا كاسترو!
- أهي مصادفة أنها اندلعت في المحافظات الشرقية المنبوذة المنسية ...
- العروس ترتدي الحداد
- قد تصطبغ بلون الدماء حين يخرج جياعها إلي الشارع: روسيا التي ...
- تهذيب العولمة
- المواطن الأول
- ليس بعدُ جثة هامدة ولكن احتضاره ثابت وفي اشتداد حزب البعث بع ...
- تكريم إيهاب حسن
- الفنـّان والسـفـود
- دانييل بايبس الأحدث: يوم فالنتاين معركة حول -روح الإسلام-!
- اتفاقية سلام سورية – إسرائيلية: ما أبعد البارحة عن اليوم!
- معيار الفسيفساء
- تركيا: حوّلت الجار السوري إلى شرطي حراسة ساكت عن الحقّ
- قصور كرتون العولمة: حين ينقلب البشر إلى كلاب من قشّ
- بوش في -حال الإتحاد-: تلويحة القيصر.. ابتسامة الإمبراطورية
- راباسّا: أعظم الخونة!
- معارك إيران السياسية: لا مناص من انتصار الإصلاحيين
- حكاية مكتبة


المزيد.....




- شاهد ما حدث على الهواء لحظة تفريق مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ف ...
- احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين تمتد لجميع أنحاء الولا ...
- تشافي هيرنانديز يتراجع عن استقالته وسيبقى مدربًا لبرشلونة لم ...
- الفلسطينيون يواصلون البحث في المقابر الجماعية في خان يونس وا ...
- حملة تطالب نادي الأهلي المصري لمقاطعة رعاية كوكا كولا
- 3.5 مليار دولار.. ما تفاصيل الاستثمارات القطرية بالحليب الجز ...
- جموح خيول ملكية وسط لندن يؤدي لإصابة 4 أشخاص وحالة هلع بين ا ...
- الكاف يعتبر اتحاد العاصمة الجزائري خاسرا أمام نهضة بركان الم ...
- الكويت توقف منح المصريين تأشيرات العمل إلى إشعار آخر.. ما ال ...
- مهمة بلينكن في الصين ليست سهلة


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - صبحي حديدي - الاقتصاد السياسي للأدب: عولمة المخيّلة، أم مخيال العولمة؟ 1 ـ 2