أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الاطفال والشبيبة - غازي مسعود - ماذا يجب أن نقول للأطفال؟ أطفالنا بين الحاخامات والقساوسة والملالي و ... الآباء















المزيد.....



ماذا يجب أن نقول للأطفال؟ أطفالنا بين الحاخامات والقساوسة والملالي و ... الآباء


غازي مسعود

الحوار المتمدن-العدد: 2566 - 2009 / 2 / 23 - 10:05
المحور: حقوق الاطفال والشبيبة
    


((في ما يأتي ترجمة كاملة لمقالة نيكولاس همفري Nicholas Hemphery المعنونة "ماذا يجب أن نقول للأطفال؟" What Shall We Tell the Childrenالمصدر: سوشيال ريسيرش Social Research، مجلد 65، عدد 4، 1998. والمقالة في الأصل محاضرة ألقاها الكاتب في شهر شباط سنة 1997 في إطار سلسلة محاضرات أكسفورد للعفو Oxford Amnesty Lectures.))

إنني مدينٌ بعديد الأفكار الواردة هنا لجيمز دواير James Dwyer، الذي يقف نقدُهُ لمفهوم حقوق الأبوين كنموذج للعقلانية الفلسفية والقانونية. (ستظهر هذه المحاضرة في "قِيَمُ العلم: محاضرات أكسفورد للعفو" The Values of Science: The Oxford Amnesty Lectures، تحرير وِس وليامز Wes Williams، بولدر، كولورادو، دار نشر وست فيو برس Westview Press.)

يقول مَثَلٌ، "قد تكسر العِصِيُُ والحجارة عظمي، ولكن الكلمات لن تؤذيني أبداً." ومِثْلُهُ مثل الأمثال جميعاً، يُعبّر هذا المثل، في الأقل، عن جزءٍ من الحقيقة. ويبدو صحيحاً أنه كان على منظمة العفو الدولية Amnesty International تكريس معظم جهودها لحماية الناس من خطر العصي والحجارة، وليس من الكلمات. فلا بُدَّ وأن القلق من الكلمات بدا نوعاً من الرفاهية.
ورغم ذلك، من الواضح أن المَثَل، مِثْلُه مِثْل معظم الأمثال، خاطئ جزئياً أيضاً. فالحقيقة أن الكلماتِ يمكن أن تؤذي. وكبداية، يمكن للكلمات أن تؤذي الناس بشكل غير مباشر، بتحريض آخرين على إيذائهم: حملةٌ صليبيةٌ وعظ بها البابا، دعايةٌ عنصريةٌ نازيةٌ، ثرثرةٌٌ قذرةٌ تصدر عن خصمٍ ... وتستطيع الكلمات الإضرار بالناس، ليس بشكل غير مباشر تماماً، بتحريضهم على القيام بأعمال تؤذيهم أنفسهم: أكاذيب نبي زائف، ابتزاز فُتُوَّةٍ، إطراء مُغْوٍ. ... ويمكن للكلمات أن تؤذي بشكل مباشر أيضاً: هجاءُ لسانٍٍ قذرٍ، فَزَعٌ تحمله برقيًَة، طعنٌ في الشخص حاقدٌ يجعلُ سامِعَهُ يرجو مُعذِّبَه أن لا يُردِّدَ المزيد منه. ...
وفي بعض الأحيان، تستطيع الكلمات أن تقتُلَ فوراً. فثمَّتَ قصةٌ كتبها كريستوفر شيرِنياك Christopher Cherniac (1981) عن "فيروس كلمات" مميتٍ، ظهر ذات ليلة على شاشة كومبيوتر. واتخذ شكلاً يُقلق الدماغ، شكلَ أحجيةٍ متناقضةٍ جداً إلى حدّ تُعذّب معه تعذيباً مميتاً عقلّ أي شخص سمع بها أو قرأها، فيقع في حالة غيبوبة لا يشفى منها أبداً. وطبعاً القصة خيالية. ولكن لها موازياً مريعاً في العالم الحقيقي. فتاريخياً ظهرت أمثلة عديدة عن كلماتٍ استطاعت أن تسكُنَ عقل شخص فحطّمت فيه إرادة الحياة. فَكِّر، على سبيل المثال، بالموت الذي تُوقِعُهُ الشعوذة. فما على الطبيب الساحر إلا أن يُلقي بتعويذته المميتة على رجل فتنهار الضحية خلال بضع ساعات وتموت. أو، على مستوى أكبر وأشد قتلاً، فَكِّر في الانتحار الجماعي الذي تمَّ في جونزتاون، غويانا Jonestown, Guyana في سنة 1972. إذ ما كان على زعيم الطائفة الدينية، جيمز جونز James Jones، إلا أن يزرع أفكاراً مجنونة في رؤوس أتباعه، وعندما أطلق إشارة الانتحار، شرب تسعمئةٍ منهم السيانيد طوعاً فماتوا جميعاً.
"الكلمات لن تُؤذيني أبداً"، ولكن الحقيقة أن الكلمات ربما يكون لها قدرة فريدة على الإيذاء. ولو كان علينا أن نضع قائمة بالمآسي الإنسانية التي يُسبِّبها الإنسان، فسوف تترأس الكلمات، وليس العصّي والحجارة، القائمة. وقد تكون البنادق والمتفجرات مجرد ألعابٍ إن قورنت بالكلمات. كتب فلاديمر ماياكوفسكي Vladimir Mayakovsky في قصيدته "أنا": "على ممرِّ / روحِيَ المسحوقة / تَطْبَعُ نِعَالُ مجانينَ / كلماتٍ جلفةٍ فجة" [ماياكوفسكي 1912 – 1955).
فهل علينا إذاً أن نخوضَ معركةَ "منظمة العفو" على هذه الجبهة أيضاً؟ وهل نُطلق حملات لحماية الكائنات البشرية من الاضطهاد والاستغلال اللفظيين؟ وهل نحتاج إلى "قوانينَ للكلمة،" تماماً مثلما لدى جميع المجتمعات المتحضِّرة قوانين للسلاح، مُرَخِّصين من يجب السماح له باستعمالها وفي أية ظروف؟ وهل يجب أن تُوجد بروتوكولات جينيف تُقرِّرُ أنواعَ الكلام التي تشكل جرائم ضد الإنسانية؟
كلا. وأنا متأكدٌ أن الجوابَ يجب أن يكون بعامةٍ "كلا، لا تقوموا حتى بمجرد التفكير بذلك." لأن حريةَ الكلام غاليةٌٌ جداً ليتم التلاعب بها. ومهما كانت بعضُ نتائجها مؤلمةً لبعض الناس، علينا، من ناحية المبدأ، أن نقاوم وضع قيود عليها. ويجب أن نحاول، بكل الوسائل، معالجة الأذى الذي توقعه كلماتُ أناس بآخرين، ولكن ليس بفرض رقابة على الكلمات.
ولأنني متأكدٌ من هذا بعامةٍ، ولأنني أتوقع أن يكون معظم من أخاطبهم كذلك أيضاً، فقد أصدُمَكَ حين أقول إن غرضي من هذه الورقة أن أحاجج باتجاه معاكس في مجال واحد فقط. إنني، باختصار، أُحاجج لصالح رقابة ضد حرية التعبير في مجال اعتُبرَ تقليدياً مُقدَّساً: التربية الأخلاقية والدينية. وأنا أقصد بخاصة التربية التي يتلقاها الطفل في البيت، حيثُ يُسمح للأبوين، وحتى يُتوقع منهما، تقرير ما هو حقيقة أو زيف، صحيح أو خاطئ، لأطفالهما.
وسوف أُحاجج بأن للأطفال حقاً إنسانياً بأن لا يشلّهم تعرضهم لأفكار الآخرين السيئة – أيا كان هؤلاء الآخرين. وبناءً على ذلك، ليس للأبوين رخصة إلهية ليثقفا أطفالهما بأية طرق يختارانها شخصياً: ليس لهما حقٌ بتقييد آفاق معرفة أطفالهما، بتنشئتهم في جو من الدوغما والخرافة، أو بأن يُصرّا على أن يسيرَ أطفالهما في دهاليز عقيدتهما المستقيمة الضيقة.
باختصار، للأطفال حق بأن لا تُفسد عقولهم بالهراء. وعلينا نحن، كمجتمع، أن نحميهم منه. ولذا، لا يجب علينا من بعدُ أن نسمح للأبوين بتعليم أطفالهما، على سبيل المثال، الإيمانَ بحقيقة الإنجيل الحرفيّة، أو بأن الأبراج تحكم حياتهم، تماماً كما لم نسمح للأبوين بقلع أسنان أطفالهما أو حبسهم في قبو.
هذا هو الجانب السلبي مما أريد قوله. ولكن لقولي جانباً إيجابياً أيضاً. فإذا كان للأطفال حق بحمايتهم من أفكار زائفة، فلهم حق أيضاً بأن يُسعفوا بالحقيقة. وعلينا نحن، كمجتمع، أن نوفرها لهم. ولذا، يجب أن نشعر بأننا مُلزمون بأن نقدم لأطفالنا أفضل فهم علمي فلسفي للعالم الطبيعي – أن نعلمهم، على سبيل المثال، حقائق التطور وعلم الكونيّات، أو مناهج التحليل العقلاني – تماماً كما نشعر أننا مُلزمون بإطعامهم وإيوائهم.
ورغم أنني لا افترض أن عديد الناس سوف يشكّون بنواياي الطيبة هنا، إلا إنني أدرك أنه قد يوجد بعض الناس، وخصوصاً اللبراليون منهم، الذين لن يحبوا نغمة ما أقول على الإطلاق: لا الجانب السلبي منه ولا الإيجابي. وفي أية حال، قد يكون من بين الأسئلة الجيدة التي ستطرحونها عليَّ الأسئلة التالية:
أولاً، ما كل هذا الكلام عن "الحقائق" و"لأكاذيب"؟ كيف يمكن لأي شخص هذه الأيام أن يجادل بأن الرأي العلمي الحديث عن العالم هو الرأي الحقيقي الوحيد الموجود؟ ألم يُعلِّمنا ما بعد الحداثيّون postmodernists والنسبيّون relativists أن أي شيء يمكن أن يكون، بهذه الدرجة أو تلك، حقيقياً؟ إذاً، ما الذي يسوِّغ افتراض حماية الأطفال من منظومة معينة من الأفكار أو قيادتهم نحو منظومة أخرى، إذا كانت جميع المنظومات في النهاية متساوية في صحَّتِها؟
ثانياً، لو افترضنا، حتى ولو بشيء من المللٍ، أن الرأي العلمي "أكثر صحّة" من بعض الآراء الأخرى، فمن ذا الذي يمكنه أن يقول إنَّ وجهة النظر العالمية الأكثر صحّة هذه هي الأفضل؟ أو، الأفضل للجميع؟ أليس من الممكن – أو بالفعل من المحتمل – أن أفراداً معينين، نعرف من هم وما هي أوضاعهم الحياتية، سيكونون في وضع أفضل في ظل وجهات نظر عالمية غير حقيقية تماماً؟ وكيف يمكن أن يكون صحيحاً الاصرار على تعليم الأطفال أن يفكروا بهذه الطريقة الحديثة حين يمكن لطريقة التفكير الأكثر تقليديَّة أن تعملَ، في الممارسة، بشكلٍ أفضلَ لهم؟
ثالثاً، لنفترض، حتى وإن كان الفرض غير محتمل، أن كل شخص تقريباً سوف يكون أسعدَ وأفضلَ عيشاً لو تمت تربيته بصورة علمية حديثة، فهل نُريد حقاً – كجماعة عالمية – أن يفكِّر كل إنسان في العالم بالطريقة نفسها، أن يعيش كل شخص في ظل ثقافة علميّة أحاديّة مملّة؟ ألا نرغب بالتعددية وتنوع الثقافة؟ بأن تتفتحَ مئة زهرة، بأن تتنافسَ مئة مدرسة فكرية؟
وأخيراً، لماذا تُعتبرُ حقوق الأطفال أكثر أهمية من حقوق أناس آخرين؟ سوف يوافق كل شخص، طبعاً، أن الأطفال أبرياءٌ نسبياً وضعفاءُ نسبياً، ولذا يحتاجون حماية أكثر ممن يكبرونهم؟ ورغم ذلك، لماذا يجب أن تأخذ حقوقهم، في هذا المجال، أسبقيةً على حقوق كل إنسان آخر في مجالات أخرى؟ أليس للأبوين حقوقً أيضاً، حقوقً كوالِدين؟ وبأكثر ما يمكن من الوضوح، ألا يملكان حق أن يكونا أبوين، أو حرفياً حق إنجاب أطفال وإعدادهم للمستقبل كيفما يريدان؟
هل هذه أسئلة جيدة؟ قد يعتقد شخص ما أنها أسئلة جيدة لا يستطيع أي شخص تقدمي واسع الأفق أن يجيب عنها إلا بجواب واحد.
وأنا أوافق أنها أسئلةٌ جيدةٌ، وأسئلة لا بد لي أن أتعامل معها. ولكنني لا أعتقد أن الأجوبةَ عنها واضحةٌ، بأي شكل من الأشكال. وخصوصاً لدن لبرالي. وفي الحقيقة، لو غيّرنا إطار الأسئلة بشكل غير كبير، فإنني متأكدٌ بأن الغرائزَ اللبرالية لمعظم الناس ستنحو منحىً معاكساً.
دعنا نفترضُ أننا كنّا نتحدث ليس عن عقول الأطفال، بل عن أجساد الأطفال. ودعنا نفترض أن المسألة لم تكن مَنْ يجبُ أن يوجِّهً التطورَ الفكري لطفلة، بل من يجب أن يُقيِّدَ تطور يديها أو قدميها – أو أعضائها التناسلية. ودعنا نفترض أن هذا النقاشَ نقاشٌ عن ختان الأنثى. وأن المسألة ليست عمّا إذا كان يجب السماح لأي أحد بإنكار معرفة داروين على طفلة، بل عمّا إذا كان يجب السماح لأي أحد بأن يُنكرَ عليها استخدام بظرها.
وها أنا الآن أقول إن من حق الفتاة أن تُتركَ سالمة، فليس للأبوين حقُ بتر ابنتهما ليناسب ذاك الفعل أجندتهما الجنسية الاجتماعية، وأنه يجب علينا، كمجتمع، منع ذلك. أكثر من ذلك، ومن ناحية إيجابية، يجب تشجيع كل فتاة على معرفة أفضلِ سبيلٍ لاستخدام جسدها السالم الذي وُلدت عليه لمصلحتها.
هل ما زالت تلك الأسئلة الجيدة مطروحة عليّ؟ وهل ما زال واضحاً ما هي الأسئلة اللبرالية؟ ثمَّ درسٌ في معرفة الكيفية التي تبدو عليها هذه الأسئلة – حتى وإن كان درساً غير سارٍ.
أولاً، ما كل هذا الحديث عن "سلامةِ الأعضاء" وعن "البتر"؟ ألم يُعلمنا النسبيّون الأنثروبولوجيون بأن فكرةَ وجود "سلامة أعضاء مطلقة" وهمٌ، وأن الفتيات – بشكل ما – سالمات حتى من دون بظر؟
وفي أية حال، حتى وإن كانت الفتيات غير المختونات "أكثر سلامة،" فمن ذا الذي يستطيع القول إن "سلامة الأعضاء" فضيلة؟ أليس مُحتملاً أن بعض الفتيات سوف يكنَّ، نظراً لطبيعة حياتهن الخاصة، في وضع أفضل إن لم يكنَّ سالمات تماماً؟ ما الموقف لو اعتبر رجالُ ثقافتهنَّ النساءَ السالماتِ غير صالحاتٍ للزواج؟
إضافة إلى ذلك، من ذا الذي يريد العيشَ في عالمٍ لجميع النساء فيه أعضاء تناسلية قياسية؟ أليس من الأفضل، جوهرياً، الحفاظ على سجّادة الثقافة الإنسانية الغنية بتنوعها، فتبقى، في الأقل، مجموعاتٌ قليلةٌ من الناسِ يُمَارَسُ الختان فيها؟ ألا يُغني حياتنا جميعاً، بشكل غير مباشر، أن نعرف أن بعض النساء، في بعض الأمكنة، قد اقتُلعت بُظورهن؟
وفي أية حال، لماذا يجب أن نهتم بحقوق الفتيات فقط؟ ألا يوجد لأناس آخرين حقوق تتعلق بالختان أيضاً؟ ماذا عن حقوق الخاتنين أنفسهم، عن حقوقهم كخاتنين؟ أو ماذا عن حقوق الأمهات بأن يفعلن ببناتهن ما يعتقدن أنه الأفضل لهن، تماماً كما فُعِل بهن في أيامهن.
وآملُ أن يوافق كثيرون بأن الأجوبة تسير في الاتجاه الآخر الآن؟ ولكن قد يقول بعض الناس بأن هذه اللعبة ليست عادلة. فمهما كانت التشابهات السطحية بين فعلِ أشياءٍ لجسدِ طفلةٍ وفعل أشياء لعقلها، توجد أيضاً اختلافات واضحة ومهمة كثيرة. فمن جهة، فإن نتائج الختان نهائية غير قابلة للعكس، بينما يمكن حتى لأكثر نتائج أنظمة التربية تقييداً أن تُزال لاحقاً. ومن جهة أخرى، يشمل الختان بتر عضو موجود فعلاً في الجسد، وسوف يتم افتقاده طبيعياً، بينما تشمل التربية إضافة أشياء جديدة، انتقائياً، للعقل، لا يمكن أن تكون موجودة هناك لولا ذلك. فحرمان الفتاة من ملذات الأحاسيس الجسدية يشكل إهانةً شخصية على أعلى مستوى، ولكن الحرمان من طريقة في التفكير قد لا يكون خسارة شخصية كبيرة.
إذاً، قد يُجادل بعض الناس أن المشابهة فجّة جداً لنتعلم منها. وأن الأسئلة الأصلية عن الحقوق التي تقضي بتقييد تربية الطفل ما زالت بحاجة لتناولها والإجابة عنها كما هي.
حسناً. سأحاول أن أجيب عنها كما هي – وسوف نرى إن كانت المشابهة بالختان صحيحة أم غير صحيحة. ولكن قد يوجد نوع آخر من الاعتراض على مشروعي يجب أن أتعامل معه أولاً. فقد يجادلُ بعض الناس، كما افترض، بأن مسألة الحقوق الفكرية برمّتها لا تستحق الانشغال بها، لأن قلة قليلة جداً من أطفال العالم يتعرضون فعلاً للأذى نتيجة أشكال تربوية مُضلِّلة – أما أولئك الذين يتعرضون للخطر فهم في الأغلب بعيدون جداً ويصعب الوصول إليهم.
ورغم ذلك، وبعد أن قلت ما قلت، أتساءل إن كان أحد يستطيع أن يدّعي هذا الادعاء بقسمات وجه هادئة. لننظر حولنا – قريباً من بيتنا. إننا نعيش في مجتمع ينتمي فيه معظم الراشدين – ليس قلة معتوهة فقط، بل معظم الراشدين – إلى معتقدات متنوعة جداً وغير عقلانية إلى حدّ أنهم، بطريقة أو بأخرى، يفرضونها على أطفالهم دون خجل.
وعلى سبيل المثال، في الولايات المتحدة الأمريكية – التي آخذها كمثال لأنها المكان الذي أقيم فيه راهناً – يبدو أحياناً أن كل فرد تقريباً إما أصولي متدين أو متصوف من متصوفي حركة العصر الجديد New Age أو كليهما. وحتى أولئك الذين ليسوا من هذين الصنفين بالكاد يجرؤون على الاعتراف بذلك. فاستطلاعات الرأي العام تؤكد، على سبيل المثال، أن 98% من سكان الولايات المتحدة يقولون إنهم يؤمنون بالله، وأن 70% يؤمنون بالحياة بعد الموت، وأن 50% يؤمنون بوجود قوى خارقة نفسياً، وأن 30% يعتقدون أن حياتهم متأثرة مباشرة بمواقع النجوم (و70% يتصرفون وفق أبراجهم دائماً - احتياطاً)، وأن 20% يعتقدون أنهم يواجهون خطر اختطافهم من قبل مخلوقات كونية غريبة. [ظهرت حركة العصر الجديد في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. وهي حركة اجتماعية روحية غربية غير مركزية تسعى للوصول إلى الحقيقة الشاملة وتحقيق أقصى ما يمكن من طاقات الفرد].
وليست المشكلة فقط – أقصد المشكلة المتعلقة بتربية الأطفال – أن كثيراً من الراشدين يؤمنون إيجابياً بأشياء تناقض كلياً وجهة النظر العالمية العلمية، بل أن كثيرين منهم لا يؤمنون بأشياء مركزية بشكل مطلق للرأي العلمي. يُظهر استطلاع نُشر العام الماضي بأن نصف الشعب الأمريكي لا يعرف، على سبيل المثال، أن الأرض تدور حول الشمس مرة واحدة في العام. وأقل من واحد من عشرة يعرفون ما هو الجُزيء molecule. ولا يقبل أكثر من النصف أن الكائنات البشرية تطورت من أسلاف حيوانية؛ وأقل من واحد من عشرة يؤمنون بأن التطور – إن كان وقع – يمكن أن يكون وقع دون أي نوع من التدخل. وليس فقط لا يعرف الناس نتائج العلم، بل وحتى لا يعرفون ما هو العلم. فحين يُسألون عمّا يميز المنهاج العلمي، يجيب اثنان بالمئة فقط بأن العلم يشمل وضع النظريات تحت الاختبار، ويعرف 34% بشكل غامض أن للعلم علاقة بالتجارب والمقاييس، ولكن 66% لا يعرفون عنه شيئاً البتة(National Science Board, 1996).
ورغم أن هذه الأرقام مُقلقة، إلا إنها لا ترسم الصورة الكاملة لما يواجهه الأطفال. إنها تخبرنا بمعتقدات الناس العاديين، وبإيمان البيئة التي يعيش فيها الطفل العادي. ولكن توجد جماعات صغيرة، لكنها مهمة، تعيش على مقربة منّا – وأنا أقصد على مقربة منّا حرفياً، داخل نيويورك أو لندن أو أكسفورد – حيث الوضع، دون جدال، أسوأ بكثير: حيث لا ينتشر الجهل والخرافة بينها بشكل أكبر فحسب، بل وأيضاً حيث يسيران يداً بيد مع قيام نُظمٍ قمعية بفرض سلوك اجتماعي ما أو علاقات شخصية على أفرادها – في ما يتعلق بالنظافة والطعام واللباس والجنس ودور الجنسين وترتيبات الزواج، وغيرها. وأنا أفكر هنا، على سبيل المثال، بالمسيحيين الآميش Amish Christians، واليهود الهاسديين Hasidic Jews، وشهود يهوه Jehovah s Witnesses، والمسلمين الأرثودكس Orthodox Moslems، أو، في ما يتعلق بالأمر نفسه، العصريون الجُدد New Agers – وهم يختلفون جميعاً، دون شك، عن بعضهم بعضاً إلى حد كبير، ويتميزون جميعاً بترسبات فكرية خاصة وعُصابٍ ذهنيٍ، ولكنهم يوفرون جميعاً ملجأً فكرياً ثقافياً لمن يعيشون بينهم.
قد لا يجب، نظريَّاً، أن يعاني الأطفال. وقد يحتفظ الراشدون بمعتقداتهم لأنفسهم ولا يقومون بأية محاولة نشطة لتمريرها إليهم. ولكننا نعلم جيداً أن ذاك غير متوقع. فمِثل تقييد النفس هذا ليس من طبيعة العلاقة التي تقوم بين الأبوين والطفل. فإذا كانت والدة تعتقد، على سبيل المثال، أن أكل لحم الخنزير إثمٌ، أو أن أفضل علاج للتوتر هو وضع إناء كرستالي على رأسها، أو أنها بعد أن تموت سوف تُستنسخ كنمس، وأن الصدام حتميٌ بين مواليد برج الجدي ومواليد برج الحمل، فمن الصعب أن تحجب هذه الأمور الحساسة عن أطفالها.
ولكن، ما هو أهم من ذلك، أن تقييد النفس هذا ليس من طبيعة أنظمة الإيمان الناجحة. فأنظمة الإيمان، عموماً، إما أن تزدهر أو تموت وفقاً لمدى مهارتها في إعادة إنتاج نفسها أو منافسة غيرها. فكلما كان النظام أفضل في خلق نُسَخٍ من نفسها، وكلما كانت أفضل في أبعاد أنظمة إيمان أخرى عنها، كلما كانت فُرصها أكبر في الحفاظ على نفسها وتطويرها. إذاً يجب أن نتوقع أن تتميز أنظمة الإيمان الناجحة – وبخاصة منها تلك التي تَبقى رغم كل الظروف التي تقف ضدها – باستحواذ الانضباط والتربية على المؤمنين بها: مُصرّين على صحة سُبلهم ورفض سُبل غيرهم ومنع الاتصال بهم. أكثر من ذلك، يجب أن نتوقع أنهم سيعمدون بخاصة إلى استهداف الأطفال في البيت وهم لا يزالون مُتيسرين، سَهِلِي الانقياد، غير مُحصّنين. فكما لاحظ يسوعيٌ Jesuit "إذا كان لي أن أُعلّم الأطفال إلى السابعة من عمرهم أو نحو ذلك، فلن أهتم بمن يكون مُعلِّمهم بعد ذلك، لأنهم أصبحوا مُلكي مدى حياتهم."
قام الأنثروبولوجي دونالد كريبل Donald Kraybill، بدراسة مُتعمقة لجماعة من جماعات الأميش تعيش بولاية بنسلفانيا الأمريكية، ولاحظ كيف تتم التربية ويُفرض الانضباط في الممارسة. كتب يقول:
"تجد الجماعات التي يُهددها خطر الانقراض الثقافي نفسها مضطرة لبرمجة أطفالها إن كانت تريد الحفاظ على إرثها الثقافي الفريد. وجتمعةٌ socialization الصِغارِ جداً واحدٌ من أكثر أشكال السيطرة الاجتماعية فاعلية. فحين تتسلَّلُ القيم الثقافية إلى عقل الطفل تُصبح قيماً شخصية – مُدْمَجَة في الضمير ومحكومة بالعواطف. ... ويؤمن الآميش بأن الكتاب المقدس يوكل للأبوين مهمة تدريب أطفالهم على الأمور الدينية وبالمِثْلِ على أسلوب الحياة الآميشي. ... فروضة أطفال عِرقية، موظفوها أفراد عائلة ممتدة وأعضاء كنيسة واحدة، تَصهر وجهة النظر الآميشية في عقل الطفل منذ لحظات الوعي الأولى." (Kraybill, 1989, p. 119).
وطبعاً، ليس ما يصفه كريبل مقصوراً على الآميش. إذ يمكن لـ"روضة أطفال عِرقية، موظفوها أفراد عائلة ممتدة وأعضاء كنيسة واحدة" أن تكون وصفاً للبيئة الأولى لكاثوليكي آيرلندي من بلفاست، أو لسيخ هندي يعيش في برمنغهام، أو ليهودي هاسدي يعيش في بروكلين، نيويورك – أو ربما لطفلِ نبيلٍ يعيش في شمالي أكسفورد. وبالفعل، تحاول كل طائفة حريصة على بقائها إغراق عقل الطفل بدعايتها، ومنعه من الاتصال بأية آراء بديلة.
في الولايات المتحدة الأمريكية، استُقبل مثل هذا النوع من تقييد التربية دائماً بمباركة القانون. فللأبوين حقٌ قانوني، إن رغبا، بتعليم أطفالهما كليّاً في البيت، ويفعل ذلك ما يقرب من مليون عائلة (APA Monitor, 1996).. ولكن كثيرين ممن يرغبون بتقييد ما يتعلمه أطفالهم يعتمدون على آلاف المدارس الطائفية المسموح لها بالعمل مع خضوعها فقط للحد الأدنى من إشراف الدولة. وأصرّت محكمة أمريكية مؤخراً على أن المعلمين في مدرسة معمدانية Baptist يجب أن يحوزوا في الأقل على شهادات تدريسية؛ ولكن في الوقت نفسه اعترفت المحكمة بأن "هدف مثل تلك المدرسة هو ترسيخ تطور عقول أطفالهم في بيئة دينية." ولذا يجب السماح للمدرسة بتعليم كل المواضيع "بطريقتها" – مما عنى، كما حصل، تقديم جميع المواضيع من وجهة نظر كتابية Biblical فقط، وأصبح مطلوباً من المدرسين والمستشارين والمساعدين الموافقة على موقف الكنيسة العقيدي. 2
ورغم ذلك، بالكاد يحتاح الأبوان دعم القانون لتحقيق هذه الهيمنة المروِّعة على عقول أطفالهما. لأنه توجد، لسوء الحظ، طرقٌ عديدة لعزل الأطفال عن التأثيرات الخارحية، دون داعٍ لنقلهم جسدياً من المدرسة أو تقييد ما يسمعون في الصّف. البسْ طفلاً الزي الهاسديّ الرسمي، ابرُمْ سوالفه، اخضعْه لمحرمات غذائية، اجعلْه يصرف طوال عطلة الأسبوع في دراسة التوراة، قُلْ له إن الأعضاء التناسلية قذرة، تستطيع أن ترسله إلى أية مدرسة في العالم، فيظل طفلاً للهاسديّة. غيّر التعابير قليلاً، فسيحدث الأمر نفسه لطفل مسلم أو كاثوليكي رومي أو لأتباع ماهاريشي يوجي Maharishi Yogi. [ماهاريشي يوجي، مؤسس برنامج "التأمل المتسامي". أسس مدارس وجامعات لتعليم التأمل في الهند والولايات المتحدة والمكسيك وبريطانيا والصين.]
وما يُقلق أكثر من ذلك، أن الأطفال أنفسهم قد يصبحون متعاونين غير واعين في لعبة العزل هذه. فالأطفال يتعلمون بسهولة مَنْ هُمْ، وما المسموح لهم، وما هي الأمكنة التي لا يستطيعون الذهاب إليها – حتى فكرياً. وصف جون شوميكر John Schumaker، وهو عالم نفس استرالي، طفولته الكاثوليكية فقال:
"آمنت بكل قلبي أنني سوف أُحرقٌ في نارٍ أبديّة إن أكلت لحماً يوم الجمعة. وأنا أسمع الآن أن الناس لم يعودوا يبقون في النار إلى الأبد لأنهم أكلوا لحماً يوم الجمعة. ورغم ذلك، لا أستطيع إلا أن أعود إلى الوراء والتفكير بأيام السبت العديدة التي كنت أسارع فيها للاعتراف للقسيس بعدد ساندويشات المرتديلا والكاتش أب التي لم أستطع مقاومة أكلها في اليوم السابق. وعادة ما كنت آمل أن لا أموت قبل ساعة الاعتراف في الثالثة مساءً." (Schumaker, 1990, p. 33).
ورغم ذلك، هرب هذا الطفل الكاثوليكي وعاش ليروي الحكاية. وفي الحقيقة، أصبح شوميكر مُلحداً، ومضى ليصنع من لا ربّانيته مهنة له. وهو طبعاً ليس الوحيد الفريد في ما فعل. إذ توجد وفرةٌ من الأمثلة المشابهة، معروفة لنا جميعاً، من الرجال والنساء الذين تمّ الضغط عليهم وهم صغاراً ليصبحوا أعضاء جدداً في طائفة مسيحية أو يهودية أو مسلمة أو ماركسية – ومن خرجوا منها، رغم ذلك، مفكرينَ أحراراً بعد أن مرّوا بتجربة سيئة.
بعد ذلك أقول إنني قد أكون متشائماً في ما يعنيه كل ذلك. من المؤكد أن المخاطر كثيرة. فحتى في البلدان الغربية الديمقراطية المتطورة، يعيش كثير من الناس في بيئة يطغى عليها القمع الروحي، حيث يتعرض الأطفال الصغار يومياً لمحاولات الراشدين امتلاك عقولهم. ورغم ذلك، ربما لا تزالُ تريدُ أن تشيرَ إلى وجود اختلاف كبير بين ما يريده الراشدون وبين ما يحدث فعلاً. حسناً، قد يُرهقُ هراءُ الراشدين الأطفال. ولكن ماذا في ذلك. ربما على الطفل تحمّل ذلك إلى أن يترك البيت ويتعلم أشياء أخرى. وفي أية حال يجب أن أعترف بأن المسألة ليست بالتأكيد بتلك الجدّية التي أحاول تبيانها. فبعد كل شيء، توجد أشياءٌ كثيرةٌ تحصل للأطفال، إما صدفة أو بتخطيط، ورغم أنها قد لا تكون مثاليةً للطفل وقت حصولها، إلا إن نتائجها قد لا تكون سيئة دائماً.
وأُجيبُ: نعم ولا. نعم، لإنه صحيحٌ أننا يجب أن لا نقع في خطأ مرحلة سابقة من علم النفس بافتراض أن قيم الناس ومعتقداتهم مُحددة، مرة وإلى الأبد، بما يتعلمون – أو بما لا يتعلمون – وهم أطفال. فليست أعوام الحياة الأولى، رغم أنها تكوينية، بالضرورة "الفترة الحساسة التي اعتُقد أنها كذلك ذات مرة. فبعامة، لا يؤمن علماء النفس من بعدُ أن الأطفال "يتطبّعون" على الأفكار الأولى التي واجهتهم، وأنهم يرفضون بعد ذلك الاقتداء بأية أفكار أخرى. بدلاً عن ذلك، وفي معظم الحالات، يبدو أن باستطاعة الأفراد أن يكونوا منفتحين، وينفتحون، على فرص تعليمية جديدة في فترة لاحقة من حياتهم – وسوف يكونون قادرين، إن دعت الحاجة، على التعويض عن فترات فقدوها في مجالات حُرموا منها سابقاً أو خُدعوا (see, for example, Kagam, 1996, pp.901-8).
نعم، أوفق بأننا يجب أن لا نكون متفائلين جداً – أو متزمتين جداً – في ما يتعلق بآثار التعليم المبكرة. ولكن أيضاً لا يجب أن نكون متفائلين جداً. صحيح أنه قد لا يكون من الصعب على شخص أن يزيل ما حصل عليه من معرفة معينة في فترة لاحقة من حياته: فشخص اعتقد ذات مرة، على سبيل المثال، أن الكرة الأرضية مسطَّحةٌ، قد يغير رأيه، ويقبل أن الأرض مستديرة، حين يُواجَهُ بدليل صارخ على العكس. ورغم ذلك، كثيراً ما يكون صعباً على شخص التخلص من تدابير أو عادات فكرية تعلّمها: فعلى سبيل المثال، قد يجد شخصٌ كَبِرَ معتاداً على الثقة بأي شيء يصدر عن السلطة الكتابية biblical أن من الصعب عليه جداً تبنّى موقف نقدي أو شكاك. وقد يكون قريباً من المستحيل على شخص أن يتخلص من مواقف أو ردود عاطفية تعلّمها: فعلى سبيل المثال، قد لا يكون شخص تعلّم طفلاً أن الجنس إثمٌ قادراً أن يمارس الحب مرتاحاً.
ولكن يُوجد سببٌ آخر أكثر إلحاحاً لكي لا يكون المرء متفائلاً، أو متفائلاً في الأقل. فمن المؤكد أن البحث أظهر أن الفرد، إن أُعطي فرصة، يمكنه أن يمضي بالتعلم، ويستطيع الشفاء من بيئات الطفولة الفقيرة. ورغم ذلك، فإن ما يجب أن نهتم له هو بالضبط تلك الحالات التي لا تتاح لها هذه الفرصة – أو بالفعل لا يُسمح بها.
افترض، كما بدأتُ الوصفَ أعلاه، أن عائلة أغلقت الباب على أطفالها ومنعتهم من التواصل مع أية أفكار بديلة. أو، ما هو أسوأ، أنها قامت بتحصينهم كليّاً من أية تأثيرات أجنبية، إلى حدّ قاموا معه، هم أنفسهم، بإغلاق الباب على أنفسهم.
فكّر في تلك الحالات الشائعة جداً التي أصبحت فيها جماعات معينة تضع بنداً مركزياً في نظام إيمانها يقضي بأن لا يَدَعوا أنفسهم تفسدُ بالاختلاط مع الآخرين. فحين يكون كل ما يريد أعضاءُ تلك الجماعات سماعه، وفقاً لمعتقدهم، صوتٌ واحدٌ، وكل ما يريدون قراءته نصٌ واحد. وحين يؤكدون أن الأفكار الجديدة تحملٌ وباءً. وحين، أخيراً، يكبرون، ويغدون أكثر تعقيداً، فيزدرون العقل لأنه أداة الشيطان. وحين يعتبرون ذُلَّ الطاعة العمياء فضيلة. وحين يعتبرون الجهل بشؤون العالم رحمة روحية. في مثل هذه الحال، لا يهم ما تظل عقولهم قادرة على تعلمه، لأنهم هم أنفسهم سيعملون على أن لا يعودوا قادرين من بعدُ على استخدام كفاءاتهم.
كان السؤال، هل تلقينُ الطفل يفرقُ؟ الجواب، وأنا آسف لقول ذلك، إنه يفرقُ أكثر مما يستطيع المرء تخمينه. واليسوعي كان يعرف ما يقول. فرغم أن الكائنات البشرية مرنة، إلا إن الحقيقة هي أن آثار التلقين المُصمّم بشكل جيد قد لا يمكن عكسها لأن أحد آثار ذلك التلقين سيكون التخلص من دوافع عكسه ووسائله. فبكل بساطة، لا يستطيع كثير من أنظمة الإيمان هذه البقاء في سوق مقارنةٍ ونقدٍ حرٍّ ومنفتحٍ: ولكن واضعيها عملوا بذكاء أن لا يكون ذاك واجب عليهم، وذلك بتجنيد المؤمنين ليصبحوا سجّاني أنفسهم. ولذا، يصبح الشاب الذكي المليئ أملاً وبهجة وحب استطلاع، مع الزمن، مُسِنَّا ينوس فوق التوراة وهو يقرؤها؛ وتصبح العذراء الصغيرة التي كانت مليئة بعبير صباح العالم، أمَّ "العصر الجديد" المحطمةَ الضائعةَ في ضباب الخرافة.
ورغم ذلك، نستطيع أن نسأل، ماذا سيحصل لو كان بالإمكان كسر هذه الحلقة المفرغة بالقوة؟ ماذا سيحصل لو، على سبيل المثال، كان بالإمكان فرضُ فترة انقطاع من الخارج؟ ألا نتوقع، إلى المدى الذي تظل فيه الحلقة حلقة مفرغة، أن عملية التحول إلى مؤمن كامل الإيمان قد يمكن تعطيلها بسهولة مدهشة؟ وأظن أن أوضح برهان على الكيفية التي تُسيطر فيها أنظمة الإيمان هذه بصورة نموذجية على اتباعها يمكن العثور عليها في أمثلة تاريخية عمّا حصل حين تعرض أعضاء مجموعة دون إرادتهم لهواء العالم الخارجي المنعش.
في ستينيات القرن العشرين، أُجريَ اختبار لافت للنظر، يتعلق بتجنيد بعض أعضاء جماعة الآميش تجنيداً إجبارياً (Kraybill, 1989, p. 218). فقد رفض الآميش دائماً الخدمة في قوات الولايات المتحدة الأمريكية المسلحة، لأن "ضميرهم" يمنعهم من ذلك. فحتى تلك الستينيات، كان الشبان الآميش الذين أصبحوا في سن الخدمة الإجبارية يُمنحون عادة "تأجيلاً زراعيّاً" agricultural deferment من الخدمة، ويظلون يعملون في مزارع عائلاتهم. ولكن حين استمر التجنيد في حرب فيتنام، اعتُبر عديد هؤلاء الشبان غير مؤهلين للتأجيل الزراعي، وطُلب منهم، بدلاً عن ذلك، الخدمة لعامين في المستشفيات العامة – حيث تعرفوا، أعجبهم الأمر أم لم يعجبهم، على كل أنواع الناس غير الآميش وعلى وسائل العيش غير الآميشية. وحين حان وقت عودة هؤلاء الشبان إلى بيوتهم، ارتد عديدهم واختاروا عدم العودة. لقد ذاقوا حلاوة أسلوب حياة أكثر انفتاحاً ومغامرة وحرية في التفكير – ولم يقولوا إن هذا الأسلوب مصيدة أو وهم.
واعتبر قادةُ الآميش هذه الرّدة، عن حقٍّ، تهديداً لبقاء ثقافتهم، فتحركوا بسرعة ليتفاوضوا مع الحكومة حول اتفاقية خاصة، سمحت لجميع المجندين من جماعتهم أن يُرسلوا، في المستقبل، إلى مزارع يديرها الآميش أنفسهم – كي لا يتكرر هذا الخرق لأمنهم مرة أخرى.
ولألخص الآن. إنني أناقش استراتيجيات البقاء لبعض أكثر أنظمة الإيمان تصلباً – أي، إن أحببت، علم أوبئة تلك الأديان وأشباه الأديان التي سمّاها رتشارد دوكنز Richard Dawkins "فيروسات ثقافية" (Dawkins, 1993). ولكنك سترى، خصوصا مع هذا المثال الأخير، أنني بدأت أقترب من المسألة الثانية، وهي أكثر المسائل التي أردت تناولها أهمية: المسألة الأخلاقية.
افترض، كما عنت الحالة عن الآميش، أن أعضاء هذا المُعتَقَد الصغار سوف يختارون – إن اعطوا فرصة تحكيم عقولهم – أن يتركوا جماعتهم. أفلا يقول هذا، كبداية، شيئاً مهماً عن أخلاقية فرض أي معتقد على الأطفال؟ أعتقد أنه يقول ذلك. وفي الحقيقة، إنه يقول كل شيء نحتاج معرفته كي ندينَه.
لو كان الأمر الذي كنا نتحدث عنه هو ختان الإناث، لاستطعنا بناء قضية أخلاقية ضده، قائمة على مجرد ما إذا كانت امرأة ما ستختاره لنفسها. ولو أخذنا بالاعتبار الحقيقة التي مفادها – وأنا افترض أنها حقيقة – أن معظم أولئك النساء اللواتي خُتنَّ وهنَّ طفلات كُنَّ سيفضلن، لو عرفن فقط ما سيفقدنه – أن يبقينَ سالمات، وأن أية امرأة تقريباً ممن لم يُختنَّ وهنَّ صغيرات لن تتطوع لإجراء العملية في فترة لاحقة من حياتها، وباختصار، لو أن الختان ليس – في ما يبدو – ما تريد نساء حرّات أن يفعلنه لأجسادهنَّ، لبدا واضحاً أن أياً كان الذي يستفيد من سلطته المؤقتة على جسد طفلة لإجراء العملية لا بد وأنه يسيء استخدام هذه السلطة، ويتصرف بشكل خاطئ.
وإذا كان هذا هو الموقف من الأجساد، فالأمر نفسه يجب أن ينطبق على العقول. فلو أخذنا بالاعتبار، لنقل، أن معظم الناس الذين أُنشئوا ليكونوا أعضاءَ في طائفة معينة كانوا سيفضَّلون البقاء خارجها، لو عرفوا فقط ما أُنكر عليهم، وأن أي أحد، تقريباً، ممن لم يُنشؤوا بهذه الطريقةً، لن يتطوع لتبني الإيمان في وقت متأخر من حياته، وأن ذاك الإيمان، باختصار، ليس ما يريد تبنّيه أي مُفكر حرٍّ، إذاً لبدا واضحاً، بطريقة مماثلة، أن أياً مَنً كان الذي يستغل سلطته المؤقتة على عقل طفل ليفرض إيمانه عليه، فإنه يستغل، بالمثل، هذه السلطة، ويتصرف بشكل خاطئ.
وأصِلُ الآن إلى النقطة الأساس – والدرس الأساس – لهذا النقاش. وأود أن أقترح اختباراً عاماً يُقرِّرُ ما إذا كان تعليم نظام إيماني للأطفال يمكن الدفاع عنه أخلاقياً ومتى. وها هو: لو أن تعليم هذا النظام للأطفال سوف يعني أنه في وقت لاحق من حياتهم سيتمسكون بمعتقدات لم يكونوا ليختاروها لأنفسهم لو تمكنوا من التواصل مع أية بدائل أخرى، يكون خطاً أخلاقياً أن يقوم أي شخص باختيار هذا النظام لهم وفرضه عليهم. فليس لأحد الحق باختيار أي أمر سيء لأي شخص آخر.
واعترف أن هذا الاختبار، ليس بسيطاً في التطبيق. فمن النادر جداً وجود ذاك النوع من التجربة الاجتماعية التي حصلت للآميش مع التجنيد العسكري. وحتى مثل تلك التجربة لا توفر بالفعل اختباراً قوياً كالذي أقول إننا نطلبه. فبعد كل شيء، لم يُقَدَّم للشبان الآميش البديل إلا بعد أن كبِروا فعلاً، بينما ما نحتاج معرفته هو ما الذي سوف يختاره أطفال الآميش، أو أي طائفة أخرى، لأنفسهم لو كانت لهم أية صلة ببدائل أخرى متنوعة جداً منذ البداية. ولكن في الممارسة، طبعاً، لن يكون ذاك الاختيارُ الحرُّ تماماً متوفراً أبداً.
ورغم ذلك، ومهما كان المعيار يوتوبياً هنا، إلا إنني أعتقد أن معانيه الأخلاقية تظل واضحة تماماً. ذلك أننا حتى لو افترضنا بأننا لا نستطيع أن نعرف – ونستطيع فقط أن نُخمِّن، على أساس اختبارات أضعف – ما إذا كان فردٌ يمارس هذا الاختيار الحر الأصيل سوف يختار هو نفسه المعتقدات التي ينوي آخرون فرضها على نفسه، إذاً لوجب أن تكون هذه الحالة من الجهل نفسها أرضية لجعل الاستمرار بها أمراً خاطئاً أخلاقياً. وفي الحقيقة، قد تكون أفضل طريقة لوصف المسألة هو وضعها بالعكس، وقولُ: حين نعرف أن تعليمَ نظامٍ ما لأطفالٍ يعني أنهم، في وقت لاحق من حياتهم، إن طُرحت عليهم بدائل أخرى، سوف يختارونه لأنفسهم، عندئذٍ فقط يمكن أن يكون مسموحاً أخلاقياً لمن يختار لهم هذا النظام، ويريد فرضه عليهم، أن يفعل ذلك. أما في جميع الحالات الأخرى، فيجب أن يكون البديهي الأخلاقي هو الامتناع عن فعل ذلك.
والآن، أتوقع أن يكون معظم الناس سعداءَ بالفعل وهم يتفقون مع هذا. وطبعاً، وطالما تساوت الظروف، لكل إنسان حق في تقرير مصير جسده وعقله، ومن الخطأ الأخلاقي حقاً أن يقف آخرون في طريق ذاك الحق. ولكن فقط حين تتساوى الظروف. إذاً، ولأكمل تلك الأسئلة التي طرحتها مُسبقاً، ماذا سيحصل عندما تكون الظروف غير متساوية.
من الشائع جداً في الأخلاق أن حقوق الأفراد يجب أن تكون أحياناً محدودة أو حتى مُلغاة لمصلحة الخير الأعم أو لحماية حقوق أناس آخرين. ومن المؤكد أنه ليس واضحاً فوراً لماذا يجب أن تكون حقوق الأطفال الفكرية استثناء على ذلك.
كما رأينا، توجد عدة عوامل يمكن اعتبارها مُوازِنة. ومن هذه فإن ما يبدو لكثير من الناس أكثرها وزناً، أو في الأقل يُذكر كثيرا أولاً، هو مصلحتنا كمجتمع في الحفاظ على التنوع الثقافي. حسناً، ربما تريد القول، من الصعب على طفل من أطفال الآميش، أو الهاسيد، أو الغجر أن يكون مُشكَّلاً من قبل أبويه بالطريقة التي تشكلوا هم بها – ولكن النتيجة، في الأقل،هي أن هذه التقاليد الثقافية المثيرة تستمر. أفلا ستكون كل حضارتنا مفقرة إن ذهبت هذه التقاليد؟ إنه لعار، ربما، أن يُضحى باالأفراد للحفاط على ذاك التنوع. ولكن المسألة هنا: إنه الثمن الذي ندفعه كمجتمع.
غير إنني أود تذكيركم بأن من يدفع الثمن ليس المجتمع بعامة بل الأفراد.
دعوني أعطيكم مثالاً مُعَبِّراً. في سنة 1995، في جبال البيرو العالية، عثرَ بعض مُتسلِّقي الجبال على جسد مومياء لفتاة شابَّة من الإنكا Inca. كانت تلبس ثياب أميرة. ماتت عندما كان عمرها ثلاثة عشر عاماً. قبل نحو خمسمئة عام، يبدو أن هذه الفتاة الصغيرة قد أُخِذَت حيَّة إلى الجبل من قبل فريق رهبان وقُُتلت قتلاً شعائرياً – أضحية لآلهة الجبال كي تنظر من فوق بعين العطف إلى الناس الذين يسكنون أسفل الجبل.
قام الأنثروبولوجي يوهان راينهارد Johan Reinhard بوصف الاكتشاف في مقالة كتبها لمجلة "ناشينال جيوغرافِك" National Geographic (راينهارد، 1996). كان، بكل وضوح، منتشياً كعالم وككائن بشري برومانسية العثور على "عذراء الثلج" هذه، كما سمَّاها. ورغم ذلك، عبَّر عن بعض التَّحفُظات للطريقة التي ذهبت فيها إلى هناك. كتبَ: "لا نستطيع إلاّ أن نقشعرَّ لقيام الإنكا بممارسة التضحية بالبشر."
وجُعِلَ الاكتشاف أيضاً موضوعَ فيلمٍ وثائقي في التلفزيون الأمريكي. ورغم ذلك، لم يعبِّر أي أحد هنا عن تحقُّظً من أي نوع. بدلاً عن ذلك، دُعِيَ المشاهدون، بكل بساطة، ليُعجبوا بالتزام رهبان الإنكا الروحي، وليُشاطروا الفتاة، في رحلتها الأخيرة، زهوها وحماستها لاختيارها لشرف التضحية. وفي الحقيقة، كانت رسالة برنامج التلفزيون أنّ ممارسة التضحية البشرية، بهذه الطريقة الخاصة، ابداعٌ ثقاقيٌّ مجيدٌ – جوهرةٌ أخرى، إن أحببتَ، في تاج التعددية الثقافية.
ورغم ذلك، كيف يجرؤ أي شخص على قول هذا؟ كيف يجرؤون على دعوتنا – في غُرّفِ جلوسنا، نشاهد التلفزيون – بأن نشعر بالانتعاش لمرأى جريمة شعائرية: جريمة قتل فتاة قاصرٍعلى يد مجموعة من العجائز الأغبياء المغرورين الجهلة الذين يؤمنون بالخرافة؟ كيف يجرؤون على دعوتنا أن نجدَ خيراً في نفوسنا ونحن نتأمّل عملاً لا أخلاقيّاً ضد شخص آخر؟
عملٌ لا أخلاقي؟ بمعايير الإنكا؟ كلا، ذاك غير مهم. بل عمل اخلاقي بمعاييرنا – وبخاصة بمعيار الخيار الحر الذي أعلنتُه بدايةً. والحق يقال إن أي أحد منّا، يعرف كيف يسير العالم الآن، ما كان سيختار بحرية أن يكون ضحيَّة كما تمت التضحية بها. ومهما كان "فخارُ" فتاة الإنكا، أو لم يكن، لتختار ما اختارته عائلتها لها (وقد تكون شعرت بالرعب وبأن العائلة خذلتها)، يمكننا أن نؤكد أنها، لو عرفت ما نعرفه الآن، لما اختارت ذاك المصير لنفسها.
كلا، هذه الفتاة استَغَلَّها آخرون كوسيلة لتحقيق غاياتهم. فقد اعتبر كبارُ جماعتها أمنهم الجماعي أهم من حياتها، وقرروا لها أن تموت لتنمو،ربما، محاصيلهم وكي يعيشون. والآن، وبعد خمسمئة عام، يجب علينا نحن أنفسنا أن لا نفعل الشيء نفسه بالتفكير بأن موتها شيء يُثرى ثقافتنا الجماعيَّة.
يجب أن لا نفعله هنا، ولا في أية حالة نكون قد دُعينا فيها لنحتفي بإخضاع أناس آخرين لتقاليد مُتخلِّفة قديمة كدليل على ثراء العالم الذي نعيش فيه ثقافياً. يجب أن لا نفعله حتى وإن كان يُمكن الجدال، وأنا أوافق أن ذلك ممكن أحياناً، بأن الحفاظ على تقاليد الأقليَّة هذه قد يفيدنا جميعاً لأنهم يحافظون على طرق تفكير يمكن أن تكون يوماً ما ثقافة فيِّمة مضادة لثقافة الأغلبية.
إن المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية، بدعمها طلب الأميش أن تُعفى من إرسال أبنائها للمدارس العامة، علََّقت جانبياً: "يجب أن لا ننسى أنه قد تمَّ في العصور الوسطى الحفاظ على قيم مهمة من حضارة العالم الغربي على يد أعضاء أنظمة اجتماعية عزلت نفسها عن جميع التأثيرات الدنيوية وفي مواجهة عقبات كبيرة." 3 وبالمقارنة، أوحت المحكمة أننا يجب أن نعترف بان الآميش قد يكونون يحافظون على أفكار وقيم قد يرغب أحفادنا يوماً ما بالعودة إليها.
ولكن ما أخفقت المحكمة بالاعتراف به هو وجود اختلاف حاد بين جماعات القرون الوسطى الدينية – نُسّاك الجزيرة المقدسة، على سبيل المثال – وآميش هذه الأيام، وهو بالتحديد أن النُّساك هم من اختاروا أن يصبحوا نُسَّاكاً، ولم تفرض ذلك عليهم أنظمتهم الرهبانية حين كانوا أطفالاً، كما أنهم لم يفرضوا ذلك، بدورهم، على أطفالهم – علماً أنه لم يكن لديهم أطفال. لقد استمرت تلك النُظم القروسطية بتجنيد متطوعين راشدين. على العكس من ذلك، استمرت الآميش في الحقيقة باختطاف أطفالهم الصغار قبل أن يكون باستطاعتهم الاحتجاج.
قد يكون لدى الآميش أشياء رائعة ليعلِّموها لبقيّتنا - ويُحتمل أن الإنكا كان لديهم معرفة رائعة، أيضاً - ويحتمل أن ينطبق الأمر نفسه على مجموعات أخرى تعيش بعيداً عنّا. ولكننا لا يجب أن ندفع ثمن هذه الأشياء من حياة الأطفال.
من المؤكد أن هذا هو قلب المسألة. إنه حجر الزاوية لكل نظام أخلاقي شريف، كما عبَّر عنه بكل صراحة عمانويل كانت Immanuel Kant ولكنه كان بالفعل موجوداً ضمنيّاً في فكرة معظم الناس عن الأخلاق، وهي أن للأفراد البشر الحق المطلق بأن يُعامَلوا كغايات هم أنفسهم – وليس أبداً كوسائل لتحقيق غايات أناس آخرين. ومن نافل القول إن هذا الحق ينطبق على الأطفال بالقدر نفسه الذي ينطبق على أي شخص آخر. وبما إن الأطفال، في أوضاع عديدة جداً، ليسوا في موقعٍ يستطيعون معه العناية بأنفسهم، يكون من الواضح أخلاقيّاً أن على بقيَّتنا واجب مُحَدَّدٌ هو حمايتهم.
إذاً، وفي كل حالة تواجهنا فيها أمثلة عن حياة أطفال استُغلت لخدمة غايات أخرى، يجب علينا الاحتجاج عليها. ويجب أن نحتجَّ سواء كانت الغايات الأخرى تشمل لُطف الآلهة، أو "الحفاظ على قيم حضارية غربية،" أو إقامة معرضٍ أنثروبولوجيٍّ رائعٍ لبقيَّتنا، أو – والان آتي إلى السؤال الكبير اللاحق الذي ظلَّ ينتظر – إنجاز حاجات معيَّنة وتحقيق طموحات خاصة لوالِدي الأطفال.
وأود أن أقول إنه لا يوجد أي سبب يجعلنا نعامل أفعال الأبوين كأفعال تقع في إطار طقمٍ من القواعد الأخلاقية مختلف. علاقة الأبوين مع طفلهما طبعاً علاقة خاصة بكافة المعاني، لكنها ليست خاصة جداً لتُنكر على الطفل شخصيته الفردية. إنها ليست علاقة تماهٍ أو مِلكية. فالأطفال ليسوا جزءاً من أبويهم ولا "ينتمون" لهما إلا مجازيّاً. والأطفال ليسوا، بأي معنىً من المعاني، مِلكية أبويهم الخاصة. وبالفعل، ولنقتبس من تعقيبٍ لمحكمة الولايات المتحدة العليا على المسألة نفسها في إطار مختلف: "إنها لحقيقة أخلاقية أن يكون الشخص منتمياً لنفسه وليس لآخرين أو للمجتمع عموماً." 4
ولذا سيكون انتهاكاً لحقوق طفلٍ أن يقوم أبواه باستغلاله لتحقيق أهدافهما الشخصية، تماماً كما لو قام بالأمر أي شخص آخر.
ورغم ذلك، إنني متأكدٌ أن بعض الناس سيجادلون بأن الحال مع الأبوين ليست تماماً كالحال مع أناس خارجيين. ومن دون شك، سنوافق جميعاً بأن الأبوين ليس لهما حقٌ أكثر من أي شخص آخر ليستغلا الأطفال لغايات واضحة الأنانيّة – جنسياً، على سبيل المثال، أو تشغيلهم خدماً، أو بيعهم عبيداً. ولكن، أولاً، ألا يكون الأمر غير مختلف حين يظن الأبوان أن غاياتهما، في الأقل، هي غايات أطفالهما أيضاً؟ وحين يظنّان أن تلاعبهما بمعتقدات الطفل، ليلتزم بمعتقداتهما، يحقِّقُ مصالح الطفل كليَّاً؟ ولذا، ثانياً، ألا يكون الأمر غير مختلف حين يكون الأبوان قد استثمرا فعلاً الكثير جداً من مواردهما في الطفل، مانحينه الكثير من حبِّهما وعنايتهما ووقتهما؟ ألم يكسبا، بشكل ما، مكافأة أن يحترم الطفل معتقداتهما، حتى وإن كانت هذه المعتقدات من وجهة نظر أناس آخرين غريبة أو بالية؟
ألا تعني هذه الاعتبارات، إن أُخذت معاً، أن الأبوين يملكان، في الأقل، بعض الحقوق التي لا يملكها أناسٌ آخرون؟ ألا يملكان حقوقاً يجب، جدلاً، أن يكون لها أولوية على حقوق الأطفال أنفسهم، أو في الأقل إلى جانبها؟
كلا. والحقيقةُ أن هذه الاعتبارات، وبكل بساطة، لا تُشكل أي نوع من الحقوق. ناهيك عن حقوق أهم من حقوق الأطفال: فهي قد توفِّر، في الحد الأقصى، ظروفاً مُخقِّفة. افترض أنك ضَللت فأعطيت طفلك سُمَّاً، فإن كونك قد ظننت أن السم جيدٌ لابنك، وأنك قد وقعت في مشاكل كثيرة للحصول على السُّم، وأنه لولا جهودك لما كان طفلك هناك لتقدمه له، لا يعطيك أي حق بإعطاء السم لطفلك – في الحد الأقصى، سيجعلك فقط أقل ذنباً لموت الطفل.
وفي أية حال، أن ننظر إلى الأبوين كشخصين ضَلاّ، بكل بساطة، معرفة مصالح طفلهما الحقيقية يعني، كما أعتقد، أننا متسامحين جداً معهما. ذلك أنه ليس واضحاً إطلاقاً أن الأبوين، حين يتحكما في حياة أطفالهما الروحية والفكرية، يؤمنان حقاً بأنهما يتصرفان لتحقيق أفضل مصالح الطفل وليس مصلحهما. فإبراهيم – حين أمره الله أن يقتل ابنه، إسحق، وجهَّزَ نفسه فوراً ليقوم بالواجب – لم يكن، بكل تأكيدٍ، يفكر بما هو أفضل لإسحق؛ كان يُفكِّر بعلاقته هو نفسه بالله. وهكذا جرى الأمرُ عبر العصور. فقد استخدم الأبوان أطفالهما، ولا يزالان يستخدمانهم، ليحصلا على فوائد روحية أو اجتماعية: فهما يلبسانهم ويُعلِّمانهم ويُعمِّدانهم ويحصلان على مصادقةٍ لذاك التعميد كي يحافظا على وضعهما الديني والاجتماعي.
لننظر مرة أخرى في المقارنة التي عقدناها مع الختان. لا يجب أن يقع أيُّ شخصٍ في خطأ افتراضِ أن ختانَ الأنثى، في تلك البلدان التي يُمارس فيها، قائمٌ لمصلحةِ الفتاة. لا، إنه ختانٌ لتشريف العائلة، لإظهار التزام الأبوين بتقليدٍ ما، لحمايتهما من العار. ورغم أنني لا أود دفع المقارنة بعيداً جداً، أقول إن دافعَ الأبوين هنا لا يختلف كثيراً عما يقوم به الأبوان من سوء معاملة أطفالهما في مستويات أخرى عديدة – حتى وإن تعلقت بأفعالٍ غير أنانيّة، من مثل تقرير ما يجبُ، أو لا يجبُ، أن يتعلمه الأطفالُ في المدرسة.
وعلى سبيل المثال، تمنع أُمٌّ أُصوليةٌ مسيحيةٌ طفلها من حضور صفوفٍ تُدرَّسُ فيها نظرية التطور: ورغم أنها قد تزعمُ أنها تفعل ذلك لمصلحة الطفل وليس، طبعاً، لمصلحتها، فمن المحتمل جداً أنها مدفوعةٌ لذلك برغبةٍ عندها في عرض طهارتها. أفلا تعرف أن الله القدير فخورٌ بها لالتزامها بإرادته؟ ويزعم مُفتي السعودية الأكبر أن الأرض مُسطَّحةٌ وأن أي شخصٍ يُعلِّمُ غير ذلك صديقٌ للشيطان (ورد لدي ساغان، 1996، ص 325): ألن يباركه الله كثيراً لاتخاذه هذه الموقف الشجاع؟ وحاولت مجموعة من الحاخامات في القدس منع عرض فيلم "الحديقة الجوريَّة" Jurassic Park بحجَّة أن الفيلم قد يجعل الأطفال يعتقدون أن الديناصورات كانت تعيش على الأرض قبل ستين مليون عامٍ، علماً أن الكتابات المُقدَّسة تقول إن عمر العالم ستة آلاف عام فقط (المصدر نفسه): أفلا يقوم هؤلاء بمظاهرة رائعة يعبرون فيها عن تقواهم؟
وما نراه، عادةً، مصلحة ذاتية صرفة، ولذا لا يجب علينا أن نُخفِّفَ من مسؤولية الأبوين، أو أي راشدين مسؤولين آخرين، بدعوى نواياهم الطيِّبة. فهم في تصرفاتهم تلك لا ينظرون إلا لأنفسهم.
ورغم ذلك، وكما قلت، بالكاد، في النهاية، أن تكون نوايا الأبوين مهمة. لأن حتى أفضل النوايا لن تكون كافية لأن تشتري لهم "حقوقاً أبويَّة" على أطفالهما. وفي الحقيقة، فإن أي فكرة تقول إن الأبوين، أو أي راشدين آخرين، لهم "حقوق" على أطفالهم، فكرة ٌلا يمكن دعمها أخلاقياً.
وفي أية حالات أخرى، لا يوجد كائنٌ بشريٌّ مؤتمنٌ بالحق على كائن آخر. لا يوجد كائن مُخوَّلٌ بالحقِّ بأن يوجِّه حياة شخص آخر أو يستغله أو يتحكَّم به – حتى لغايات خيِّرَةٍ موضوعيَّاً. صحيحٌ أن مالكي العبيد، في الماضي، امتلكوا مثل هذه الحقوق القانونية على عبيدهم. وصحيحٌ أيضاً أن الأزواج كان لهم، إلى وقت قريب نسبيّاً، حقوقٌ على زوجاتهم – حق ممارسة الجنس معهن، على سبيل المثال. ولكن أياً من هذه الاستثناءات لا تقدِّم نموذجاً لتنظيم العلاقات بين الأبوين والأطفال.
ودعني أُكرِّر، يجب اعتبار الأطفال كائنات بشرية لها مصالح مستقلة عن مصالح الأبوين. إذ لا يمكن تصنيفهم كأنما هم جزء من أبويهم. وذاك ما يجب، في الأقل، أن يكون – إلاّ إذا وقعنا في الخطأ الغريب الذي وقعت فيه المحكمة الأمريكية العليا حين حكمت، في قضية الأميش، إذ قالت: قد يعتبرُ بعضُ الناس أسلوبَ حياة الأميش "غريباً أو حتى شاذَاً،" إلا إنه "لا يتدخل في حياة آخرين أو مصالحهم." 5 كأنما لا يوجد حتى احتمالٌ باعتبار أطفالِ الآميش "آخرين."
وأعتقد أن علينا التوقف عن الحديث عن "حقوق أبويَّة" كليَّاً. فطالما أن الأبوين يُساومان على حقوق الطفل كفرد، فإن حقوق الأبوين لا مكان لها في الأخلاق، ويجب أن لا يكون لها أي مكان في القانون.
وذاك لا يعني القول إن الأبوين لا يجب أن يُعاملا من بقيَّتنا باحترامٍ واجبٍ وأن يُعطيا امتيازاتٍ معينةٍ خاصةٍ بعلاقتهما بأطفالهما. ورغم ذلك، ليس للامتيازات الأهمية الأخلاقية والقانونية التي للحقوق. والامتيازات ليست، بأي شكل من الأشكال، غير مشروطة، إنها مقابلُ الموافقة على الالتزام بقواعد سلوكية معينة فرضها المجتمع بعامة، وأي شخص يُمنحُ امتيازاً يظل في الواقع تحت المراقبة: فالامتيازُ الممنوحُ يمكن أن يُستعاد.
ودعنا نفترضُ أن امتياز الأبوين سيعني، على سبيل المثال، أنه سيسمح لهما، شرط موافقتهما على العمل ضمن إطار مُحدَّد – ودون تدخّل من القانون – بعمل كل الأشياء التي يعملها كل أبوين في كل مكان: إطعام أطفالهما وإلباسهم وتعليمهم وتأديبهم – وأن يتمتعا بالحب الذي ينجم عن ذلك كله. ولكن، وبكل وضوح، لا يجب أن يكون جزءاً من هذه الصفقة أن يُسمحَ للأبوين بالاعتداء على حق الطفل الأساس بتقرير المصير. فإذا أساء الأبوان استعمال امتيازاتهما في هذا الشأن، يُلغى العَقْدُ - ويكون من واجب الذين منحوا الامتياز أن يتدخلوا.
كيف يتدخلوا؟ اقترضْ أننا – وأعني بأننا المجتمع – لا نُحبُّ ما يحصل عندما يُترك تعليمُ الطفلِ للأبوين أو للقساوسة. وافترضْ أننا نخاف على عقل الطفل ونُريدُ أن نتّخذَ إجراءً علاجيَّاً. وافترضْ أننا نريد، في الواقع، أن نأخذ إجراءً وقائياً لجميع الأطفال لحمايتهم من وقوع الضرر عليهم نتيجة أفكار سيئة وأن نمنحهم أفضل بداية يبدؤونها ككائناتٍ بشريَّةٍ. فما الذي يجب أن نفعله في هذه الحال؟ وماذا يجب أن تكون هديتنا لهم في عيد ميلادهم من عالم الراشدين.
كان اقتراحي في بداية هذه الورقة [أن تكون الهدية] هي العِلْمُ – تربية علمية عامّة. وذاك يعني التربية بطريق التَّعَلُّمِ من الملاحظة، التجربة، اختبار الفرضيَّة، الشك البنّاء، التفكير النقدي – والحقيقة التي تنجمُ عنه.
وها أنا أخيراً أصل إلى أكثر أسئلتي التي ابتدأت بها استفزازاً. ما هي الأمور التي تجعلُ العلم خاصاً جداً؟ لماذا نعتبرها حقائق؟ لماذا يعتبر تعليم العلم لكل إنسان صحيحٌ أخلاقياً، في حين يعتبر تعليم كل تلك الأشياء الأخرى خطأٌ أخلاقياً؟
ليس ضرورياً أن تكون واحداً من أولئك النسبيين الكليّين لتطرح مثل هذه الأسئلة – وأن تكون شكّاكاً في أن أية محاولة لاستبدال الحقائق القديمة بحقائق علمية أجدد ليس أكثر من محاولة استبدال دوغمائية بدوغمائية أخرى. فالمحكمة الأمريكية العليا، في حُكمها حول مدارس الآميش، كانت حريصة على تحذيرنا بأن لا نستبعد أبداً طريقة في التفكير ونحل محلها طريقة أخرى، لمجرد أن رأياً ما حديثٌ وآخِرْ موضة. وقالت: "لا يجب أن يكون هناك أي افتراض بأن أغلبية اليوم ’مُحقَّة’ والآميش وآخرين ’مُخطئين’،" إذ "لا يجب إدانة طريقة حياة الآميش لأنها مُختلفة."7
قد يكون الأمرُ كذلك. ولكنني أود أن أقول إن المحكمة اختارت التركيز على المسألة الخطأ هناك. فحتى لو كان العلمُ رأيَ "الأغلبية" (وكما رأينا سابقاً، ليست الحال كذلك للأسف)، سنوافق جميعنا أن هذا الأمر بحد ذاته لا يوفِّر أرضيَّة لتأييد العلم على حساب أنظمة فكرية أخرى. ومن الواضح أن "الأغلبية" غير مُحِقَّة في كثير من الأشياء، وربما في معظم الأشياء.
ولكن الأرضيَّة التي أقترحُ[ها أرسخ. فأنا أعتقد أن العلم يقف بعيداً عن كل النُّظم الفكرية الأخرى ويتفوَّقُ عليها لأنه وحده من بين كل النُّظم المُتصارعة ينسجم مع المعيار الذي طرحته أعلاه: وهو بالتحديد، إن العلم يمثِّل منظومة معتقدات سيقوم أي شخص عقلاني، إن أُعطي الفرصة، باختيارها لنفسه.
وربما وجبَ عليَّ قول ذلك مرة أخرى، وأن أضعه في سياق معين. جادلتُ سابقاً أن الظروفَ الوحيدة التي يمكن في ظلِّها أن يكون مقبولاً أخلاقياً فرضُ طريقة معينة من التفكير على الأطفال هي عندما تكون النتيجة أن يقوم الأطفال، لاحقاً في حياتهم، بالتمسك بمعتقدات كانوا سيختارونها في كل حال، بغض النظر عن أية معتقدات بديلة تعرَّضوا لها. وما أقوله الآن أن العلم هو الطريقة – وربما الطريقة الوحيدة – التي تنجح في هذا الاختبار. إذ يُوجد عدم تساوق جوهري بين العلم وكل شيء آخر.
دعنا نذهب الآن لإنقاذ فتاة الإنكا تلك التي قال لها الرهبان إن الألهة ستُمطر حِمَماً بركانية على قريتها، إن لم تمُتْ على الجبل، ودعنا نعرض عليها طريقة أخرى في النظر إلى الأشياء. دعنا نعرض عليها خياراً يتعلق بعيشها حين تكبر: هل تُريدُ، من جهة أولى، أن تعيش مع هذه القصة عن الغضب الإلهي، أم، من جهة أخرى، مع نَظَرات من الجيولوجيا تشرح كيفية انفجار البراكين نتيجة حركة الصفائح الأرضيَّة التكتونية؟ ما الخيار الذي ستختاره؟
ودعنا نذهب إلى إلى ذاك الصبي المسلم الذي درَّسهُ الملالي الاعتقادَ بأن الأرض مُسطَّحةٌ، ودعنا نسبرُ غورَ بعض أفكار الجغرافيا العلمية معه. وأفضل من ذلك، دعنا نأخذه ليصعد عالياً في بالون، ونُريَه الأفق، ونطلب منه أن يستخدم حواسّه وقواه العقلية ليصل إلى استنتاجات خاصة به. والآن، نعرض عليه الخيار التالي: الصورة المعروضة في القرآن، أم الصورة التي تتدفق من فهمه العلمي الجديد؟
ودعنا نُشفق على المُدَرِّسَةِ المعمدانية التي زُفَّت إلى الخلقيَّة creationism، ولنعطها إجازة، ونأخذها في جولة إلى متحف التاريخ الطبيعي بصحبة رتشارد دوكنز Richard Dawkins أو دان دينت Dan Dennett – أو، إذا كانا مخيفين جداً، ديفيد أتينبورو David Attenborough – ولنتركهما يشرحان لها إمكانيات التطور. والآن نترك لها الخيار: قصة سفر التكوين بكل ما فيها من تناقضات، أو فكرة الانتخاب الطبيعي البسيطة المثيرة. فماذا ستختار؟
أسئلتي بلاغيَّة لأن الأجوبة عنها موجودة فعلاً. فنحن نعرف جيداً أية طريق سيسلكها الناس حين يُسمحُ لهم أن يُشَغِّلوا عقولهم حول أسئلة مثل هذه. إن التحول من الخرافة إلى العلم كان دائماً حدثاً يومياً ولا يزال. وربما كان جزءاً من خبرتنا الشخصية. فأولئك الذين كانوا يمشون في الظلام رأوا نوراً عظيماً. "دهشة" الرؤية العلمية.
على العكس من ذلك، يكاد يكون التحول من العلم إلى الخرافة غير معروف. ولا يحصل أن شخصاً تعلَّم وفهِم العلم ومناهجَه ومن ثمَّ عُرض عليه بديلاً غير علمي يختار هَجْرَ العلم. وأشك، على سبيل المثال، في أنه حدث أبداً أن شخصاً ترعرع على الإيمان بنظرية البراكين الجيولوجية قد غيَّر موقفه ليؤمن، بدلاً عن ذلك، بغضب الآلهة، أو أن شخصاً شَهِد الدليل على أن الأرض كرويَّة وأُعجب به، أو حتى شخصاً فهم ذات مرة قوة النظرية الدارونية، يتراجع ليفضِّل قصة سفر التكوين.
وطبعاً، يقوم بعض الناس أحياناً بهجر معتقداتهم العلمية الموجودة لصالح بدائل علمية أجدد وأفضل. واختيار نظرية علمية معينة بدلاً من أخرى يعني أن المرء لا يزال مُخلصاً للعلم بشكل مُطلق.
وسبب هذا الاختلاف بين العلم واللاعلم لبس فقط أن العلم يُقدِّم شروحات أفضل بكثير من شروحات اللاعلم – أفضل بكثير سهولةً وروعةً وجمالاً. وأقول إن السبب الأقوى من ذلك هو أن العلم بطبيعته عملية توفِّر فرصة المشاركة للفرد، أما اللاعلم فلا يوفِّرها.
بتَعَلُّمِ العلم نَتَعَلَّمُ لماذا يجب أن نؤمن بهذا الأمر أو ذاك. فالعلم لا يُداهنُ، ولا يُملي، بل يضع الحُجَجَ الواقعية والنظرية التي تشرح كون أي شيء كذلك – ويدعونا للاقتناع به بأنفسنا والموافقة عليه. وهكذا، حين يكون شخصٌ قد فهم تعليلاً علميَّاً، يكون ذاك الفهم قد أصبح بالفعل خياره، ولذلك أهمية خاصة.
وكم هي مُختلفةٌ حال التعليل الدينيّ أو الخرافيّ. لا يدّعي الدين أنه يخرط المخلصين له بأية عملية من عمليات الاكتشاف أو الخيار العقلاني. فإذا جرؤنا وسألنا لماذا يجب أن نؤمن بشيء، يكون الجواب "لأن ذاك مكتوب في الكتاب،" أو "لأن تلك تقاليدنا،" أو"لأنه كان كافياً ليؤمن به موسى،" أو"لأنك بذلك ستذهب إلى الجنّة" – أو، كالعادة، "لا تسأل."
قارن بين هذين الموقفين. من جهة لدينا لاهوتيّ القرن الثاني الرومي، ترتوليان Tertullian، بخضوعه البائس للسلطة وإنكاره لانخراطنا الشخصي في اختيار معتقداتنا، وكتب يقول: "بالنسبة لنا، ليس حبّ الاستطلاع ضرورياً من بعدُ بعدَ يسوع المسيح، ولا السؤالُ من بعدِ الإنجيل." ولا بد أن أُذكِّركم أن ترتوليان هذا هو الشخص نفسه الذي قال عن المسيحية: "إنها مُقْنِعَةٌ لأنها مستحيلة". ومن جهة أخرى لدينا فيلسوف القرن الثاني عشر الإنجليزي آدلارد الباثني Adelard of Bath، وأحد أول مُفسِّري العلم العربي، بوصيَّته التي تقول إننا جميعاً نجعلُ أنفسنا مسؤولين شخصياً عن فهم ما يجري حولنا، ويقول: "إذا كان أي شخص يعيش في منزلٍ يجهلُ مما هو مبني، ... فهو لا يستحق مأواه، وإذا كان أي شخص مولود في هذا العالم يهمل معرفة الخطة التي تؤكد جماله الرائع ... فإنه غير جديرٍ به ... ويستحق أن يُنْبَذَ منه."َ
والآن تخيَّل أن الخيارَ خيارُك. أنك واجهت، في أيام تشكِّل حياتك الأولى، خياراً بين هذين الطريقين من التنوير – بين تأسيس معتقداتك على أفكار آخرين مستوردة من بلد آخر وزمن آخر، وبين تأسيسها على أفكار كنت قادراً على رؤيتها تنمو في ترابك الوطني. فهل يُوجد أي شكٍّ في ما ستختار لنفسك، في أنك ستختار العلم؟
ولأن الناس سيختارون ذلك، إذا أتيحت لهم فرصة التربية العلمية، أقول إننا كمجتمع مخوَّلين، بضمير خيِّرٍ، بإعطائهم تلك الفرصة. أي إننا مخوَّلين في الواقع باختيار طريقة التفكير هذه لهم. وفي الحقيقة، إننا لسنا مخوَّلين فقط: ففي حال الأطفال إننا مُلزمون أخلاقياً أن نفعل ذلك – لنحميهم من أن يكونوا ضحايا أوائل لطرق أخرى من التفكير تقتلعهم من حقل العلم.
وطبعاً، سيسأل شخصٌ ما، من دون شك، "كيف سيكون موقفكَ إن أصَرَّ مُسْتَبدٌّ Big Brother أن يتعلَّم أطفالك معتقداتِهِ؟ وكيف سيكون موقفك إذا حاولتُ أن أفرضَ آيديولوجيتي الشخصية على ابنتك الصغيرة؟ الجواب هو أن تعليم العلم ليس مثل ذلك، وهو لا يدور حول تعليم مُعتقداتِ شخص آخر، بل تشجيع الطفلة على ممارسة قدراتها على الفهم لتصل إلى معتقداتها الخاصة بنفسها.
من المؤكد أن ذلك سيعني، ربما، أنها ستحمل معتقداتٍ تتشارك فيها مع آخرين كُثرٍ ساروا في المسار نفسه: أي أيمانٌٍ بما يكشف العلم أنه حقيقة العالم. ونعم، إن أردتَ وضعَ المسألة بهذه الطريقة، يمكنك أن تقول إن هذا يعني أنها، بجهودها الخاصة للفهم، سوف تصبح ملتزمة بالعلم: أي أحد أولئك الأشخاص العارفين الذين يؤمنون بأن المادة مصنوعة من ذرّات، أن الكون نشأ عن الانفجار الكبير Big Bang، أن الكائنات البشرية تنحدر من القردة، أن الوعي وظيفة الدماغ، أن لا حياة بعد الموت، وهكذا. ولكنني أقول إنني سأكون مسروراً جداً فقط لأخ كبير أو لأخت كبيرة أو لمُدَرِّسٍ يُساعدها على الوصول إلى حالة التَّنَوِّرِ تلك.
وما أريده لابنتي هو اكتساب عادة التساؤل، والقدرة على تمييز الأسئلة الجيدة من السيئة، والشهيَّة لرؤية كيف ولماذا تعمل التعليلات العميقة، لأنني أعتقد أن ذاك ما سوف تريده لنفسها يوما ما، إن أُعطيت الفرصة. ولكن ذاك ما أريده لها أيضاً لأنني واعٍ جداً لما يمكن، عكس ذلك، أن يقع عليها. فالأفكار السيئة مستمرة في غزوِ ثقافتنا، بعضها قديم، وبعضها جديد، باحثةَ عن عقول نزّاعة للتَّقَبُّلِ لتأسرها. فلو كان لهذه الطفلة أن تسقط في كمائن لا عقلانية سياسية أو روحيّة ، لأنها تفتقر إلى دفاعات العقلانيّة النقديّة، نكون، أنا وأنت – ومُجتمعُنا – قد خذلناها.
كلمات؟ الأطفال مجبولون من الكلمات التي يسمعونها. وما نقوله لهم يصنع فرقاً. يمكن للكلمات أن تؤذيهم. وقد يؤذون أنفسهم أكثر، ويصبحون، بدورهم، ذاك النوع من الناس الذين يؤذون آخرين. ولكن الكلمات، بالمقابل، يمكن أن تمنحهم حياة.
يقول سفر التثنية، "جعلتُ قُدَّامَكَ الحياةَ والموتَ، البركةَ واللعنةَ. فاخترْ الحياةَ كي تحيا أنت ونسلَك." (تثنية 30: 19). وأعتقد أنه لا يجب أن يُوجَدُ أي قيدٍ على واجبنا بمساعدة أطفالنا على أن يختاروا الحياة.

ملاحظات
1. Statistics from sources quoted in Humphrey, 1995.
2. Court ruling Iowa, 1985, cited in Dwyer, 1994.
3. U.S. Supreme Court ruling, 1972, cited in Dwyer, 1994 , p. 1385.
4. U.S. Supreme Court ruling, 1986, cited in Dwyer, 1994 , p. 1409.
5. U.S. Supreme Court ruling, 1972, cited in Kraybill, 1989 , p. 120 (my italics).
6. See the extended discussion by Dwyer, 1994 ; and 1996 , pp. 101-258.
7. U.S. Supreme Court ruling, 1972, cited in Kraybill, 1989 , p. 120.

مراجع
Adelard of Bath, Astrolabium (twelfth century ).
Cherniak, Christopher, "The Riddle of the Universe and Its Solution," in Douglas R. Hofstadter and Daniel C. Dennett, eds., The Mind s I (New York: Basic Books, 1981 ).
Dawkins, Richard, "Viruses of the Mind," in Bo Dahlbom, ed., Dennett and His Critics (Oxford: Blackwell, 1993 ), pp. 13-27.
Dwyer, James G., "Parents Religion and Children s Welfare: Debunking the Doctrine of Parents Rights," California Law Review 82 ( 1994 ): 1371-1447.
Dwyer, James G., "The Children We Abandon: Religious Exemptions to Child Welfare and Education Laws as Denials of Equal Protection to Children of Religious Objectors," North Carolina Law Review 74 ( 1996 ):101-258.
"Home Schools: How Do They Affect Children?" APA Monitor ( December 1996 ).
Humphrey, Nicholas, Soul Searching. Human Nature and Supernatural Belief (London: Chatto and Windus, 1995 ).
Kagan, Jerome, "Three Pleasing Ideas," American Psychologist 51 ( 1996 ): 901-8.
Kraybill, Donald B., The Riddle of Amish Culture (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1989 ).
Mayakovsky, Vladimir, "I," in Mayakovsky and his Poetry, tr. George Reavey (Bombay: Current Book House, 1955 [ 1912 ]).
National Science Board, Science and Engineering Indicators -- 1996 (Washington, D.C.: U.S. Government Printing Office, 1996 ).
Reinhard, Johan, "Peru s Ice Maidens," National Geographic ( June 1996 ).
Sagan, Carl, The Demon-Haunted World (New York: Random House, 1996 ).
Schumaker, John F., Wings of Illusion (London: Polity Press, 1990 ).
Tertullian, The Prescription of Heretics (second century).



#غازي_مسعود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد ماركس للسماء ونقد الأرض
- مفهومان للعلمانية: دور الدين في المجتمع الأمريكي المعاصر
- العولمة والإمبراطورية
- بي بي سي: ماركس أعظم فيلسوف في التاريخ


المزيد.....




- المجاعة تحكم قبضتها على الرضّع والأطفال في غزة
- ولايات أميركية تتحرك لحماية الأطفال على الإنترنت
- حماس: الانتهاكات بحق الأسرى الفلسطينيين ستبقى وصمة عار تطارد ...
- هيئة الأسرى: 78 معتقلة يواجهن الموت يوميا في سجن الدامون
- الأمم المتحدة تدعو القوات الإسرائيلية للتوقف عن المشاركة في ...
- التحالف الوطني للعمل الأهلي يطلق قافلة تحوي 2400 طن مساعدات ...
- منظمة حقوقية: إسرائيل تعتقل أكثر من 3 آلاف فلسطيني من غزة من ...
- مفوضية اللاجئين: ندعم حق النازحين السوريين بالعودة بحرية لوط ...
- المنتدى العراقي لحقوق الإنسان يجدد إدانة جرائم الأنفال وكل ت ...
- النصيرات.. ثالث أكبر مخيمات اللاجئين في فلسطين


المزيد.....

- نحو استراتيجية للاستثمار في حقل تعليم الطفولة المبكرة / اسراء حميد عبد الشهيد
- حقوق الطفل في التشريع الدستوري العربي - تحليل قانوني مقارن ب ... / قائد محمد طربوش ردمان
- أطفال الشوارع في اليمن / محمد النعماني
- الطفل والتسلط التربوي في الاسرة والمدرسة / شمخي جبر
- أوضاع الأطفال الفلسطينيين في المعتقلات والسجون الإسرائيلية / دنيا الأمل إسماعيل
- دور منظمات المجتمع المدني في الحد من أسوأ أشكال عمل الاطفال / محمد الفاتح عبد الوهاب العتيبي
- ماذا يجب أن نقول للأطفال؟ أطفالنا بين الحاخامات والقساوسة وا ... / غازي مسعود
- بحث في بعض إشكاليات الشباب / معتز حيسو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - حقوق الاطفال والشبيبة - غازي مسعود - ماذا يجب أن نقول للأطفال؟ أطفالنا بين الحاخامات والقساوسة والملالي و ... الآباء