أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - شاكر خصباك - ستون عاماً من الإبداع(1-2)















المزيد.....



ستون عاماً من الإبداع(1-2)


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2565 - 2009 / 2 / 22 - 08:30
المحور: سيرة ذاتية
    



إشراف
د. عبد العزيز المقالح

تحرير
د. إبراهيم الجرادي


الطبعة الأولى
2008



تحية احتفائية
□ أ. د. عبد العزيز المقالح
إن ورقتي التكريمية التي أعددتها لهذه المناسبة هي بعنوان (شاكر خصباك روائياً). ولكن وقبل قراءة الخطوط العريضة لهذه الورقة أود أن أقول: إنه لشرفٌ عظيمٌ لجامعة صنعاء، وشرفٌ لنا جميعاً في هذه البلاد أن يكون الدكتور شاكر خصباك الأستاذ والروائي والقاص والكاتب المسرحي والمفكر، قد اختار صنعاء مقراً لإقامتهِ من بين سائر العواصم العربية التي ترحبُ به وبعلمهِ وإبداعاته وبشخصه، وهو المثقف العربي الوطني المعروف بمواقفه التي لا تعرف المهادنةَ، ولا تقبلُ بالأمر الواقع تحت أي ظرف كان، ومن قِبَلِ أيةِ جهة كانتْ. هكذا نشأ، وهكذا تكوّنت أفكاره ومبادئه ومواقفه.
ولضيق وقت المحتفين بهذا العَلَمِ العربي الكبير أكتفي هنا -كما سبقت الإشارة- بعرض النقاط الرئيسة في ورقتي المعدة لهذه المناسبة الغالية على نفسي، ونفوس كثير من زملاء الأستاذ شاكر خصباك وتلاميذه، والنقاط هي:
أولاً: تشير هذه الورقة إلى أن الدكتور شاكر روائي ورائد متمرس في مجال الكتابات الأدبية، إذ أن أعماله الإبداعية تربو على ثلاثين عملاً بين روايةٍ ومسرحية ومجاميع قصصية قصيرة، وحظ الرواية منها في حدود متابعتي وقراءتي لا تقل عن أربع عشرة رواية.
ثانياً: الفن الروائي بالنسبة للدكتور شاكر ليس لغةً جميلةً، ولا حكايةً مسلية أو ارتحالاً في عوالم غامضة مبهمة، وإنما هي تدوين فني رفيع لوقائع إنسانية. وتكادُ شخوصُ رواياتهِ جميعاً تكون من لحمٍ ودم، وإطارها مكانٌ له ماضٍ، ويتسع لأحضان آفاق الحاضر، وتطمح في أن يكون لها وجود في المستقبل.
ثالثاً: إن الدكتور شاكر لا يسعى في أعماله الروائية إلى إغراء القارئ بالاقتراب من محذور الجنس، كما فعل ويفعل العشرات ممن يكتبون الرواية، وإذا حدثَ ولامستْ رواياتُه هذا الجانب، فإنها ملامسةٌ فنية خفيفة لا تخرج عن حدود المقبول والمعقول.
رابعاً: يتميز الدكتور شاكر عن كثيرٍ من الروائيين المعاصرين بتكثيف النص الروائي، والابتعاد به عن مناطق الثرثرة، وهو يعجبُ كيف يجدُ بعضُ الروائيين والشبانُ منهم بخاصة هذا الكمّ من الكلام يملأون به مئات الصفحات دون أن يضيف شيئاً إلى القارئ أو إلى موضوع الرواية.

خامساً: يبدو جلياً لمن أُتيح له أن يتابعَ المجاميعَ القصصيةَ الأولى للدكتور شاكر أن يدرك أن هاجساً روائياً يكمن في تلك الأعمال القصصية لكن ظروفه وما واجهه في حياته العملية والعلمية من تعقيدات ومضايقات، جعلته يكتفي في بداية حياته الأدبية بكتابة القصة القصيرة سريعة الأثر ومحدودة وقت الكتابة. إلا أنه ما كاد يستقر به الحال حتى انفتح أمامَه عالمُ الكتابةِ الروائية وكانت البداية مع رواية (حكايات من بلدتنا)، وأحدثها ظهور رواية (الأصدقاء الثلاثة)، التي تُعدّ من حيث الموضوع والتقنية، خلاصةَ تجربةٍ عميقة وطويلة وواحدة من أهم الروايات العربية وتتناول هذه الرواية الواقع المأساوي في العراق، وهي كسائر أعماله الروائية تخلو من المباشرة وتميل إلى الرمز. وعلى الرغم من أن روايات الدكتور شاكر كبقية أعماله الإبداعية تنطلق من الواقع ومن التجارب المعاشة، فإن وعيه الروائي يحررها من المباشرة، وهذا ما يجعله يقدم الواقع على شكل مدهش.

سادساً: يلاحظ الدارس كما القارئ أن الأفكار في روايات الدكتور شاكر تتحرك كما تتحرك الشخوص نفسها، وكل رواية تنطوي على قيم فكرية تصل إلى أقصى مداها، كما في أحدث أعماله الروائية، وأعني بها (الأصدقاء الثلاثة) الذين يموتون جميعاً دفاعاً عن أفكارهم. فالفكرة عند الدكتور شاكر كالشخصية المحورية تماماً تناضل وتقاوم الظلم والفساد واللامبالاة.
سابعاً: الدكتور شاكر واحد من الشهود الصادقين على عالمنا المعاصر، وكتاباته بعامة والروائية منها بخاصة، تعبر عن نزعة إنسانية واقعية، ولا مكان للتفاؤل الساذج في رؤيته ولا للشعور الطاغي باليأس.
تلك باقتضاب شديد هي النقاط الرئيسة في الورقة التكريمية عن الإبداع الروائي لأستاذنا شاكر خصباك الذي نُجلّه ونُعزه ونقدره، ونَسعد بوجوده بيننا، ونتمنى له طول العمر ودوام الإبداع.

من سليمان العيسى في دمشق - تحية
□ سليمان العيسى
ويرنُّ الهاتف في منزلي، ويأتيني من صنعاء صوتُ شاعرنا ومفكرنا الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح، ليقول لي:
غداً سنقيم حفل تكريم لصديقك وصديقنا العزيز الدكتور شاكر خصباك.. وينهمر سيلٌ من الذكريات، الحلوة، العذبة، الأليفة، لدى سماعي النبأ، يمتزجُ بشيء من الأسى والأسف لأني لن أتمكن من حضور هذه المناسبة الغالية. فهل تستطيع كلمةٌ عابرةٌ أن تنوب عني، وأن تحمل بعض ما أحمله أنا وزوجتي الدكتورة ملكه أبيض من حبٍّ وتقدير ووفاء للصديقين العزيزين والجارين الأليفين أبي صباح وأم صباح؟
ما أظن كلمةً عابرة قادرةٌ على أن تختصر ذكريات السنين الطوال التي قضيناها في صنعاء، يحملنا أبو صباح كل مساء أربعاء بسيارته الصغيرة إلى مقيل شاعرنا ومفكرنا وراعينا الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح. ولا ينسى أبو صباح أن يتأبط كتاباً لأحد أعلام الأدب، وهو يهمس في أذني معاتباً: إنكم تجعلون مقيلكم حكراً على الشعر والشعراء. لمَ لا يكون للقصة نصيبها فيه؟ سأقرأ عليكم اليومَ بعض الصفحات لواحد من أكبر أعلام الأدب. ويفاجئنا أبو صباح بكتابه الرائع، ويقرأ علينا فصلاً منه لا أجمل ولا أحلى، ويطلب إلينا أن ندير مناقشة حوله.. وهكذا ينتقم للقصة من الشعر الذي استأثر بالساحة في رأيه.
سيلٌ من الذكريات ينهمر على ريشتي وأنا أخطّ هذه الكلمة العجلى.. في تكريم جاري وصديقي العزيز الدكتور شاكر خصباك.. هذا الذي تحار ماذا تسميه؟ عالم الجغرافيا الكبير -والجغرافيا أم العلوم، كما يسميها بعضهم- أم كاتب القصة والرواية المتميز الذي يأسرك ببساطة وغنى أفكاره.. أم المتحدث البارع الذي يفاجئك بآرائه الحرة وأفكاره التي يعارض فيها الكثير من السائد والمألوف فإذا أنت مشدود إليه، مقتنع بجرأته، وقوة عارضتِهِ.. وإن كنتَ من معارضيه في كثير من الأحيان.
سأترك هذا جانباً لأعود إلى ذكرياتي في هذه السطور العجلى.. ذكرياتي مع جاري وصديقي العزيز، حيث كانت نافذة سُكناي في الحي الجامعي تُطلُّ على نافذة سكناه. وما يكاد يمضي يوم أو يومان حتى نلتقي في بيتي أو بيته، في جو عائلي حميم، ستبقى ذكراه زادنا إلى أمد بعيد.
إنني سأظل أردد مقطوعةً شعرية صغيرةً أهديتها إليه ذات يوم، وأنا أرتشف فنجان القهوة في مكتبه، في قسم الجغرافيا، في جامعة صنعاء؛ سأظل أردد:
يا طيبَ قهوةِ شاكرِ
إنّي إلى (الجغرافيا)
في لهفةٍ.. يدعوكَ.. يهتفُ
ويمرُّ في نَبَراتِه
أيامَ فَجَّرني الهوى
بيني وبين أحِبَّتي
أوَّاه.. يا صنعاء.. كوني
أهْوى يَبَاسَك.. أيُّ
لُمِّي الشَّتاتَ.. أمَا لِغُربةِ
يا قهوةً عربيةً..
آليت أرشفُ يا صديقي
أحرقتُ زهْو العمرِ
لأضُمَّ هذا التيه.. في
دعني.. على الفنجان..
أنْسَى، أضيعُ هُنيهةً
عند الصباحِ الباكرِ!
وَجَّهْتُ كلَّ مشاعري
يا هَلا بالشاعر!
كلُّ العراقِ.. بخاطري
شعراً.. بلمسةِ ساحرِ
طوفان نارٍ صاهِري
واحةً للعابر!
روضٍ في يَبَاسِكِ ناضِرِ!
ليليا مِنْ آخِرِ؟
شدّتْ إليَّ أواصري
عطرها بمحاجري
ضجّت بالحريق دفاتري
قلبي نشيد بشائِر
أحيا وَمْضَ حُلْمٍ عابرِ
يا طيبَ قهوةِ شاكرِ


شاكر خصباك 60 عاماً من الإبداع
(تحية احتـفائية)
□ د. إبراهيم الجرادي

(1)
أفضل التكريم: التقويم.
(2)
ليس أعذب من الحرية إلا السعي في سبيلها والتعبير عنها!
بل ليس أعذب من الحرية إلا العذاب في سبيلها والتعبير عنها!!
(3)
عندما أراد الملتقى الثقافيّ العربيّ بصنعاء، أن يُعلنَ عن نفسه بثبات واقتدار، توصيفاً لوجوده، الذي سيستوفي شروط أسبابه بنشاطاتٍ توازي رغبته، ومقدرة القائمين عليه ومؤازريه، اتكأ على مساحة أوسع وكيان أرحب مركز الدراسات والبحوث اليمني لاستدارك ما يمكن استدراكه. وإعادة الاعتبار للتقويم، بالالتفات إلى مصادر الينابيع، والاحتفاء بالضفاف وطميّها، كان الدكتور شاكر خصباك يقف أمام الساعين إلى الفكرة، تاريخاً طويلاً من العطاء الأدبيّ والعلمي، بيتاً لم يغلق نوافذه، أمام الضوء المحتدم القادم من وعيٍ يسعى لتغيير خريطة الأشياء، في شهوةٍ عارمةٍ لتكون الحياة أفضل وكرامة الإنسان وحقه فيها شرعاً وعُرفاً وسلوكاً.
كاتبٌ رائدٌ من جيل المؤصلين الأوائل: غائب طعمه فرمان، فؤاد التكرلي، عبد الملك نوري وغيرهم.
عالمٌ جغرافيٌّ كبيرٌ، أسست مساهمته لأعرافٍ جديدةٍ في التعامل مع المكان والكائنات، أعرافٍ تقوم على العدالة في التوصيف والممارسة، وترويض النزعات الافتراسية، التي تتخذ أشكالاً مختلفة في التعبير عن رغباتٍ عدوانية في الاستحواذ والتملك وإلغاء الآخر...
صفتان غالبتان تستحضران الدكتور شاكر خصباك، جُهداً إنسانياً في صورةٍ بهيَّةٍ، وتستدرجان القول، ليسعى الآخرون إلى منابع الطِيب، فليس لشاكر خصباك من خاصيةٍ غالبةٍ -وله من الخاصيات الكثير- سوى سلوكه -حياتياً وإبداعياً- سلوكه الذي بَدَّدَ الرضا الرتيب وأعلن شهوة ضاريةً للحرية والحياة، بمسيرةٍ وكلماتٍ خلخلت مجدَ الطاغية الضرير، وقادت المبصرين إلى عذوبة المشهد القادم، حتماً.
وهكذا كان:
• إعادة طباعة أعماله الإبداعية، طباعةً أنيقةً صدرت عن دار (نينوى) بدمشق بثمانية مجلدات (عام 2007م)، وهيئة استشارية مرموقةٍ ومشهودٍ لها: د. عبد العزيز المقالح (مشرفاً)، الشاعر الكبير سليمان العيسى، الدكتور حاتم الصكر، الأستاذ أيمن الغزالي (مشرفاً فنياً) والدكتور إبراهيم الجرادي (محرراً)..
• الإعداد لاحتفائية تليق بالمحتفى به وبمنجزه الإبداعي العلمي.
• إصدار كتاب تقويمي تكريمي بهذه المناسبة.
وهكذا كان كما أشار البروشور الأنيق الذي صدر بالمناسبة:
احتفاءً به وتقديراً لدوره الإبداعي والعلمي وبمناسبة صدور مؤلفاته الإبداعية (ثمانية مجلدات).
مركز البحوث والدراسات اليمني والملتقى الثقافي العربي بصنعاء يكرمان المبدع الرائد الدكتور شاكر خصباك
وذلك في مركز البحوث والدراسات اليمني - صنعاء - شارع بغداد، الساعة العاشرة من صباح يوم الثلاثاء 10/6/2008م.

وكان احتفالاً مترفاً ترف المتقشفين بالطارئ العابر.
كان احتفالاً مترفاً بالحاضرين: نقاداً وأصدقاء، أكاديميين ورجال سياسة، دبلوماسيين وطلاب علم، صحفيين ورجال إعلام...
كان احتفالاً مترفاً؛ ترف العارفين برائحةِ المكان، ومشيئة الوقت.
سرِّ الأشياء ومكيدة الأنقاض، طعم الماء والغيوم وحنظل الطغيان.
سرِّ الغزاة الذين يعبثون بالأرض والإنسان وسرِّ أشباههم!
كان احتفالاً مترفاً، ترف الذين يرون المأساة وهي تصعد إلى أعلى أشكالها: الملهاة!!
كان احتفالاً مترفاً ترف المنذور للحقيقة يهبها ضلوعه، وينحني على تراب الحق، يأخذه براحتيه بهدوء ويمضي به إلى حكمةٍ لا تموت.
كان احتفالاً مترفاً ترف الذين يرون في الكتابة عصياناً عظيماً جميلاً، خالقاً، ويهددون الطغيان بعاصفة القلب الدامي.
كان احتفالاً مترفاً بمن عقدوا اتفاقاً مُعلناً مع الحرية؛ غِبطةِ الكائن وأبرموا اتفاقاً مع العدل، والجمال، والكرامة البشرية، أولئك الذين يحملون بسالة اليقين الذي لا يتزعزع بالإنسان، وإنسانية الإنسان..
كان احتفالاً مترفاً، لأن المحتفى به كان وما زال يرفل (بالمنفى) ويتبختر بعذاباته كالطاووس، يرتجل حنينه إلى هناك كابتهالٍ شفيفٍ يرتِّق أثلام القلب بحلو الكلام، ويلتقط صدى ترجيع استغاثة الأعماق كالرادار..
(4)
إن احتفالنا بالدكتور شاكر خصباك ليس مِنّةً ولا هِبةً، وليس توصيفاً فائضاً، ليس زيّاً ثقافياً طارئاً وعارضاً نتباهى به هنا أو هناك، وليس تطريزاً لعيوبنا، لنغطي به عثراتنا!! إنه تكريمٌ لجهدٍ إنسانيٍ دؤوب وصبور ومعطاء، امتد على أكثر من خمسين عاماً تتلظى بالمعاجم والأقلام والمراجع والسهر والأرق والكتابة، وإعداد الأجيال التي تقدر العلم وتشقى به ومن أجله وتسعى إليه..
لقد زادت أعمال الدكتور شاكر خصباك على الستين.. منها أكثر من (30) عملاً في وسائل التعبير المختلفة: قصة، رواية، مسرحيّة، مذكرات، نقد، جسَّدها جميعها للدفاع عن كرامة الإنسان العربيّ وقيمه المهدورة على أعتاب الاستبداد والظلم والطغيان والسجون والحرمان والجوع... مثلما جسّدها، شكلاً إبداعياً، ضد الحيادية واللامبالاة، وفقدان حس المواطنة وحس المواجهة، والاستسلام للمصير الظالم...
كما زادت أعماله العلمية على الثلاثين. متوناً استوجبت من الفتى الشيخ شاكر خصباك جهداً عظيماً وجرأة علمية كانت تقع في زمانها في (باب الندرة)، إن لم أقل أكثر من ذلك هل أُذكّر بكتابه (الكرد والمسألة الكردية) الصادر عام 1959. وهو أول عمل لباحث عربيّ عراقيّ نادى بضرورة حلّ المسألة الكردية حلاً ديمقراطياً سلمياً بعيداً عن القهر وبضرورة منح الأكراد حقهم في الحكم الذاتي. أم بترجماته للأئمة الجغرافيين في العالم: كرون، موجي،فريمان، سميث، لابلاش، جنسن، هاغيت وغيرهم.
(5)
إن شاكر خصباك ينتمي لتلك الحقول التي تنسج بسنابلها حكمة الحياة والانحياز لقيمها المضيئة. أما ما تسطره الرؤوس الفارغة فمثقلٌ بالفراغ، وسواء كنت مع الطريقة التي يكتب بها الدكتور شاكر خصباك أو مع سواها، فعليك أن تدرك تماماً، السبب الذي يقوده، بل الأسباب التي تقوده، إلى مجافاة الظلام والطغيان وغياب العدالة، بهذه الطريقة الإبداعية لا بسواها، السبب الذي يغويك، إذا كنت مهيئاً لذلك، للتعاطف مع شخوصه التي لا يروضها الخواء، ولا السلطة ذاتها، ولا غواياتها، لأنها شخوص تذهب إلى آخر الحكاية، لتُؤَصِّل ما يفضي بها إلى حياةٍ كريمةٍ وعادلةٍ، وإلا فالأسباب كافيةٌ (ومشروعةٌ)! لأن تتعذب، وتحزن، وتُقتل ربما، لأن الحياة تفعل فعلها وتقود إلى غير ما تشتهي!!

لا أريد أن أعيد إلى (الديكتاتور) ولا إلى (أوراق رئيس) ولا إلى (حكايات من بلدتنا). و(الأصدقاء الثلاثة) وغيرها من إبداعات شاكر خصباك، التي تنثر العذابات، مراثي محزنة، احتجاجاً على التدابير المتقنة في تخريب الإنسان -الإنسان العربي في هذه الحالة وسواها- ففي هذا الكتاب الكثير من الإشارات الواثقة إلى هذه المزايا.. بل أريد أن أشير إلى أن الأديب، في مجتمع لم يحقق شروط وجوده الإنساني، عليه أن يتقاسم وشخوصه مشقة الصدق إن ادعاه، وعذاب الحرية إذا سعى إليها. وما يفعله (القادرون) من الطغاة والمحتالين وأعداء الحرية والكرامة البشرية والمنافقين، والمنافقين، و(خصيان ما حول الأدب)، والمخبرين، والعَلَقات البشرية المنتشرة كالوباء.. كافٍ، أحياناً، لأن نثمن عالياً أدب الحياة وكتابات شاكر خصباك شهادة له وعليه.
(6)
الأدب الذي لا يثير الحرائق في حشائش الظلام
لا ينتمي لسلالة النور - سلالتنا
طارئٌ في محموله وفائضٌ في حامله..
(7)
شاكر خصباك
أيها الشيخ - الفتى
يا وريث سلالة الينابيع
وردٌ لك
ووردٌ لمن معك!
صنعاء اليمن
أواخر حزيران 2008




















الدكتور شاكر خصباك مبدعاً(*)
□ أ. د. عبد العزيز المقالح
يعتبر الأستاذ الدكتور شاكر خصباك واحداً من أبرز رواد القصة القصيرة في العراق، ومن أبرز رواد الدراسات النقدية الحديثة أيضاً. وقد شهد ومارس ولادة الأشكال الجديدة في القصة القصيرة والنقد الأدبي، وكانت له في أواخر الأربعينيات وفي الخمسينيات شهرته الواسعة وحضوره المتميز في هذا المجال قبل أن يغيّر مساره ويتجه إلى مجال الدراسات العلمية ويصبح واحداً من أعلام الكتابة والتدريس في علم الجغرافيا ومن الأساتذة العرب المعدودين في التأصيل والتأسيس لهذا العلم الذي كان للعرب القدامى فيه باع طويل قبل أن تنحسر جهودهم وتغرب شمس الحضارة عن سمائهم. لم يتخل الدكتور شاكر عن ممارسة الإبداع وكتابة القصة القصيرة والمسرح بين حين وآخر لكن جهده الأكبر أصبح للجامعة وللترجمة والتأليف، في النطاق العلمي الجغرافي الذي استأثر به. وقد ظل تلاميذه من الأدباء يتذكرون بإكبار وإعجاب دوره في عالم الإبداع الأدبي، ويشيرون إلى أنه أول من قام بتعريف القارئ العربي بالمعلم الأول لفن القصة، الروسي (أنطون تشيكوف) من خلال الكتاب الذي أصدره عنه في منتصف الخمسينات ومن خلال ترجمته لنماذج من قصصه القصيرة التي أشاعت نمطاً جديداً وحديثاً في كتابة القصة الواقعية الخالية من التكلف والمحتفظة في الوقت ذاته بقدر كبير من البراعة الفنية والدلالات الرمزية.
وفي الآونة الأخيرة، قامت إحدى دور النشر اليمنية مشكورة بإعادة طبع الأعمال الإبداعية الكاملة للدكتور شاكر خصباك وقد اشتملت على ستة أعمال، مما أعطى القارئ في هذه البلاد فرصة للاطلاع على هذا الجهد الأدبي المتميز في عالم القصة القصيرة والمسرح والدراسات الأدبية.
وأود القول بأن ما سأتناوله الآن هو من قبيل الاستعراض السريع والموجز لعملين من أعمال شاكر خصباك هما: (حكايات من بلدتنا)، ومسرحية (الدكتاتور).
ولكن يمكن الإشارة عامة إلى أن الإسهامات الأدبية لشاكر خصباك تقع في أسر الموقف القناعاتي، ولا أقول الأيدلوجية. وهذا الأسر يقع فيه عادة كثير من الكتاب والأدباء حتى يصير كالتعويذة كما يقول غالب هلسا، «عندما يظل الإنسان سجين فكرة واحدة لا يحيد عنها خاصة وأن هذه الفكرة هي فكرة جزئية».
فشاكر خصباك من خلال أعماله يلح على فكرة فرضت نفسها عليه هي علاقة الإنسان بواقعه المتنوع بين الاجتماعي والسياسي.. سواء عبر العرض للمشكلات في أقاصيصه وتداخلها مع الموروث الاجتماعي، أو عبر مسرحيته الدكتاتور التي أراد ابتداع أسلوب التداعي فيها، بل والتداخل معاً في إطار (مشترك) واحد هو السلطة وتبعاتها التي تنقل إلينا أشكال الاستبداد عبر شخوص تاريخية ولكنها هي.. هي صورة للاستبداد والتسلط. فيقفز عبر ومضات الإضاءة على خشبة المسرح وانسدال الستار من شخصية إلى أخرى من نوافذ التاريخ، فهو ينقلك من يوليوس قيصر إلى واقع جديد نعيشه في حياتنا الراهنة، ثم يعود إلى إغفاءة أخرى لينتقل تاريخياً إلى الاسكندر المقدوني.. كأنه يماثل ويقارن بين سلطة وسلطة وبين واقع وواقع ولكن القاسم المشترك واحد هو الكرسي.
ولنتأمل كيف بدأ ذلك بهذه المحاكمة (للكرسي) أي السلطة عبر الجوقة التي تمثل الرأي.. والحكمة.. فعبر الجو الأوبرالي تبدأ الجوقة الرجالية قائلة: ما أعظم سلطانك أيها الكرسي!
الجوقة النسائية: وما أشد غدرك!
الجوقة الرجالية: بك تناط آمال الشعب.
الجوقة النسائية: ومنك تنبثق مآسيه فتسكرهم السلطة.
الجوقة الرجالية: ويتربع فوقك الحاكمون فتسكرهم السلطة.
الجوقة النسائية: وتستحيل الرغبات الخيرة في قلوبهم.
الجوقة الرجالية: إلى شياطين مردة.
الجوقة الجماعية: وتصبح الحياة جهنماً أرضياً.
هذه المحاكمة لفكرة السلطة وأسلوبها التي عادة ما تبدأ بتبنيها مشاريع خيرة ثم ما تلبث تحت ضغوط الإغراء والرغبة في الهيمنة وطبيعة الأشخاص أن تنحرف المشروعات الخيرة لتصل إلى التسلط.
أراد لها الدكتور شاكر عبر شكل معين من الترداد والتجاوب للجوقة النسوية والجوقة الرجالية ليرسم على هامش الحدث الأساسي رأياً واضحاً من فكرة المسرحية، وإن كانت رؤى لا تغير من الحدث شيئاً وتكتفي فقط بالإشارة والتوضيح، ولكن أهميتها تكمن في أنها تبلور رأي الكاتب عن جملة من القضايا التي ناقشتها المسرحية.
أما (حكايات من بلدتنا) وهي الرواية التي صاغ من خلالها الأستاذ شاكر خصباك نمطاً غير مألوف بناها على شكل حكايات متوالية مترابطة بخيط رفيع هو (الهم) الذي يربط حياة (البلدة) والموروث الاجتماعي الذي ينسج علاقات أبناء البلدة.. ومواجهتهم للظلم الذي نزل عليهم فجأة وغيَّر حتى من طبائع أهاليها.. يقول غسان كنفاني في مقدمة هذه الرواية، بأنها -أي الرواية- مخالب تنبثق من المجهول، تمزق وتجذب وتقلب، وتحول، وتسحق وتنهش كأن القارئ قد خطف فجأة إلى عالم من الزلزال لا حدود له؟
ثم يقول غسان كنفاني: هذا ما يمكن أن يوصف به كتاب الدكتور شاكر خصباك (حكايات من بلدتنا): إنه قصة بلدة يعيش شبانها على انتفاخات الكبرياء والأوهام الأقرب إلى الأحلام.

وفي الحقيقة إن شاكر خصباك في هذه الرواية اعتمد على تكنيك (الهمس) كأسلوب إيحائي لمجريات حكايات الرواية، التي مثلت (العجائز) الهامسات.. والمناقلة الخبرية بين الناس الوسيلة التي بدت كقرون استشعار للتحدي الذي واجهته (بلدة خصباك) وربما البلدة الرمز..
وعلى العموم الرواية بحاجة إلى إثراء أكبر في النقد، وتناول مستفيض لشمولها على أكثر من معطى ودلالة. ودون شك سوف نعود لتناولها بشيء من التفصيل، ونطل عليها من مداخلها إلى مراميها البعيدة..
وفي ختام هذه التناولة السريعة.. أريد أن أشير إلى شيء هام هو أن العطاء والإبداع والأدب هو التواصل الذي لا تحده حدود، ولا تقف في وجهه الأسلاك الشائكة. إنه رحاب واحة فسيحة تلتقي فيها الأرواح، ودلالة ذلك هذا الإصدار المبدع لشاكر خصباك الذي أعاد طبعه في اليمن، ودخل إلى أذهان قرائه بترحاب وهذا ما يؤكد الانتماء الأصيل لأبناء العرب جميعاً لثقافتهم ولغتهم.


محنة الإبداع والظفر بمزاياها!
( عن هذا الكتاب وصانعيه )
د. عبد العزيز المقالح د. إبراهيم الجرادي
(1)
الأدباء يتشابهون، مصائرهم تختلف.
الأدباء يختلفون، مصائرهم تأتلف.
الأدباء يتشابهون في الدافع وأصول الدافع، في المشابهة وقرائن المشابهة. في الباعث الإنساني وفي أشكال تجلياته، في اليقين الخالق، وفي استثمار تأثيراته الجمالية، التي تتأتي -أولاً وقبل كل شيء- من تنظيم المشاعر البشرية، وبعثها نسيجاً جمالياً متعالياً على غاية الانتفاع بالطارئ، والعابر، والمستقرِّ على جزعه المتداول في ابتذاله الوضيع.
الأدباء يتشابهون في ارتياد آفاق النفس البشرية، واكتشاف مجاهلها، وفي النقاط المضيئة والمعتمة في خباياها، وهي تتأمل اضطرابها وثباتها، عزوفها وإقدامها، رقتها وجلافتها، أسباب حيرتها، وأسباب مصيرها العادل وغير العادل.
كلُّ ذلك في محمولات تخلق أشكال تعبيراتها الجمالية، التي تدلُّ عليها، وتستدلُّ بها، ليس من خلال أبنيتها اللفظية والدلالية فحسب، وليس من أنساق الظاهر والمضمر فيها، المتجلي والغائب، المواجه والموارب، بل من نفود المشاعر المنتجة للمثال العادل والسويِّ، الجميل والمدهش، المتعالي والنافذ، تلك الهِبات التي يسعى إليها كلُّ مبتكرٍ خالقٍ وعظيم، يقود خلائقه إلى مِيزَة الاختيار:
اختيار العذاب ومتعة العذاب! اختيار الجُلجلة ومتعة الصعود إلى الجلجلة، اختيار المحنة طريقاً للخلاص من المحنة، اختيار الجمال طريقاً قويماً لدحر القباحة، اختيار الجمال الأنثويِّ فتنةً لرجولةٍ ظافرة، وقبل هذا وذاك اختيار الحرية؛ الحرية! مصدر الغواية، وسبب العذاب البشري العظيم، وأسباب الظفر بمزاياه، وأسباب الانحياز الحاسم للإنسان، في اختيار مصيره المشروع الذي يتعرض لانتهاكات أخرجت بعض الإنسان من صفاته.
أليس هذا ما قاد أنطون تشيخوف عام 1890 إلى جزيرة ساخالين في رحلةٍ مضنيةٍ قادته بدورها إلى مصادر العذاب والفقر والانحلال والدعارة والمساجين والأمراض المزمنة، لتكون أساس كتابه: (جزيرة ساخالين 1895)، الذي فرض على الحكومة القيصرية آنذاك اتخاذ سلسلة تدابير، تتدارك بها -إذا استطاعت أن تتدارك- أسباب ما وصل إليه حال الواقع الروسي. وقد بدا أنطون تشيخوف راضياً كل الرضا عن رحلته، وعن كتابه المشبع بالاحتجاج على القهر والظلم الذي يمارس ضد الإنسان، وهو احتجاج على القائم السياسي في الوقت نفسه، الرحلة التي دامت واحداً وثمانين يوماً في ظروف بالغة السوء حيث الصقيع وحرائق الغابات والجدب ووحشة الطريق ومخاطر السفر.
لقد كان أنطون تشيخوف في ذلك إنساناً جيداً وطبيباً سيئاً، كما قيل عنه آنذاك، وإلا من يذهب بقدميه إلى بؤرة أمراض لا شفاء منها!!
«إن الطب لا يستطيع أن يعيرني بالخيانة: لقد وفيت حرمة العلم حقها، وقمت بالواجب نحو ما كان الكتّاب يسمونه تحذلقاً. وأنا مسرور لأن ركن تعليق الملابس في نثري، سوف يضم هذا المفصل الخشن».
أليس هذا، أيضاً، هو السبب الذي بكَّرَ في هجرة شاكر خصباك الفادحة، من بغداد المدينة التي يحب، ولم يعد إليها، ولن يعود إليها، مادامت المهانة البشرية صارت سلوكاً بشرياً منتشراً كالقتل، بأسباب تستدعي التفكير بالمحنة المستشرية، وبضرورة كفاح الأدب ضد جبهة اللامبالاة، والتخاذل، والحيادية، والقوة الظالمة، وإهدار الكرامة البشرية، والاستخفاف بالمصير البشري، وبعدالة الحياة وقيمة العيش.. أليست هي من قادت -قبل أكثر من خمسين عاماً- هذا الفتى اليافع العائد للتو من لندن، حاملاً إجازة الدكتوراه في الجغرافية البشرية من جامعتها، لينشغل بدءاً، بأنطون تشيخوف لا سواه، ويقدمه بالعربية، بهذا الشكل المميز لأول مرة.
اثنان يلتقيان.. اثنان مهمومان بالمصير البشري وأشكال تعبيراته ويسيران في الطريق ذاته.
الأول: أنطون تشيخوف، شاعر المشاعر البشرية، ومؤرشف انفعالاتها، الوصاف النزيه، مصور الكآبة والإحباط الروحي، مؤرخ التمرد والاستسلام، البسيط والجوهري، صاحب اللغة الغنائية المبحوحة، واللغة الضاجة النافرة، مولّد الرؤى الحزينة، والرؤى المرحة اللاذعة؛ خالق المأساة وعذوبة المأساة، خالق الملهاة ومرارة الملهاة. من في مآسيه الكبرى والصغرى، تقود الأسباب مصائر شخوصه إلى حيرتها وقلقها، وتمضي بها إلى عذاباتها المستفيضة بالوجدانيات الدافئة.. إلى فيض تساؤلاتها المشروعة عن:
الحياة
والحب
والعدل
والخيانة.
والثاني: شاكر خصباك، فتى عراقي، ساعٍ بقوة اليفاعة الجسورة للإيفاء بوعد الموهبة بجعل العار أشدَّ بجعله علنياً، وبفضح السوء البشري وأوليائه وخدمه وسادته مناصريه والساعين بجدٍ لا يضاهى إلى ملكوت مسلكيته الوضيعة!
كلُّ ذلك قاد قبل نصف قرن ويزيد إلى هذا الكتاب الهام الذي نقدمه من جديد للقراء العرب احتفاءً به وبركنيه:

أنطون تشيخوف الذي تحتفي البشرية بميلاده بعد المئة.
وشاكر خصباك الذي يقترب من حكمة الثمانين، بروح الفتى الذي لا يكلُّ ولا يملُّ بالدفاع عن الإنسان وحقه في الإبداع والحرية.
(2)
حينما صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب (في كانون الثاني - يناير 1954، عن المجلة ذائعة الصيت آنذاك الثقافة الجديدة) لم يكن اسم أنطون تشيخوف بهذا الذيوع والانتشار بين قُرَّاء العربية، فلم تكن قد ترجمت له في الواقع سوى قصص قصيرة نشر أغلبها على صفحات مجلة (الرواية) المصرية المحتجة، أما مسرحه فلم يكن قد ترجم بعد. لذلك كان الكتاب من الكتب المبكرة التي حاولت لفت نظر القارئ العربي إلى مكانة تشيخوف العالمية، في القصة والمسرحية. أما اليوم فقد بات تشيخوف كاتباً ذائع الصيت لدى قرّاء العربية، وأصبح من أحبِّ كتّاب القصة القصيرة إلى النفوس. كما أن الكثيرين من كتّاب القصة العرب يفخرون بتأثرهم بتشيخوف. وقد ترجمت جميع كتاباته المسرحية إلى العربية. كما ترجمت غالبية قصصه القصيرة عدا القليل منها، الذي تداركه مؤخراً الروائي والمترجم السوري خليل الرز، بترجمة ما لم يترجم إلى العربية بجزئين صدرا عن وزارة الثقافة السورية (أنطون تشيخوف. قصص مختارة. 2007).
ونكاد نزعم أنه على الرغم من الترجمات المستفيضة التي ظهرت في العربية لأدب تشيخوف فما زال هذا الكتاب الذي صدر قبل ما يزيد عن خمسين عاماً يكتسب أهميته، لا لسبب ريادته فحسب، بل لأسباب أخرى سنذكرها في حينها.
لقد حاول الكتاب أن يمدَّ القارئ العربي بالمعلومات الأساسية عن حياة تشيخوف وقدّم بالفعل صوراً مركزةً مشرقة، تغني القارئ عن تفصيلات كثيرة، كما ربط كتاباته الأدبية الشهيرة بمراحل حياته المختلفة وأحياناً بظروفه الخاصة. ولا نعرف أيَّ كتاب آخر صدر عنه في العربية قدّم هذه الصور.
كذلك هدف الكتاب إلى تقديم صورة صحيحة للقارئ العربي عن (القصة التشيخوفية). والواقع أن القصة التشيخوفية مرت بمراحل عديدة. فقد كانت في أوائل حياته الأدبية قصة فكهة ساخرة تفتقر بعض الشيء إلى العمق والتركيز، بل وقد تميل إلى الهزل أكثر من استهدافها للجدّ. ولكن منذ بداية الثمانينات من القرن التاسع عشر، حققت القصة التشيخوفية نوعيةً جديدةً على الصعيد الفكريِّ والفنيِّ واكتسبت صفات مميزة، وهي مرحلة تكاد تكون مغايرة تماماً للمرحلة السابقة. ويمكن القول إن مرحلة الثمانينات هذه وما تلاها هي التي أنتجت ما نسميه (القصة التشيخوفية) وهي القصة التي صارت معروفة السمات. ولقد اشتملت (القصة التشيخوفية) على نماذج متعددة، فهناك نموذج القصة القصيرة للغاية والشديدة التركيز من أمثال قصة (بعد المسرح) التي لا تكاد تتجاوز بضعة صفحات. وهناك النموذج المتوسط الطول، وهو نموذج القصة التشيخوفية بحق مثل قصة (المعلمة) (الساحرة) و(فولوديا) و(فتاة الكورس).. إلخ. وأمثال هذه القصص تنطوي على حسٍّ إنسانيٍّ مذهل. ثم هناك أخيراً نموذج القصة الطويلة التي تكاد تتحول إلى رواية قصيرة، وهذه القصص تحفل بتفاصيل عن حياة الشخوص، ذات دلالة عالية. وهي تجمع بين مزايا الرواية فيما تمتلكه من مساحة ممتدة، لعرض تفاصيل الحياة الخارجية والداخلية للشخوص، وفي الوقت نفسه تظل محتفظة بسمات القصة التشيخوفية القصيرة، بتميزها بالتركيز والتكثيف الشديدين. وقد أصاب تشيخوف في هذا النموذج من القصص نجاحاً منقطع النظير، وبلغ فيها قمة الإبداع ولعل أشهرها (قصة رجل مجهول) و(المبارزة) و(حياتي) و(عنبر رقم 7) و(النطاطة.. وغيرها.
ولقد هدف الكتاب، أيضاً، إلى إعطاء صورة للقارئ العربي عن مسرح تشيخوف بترجمة مسرحيتين ذات فصل واحد. وقد برع فيها تشيخوف براعة خاصة. ولم يكن تشيخوف قد اشتهر، إبّان صدور هذا الكتاب -أي لغاية منتصف خمسينات القرن الماضي- باعتباره كاتباً مسرحياً كبيراً بالنسبة للقارئ العربي. والواقع أنه، في الأساس، كان كاتباً مسرحياً مقلاً، فلم تتجاوز مسرحياته الطويلة، ذات الفصول المتعددة الخمس، إضافة إلى بضعة مسرحيات ذات فصل واحد. ولعل عدم شهرته، آنذاك، ككاتب مسرحيٍّ في العالم الغربي يعود إلى أنه كتب مسرحياته بأسلوبٍ جديدٍ لم يكن مألوفاً في المسرح الغربي، وربما أمكن أن نطلق على مسرحه ما لم يكن شائعاً آنذاك (الواقعية الجديدة) وكان الأسلوب السائد قبله هو أسلوب إبسن الكاتب النرويجي، الذي يعدُّ رائد (الواقعية الكلاسيكية)، والذي طغى على مسرح النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ولقد انطوى الأسلوب التشيخوفي على البساطة المتناهية في الأحداث، مع شحنات عاطفية شفيفة ومعقدة. الأمر الذي يلزم عرضها على المسرح جهداً فنياً صادقاً وعالياً، لذلك واجهت مسرحياته في تجسيدها صعوبة بالغة، في المسرح الغربي الذي لم يكن يألف هذا النوع من المسرحيات. ولم يتحقق لها النجاح إلى بعد أن اجتاحت المسرح الغربي، أواخر الأربعينات من القرن الماضي، تيارات الواقعية الجديدة على يد المسرحيين الأمريكيين أمثال تنسي وليامز، وآرثر ميلر، وأوجين أونيل، وهي التيارات التي اعتمدت الصدق الفني في التعبير عن الحياة وابتعدت عن التصنع والتهويل. ومنذ ذلك الحين ومسرحيات تشيخوف تلقى عناية متزايدة من قبل المهتمين بالمسرح في دول أوربا الغربية، وفي أمريكا، ولا يخلو موسمٌ مسرحيٌّ من عرض إحدى مسرحياته.
وإذا الدكتور شاكر خصباك قد ذكر في مقدمة الطبعة الأولى من الكتاب أن تشيخوف لم ينل ككاتب مسرحي، ما يستحقه من شهرةٍ في العالم الغربي، لكن مكانته ستعزز في هذا الميدان في السنوات المقبلة. وقد صدق هذا التنبؤ، فتشيخوف اليوم يعدُّ من أكبر كتاب المسرحية المعاصرين. إن قراءة تشيخوف ستظلُّ ممتعة ومجزية، مهما ظهرت من نماذج جديدة في القصة أو المسرح، ولكن يكون، أبداً، كاتباً عقيق الطراز، فالمواهب الخالدة لكل العصور ولكل الشعوب، وهذا هو شأن المبدعين العظام.
(3)
أما ثاني موضع الاحتفاء فهو الدكتور شاكر خصباك.
والدكتور شاكر خصباك واحدٌ من علماء العراق بل من علماء الأمة العربية البارزين في مجال علوم الجغرافيا، وهو في الوقت ذاته روائي وقاص وكاتب مسرحي تربو أعماله الأدبية المنشورة على الثلاثين عملاً، ومشكلته أو بالأصح مشكلتاه، أن شهرته العلمية طغت على شهرته الأدبية، وأنه احترف المعارضة لأنظمة الحكم في بلاده منذ نعومة أظفاره. وبسب ذلك دخل السجن وعرف المنفى الاختياري والاضطراري ولا يزال منذ أكثر من عشرين عاماً يعيش خارج بلاده ويبدو أنه لن يعود إليها قريباً. وفي الوطن العربي، وربما في بقية أنحاء العالم، يصعب الجمع بين شهرتين، ولذلك فإن عدداً كبيراً من العلماء ومن المبدعين هنا وهناك يتخلون عن إحدى الشهرتين، أو أن ظروف الواقع هي التي تفرض عليهم هذا التخلي كرهاً أو طوعاً.
ونحسب أن صديقنا الأستاذ الدكتور شاكر خصباك عالم الجغرافية المعروف والروائي والمسرحي والقاص يصلح نموذجاً لجناية الشهرة العلمية على المبدع، وعليه كمبدع كبير يكفي ما كتبه من أعمال أدبية أن يجعله في طليعة الأدباء المشاهير، ويبدو أن هذه الظاهرة، ظاهرة جناية الشهرة العلمية على العالم المبدع في الآداب والفنون لم تأخذ نصيبها من الجدل في وطننا العربي، بوصفه -أي الجدل- مدخلاً إلى إنصاف كثير من العلماء المبدعين والعكس صحيح.
بدأ الدكتور شاكر كتابة القصة القصيرة وهو طالب في الإعدادية ونشر مجموعته القصصية الأولى (صراع) وهو طالب في الثانوية، ومعنى ذلك أن علاقته بالأدب تسبق علاقته بالعلوم تلك التي بدأت مع دراسته الجامعية وحتى بعد أن اختار طريقه العلمي الشائك والمليء بالصعوبات سيما وقد اختار لندن مكاناً لدراسته العليا. فقد ظلَّ على صلة بالإبداع الأدبي وخاض في العراق وفي مصر وفي بريطانيا معارك ساخنة من أجل الأدب ولم يمنعه من ذلك التفرغ لإعداد أطروحاته العلمية التي وضعته فيما بعد في الطليعة من العلماء الجغرافيين واكتسبت كتبه مكانة علمية عالية في الجامعات وبين أساتذة هذا العلم الذي تطور وصار له رواده الذين يشار إليهم بالبنان.
للدكتور شاكر خصباك مؤلفاته وترجماته البالغة الأهمية في الفكر الجغرافي وأحدث كتاب (التحليل الموقعي في الجغرافية البشرية) ومؤلفه واحد من أشهر علماء الجغرافيا في العالم وهو (بيتر ها غيت) ويقع الكتاب في 596 صفحة من القطع الكبير واستخدم الدكتور شاكر في ترجمته لغةً علمية راقية كانت -فيما أرى- السبب في طغيان شهرته في هذا المجال على شهرته الأدبية، إذ صار اسمه في الوطن العربي مقروناً بأعمال الجغرافية التي تربو على العشرين كتاباً، وقليل من الأدباء العرب الذين يتذكرون شاكر خصباك مبدعاً في حين أن إصداراته الأدبية تربو على الثلاثين كتاباً موزعة بين الرواية والمسرح والقصة القصيرة.
ولعلَّ أهم ما قدمه الدكتور شاكر خصباك للقصة القصيرة العربية في بداية حياته الأدبية كتابه الرائد عن أنطون تشيخوف ساحر القصة العالمية وكاتبها بامتياز ملفتاً بذلك انتباه المبدعين العرب إلى أهمية وجود مستوى من القصة يجمع بين واقعية الموقف وجمالية فضاء السرد الفني. كان ذلك عام 1954م. في الكتاب الذي نقدم للقراء العرب لأسباب وجيهة ذكرناها هنا وهناك فضلاً عن مشاركة الدكتور شاكر في الإشراف الثقافي على مجلة (الثقافة الجديدة) وما بشرت به، يومئذ، من انفتاح على الفكر الجديد والآداب والفنون الحديثة، ومشاركته أيضاً في هيئة تحرير مجلة (الآداب) البيروتية التي قامت بدور بارز في تقدم القصة القصيرة وفي تطوير حركة الشعر العربي الحديث.
لقد نجح الدكتور شاكر خصباك في إثراء المكتبة العربية بإنتاجه العلمي وإنتاجه الأدبي، واللافت أن له في المجال الأخير أربع عشرة رواية، وله تسع مسرحيات. أما في مجال القصة القصيرة التي احتضنت بداياته الأدبية، فله ثلاث مجاميع، إلى جانب ما كتبه من ذكريات أدبية عن أدباء مشهورين عاصرهم خلال حياته.
ويتضح لنا من هذا أن الدكتور شاكر خصباك مبدع غزير الإنتاج متعدد المواهب، ومع ذلك يتم تجاهله بقسوة من نقاد الأدب المعروفين في العراق أولاً، وفي بقية الأقطار العربية ثانياً لا لسببٍ فني أو سياسي، وإنما لأن شهرته العلمية طغت على شهرته الأدبية شأنه في ذلك شأن كبار المبدعين في العالم الذين كانت لهم إنجازات في الرسم والموسيقى فتجاهلها النقد بعد أن اشتهرت أعمالهم العلمية أو الأدبية وألقت بظلالها على الجانب الآخر من حياتهم الذي أصبح خافياً في حين أنه لا يقل أهمية عن الجانب المعلوم الذي أضاءته الشهرة وتركزت حوله اهتمامات العلماء والباحثين. ولعل وقفتنا هذه تحفز نقاد الأدب والسرديات خاصة على الاقتراب من عالمه الأدبي ونتاجه السردي الغزير.
(4)
بإعادة نشر هذا الكتاب الرائد:
وردة لصانعيه.. نهتف، ونهتف: تحيةً للمبدع في محنته الظافرة.
تحية للأول وتحية للثاني.
ونتمنى أن نكون قد ساهمنا، ولو بالقليل القليل، بالتقدير والعرفان لمن يستحقون التقدير والعرفان.
صنعاء أوائل 2008.
د. عبد العزيز المقالح د. إبراهيم الجرادي
عضو مجمعي اللغة العربية في دمشق والقاهرة أستاذ الأدب المقارن والحديث
مشتشار رئيس الجمهورية اليمنية الثقافي في جامعة صنعاء وفروعها
رئيس مركز البحوث والدراسات اليمنية


الدكتور شاكر خصباك أديباً(*)
□ أ. د. عبد العزيز المقالح
في الوطن العربي، وربما في بقية أنحاء العالم، يصعب الجمع بين شهرتين، ولذلك فإن عدداً كبيراً من العلماء والمبدعين هنا وهناك يتخلون عن إحدى الشهرتين، أو أن ظروف الواقع هي التي تفرض عليهم هذا التخلي كرهاً لا طوعاً.
وأحسب أن صديقي الأستاذ الدكتور شاكر خصباك عالم الجغرافيا المعروف والروائي والمسرحي والقاص يصلح نموذجاً لجناية الشهرة على المبدع، وعليه بالذات كمبدع كبير يكفي ما كتبه من أعمال أدبية أن يجعله في طليعة الأدباء والمشاهير. ويبدو أن هذه الظاهرة، ظاهرة جناية الشهرة العلمية على العالم المبدع في الآداب والفنون، لم تأخذ نصيبها من الجدل في وطننا العربي، بوصفه -أي الجدل- مدخلاً إلى إنصاف كثير من العلماء المبدعين والعكس صحيح.
بدأ الدكتور شاكر كتابة القصة القصيرة وهو تلميذ في الإعدادية ونشر مجموعته القصصية الأولى (صراع) وهو تلميذ في الثانوية، ومعنى ذلك أن علاقته بالأدب تسبق علاقته بالعلوم تلك التي بدأت مع دراسته الجامعية. وحتى بعد أن اختار طريقه العلمي الشائك والمليء بالصعوبات سيما وقد اختار (لندن) مكاناً لدراسته للدكتوراه، فقد ظل على صلة بالإبداع الأدبي وخاض في العراق وفي مصر وفي بريطانيا معارك ساخنة من أجل الأدب. ولم يمنعه من ذلك التفرغ لإعداد أطروحاته العلمية للدكتوراه التي وضعته فيما بعد في الطليعة من العلماء الجغرافيين واكتسبت كتبه مكانةً علمية عالية في الجامعات وبين أساتذة هذا العلم الذي تطور وصار له رواده الذين يشار إليهم بالبنان.
للدكتور شاكر خصباك مؤلفاته وترجماته البالغة الأهمية في الفكر الجغرافي، وأحدث هذه الترجمات كتاب (التحليل الموقعي في الجغرافية البشرية) الصادر منذ أيام. ومؤلفه واحد من أشهر علماء الجغرافيا في العالم وهو (بيتر هاغيت) ويقع الكتاب في (596) صفحة من القطع الكبير. وقد استخدم الدكتور شاكر في ترجمته لغة علمية راقية كانت -فيما أرى- السبب في طغيان شهرته في هذا المجال على شهرته الأدبية. إذ صار اسمه في الوطن العربي مقروناً بأعماله الجغرافية التي تربو على العشرين كتاباً، وقليل هم الأدباء العرب الذين يتذكرون شاكر خصباك مبدعاً في حين أن إصداراته الأدبية تربو على الثلاثين كتاباً موزعة بين الرواية والمسرح والقصة القصيرة.
ولعل أهم ما قدمه الدكتور شاكر خصباك للقصة القصيرة العربية في بداية حياته الأدبية كتابه الرائد عن أنطون تشيخوف ساحر القصة العالمية وكاتبها بامتياز ملفتاً بذلك انتباه المبدعين العرب إلى أهمية وجود مستوى من القصة يجمع بين واقعية الموقف وجمالية فضاء السرد الفني. كان ذلك عام 1954، فضلاً عن مشاركة الدكتور شاكر في الإشراف الثقافي على مجلة (الثقافة الجديدة) العراقية وما بشرت به -يومئذ- من انفتاح على الفكر الجديد والآداب والفنون الحديثة. ومشاركته أيضاً في هيئة تحرير مجلة (الآداب) البيروتية التي قامت بدور بارز في تقدم القصة القصيرة وفي تطوير حركة الشعر العربي الحديث.
لقد نجح الدكتور شاكر خصباك في إثراء المكتبة العربية بإنتاجه العلمي وبإنتاجه الأدبي. واللافت أن له في المجال الأخير خمس عشرة رواية هي: نهاية إنسان يفكر، وعالم مليكة، وهيلة، والهوية، وموت نذير العدل، وقصة حب، والطائر، والسؤال، وخواطر فتاة عاقلة، والخاطئة، وحكايات من بلدتنا، وامرأة ضائعة، وأوراق رئيس، والفصول الأربعة، والأصدقاء الثلاثة.
وله واحد وعشرون مسرحية هي: الدكتاتور، والبهلوان، والرجل الذي فقد النطق، وبيت الزوجية، والقهقهة، والغرباء، واللص، والعنكبوت، والغائب، والشيء، والقضية، والجدار، وتجربة مسرحية، ودردشة، والتركة، وهي وهو، وفي انتظار جودو، وليل ليس له آخر، والمخذولون، والواعظ، وأين الحقيقة. أما في مجال القصة القصيرة التي احتضنت بداياته الأدبية، فله ثلاث مجاميع هي: صراع، وعهد جديد، وحياة قاسية. إلى جانب ما كتبه من ذكريات أدبية عن أدباء مشهورين عاصرهم خلال حياته اشتملها كتابه: (ذكريات أدبية). وهناك أيضاً كتاب (تساؤلات) وهو مجموعة من الخواطر الفلسفية القائمة على أسلوب الحوار مع النفس حول الحكمة ومشاهد من تاريخنا.
ويتضح لنا من هذا أن الدكتور شاكر خصباك مبدع غزير الإنتاج متعدد المواهب، ومع ذلك يتم تجاهله بقسوة من نقاد الأدب المعروفين في العراق أولاً وفي بقية الأقطار العربية ثانياً لا لسبب فني أو سياسي، وإنما لأن شهرته العلمية طغت على شهرته الأدبية شأنه في ذلك شأن كبار المبدعين في العالم الذين كانت لهم إنجازات في الرسم والموسيقى فتجاهلها النقد بعد أن اشتهرت أعمالهم العلمية أو الأدبية وألقت بظلالها على الجانب الآخر من حياتهم الذي أصبح خافياً في حين أنه لا يقل أهمية عن الجانب المعلوم الذي أضاءته الشهرة وتركزت حوله اهتمامات العلماء والباحثين. ولعل وقفتنا هذه تحفز نقاد الأدب والسرديات خاصة على الاقتراب من عالمه الأدبي الراقي ونتاجه السردي الغزير.


علاقتي بالأدب والمجلات الأدبية(*)
رسالة من د.شاكر خصباك إلى د.عبد العزيز المقالح
□ د. شاكر خصباك

أخي العزيز، الشاعر الكبير/ الدكتور عبد العزيز المقالح..
لقد سألتني أن أحدثك عن علاقتي بالمجلات الأدبية خصوصاً، والأدب عموماً. ولكن قبل أن أحدثك عن ذلك، أود أن أطرح سـؤالاً يتردد في أعماقي دوماً: هل الفن -بمختلف أشكاله- إحدى غرائز الإنسان، شأنه شأن غرائزه الطبيعية الأخرى؟ أم أنه من نزواته العارضة؟ وأنا شخصياً لم أصل إلى جواب لهذا السؤال. ولعل غيري قد توصل إلى الجواب. وأصارحك يا أخي الدكتور عبد العزيز بأنني كثيراً ما وجدتُني أصل إلى الاعتقاد بأن غريزة الإنسان الفنية لا تقل سطوة عن غرائزه الأخرى، بدليل أنها رافقته منذ تبلورت شخصيته وانفصل عن الحيوان وانتقل إلى مرحلة ما نسميه (مرحلة الإنسان العاقل) Homo Sapience، وهي المرحلة التي بلغ فيها حجم مخه درجة النضج (2500سم3). في هذه المرحلة هجر الإنسان السكنى في العراء، واتخذ الكهوف سكناً له، وعرف أول صورة من صور المجتمع البشري. وفي هذه المرحلة مارس الإنسان غريزته الفنية، وتمثلت ملامحها في الرسوم التي خلَّفها لنا على جدران الكهوف. ولا ريب في أنه مارس أيضاً صوراً أخرى من صور الفن، تتمثل بممارسته للموسيقى والغناء.
أما صور الفن الأخرى، كالشعر والحكاية، فقد مارسها في وقت لاحق، بعد أن تقدم في مدارج الرقي. ولدينا نصوص متفوقة من الشعر والحكاية والنصوص الدينية، يعود تاريخها إلى ما يتجاوز السبعة آلاف عام في الحضارتين المصرية والعراقية.
أستخلص من هذه المقدمة أن ممارسة الفن بأشكاله المختلفة ليست نزوة طارئة من نزوات الإنسان، يختص بها أناس معينون؛ بل هي غريزة من الغرائز التي لحقت به منذ تميز عن عالم الحيوان. وكل ما في الأمر أن طائفة من البشر طوروا تلك الغريزة لديهم ومارسوها بشكل من الأشكال (فنوناً تشكيلية أو موسيقى أو غناء أو أي لون من ألوان الكتابة الأدبية)، وآخرون أهملوها، لسبب أو لآخر، فضمرت لديهم وضعف دورها في حياتهم. وخلاصة القول: إن ممارسة الفن بأشكاله المختلفة ليست قدراً يختص به أناس معينون، بل رعاية لهذه الغريزة البشرية.
ويبدو لي يا أخي الدكتور عبد العزيز أنني كنت ممن وفَّرت له ظروف حياته رعاية هذه الغريزة وتطويرها. ففي وقت مبكر من حياتي (وبالتحديد منذ كنت في السادسة من عمري، وكنت في الصف الثاني الابتدائي) بدأتُ برعاية هذه الغريزة عن طريق قراءة المجلات المخصصة للأطفال، واستهواني ما تضمنته من حكايات ساذجة. وهكذا تعرفت على مجلة (سمير التلميذ) التي كانت تصدر في مصر. إذن بوسعي القول: إن هذه المجلة هي معلمي الأول في فن القصة، وهي التي عززت في نفسي حب الأدب. وفي وقت مبكر أيضاً أسلمتني مجلة (سمير التلميذ) إلى مجلة أخرى هي مجلة (الرواية) المصرية، التي كان يصدرها الأستاذ أحمد حسن الزيات، في الثلاثينيات من القرن الماضي، وكنتُ يومذاك قد بلغت الصف الخامس الابتدائي. ومعنى ذلك أنني قمت بقفزة نوعية من حياتي الثقافية؛ فلا مجال للمقارنة بين مجلة (سمير التلميذ) الخاصة بالأطفال وبين مجلة الرواية التي كانت تشتمل على قصص هي من عيون الأدب العالمي. وإنني لأعجب، وأنا أستذكر تلك المرحلة من حياتي الآن كيف تسنى لي القيام بتلك القفزة النوعية خلال سنوات قلائل. ومما يحيرني أيضاً أنني لا أتذكر أية مجلة وسطية بين هاتين المجلتين. ولابد لي أن أؤكد هنا أنني تتلمذت في الأدب القصصي على أقلام مجلة (الرواية)، وأن فضلها عليّ لا حدود له. وبهذه المناسبة أُحيِّي المرحوم أحمد حسن الزيّات على ما أسدى للأدب العربي من خدمة لم تقتصر على إصدار مجلة (الرواية) بل وإصدار زميلتها مجلة (الرسالة)، العظيمة أيضاً، التي تتلمذ على أيدي كتّابها أجيال عديدة من الكتّاب والمثقفين العرب.
وفي مرحلة الدراسة الإعدادية بدأت أتابع المجلات الثقافية والعربية عموماً، فضلاً عن الصحف اليومية التي كانت تخصص أبواباً للأدب. لكنني لا أستطيع القول إنني أدين لإحداها بفضل كبير عليَّ.
وأعود مرة أخرى إلى رصد مجلتين أدين لهما بالفضل أيضاً في مسيرتي الأدبية: إحداهما عراقية هي مجلة (الهاتف) النجفية، والأخرى لبنانية هي مجلة (الأديب).
فأما مجلة (الهاتف) فقد كان يصدرها المرحوم جعفر الخليلي، وهو كاتب قصصي. وقد أصدر بضعة كتب قصصية، لعل من أبرزها (في قرى الجنّ). وهو يصنف في العادة ضمن المرحلة المبكرة من تاريخ القصة العراقية التي مهّد كتّابها لمرحلة القصة العراقية الفنية. ومن أبرزهم: محمود أحمد السيد، وعبد المجيد لطفي، وعبد الوهاب الأمين، وعبد الحق فاضل. وعلى الرغم من أن مجلة (الهاتف) كانت مجلة أدبية عامة، لكنها كانت تعنى عناية خاصة بأدب القصة. ولا شك في أن لها فضلاً كبيراً على القصة العراقية، وقد كانت تُصدر دوماً أعداداً خاصة بالقصة ونقدها. فمن الطبيعي أن تجتذبني هذه المجلة. وقد صرتُ من كتّابها الدائمين، وذلك في مرحلة دراستي الإعدادية، وقد ربطتني فيما بعد بصاحبها صداقة لطيفة. وعلى صفحاتها تعرفت بصديقي الأستاذ عبد المجيد لطفي، الذي تفضل فكتب المقدمة لأول مجموعة قصصية صدرت لي في القاهرة عام 1948، هي مجموعة (صراع) والتي كانت قصصها قد كتبت بين أعوام 1945 و1948. وكان قد بعث إليَّ قبل ذلك رسالة يطري فيها على قصصي التي كانت تنشر تباعاً في المجلات العراقية والعربية. وقد ربطتني به صداقة متينة إلى آخر عمره المديد. وقد ظلّ يكاتبني باستمرار بعد مغادرتي وطني، العراق، وإقامتي في اليمن. وما زلت أحتفظ بالعديد من رسائله التي تُعدّ من أجمل الرسائل الأدبية.
وأما المجلة الثانية التي أدين لها بالفضل في هذه المرحلة المبكرة من حياتي الأدبية، فهي مجلة (الأديب) اللبنانية لصاحبها البير أديب. وأزعم أن هذه المجلة كانت تلي مجلة (الرسالة) المصرية في أهميتها في عالم الأدب يومذاك. ولعل أبرز خصائصها أنها كانت تشجع التيارات الحديثة في الأدب العربي، ولاسيما الشعر. لذلك كانت تعنى عناية خاصة بأدب الشباب. ولم يكن غريباً أن تشجع هذه المجلة التيارات الحديثة في الشعر، فقد كان صاحبها شاعراً مجدداً بكل ما تحويه هذه الكلمة من معنى. والحقيقة أن قصائد البير أديب بأجمعها كانت تخرج على النمط التقليدي للشعر العربي السائد يومذاك. وكان مجدداً بحق. ومن المؤسف أنه نادراً ما يُذكَر اليوم باعتباره من الرعيل الأول من مجددي الشعر العربي. وهذا إنكار مجحف بحقه، ولست أفهم سببه. ولا شك في أن روّاد شعرنا الحديث كانوا قد تتلمذوا بشكل أو بآخر على صفحات مجلته. وفي عقد الأربعينيات كانت مجلة (الأديب) هي الأولى بين المجلات الأدبية التي تفتح صفحاتها على مصراعيها للتيارات الحديثة للشعر والقصة. وقد ربطتني بألبير أديب يومذاك صداقة طيبة. وحينما مررت ببيروت في صيف عام 1951 عند عودتي من القاهرة إلى وطني إثر انتهاء دراستي الجامعية، دعاني إلى وليمة في بيته، حضرها بعض الأدباء اللبنانيين، وتسنى لي بذلك التعرف عليه شخصياً، فأسرني بدماثة خلقه.
في مرحلة دراستي الثانوية، وقبل سفري إلى القاهرة مبعوثاً من وزارة المعارف العراقية، انعقدت الصلة بيني وبين مجلات وصحف عديدة، في العراق ولبنان ومصر وسورية، وكان على رأسها مجلة (الرسالة) المصرية، ومجلة (الطريق) اللبنانية التي كان يصدرها الحزب الشيوعي اللبناني، ومجلة (شهرزاد) التي كان يصدرها الأديب المرموق رئيف خوري. وكنت أثناء ذلك أحرص على كتمان حقيقتي عن تلك المجلات، أي حقيقة كوني تلميذاً في المدرسة الثانوية. فكانت مجلة (الرسالة) مثلاً تقرن اسمي بلقب (الأستاذ). وكذلك بقية المجلات الأخرى العربية والعراقية. وكنت في تلك المرحلة المبكرة من حياتي غزير الإنتاج، ولم يكن يمرّ أسبوع دون أن تظهر لي مقالة أو قصة في إحدى الصحف أو المجلات العراقية. بل كثيراً ما كنت أُستكتَب من قبل أصحاب المجلات للإدلاء برأيي في القضايا الاجتماعية والأدبية. وكان نقدي للكتب القصصية يلقى ترحيباً من المجلات العربية كـ(الرسالة)، و(الأديب)، وكذلك من قبل المجلات والصحف العراقية. ولذلك كثيراً ما كان الكتّاب الكبار يبعثون إليّ بمؤلفاتهم، وعلى رأسهم: محمود تيمور، ونجيب محفوظ، وعبد الحميد جودة السحَّار، وغيرهم من الكتّاب العرب. وأزعم أنني نلت شهرة طيبة لدى القراء العرب يومذاك، وخصوصاً العراقيين، لكثرة ما كنت أنشر من مقالات. وأحسب أنني كنت أكثر شهرة كأديب منّي اليوم. وحينما أراجع الآن تلك الفترة من حياتي وأنا بين الخامسة عشرة والسابعة عشرة من عمري، أعجب كيف كنت أمتلك كل تلك الطاقة الفكرية. ولم يكن نشاطي يقتصر على الكتابة الأدبية فحسب، بل كنت منغمراً في قراءة واسعة النطاق. ولم تكن قراءتي تقتصر على الأدب، بل كنت أقرأ في كل الحقول: الاجتماعية، والاقتصادية، وحتى الفلسفية. ولم أكن في الوقت نفسه بمعزل عن السياسة، بل كنت مشاركاً فيها، خصوصاً وأن تلك الفترة من تاريخ العراق كانت تشهد تحولات سياسية مهمة. وكانت مدينتي (الحِلَّة) تحفل بالنشطاء السياسيين، لاسيما ممن كان يتبنى الاتجاهات اليسارية التي كنتُ ولا أزال محسوباً عليها. وأتذكر من طرائف تلك المرحلة أنني كنت قد غادرت العراق للدراسة في مصر في أواسط عام 1948. وفي تلك الأشهر قامت حركة سياسية، وبالذات في شهر أيلول/ سبتمبر، ضد رئيس الوزراء صالح جبر، مطالبة باستقالته، لممالأته للإنجليز، أُطلق عليها اسم (وثبة 48). وأغارت شرطة الأمن على منزلنا مطالبة بتسليمي لأنني كنت أتصدر المظاهرات وأخطب فيها ضد الحكومة. ولما أخبرهم أخي الكبير أنني لست موجوداً في العراق أصلاً، وأنني أدرس في مصر، رفضوا تصديقه واعتقلوه نيابة عني لكي أسلم نفسي. وبقي أخي المذكور معتقلاً بضعة أيام حتى استطاع أحد أخوالي من ذوي النفوذ في المدينة أن يقنعهم بأنني خارج العراق فعلاً. ومما يثير استغرابي الآن أيضاً هو أن كل ذلك الانشغال والنشاط الفكري لم يصرفني عن دروسي، فكنت من الطلبة الأوائل في صفي، بدليل أنني أُرسلت في بعثة إلى مصر. وهي حقيقة سجلها الدكتور علي جواد الطاهر في مقالته عن مجموعة (صراع).
وفي أثناء دراستي في مصر كانت صلتي بالمجلات الأدبية محدودة. واقتصرت على مجلتي (الرسالة) و(الأديب) إلى حدّ كبير. فلقد شغلت بالدراسة في حقل بعيد عن الأدب، هو الجغرافيا. وكنت عازماً على التفوق فيه لكي يتسنى لي بعد نيل الليسانس (B.A) مواصلة الدراسة فيه لنيل الدكتوراه. وقد دفعني ذلك إلى تخصيص جزء مهم من وقتي لهذا الغرض، حتى أن طموحاتي العلمية شجعتني على ترجمة كتاب مهم من الإنجليزية كان قد صدر في أواخر الأربعينيات، لأستاذة الاقتصاد في جامعة لندن دورين وارنر، وكان بعنوان (الأرض والفقر في الشرق الأوسط). وكان كتاباً رائعاً، يدرس بعمق مشكلة الملكية الزراعية في بلدان الشرق الأوسط. لكنني فوجئت وأنا أقوم بالاتصالات لطبعه، بأن اقتصادياً عراقياً قد سبقني إلى ترجمته هو الدكتور أحمد حسن السلمان، الذي كان يومذاك مديراً للبنك الصناعي، وأنه قد دفعه إلى المطبعة، فأسقط في يدي وألغيت ترتيبات الطبع. والحقيقة أن وقتي لم يكن يومذاك يتسع للكتابة في الأدب، عدا هوايتي الحقيقية، وهي القصص، والتي أثمرت في سنتي النهائية من الجامعة صدور مجموعتي القصصية الثانية (عهد جديد) في عام 1951، من قبل لجنة النشر للجامعيين. لكنني كنت أخصص جزءاً مهماً من وقتي للالتقاء بمعارفي وأصدقائي من الأدباء الذين كان عددهم كبيراً. وكان هؤلاء الأدباء يتوزعون على شكل مجموعات (أو شلل). وكنت القاسم المشترك بين تلك المجموعات. فقد كان هناك محمود تيمور الذي كنت ألتقيه أسبوعياً في قهوة الجمّال في شارع محمد فريد، على ما أتذكر. وكان هناك (شلة) نجيب محفوظ التي كانت تلتقي صباح كل جمعة في كازينو أوبرا في ميدان إبراهيم باشا، وكان أعضاء هذه المجموعة الرئيسيين: نجيب محفوظ، وعبد الحميد جودة السحّار، وعلي أحمد باكثير، ومحمد عبد الحليم عبد الله، ومحمد عفيفي، وعادل كامل. ولكن كان يتردد عليها أيضاً يوسف السباعي، وأحمد عباس صالح، ومحمود البدوي، والمخرج صلاح أبو سيف، والممثل يحيى شاهين.
وكان هناك (شلة) أحمد بهاء الدين، وتضم يوسف الشاروني، وفتحي غانم، وأحمد عباس صالح، ونعمان عاشور، وعبد الرحمن الشرقاوي. وكانت تجتمع في مقاه متفرقة.

وكانت هناك ما يمكن أن نسميها (شلة) أحمد حسن الزيّات، التي كانت تجتمع عصر كل اثنين في دار مجلة (الرسالة). وكانت تضم الزيّات، وأنور المعداوي، وعباس خضر، وأفراد آخرين يختلف عددهم ولا يحضرون باستمرار، منهم توفيق الحكيم، وساطع الحصري، وإبراهيم بيّومي مدكور. وكانت هناك (شلة) تسمى باسم (الأمناء) نسبة إلى الأستاذ أمين الخولي، وكانت تجتمع أسبوعياً في شقته بمصر الجديدة. وكان أغلب الحاضرين من تلامذة الخولي ومريديه، وكانوا يدعون إلى الأدب الواقعي الذي يعنى بهموم الشعب. وكان من جملة حضورها: الدكتور عبد الحميد يونس، وأنور المعداوي، وزكريا الحجاوي. لكنني كنت دائم الزيارة والاجتماع بأدباء آخرين أيضاً خارج هذه المجموعات، من أمثال: الدكتور عبد القادر القط، والدكتور علي الراعي، وكمال منصور، وآخرين لا أتذكر أسماءهم الآن. وكنت كذلك أزور الأدباء الكبار في بيوتهم أو مقاهيهم أو مكاتبهم. وممن تشرفت بزيارته الدكتور طه حسين، وكذلك توفيق الحكيم، والدكتور زكي مبارك. ولست أدري لماذا ظللت مصرّاً على عدم زيارة الأستاذ عباس محمود العقاد، مع أنه كان يدير ندوة أسبوعية في بيته؛ ولعلي لم أكن ميالاً لأدبه. كما أنني لم أجد رغبة في الالتقاء بإبراهيم عبد القادر المازني. وكانت هذه الزيارات والاجتماعات بكبار أدباء العرب يومذاك تستنفد الكثير من وقتي، لكنها كانت تملأني متعة، وتثري من ثقافتي في الأدب واطلاعي على مجريات الساحة الأدبية.
حينما عدت إلى بلدي بعد حصولي على الليسانس في الجغرافيا من جامعة القاهرة 1951، عانيت من ضيق شديد لحرماني من ذلك الجو الأدبي والثقافي الحافل، لاسيما وأنني أمضيت صيف عام 1951 في مدينتي الحلة بجوها الأدبي والاجتماعي الراكد، في انتظار تعييني في إحدى المدارس الإعدادية أو الثانوية. وكنت أراسل أثناء ذلك بعض أصدقائي الأدباء في القاهرة. وممن كنت أكاتبهم المرحوم أنور المعداوي الذي كان يطمئنني بأنني ما ألبث حتى أنغمر في حياتي التعليمية والتي سألقى فيها بلا شك متعة جديدة. وكنت أتوقع أن أُعيَّن في إحدى مدارس الحلة، باعتبارها مسقط رأسي؛ لكنني فوجئت بتعييني في إحدى مدارس بغداد، بل في واحدة من أفضل مدارسها الإعدادية، وهي متوسطة الغربية النموذجية للبنين. وانشغلت في حياتي التعليمية الجديدة انشغالاً عظيماً، لأنني وجدتها فرصة لتلقين التلاميذ الصغار الأفكار الإنسانية التي أدين بها. ولا أبالغ إن قلت إنني كنت من أكثر المدرسين قرباً لقلوب التلاميذ مما كان يعينني في توجيههم إلى المبادئ الإنسانية والوطنية. ومما زادني قناعة فيما بعد بتأثيري فيهم الحادثة التي وقعت لي بعد ما يزيد على عشرين عاماً. ففي صيف عام 1975 قمت بزيارة سياحية إلى الاتحاد السوفييتي، بصحبة زوجتي وابنتي. وفي إحدى الأمسيات قصدنا أحد المطاعم الكبرى في موسكو. وكانت موائده مزدحمة للغاية، عدا مائدة اشتملت على ثلاثة كراسي شاغرة. فاستأذنا من شاغلي المائدة في الجلوس معهم فأذنوا لنا بذلك. وكانوا من المواطنين العرب، وكانوا يستمتعون بجو مرح. ولكن ما إن اتخذنا مقاعدنا حتى سادهم جو من التحفظ، مما أشعرنا بالحرج. وبعد دقائق التفت إليّ أحدهم وسألني: هل تتذكرني يا دكتور شاكر؟
فقلت: وهل كان بيننا معرفة؟
فقال: طبعاً! قد كنت أستاذي في متوسطة الغربية.
فقلت: لا شك أنك كنت صبياً صغيراً، فكيف لي أن أتذكرك؟
فقال: لكننا لن ننساك أبداً يا دكتور شاكر لأنك علمتنا الوطنية.
فالتفت إليّ الآخر وقال لي ضاحكاً: فلا شك إذن أنك لا تتذكرني يا دكتور شاكر.
فسألته: وهل كنت زميله؟
فأجاب: لا، لكنك درّستني في متوسطة المنصور، وأنا أؤيد صديقي، فأنت الذي علّمنا الوطنية والأفكار العظيمة، وكنت أحبّ مدرس إلى نفوسنا.
وقال الثالث: أما أنا فلن أسألك إن كنت تتذكرني أم لا يا دكتور شاكر، فأنت قد درستني في متوسطة المنصور أيضاً. ونحن لن ننساك يا دكتور شاكر.. لن ننساك أبداً.
فقلت: لكنكم لم تعرّفوني بأنفسكم.
فقال أحدهم: أنا الملحق العسكري في موسكو، ويشرفني أن أكون في خدمتك طوال وجودك هنا.
وقال الثاني: وأنا آمر الفرقة الثالثة في البصرة، وقد حضرت إلى موسكو في مهمة عسكرية. وأنا أضع نفسي في خدمتكم وإن لم أكن أعرف موسكو كما يعرفها زميلاي.
وقال الثالث: أما أنا فالمسؤول الحزبي عن العراقيين في الاتحاد السوفييتي، وأنا أيضاً في خدمتكم يا دكتور شاكر، فلا يمكننا أن نردّ لك جميلك علينا.
فقلت لهم بلهجة بين الدعابة والسخرية، وبدون مجاملة حسب طريقتي المعتادة: فإذا كنتم تعتقدون بأنني علمتكم الوطنية والأفكار النبيلة فكيف تفسرون إذاً اعتقالي في اليوم الأول من ثورتكم عام 1963(*)؟
فأجاب أحدهم: لا شك أن أكبر أخطاء تلك الثورة اعتقال المفكرين والأساتذة من أمثالك من المشهود لهم بالوطنية. ولكنك تعلم يا دكتور شاكر أن الثورات الكبرى حبلى بالأخطاء.
انشغلت إذن في أثناء سنتي التدريسية الأولى بعملي الجديد الذي صرفني نوعاً ما عن ممارسة الأدب. لكنني ما لبثت أن عدت إليه ثانية وبقوة. فقد اتصل بي في أوائل عام 1952 الدكتور سهيل إدريس بعد أن نال الدكتوراه في الأدب من فرنسا وعاد إلى لبنان وأخبرني أنه بصدد إصدار مجلة أدبية سيطلق عليها اسم (الآداب) وأنه يدعوني للانضمام إلى هيئة التحرير، وأن أكون ممثلاً للمجلة في العراق. فرحبت بدعوته. وكنت على صلة وثيقة بسهيل إدريس من عام 1946 أو 1947، وكانت واسطة تعارفنا مجلة (الأديب) البيروتية، وقد كتبت فيها عن مجموعتيه القصصيتين: (أشواق)، و(كلهن نساء)، وقد سُرَّ كثيراً لتلك الكتابة، واتصلت بيننا المراسلة منذ ذلك الوقت. وحينما سافر للدراسة في باريس كتب إليّ أنه ينوي كتابة أطروحته عن القصة العربية، وسألني المعاونة في المادة المتعلقة بالقصة العراقية. ففعلت ما كان بوسعي.
وبعد أن أبلغته بموافقتي على الانضمام إلى أسرة التحرير، كرست الكثير من وقتي للاتصال بالأدباء العراقيين وحثهم على الكتابة في مجلة (الآداب). وقد صارت مجلة (الآداب) فيما بعد منبراً للاتجاهات الحديثة في الأدب العراقي، وخصوصاً الشعر. وحينما صدر العدد الأول من المجلة، كان من جملة مواده قصتي (الكسيح)، وكانت القصة الوحيدة التي استخدمت فيها اللهجة العامية في الحوار، فجعل الدكتور سهيل من ذلك قضية للحوار.
وفي مقتبل عام 1953 وجدتني منغمراً مرة أخرى في نشاط أدبي مشابه. فقد اتصل بي ذات يوم شخص لم أكن قد سمعت باسمه من قبل، هو المرحوم الدكتور صلاح خالص. وكان قد عاد من باريس قبل شهور قليلة وهو يحمل الدكتوراه في الأدب العربي. وأخبرني أنه وجماعة من الجامعيين عازمون على إصدار مجلة ثقافية، وقد وقع اختيارهم عليّ لأكون محررها الأدبي. فرحبت باقتراحه. وبدأت العمل معهم في التهيئة لإصدار المجلة. ونشطت في الاتصال بالأدباء العراقيين وحثهم للكتابة في المجلة. وكان من جملة من اتصلت بهم الشاعر عبد الوهاب البياتي، الذي كان زميلي في متوسطة المنصور، وتربطني به صداقة. وكان يومذاك ما يزال شاعراً مغموراً. وقد نشرت له المجلة في عددها الأول قصيدته الجميلة (الملجأ العشرون). وكانت تلك القصيدة الواسطة التي قدمته للشيوعيين الذين كانوا يبحثون عن بديل للشاعر بدر شاكر السياب الذي انفصل عنهم وأخذ يعاديهم ولا أدري لماذا! وكان السياب شاعراً مناضلاً بحق. وقد دخل السجن مراراً، وفُصل من الكلية. وكان قد حقق منذ أوائل الخمسينيات شهرة طاغية كشاعر يساري. وإنني لأحتفظ عنه بأجمل الذكريات. وأتذكر أنني سألت الجواهري يوماً: «من خليفتك يا أبا فرات؟» فأجابني في الحال: «بدر شاكر السياب». ولعل النقطة السوداء الوحيدة في تاريخ السياب أنه هجى عبد الكريم قاسم، زعيم ثورة 14 تموز، حين سمع بإعدامه على أيدي ثوار 14 رمضان، إثر محاكمة دامت أقل من نصف ساعة، مع أن عبد الكريم قاسم، كان قد أرسله للعلاج في لندن على حسابه الخاص.
أما عبد الوهاب البياتي فكان ذا اتجاه قومي يميني، وكان منعزلاً بطبيعته وقليل الأصدقاء. كما أنه لم يحب الإسهام في المناسبات الوطنية بأي شكل من الأشكال؛ لذلك كان نكرة أثناء وجوده في دار المعلمين العالية. لكنه تحَّول بقدرة قادر إلى شاعر محسوب على الشيوعيين، وراحوا يطبّلون له ويزمّرون. ولعل الضرر الوحيد الذي أصابه جرّاء إسهامه في مجلة (الثقافة الجديدة) أنه فُصل من وظيفته وسيق للخدمة العسكرية. ويقال إنه أخبر الشاعر ناظم حكمت، حينما التقاه في موسكو، أنه كان قد صعد على المشنقة لكنه أُنزل منها في آخر لحظة، ولا أدري مدى صحة هذا القول.
ولقد صدرت مجلة (الثقافة الجديدة) في أواخر عام 1953. وكنت أحسب أنها مجلة ثقافية مستقلة، ولكن ظهر لي فيما بعد أنها واجهة علنية للحزب الشيوعي. وربما كانت السلطة تعلم بذلك لكنها لم تكن تملك دليلاً على ذلك. لذلك ما إن صدر العدد الأول منها حتى عمدت إلى إغلاقها. لكن القائمين عليها لم يلقوا أسلحتهم، وراحوا يفتشون أن يفتشوا عن (امتياز) جديد، وحصلوا عليه فعلاً، وتولى هذه المرة محام مشهور اسمه عبد الرزاق الشيخلي (والغريب أنه كان محسوباً على التيار القومي) مهمة المدير المسؤول للمجلة، وكان في الوقت نفسه عضواً في المجلس النيابي. وصدر العدد الجديد باسم (الثقافة الحديثة). وما كاد يظهر حتى سارعت السلطة إلى سحب (الامتياز) ثانية. وفكر القائمون على المجلة بطريقة أخرى يحافظون بها على اسم المجلة. وكان (مجلس السلم العالمي) قد طلب يومذاك من محبي الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف الاحتفال بمرور خمسين عاماً على وفاته. فاقترحتُ عليهم أن أتولّى إخراج كتاب عن تشيخوف، عوضاً عن المجلة. فرحبوا بذلك. فانهمكت ليلاً ونهاراً في عملي، واستطعت أن أنجز الكتاب في موعده. وقد اشتمل على مختارات من قصصه ومسرحياته القصيرة، مع دراسة عن أدبه، وملخص عن أهم المحطات والأحداث في حياته. وصدر الكتاب في مطلع الشهر، أي في موعد صدور المجلة، تحت عنوان (منشورات الثقافة الجديدة)، وكان أول منشور تصدره لمجلة (الثقافة الجديدة). وفيما بعد أصدرت ديوان (أباريق مهشمة) لعبد الوهاب البياتي، ومجموعة عبد الملك نوري القصصية (نشيد الأرض) وكذلك المجموعة القصصية الأولى لفؤاد التكرلي، عام 1954. وبهذه المناسبة أذكر أن كتاب أنطوان تشيخوف كان يومذاك من أوائل الكتب التي تصدر باللغة العربية عن تشيخوف.
واستشاطت السلطة غضباً، وأخذت تعد العدة للانتقام من المساهمين في المجلة. وتسربت إليّ أخبار الحملة المتوقعة عن طريق أحد أقربائي المتنفذين، وحثَّني على ضرورة الإفلات منها. فخطر لي أن أسافر إلى إنجلترا وأواصل دراستي العليا في الجغرافيا، وهو ما كنت أخطط له. واستطعت بالفعل أن أفلت من قبضة السلطة قبل أن تصدر أوامر التوقيف. فسافرت إلى لندن في أواسط عام 1954، ومكثت فيها حتى 1958، حيث حصلت على الدكتوراه. وقد قامت ثورة 14 تموز قبل عودتي إلى البلاد بأشهر قليلة. ومن الجدير بالذكر أن أوامر التوقيف قد صدرت بالفعل بعد سفري بقليل، وشملت: الدكتور صلاح خالص، والدكتور صفاء الحافظ، والدكتور فيصل السامر، وإبراهيم كبَّة، وعبد الوهاب البياتي.ثم سيقوا فيما بعد إلى معسكر للجيش في (خان بني سعد)، القريبة من بغداد، للتدريب على الخدمة العسكرية. ومن الجدير بالذكر أن الحكومة التي شكلت بعد ثورة تموز، ضمت اسمين من الأسماء المذكورة، هما: إبراهيم كبَّة، وفيصل السامر.

هذه أبرز معالم صلاتي بالمجلات الأدبية يا أخي الدكتور عبد العزيز، والتي اضطرتني الظروف إلى التخفيف منها فيما بعد، بل إلى حد الانقطاع أحياناً. فبعد عام 1945 شغلت بدراسة الدكتوراه في الجغرافيا في إنجلترا بحيث صرت في شبه عزلة عن المجلات الأدبية العربية. وحينما عدت إلى الوطن في عام 1958 عُيِّنت مدرساً في جامعة بغداد. وقد اقتضت مني حياتي الجديدة الانصراف إلى مهمتي العلمية الجديدة التي كان لابد لي أن أخلص لها وأن أثبت جدارتي فيها. ثم عُزلت عن الجامعة في حركة البعث لعام 1963 واضطررت إلى الهجرة إلى المملكة العربية السعودية بدعوة من مدير جامعتها يومذاك، الدكتور عبد العزيز الخويطر. وقد أمضيت فيها أربع سنوات أستاذاً في جامعة الرياض (جامعة الملك سعود). وحينما عدة إلى الجامعة في عام 1968 شغلت مرة أخرى بعملي الأكاديمي. واضطررت إلى الانسحاب من العمل الأدبي والإسهام في المجلات الأدبية، لأن أفكاري لم تكن تتواءم وسلطة البعث الحاكمة. ثم أُحلت إلى التقاعد في عام 1980، أو على الأصح فُصلت من الجامعة، لأنني كنت يومذاك في أواخر الأربعينات من عمري ولست في سن التقاعد، فعشت في عزلة في بيتي. وقد رفضت السلطة الموافقة على طلبات الالتحاق التي وردتني من بعض الجامعات العربية. وأخيراً بعد خمس سنوات استجابت السلطة في عام 1985 لطلب جامعة صنعاء للالتحاق بها. ولا شك في أنني سعدت بالتواجد في اليمن في جامعة صنعاء؛ فقد أتيح لي العودة إلى الأدب من جديد والتعبير عن أفكاري بحرية. واستطعت بذلك أن أخرج أهم أعمالي الأدبية بما توفر لي من حرية في التعبير عن أفكاري. وقد أسرتني رعايتكم الكريمة يا أخي الدكتور عبد العزيز، كونكم مديراً للجامعة يومذاك، وهي رعاية لم أحظَ بها في بلدي مما جعلني أتمسك بالبقاء في اليمن وعدم التفكير في العمل في أي جامعة عربية أخرى. تحية عطرة لك لأنك أتحت لي الفرصة لمواصلة الكتابة الأدبية وألف شكر لك على رعايتك.
إشارة:
الدكتور شاكر خصباك واحد من أبرز علماء الجغرافيا في الوطن العربي، وهو صاحب إسهامات بارزة وعالية المستوى في الفنون السردية المختلفة من رواية وقصة قصيرة ومسرح، وله العديد من المؤلفات. يعمل منذ أعوام كثيرة أستاذاً في كلية الآداب بجامعة صنعاء. وقد صدرت مؤخراً مؤلفاته الإبداعية في دمشق في ثمانية مجلدات تحت عنوان (المؤلفات الإبداعية).
- ولد شاكر خصباك في مدينة الحلّة - العراق، عام 1930.
- نال شهادة الليسانس في الجغرافيا من جامعة القاهرة، عام 1951، وشهادة الدكتوراه في الجغرافيا من جامعة ريدنغ - بريطانيا، عام 1958.
درس في جامعات بغداد والرياض وصنعاء، ونال درجة (الأستاذية) عام 1974.
شاكر خصباك: التجاهل والعرفان
□ أ. د. حاتم الصكر
يمثل صدور المؤلفات الإبداعية لشاكر خصباك بثمانية مجلدات (دار نينوى، دمشق، 2007) تنبيهاً من المؤلف وهيئة أصدقائه في غربته إلى أن هذه الصفحات الغزيرة والمتنوعة (رواية، قصة، مسرحية، مقالات، ذكريات) إنما هي اعتراض على ما لقي خصباك من جناية (التجاهل والإهمال) ولقد وردّها الدكتور عبد العزيز المقالح المشرف على الإصدار في تقديمه إلى «طغيان أو جناية الشهرة العلمية لخصباك كمتخصص متعمق في الجغرافية وذي مؤلفات ومترجمات فيها فضلاً عن عمله في تدريسها منذ عقود». كما فسّر الشاعر إبراهيم الجرادي محرر الإصدار في الاستهلال ذلك الإهمال بالشهرة الجغرافية ومحدودية نشر نتاج خصباك في اليمن التي يقيم فيها منذ منتصف الثمانينيات.
وأياً ما تكن الأسباب فإن التجاهل والإهمال النقدي كما يتردد كلما تذكرنا شاكر خصباك أو قرأناه لا يمثل تقصيراً من جانب واحد هم النقاد السرديون في العراق والبلاد العربية، بل لأن تاريخ الكتابة السردية العراقية خاصة لم تنل ما ناله الشعر من القراءة التعاقبية والرصد الفني لموجات التحديث والتنوع الأسلوبي وتطور التقنيات والمعالجات والتحديث والتثاقف. وظلت أغلب الكتابات حول السرد تؤكد ملامح عامة من الجهد الروائي والقصصي الشحيح، قياساً إلى الشعر في فترة النهوض والتجديد.
ولعل هذا أبرز أسباب ما عرف بالإهمال والتجاهل لاسيما إزاء كتابات الخمسينيين العراقيين. وهو ما أفصح عنه الكاتب الراحل فؤاد التكرلي على لسان أحد شخصياته الروائية بالقول: إن جيلنا الخمسيني كان مغبوناً لأنه لم يعش كما يستحق ولم يحسن التعبير عن نفسه، مرجعاً السبب إلى الجيل نفسه، والذي أرى أن اصطفافه كان عشوائياً وبوصاية السياسي ومواقفه، كما أن فرص التعبير عن نفسه لم تكن كافية كما هو حال الشعراء في الفترة الريادية نفسها. ذلك ما يجب التنبيه إليه لا لتبرئة النقد العراقي والعربي من التجاهل والإهمال بل للبحث عن أسباب أخرى لغياب العرفان الذي تأخر عقوداً بصدد شاكر خصباك بالذات.
ثم إن خصباك غاب عن محيطه مبكراً: دراسته الجامعية والعليا في مصر وبريطانيا منذ نهاية الأربعينيات حتى نهاية الخمسينيات، وأسفاره للعمل خارج العراق في السبعينيات، ثم استقراره في صنعاء منذ قرابة ربع قرن..
ولكن مرمى النقد ليس مرمى الكرة في الهدف الذي تسجل فيه فقط بالاقتراب منه. فشاكر خصباك لم يتوقف عن الكتابة وهو خارج وطنه. لقد كتب القصص والمسرجيات والروايات والمقالات، ونبش في ذكرياته ومذكراته وأعاد نشر كتاباته المبكرة. ولكن التجاهل والإهمال كان في مجال رصد تلك الكتابات ورؤية المتغيرات الأسلوبية والمضمونية فيها.
والسؤال المطروح على ضمير النقد والنقاد العراقيين والعرب يحاول ردّ الظاهرة إلى حضور وغياب جثماني ومتعين وهو ما لا تؤيده وقائع أخرى في الكتابة السردية كحالة عبد الملك نوري الذي كان مقلاً ومنزوياً ومحدود التفاعل والظهور في الحياة الثقافية منذ وقت مبكر. وفي الشعر يمكن تذكر محمود البريكان كصامت شهير وبعيد عن الضوء والحضور خلال حياته. هنالك إذن عوامل من المسكوت عنه في حالة شاكر خصباك سيكون صدور أعماله الكاملة باسم المؤلفات الإبداعية مناسبة طيبة لتفحصها والبحث عن دلالاتها الفنية والنقدية.
لقد ارتبط جهد خصباك الروائي والقصصي بالواقعية التي هيمنت في الخمسينيات كوجه للصدام مع النظام الملكي والانتماء للجماهير الرافضة للملكية المرتبطة بروابط متنوعة بالاستعمار الذي تحرر العراق منه شكلياً بقيام دولته، وكذلك افتقاد العدل والمساواة والحرية. وقد تنبهت إليه الحركات السياسية وعبأت الثقافة لبلورته وتجسيده تزامناً مع التأثرات الواضحة بالمناهج الواقعية التي تؤكد ارتباط الأدب بالشعب والمجتمع، وتمثيل ذلك انعكاسياً ومرآتياً.. لقد تجددت المناهج الواقعية ذات الحاضنات اليسارية وتلونت بمؤثرات الجديد في العلوم الإنسانية وجماليات الفنون وتطورت حتى اتخذت في البنيوية التكوينية (طروحات غولدمان مثلاً المطورة عن واقعية لوكاتش وجمالياتها) شكلاً بنائياً يبحث عن تجسدات رؤية العالم نصياً. وجرى الحديث من بعد عن واقعية جديدة وواقعية شعرية وواقعية بلا ضفاف وواقعية سحرية.. ولكن احتدام الواقع العربي والعراقي خاصة بأعنف الأحداث (تقسيم فلسطين، انتفاضة 52 في العراق، وقيام الجمهورية في مصر، وأحداث 56 وانهيار الملكية في العراق والانفتاح على العالم والصراع الإيديولوجي الحاد) مما ترافق مع صعود جيل الخمسينيات ركّز الشكل الانعكاسي والفهم المرآتي للواقعية، وصار الاقتراب من الواقع تصويراً وتطابقاً لا تمثيلاً وترميزاً هو المحدد لفنية الفن والأدب.. وشاع النص المناسباتي المعبر عن لحظة عابرة أو مفردة سياسية يومية وظرفية لم تجد غالباً التعبير الفني العالي. وانفتح الباب بسبب ذلك لكتابات ضعيفة تزكيها النيات الحسنة. ذلك في اعتقادي عامل موضوعي من عوامل غبن جيل الخمسينيات فضلاً عن العامل الذاتي الذي يعترف به التكرلي بلسان شخصية روايته ويكرره في أكثر من لقاء إعلامي في أيامه الأخيرة قبل خسارتنا بفاجعة رحيله.
يعبّر شاكر خصباك عن عزلته وجيله في استهلال كتابه (تساؤلات-خواطر فلسفية) 1991، بالقول: «في هذا الزمن الطافح بالعسف والمرارة والإحباط، زمن السلاطين الطغاة، يجد المرء قدراً من العزاء في حواره مع نفسه حين يعز الحوار مع الآخرين».. ورغم السياق الذي يتحكم في هذا الاعتراف -عام واحد وتسعين: بدء حرب الخليج الثانية وتدمير بُنى العراق الأساسية، وحصار أرضه وسمائه ونفطه وغذائه- نستطيع تأمل الحسرة على افتقاد الحوار الذي يؤمن به خصباك ويسعى إليه في أعماله. وجوهر الفقد هم الآخرون -المصطلح الذي شاع في الخطاب الواقعي وحدا بسارتر إلى القول مستنكراً إن الآخرين هم الجحيم!- وهو قول سيردده السياب في إحدى مطولاته مضيفاً أنهم أحفاد أوديب الضرير! لكنهم أعزاء على قلب خصباك ووجدانه الأدبي، وهو لا يستطيع تصور العالم بدونهم رغم وصفه للعالم بأنه محكوم بزمن المرارة والعسف والطغيان. لذا استعاض عنهم بالحوار مع نفسه وسؤالها فلسفياً. كذلك اختار محاوراً متخيلاً هو باحث شاب يسأله عن سيرته وحياته في الأدب (ذكريات أدبية، 1996) مذكراً بطه حسين وحوار الفتى والشيخ عنده، مع ملاحظة إعجاب خصباك به كما صرح في ذكرياته متأسفاً لأنه لم يتعرف عليه بصورة كافية خلال إقامته للدراسة في القاهرة.. تلك الإقامة العجيبة التي مكنت شاباً مثله في الثامنة عشرة قادماً من مدينة الحلة العراقية الصغيرة أن يقيم علاقات وصداقات مع أعلام الثقافة المصرية كنجيب محفوظ ومحمود تيمور ومحمد عبد الحليم عبد الله ويجالس توفيق الحكيم وباكثير وغيرهما، ويراسل كبار الكتّاب، بل ينشر قصصه ومقالاته وهو طالب في المتوسطة لم يتعد الرابعة عشرة!
هذا الإصرار الكفاحي المتعدد الجوانب يزيدنا ألماً لإحساس خصباك بالغبن والإهمال. فهو ينشر ويؤلف مبكراً كما يكتب بغزارة عبر عمره الأدبي (خمس عشرة رواية، وثلاث مجاميع قصصية، وثمان عشرة مسرحية، وعدة كتب أدبية ومقالات وخواطر وذكريات) هذا دون حساب كتاباته المؤلفة في الجغرافية، قرابة عشرة كتب، والمترجمة ثلاثة عشر كتاباً.
وكفاحه مبدئي أيضاً.. فهو ضد الظلم والعسف، ومع الإنسان وحريته حيث يكون. وهذا ما تجسد في أعماله السردية ومقالاته ومواقفه المعروفة في الحياة التعليمية والثقافية في العراق وخارجه.. المؤلفات الإبداعية بآلاف الصفحات وبالمجلدات الثمانية تقول لنا ببلاغة إن حضور خصباك في الحياة الأدبية لم يخفه غياب أو إهمال أو تجاهل، لأن ذلك دون أشياء كثيرة لا تستطيع قوة ما أن تمنعها أو تحجبها وإن فعلت ذلك لزمن قصير.

شاكر خصباك والاتجاه الواقعي في الأدب:
رغم ما قدّمناه آنفاً لابد لنا من القول أن واقعية خصباك ليست من النوع الفوتوغرافي أو النقدي. إنها ممزوجة باستبطان أعماق شخصياته، يترك لها حرية الحوار الداخلي لنكتشف -نحن القراء- أعماقها الدفينة وآراءها بما تمرّ به من أحداث. صحيح أن اللغة تشتغل على أساس كونها عنصر توصيل فتقع في الفعل دون احتفاء بجماليتها التعبيرية. ولكن التنامي الهادئ في بناء العمل يعوّض عن ذلك بإيقاع جميل لعله بعض تأثرات خصباك بالمسرح. وهو الذي كتب عدداً وافراً من المسرحيات فنجح في توظيف الصراع لخدمة حبكات أعماله.
ويصف الشهيد الأديب غسان كنفاني رواية شاكر خصباك (حكايات من بلدتنا) بأنها علامة استفهام حادة مثل عقفة السكين، منوّهاً إلى أن الرواية لا تكتفي برصد الفعل وردّ الفعل بل بما سمّاه (عصر التوقيت الذي يعطي العمل الفني متعته واستجاباته).
وهذا ما يمكن أن يقال عن رواية (نهاية إنسان يفكر) التي أصدرها المؤلف عام 2001. فهذه الرواية تعمل على تأكيد هذا البعد الثالث في كتابة خصباك الروائية. فالجملة الأولى فيها تبدأ بحوار داخلي تعتمد على رصد الإحساس بعد أن انتهى الفعل السردي نفسه: «ما أنا فاعل بحياتي؟ أنا الآن أسبح في الفراغ، وقد غاب عني أنني سأُلقى يوماً في مثل هذا الفراغ».
والشخصية المتحدثة هنا هي قاض محال على التقاعد تنبثق أسئلته فجأة وهو يجد نفسه في وسط ذلك الفراغ، مستذكراً ما كانت عليه حياته. إن عنصر التوقيت هنا أي المزاوجة بين زمن السرد وزمن الأحداث (الحاضر والماضي) هو الذي يمنح الرواية إيقاعها المميز، ويبعد عنها الرتابة التي تسم أغلب الأحداث المستندة إلى الواقع بكثافته وثقله.


الرواية تتوتر كالقوس المشدود بين جملتي البداية والختام.. البداية أو الاستهلال بسؤال حكمت القاضي المتقاعد لنفسه: «ما أنا فاعل بحياتي» وتنتهي على صدى سؤاله في ختام الرواية «ماذا أرجو من الحياة بعد؟».
بين هذين السؤالين تنبعث الرواية لنناقش العاطفة والواجب، الريف والمدينة، الجد واللهو، الحقيقة والزيف، العدل الغائب والحق، من خلال عودة القاضي المتقاعد إلى ملفات القضايا التي حكم فيها، ليجد نفسه غير منصف في بعضها. فيدعو علناً إلى دراسة الواقع وعدم الاكتفاء بنصوص القانون ومرجعياته بشكل تقليدي مما يقابل من زملائه بالرفض والنقاش.
السياق الذي وضع فيه شاكر خصباك بطل روايته يسمح بأن يقابل القاضي بعض (ضحاياه) أو الذين حكم عليهم ويتفهم ظروف جرائمهم، ليجد أن تلك الظروف هي المسؤولة عن أفعالهم، فضلاً عن أن بعضها مرتبط بتضحية نبيلة. فيندم على اعتقاداته السابقة، لأنه كان واهماً حين ظن أن القضاء العادل لا يلتقي مع العاطفة أو (الاستسلام لها).
أما السجن مكان العقاب الذي كان يرسل إليه مخالفي القانون، فقد اكتشف أنه ليس إلا (الجحيم) نفسه، وأن ما كان يحسبه عدالة تتحقق عبر الأحكام التي يصدرها، ليست إلا مصادرة للعدالة الاجتماعية الغائبة أصلاً والتي يلوم زملاءه القضاة لأنهم لا يلاحظونها.
وهكذا هم أبطال شاكر خصباك: مثقفون وذوو أساسية المجتمع، لكنهم معترضون غاضبون باحثون دائماً عن عدل مفقود وحق ضائع وسعادة غائبة.

أما رواية (الفصول الأربعة) وهي الرواية التي أصدرها الكاتب في عام 2004 فتتيح السبل التي تنافح بها الواقعية عن نفسها بعد انحسار مدّها تحت وطأة موجات التحديث في الكتابة السردية ودخول الرواية خاصة مراحل تجريبية مهمة، لم تعد فيها المعالجات (الواقعية) القائمة على ثيمات الانعكاس وتصوير الواقع وانقسامات المجتمع وصراع طبقاته ونزعاته ومصالحه إلا إرثاً تحتفظ به المكتبة الروائية العربية كجزء من سيرورتها التاريخية.
فالقاص والروائي شاكر خصباك يصطف إلى جانب أسماء ذات فاعلية في السرد العربي -والعراقي خاصة- بالاحتكام إلى الجانب التاريخي على الأقل، فهو يحضر ضمن جيل عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وسواهم من كتّاب القصة والرواية الذين يسجلون عبر إرثهم السردي تطور الرؤية والمعالجة الموضوعاتية، وتخفيف ثقل (الواقع) كمرجع أساسي في المنظور الروائي التقليدي. بل يمثل بعضهم -التكرلي خاصة- ما يمكن تسميته بحيوية الكتابة الروائية ودخولها في مناطق شعورية تلامس أعماق الشخصيات والأزمنة والأمكنة التي يقدَّر لهم روائياً العيش فيها، حتى ليصبح (الواقع) مجرد مناسبة بمفرداته وتفاصيله وإيديولوجياته السائدة لرصد ذبذبات النفس البشرية وصراعاتها وأزماتها الداخلية، تخلصاً من فهم آليّ أو انعكاسي يتباهى بنقل الواقع -كما يتصوره أو يتوهمه الكاتب في العادة- حتى لتعود الكتابة السردية مجرد تمثيل تطابقي متناظر مع الخارج وفق تلك النظرة التي وصلت على أيدي بعض دعاتها ومنظّريها إلى درجة التطابق، لا مجرد التمثيل أو التشابه مع ذلك الواقع المفترض. فنحن نعلم أن تكريس الواقع في منظور اجتماعي واحد هو جزء من المنظور الإيديولوجي المتأثر بإنجازات الواقعية الاشتراكية وممهداتها قبل حصول التحولات الكبرى في العالم بعد انهيار النظم الشيوعية وزوال هيمنة تلك النظرة الواقعية على الكتابة الأدبية عامة والروائية خاصة..
شاكر خصباك يحس بهذا المأزق الذي تعيشه الواقعية التي تنتمي إليها أغلب كتاباته السردية المتميزة بقصرها وتركيزها وميلها إلى تحليل الشخصيات ولكن بعد اندراجهم ضمن أحداث يقدر لهم أن يعيشوها فيكون حدوثها مناسبة لوجودهم وليس العكس.. أعني أن الأحداث وأفعال السرد في جلّ أعمال خصباك هي التي تؤطر -بل تصنع- طبائع الشخصيات وقيمهم السلوكية والنفسية وهي التي تحدد وجهات النظر والرؤى ومصائر السرد كله.. وهذا ينطبق على أعماله المسرحية أيضاً، لكنه يبرز في رواياته بحدّة ربما بسبب محدودية شخصياتها ووضوح أفعال السرد فيها وانشطار عالمها على وفق رؤية الخير والشر والخطأ والصواب وتنويعاتها الممكنة في ذلك الإطار. هكذا فكّر خصباك في (إنعاش) رؤاه الواقعية عبر الترميز هذه المرة، ومطابقة (الطبيعة) بفصولها وتقلباتها ورمزية دلالاتها المتباينة، فأسمى روايته (الفصول الأربعة) التي اعتبرناها عبر قراءتنا هنا فصول الحب الأربعة احتكاماً إلى حبكتها الأساسية القائمة على حب (قيس) الفتى الفقير للبنت الغنية المدللة (ليلى) وعيشهما (ربيع) حبهما، ثم دخولهما في خريف شاحب تتفاقم فيه خلافاتهما وتباين وجهات نظرهما حتى تنتهي قصة حبهما وزواجهما بالفراق بعد إصرار كل منهما على موقعه الذي يعبر بالضرورة عن انتمائه الاجتماعي أمر طبقته، حيث تخيّر (ليلى) زوجها الحبيب (قيس) بالهجرة أو الانفصال، بينما يرفض (قيس) -استجابة لحاضنته الاجتماعية وطبقته التي ينتمي إليها والمفترض رؤيوياً أنها ألصق بالوطن وترابه وناسه- مغادرة الوطن، ويرفض فكرة الهجرة بعد أن تراكمت تبايناته مع ليلى وتصرفاتها اليومية التي أراد الكاتب أن يختزل بها انتماءها الطبقي، كاستخدامها السيارة وسائق واستخدامها لامرأة (خادمة) تعمل في البيت، يضاف إلى ذلك تكفل أهل ليلى بدفع تلك النفقات...

ستقودنا تقنية الرواية أيضاً إلى ملاحظة ورصد تلك المحاولة الترميزية التي يبذلها خصباك لما أسميته (إنعاش) الواقع المصور في الرواية.. فالعنوان (الفصول الأربعة) يوهم أولاً بفصول السنة المتتابعة طبيعياً -وهنا يظهر أثر كتابات تشيخوف خاصة وهو نموذج خصباك الأول عالمياً ومثله القصصي -الأعلى وقد ألف كتاباً عنه في مطلع الخمسينيات- حيث تتداعى عبر العنوان سنن الطبيعة التي تسير على هواها كما يحصل في العادة، لكن الكاتب يحيل إليها تبدلات الطبائع الذاتية للشخصيات ثم يطابق بينها وبين تحولات السرد نفسه ومصير الحبكة الرئيسية..
لكن القارئ سيجد أن خصباك قد قسّم الرواية ذاتها -رغم قصرها- إلى فصول أربعة أعطاها أسماءً تطابق مدلولات فصول السنة وطقسها الطبيعي.. فالفصل الأول معنون بـ(الطفولة والصبا)، والثاني (اللقاء)، والثالث (أحلام مشتركة)، والرابع (الأفول)، وذلك التقسيم يؤطر الرواية زمنياً. فهو يتابع ولادة قيس في العام نفسه الذي ولدت فيه ليلى، ولكن في بيئتين أو حاضنتين مختلفتين اجتماعياً رغم وحدة المكان (المدينة) التي شهدت ولادتهما.. وتقنية كل فصل تتطلب انتباهاً من القارئ إذ تتقدم الفصل أسطر قليلة ترشده إلى خلاصة ما سيحدث أو ما حدث فعلاً على مستوى السرد ثم يجد اسم (ليلى) عنواناً جانبياً يصور الكاتب تحته ولادة ليلى لأبوين ميسورين ومثقفين حتى أن الأب يسمي المولودة (ليلى) «باسم أعظم معشوقة لدى أجدادنا العرب» كما يحدث زوجته التي تزيد بالتوقع أن مولودتها ستكون أجمل من ليلى العامرية التي جُنّ بها قيس.. وحين تنشأ ليلى وتكبر ستكون مثالاً للدلال الاجتماعي المعبّر لا عن عاطفة الأبوين بقدر تعبيره عن (الطبقة) ومنظورها للتربية والتملك والرفاهية، وهو ما سيكون سبباً ممهداً لانشطار حياة حبيبها قيس الذي سيولد في كنف أسرة مثقلة بالأفراد وليس لديها سوى حليب الأم غذاء له.. ولكن حنين الكاتب إلى الترميز ومحاولة الإنعاش التي تحدثنا عنها تجعله يحمل اسم قيس العاشق المأثور عند العرب ليناظر به وجود ليلى وليسير السرد بخط متوازٍ يحرص خصباك على انضباطه وتصعيده حتى لحظة التصادم أو الأفول.. ويعكس أيضاً وعي الكاتب بالتسميات في عمله.. سيكون هناك فصل للقاء ليلى وقيس في الجامعة ثم حلمهما المشترك بالزواج وتخطي صعاب الطبقة وفوارقها ولكن بإنذار الفشل الذي يهيئنا له الكاتب المؤمن باستقرار الطبائع ووجود الأفراد كرموز لطبقاتهم مهما علت بهم خيالات الحلم أو الحب أو الاختيار. فالفشل -أو الأفول- سيكون مصير زواجهما لأنهما لم يقدرا أو أن الكاتب أصلاً لم يدع لهما فرصة في إطار السرد نفسه لتجاوز الطبقة وأعرافها وتقاليدها.. فظلت ليلى تعيد إنتاج قيم أسرتها ودلالها ورفاهيتها فيما ينأى عنها قيس بعيداً حتى يعتبر في مناجاته الأخيرة -في آخر صفحات الرواية- أن اختياره الهجرة مع ليلى (خيانة لأهله وهجره لهم) وهذا ما لا يفعله بالتأكيد.. لكن الرواية ستأخذنا إلى مسار آخر لهمّ يتأكد في المعالجة السردية، وهو مصير الحب الكبير الذي يتساءل عنه قيس في النهاية: «أيمكن أن ينتهي ما بيني وبين ليلى بهذه البساطة؟ أين ولّى إذن حبنا العظيم؟ كيف يمكن أن يعجز هذا الحب العظيم عن التضحية برغبات ثانوية من رغائب الحياة؟».
أسئلة كهذه لا أشك أن القارئ سيوجهها للكاتب نفسه لأنه قاد تجربة الحب إلى مصيره ذاك لإيمانه بقوة الشروط المحايثة واللازمة في الفرد كمعبّر وناطق عن طبقته لا كشخصية تختار وتغامر فتصبح التضحية بمزايا الطبقة ممكنة ولازمة أيضاً..
في ظني أن الترميز رغم شاعريته لم ينقذ الرواية من سمتها التطابقية مع رؤية الواقع ومفرداته ودور الشخص فيه.. لكن لمسات خصباك الشاعرية جعلت جريان السرد عذباً ومشوقاً وتصادم الطبائع والمصائر مغرياً بالقراءة، بل يعيد إلى الذاكرة ذلك الجريان السردي الرائق في تلك الروايات الأولى التي لا تقلق شعور القارئ ولا تربكه أو تحيره..
شاكر خصباك بروايته الثانية عشرة هذه ومجاميعه القصصية ومسرحياته العديدة يقدم أمثولة على رؤية ثابتة تجد في الواقع رغم التباساته وأزماته وتشققاته وتصدعاته مرجعية ممكنة، بل وحيدة في عمل روائي ينتعش أحياناً بالنزعة الطبيعية أو الشاعرية... ويمهر في عرض الأفكار عبر حوارات ذكية ومختزلة تقوم بكشف الطبائع وتطوير خط السرد مما يدل على تراكم الخبرة والحرفة الروائية التي عرف بها خصباك الذي أحسب شخصياً أن تجربته ضمن التيار الواقعي لم تدرس بما تستحقه..


لمحات نفسية في أدب الدكتور شاكر خصباك
□ أ. د. عبد علي الجسماني
(1)
إن جواذب الكلمة الإبداعية الناضحة بالمعنى الساكن في بنيتها، لهي بامتياز تستحق الاحتفاء بها. والاحتفاء بالكلمة الإبداعية الشفّافة إنما هو ارتقاء بصفائها، وهو -فضلاً عن ذلك- احتفال بمن أبدعها. فالكلمة الطيبة الجـذّابة لها من ذات المبدع مقـوِّماتها ومنها -مثلاً لا حصراً- صفاء النفس، وتمام الرأي، ووجدة الموضوع الذي هو مجال الإبداع، ومرتكز ذلك كله: الموهبة، والميل المقترن بالرغبة والاستعداد. وهذه دونما شك «مرضعات الإبداع»( )، ومفضيات إلى بلوغ الغاية المبتغاة.
حضارة الإنسان تراكمية في بنيتها، نفسية واجتماعية بطبيعتها، وإنها -بعد- فكرية في نشأتها. ذلك أن «...العلم ثمرة البحث، والثقافة ثمرة العلم، والمعرفة ثمرة للثقافة، وهذه المعرفة تنتهي إلى الحضارة الفكرية والمادية»( ). وهذه لابد لها من الجدة والأصالة التي تعكس بحق إشراقات النفس وحضور الإلهام لدى المبدع.

إن الإبداع هوية المبدع، وإن كلّ مبدع إنما يُعرف بما أبدع في المجال الذي أصبح سمة لما أخذ فيه نفسه ولما وطّن عليه ذاته في رحاب العطاء الفكري المتميز. وفي حلبة هذا الميدان الفكري بشقيه: العلمي والأدبي، بل الأدبي منه والعلمي، استمكنت بجدارة شهرة الدكتور شاكر خصباك. فهو قد رصّن مكانةً له في حقلين هما الأدب والعلم، وهذا التوليف بين قطبين من المعرفة، وبهذه الغزارة، لا يؤاتي إلا القلائل من المبدعين: «في الوطن العربي -وربما في بقية أنحاء العالم- يصعب الجمع بين شهرتين. ولذلك فإن عدداً كبيراً من العلماء والمبدعين هنا وهناك يتخلون عن إحدى الشهرتين، أو أن ظروف الواقع هي التي تفرض عليهم هذا التخلّي كرهاً لا طوعاً»( ). بهذا الرأي الصائب استهلّ الشاعر الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح تقديمه لمجموعة الدكتور شاكر خصباك الإبداعية المؤلفة من ثمانية مجلدات.
علاقة الدكتور شاكر خصباك بالأدب سبقت علاقته بالعلم -علم الجغرافيا- ورغم هذا فإن شهرته العلمية كعالم جغرافي طغت على شهرته الأدبية، بيد أن إصراره ودأبه في مجال الأدب أحلاه رفعة أدبية إبداعية أصبحت الآن جدّ مرموقة بلا منازع، وجدّ واسعة بلا جدال، ويتجلى ذلك جلياً في: «...أن الدكتور شاكر مبدع غزير الإنتاج متعدد المواهب. ومع ذلك يتم تجاهله بقسوة من نقاد الأدب المعروفين في العراق أولاً وفي بقية الأقطار العربية ثانياً لا لسبب فني أو سياسي، وإنما لأن شهرته العلمية طغت على شهرته الأدبية، شأنه في ذلك شأن كبار المبدعين في العالم الذين كانت لهم إنجازات في الرسم والموسيقى فتجاهلها النقد بعد أن اشتهرت أعمالهم العلمية أو الأدبية وألقت بظلالها على الجانب الآخر من حياتهم الذي أصبح خافياً في حين أنه لا يقل أهمية عن الجانب المعلوم الذي أضاءته الشهرة وتركّزت حوله اهتمامات العلماء والباحثين. ولعل وقفتنا هذه تحفز نقاد الأدب والسرديات خاصة على الاقتراب من عالمه الأدبي ونتاجه السردي الغزير»( ).
ما كتبه أستاذنا الدكتور المقالح عن الدكتور شاكر خصباك تعبير عن نبض وجدان وإنصاف شاعر شهير لأديب كبير سها عنه وعن أدبه النقاد لأسباب كنهها غير محسوم. فالدكتور شاكر خصباك جغرافي واسع السمعة، رفيع الشهرة على امتداد البلاد العربية، وكذلك فهو معروف في الغرب أيضاً كجغرافي ضليع. ولكن أدركته حرفة الأدب منذ يفاعته فأصبح وله ضلاعته في الأدب؛ فله أعماله الغزيرة في القصة القصيرة وفي المطولات من القصص، والمسرحيات التي تعكس مختلف شؤون الحياة، وله باع متمرس في عالم الروايات، وله من حياته في حياته الأدبية ذكريات؛ كل ذلك ينضاف إليه كتابات مبكرة يافعة استطرها منذ بواكير صباه، وأحسبها هي التي جعلت كبار الكتاب آنذاك يراسلونه على صفحات أمهات المجلات الأدبية المعروفة يومذاك بعد أن قرؤوا له ما كان ينشر بثقة العارف ماذا يريد، والمطمئن إلى ما يقول. وللدكتور شاكر تساؤلات فلسفية، وكتابات مبصرة( ).

(2)
أدب الدكتور شاكر خصباك المتنوع ينضح بالحيوية، وينعم بالنزعة الإنسانية، وكتاباته تتسم بخصائص دقة رسم الشخصيات التي يتحدث عنها، بل إنه ليكاد ينطق بلسانها مع تفاديه أسباب الفضول الذي لو أقحمه في أدبياته لأذهب جوهر إنسانيته التي أُفعمت بها جميع قصصه ورواياته ومسرحياته، وهذه لا شك براعة لا تتأتى بسهولة إلا للموهوبين من كتاب الأدب، وإن الجانب النفسي والجانب الاجتماعي لهو من بين الخصائص الكثيرة في أدب الأديب شاكر خصباك.
الأديب المتمكن إنما هو فنّان متمرس يكرّس أدبه من أجل التعبير الجميل «عن حقيقة شخصيته في صلتها مع عالمه... ونحن معنيون بطبيعة الموهبة الفنية المتطورة وتنظيمها النفسي»( )، ومن يقرأ في أدب شاكر خصباك يجد تطبيقاً حياً لهذا الرأي السيكولوجي المعبر بوضوح. اقرأ مثلاً: خواطر فتاة عاقلة (المجلد الثالث، ص155-244)، وتأمل في خواطرها: «أما آن لي وقد أصبحت فتاة جامعية أن أعبّر عن خواطري وأفكاري في الحياة من حولي وأن أسجل أحداث حياتي الشخصية والعائلية؟ لقد كان التعبير عن هذه الأمور بصوت مسموع مستحيلاً عليّ لئلا أزعج أحداً.. ومكّنني ذلك من الاحتفاظ بلقب (العاقلة) الذي أطلقه عليّ أبي، ولست مستعدة لخسران هذا اللقب، فلأعبر عن خواطري على الورق إذن وستكون بمأمن من الآخرين»( ). خواطر الفتاة هذه تنبئ عن متنفس وجدته الفتاة لنفسها بعد أن كانت حبيسة إيحاءات حاصرتها بها تقاليد الأسرة، إذ أسمعها أبوها لفظة (عاقلة) تمييزاً لها عن أختيها وعن إخوانها الذكور الثلاثة. عتبة الطاقة النفسية لديها تحملت شيئاً من الكبت الذاتي احتفاظاً برضى الوالدين. بيد أن العتبة المطلقة النفسية عندها ما لبثت أن أصابها الونى فنال منها الوهن، لذا جنحت إلى تسجيل ما يمور في وجدانها.
ورغم ذلك فإنّ للعلاقة النفسية الجسمية لدى الإنسان مؤثرات شتى وفواعلها لا يخبو لها أوار. فالفتاة العاقلة لها مشاعرها وفي دواخلها تتفاعل أحاسيسها سيما بعدما نضجت مكوناتها الجسمية واكتملت... عواطفها آلت إلى ما أدنفها فأمرضها، وفي آخر مرضٍ جسدي انتابها تقول: «فتحت عينيّ على عدد من الرجال وهم يحيطون بسريري وبينهم الدكتور مراد. وأظنهم أطباء فالبعض منهم يحمل عدته الطبية. وسمعت أحدهم يقول لم تكتشف سمات أي مرض فيها. ويبدو أنها تعاني من أزمة نفسية أفقدتها الرغبة في الحياة وحالة اكتئاب حاد سببت لها انهياراً عصبياً. وستتعافى إذا تغلبت على أزمتها النفسية وعاد إليها حب الحياة»( ).
من يقرأ الرواية من بدايتها يتبين أن أحداثها أشبه بخط بياني تتخلله انحناءات وانكسارات منبسطة حيناً وحادة أحياناً وكلها تعكس أحداث الأيام في حياة بطلة الرواية التي أوقر ذووها أذنيها بإيحاءات (عاقلة) لم تعد تتحملها عواطفها التي ناءت عليها غرائزها فآلت بها إلى الانهيار العصبي. انتهت الفتاة العاقلة هذه إلى قناعة كوّنتها بنفسها لنفسها بأن الحياة عبث وشقاء «لم يعد بإمكاني تسجيل خواطري. فأنا ما أكاد أقوى على الجلوس في فراشي. ثم ما الفائدة من تسجيل خواطري؟ كنت أفضل حالاً حينما كنت أحتفظ بها في رأسي، فلم يكن ينكشف لي بهذا الوضوح ما في الحياة من عبث وحماقة وشقاء!»( ). الحياة للإنسان السوي ليست كلها (عبث وحماقة وشقاء) كما تتراءى لبطلة القصة. منطق الحياة توازن واتزان، لكن النفس البشرية حينما تؤوفها آفة الالتواء ويتوارى عنها الصفاء لا يعود بإمكانها أن ترى غير الاسوداد والعبث والشقاء! وإلى هذا المآل آلت نهاية الفتاة العاقلة مجازاً لا حقيقة نتيجة إيهام تجاوز مداه.

(3)
التحليل النفسي يكون في أرقى مهامه حين يتولى تحليل ما هو حي، وهذا يصدق على الفن بضروبه وعلى الادب بفروعه ومنها الشعر والقصة والرواية والمسرحية، وهذه كلها تحيا معنا وبيننا. لذا واجهت المحللين النفسانيين وجوه من أوجه طبيعة الموهبة الفنية أو الأدبية والتقنية، واجتيازاً لمثل هذه التعقيدات، بات استخدام مصطلحات (مواهب خاصة) و(ميول بنيوية) و(العبقرية المتعذّرة على التحليل) من التعابير المألوفات، فتسالم المحللون في النهاية على أن طبيعة الموهبة تكمن في المجال الجيني البيولوجي وليس في المجال التحليلي؛ بمعنى آخر إنها كائنة في دماغ الموهوب لا في جسمه الذي بحمل الدماغ. فالموهبة «هي قدرة متأصلة تعمل على تحويل اللاوعي الفردي إلى عمل إيصالي شمولي واع -العودة إلى الواقع- وهو عملية يمكن تحقيقها من طريق مرونة الكبت، بحيث تتحرر طاقة التحويل... وازدياد القدرة النفسية بشكل بارز»( ).
على ضوء القراءة النفسية المشار إليها يمكن قراءة كثير من أعمال الدكتور شاكر خصباك الأدبية، فموهبته في رسم شخوص رواياته وما تعانيه تلك الشخوص، تبدو واضحة، كما في رواية (نهاية إنسان يفكر). إذ يقول ذلك الإنسان المفكر: «ما أنا فاعل بحياتي؟ أشعر أنني أسبح في الفراغ. وقد غاب أنني سألقى يوماً مثل هذا الفراغ. ولم يخطر ببالي أنني سأحال على التقاعد يوماً وأفارق منصة القضاء. ويجب أن أعترف أنني فشلت في وضع نهج جديد لحياتي أقهر به الوقت، لقد كان أسبوعي بطول يوم فصار يومي بطول أسبوع!»( ). إنها حكاية قاضٍ استشعر وحشة الفراغ بعد أن أحيل على التقاعد. تسلل الملال إلى نفسه، فأحس برتابة الوقت الذي أناخ بكلكله على ذاته فأفقده مذاق طعم الحياة التي يتمنّاها: «كيف السبيل إلى مغالبة هذا الفراغ الذي يجثم كالصخر فوق صدري؟ وكيف السبيل إلى استعادة هيبة القضاء التي كنت أتمتع بها؟»( ). إنها الرتابة، والفراغ، والشعور بتدني المكانة الاجتماعية بعد الرفعة الوظيفية في القضاء، كلها تضافرت فغشيت نفس ذلك القاضي بغواشي القلق وهواجس الخوف من المجهول.
فهي قصة تروي حياة قاضٍ تسنم مراتب في سلك القضاء أشعرته بأهمية المنصب ومكنته من تحقيق ذاته، راح القاضي (بطل الرواية) يسير في حياته الوظيفية وكأنه معصوب العينين لا يرى سوى تعاليم القانون ولا يتصرف إلا بمقتضى نصوصه وحسب؛ الإنسانية في مفهومه نصوص جامدة، والحياة في أعرافه قوانين صارمة. العواطف الإنسانية من منظوره مصطلحات عابرة لا وجود لها حقيقي، مما ضرب أستاراً بينه وبين الواقع المعاش الذي لم يشعر به من قبل إلا «..وهو يبتسم ابتسامة حزينة: لم يبق لأمثالنا دور في هذا العالم الخسيس يا حكمت، نحن نحيا فحسب!»( ). كلام يعكس الانسحاب من الحياة والهروب إلى أمجاد الماضي، هكذا يكون ديدن من لا يتقبل واقع الحقيقة التي تساير دوران الزمان. إذ تختبئ الذات خلف سراب الأوهام، فتجترّ دون طائل ذكريات جاوزتها الأيام.
فيما ينظم الشاعر وفيما يدبّج الأديب توجد هناك صور وإشارات «..تتفاوت في إدراكها العقول، وقد يكون النص واضحاً في لفظه ومعناه، ومع ذلك يظل كالحسن الفائق لا تجتلي منه بنظرة ولا نظرتين، وإنما تطالع فيه العين كلّ يوم باباً جديداً من أبواب الفتون، أو كالبحر تعرف هوله وجلاله، ثم ترى فيه كلما واجهته ضروباً جديدة من الهول والجلال»( ).
هذا هو شأن الأديب فيما يبدع. إذ هو يلاحظ ما في الطبيعة والمجتمع فيجسّد ما يلاحظه ويراه حركةً وعاطفةً، فلا يكتفي بذلك بل يصلهما بالتصريف النفسي، والتغيرات الوجدانية لدى الإنسان وعلاقة هذه كلها بالتنظيم النفسي عنده. ذلك أن كل ما في الكون يتحرك. الطبيعة تتحرك، والإنسان كله حركة وعاطفة، وعالمه الداخلي والخارجي بقضّه وقضيضه إنما هو حركة. وفي الحركة الإنسانية السوية خير ونماء وعطاء. فهذه كافة عناصر حرية أن تكون موضوعات للبحث العلمي وميداناً للتجسيم الأدبي.

تعددت الاتجاهات النفسية المعاصرة ومنها الاتجاه الشكلاني الذي يقول إن فهمنا لحياة الآخرين النفسية وإبداعاتهم الفكرية إنما هو فهم لما في إبداعاتهم من أصالة. ويؤكد الاتجاه الظاهراتي في علم النفس على ما هو بادٍ للعيان من نشاط الإنسان، ولكن لا ينبغي الاكتفاء بظواهر الأشياء، بل يجدر تحري ما وراء المنظور، من خوافي الأمور. ولهذا ففي أي سلوك يصدر عن الإنسان يستتلي تفسيراً استبطانياً وتأويلاً منطقياً. وفي أحايين كثيرة يستلزم الحال استجلاء ما يكمن وراء نوازع البشر في المواقف التي تستدعي إنطاق نماذج منهم تعبيراً عن موعظة أو حكمة. وإن التحليل النفسي ليفعل قصارى ما يستطيع في هذا السبيل، كان للأديب فسحة أوسع تتيح له انتقاء أنموذجاته أنّى شاء. ذلك أن أفكار الأديب فيما يدونه من أفكار تخص شخصيات قصصه ورواياته إنما هو نزوع منه ينزع فيه إلى التنقيب في بئر الشخصية التي يريد أن يعرضها لقرائه. فإسهام الأديب القاص لا يعدله من المآثر إلا إذا حقق شيئاً من معايير العلم والأدب: «ليس العلم لك بسِفْر، حتى يكون لك فيه سطر، وليس الأدب لك كتاباً، حتى تزيد فيه باباً»( )، على حد تعبير أحمد شوقي.
ولا شك أن الدكتور شاكر قد جعل (الأدب) له (كتاباً) وزاد (فيه باباً)، فكل مسرحياته وقصصه ورواياته بعناوين مبتكرة وقد طرقها بأسلوب جديد. لذا يكون بذلك قد أضاف إلى حلبة الأدب أبواباً. فأنت تقرأ قصة (صراع) تجدها حقاً تعكس ما في نفس الكاتب من صراع إزاء ما يراه من صراع حين كتب القصة وهو في أيام الشباب. والصراع من منظور نفسي صراعان: صراع المرء مع ما في داخله، وصراع يحسه بل يرمقه ماثلاً في محيطه الاجتماعي فيتماهى معه، ويعبر عنه المبدع بأسلوبه الذي يرضيه ويرتضيه. وقد مكّنت شاكر خصباك موهبتُه الأدبية فكتب (صراع) ليبرز فيها ما في البيئة العراقية إذ ذاك من تقاليد، وجوانب اجتماعية، ومآزم اقتصادية... إلخ. فقصة (صراع) تغري القارئ ابتداء وانتهاءً لما انطوت عليه من عوامل خفية تتسم بالترفّع عن عناصر الإغراء المتدني. فللدكتور شاكر موهبة قد فُطر عليها و«...إن هذه الفطرة وحدها كفيلة بأن تقوي الأمل بأنها هي نفسها ستعرف كيف تستفيد وكيف تُهيأ وكيف تخترق؟!»( ). إنها شهادة إنصاف من الناقد المرموق -رحمه الله- الدكتور علي جواد الطاهر بحق الدكتور شاكر خصباك، بعد أن قرأ (صراع). ثم يقول الدكتور الطاهر مستطرداً: «وهذا دليل جديد على أن شاكر مفطور على القصة، أجل القصة فطرة، القصة موهبة خاصة، وهذه الموهبة الخاصة هي العامل الأول في تكوين القصاص، أمّا ما عداها فمهذبات ومشجعات ومعجلات»( ).
(4)
وفي تقديمه لقصة (صراع) كتب القصاص العراقي الراحل عبد المجيد لطفي: «وقد استطاع قاصنا بأسلوبه الحي المتدفق حماساً وقوة أن يصف التفاصيل في حياة شخصياته بدقة وبراعة، وأن يحلل نفسياتهم تحليل المقتدر المخلص الصادق، حتى لتكاد تراهم وتعرفهم في الحياة العامة وتحسب أنه يتحدث عن أناس سبق أن عرفتهم وبلوتهم، وهذا توفيق كبير حقاً، بل إن البراعة القصصية ذاتها»( ). أجل إن الدكتور شاكر قد جلّى بقلمه النابض بالحياة ما في الحياة التي تملاها، من أصداء وتجارب وآمال وآلام. لقد أدرك ببصيرة الروائي والقاص أن القصة تستأثر باهتمام القارئ لما تعبر عنه على لسان شخصياتها من هموم تحتشد بها الحياة «وهي -القصة- بحق وسيلة مفضلة لدى الكاتب والقارئ معاً. إذ ينشر الكاتب القاص في قصصه أفكاره وآراءه ويدعو إلى المثل التي يراها أنفع للحياة الاجتماعية في إطارها الخاص والحياة الإنسانية في إطارها العام..»( ).
فالقارئ لأعمال شاكر خصباك الإبداعية يجد فيها شخصيات تتحرك، وحياة اجتماعية لها بواعثها النفسية، ودافعها الدينامية، ونوازعها الخفية التي تتطلب الكشف عما تخفيه وراءها من مخبوء. ففي قصة (عهد جديد) وفي (ذكريات أدبية)، يقف المرء على شخصيات تترادف، وأحداث تتوالى، في حياة اجتماعية واقعية، في إطار إبداعات الكاتب الفكرية التي تثير إحساس القارئ إحساساً، ووجداناً، فتشعره بأن الحياة كلها إنْ هي إلا خوالج من الحس المرهف، والعواطف الرفّافة، المعبّر عنها بالفكر الجوّال والقلم المتمكن. وإنه لمن موجبات الأديب أن يكون أدبه ترجمة لمحاسن الطبيعة وما تثيره في النفس من لذة نفسية ومتعة قلبية، وما يبرزه في الحياة الاجتماعية مما تعجّ به من أفراح وأتراح، ويبين ما في مضطرب السلوك الإنساني من سنن. وإن العناصر النفسية هذه كافة يتقراها المرء في أدبيات شاكر خصباك جاهزة، بل قل تتراءى له ماثلة.
عندما يوصف الأديب بالمبدع فإن لإبداعه لا شك آفاقاً. فهو يكتشف علاقات بين الأشياء ويؤكد على متعلقات بينها تربطها. فما يأتي به المبدع يكون قد اكتسب دلالة جديدة، لأنه وراء ذلك عقل صائغ، وأن المبدع إنما صار كذلك بالفطرة، والفكرة، والتكوين المستديم، المعزز بالإرادة، والتلقائية، والخيال الجوّال. وهذه العناصر كلها وسواها مكونات أُخَرُ يمكن أن تسمى بـ(فن الفطنة). على ضوء ذلك نستطيع أن نقرأ خواطر الدكتور شاكر خصباك الفلسفية التي يناجي بها نفسه: «في هذا الزمن الطافح بالعسف والمرارة والإحباط... يجد المرء قدراً من العزاء في حواره مع نفسه حين يعز الحوار مع الآخرين»( ). ويمضي في حواره مع صاحبه (أو مع ذاته)، فيرى أن «اختلال كفتي ميزان الإدراك لدى البشر» يعزى إلى «رجحان كفة الهوى على كفة العقل»... «ومن الآراء الراجحة أن الخالق قد خلق الإنسان بشراً سوياً ومنحه الإدراك وترك له حرية توجيه حياته»( ). وينتهي في تساؤلاته إلى أن الإنسان متى ربأ بنفسه عن الهوى، وأقلع عن غيّه، وأخذ بأسباب العلم وتعاضد مع أخيه الإنسان عمّ الوئام وساد السلام.
لا مماحكة في أن النواميس الطبيعية لا تحرم الإنسان من حرية الاختيار، وأن إرادته تعمل بتوجيه من عقله وفكره الذي لا مندوحة له من أن يقيم اعتباراً لميزان الإدراك النفسي والأخلاقي والاجتماعي، وهذا معناه تغليب الإيثار على الأثرة، وتقديم حب الآخرين على الأنانية الذاتية. لذا نرى الدكتور شاكر خصباك قد لمح في تساؤلاته جانب اللاعقلانية سائداً في عالم اختلّت فيه الموازين وتناقضت فيه المعايير المثلى، وأن كلّ ما يتعرّض له إنسان اليوم من غم وهم وإعنات إنما هو من صنع نفسه بنفسه -كما هو ظاهر- ومجانبة محجّة الصواب، ومجانفة موهبة العقل القويم: «العقل أعظم هبة من الخالق للإنسان فحكِّمه في تصرفاتك ولا تستسلم للعاطفة الهوجاء»، كما جاء في حوار التساؤلات.
وإذ ينشد الإنسان الأمن النفسي ويتطلّع إلى العدل الذاتي خاصةً والعدل الاجتماعي عامة، إنما يصدر في كل ذلك عن أمانيّ يتمناها وعن تجارب خبرها وابتلاها، وهذا هو (أمل البشرية) و(مستقبل الكلمة) و(جوهر الحكم) و(وحدة البشر)، وهذه كلها رؤوس عناوين تحت مسمياتها ومسميات أخرى غيرها، كان المتحاوران يتناثّان. وعنصر التشويق النفسي في التساؤلات هو أن الدكتور شاكر خصباك «لم ينحُ في كتابه تساؤلات: خواطر فلسفية، منحى التجريد المعهود في المماحكات الفلسفية المدرسية بل هو أعمل قوة العقل فوظفها في استنطاق أفكار فطاحل الإنسانية استرشاداً بالنصوص القرآنية التي أوضحت كيف أراد الله ويريد للإنسان الإعزاز وليس الإذلال مروراً بتعاليم الأنبياء والمرسلين وانتهاءً بعبقريات المفكرين من أغراب وعرب ومسلمين»( ).
(5)
علم النفس كان وما برح ينقب ويمحص ويبحث، طامحاً بذلك إلى استكشاف المزيد وكل ما هو جديد يهتدي من خلاله للنفاذ إلى دواخل الإنسان. فالأنا التي يسعى الإنسان جاهداً إلى تأكيد ما في نسيج تكوينه الذاتي، ومن ثم توكيد شخصيته من خلال هذا (الأنا) أو هذه الإنية -لا فرق- إنما هي تمثِّل التحقق من طبيعة هويته كفرد للتأكيد من فرادته ونوعية الفرادة هذه. فمن طبيعة الإنسان البحث عن التخليد والخلود، ذلك إحساس في خلقه مغروس. «إن الإنسان لن يصيبه التعب في البحث عن الخلود»( ). فلكل إنسان سيكولوجيته ورؤاه التي بها يتفرد، ذلك لأن «...لكل منا -نحن البشر- أفكار وأحلام يقظة، ومشاعر هائمة، هي كالفراشات، تختفي إن لم يتم اصطيادها فوراً، ويصدق هذا حتى على الأفكار الجديدة التي يبحث عنها المرء، ولذلك فإنه من غير المستغرب أن يكون الأمر كذلك»( ).
فـ(اصطياد الأفكار)، ورصد المواقف الهامة التي تستوجب التشخيص والتنويه بأهميتها لا تؤاتي إلا من كان ذا اهتمام بها من الأدباء الذين يعنيهم الوقوف عند كلّ حدث يهم في حدثانه أبناء المجتمع الذي يعيش الأديب بين ظهرانيه، وكل ما يرى فيه ببصيرته أنه يستدعي الكشف عن جوانبه الإنسانية. وهذا يسمح بالقول بأن بصيرة الدكتور شاكر خصباك النافذة قد مكنته من أن يلتقط بعين البصيرة كثيراً من السلوكيات البشرية، والظواهر الاجتماعية فصاغ منها قصصاً مؤثرة، وروايات معبرة، ومنها رواية (الأصدقاء الثلاثة).
(6)
الأصدقاء الثلاثة: يوسف، وزكي، وعلي، وهم شباب من العراق، يحدوهم الطموح، ويستهويهم المستقبل. طموحهم كان مشروعاً، ومستقبلهم كانوا يستشرفونه بعقولهم وأفئدتهم، أملاً منهم لتحقيق أمانيهم وأمنياتهم. أصدقاء ثلاثة من أديان سماوية ثلاثة، جمعت بينهم تقادير الحياة، وألّفت بين أرواحهم المحبة الشماء، فلم تفرِّقهم انتماءاتهم الدينية، ولم تشتت شملهم أعراقهم الإثنية، ولم تباعد بينهم نزعاتهم الطبقية. فيوسف المسيحي، وزكي الصابئي، وعلي المسلم. وأنت تقرأ الرواية هذه تطالعك في ثناياها بجلال مقاصدها وجمال أهدافها، فتستمتع بذلك، وأنت تمني نفسك بالمزيد مما يسرّ الخاطر، بيد أن المفاجأة المرة تحسها عندما تجد في المآل ما آلت إليه حال الأصدقاء الثلاثة، وما لقوه من مصير كالح دبّرته لهم مكائد أناس سوّلت لهم أنفسهم ما سولت فمحوا وجود الأصدقاء المتحابّين في الله من خريطة الوجود. إنها رواية أجدر بأن تسمى (تراجيديا الأصدقاء الثلاثة). لقد اشتملت في محتواها على مضامين شتى تتطلب التأمل والتدبر، منها على سبيل التمثل: نفحات روحية توحِّد ولا تفرق، جوانب موقفية اجتماعية، أركان تأمله، عناصر اجتماعية، وشائج أخلاقية، معالم نفسية وجدانية، ينضاف إلى هذا كله (البحيرة السوداء) في النفس البشرية التي إذا هي طفحت أغرقت بوبالها النفوس البريئة.
(7)
الدكتور شاكر خصباك بروايته هذه، كما في رواياته الأخرى ومسرحياته كافة، قد كشف عن موهبة أدبية فطرية، وظّفها في تجسيم وتجسيد النوازع البشرية على الصُّعُد الأخلاقية والاجتماعية بخاصة، والسلوكية بعامة، تحفزه إلى ذلك أفكار هي خير كلها، و«...الناس أقوياء ما داموا يمثّلون فكرة قوية...»( ). لذا دأب خصباك على نهج اختطه لنفسه توخّى فيه وما فتئ يتوخى استلفات الأنظار لما يجري من حوله في مضمار الحياة، وإغناء ما يرصد بمستطرف الأفكار، شارحاً ومعللاً بمقدار وبحسب ما تستلزم الانطلاقات الأدبية ودوامات العواطف الموجبة. والأدب هو اللغة الخلاقة لحقيقة الفكرة وتأصيل كينونتها. ولذا «...من الواضح أن علم النفس، من حيث هو دراسة للعمليات النفسية، يمكن أن يدرس الأدب، ما دامت النفس البشرية هي الرحم الذي تتكون فيه شتى مبدعات العلم والفن»( ). والأدب، لا معاظلة، إنما هو فن. ولذا يتوقع من علم النفس وبحوثه وأدبياته ومعطياته أن يمكّننا من تفسر طرائق تكوّن العمل الأدبي، وأن يشرح العوامل التي تجعل من بين البشر أدباء مبدعين في ميادين الشعر والقصة والرواية والمسرحية، تعرّف معاجم علم النفس، ومنها مثلاً، المعجم النفسي - الطبي لمؤلفيه المعاصرين آرثر أس. ريبر وإي. ريبر بأنه «مصطلح يستعمل بمعناه التقني والفني ليدل على العمليات العقلية التي تؤدي إلى ما هو جديد من المواقف، والأفكار، والتصورات الإدراكية، والأشكال الفنية، والنظريات أو الإنتاجات التي تتصف بالتفرد وتتسم بالجدة والأصالة»( ).
والجدة والأصالة إذا ما توفرتا للأديب مكنتاه من التقاط مكونات إبداعه بصور تتشكّل على وفق أوضاعه الوجدانية، وتتنوع حسب حالاته النفسية. «فالنفس مثل الشمس، يتجاذبها الشروق والغروب، وكما تطغى غيوم الشتاء -أحياناً- على الشمس فتحجبها عمَّن يتعشقون نورها، فإن أحداث الحياة تطغى على النفس أحياناً، فتحجب عنها سعادتها. لكن الشمس لا تلبث أن تنتصر على جيوش البرد، وغيوم الظلام.. وكذلك النفس لا تلبث أن تتجاوز الأحداث المنغمسة، وكما أن النور وسيلة الشمس للتغلب على الظلام والبرد، فإن الإلهام -الإبداعي- وسيلة النفس للصعود فوق ما يغمّها...»( ). أيّاً تكن الحال، فإنه كثيراً ما يبين علم النفس أن ما يكرث الإنسان له نفسه، أو يمضها من أحداث الحياة، لا تلبث أن تستحيل إبداعات تشع بألق النفس المكروبة. والأمثلة حية فيما أبدع الأدباء من خلق أدبي وفني؛ ولكن لا مندوحة من الموهبة التي تتطلب بدورها كلَّ ما يعزز وجودها ويقوي من أزرها، ومن ذلك مثلاً، الاستعداد والميل الفطري وتأمل أحداث الحياة، وسوى ذلك كثير مما يمكن أن يكون بمثابة وقود يمد النفس بجذوة التوهج، لكن الموهبة لا يمكن أن تبلغ تمام تفتحها وإبداعها ما لم يكن في حياة الأديب حرمانات وصدمات نفسية أثّرت فيه وجدانياً، فعرضها إبداعاً أدبياً. وهذا ما يبدو أنه كان من إرهاصات جزء من حياة الدكتور شاكر خصباك، في حياته الأدبية في الأقل.
ولعل أنجح الروايات والقصص والمسرحيات التي يقدمها المبدع لقرائه هي تلك التي تعكس أفضل النفع وأوفاه، وهي -بعد- تلك التي لا يضطر مبدعها إلى أن يقدّم لها تفسيراً سيكولوجياً، بل يدع التحليل النفسي والتعليل النقدي يتباريان في ساحات تلك الإبداعات الفساح تحليلاً وتعليلاً واستنباطاً. هذا، وكأن كل ما صدر عن الدكتور شاكر من إبداع يكاد ينطق بلسان حاله فيقول: إن أدبي يمثّل سيرورة حياتي التي تضمنتها إبداعاتي، وهنا فأنا ابن ذاتي. وهذا ينتهي بنا إلى القول: إنّ الأديب فيما يبدع إنما هو يومئ إلى تحليل نفسه من خلال أدبه.

الهوامش:

قراءة نفسية في تساؤلات شاكر خصباك
وخواطره الفلسفية(*)
□ د. عبده علي الجسماني
كان أناتول فرانس، الكاتب الفرنسي المرموق قد قال: «إن البشر في حالة يرثى لها، ولست ألوم على ذلك الطبيعة، لأن الطبيعة غير عاقلة لنتكلم إليها ومعها. ولا فرق بين أن تطبق طبيعة البشر على مجتمع البشر وأن تطبق طبيعة النمل على مجتمع النمل».
وطبيعة أناتول فرانس ونزعته كما هو معروف عنه، ومألوف في كتاباته أنها ساخرة وعلة ذلك أنه تحول إلى تلك النزعة بعد أن أعيته الحيلة في أن يسمع الناس صواب ما كان يرمي إليه. ولعله كان يوغل في الرمزية في بعض الأحايين وكأنه بمنحاه هذا كان يبتغي لوم ذاته على ما واجهته من عنت المخاطبين (بفتح الطاء) عندما لم يُجْدِ معهم التصريح فجنح إلى التلميح ثم أثر الرمزية عقاباً للذات وإمعاناً في النأي بها عن جدل عقيم ربما كان يدرك مغزاه الآخرون ولكنهم عنه سادرون.
وإن المرء ليتأسى حينما يقرأ آثار الحكماء والعلماء وكلهم يكادون يجمعون على أن (لهوى النفوس سريرة لا تعلم) على حد تعبير المتنبي فها هو علم النفس، كان وما برح ينقب ويبحث لكي يقف على بعض أغوار النفس، بيد أنه لا يني يقر بأن تسعة أعشار الذات الإنسانية ما فتئت غائرة لم يدرك كنهها بعد، وأن ما يتراءى للعيان منها هو عشرها وحسب. والعشر الطافي هذا يمتاح من تلك الأبعاد العصية على أفهام البشر.
ويخيل إليّ أن ذلك كله بل إن الأمر جله هو مما استورى زند الأستاذ الدكتور شاكر خصباك فحفزه إلى تدبيج تساؤلات: خواطر فلسفية، بل في خواطره الفلسفية التي يناجي بها نفسه (في هذا الزمن الطافح بالعسف والمرارة والإحباط) كما أورد في الاستهلال.
ففي أول حوارية له: (مرحلتنا الحضارية)، يذكرنا الدكتور شاكر خصباك بقضية غوغول بعنوانها المعروف الذائع (نفوس ميتة) بطابعها الواقعي ومغزاها المؤلم الأليم. والمرحلة الحضارية المعنية تلازمها حقيقة (المستضعفون في الأرض). وقد أشار إليهم القرآن الكريم ﴿ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الأرض﴾ صدق الله العظيم.
وبهذه الآية تمثل الدكتور خصباك ليدلل على أن الجمهرة من الناس ينحون على أنفسهم باللائمة إذ يعيشون في (هذا الزمان) غير أن خالقهم سبحانه وتعالى الذي يريد أن يمن عليهم بالقوة والمنعة يجدهم في الأغلب هم الذين يظلم بعضهم بعضاً وفي المآل أنفسهم يظلمون.
ثمة حقيقة ليس في وسع الإنسان إنكارها تلك هي أن النواميس الطبيعية لا تنفي حرية الاختيار لدى أبناء البشر وأن الإرادة لا تعمل بذاتها مجردة وإنما هي تعمل تحت مؤثرات شتى. وإذن فهناك وراء الأحداث قوانين أخلاقية صارمة وثيقة الصلة بعظمة الإيثار وبضعة الأثرة في كل تطبيقاتهما وآثارهما على الآماد القريبة والبعيدة معاً في هذه الحياة.

والتطبيق العملي للإيثار أشق على النفس الإنسانية لأنه يتطلب فضلاً عن الإحساس الصحيح بالذات محبة عظمى للآخرين إلى حد إنكار هذه الذات. كما يتطلب أيضاً مع قوة الإرادة إصراراً نادراً على ضبط النفس عما يسوّل لها من غي طاغٍ وشهوات لها رونقها وبريقها. ولهذا فإن الحكم الخلقي الصحيح على سلوك أي إنسان لا يكون على ما يصدر عنه من نصائح براقة وأقوال منمقة بل لا مناص من وزن سلوكه في سياق معايير أقواله إن كانت تتساوق مع أفعاله. ولعل في هذا المنظور يأتي ما رمى إليه الدكتور خصباك حين جعل الحوار يأخذ مسراه تحت عنوان (ميزان الإدراك). أنه أراد (للعقل أن يخرج من أسر الهوى)!.
للأستاذ الدكتور شاكر خصباك إرادة لا تقر بشيء اسمه (اليأس) كما يبدو فهو يتطلع إلى (المجتمع الأمثل) وإن كانت هذه هي إحدى أماني الإنسان منذ احتوته حدود الزمان والمكان بعد أن أهبطه الله من جنة عدن.
لا مواربة في (أن مثابرة الإنسان هي التي مكنته وأخرجته من عهد الغابة ورفعته إلى مجتمعاته الحاضرة على ما فيها من نقائص). ومع الإقرار بما ذهب إليه الدكتور خصباك بيد أن نوازع الإنسان الدفينة وهي تسعة أعشار طبيعته كما أسلفنا هي التي ستبقى متحكمة فيه فتحول دون بلوغه المجتمع الأمثل ولكن رؤى الدكتور خصباك ستبقى ممكنة التحقيق ولو إلى حد كلما أدرك الإنسان أنه إنما يحقق شيئاً من ذاته بتحقيقه جزءاً مما يتوخى من عدل وبناء وبخلاف ذلك فستبقى هذه هي (الدنيا العجيبة).
إن عالمنا هذا كما يراه الدكتور خصباك (عالم لا عقلاني) وهو في هذا محق ولم يجانب محجة الصواب أنه كان هكذا وربما سيبقى هكذا. اقرأ تاريخ البشرية تر العجب العجاب ولا تذهب بعيداً بل ابدأ من عهد الطوفان في عهد النبي (نوح عليه السلام) بل انظر هل أجدت شرائع حمورابي أو قل هل ارعوى الإنسان فأصاخ إلى التوجيهات الإلهية وهل استجاب الناس لتعاليم الأنبياء والرسل!
الأثرة نفس الأثرة والنزوات ازدادت، الشهوات تفاقمت فتوالت الويلات وتتابعت النكبات إنها من صنع الإنسان.
الفضائل لا تزكو إلا في خمائل الاتجاهات الأخلاقية الصائبة الصحيحة، ومن المحال أن نبلغ اتساقاً صحيحاً من نواميس الحياة الخلقية الراقية عن طريق وجدان يحيا في ذعر من هذه النواميس المتصارعة وعلى رأسها بغي الإنسان على الإنسان بل إن بغيه في الذروة منها في هذا الزمان.
والدكتور خصباك كما يظهر من سياق محاوراته لا يدعو إلى اليأس والاستسلام، إذ يستدل من حرارة عباراته أنه ليأمل في الإنسان الأمل كله.. وأنه ليدعو إلى أن نفهم بأن كل ما يلقاه الإنسان من غم وإعنات وراءه هو. كما يقول الأستاذ العقاد: «روح يستوي الحق في محرابها وتكمن فيها قوابل لتنمية الذات بمقدار ما فيها من النزوع إلى تلبية عناصر الخير والجمال».
يفرد الدكتور شاكر خصباك عنواناً فرعياً (وصايا أخلاقية) وقد تفرد بها، وهي تذكرني بكتاب الكاتب المصري المعروف خالد محمد خالد الذي ضمنه (الوصايا العشر) وكل من الدكتور خصباك وخالد محمد خالد ينحو إلى إلفات نظر الإنسان إلى تحاشي ما في هذا الزمان من مزالق الاستخذاء إلى ما يشمئز واقع الإنسان فيمضه. هذا إلى جانب (وصايا عامة) يرفد بها الدكتور شاكر رأيه ويعرب فيها عن إيمانه بعقل الإنسان إن هو أحسن الإفادة من مواهبه: «العقل أعظم هبة من الخالق للإنسان فحكمه في تصرفاتك ولا تستسلم للعاطفة الهوجاء» قال المحاور في هذا لصاحبه وهو يحاوره بقلم الدكتور خصباك.
فبنعمة العقل لا يكون الإنسان مسؤولاً عن نفسه فحسب، بل إنه مسؤول عن كل ما يحيط به وعن كل ما هو منه قريب أو بعيد وبالعقل تفرد الإنسان بالذاتية ومفهومها. إن الذاتية تعني من ناحية حرية الفرد ومن ناحية فهي تعني أن الإنسان يستطيع تجاوز حدود ذاتيته الإنسانية ليكون عوناً لأخيه الإنسان، لا وبالاً عليه.

وحينما يقال إن الإنسان يختار، لا ينبغي أن يؤخذ هذا القول بظواهر حروفه، إن الإنسان عندما يختار لنفسه إنما يختار لكل الناس، لأن الإنسان وهو يختار لنفسه ويمارس هذا الاختيار، فإنما يختار لها ولبقية الناس فكل عمل من أعمالنا يمتد أثره إلى غيرنا، ولما كنّا لا نرغب في الأذى لأنفسنا، فكيف نرضاه منا لسوانا: فهل تأمل الإنسان هذا؟
وليست حياة المرء إلا أمانياً
إذا هي ضاعت فالحياة على الأثر


أجل هذه حقيقة تكاد تكون من بداية حياة الإنسان ولكن ما العمل إذا كان هناك من يتعمد طمس آمال البشرية. وسواء أكان الانتواء هذا موجهاً نحو إنسان بعينه أم نحو أمة بأسرها..
والإنسان حين يطلب العدل وينشد الأمن إنما يصدر في كل ذلك عن خبرة رسا أصلها ونما فرعها وتمكنت أعراقها في أعراقه، وهكذا هي خواطر (أمل البشرية) و(مستقبل الكلمة) و(جوهر الحكم) و(وحدة البشر) وكلها أمائر بها يستهدي إلى الهدى من كان ذا بصر وبصيرة يصبو إلى إحقاق الحق ونصر الحقيقة.
لم ينح الدكتور شاكر خصباك في كتابه (تساؤلات خواطر فلسفية) منحى التجريد المعهود في المماحكات الفلسفية المدرسية بل هو أعمل قوة العقل فوظفها في استنطاق أفكار فطاحل الإنسانية استرشاداً بالنصوص القرآنية التي أوضحت كيف أراد الله ويريد الإنسان الإعزاز وليس الإذلال مروراً بتعاليم الأنبياء والمرسلين وانتهاء بعبقريات المفكرين من أغراب وعرب ومسلمين.
إنه كتاب يغري بالقراءة، ويبعث على التأمل وينأى بالإنسان أن يستسلم لمشيئة الشقاء، وكأني بالدكتور شاكر لا تلين قناته ولا تستجيب إرادته إلى مألوف الكلام المكرور، إنها تدابير القدر؛ بل عنده أن القدر لا يخبط خبط عشواء.


الوعي النقدي(*)
في (كتابات) شاكر خصباك (المبكرة)
□ أ. د. علي حداد
في البدء:
تعرّف المجامع الجغرافية وموسوعاتها بالدكتور (شاكر خصباك) على أنه واحد من علماء الجغرافية المعاصرين الذين أغنوا هذا العلم بمؤلفاتهم وترجماتهم الجادة(1).
وتعرفه جامعات بغداد والرياض وصنعاء التي درس فيها -وسواها من الجامعات التي تتداول فكرة الجغرافي وتدرّسه- على أنه أستاذ قدير تخرجت على يديه أجيال من الجغرافيين العرب، وأغنى أفاق المعرفة لدى آخرين سواهم بما أنتجه من بحوث ومؤلفات «وضعته في الطليعة من العلماء الجغرافيين وأكسبت كتبه مكانة عالية في الجامعات وبين أساتذة هذا العلم»(2).
وبين هذه الإشارة العلمية وتلك الإشادة الأكاديمية فإن معرفة من أخصب ما يكون هي تلك التي يحملها الأدباء العرب الكبار، ويتداولها القراء الجادون -وعلى امتداد زمان تخطي الستين عاماً- عن (شاكر خصباك) ومن دون أن نضع هنا (دال) الدكتور قبل اسمه(3) إذ هو القاص والروائي المسرحي الغزير الإنتاج، والمثير، والمتمسك بيقين من المواقف والرؤى لا يفارقها في أعماله كلها، وبتشكيل خاص ينهض بقوامها السردي، ويمسي سمتها الذي لا تغادره.
إن تأسيساً لشخصية عميقة في الوعي والانشداد إلى الإبداع وصدق التوجه نحوه هو ما يلمسه كل من أتيح له الإطلاع على جوانب من منجز الأديب شاكر خصباك الذي تنضوي جهوده ضمن جيل التواصل الأول فنياً مع السرد ومنجزه الخصيب في العراق، ومنذ أربعينات القرن الماضي، ليقرن أسمه إلى جانب: عبدالملك نوري ، وذنون أيوب، وعبد المجيد لطفي، وجعفر الخليلي، وفؤاد التكرلي ، وغائب طعمة فرمان، وسواهم ممن أرسوا لفنون السرد وجودها المحايث للشعر الذي كان متمكنا من ذائقة تلك المراحل، ومستبدا بكثير من قيم التعبير فيها.
لقد أرست بعض تلك الأسماء -وشاكر خصباك من ذلك البعض- التمكن الجاد والحصيف لفنون السرد حينما قدمت لها مثالها المتميز بسماته وانشغالاته، حتى لقد عدت تلك البداية الفنية الناضجة لتأصيل مسيرة السرد العراقي.
وهكذا فقد صنع (شاكر خصباك) حضوره في ذلك الحشد الإبداعي عبر منجز خصيب ومتواتر، يستوقف ذاكرة التأمل النقدي وهي تقارب السردية العراقية حتى وقتنا الراهن، لتشير إلى هذا المبدع الكبير الذي تبتل في مجال السرد وحده، يتأمله بحصافة الحكيم وبذائقة الرائي المتماهي مع صادق تحسسه للأشياء، وبمنهجية العالم الذي لا يذهب لمعاينة موضوعيته إلا بعد أن يرتب لها وجودها في الوعي عميق اليقين.
إن القراءة المتأنية لتجد في إبداع (شاكر خصباك) كثيرا مما بلفت انتباهها ويشغله. ولعل أول ذلك اللافت ما أعلن عنه من وعي وموهبة ناضجين ومنذ وقت أشد ما يكون من البكور. فكتب بمستوى عال من الوعي والتجربة والمقدرة الفنية في السن التي كان فيها كثير من أقرانه لا يكادون يمسكون جيداً بقواعد القراءة والكتابة الصحيحة، ولا تتجاوز قراءات معظمهم الكتاب المدرسي المقرر، في حين راح شاكر خصباك الفتى يعلن عن حضور شخصيته الأدبية ويضعها في محل الإشادة والإعجاب -بل والصداقة الحميم- مع مبدعين عراقيين وعرب كبار، كانت لأسمائهم شهرتها، ولمنجزهم الإبداعي ضجته، من دون أن يشغله أن العمر الأدبي لكثير منهم كان قد تجاوز عمره الإنساني كله.
لقد كتب كثير من أولئك الأدباء عنه وعن قصصه، معجبين بنبوغه ومبشرين بما سيتحقق على يديه في قابل المراحل، وهو ما لم يخيب خصباك ظنهم فيه.
ولا شك في أن ذلك الأديب الشاب قد شغل بتلك الكتابات وتمثلها طويلاً. ولكنه لم يذهب بها إلى طمأنة الذات الغضة التي يحملها ذلك -عند غيره- إلى محامل التباهي والمفاخرة، بل أحالها إلى النقيض تماماً. إذ لم توقفه عن مواصلة تجربة الكتابة، والتمكن من اشتراطات النضج فيها، وتضاعف الهمة لإنتاج المزيد، وفوق ذلك كله فقد تركت فعلها المثير عنده، فبشيء من الندية الواضحة -التي يحق للظان الظن أنها كبيرة على تلك السن أن تدعيها- قام شاكر خصباك بنشر عدداً من المقالات في الصحف والمجلات العراقية والعربية الصادرة في تلك المرحلة يتناول فيها أعمالهم السردية بالقراءة المتفحصة التي تعلن عن أفق آخر مكتمل التكوين ينضاف إلى جانب كتاباته القصصية المتميزة.
إن لتلك المقالات قيمتها وإثارتها لرغبة التأمل والقول فيها وعنها بما تستحقه ولأكثر من مبرر، وهو ما تحاول قراءتنا هذه استجلاءه، عبر معاودة النظر في بعض تلك المقالات التي تذكرها الدكتور (شاكر خصباك) أخيراً -بعد نصف قرن تقريباً- فقام بجمعها وتبويبها، ونشرها في واحد من كتبه أسماه (كتابات مبكرة)(4).
(1)
أن تتفتح مواهب الصبا الغض على كتابة الشعر ونظمه فتلك مسألة تتواتر الأدلة عليها في كثير من إشارات التاريخ الأدبي ووقائعه عندنا -نحن العرب- وعند سوانا من الأمم(5).
وربما لن يعدم الباحث عن شواهد في مجال القصة والرواية أن تلوح له بعض الأسماء التي كتبتهما في سن مبكرة، وهي تتمسك بتوقد خاص لفعل الموهبة ومقدرتها على تقديم ما هيأتها أقدارها الإبداعية له(6). ولكن أن نجد -وفي سن مقاربة لما سبقت الإشارة إليه- من يكتب النقد الأدبي وبمستوى من النضج الحصيف، فذلك أمر غاية في الإثارة واستيقاف مناط التأمل، لينشغل بهذا الذي بين يديه، بحثا في قيمه والفواعل الثقافية والذوقية التي تحصلها مبكراً، ليتحقق من خلالها ذلك الصنيع. إذ الإنتاج القرائي الناقد تجربة في الوعي واشتراطات من الكد المعرفي عبر سنين من القراءة والتأمل والتقصي، والاستعداد بأكثر من وسيلة وتحصيل ثقافي من معارف وعلوم وتجارب مختلفة والقدرة على صياغة الأفكار المتشعبة كيانا قراءنا متماسكاً(7).
وإذا كان الأمر كذلك فإن جملة تساؤلات ملحة أمامنا -ونحن نتأمل (كتابات) شاكر خصباك (المبكرة)- عن مصدرية التأسيس التي تم له التوافر عليها ومقدار الزاد المعرفي المتحصل. بين يدي صاحبها في تلك السن المبكرة. ليلحق به تساؤل أخر عن ماهية اليقين الذي تماسك عنده، ليضعها في حيز من القراءة متموضع حول السرد وحده -القصة والرواية تحديداً- لا يحيد عنه إلى سواه(8).
لقد نشرت تلك المقالات بين العامين 1945م - 1947م، وإذا ما عرفنا أن كاتبها من مواليد العام 1930م، فسنقترب من اليقين المثير للدهشة والإعجاب معاً: لقد نشر خصباك مقالاته تلك وهو بين السادسة عشرة، والسابعة عشرة من سني عمره، أي حين كان طالبا في الدراسة الإعدادية. ولا شك في أنه قد حضّر لها وأنجزها قبل زمان نشرها بمدة وافية!!
(2)
تفضي بنا تلك المقالات -وقبل تفحصها المباشر- إلى مقاربة التكوين الثقافي والذائقة الخاصة التي تم لشخصية الأديب الشاب شاكر خصباك أن تتأسس عليها، وتعلن عن مقدرتها في الكتابة بمحايثة زمانية للمتحقق إبداعيا لها. ولن يكون ظنا غير موضوعي القول أن مجموعته القصصية الأولى (صراع) التي صدرت في العام 1948م قد كتبت قبل ذلك. وبما يخبر عن أن خصباك كان يؤسس لتجربته الإبداعية في ذات الوقت الذي يلم شتات وعيه، ويضعه في تكوين رؤيوي خاص به، يكون واحدا من مخرجاته تلك المقالات النقدية التي كرست قراءاته للسرد، تجارب وشخصيات أدبية.
إن رصداً للمؤثرات الذاتية وقيم التكوين الثقافي الأول هو ما سيفتح لنا جانبا من مغاليق ذلك الوعي وأسراره التي تمثلها شاكر خصباك في تلك السن المبكرة، فمحضته ثمارها: مدركاً نقدياً جاداً، ومنجزاً إبداعياً مثيراً، وهو ما سنذهب إلى استنباط مكوناته من خلال استعادة بعض الأفكار التي أشار إليها الكاتب نفسه في واحد من مؤلفاته الذي ضمنه جوانب من سيرته الذاتية واسماه:(ذكريات أدبية)(9).
إن أول ما يستوقفنا في تلك الإشارات الموثقة عنده ميل هو أقرب إلى الهوس بالقراءة والانشغال بها عن سواها ومنذ سن مبكرة جداً. فقد قرأ مجلة المصرية وهو في السنة الثامنة من عمره، فكانت -طبقا لقوله- «أول حلقة من حلقات اتصالي بدنيا الأدب والقصة» (ذكريات أدبية، ص7). ثم كانت مجلة (الرواية) المصرية التي عد إطلاعه عليها: «المرحلة الانتقالية التالية في حياتي الأدبية. وقد تم ذلك وأنا في بداية السنة الخامسة الابتدائية. والحقيقة أني اعتبر معرفة هذه المجلة ذات خطر عظيم في حياتي. ويمكنني القول إن هذه المعرفة قد قادتني إلى القراءة الأدبية الجادة» (ذكريات أدبية، ص17).
وستكون المرحلة اللاحقة من توطيد الصلة بالقراءة والانشداد إليها حين يتخطى حدود ما كان يجده في بيته من المجلات، ليذهب إلى حيث المكتبة العامة في مدينته الحلة، التي «لعبت -كما يقول خصباك- دوراً هاماً في حياتي بما هيأته لي من ينبوع لا ينضب من الكتب، وكنت ما أزال طالبا في الابتدائية. لقد شغفت بالمكتبة العامة شغفاً بالغاً... كنت أرقب بصبر نافذ انتهاء اليوم الدراسي -ينتهي عصراً- لأطير إلى المكتبة العامة. تصور ذلك ! طفل صغير قد ربط (مقعد) المدرسة لساعات طويلة يربط نفسه من جديد بكرسي المكتبة. كان أقراني الصغار يتلهفون على انتهاء دوام المدرسة، ليهرعوا إلى ألعابهم في الطريق، بينما كنت أنا اهرع إلى المكتبة» (ذكريات أدبية، ص19).
ومع أن ذلك الشغف القرائي قد اتسع لمعارف متنوعة فإن القصة ظلت -كما يبدو- المرتكز الأساسي فيها، وهو ما يؤكده خصباك بقوله: «إن قراءاتي تنوعت... لكن القصة تتربع على عرش قلبي» (ذكريات أدبية، ص22). لتقوده إلى أفق جديد من الاهتمام حيث راح يكتب قصصه التي ربما تمثل فيها ما كان يقرؤه من أمثلة هذا الفن، وهو في المراحل الأخيرة من سني دراسته الابتدائية، ليتوازى عنده -القراءة والكتابة في مجال القصة أكثر من سواها- وبدأب عجيب سيقوده لاحقا إلى الإلحاف على مسألة النشر، فيرسل إلى كثير من المجلات والصحف العراقية قصصه، ولا يغيظه أو يثبط من تدافع عزيمته ألا يجد أيا من قصصه وقد أخذت طريقها إلى النشر» (ذكريات أدبية، ص24) فقد تأخر ذلك عليه حتى السنوات الثلاث اللاحقة، ليجد أولى مقالاته منشورة في واحدة من المجلات العراقية المغمورة ( ذكريات أدبية، ص32)، ثم ليتلاحق عنده نشر سواها من مقالاته، مؤجلاً -كما يبدو- نشر قصصه إلى عامين لاحقين. فقد نشر مجموعته القصصية الأولى (صراع) عام 1948م، لتشرع له باب الشهرة والتواصل مع كثير من الأدباء الذين أصبحوا مرتكزا آخر في تأسيس شخصية خصباك والأخذ بها نحو مساحات مضافة من الوعي ونضج التجربة. وسنقف عند أثنين منهم: الأول الدكتور (علي جواد الطاهر)، الذي أشار خصباك إلى دوره في صقل شخصيته الأدبية، محددا ذلك في: «رعايته لي وأنا في تلك السن المبكرة. باحتضانه الأدبي وتشجيعه الدائم لي وأنا في أول خطواتي على درب الأدب. للفت انتباهي إلى ما يعتور قلمي من عيوب (ذكريات أدبية، ص29).
وإذا كان للطاهر وجوده المتماس مع احتياجات مباشرة عند خصباك الشاب فإن الأخر -وهو محمود تيمور- قد شده إليه الإعجاب بمنجزه القصصي والتأثر بتواصلاته التي كان يطيل تأمله لها، فمحمود تيمور -على ما يقوله خصباك عنه-: «من أحب الأشخاص إلى قلبي، وممن ترك بصمة واضحة في أدبي في تلك المرحلة المبكرة... إني أعد محمود تيمور أستاذي الأول في القصة القصيرة» (ذكريات أدبية، ص31).
استوقف الدكتور (علي جواد الطاهر) أمر انشداد الأديب الشاب إلى عالم القصة والافتتان بها وبكتابتها وبكتّابها من دون سواها غالبا. فقال: «إن الرجل مفطور على القصة»(10) وذلك أمر يقيني عنده فقد وجدناه لا يطيل المكوث عند الشعر أو يكتب عنه إلا لماما، مع أن للشعر في مدينته الحلة -بل العراق كله- سطوته التي لا تجارى، وجماهيريته الباذخة، وشعراءه المبرزين بل لقد كان الأمر -ومع خصباك شخصياً- أشد إلحاحا وحضورا ففي عائلته أكثر من أديب وشاعر(11) لعل أبرزهم خاله (محمد مهدي البصير) شاعر ثورة العشرين -كما كان يوصف- وواحد من أوائل العراقيين الذين حصلوا على شهادة الدكتوراه من فرنسا.
والمأمول في مثل هذه الظروف أن يذهب التأثير ومسعى التقليد إلى الوجهة الأدبية ذاتها التي حققت للخال مكانته، فينظم الشعر مثله: «فليس من المستغرب -يقول خصباك-: «أن أحلم، وأنا طفل صغير في الرابع الابتدائي أن أكون شاعراً مشهوراً مثله» (ذكريات أدبية، ص12)، ولكن ذلك لم يكن ليتجاوز عنده -كما بدا- حدود التمني، فبعد محاولة أو محاولتين كان قد نفض يده عنه ، ليمسي ذلك -على حد قوله-: «أخر عهدي بكتابة الشـعر، وربما تذوقه أيضا» (ذكريات أدبية، ص13) لأن لـديه في وعيه -وفي لا وعيه أيضاً- تأسيسا أدبيا لغير الشعر كان يجده أقرب إلى حساسيته الذهنية وذائقته، وتمثل في السرد والقصة تحديداً، ليوطن عنده رؤيته وقلمه.
إن وعياً يتلمس مكوناته ويعلن عنها -بعيداً عن جماليات الشعر وغنائيته- هو ما كان خصباك الشاب يعايشه، عبر استجابات ذهنية وسلوكية للقضايا الاجتماعية ومساحة التجلي للسلوك الإنساني في مكابداته اليومية ووقائعه ذات الطبيعة النفسية. وهو ما شخصه خصباك نفسه حيث قال: «اعترف لك بان الطبيعة لم تكن تثيرني كثيراً لذلك لم يحتل وصف الطبيعة، وما أتصل بها من أدبي حيزاً مرموقاً لكنني كنت على نقيض ذلك استثار استثارة بالغة -منذ كنت طفلاً- بما يتعرض له الإنسان من ألم أو أذى أو حاجة» (ذكريات أدبية، ص12).
هكذا حسم خصباك موقفه، فانتحى بوعيه وقلمه إلى حيث الانشغال بالسرد وفنونه، ليواصل قراءته نقدياً، وإنتاج نصوصه أدبياً، ويجعل منه مساحة لكثير من تعالقات وجوده الإنساني حتى وهو يقيم صلاته الأدبية وصداقاته مع الآخرين -الذين كانوا في الغالب عليهم من المنشغلين بذلك الفن وحده- وليضعه ومناطا للتحديد والتقييم لتلك الصلة، فهو لا يكاد يجد في أدب (العقاد) مثلا ما يشير إليه بالإعجاب سوى روايته الوحيدة (سارة)(12). وفي العراق فإن إشارات موجزه هي تلك التي أوردها عن شعرائه، بازاء تلك الاستطرادات المتسعة التي تحدث بها عن كتاب القصة القصيرة والرواية.

(3)
تضمن (كتابات مبكرة) ست عشرة مقالة، سنتجاوز -ونحن نقرؤها- ما وضعه لها كاتبها من تبويب خاص(13)، لنأتي بها مرتبة على نهج مختلف يبدأ بالمقالات ذات المعالجات المتسعة في موضوعاتها، وينتهي عند تلك التي كرست أفكارها لشأن أدبي محدد. وسيكون أول ما يستوقفنا -على وفق هذا التصور- تلك الكتابات التي وضعها المؤلف تحت عنوان (كتابات اجتماعية)، وهي ثلاثاً، كانت أولاهن إلى الدراسة المنهجية أقرب من كونها (مقالة)، وهو ما تنبه له كاتبها فأسماها (بحث في السجون)(14). وكان الأمر كذلك، من حيث العرض وتسلسل الأفكار وتبويبه واستقراء المسببات والأسباب، ووضع العنوانات الداخلية، ليقف (البحث) أخيراً عند التوصلات والمعالجات التي يقترحها في شأن السجون ونزلائها.
لقد تم عرض ذلك كله بموضوعية وإدراك طيب للجوانب الإنسانية التي ينبغي مراعاتها في هذا الأمر، وهو ما ارتقى بهذا البحث إلى مستوى الدراسات الاجتماعية الناضجة. وربما لم يكن ينقصه سوى الإشارة إلى المراجع والمصادر ليصبح بحثاً أكاديمياً متميزاً لا يصنعه إلا النابهون من طلاب الدراسات الاجتماعية.
وما يثيره هذا (البحث) لدينا هو السؤال عن الدوافع التي أدت بالكاتب إليه، ومصدرية معلوماته عنه، وهو المهموم بنشاطاته الأدبية، أهو السماع؟ أم القراءة المتأنية لدراسة ما عنه أم أن الأمر متصل بتلك الوجهة الاجتماعية التي كان الأديب الشاب يراكم تأملاته الدقيقة عنها، ليضفي كثيرا من تفاعلاتها ومضامينها في قصصه؟ نقول هذا ونحن ندلف في قراءتنا إلى المقالة الثانية التي تصب في الاتجاه الاجتماعي عينه، حيث تنشغل بقضية (مكانة المرأة في بلادنا)(15) ليمسك كاتبها -بعد مجادلة لكثير من المواقف والأفكار- بجوهر المعالجة لجوانب التردي في واقعنا الاجتماعي المعطل نصفه، الذي يغيب فيه دور المرأة، ليصدح الكاتب بقناعته: «تلك حقيقة ثابتة لا يرقى إليها شك: لن ترتقي البلاد ما لم تساهم المرأة بنصيبها في النهوض بها. ولن يتسنى للمرأة أن تشارك الرجل في ذلك ما لم تخرج من الدار، وما لم تقبل على الدراسة والتثقيف. بل إني لأذهب إلى رأي أبعد غوراً، فأقول: إن الثقافة وحدها ليست كافية للتقدم بالمرأة في مدارج الرقي. ثقفوا المرأة، ولكن ما نفع الثقافة إذا حبست المرأة وراء جدران أربعة، وحبست ثقافتها في قوقعة من عظام لا ميدان لها للتطبيق.. إن الثقافة لا تستمد من الكتب وحدها، وإن للحياة نصيباً وافراً في التثقيف، بل إنها مدرسة قائمة بذاتها فإن حرمت المرأة من ثقافة الحياة إلى جانب حرمانها من ثقافة الكتب فإن من غير الممكن بل من المستحيل أن تخطو البلاد شوطا بعيدا في ميدان التقدم والرقي» (كتابات مبكرة، ص73).وعند الكاتب فأن خضوع المرأة المطلق لسطوة الرجل والطاعة العمياء له على حساب إنسانيتها ومشاعرها هو ما أودى بوجودها المضاع في مجتمعاتنا: «وعندي -طبقاً لرؤيته- أن هذه النقطة هي البلاء الأول الذي جعل من المرأة ضعيفة النفس خاملة، لا تؤدي واجبها الحق كما يجب. فليس هناك عدو للنفس كالضعة، وليس هناك محطم للشخصية كالاستعباد» (كتابات مبكرة، ص74).
وسيذهب الكاتب في رؤيته المتقدمة -على مرحلتها وواقعها المعيش- إلى أقصاها حين يحرض المرأة على التخلص من هيمنة الرجل الاقتصادية عليها: «فالاستقلال الاقتصادي هو الشرط الأول الذي ينبغي على المرأة أن تنشده إن شاءت أن تنهض بشؤونها نهضة حقه».
استكمالا لتلك الرؤية المثقفة، وهي تتفحص جوانب السلب في مجتمعاتنا العربية يتوقف الكاتب الشاب وبذكاء وطرافة عند ما يجده من انشغالات منبته عن هموم تلك المجتمعات يذهب إليها الغناء العربي في تلك المرحلة ، فيكتب مقالة (على هامش الغناء في البلاد العربية)(16)، منطلقا لا من القيمة الجمالية للغناء -على أهميتها- بل من القيمة الاجتماعية، وهي الأساس عنده، فالغناء: «يجب أن لا يقتصر على إثارة البهجة بل يجب أن يستخدم في التوجيه ، ويستغل استغلالا صالحاً» (كتابات مبكرة، ص77) وهو ما لا يجده محط اهتمام المعنيين بالغناء الذين يرى أن الشاغل الوحيد لهم «هو الغرام، كأن لا شعب هناك يعاني ألام الجوع والحرمان والاستبداد والطغيان. وكأن بلادنا العربية لا ترزح تحت نير الاستعمار، وواجبنا الأول سحقه» (كتابات مبكرة، ص79). وعبر هذا اليقين يشترط على الغناء وأهله أن يكونوا بمستوى من الوعي بما يحتاجه واقعنا العربي منهم: «نريد غناء يعبر عن أماني شعوبنا ،نريد غناء يعبر عن حاجات شعوبنا. نريد غناء يثير الحماسة في نفوس شعوبنا لمقاومة المستعمر. نريد غناء يعالج المشاكل التي تنتاب شعوبنا من اجتماعية واقتصادية وسياسية» (كتابات مبكرة، ص82).
(4)
يذهب الأديب الشاب إلى شيء من التنظير عبر تحديد الموقف من قضية الفن ودوره تلك التي أمست شاغلاً للكثيرين وهم يحددون مواقفهم، فيذهب بعضهم للقول بفكرة (الفن للفن) وينادي سواهم بكون (الفن للمجتمع)(17).
لقد ناقش خصباك تلك المسألة في مقالته (حديث عن الفن)(18)، ليصل إلى القول «بخطأ حكم الفريقين على بعضهما. فهما في الواقع يؤديان خدمة جلى للشعب على صعيد واحد بالرغم من اختلاف مذهبيهما» (كتابات مبكرة، ص84).
ولكن ذلك لا يمنع أن يكون ميله إلى القول بكون الفن في خدمة المجتمع أكثر وضوحاً. إذ يرى: «أن الذين ينادون بأن (الفن للفن) مخطئون في ندائهم، والفن لا يكون خالصا للفن بأي شكل كان. وهو مسخر لخدمة المجتمع كيفما كان» (كتابات مبكرة، ص85) ومن خلال هذه الرؤية يؤكد على مساحة للتواصل بين الفكرتين وانسجامهما معاً، وهما يؤطران أفق الفن المتميز بقيمة الاجتماعية والجمالية على السواء: «فالذي لا سبيل إلى إنكاره إن الفن الذي يوقظ الجمهور، ويبعث في نفسه الشعور الصحيح ويحضه على تحطيم قيوده وبؤسه وعبوديته وشقائه، ويخلق فيه الطموح إلى حياة الرفاه والحرية والسعادة هو الفن الذي يقوم بخدمة المجتمع أعظم خدمة. ولكن المجتمع الذي يحتاج إلى الفنانين الواعين يحتاج كذلك إلى الفنانين الآخرين أيضاً.. فالكادح الذي يقضي طول نهاره في العمل المجهد يحتاج إلى سويعات يغيب فيها عن عالمه الصاخب المليء بالمزعجات، ليصيب قسطاً من الراحة التي يجدها في أحضان الفن الخالص. ومن هنا تتجلى خدمة أمثال هؤلاء الفنانين» (كتابات مبكرة، ص85).
ويقوده تأمله لعالم القصة وثرائه في العصر الحديث للبحث عن ملامحها في تراثنا الأدبي، ليقف على محدودية حضورها فيه، فسوى قصص الحب التي بدت -وفقاً لرؤيته- «خليطاً من قصص الغرام وقصص البطولة والقصص العلمية»(19) لا يكاد الباحث ليواجه بنصيب متسع من القصص كما هي الحال مع الشعر. وعنده فإن هذه القصص حتى وهي تتطور، فتصـنع فن (المقامة) لم تكن لترتقي بنفسها إلى مسـتوى القص الجيد. إذ المقامة -وهو ينقل رأيا لمحمود تيمور يؤيد قناعته-: «ليست لها أية قيمة قصصية وإن كانت وضعت في القالب القصصي لأنها خلت من أهم ميزات القصة وهي الحادثة أو العقدة. وكذلك خلت من الشخصيات الروائية وتحليل نفسياتها ودرس أخلاقها» (كتابات مبكرة، ص7). وعلى ذلك يصل إلى القول بأن تراثنا يضرب عن القصة صفحاً، والسبب عنده هو: «أن بيئة العربي لم تساعده على خلق الأسطورة، فكان قليل القصص لما بين الاثنين من الرابطة. فقد استوطن البوادي المجدبة في بيوت من الشعر، لا يعرف غير الرمال التي لا يحدها بصره، وغير الجمال والضأن التي تتألف منها ثروته. فهذا المحيط لم يخلق فيه التخيل العميق كما هو مع ساكن البقاع الجبلية حيث الغابات والكهوف والحيوانات الكاسرة والطيور الجارحة التي تبعث فيه الخوف والرهبة، مما يدفعه إلى خلق الأسطورة، ليصور بها عواطفه تجاه هذه الأشياء المفزعة.
أما مرجع عدم انتشار الأسطورة فيما تلي ظهور الإسلام فهو أن الأدباء الذين يترجمون الأدب الأجنبي لم يترجموا من الأساطير شيئاً مذكوراً نظراً لأنها كانت سجلاً لذكر الآلهة العديدة، مما خشوا أن يؤثر هذا في عقيدة التوحيد لدى جمهور المسلمين(20).
(5)
يستنطق (شاكر خصباك) في (كتابات مبكرة) عدداً من التجارب القصصية والروائية لمجموعة من الأدباء العرب، ومن منطلقات ثابتة في رؤيته للسرد وآفاق تدارسه وقراءته، ولا سيما من القيم الاجتماعية التي يستند إليها في الغالب على قراءاته، والأحكام المعيارية التي يصدرها عن تلك الأعمال، وإلى توجهات كتابها فهو يعلي من شأنه (محمود تيمور) «لأنه خلق لنا أدباً مستمداً من صميم المجتمع المصري.. أدباً واقعياً لا يمتد بصرك إلى قطعة من قطعة إلا وتشعر أنها تفيض بالحياة وتزخر بالعواطف، عواطف الشعب المصري، على اختلاف طبقاته» (كتابات مبكرة، ص10).
وسيقول عن قصص نجيب محفوظ مثل ذلك، فهي تعجبه لما فيها: «من وصف صادق للطبقة الدنيا البائسة التي تؤلف تسعة أعشار المجتمع المصري... وفيها وصف لما يعانونه من بؤس وشقاء، ولما يقاسونه من متاعب وآلام للحصول على قوتهم. فيها تحليل دقيق لخلجات نفوسهم ولأحاسيسهم وعواطفهم» (كتابات مبكرة، ص21).
ويشيد الكاتب بما قدمه (رئيف خوري) لأنه «عاهد نفسه على خدمة الشعب والنضال من أجله. والإخلاص في الكتابة من أجل ذلك الغرض على الخصوص -دينه وديدنه- لا يخشى دونه وعيد طاغ أو عقاب متجبر» (كتابات مبكرة، ص23) ومن خلال التمسك بهذه الرؤية وقيمها فإنه يأخذ على (سهيل إدريس) انشغاله بتصوير العواطف الجنسية أكثر من سواها: «لاحظت أن معالجة هذه الناحية قد شغلته نوعا ما عن التطرق في قصصه إلى معالجة مشاكل المجتمع الأخرى. ومع أن الناحية التي التزم تحليلها في معظم أقاصيصه ناحية حية.. إلا أني أؤاخذه على هذا الانصراف عن دراسة مشاكل المجتمع الباقية» (كتابات مبكرة، ص40).
تتوازى عند خصباك متطلبات الوعي الاجتماعي لدى الكاتب مع أهمية أن يمتلك مقدرة التحليل النفسي لشخصياته، وإبراز نوازعها الشعورية وانفعالاتها، وهو ما يصبح عنده واحدة من القيم التي يسعى إلى إبرازها في قراءاته، وتحدد مكانة كل أديب من خلال حدود امتلاكه لها . فهو يرى أن لمحمود تيمور مقدرة متميزة على عرض الواقع النفسي للطبقات الكادحة وتحليله (كتابات مبكرة، ص10). وتستوقفه في أدب (نجيب محفوظ) مقدرته على تحليل نفسيات أبطال قصصه بعمق. ولم تكن الأحكام ذات التوجه النفسي عند الكاتب الشاب لتأتي عابرة، وهي تعاود النظر في مجال علم النفس ومدارسه، إن فيها ثقافة واضحة في توجهاتها، ويمكن للمقتبس الآتي أن يفصح عنها جليا يقول الكاتب، وهو بصدد قراءة أحد الأعمال القصصية أنها بنيت «على أحدث النظريات النفسية، وخصوصا نظريات العالم النمساوي الكبير (فرويد) . وهي عبارة عن تشريح لكياننا النفسي الذي يتألف من العقل الظاهر والعقل الباطن ، وتبيان لهذا التناقض والتعقيد الذي ينتج من تصرفاتنا والذي سببه ما يتناوب عقلنا من تيارات يحار في تفسيرها عقلنا الواعي» (كتابات مبكرة، ص89).
(6)
سبقت الإشارة إلى ما يكنه الأديب الشاب من ودِّ وإعجاب لا حدود لهما لأستاذه في الفن القصصي (محمود تيمور) وقد انعكس ذلك جليا في (كتابات مبكرة) الذي حوى ست مقالات -أي ما يتجاوز ثلثه- جاءت مكرسة كلها للحديث عن تيمور وأدبه القصصي والروائي، بل لقد جعل الكاتب من حديثه عن تيمور مفتتح كتابه ومنتهاه، فاستهل أولى مقالاته بالحديث عنه لتقف آخر المقالات عنده أيضا.
لقد تجاوزت كتابات خصباك عن أستاذه حدود التبجيل والإشادة ودلفت إلى حيث تكون قصص تيمور مجالاً لممارسة تطبيقية يؤكد من خلالها مجمل الأفكار والتصورات التي أفصح عنها وعيه في مقالاته هذه. عبر مداخلات جادة مع فكر تيمور النقدي التي يرى أن تيمور جدير بها، حتى ليذهب خصباك وفي أكثر من مقالة للدفاع عن تيمور في منجزه ومواقفه، منتهيا عند القول: «إن تيمور عبقري من عباقرة القصة لا يدانيه في ميدانها أي قصصي عربي آخر» (كتابات مبكرة، ص99)، لأن قصصه «صور خالصة عن المجتمع المصري، مخطوطة بريشة فنان» (كتابات مبكرة، ص10)، ولأنه يمتلك براعة لا تجارى في الكشف عن خبايا النفس البشرية في مختلف حالاتها، مما يدعونا إلى الاعتقاد أنه قد درس علم النفس دراسة مستفيضة» (كتابات مبكرة، ص13). ولا يفوت الأديب الشاب الرد على أولئك الذين يرونه مبالغا في حديثه عن تيمور فيقول: «والواقع أنني لم أعجب بتيمور بمجرد قراءة كتاب أو كتابين له... بل أقبلت على مؤلفاته أشبعها درساً وتمحيصاً. ثم خرجت بعد تلك الدراسة برأي نهائي هو أن الأستاذ تيمور رسول من رسل الإنسانية ووطني يناضل في سبيل إسعاد شعبه وأمته»(21).

في الختام:
لم تكن (كتابات) شاكر خصباك (المبكرة) التي استوقفتنا في هذه الملاحقة القرائية نتاجا لمزاج شاب مندفع تمكنت منه نرجسيته فسولت له مجاراة الكبار من الكتاب والأدباء، إنها قراءات ناضجة -وفي أكثر من مجال- مؤسسة على وعي سليم، وطاقة في التأمل بيّنة، وأفق متمكن من التحليل واستنباط النتائج الموضوعية، حتى ليظل التساؤل مشغولا بدهشته عن الكيفيات التي حققت لذلك الأدب الشاب أن يتحصل هذا الذي تحصله كله، وحتى لتترك باب التردد مشرعاً في قبول تلك التأكيدات الموثقة عن عمر كاتبها، لتذهب إلى إضفاء مساحة أكبر من السنوات، كتلك التي مرت على خاطر الدكتور (علي جواد الطاهر) حين سأل أحد الأدباء الذين قرأوا أدب خصباك عن عمره، فقال إنه لا يقل عن الأربعين!(22).
لقد كان وعي خصباك المبكر ذات توقد حصيف وهو يتأمل أفق الاشتغال الذاهب إليه في قراءاته، ابتداء من إدراكه لطبيعة المكابدات والعناء الذهني الذي يعايشـه الكاتب -أي كاتب- حين يقدم صنيعه المعرفي، وهو موقف لا يكاد يدرك مواطن الجهد والمشقة فيه إلا من وطّن نفسه عند معاناته، كمثل أدبينا الشاب الذي يصدح بهذه الحقيقة وفي وجه أحدهم قائلا: «رويدك.. أتظن أن من السهولة بمكان أن تهدم بجرة من قلمك الجريء جهودا بذلها المؤلفون قد تستغرق أحيانا الأعوام الطوال لإخراج كتبهم إلى حيز الوجود؟ أم تظن أن التأليف لعبة من السهل تحطيمها بخبطة من هراوة غليظة؟! لا يا سيدي... عليك وأنت تقرأ الكتاب أن تقدر له ما يناسبه من الجهد الذي بذله المؤلف في تأليفه» (كتابات مبكرة، ص95).
أما حين تكون تلك الكتابة في مناط الممارسة النقدية فإن ذلك -وطبقاً لتيقن الأديب الشاب- يستدعي اشتراطات أكثر صرامة. إن «مهمة الناقد مهمة خطيرة، إذ عليه أن يضع الكتاب في ميزان الحق والعدالة وعلى ضوء ذلك يصدر أحكامه بعد مراجعتها مرات ومرات، ليثق من صدقها ومطابقتها للحق والواقع، وبذلك يكون قد أدى ما عليه من واجب تجاه الأمانة الأدبية» (كتابات مبكرة، ص56).
ومن خلال ذلك الوعي يقدم خصباك قراءاته الناقدة في مثابرة شابة متوقدة الحماس، ومزودة بمقدرة عالية من المحاججة والسجال الموضوعي الذي تدعمه مساحة جادة من المثافقة والقراءات التي عززت ثقته بما توافرت عليه شخصيته من الإمكانات حدّ الاعتداد الباذخ بذلك وتوطين الوعي عليه، ليؤسس لواحدة من سمات شخصية الدكتور شاكر خصباك التي ستلازمها في مراحلها اللاحقة وحتى وقتنا الراهن: الابتعاد المطلق عن المجاملة، والصداح بقناعاتها من دون أية مهادنة أو رغبة في كسب الأخر وإرضائه(23).
لقد أسس ذلك الأديب الشاب قراءاته على رؤية واقعية مستمدة من تأملات دائبة وقراءات في مجال الفكر الاجتماعي وكشوفاته فكان انتماؤه الواضح إلى فلسفته ومسعاه الجاد إلى تمثلها في مجمل التصورات القرائية التي قدمها.
أما الوجهة الفنية التي تمثلتها تلك الكتابات فإنها تشير إلى مقدرة ناقد واضح الشخصية متمكن من لغته في تخيّرها اللفظي وما تتداول من مقومات الأسلوب الكتابي، الذي امتاز بالتكثيف والانسجام والاقتصاد اللغوي. فمع أن كل مقالة -على محدودية صفحات بعضها- هي سلسلة متراصة من الأفكار والمجادلات إلا أن كاتبها كان يستخدم لها أقل كلفة لفظية، ليوردها بعبارات موجزة، ولكنها شديدة الدلالة على ما تذهب إليه وهي سمة سيتمثلها شاكر خصباك في كل كتاباته الإبداعية والأدبية اللاحقة.
وأخيراً... فإن وجهة تربوية نبيلة هي تلك التي تعكسها تجربة خصباك الأدبية والقرائية المبكرة، من خلال ما تضعه بين أيدينا من أفق في التنشئة والتثقيف الذاتي والدأب المعرفي الذي ينبغي جعله مثالاً يحتذى من قبل الأجيال الواعدة، ولا سيما أولئك الأدباء الذين يضعون أقدامهم على أولى مدارج تكوين الشخصية الأدبية في مسعى أن يكون لهم شأنهم في قابل الأيام.
هوامش:

شاكر خصباك: أصالة المعنى ودقة العلم
□ أ. د. أحمد شجاع الدين
يسعدني ويشرفني أن ألقي هذه الكلمة باسم المجلس التنفيذي للجمعية الجغرافية اليمنية الذي كان للأستاذ الدكتور/ شاكر خصباك دور كبير في تأسيس الجمعية والمشاركة في مؤتمراتها المختلفة منذ التأسيس وحتى اليوم.
نحتفل اليوم بتكريم الأستاذ الدكتور/ شاكر خصباك فله مني ومن جميع الجغرافيين اليمنيين جزيل الشكر وعظيم الامتنان على الجهود الطيبة التي بذلها منذ أن وطئت قدماه اليمن وحتى هذه اللحظة.
إن للحديث شجوناً عن إنجازات الدكتور العلمية ونشاطاته في مجال الجغرافيا والأدب. وأي شجون أعمق وأولى ونحن في هذا اليوم نكرم علماً من أعلام الجغرافيا من اليقين، والمثير -في الوقت نفسه- للدهشة والإعجاب معاً أن الدكتور/ شاكر بدأ ينشر مقالاته وهو ابن السادسة عشرة والسابعة عشرة من عمره عندما كان تلميذاً في المرحلة الإعدادية وعلى أعتاب المرحلة الثانوية. وكان لتلك المقالات التي كان ينشرها قيمتها وأيضاً إثارتها للعديد من المواضيع الهامة آنذاك.
إننا -الجغرافيين اليمنيين- ندرك تمام الإدراك، أننا لا نستطيع أن نعاقب من تخلف من بعض الجغرافيين عن التعمق في تخصصه بسبب عدم قدرته على المتابعة لكل جديد في مجال تخصصه الدقيق، وعلينا أن نعتبر الأستاذ الدكتور/ شاكر خصباك قدوة لنا على العمل والمثابرة والجد والإخلاص في مجال علم الجغرافيا. وكان قدوة لنا كجغرافيين يمنيين في الصدق مع النفس وفي تعامله اليومي معنا منذ أن تعرفنا عليه وحتى اليوم. وما زال مستمراً في جهوده الكبيرة لتطوير علم الجغرافيا.
لقد بذل الدكتور شاكر خصباك -وما زال- جهداً عظيماً لتطوير علم الجغرافيا ورفده بالجديد سواءَ من خلال التأليف أو الترجمات لأفضل الكتب لعلماء الجغرافيا، حيث ألف أكثر من عشرة كتب وترجم ثلاثة عشر كتاباً هي من أفضل الكتب لعلماء أجلاء في علمهم وعطائهم العلمي الكبير في مجال الجغرافيا. وهذا ما يفرض على الجغرافيين اليمنيين أن يقتدوا به من حيث الصبر والمثابرة والاجتهاد ونكران الذات في سبيل العلم. لقد كانت مهمة الأستاذ الدكتور/ شاكر خصباك ولا زالت وستستمر بإذن الله بقسم الجغرافيا بجامعة صنعاء كبيرة وعظيمة في مجال البحث العلمي والترجمات لأمهات الكتب في علم الجغرافيا، بجانب التدريس المتميز لأبنائنا الذين يلتحقون في قسم الجغرافيا. وكان لهم وما زال القدوة في الالتزام بمواعيد المحاضرات وفي العطاء العلمي للطلاب.
لقد اعتمد بنقل علمه الغزير لأبنائنا على التفكير الجاد والمزيد من المعرفة في مجال علم الجغرافيا بعيداً عن التلقين وأعطى -وما زال- أهمية كبيرة لعملية الإبداع العلمي والفكري لدى الطلاب. وهو يعمل دوماً على بث معارفه العلمية بين الجغرافيين اليمنيين والعرب، وله إسهاماته المتعددة في المدارس الجغرافية الأجنبية المتميزة وهذه الإسهامات والإبداعات شكلت وما زالت نبراساً للأجيال القادمة.
إننا نقول وبكل ثقة واطمئنان أن العديد من مؤلفات الأستاذ الدكتور/ شاكر خصباك في مجال الجغرافيا قد تجاوزت ترديد النظريات ومقولات الآخرين وأعطى جل وقته للإضافات العلمية الجادة وبذل الجهد في سبيل البحث العلمي الجاد، وعمل على التجديد وأخذ هذا الجهد العلمي الذي بذله -وما زال- حيزاً متميزاً لدى العلماء الجغرافيين العرب ومحل تقدير وعرفان بجهوده المتواصلة لدى الجغرافيين اليمنيين والعرب أيضاً وغيرهم وما إصدار الموسوعة الإبداعية بثمانية مجلدات أخيراً عن إنتاجه الأدبي في مجال الأدب إلا خير دليل على ذلك.
لقد حرص الأستاذ الدكتور شاكر خصباك خلال السنوات الماضية على تزويدي بأي إصدار من إصداراته الأدبية بجانب كتبه الجغرافية. وكنت أحرص على قراءتها وتمكنت من تكوين بعض الانطباعات عن إنتاجه الإبداعي في مجال الأدب. وأحب أن أعطي انطباعي في هذا اليوم ومركز البحوث والدراسات اليمنية برئاسة الأستاذ الدكتور/ عبد العزيز المقالح أطال الله بعمره وأبقاه لنا ذخراً للعلم والمعرفة يكرم الأستاذ الدكتور/ شاكر خصباك لعطاءاته العلمية والإبداعية. وإنني لأجد من الضروري أن أضع انطباعي عن كتاباته الأدبية ولو أنها بعيدة عن تخصصي في علم السكان ولكن من الإنصاف أن أقول:
تتميز كتابات الدكتور شاكر الأدبية بأنها غير معقدة وواضحة العبارة ومفرداتها مألوفة ولها أيضاً جزالة العبارة وأصالة المعنى ودقة التحليل. فمن خلال قراءتي لإنتاجاته الأدبية أستطيع القول أنه يحب وطنه ويحب أن يشاركه في كل الأوقات في السراء والضراء لا يكتب إلا من أجل مصلحة الأغلبية من أبناء الشعب العراقي لأنه منهم ولهم وأعماله الأدبية مليئة ومفعمة بالإنسانية الحقة والعدالة الاجتماعية والسعي وراء الحق والخير.
لقد وجدت في كتاباته الأدبية بساطةً وجرأةً ووضوحاً. وهو لا يكرر نفسه ويقدم في كل قصة شيئاً جديداً. كذلك وجدت في إنتاجه الأدبي دقة التعبير واليسر في الفهم والإدراك ولا يبالغ في سرده للحدث بلا إسهاب أو حشو ولا يدخل الجمل غير المبررة. هنالك بعض الأسماء من الشخصيات العلمية أو السياسية تغيب عن وطنها ردحاً من الزمن ولكن أعمالها العلمية وإبداعاتها تبقى مضيئة في الذاكرة وهم خارج الوطن ومنهم الدكتور شاكر خصباك.
أقول للدكتور شاكر أنت كالنبتة التي ترفض العيش في الأرض الوعرة لذا نراك هائماً وقلقاً دائم البحث والاطلاع غير مستقر. لقد استطعت أن تجمع بين الأدب والجغرافيا ولم تضل طريقك عندما اخترت اليمن للعيش مع أبنائها. لم تمنعك اليمن التي أحببتها وأحبك أبناؤها من الخوض في غمار الكتابات في علم الجغرافيا وترجمة أهم الكتب التي صدرت من علماء مشهود لهم في نظرياتهم وآرائهم العلمية حول مختلف فروع علم الجغرافيا وتميزت ترجماتك بالغزارة والتنوع. بهذا عملت ولا زلت وستظل بإذن الله تعالى تعمل في مجال الجغرافيا والأدب، وستستمر باختيارك للمفردة الدقيقة في كتاباتك بعلم الجغرافيا وكذلك الأدبية.
لقد تجاوزت ترديد قشور العلم وارتفعت مكانتك العلمية بالإنتاج العلمي والإبداع الخلاق، وما هذا التكريم من قبل مركز البحوث والدراسات اليمنية ممثلاً بالأستاذ الدكتور/ عبد العزيز المقالح إلا خير دليل على ذلك.
أعطيت البحث العلمي والإبداع جل اهتمامك بعيداً بقدر المستطاع عن التجيير السياسي من أجل مستقبل مشرق للأجيال القادمة وعملت على رفع مكانة علم الجغرافيا بين مختلف العلوم الإنسانية.
لقد استفدت من تجارب علماء الجغرافيا المشهود لهم بالإبداع والعطاء. وعملت منذ أن كنت طالباً وحتى اليوم في مجال علم الجغرافيا والإبداع الأدبي. واليوم ومركز البحوث والدراسات اليمنية يكرمك على إبداعاتك وإخلاصك للعلم والمعرفة أحب أن أؤكد لك.. لقد أحبك طلابك وزملاؤك في قسم الجغرافيا بكلية الآداب بجامعة صنعاء. حرصت منذ التحاقك بقسم الجغرافيا أن تؤكد التزامك الدائم بموعد عطائك للمحاضرات وصدقك وجديتك عندما تشرف على رسائل الماجستير والدكتوراه وحضورك المنتظم لاجتماعات قسم الجغرافيا وعلاقتك المتميزة مع زملائك في القسم. لقد كنت وما زالت تشكل لنا جميعاً نحن الجغرافيين القدوة الحسنة في العمل والالتزام وأثبت من خلال هذه المناقب العظيمة أن مهمة التدريس في الجامعات رسالة عظيمة وهي رسالة العلم والمعرفة والقدوة الحسنة للآخرين.
إنني أؤكد اليوم ومركز البحوث والدراسات اليمنية برئاسة الأستاذ الدكتور/ عبد العزيز المقالح وكل الأوفياء لك أن تكريمك هو تتويج لعطاءاتك العلمية ومثابرتك وإخلاصك. وأقول أنه مهما قلنا عنك ووصفناك بأخلاق العالم المخلص لعلمه المتزن في مواقفه الحريص على الإبداع فلن تمنحك حقك. لقد كنت ولا زلت فارس الرهان لجميع الجغرافيين اليمنيين بصفة خاصة وعملت على تطوير علم الجغرافيا وما زلت.
إن تكريم مركز البحوث والدراسات اليمنية للأستاذ الدكتور/ شاكر خصباك يعتبر عرفاناً من قيادة المركز برئاسة الأستاذ الدكتور/ عبد العزيز المقالح وتقديراً لرجل ثابر على العلم والمعرفة ومثّل القدوة الحسنة في السلوك وأخلص لأمته وأهله وشكل لنا الجغرافيين اليمنيين القدوة في العطاء العلمي والمثابرة على العلم والمعرفة وأعطى لنا المثل الذي نقتدي به في الجد والعمل والإخلاص والصدق مع النفس ومع الآخرين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،


بساطة ووضوح وجرأة وروعة من نوع آخر
□ من مقال للبروفسور/ شوشن شيان - الصين

يا أستاذي.. إنك كاتب وطني مخلص تحب وطنك العزيز.. تحب الشعب.. تحب أن تشاركه في السراء والضراء وفي كل زمان ومكان. لا تكتب ولا تعمل إلا من أجل مصلحة الأغلبية الساحقة من الشعب لأنك منهم ولهم. وأعمالك الأدبية كلها مليئة ومفعمة بالإنسانية الحقة والعدالة الاجتماعية والسعي وراء الحق والجمال والخير. ففي هذه الناحية تذكرت أعمال جبران خليل جبران وبعض معارفه الذين كانوا في أميركا الشمالية. هؤلاء الفحول أبدعوا بأسلوب رومانتيكي حيناً وبأسلوب واقعي حيناً آخر، ففي أسلوبهم زخارف وزينات. ولكنك أنت يا أستاذ كتبت وستظل في الإبداع بأسلوب واقعي اجتماعي. ففي كتابتكم بساطة ووضوح وجرأة وروعة من نوع آخر تميّزكم عن الكتّاب الآخرين. فإن لم أخطئ أنت تحاول أن تكشف العيوب والنواقص والمظالم في المجتمع عبر ما يسمى بالشخصيات (الصغيرة) المسكينة. وفي الحقيقة إن الشخصيات الصغيرة قد تصبح قوة جبّارة في المجتمع لا يستهان بها وتدفع عجلة التاريخ إلى الأمام وذلك إذا ما سنحت لها فرصة وصلحت لها الظروف.

ذكريات أدبية(*)
□ محمد حسين هيثم

تعتبر المذكرات من أمتع الكتب لما تتضمنه من زخم إنساني وتجارب حية معاشة تعكس غنى الحياة الإنسانية وتنوعها، وتشكل مذكرات المفكرين والأدباء الجانب الأكثر غنى وأهمية لما جبل عليه من قدرة على النفاذ إلى النفوس وكشف كوامنها وتحليل معطيات الحياة في قالب أدبي شائق، وتمثل (أيام) طه حسين قطعة أدبية خالدة من أسمى ما كتب في المذكرات وتعتبر المذكرات فناً راسخاً في الأدب العالمي وخاصة في أوربا وأمريكا وذلك لتوفر مناخات الحرية التي تتيح قول كل شيء.. بينما في الثقافة العربية لا زالت الكوابح و(التابوات) تحول دون ترسخ هذا الفن الراقي، وإن كنا نشهد تململاً هنا أو هناك وبشكل هامشي، ومع ذلك فقد شهدنا في العقدين الأخيرين حضوراً لافتاً للمذكرات بأشكال مختلفة وإن كانت في الغالب محكومة بتلك الكوابح و(التابوات)..
من المذكرات التي صدرت أخيراً كتاب (ذكريات أدبية لأستاذنا الأديب الكبير شاكر خصباك)..
وقد صدر الكتاب عن (مركز عبادي للدراسات والنشر) بصنعاء الذي يتولى إصدار الأعمال الكاملة للأستاذ خصباك..
وتحتل (ذكريات أدبية) الموقع الثامن في سلسلة الأعمال الكاملة التي بلغت 15 كتاباً حتى الآن وما زالت الأعمال تترى.
وأذكر أنني قبل سنوات أجريت حواراً طويلاً مع الأستاذ خصباك. أذهلني خلاله باتساع علاقاته وارتباطاته ومراسلاته مع أجيال مختلفة من الأدباء العرب منذ الأربعينات وحتى اليوم وكان شاهداً على كثير من الأحداث والتحولات الثقافية خلال نصف قرن تقريباً وكم تمنيت عليه أن ينشر مذكراته ومراسلاته، فأخبرني بفقدان جزء من المراسلات عند حريق بيته في بغداد غير أنه بصدد إصدار كتاب عن ذكرياته الأدبية.. وكان ذلك الكتاب الذي نحن بصدده الآن.
يركز الكتاب على مرحلة التشكل الأولى وعلى فترة الدراسة الجامعية في القاهرة في أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات، وعرج قليلاً على الخمسينات والستينات وكان يشير إلى السبعينات والثمانينات كنوع من المقارنات مع زمن الكتاب الأساس وهي الأربعينات والخمسينات..
والكتاب ليس سيرة حياتية أو أدبية، حيث أننا نفتقد فيه إلى تفاصيل كثيرة عن حياته وسيرته الأدبية بقدر ما هو مخلص لعنوانه أي ذكريات أدبية جاءت بصورة مكثفة وأشبه ما تكون بصور قلمية على أهم وأخطر الشخصيات الثقافية التي طبعت الثقافة العربية بطابعها الخاص، والتي كان على تماس مباشر معها، ومن هذه الشخصيات طه حسين، وعباس العقاد، وساطع الحصري، وتوفيق الحكيم، وعلي جواد الطاهر، ومحمود تيمور، وسلامة موسى، وعادل كامل، ونجيب محفوظ، وعلي أحمد باكثير، وعبد الحميد جودت السحار، ومحمد عبد الحليم عبد الله، ويوسف السباعي، وأحمد حسن الزيّات، وفؤاد التكرلي، ومحمود أمين العالم، وعبد الرحمن الشرقاوي، وأحمد عباس صالح، وغائب طعمة فرحان، ونعمان عاشور، وفتحي غانم، وآخرين..
وكثير من هؤلاء كانوا في بداياتهم في أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات. وقد أسهم كاتب الذكريات في التبشير بواحد من أهم هؤلاء وأعني نجيب محفوظ حيث كتب عنه.. ولنقرأ ما كتبه خصباك؛ في ذكرياته عن محفوظ:
«وأن معرفتنا تعود إلى 1947م وكنت قد كتبت يومذاك عن كتبه.. بل إنني كتبت يوماً دراسة عن أدبه وتنبأت له بمستقبل عظيم في دنيا الرواية العربية ولم يكن قد نال شهرة واسعة بعد، ونعيت على النقاد الكبار عدم اهتمامهم بأدبه» والجدير بالذكر أن الأستاذ خصباك نشر دراسته تلك في كتابه (كتابات مبكرة) المنشورة ضمن سلسلة الأعمال الكاملة..
وتحمل الذكريات الأدبية كثيراً من التقييمات الأدبية المنثورة هنا وهناك حول هذا الأديب أو ذاك.. ومن ذلك ما قاله حول أدب نجيب محفوظ.. والحقيقة أن روايات نجيب محفوظ في رأيي عنيت بالجوانب الفكرية، وعلى نحو الخصوص الفلسفية منها، أكثر من عنايتها بالجوانب الفنية المحضة.
فلغته مثلاً، وما يتعلق بها من جوانب فنية، لم ترتفع أبداً إلى المستوى المطلوب من كاتب كبير، ويمكن القول عموماً أنها (متوسطة) ثم يستطرد ليصل بالنتيجة إلى ما يناقض تقييمه السابق فيقول: «وأنا واثق أنه كان باستطاعته أن يرتفع بها لو شاء، لكنه كما يبدو لم يكن يجد ضرورة لذلك وذلك لأنه شغل دائماً بالجوانب الفلسفية في أدبه، وهذه حقيقة لا تذكر كثيراً عند الحديث عن أدب نجيب محفوظ.. فلقد عالج مواضيعه الفلسفية ببساطة شديدة ومزجها مع مجريات الحياة اليومية، فلم تبد مشاكل فلسفية عويصة تمس أعماق الإنسان وصلته بالكون من حوله».
أليس هذا هو الفن بعينه، ألم يكن ذلك هو الإنجاز الفني الحقيقي لنجيب محفوظ الذي كرسه كأهم روائي عربي معاصر.. ثم إن الجوانب الفلسفية وبخاصة الميتافيزيقة موضوع اهتمام النقاد وقد كرس لها الناقد جورج طرابيشي كتاباً شهيراً شديد الأهمية عنوانه (الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية).
نسيت أن أشير منذ البداية إلى أن خطاب الكتاب يجري على شكل حوار بين باحث شاب وأديب شيخ وتشكل أسئلة الشاب محفزات للذاكرة لاستعادة مخزونها مما جعل الكتاب يبدو على شكل صور قلمية عن الشخصيات المذكورة، وساعد على القفز والتنقل بين الفترات التاريخية والتداخل بين الأزمنة، وكان حديثه عند الطفولة ومصادرها الثقافية غنياً وخاصة عند حديثه عن أدب الطفل عند كامل كيلاني وسلسلته الشهيرة المكتبة الخضراء التي أسهمت وتسهم حتى اليوم في صياغة وعي الأطفال في عالمنا العربي منذ الثلاثينات.. كما توقف عند تجربة مجلة (الرواية) المصرية التي كان يصدرها الزيات في الثلاثينات، وقبلها مجلة (سمير التلميذ) التي كانت أول احتكاك لأستاذنا بعالم الأدب والقصة، وكان قد بدأ يقرؤها منذ الصف الثالث ابتدائي أي في منتصف أواخر الثلاثينات..
وخلال رحلة الطفولة يقف أديبنا معلقاً على أدب الطفل في الوقت الراهن مختزلاً مرحلة هائلة بين كامل كيلاني وسليمان عيسى فيقول بعد أن يستعرض تجربة كيلاني: «ولم يلتفت أدباؤنا إلى هذا النوع من الأدب ويأخذونه مأخذ الجد وعني به مؤخراً أحد شعرائنا الكبار هو الأستاذ سليمان العيسى..».
وربما بسبب أسفار أستاذنا وإقامته الكثيرة خارج الوطن العربي لم تتح له فرصة متابعة التطورات الهائلة في مجال العناية بأدب الطفل.
فقد كرس عدد من الأدباء البارزين جانباً من أدبهم للطفل ونذكر على سبيل المثال زكريا تامر وصنع الله إبراهيم وبيان الصفدي وعبد التواب ويوسف وسمير عبد الباقي كما تخصصت دور خاصة ومؤسسات رسمية في أدب الطفل مثل (دار الفتى العربي)..
أخيراً نقول أن كتاب (ذكريات أدبية) إضافة مهمة إلى المكتبة العربية، ونأمل أن يعززها أستاذنا الكبير شاكر خصباك بمذكراته ومراسلاته..


تحية إلى الأستاذ شاكر خصباك(*)
□ أ. د. أبو بكر السقاف
بالرغم من المسافة المتخيلة بين الجغرافيا بما هي علم، وبين الفلسفة، فإن علاقة الأستاذ شاكر بقسم الفلسفة، ومنذ سنوات طويلة، قوية. وربما يمكن عزو ذلك إلى أنه كاتب قصة ومترجم وكتب تأملات في الحرية والاستبداد. ولكن الأمر في وجه من وجوهه لا يخلو من تلك الصلة الوثيقة المستبطنة بين العلوم الاجتماعية كافة. فهي تدور على قضايا ومشكلات يقع في محاورها هذا الكائن اللغز المفتوح: الإنسان. كما أن الجغرافية الثقافية، وهو الفرع الأجد، في القلب من الفلسفة والاجتماع والعمارة والسينما.
قبل أيام ترك زميلنا الإشراف على مجلة كلية الآداب بجامعة صنعاء، وهو عمل قام به على أفضل وجه نحو ربع قرن، فأدار شؤونها باقتدار وإخلاص، حتى أننا كثيراً ما ظننا أنه لولا جهوده لما تمكنت من الصدور.
في سيرة شاكر تجارب أدبية وفكرية مهمة، فهو من القلائل الذين تحدثوا منذ خمسينات القرن الماضي عن أهمية وفرادة تجربة الراحل نجيب محفوظ في الكتابة، فكان بين الأوائل الذين احتفوا بالظاهرة الجديدة في وقت مبكر.
أما آخر ما قدمه للمكتبة العربية مترجماً عن الإنكليزية، فهما كتابان أساسيان في علوم الجغرافية: (مستقبل الجغرافية) مجموعة من الأساتذة، بإشراف ج. جنستون، إصدار جامعة عدن 2005، والتحليل الموقعي في الجغرافية البشرية، تأليف بيترها غنيت، منشورات جامعة إب، 2006.
بدأ النشر العلمي بكتاب (الكرد والمسألة الكردية) 1959، فكان استهلالاً بقضية عادلة لشعب شجاع. وعدد كتبه المؤلفة لا يعادل عدد كتبه المترجمة، فالأولى تسعة كتب والثانية عشرة، وفي المجموعة الأولى كتابه (الجغرافية عند العرب).
حياة الزميل العزيز العلمية جديرة بالتقدير والإعجاب، وهو واحد من الإخوة العراقيين الذين كانوا ولا يزالون يشاركون في صوغ تجربة تآخ علمية هامة بين أبناء الجزيرة العربية وأهل العراق، المثخن اليوم بالجراح والآلام بالغزو الإمبريالي، عراقنا الذي يستعصي على إعادة استعماره. إن كل الذين يقدرون الأستاذ شاكر سعداء بوجوده في كلية الآداب.


شاكر خصباك مثقف عراقي(*)
جسر بين العرب والأكراد
□ البروفسورة الدكتورة/ ميرالا غاليتي
الأستاذة في جامعة نابولي - إيطاليا
قام بترجمتها عن الإيطالية المستشرق الإيطالي/ سرجيو روسّو
بناء على توجيهات صديقي البروفسور جيو دونيني Gio Donini وهو من العلماء النادرين المعنيين بدراسة الأقليات في العالم العربي، والذي اقترح عليّ أن أقوم بهذه الدراسة عن الإنتاج الفكري للدكتور شاكر خصباك والذي تتوزع كتاباته بين الأدب وعلوم الجغرافية، ولكنه تميّز على نحو الخصوص بأبحاثه عن عالم الأكراد.
ويتميز العراق ببنية عرقية ودينية معقدة، ففيما بين 55 إلى 60% من سكانه هم عرب ومن الطائفة الشيعية، وهم يتركزون في الجنوب والوسط، وفيما بين 16 إلى 20% هم من العرب السنّة ويتركزون في بغداد والغرب والشمال، وفيما بين 20 إلى 25% من الأكراد ويتركزون في المنطقة الجبلية في الجهة الشرقية والشمالية الشرقية، وهم ينتمون إلى الطائفة السنيّة أيضاً. وهناك حوالي 3% من مجموع سكان العراق مسيحيون يتألفون من الآشوريين والكدانيين (وقد قدّر عددهم بحوالي ستمائة وخمسين ألف شخص في عام 2000). وهناك أيضاً أقليات أخرى تتألف من التركمان واليزيدية والصابئة والكاكائية. وقد اهتم شاكر خصباك في كتاباته العلمية بموضوع الأقليات ولاسيما الأكراد بعيداً عن النظرة العرقية أو الدينية علماً بأنه من العرب المسلمين، وهو يرفض فكرة الطائفية الدينية من أساسها.
ولد شاكر خصباك في عام 1930 في مدينة (الحلة) الواقعة بجوار (بابل) في وسط العراق. وقد أتمّ دراسته الابتدائية والثانوية في هذه المدينة. وفي سنّ الخامسة عشرة بدأ بالكتابة الأدبية التي اشتملت على القصص القصيرة والكتابة الأدبية النقدية والمقالات الاجتماعية والسياسية والتي نشرت في صحف ومجلات عراقية وكذلك في مجلات عربية معروفة في مصر والعراق كمجلة (الرسالة) المصرية ومجلة (الأديب) اللبنانية، وقد نشرت بعض تلك المقالات فيما بين عام 1945 و1947، وقد اشتمل كتابه المعنون (كتابات مبكرة) والذي نشر في عام 1995 على البعض منها.
ولقد أتم دراسته الجامعية في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة)، في مصر في علم الجغرافية وتخرج عام 1951. أما دراسته للدكتوراه فقد أتمّها في بريطانيا في جامعة (ردينك) حيث نال الدكتوراه في عام 1958 وكان عنوان أطروحة الدكتوراه (أكراد لواء السليمانية، دراسة في الجغرافية الاجتماعية). وقد قام بنشر أطروحته هذه باللغة العربية في عام 1972 تحت عنوان (الأكراد، دراسة جغرافية أثنوغرافية). ولقد أشاد بهذا الكتاب العديد من المختصين الشرقيين والغربيين والأساتذة الأكراد من أعضاء (المجمع الكردي العلمي). وقد تحدث إليّ بعضهم حينما التقيت بهم. وقد أشرت أنا نفسي مراراً إلى أهمية معلوماته في كتاباتي العلمية عن الأكراد واستشهدت بها.
إن حياة هذا المثقف الأكاديمي هي مثال يحتذى للكثيرين من المثقفين العراقيين، أولئك الذين قدروا بأن الأمور ستستقيم في بلدهم بعد ثورة 1958 ضد النظام الملكي وإبداله بالنظام الجمهوري، وأن من الممكن إقامة مجتمع جديد يستند إلى مبادئ العدالة والأخوة والمساواة لأفراد الشعب العراقي جميعاً، ولكنهم أصيبوا فيما بعد بخيبة شديدة.
لقد استرعى شاكر خصباك انتباه النقاد منذ أوائل الخمسينات من القرن العشرين بكتاباته القصصية والنقدية. ولقد تأثرت كتاباته الأدبية -ولاسيما القصصية منها- بالأدب الغربي، وهو واسع الاطلاع عليه عن طريق الترجمات العربية وعن طريق اللغة الإنجليزية التي يتقنها جيداً. وتمتّ كتاباته إلى الكتابات التي تتعاطف مع الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

ويعدّ شاكر خصباك من الجيل العربي الجديد من كتّاب الرواية الذين فضّلوا الاتجاه الواقعي لمعالجة مشاكل مجتمعاتهم، وتحفل كتاباته بالأهداف السياسية والاجتماعية العالية. وقد نال سمعة طيبة واحترام وتقدير بين قراء بلده، ومكانة ثقافية حتى خارج نطاق المثقفين.
لقد نشرت أولى مجموعاته القصصية تحت عنوان (صراع)، وطبعت في القاهرة في مطلع عام 1948. وكانت قصصها قد كتبت فيما بين 1945 و1947. ثم تلتها مجموعة (عهد جديد) التي نشرت في عام 1951 في القاهرة أيضاً. أما مجموعته الثالثة المعنونة (حياة قاسية) فقد نشرت في بغداد في عام 1959، لكن قصصها كانت قد كتبت فيما بين 1952 و1954، وإن تأخر نشرها لغاية عام 1959، وقد أعيد طبعها في عام 1966 في القاهرة. ومن الجدير بالذكر أن الطبعات الأخرى لمجموعة (صراع) قد اشتملت على مقدمة مسهبة للناقد العراقي المشهور الدكتور علي جواد الطاهر، وهو من مواطني مدينته (الحلة)، وقد تحدث فيها عن طفولة خصباك وعن عائلته بتقدير عالٍ.
ولقد لقيت كتاباته المسرحية تقديراً عالياً أيضاً، ولاسيما مسرحيته (الغرباء) 1965 بما اشتملت عليه من دعوة أخلاقية سامية ومواقف شجاعة تميّز بها خصباك منذ كتاباته الأولى.
إن شاكر خصباك يعبّر في كتاباته الأدبية دائماً عن أفكاره السياسية الإصلاحية والتي تؤيد الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية. فهو في كتاباته المسرحية مثلاً يدين نظام الحزب الواحد ويدين الدكتاتورية كما في مسرحيته (الدكتاتور). والواقع أنه يبدو في بعض تلك الكتابات من أنصار المدينة الفاضلة، كما تبدو أفكاره بالنسبة للمجتمعات العربية غير واقعية، وهو يؤكد دائماً على ضرورة تحسين أوضاع الطبقة الفقيرة.
وعلى الرغم من أنه لم ينتمِ إلى حزب معين لكن أفكاره تبدو قريبة من أفكار الحزب الشيوعي. والواقع أن بعض كتاباته المبكرة كانت قد نشرتها مجلة (الثقافة الجديدة) والتي هي إحدى إصدارات الحزب الشيوعي العراقي. ومثال ذلك كتابه عن (أنطون تشيخوف) الذي نشر عام 1954 استجابة لدعوة (منظمة السلام العالمي) للاحتفاء بمرور خمسين عاماً على وفاته. وقد اشتمل هذا الكتاب على دراسة ضافية عن حياة تشيخوف وأدبه وعلى مجموعة من قصصه ومسرحياته القصيرة. ومن كتبه المبكرة أيضاً كتاب (الكرد والمسألة الكردية) الذي نشرته المجلة المذكورة في عام 1959.
لقد بدأت حياة شاكر خصباك الأكاديمية في عام 1958 في جامعة بغداد، لكنه عُزل من الجامعة عام 1963 من قبل نظام البعث الأول وذلك لأسباب سياسية، فذهب للعمل في جامعة الرياض في السعودية فيما بين عام 1963 و1968. وقد أعيد إلى الجامعة في عام 1968، ولكنه أُبعد عنها ثانية في عام 1981 من قبل نظام صدام حسين، فاضطر إلى الهجرة إلى اليمن للتدريس في جامعة صنعاء. وهو يعيش الآن في اليمن منفاه الاختياري، بعيداً عن بلده منذ أواسط الثمانينات من القرن الماضي حتى اليوم.
لقد ارتبطت أهمية شاكر خصباك في العالم الأدبي بالسنوات بين أوائل الخمسينات وعقد الستينات، في حين أن سمعته العلمية ارتبطت بأعوام السبعينات وما بعدها حيث انصرف إلى الكتابات العلمية. وقد بلغت كتبه المؤلفة حوالي عشرة كتب، كما تجاوزت ترجماته في علم الجغرافية العشرة كتب أيضاً. وقد اشتهرت على نحو الخصوص كتاباته الجغرافية الأثنولوجية عن الأكراد. ويبدو أن جهوده الأدبية والتي اشتملت على عدد كبير من الروايات والمسرحيات والكتابات الأدبية الأخرى، والتي نشرت فيما بعد أواسط الثمانينات من القرن العشرين ولغاية الوقت الحاضر، وهي الفترة التي عاشها في اليمن، لم تنل من الاعتراف ما نالته كتاباته الأدبية السابقة بالنظر لأنها نشرت في اليمن. واليمن كما هو معلوم من البلدان التي تعيش في شبه عزلة، وكانت بعيدة عن الثورات الثقافية والسياسية العظمى التي أحاقت بالعالم العربي.
اضطهاد الشعب:
إن أفكاراً من مثل ضرورة مقاومة الظلم الذي يحيق بالشعب والتي تحفل بها كتابات الدكتور خصباك واضحة جداً في روايته (حكايات من بلدتنا) التي صدرت في بيروت في عام 1967. إن هذا العمل يحتوي على عشر حكايات في شكل بنية روائية. والرواية تتحدث عن قصة كفاح شعب ضد النظام الجديد الذي ساد البلاد في زمن لم تحدده الرواية، ولكن يبدو أن المقصود به نظام حزب البعث الذي استولى على الحكم عام 1963. إن أسلوب الرواية يتأرجح بين الواقعية والسريالية، لذلك نجدها حافلة بالمعاني والرموز. ومثال ذلك أن المقصود بكلمة (بلدتنا) العراق نفسه. وأن المقصود بـ(البرابرة الطغاة) الحكّام الجدد الذين عمدوا إلى اضطهاد الشعب. وأن المقصود بـ(شبّان بلدتنا) أعضاء المقاومة السرّية ضد الحكم الجديد. وأن المقصود بـ(حكماء بلدتنا) الانتهازيين والمتخاذلين. وأن المقصود بـ(الطاغية الأكبر) رئيس النظام الجديد. وأن المقصود بـ(البيت فوق التل) مقرّ السلطة الجديدة المتعسفة.
وفي كل حكاية من تلك الحكايات تعرض المعاناة والآلام التي يكابدها الشعب من النظام الجديد بطرق متعددة، كما تعرض ردود فعل الناس تجاه الحكّام الجدد وكفاحهم في سبيل الحرية والخلاص. إن مثل هذه الحكايات تمثل معنى عالمياً ويمكن تطبيقها على كل مجتمع وفي كل زمان.
ومن الجدير بالذكر أن واحداً من أكبر الروائيين الفلسطينيين في ذلك الوقت وهو غسّان كنفاني أطرى على الرواية إطراءً شديداً. وقد أطلق عليها اسم (الرواية الشظية). وقد أبدى تضامنه مع الشعب العراقي الذي سحقه نظام سياسي شديد البطش. وقد قارن بين شعبين سحقهما البطش هما الشعب العراقي والشعب الفلسطيني. واعتبر الرواية بمعناها العام تصوّر المعاناة الفلسطينية تحت الحكم الإسرائيلي. ونظراً لما قاله هذا الكاتب المتميّز عن الرواية فإننا نثبته فيما يلي:

من الذي يجرؤ على القول إن بعض الكتب ليست في الواقع إلا مخالب تنبثق من المجهول تمزق وتجذب وتقلب وتحوّل وتسحق وتنهش وكأن القارئ قد خُطف فجأة إلى عالم من الزلزال لا حدود له؟! أجل بعض الكتب ليست إلا مخالب وثغرات ولعنات تدخل إلى الصميم وإلى الأعماق، تبدو أحياناً وكأنها رسالة شخصية من رجل يعرفك حق المعرفة وكان طوال الأعوام التي مضت يراقبك عن كثب كأنه ضميرك المستتر. وفجأة حين تشعر أنك بمنجى من الحساب تصلك منه رسالة شخصية يفتح داخلها دفتر الحساب من أول صفحاته ويصفعك. هذا ما يمكن أن يوصف به كتاب الدكتور شاكر خصباك (حكايات من بلدتنا). إنه قصة بلدة يعيش شبّانها على انتفاخات الكبرياء والأوهام الأقرب إلى الأحلام. وفجأة يغتصب البرابرة البلدة وراء زئير رشّاشاتهم وينتهكون كل قيمها دون أن يتصدى رجال البلدة عنها إلا عدد ضئيل منهم. ويوماً بعد يوم تمتد مخالب البرابرة لتدمر قيمة وراء قيمة في حياة البلدة. ويحفل السجن الكبير الذي يبنيه الطغاة فوق تلّة تشرف على البلدة بالمعتقلين من شبان البلدة وشاباتها الذين يلاقون داخل جدرانه الغامضة مصائر هي كل شيء إلا العودة إلى البلدة. وتحت سياط وأحذية الاستخذاء تنسحق كرامة البلدة وتزهر في كيانات سكانها زهور الجبن والخوف. ومع غياب كل شمس يحتل البرابرة مساحة جديدة من كبرياء سكان البلدة وأحلامهم وكرامتهم وقيمهم. إن الرجال الذين يسوقهم البرابرة إلى الموت كل يوم في الواقع تكوينات من لحم ودم وهم جزء من كفاءة البلدة على التمسك بقيمها ومطامحها وحريتها. والاسم عند شاكر خصباك ليس هدية شخصية ولكنه قيمة إنسانية ووطنية. ولذلك فحينما يطلق البرابرة رصاص رشاشاتهم على رجل ما فإنهم إنما يغتالون مساحة من تاريخ البلدة ومن مبادئها.
وتمضي الرواية من فصل إلى فصل في عرض عتوّ البرابرة المتزايد أمام تراجع الكرامة المتزايد. وفي مكان ما من الرواية يحسّ القارئ أن شيئاً ما قد انكسر ووصلت الأحداث إلى (ذروة) غريبة هي مفترق مرير بين أن يقبل سكان البلدة مبدأ قبول الطغاة وبين أن يتجاوزوا رفضه إلى مستوى التعبير عن هذا الرفض. ولكن الرواية تتركنا في كلماتها الأخيرة مغلقين على ذلك المنعطف المرّ.. تتركنا؟! كلا، إنها تترك فينا ذلك الوخز العميق الذي يشبه الشظية.
ما الذي حدث في السجن الكبير فوق التلّ؟ حتى متى يظل رجال تلك البلدان يساقون إلى العذاب وإلى الموت أو إلى الخضوع والخوف؟ حتى متى سيظل المنطق الأقوى هو منطق الرشّاش؟ متى سيهزم رجال البلدة المسحوقة أسوار خوفهم وأسوار السجن ويكفّوا عن الاحتماء بملاجئ وهمية يسمونها الانتظار حيناً ورأفة القدر حيناً؟ أية بلدة هذه التي يستكشفها الدكتور شاكر خصباك؟! جغرافياً يبدو أنها العراق.. سياسياً ليست إلا فلسطين.. إنسانياً ليست أبعد من ذلك الصراع المرير الذي يجري داخل مطلق الإنسان.. تاريخياً ليست سوى سؤال فني. ولكن الحقيقة هي أنها كل ذلك معاً.
إن العمل الفني -استطراداً- هو محصلة الفعل وردّة الفعل، فعل العمل الفني ذاته وردة فعل قارئه. في أحيان كثيرة يدخل عنصر ثالث إلى هذه المعادلة المبسطة وهو عنصر (الجو الزماني والمكاني) الذي تجري من خلاله عملية التزاوج بين عملية الفعل وردّة الفعل. بالنسبة لهذه الرواية التي بين أيدينا الآن تتفاعل هذه العناصر الثلاثة باتّساق ممتاز. فبين الفعل وردّة الفعل يوجد عنصر التوقيت الذي يعطي العمل الفني قيمته واستجاباته.
لقد وجّه الدكتور شاكر خصباك مخالب روايته إلى كتلة نفسية حساسة يسهل الغوص فيها وشقّها. هذه الملاحظة ترمي إلى القول بأن الرواية قد تكون محط خلاف في بعض الجوانب، ولكن الحقيقة هي أنه يجب أن نجرؤ على القول بأنه لا يوجد شيء اسمه عمل فني مطلق. لذلك فإن رواية (حكايات من بلدتنا) رواية ناجحة نتيجة لقياس معين ولكنه واقعي وثقيل ولا يمكن تجاهله. فلو نشرت وقرأت عام 1940 لكانت ربما أقلّ قيمة، ولكن حينما تقرأ الآن فإنها ليست أقلّ من كأس من الكحول تفرغ فجأة فوق جرح جديد. وثمة فارق كبير لو أن تلك الكأس دلقت فوق جسد مجروح.
إنها رواية، مخلبٌ، كفٌّ يصفع بشدةٍ، إهانةٌ، دعوةٌ، علامةُ استفهامٍ حادة مثل عقفة السكين. وفي الفصل الأخير منها، حين يضحى (الانتظار) كابوساً معيناً لا قدرة له على الفداء ولا على النوم يشعر القارئ بالدموع تملأ حنجرته، ولكن أيضاً بأن الحكاية الحادية عشرة من حكايات بلدتنا لم تكتب بعد.
مفهوم الديمقراطية:
لنصغ في هذا الموضوع إلى سخرية المؤلف من مفهوم الديمقراطية لدى أحد حكّام العالم الثالث من الدكتاتوريين كما وردت في أحد فصول روايته المعنونة (أوراق رئيس) التي صدرت عام 2000. ورواية (أوراق رئيس) تفتتح باستهلال يخبرنا بأن رئيس حكومة ديكتاتورية يفارق الحياة فتؤلف الحكومة الوريثة لجنة لفحص الأوراق التي خلفها. فتعثر هذه اللجنة على مظروف معنون باسم أحد أصدقائه القدماء وهو (عادل أمين). فتقرر تسليمه إليه، وتنقسم الرواية إلى أربعة عشر فصلاً، وكل فصل منها يحمل عنواناً يوضّح مغزاه، وطبعاً من وجهة نظر الدكتاتور. ومن أمثلتها: (حقوق الشعب، الديمقراطية المزيفة، ثقافتي، اللقاءات الأسبوعية، أحلامي العظيمة..إلخ). وتعرض هذه الفصول جميع أوجه حياة الدكتاتور أثناء حكمه وأفكاره عن الحكم، وآرائه العامة في الحياة، وكذلك أحداث صباه وشبابه التي شاركه فيها صديق طفولته وصباه (عادل أمين). وكانت صداقته مع (عادل أمين) قد انهارت بعد أن تولى السلطة وصار رئيساً للبلاد، وذلك لتباعد أفكارهما حول الأسلوب الذي تحكم به البلاد. ومع ذلك يؤكد لنا الرئيس أنه بالرغم من انقطاع صلته بصديقه (عادل أمين) فقد ظل بينه وبين نفسه أميناً على تلك الصداقة وظل يكنّ لصديقه أعظم الاحترام نظراً لأنه يعتقد بأنه مخلص جداً في آرائه ووطنيته، وكل ما هنالك أن أفكار هذا الصديق لم تعد تتلاءم مع أفكاره. ولذلك حاول الرئيس في هذه الأوراق التي كتبها لنفسه على شكل مذكرات تسجل آراءه في أحداث معينة مرّت بها البلاد والقرارات التي اتخذها بشأنها أن يجد المبررات لتلك القرارات لإقناع صديقه بحسن نواياه.
ولم يكن (عادل أمين) في الحقيقة سوى رمز. فهو يمثل (ضمير) الرئيس الذي كان في يوم من الأيام وطنياً، ويمكننا أن نؤكد هنا أنه يمثل صوته الداخلي. إن هذا الرئيس يمثل أيضاً نموذج رؤساء العالم الثالث ممن يحكمون ضمن أنظمة شمولية ديكتاتورية ويذيقون شعوبهم الويلات. وبما أن الكاتب عراقيّ فيمكننا أن ندرك أن هذا الرئيس ربما يكون صدام حسين، وإن لم يرد أي اسم له على الإطلاق. فبطل الرواية هو (الرئيس) فحسب. وفيما يلي سندرج مقطعاً مطولاً من هذه الرواية بالنظر لأهميته والذي يكشف عن آراء أمثال هؤلاء الطغاة في أسلوب الحكم، وهو الفصل المعنون (الديمقراطية المزيفة).
«ما هي الديمقراطية؟ الديمقراطية هي الحكم لمصلحة الغالية، وهذا ما يلتزم به حزبنا. وأنا أعلم يا عادل أنك لن توافق على أكثر ما سأسجله هنا. فلقد تناقشنا طويلاً في هذا الموضوع في بداية تولّي حزبنا السلطة. وكنت ترفض استئثار حزبنا بالسلطة وتدعو إلى مشاركة الأحزاب الأخرى بالحكم، مع أنك نفسك اعترفت أكثر من مرة خلال نقاشنا أن بعض تلك الأحزاب مشكوك في ولائها للشعب، وأنها محكومة بدوافع من مصالحها الذاتية. وكنت مدفوعاً للتشبث بهذا الرأي بنظرية الأخذ بالديمقراطية بمفهومها الغربي والذي يعترف بتعدد الأحزاب. لكنني أسألك يا عادل: لماذا يجب أن يسمح لتلك الأحزاب المشكوك في صدقها أن تخدع الشعب؟ وما دام حزبنا المنبثق من الشعب قد استطاع الوصول إلى الحكم فلماذا تمنح الفرصة لأعدائه للإطاحة به؟ ومن المؤكد أن حزبنا يهدف إلى الاستجابة لطموحات الشعب، وبالتالي فهو الحزب الذي تتمثل فيه غاية الديمقراطية. وهذا ما كنت أؤكده لك في نقاشاتنا. ولكنك كنت ترفض هذا القول انطلاقاً من إيمانك بالمفهوم الغربي. وكنت أعجب كيف يمكنك التمسك بالمنطق الغربي وأنت تعلم أن الدول الغربية لا تقصد مصلحة بلداننا. أليست هي التي استعمرت بلداننا وامتصت دماءنا ولم يكن يهمها أن يقوم فيها نظام ديمقراطي، بل على العكس كانت تؤيد الحكّام المستبدين ما داموا يستجيبون لمصالحها. وأستطيع القول إن منطق الغربيين هو منطق المنافقين. فلو كانوا يؤمنون بالديمقراطية الحقة ما أيّدوا الحكّام المستبدين في بلداننا الذين كانوا يوالونهم. وحينما كانوا يحكمون بلداننا حكماً مباشراً لم يأخذوا بالديمقراطية بل حكموا حكماً استبدادياً.
ثم أريد أن أسألك يا عادل: من هم دعاة الديمقراطية في بلدنا؟ إنهم الأشخاص الذين يطمعون بالحكم. إنهم أتباع الأحزاب التي لم يتح لها تقلد الحكم. ولو أتيح لهم ذلك، هل كانوا سيطبقون الديمقراطية بمفهومها الحقيقي؟ أبداً. كانوا سيختلقون ألف سبب وسبب للمراوغة والالتفاف على التعددية الحزبية والتشبث بالحكم. وكانوا سيلجؤون إلى ألف حيلة وحيلة للاستئثار بالحكم. بل وربما أجرت تلك الأحزاب انتخابات ودعت مراقبين أجانب للإشراف عليها ثم كسبت في النهاية غالبية أصوات الناخبين بأساليبها الملتوية. وحتى لو أجرت انتخابات ديمقراطية حقيقية فهل تصدق يا عادل أن الفائزين سيكونون الممثلون الحقيقيون للشعب الذين يدافعون عن أبناء الطبقة الفقيرة البائسة؟ أبداً. سيفوز بالانتخابات أصحاب النفوذ الأسري والديني والعشائري وأصحاب رؤوس الأمول الكبيرة من التجار والصناعيين وملاك الأراضي، فبإمكان هؤلاء شراء أصوات الناخبين بنفوذهم المالي والاجتماعي. فأنت تعلم أن جماهير شعبنا لم تبلغ من الوعي السياسي والنضج الثقافي ما يؤهلها لإدراك مصالحها الحقيقية. وعلينا أن نقودها وعليها أن تطيعنا لا أن نطيع رغباتها الفجة وأهواءها الجامحة. فدعوى الأخذ بالديمقراطية الغربية إذن باطلة من أساسها، وينطبق عليها المثل القائل: «كلمة حق أريد بها باطل».
إن الديمقراطية الغربية هي الديمقراطية المزيفة. أما الديمقراطية التي ننعم بها فهي الديمقراطية الحقيقية. فالشعب يختار من أعضاء الحزب من يمثله في مجلس الشعب، ولا يحق لأية فئة مخرّبة أن ترشح نفسها. فأعضاء حزبنا هم المدافعون الحقيقيون عن مصالحه. وإني كما تعلم أحرص كل الحرص على أن ينتفع كل مواطن من حقه الطبيعي في انتخاب ممثله في (مجلس الشعب).. ولست أتساهل مطلقاً مع الذين يتقاعسون عن الإدلاء بأصواتهم وقت الانتخابات. فأي ديمقراطية يمكن أن تكون أفضل من هذه الديمقراطية؟».
الكتابات عن الأكراد:
إن دراسات شاكر خصباك الجغرافية والأثنوغرافية عن الأكراد في غاية الأهمية لأنها -كما أوضح الدكتور كمال مظهر في عام 1987، وهو المؤرخ الكردي المشهور- «فهي أولى المحاولات في الدراسة العلمية المتخصصة عن الأكراد». وفي السبعينات من القرن الماضي اعتبرت هذه الكتابات من قبل (المجمع العلمي الكردي) في بغداد من أكثر الدراسات عن الأكراد أهميةً.
لقد عني الدكتور خصباك في دراساته الجغرافية -الأثنوغرافية بمختلف جوانب حياة الأكرا، السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية. وقد كان هذا الاهتمام محور دراسته للدكتوراه والتي نشرت فيما بعد باللغة العربية تحت عنوان (الأكراد، دراسة جغرافية أثنوغرافية) كما ذكرنا وظهرت في بغداد عام 1972. وكما عبّر الأستاذ شاكر خصباك في مناسبات عديدة أن سبب اهتمامه بدراسة الأكراد -وهو الشخص العربي- ما كان يلقاه الأكراد من إجحاف وعسف وما كانوا يبذلونه من تضحيات جسيمة للحصول على حقوقهم تارةً بالطرق السلمية وتارة عن طريق الحرب. وكان يعتقد دائماً أنهم شعب شجاع ومظلوم في آن واحد.
ولقد كان خصباك أول عربي عراقي نادى بضرورة منح الأكراد حقهم في الحكم الذاتي، وذلك في كتابه المعروف (الكرد والمسألة الكردية) والذي صدر في عام 1959، ومنع من التداول في حينه. ومن الأمور الغريبة أن يظل الكتاب ممنوعاً حتى اليوم. وحينما قامت ثورة عام 1958 ضد النظام الملكي تلقاها الأكراد بحماس معتقدين أنها ستنصفهم. وبالفعل تضمن الدستور المؤقت على البند الثالث الذي يقول: «العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن، وإن الدستور يكفل لهم حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية». والحقيقة أنه لأول مرة في تاريخ الدستور العراقي يذكر الأكراد بكونهم جزءاً من الوحدة العراقية كما يعترف لهم بحقوقهم القومية. وهذه الحقوق القومية لم يسبق أن اعترف بها للأكراد لا في عهد الانتداب البريطاني في العراق ولا في عهد الحكم الملكي، كم لم تعترف بها الدول المجاورة كتركيا وإيران وسورية التي يتواجد فيها الأكراد بأعداد كبيرة.
ولقد أحيت ثورة 1958 الآمال لدى أحرار العراق بأن يقوم نظام في البلاد يعترف بحقوق بقية مواطنيه من الأقليات السياسية والدينية، وأن يعاملوا على قدم المساواة مع المواطنين العرب وأن يقرّ المبدأ بأن العراق بلد متعدد الأعراق والأديان، وأن لكل منها حقوقه التي يكفلها الدستور. لكن تلك الآمال ما لبثت أن انهارت بعد حين وحلّت محلَّها خيبة الأمل. وقد كان شاكر خصباك أحد أولئك الأحرار التي خابت آمالهم. وكان قد حاول منذ بداية عهد الثورة أن يقدم عرضاً علمياً ومحايداً من الأكراد ووضعهم في العراق وعن خصوصيتهم العرقية والدينية وعما قاسوه من مظالم وإجحاف سياسي واقتصادي واجتماعي. وقد حذّر من الوقوع ثانية في أخطاء الماضي تجاه الأكراد. وكان أمراً غريباً كما أرى أن يتولى مثل هذه المهمة شخص مثل شاكر خصباك الذي تربى في مدينة الحلة التي لا يوجد فيها أكراد أصلاً. وكان ينبغي أن يتولى مثل هذه المهمة أشخاص تربّوا في بغداد والموصل ومدن الشمال الأخرى والذين يعايشون الأكراد ويلمسون معاناتهم الحقيقية. فنراه في الطبعة الأولى من كتابه (الكرد والمسألة الكردية) لعام 1959 يصدّره بهذا الإهداء: «إلى إخواننا الأكراد الذين آخانا وإيّاهم تاريخ طويل حافل بالعمل المشترك لتحقيق حياة أفضل، والذين توحدت في الحاضر جهودهم وجهودنا للعيش معاً تحت ظل جمهورية ديمقراطية متحررة تحقق العدالة للجميع. إلى هؤلاء الإخوة الأعزاء أهدي هذا الكتاب راجياً أن يكون لبنة متينة في صرح الاتحاد العربي -الكردي الشامخ- يناير 1959».
أما الطبعة الثانية لهذا الكتاب فترجع إلى عام 1986، وإن مقدمتها ينتابها شيء من الغموض. فهذه الفترة بالذات، ما بين عام 1987-1988، كانت من أقسى الفترات على الكرد، وهي الفترة التي يطلق عليه اسم (فترة الأنفال). فقد دمّرت ما يقرب من 4500 قرية كردية، وقتل ما يقرب من عشرين ألف كردي بالأسلحة الكيمياوية، وهُجِّر ما يقرب من مليون كردي من قراهم، كما زرع حوالي 15 مليون لغم في الأراضي الزراعية الكردية فلم تعد صالحة للزراعة والري. وقد اشتملت المقدمة على الأقوال التالية: «لقد ظل هذا الكتاب محظوراً لفترة طويلة لما جاء فيه من توجه عام لحلّ المشكلة الكردية غير مرض للسلطات المسؤولة يومذاك. ومن المعلوم أنه كان أول كتاب بقلم عربي يطرح حلاً واقعياً للمشكلة الكردية بعيداً عن العاطفة اللامسؤولة. وقد نادى بالاعتراف بالذات الكردية اعترافاً كاملاً، وبمنح المنطقة الكردية الحكم الذاتي. وهو ما اعترف به فيما بعد في أواسط السبعينات لكن هذا الاعتراف لم يطبق تطبيقاً سليماً. وقد كان هدف الكاتب في دعوته المبكرة هذه تجنيب البلاد الخسائر في الأرواح والاقتصاد وتمتين أواصر الأخوة والاتحاد بين القوميتين الرئيسيتين للشعب العراقي وهما العرب والأكراد. لكن صوت العقل ليس هو المطاع دائماً، فكان مصير الكتاب الحظر وحُرم منه الكثيرون من الراغبين في نشدان الحقيقة.
وقد فكرت في إعادة طبع الكتاب استجابة لرغبة العديد من القراء الذين لم تضعف حماستهم للاطلاع عليه بالرغم من مضي وقت طويل على صدوره وبالرغم من قدم بعض معلوماته. والواقع أن جانباً من معلوماته الاقتصاديةوالاجتماعية والسكانية قد تغيّر تغيّراً جوهرياً اليوم، ولم تعد أرقامه تمثل سوى صورة تاريخية، وقد فكرت أولاً في الاستغناء عن مثل تلك الأرقام أو الاستعاضة عنها بأرقام حديثة. غير أنه بدا لي أن المحافظة عليها بشكلها الأصلي قد يكون أكثر نفعاً لما يمكن أن تقدمه من مجال للمقارنة بين أوضاع كردستان العراق في أوائل الخمسينات وأوضاعه في الوقت الحاضر.
وهكذا يمكن القول إن الكتاب إجمالاً قد ينفع القارئ اليوم باعتباره وثيقة تاريخية أكثر من كونه دراسة حديثة للمشكلة- صنعاء 1986».
ولقد اختلفت منهجية المؤلف عن ذلك في المقدمة التي أثبتها في طبعته الثالثة لعام 2000 كما يبدو في السطور التالية: «لقد صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 1959، وكانت المشكلة الكردية يومذاك في العراق ملتهبة على الصعيد السياسي، بل إنها كانت في الحقيقة ملتهبة منذ بداية الحكم الوطني في مقتبل العشرينات من هذا القرن. وقد حاول الكتاب أن يقدّم حلاً عملياً لهذه المشكلة يستند إلى العدل والمنطق والمفهوم الديمقراطي. وكنت ولا أزال أعتقد أن مشاكل البلاد السياسية الداخلية أو الخارجية لا يمكن حلّها إلا بالاستناد إلى مثل هذه المفاهيم. أما الحلول التي تفرض بالوسائل القمعية والعسكرية فلن تنجح، وإن نجحت على الأمد القصير فلابد أن تفشل على المدى البعيد.
ولقد اقترح الكتاب حلّ المشكلة الكردية عن طريق منح الأكراد حقّهم الإنساني في حكم أنفسهم ضمن الجمهورية العراقية، أي منحهم الحكم الذاتي. وأزعم أن هذا الكتاب كان أول كتاب يصدر في اللغة العربية ومن مؤلف عربي، بل وحتى كردي، يقترح هذا الحل. ولكنه رفض من قبل الحكومة يومذاك ولم يعترف بهذا الحق للأكراد، وبصورة شكلية، إلا بعد مرور خمسة عشر عاماً على صدور الكتاب، أي بعد عام 1974 مما أدخل على المشكلة تعقيدات كثيرة فضلاً عن الخسائر الهائلة في الأرواح والأموال.

لقد أثبتت الوقائع ونحن مقبلون على الألفية الثالثة أن محاولات الدول التي يتواجد فيها الأكراد بنسبة عالية من السكان في فرض حلّ عسكري عليهم غير مجدية، وأنه لابد من اللجوء إلى الحلّ الديمقراطي الذي يعترف بحقوقهم الأساسية. فهو الحلّ الوحيد الذي يجنّب الدول المعاناة البشرية والخسائر المادية.. وهذا الحل لا يفكّك أواصر الدولة كما يزعم البعض بل يزيد من متانتها ولحمة شعبها. ولدينا أمثلة كثيرة من الدول العظمى التي تبنت النظام الفدرالي مثل الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وكندا والهند وسويسرا والبرازيل.. إلخ.
وعلى الرغم من مضي ما يقر من أربعين عاماً على صدور الكتاب فما يزال يكتسب أهميته وما يزال يذكر كمرجع أساس في الكتابات التي تدرس المشكلة الكردية.
وفي هذه الطبعة الثالثة -كما هو حال الطبعة الثانية- لم أشأ أن أحدث أي تعديل في الأرقام المتعلقة بالجوانب الاقتصادية أو الاجتماعية لاعتقادي أن الكتاب يمثّل وثيقة تاريخية ولا مبرر للمساس بها. فالمؤلفات الحديثة يمكن أن تتولى مثل هذه المهمة- صنعاء، يناير 2000».
إن إصرار شاكر خصباك على المطالبة بحقوق الأكراد عبر زمن طويل امتد لأكثر من خمسين عاماً، منذ كان شاباً حتى أشرف على الثمانين، قد أتى أخيراً بثماره بعد سقوط النظام السابق ، والبدء بعهد جديد في البلاد. فقد اعترف الدستور المؤقت بحقوق الأكراد كاملة، بل وسمح لهم بمشاركة فعالة في الوزارات السيادية، وانتخب لرئاسة الجمهورية شخصية كردية سياسية معروفة طالما ناضلت في سبيل ضمان حقوق الأكراد.

المراجع:
الكتابات الأدبية:
نورد فيما يلي قائمة بعناوين ستة وعشرين من الكتابات الأدبية التي نشرها المؤلف بواسطة دار مركز عبادي للدراسات والنشر. وتشتمل هذه القائمة على مسرحيات وروايات وقصص ومقالات أدبية. ولقد نشرت بعض هذه الكتب من قبل في بغداد والقاهرة وبيروت:
1- حكايات من بلدتنا- رواية، طبعة بيروت 1967، وطبعة صنعاء عام 2001.
2- الدكتاتور - مسرحية، صنعاء 1995.
3- كتابات مبكرة، صنعاء 1995.
4- صراع - مجموعة قصص، القاهرة 1948.
5- عهد جديد - مجموعة قصص، القاهرة 1951.
6- حياة قاسية - مجموعة قصص، بغداد 1959.
7- السؤال - رواية، بيروت 1966.
8- ذكريات أدبية - سيرة حياة، صنعاء 1996.
9- التركة والجدار - مسرحيتان، 1996.
10- هيلة - رواية، صنعاء 1996.
11- الغرباء - مسرحية، القاهرة 1965.
12- مسرحية القهقهة، ومسرحيات أخرى، صنعاء 1996.
13- العنكبوت والغائب - مسرحية، صنعاء 1998.
14- الهوية - رواية، صنعاء 1996.
15- بيت الزوجية - مسرحية، بغداد 1962.
16- الشيء - مسرحية، بيروت 1966.
17- تساؤلات - خواطر فلسفية، بيروت 1991.
18- القضية والمخذولون - مسرحيتان، بيروت 1996.
19- امرأة ضائعة - رواية، صنعاء 1997.
20- البهلوان ومسرحيات أخرى، صنعاء 1997.
21- قصة حب والطائر - روايتان، صنعاء 1998.
22- الخاطئة - رواية، صنعاء 1998.
23- موت نذير العدل - رواية، صنعاء 1999.
24- أوراق رئيس - روية، صنعاء 2000.
25- نهاية إنسان يفكر - رواية، صنعاء 2001.
26- خواطر فتاة عاقلة - رواية، صنعاء 2002.
27- الأصدقاء الثلاثة - رواية، صنعاء 2006.
28- الرجل الذي فقد النطق - مجموعة مسرحيات، صنعاء 2003.
29- عالم مليكة - رواية، صنعاء 2003.
30- أين الحقيقة والواعظ - مسرحيتان، صنعاء 2007.
كتب عن الأكراد:
1- الكرد والمسألة الكردية، بغداد 1959.
2- الأكراد - دراسة جغرافية أثنوغرافية، بغداد 1972.
3- العراق الشمالي - دراسة لنواحيه الطبيعية والبشرية، بغداد 1973.
كتب علمية أخرى:
1- الجغرافية عند العرب، بيروت 1986.
2- في الجغرافية العربية - دراسة للتراث الجغرافي العربي، بغداد 1978.
3- ابن بطوطة ورحلته، بغداد 1971.
4- دولة الإمارات العربية المتحدة - دراسة في الجغرافية الاجتماعية، بغداد 1978.
5- تطور الفكر الجغرافي، الكويت 1986.
كتب جغرافية مترجمة عن اللغة الإنجليزية:
- بلغت مترجمات خصباك العلمية حوالي اثني عشر كتاباً لأساتذة جغرافيين كبار.


أستاذ أكاديمي.. ومبدعٌ في الجغرافيا والأدب(*)
□ أ. د. نورية حمّد

يسعدني ويشرفني اليوم التحدث عن مكرم ولست أدعي بأنني زميلة أو رفيقة مسيرة له ولكنه أستاذ لي، كما هو اليوم زميل عزيز عرفته منذ مدة طويلة هنا في بلدنا الحبيب، عرفته علماً من أعلام علم الجغرافيا في الوطن العربي، وعرفته قيمة علمية هامة حظيت به جامعة صنعاء ولا تزال تحظى به حتى اللحظة الراهنة أطال الله لنا في عمره. وقد تبدو سنوات المعرفة به قليلة ولكنها في نظري ثرية غنية بعمقها ومواقفها وأحداثها.
واسمحوا لي في كلمتي السريعة هذه أن أقف عند بعض الجوانب الهامة بخصوص الأستاذ الدكتور شاكر خصباك والتي لي حظ فير منها. الجانب الأكاديمي العلمي ما عرفته عن قرب وما سمعته وأسمعه باستمرار عن الأستاذ الدكتور شاكر خصباك هو أنه بحق أستاذ أكاديمي متميز، وهو يؤدي مهمته العلمية السامية في رحاب كلية الآداب بجامعة صنعاء، كما أنه نموذج الأستاذ الملتزم الذي أجده -وبحكم جوار قسمينا العلميين- غارقاً في الإخلاص في عمله، بشوشاً باستمرار، كريماً متميزاً في أخلاقه وتعامله مع زملائه في الجامعة.
وفي الجانب الأكاديمي أيضاً وجدته متميزاً في العطاء، فقد كان يجمعني به مجلس كلية الآداب بالجامعة عندما كان هو رئيساً لقسم الجغرافيا وكنت أنا رئيسة لقسم علم الاجتماع، وكنت في بداية خبرتي الأكاديمية، أمام خبرته الطويلة والعميقة والغنية فأجدني مستفيدة منه منصتة لآرائه وأفكاره ومداخلاته التي كان يدلي بها في مجلس كلية الآداب وله نظرة ثاقبة في كثير من القضايا التي كانت تطرح للنقاش، وهذا ما جعلني ألجأ إليه في كثير من الأمور وأطلب منه المشورة فلم يبخل علي أبداً وربما كان يقدم مشورته لزملاء آخرين.
الجانب الآخر أن هذا العالم المتخصص في الجغرافيا والمبدع فيها أجده مبدعاً في فرع آخر من العلوم والثقافة هو (الأدب) والكتابة فقد جمع بين إبداعين. ولا شك أنه لا يجمع بين أمرين هامين إلا المثقف المتعمق، أي المتعمق في معارفه، المبدع في اهتماماته.
وكما وجدته يعشق الجغرافيا وله فيها مؤلفات عديدة متداولة في أرجاء الوطن العربي فقد وجدته عاشقاً للأدب والرواية. وقد لمست عشقه هذا عندما كان يهديني الجديد من إبداعاته. فقد كان يتحدث عن هذا الجديد بكل عشق وحب وهو مزدوج العطاء، ولكن يبدو أن مجاله الأكاديمي التخصصي واستغراقه فيه لم يتح له الانتشار في الأدب وإن كان غنياً أيضاً في هذا المجال.
وأذكر آخر ما قرأته من إبداعاته رواية بعنوان (أوراق رئيس) ولم أترك هذه الرواية حتى انتهيت منها، وبحسب خبرتي المتواضعة فأنا لست خبيرة في هذا المجال إلا أنني وجدت هذه الرواية أكثر من رائعة. وجدتها مشوقة مثيرة وهامة.
المحصلة الأخيرة التي أقف عندها في تكريم الأستاذ الدكتور شاكر خصباك هو ذلك الجانب الإنساني، فهو إلى جانب عمله الأكاديمي عرفته إنساناً بمعنى الكلمة، خلوقاً، حسن الطباع متواضع يتسم بسمو النفس. ولعل هذا ما جعله يكسب محبة أسرة كلية الآداب من الزملاء والطلاب الذين تزدحم بهم قاعة محاضراته.
ومع الجانب الإنساني هذا انتقلت وثاقة العلاقة بيني وبينه من كلية الآداب ورحابها إلى رحاب أسرتينا. فقد عرفني بزوجته السيدة الفاضلة أم صباح، وبدوري عرفته بأسرتي، وتواصلت الزيارات بيننا. كم هي الأوقات جميلة عندما نلتقي في زياراتنا هذه، وعندما يتحدث الدكتور شاكر خصباك يتطرق إلى مجالات عديدة مشوقة وممتعة. فحديثه مليء بالمعارف والخبرات والتجارب، وأجدني أستمع بشغف إلى هذا الرجل الغني بعلمه وتجاربه وعلاقاته مع نخبة من نجوم العلم والأدب في العراق وفي مصر وهو اليوم في اليمن.
وكما يقال وراء كل رجل عظيم امرأة (أقول امرأة عظيمة) فبجانب الأستاذ الدكتور شاكر خصباك زوجته السيدة الفاضلة أم صباح، وهي مثال للزوجة الوفية وشريكة الحياة. ولم تكن زوجة عادية، فهي صاحبة دور تربوي قدير ولها باع طويل في مجال تربية والتعليم، وقد أسهمت في تعليم الفتاة العربية وبخاصة في العراق وفي المملكة العربية السعودية حيث كان لها إسهامها المميز في تأسيس تعليم الفتاة في المملكة العربية السعودية ثم تفرغت للزوج وللعالم والأديب بكل حب ورحابة صدر.
في الأخير كل الحب والتقدير للأستاذ الدكتور شاكر خصباك وأتمنى له عمراً طويلاً حافلاً بالعطاء والخير. والسلام عليكم.


الدكتور شاكر خصباك(*)
روائياً وقاصاً ومسرحياً عالمياً أهمله النقاد
□ أ. د. عبد الملك المقرمي

لم أرَ في حياتي ولم أسمع عن كاتب وأديب، روائي وقاص ومسرحي كبير، ظل طوال حياته الحافلة بالعطاء، -أطال الله عمره- يكتب ويبدع بدون توقف بينما يحيط به صمت الأدباء والكتاب والنقاد من كل اتجاه، بل ليس هناك من ينبس ببنت شفة حول أدب هذا المفكّر والكاتب الكبير الذي سأُقدّم لأعماله الروائية والمسرحية والقصصية في عمل سوسيولوجي متعدد المداخل ربما لأول مرة -في حدود علمي- راجياً من أستاذنا الكبير شاكر خصباك تصحيح بعض المعلومات التي قد لا تكون صحيحة في هذا الموضوع.
لن أبدأ بتلك البداية الكلاسيكية حول حياة شاكر خصباك وأدبه المتعدد الأشكال والمضامين، بل سأدخل مباشرة إلى أعماله مقسماً إياها إلى ثلاث شرائح هي:
الشريحة الأولى: الأعمال الروائية لشاكر خصباك.
الشريحة الثانية: الأعمال القصصية لشاكر خصباك.
الشريحة الثالثة: الأعمال المسرحية لشاكر خصباك.

وبناءً على هذا التقسيم سوف يتألف هذا البحث من ثلاثة أبواب هي بمثابة ثلاثة وجوه لوجه واحد، أو على الأصح ثلاثة أبعاد لأعمال خصباك الثريّة الرحيبة. ولست أزعم مطلقاً أنني ناقد أدبي، أو أنني سأتناولها من زاوية نظريات الأدب والنقد الأدبي فذلك يقع خارج نطاق اختصاصي ذو الطابع والمحتوى السوسيولوجي - الانثروبولوجي، لكنني لن أغفل عن بعض تقنيات ومناهج وأدوات النقد الأدبي متى ما استدعى الأمر ذلك.
الباب الأول:
الشريحة الأولى: الأعمال الروائية لشاكر خصباك.
وقد صدرت له مجموعة كبيرة من الروايات هي:
1- حكايات من بلدتنا.
2- السؤال.
3- هيلة.
4- الهوية.
5- امرأة ضائعة.
6- قصة حب والطائر (روايتان).
7- الخاطئة.
8- موت نذير العدل.
9- أوراق رئيس.
10- نهاية إنسان يفكر.
11- خواطر فتاة عاقلة.
12- عالم مليكة.
13- الفصول الأربعة.
14- الأصدقاء الثلاثة.

تلك هي الروايات التي صدرت لشاكر خصباك عبر رحلته الأدبية الإبداعية الغزيرة الشديدة الثراء والتنوّع. وبما أننا فضلنا تقسيم أعماله إلى ثلاثة شرائح فإننا نبدأ أولاً بإلقاء مجموعة من التساؤلات عن مبررات هذا التقسيم بالصورة التالية:
- هل يمكن تجنب هذا التقسيم لأعماله الروائية والقصصية والمسرحية؟ الجواب (لا). فشاكر خصباك تشغله فكرة مركزية واحدة هي ارتهان العقل العربي في قيوده النصوصية للجمود والحرفية المفضية إلى التجمد الأبدي داخل قوالب ثلجية ضخمة هائلة يصعب إذابتها.
- وتلك القوالب الثلجية الضخمة الهائلة ما هي إلا الزمان والتاريخ والثقافة، Frozen in Time Culture and History.
- فهل بإمكان شاكر خصباك مناقشة هذه المعضلة الهائلة عبر جنس واحد من الأدب؟! أبداً.. إن روح الفكرة التي تحرّك أعماله تتطلب الطرح والمعالجة من أكثر من زاوية. فأنا أكاد أرى شاكر خصباك وهو منهمك عبر ستين عاماً تقريباً بإصرار وإلحاح في تفكيك وتكسير تلك القوالب بأزاميله وأدواته وأفكاره.. فهو لا يهدأ لحظة واحدة عن محاولة كسر قالب الزمن المتجمد وتحريك إرادة الإنسان العربي وإخراجه من غفوته الأبدية التي قد تدوم قروناً وقروناً.
- إذن ضمن هذه العوالم الجديدة الأدبية والفكرية تتنوع عوالم خصباك الأدبية والفكرية وتصبح ذات إشكالية قائمة بذاتها. ولذا كان لزاماً عليه استخدام أدوات عدة لكسر كل زاوية من زوايا ذلك القالب الكوني الضخم الثلجي الذي تجمّد بداخله تاريخ العقل العربي ونام فوق أبدية. فالقصة أداة، والمسرحية أداة، والرواية أداة، والكتابة الفكرية أداة، وكلها تصب في سياق وإطار تاريخي وإبداعي وسياسي وثقافي وحضاري واحد.

فإذا كان الموضوع متنوعاً تعدت أساليب معالجته لصعوبة الوصول إلى جوهره وإخراجه من جموده الأدبي وتحجره التاريخي.

من هذه الخلفية البسيطة فضلت تقسيم أعمال شاكر خصباك إلى الشرائح التي ذكرتها أعلاه، وهو تقسيم تتطلبه ضرورة الشكل. أما الموضوع فهو لا يكاد يختلف من أول عمل أدبي له حتى آخر عمل.. فتلك المواضيع تزداد يوماً بعد يوم كثافة وجموداً، وهو التبرير الأكثر مثولاً في نظري لاعتبار أعمال شاكر خصباك من التميز والثراء والمتابعة والإصرار، ومن الالتزام بمعايير الجمالية الفنية والإبداعية بمكان يضعه في خانة المتفردين من كبار الأدباء والكتّاب والروائيين والقصصيين والمسرحيين في الوطن العربي والعالم.
هذا هو مشروعي لتأليف كتاب يدرس دراسة شاملة عالم شاكر خصباك الإبداعي الرحيب.


أول عربي كتب بحماس وبشمولية ومعرفة علمية(*)
عن الكورد وقضيتهم القومية
□ الدكتور عبد الفتاح علي بوتاني
ولد شاكر خصباك في مدينة الحلة (مركز محافظة بابل) سنة 1930، درس الابتدائية والإعدادية في مدارسها، ونال الشهادة الثانوية سنة 1948، التحق بجامعة القاهرة في كانون الأول 1948، ونال شهادة البكالوريوس (الليسانس) في الجغرافية سنة 1951، ثم التحق بالجامعة الإنكليزية سنة 1954، ونال درجة الدكتوراه في الجغرافية سنة 1958، عمل مدرساً في العديد من المدارس المتوسطة والإعدادية في بغداد، ودرّس في جامعات بغداد والرياض وصنعاء، نال درجة الأستاذية سنة 1974، له سجل علمي حافل، إذ تربو كتبه العلمية المؤلفة والمترجمة على عشرين كتاباً. أستاذ الجغرافية في جامعة صنعاء حالياً.
بدأ خصباك حياته الثقافية قاصاً، وقد أصدر مجموعة قصصية بعنوان (صراع)، في نهاية سنة 1948 وطبعت في القاهرة، وأيد نشرها القاص عبد المجيد لطفي والأديب المعروف علي جواد طاهر، واستقبلت استقبالاً حسناً وأعيد طبعها أكثر من مرة، ربما لأنها كانت خطوة متقدمة في القصة العراقية حينذاك.
وفي سنة 1951، أصدر خصباك مجموعته القصصية الثانية بعنوان (عهد جديد) والتي نشرتها لجنة النشر للجامعيين في القاهرة، ولقيت نفس الترحيب الذي لقيته المجموعة الأولى، واعتبر نقلة جديدة للقصة العراقية. وعلى الرغم من انصرافه لتدريس الجغرافية، فإن خصباك ظل يمارس هوايته في كتابة القصة، فقد ظهرت مجموعته القصصية الثالثة (حياة قاسية) في سنة 1959، السنة التي أعقبت عودته من الدراسة في إنكلترا وحصوله على الدكتوراه. وبلغت مؤلفات خصباك الأدبية حتى سنة 1996، نحو عشرين مؤلفاً( ).
ويذكر خصباك( )، أنه كان يفكر في إكمال دراسته في نيل شهادة الدكتوراه إلا أنه لم يفكر في الجغرافية بل في نيلها في الأدب «وخطر لي في وقت من الأوقات أن أنال الماجستير عن نجيب محفوظ، لكن الفرصة لم تتح لتحقيق أمنيتي إذ شغلتني الحياة الاجتماعية لا سيما وأنني كنت قد تزوجت في أواسط عام 1952، فظللت أنتظر الفرصة المناسبة».
وإذ كان سبب حصول خصباك على الشهادة الجامعية في الجغرافية يعود إلى وزارة المعارف (التربية حالياً)، فإنه واصل الدراسة العالية في الجغرافية خلافاً لرغبته كذلك، ويروي خصباك( ) كيفية مواصلته الدراسة العليا في الجغرافية، قائلاً: «اتصل بي ذات يوم في أواسط عام 1953 شخص لم أكن قد سمعت باسمه من قبل هو المرحوم الدكتور صلاح خالص، وكان قد عاد من باريس قبل شهور قليلة وهو يحمل الدكتوراه في الأدب العربي، وذكر لي أنه وجماعة من المثقفين عازمون على إصدار مجلة ثقافية، وأنه وقع الاختيار عليَّ لأكون محرراً أدبياً فيها، فرحبت باقتراحه. وبدأت العمل معه في التهيئة لإصدار المجلة. وقد صدرت فيما بعد باسم (الثقافة الجديدة) في أواخر سنة 1953. وكنت أحسب أنها مجلة ثقافية مستقلة ولكن ظهر لي فيما بعد أنها واجهة للحزب الشيوعي السري. لذلك ما أن صدر العدد الأول، حتى عمدت السلطة إلى إغلاقها. لكن القائمين على المجلة لم يلقوا أسلحتهم وراحوا يفتشون عن امتياز جديد، وحصلوا عليه فعلاً. وتولى هذه المرة محام جريء اسمه عبد الرزاق الشيخلي مهمة المدير المسؤول، وكان في الوقت نفسه عضواً في المجلس النيابي. وصدر العدد الجديد بعنوان (الثقافة الحديثة). وما كاد يظهر العدد حتى سارعت السلطة إلى سحب الامتياز ثانية. وفكر القائمون على المجلة بطريقة أخرى يواصلون بها نشاطهم. وكان مجلس السلم العالمي قد طلب يومذاك. من محبي الكاتب الروسي (أنطون تشيخوف) أن يحتفلوا بمرور خمسين سنة على وفاته. فاقترحت عليهم أن أتولى إخراج كتاب عن تشيخوف وترجمت عدداً من مشاهير قصصه ومسرحياته القصار. وصدر الكتاب في مطلع سنة 1954. وكان من أوائل الكتب التي تصدر في اللغة العربية عن (أنطون تشيخوف) يومذاك واستشاطت السلطة غضباً وأخذت تعد العدة للانتقام من المشرفين على مجلة (الثقافة الجديدة). وتسربت إليّ أخبار الحملة المتوقعة، وفكرت بطريقة للإفلات منها وذلك بالسفر إلى إنكلترا بحجة الدراسة. واستطعت بالفعل أن أفلت من قبضة السلطات قبل أن تصدر أوامر التوقيف. وقد صدرت هذه الأوامر بعد سفري، واعتقل معظم محرري المجلة وعلى رأسهم صلاح خالص وصفاء الحافظ وإبراهيم كبة وفيصل السامر وعبد الوهاب البياتي ثم سيقوا فيما بعد إلى معسكر الجيش في خان بني سعد قريباً من بغداد للتدريب على الخدمة العسكرية. وكان لابد لي عند وصولي إلى إنكلترا أن أسجل للدكتوراه في حقل الجغرافية فهو اختصاصي، وهكذا اضطررت ثانية إلى مواصلة الدراسة العالية في الجغرافية شئت أم أبيت».
ومن الجدير بالذكر أن خصباك قبل على الدكتوراه رأساً. وكان عنوان رسالته (أكراد لواء السليمانية، دراسة في الجغرافية الاجتماعية). ويبدو أن حكايته مع الكورد وتعاطفه معهم بدأت منذ دراسته للدكتوراه واختصاصه بموضوع الكورد.
شاكر خصباك والقضية الكردية:
لقد أحب الدكتور خصباك الشعب الكردي وتعاطف مع قضيته وانصب اهتمامه في دراسة تاريخه وجغرافيته بروح عصرية يندر وجودها عند الكثير من الباحثين العرب، حتى إنه يعد من المختصين بتاريخ الكورد وجغرافيتهم. فله في هذا الموضوع كتباً قيمة هي: الكرد والمسألة الكردية، الطبعة الأولى (بغداد 1959)، الطبعة الثانية (بيروت 1989)، الأكراد دراسة جغرافية أثنوغرافية (بغداد 1972)، والعراق الشمالي، دراسة لنواحيه الطبيعية والبشرية (بغداد، 1973)، فضلاً عن رسالته للدكتوراه وهي بعنوان (أكراد لواء السليمانية، دراسة في الجغرافية الاجتماعية).
إن اهتمام خصباك في الشؤون الكوردية وتعاطفه مع الكورد، أدى إلى أن يظن العديد من الدارسين بأنه كوردي أو أن زوجته كوردية. والحقيقة أنه عربي خالص من التعصب القومي ومنحاز إلى صالح التآخي بين القوميتين الكبيرتين العربية والكوردية. أما زوجته فهي عربية أيضاً، ولكن كان لها العديد من الصديقات الكورديات مثل زوجة المرحوم عبد الصمد خانقاه (قاص ومحام) وغيرها( ).
أما عن سبب أو مبعث اهتمام خصباك بالكورد واختياره الشعب الكوردي موضوعاً لرسالته للدكتوراه، فقد كتب يقول: «إن لهذا الموضوع حكاية طريفة ابتداءً أقول، إنني لم أكن أعرف الشيء الكثير عن الأكراد، شأني شأن أي مواطن عراقي آخر، وهذا لا شك نقص كبير. فالأكراد يكونون ما يقرب من ربع سكان العراق. ويقع التقصير في ذلك على عاتق المسؤولين عن التعليم، فقد كان ينبغي أن تقدم للتلاميذ في المدارس العربية المعلومات الكافية عن الأكراد، حتى أن بعض العرب من غير المتعلمين طبعاً، لا يعلمون بأن الأكراد يتكلمون لغة تختلف كلياً عن اللغة العربية... وكنت أعلم بالطبع أن الأكراد قد قاسوا من المظالم والكوارث منذ بدء الحكم (الوطني) في العراق، أي منذ أوائل العشرينات، وأنا بطبعي مع المظلومين حتى يرفع عنه الظلم. وكان الكورد يقومون بثورات متكررة من أجل نيل حقوقهم وتحقيق ذاتيتهم. فكانت تجيّش لهم الجيوش وترسل الطائرات إلى قراهم لقصفها بالقنابل. ومنذ طفولتي وأنا أسمع ما يسمى (الحركات في الشمال)، والتي يقصد بها الحركات التي تقوم لقمع الثورات الكوردية. ولكن أي واحد منا نحن المواطنين العرب لم يحاول استجلاء الحقائق عن الأكراد والتعرف عن كثب على مظالمهم ومشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهو تقصير لا شك فيه. وهذا التقصير لم يكن متعمداً، كما لم يكن مرده إلى استصغار شأن الأكراد، فالعراقيون العرب لم ينظروا إلى الأكراد يوماً نظرة دونية... فالمتاعب التي يكابدها المواطنون العرب بسبب الحكم الفاسد المتجبر هي نفس متاعب الأكراد وإن اختلفت طبيعتها، وهكذا كان موقفي من الأكراد. وعند صدور مجلة (الثقافة الجديدة) نشرت في العدد الأول منها قصة بعنوان (آمنة) صورت فيها البؤس الذي يحيق بالأكراد. ولدهشتي الشديدة تلقت المجلة عدداً من الرسائل من القراء تحتج على القصة وتعتبر ما ورد فيها إساءة إلى الأكراد وتاريخهم المجيد. وقد لفتت نظري تلك الرسائل إلى حقيقة كانت غائبة عن ذهني، وهي أننا العرب لا نكاد نعرف شيئاً عن الأكراد وعن تاريخهم. وآليت على نفسي أن أتلافى هذا النقص في أول فرصة مناسبة. ولم تمض أشهر على هذه الحادثة حتى اضطررت إلى السفر إلى إنكلترا، ثم إلى انتهاز الفرصة لمواصلة الدراسة العالية في جامعاتها. فتذكرت قراري عن الأكراد ووجدت الفرصة مناسبة للاطلاع على كل ما كتب عنهم في اللغة العربية وفي اللغات الأخرى. ثم أكملت معلوماتي بالقيام بدراسة ميدانية واسعة في كل مناطق كردستان العراق كما تتطلب الدراسة( ).
خصباك خدم بكتبه العرب والكورد:
ولأن خصباك يعد أول عربي كتب عن الكورد وقضيتهم بتلك الشمولية والمعرفة العلمية والحماس فإن البعض قال: إنه خدم الكورد في كتاباته العلمية أكثر مما خدم العرب. وقد رد خصباك على هذا البعض قائلاً: إن هذا القول لا يصدر إلا عن المغرضين والجهلاء، فدراساتي عن الأكراد وأرضهم ما هي سوى دراسات عن العراق. وبالتالي فلا مجال هناك لمثل هذا القول المغرض( ).
لقد ظل كتابه (الكرد والمسألة الكردية) الصادر سنة 1959، محظوراً لفترة طويلة لما جاء فيه من توجه عام لحل القضية الكوردية غير مرضٍ للسلطات المسؤولة يومذاك. ومن المعلوم أنه كان أول كتاب عام بقلم عربي يطرح حلاً واقعياً للقضية الكوردية بعيداً عن العاطفة اللامسؤولة. وقد نادى بالاعتراف بالذات الكوردية اعترافاً كاملاً ويمنح كوردستان العراق الحكم الذاتي.
أهدى خصباك كتابه إلى الكورد قائلاً: «إلى إخواننا الأكراد الذين آخانا وإياهم تاريخ طويل حافل بالعمل المشترك لتحقيق حياة أفضل، والذين توحدت في الحاضر جهودهم وجهودنا للعيش معاً تحت ظل جمهورية ديمقراطية متحررة تحقق العدالة للجميع، إلى هؤلاء الإخوة الأعزاء أهدى هذا الكتاب راجياً أن يكون لبنة متينة في صرح الاتحاد العربي الكردي الشامخ»( ).
بغداد - كانون الثاني 1959 شاكر خصباك
أما عن سبب تأليفه للكتاب فيذكر خصباك: من المؤسف أن المكتبة العربية عاجزة عن تقديم المعلومات الواضحة عن الكورد لإخوانهم العرب وهم شركاء في هذا الوطن منذ آلاف السنين، وشركاء في هذه الدولة منذ نشوئها قبل أربعين عاماً. كما أن المسألة الكردية تكاد تكون مجهولة لدى الأغلبية الساحقة منا نحن العرب. ولابد أن نحدد بوضوح -والعراق الآن في طور بناء وتجديد- الأسس العلمية التي يجب أن يقوم عليها الاتحاد العربي الكوردي. ولن يتم لنا ذلك ما لم نفهم حقيقة المسألة الكوردية وحقيقة علاقة الأكراد بالمنطقة التي يسكنونها كيما تحدد حقوق وواجبات كل قومية في هذا البلد. وينبغي على عرب العراق في سيرهم نحو طريق التحرر العربي أن لا ينسوا أن العراق ليس دولة عربية فحسب بل هو دولة عربية - كوردية، وأنه لابد لدولة العراق أن تهتم بالمثل بالقومية الكردية ما دامت الشركة عادلة بين العرب والكورد في هذا الوطن( ). واعترافنا نحن العرب بالقومية الكوردية، يثبت بالبرهان الدامغ أننا شركاء في الوطن وأننا عراقيون أولاً وعرب وأكراد ثانياً( ).
أصدر خصباك كتابه (الكرد والمسألة الكوردية) سنة 1959 بعد شهور من قيام ثورة 14 تموز 1958 محاولة منه لحل القضية الكوردية حلاً ديمقراطياً سلمياً بدلاً من التضحية بالألوف من أبناء العراق عرباً وكورداً، وهدر البلايين من الدنانير على الحروب والتدمير. فكان أول كتاب يدعو إلى منح الحكم الذاتي لكوردستان. والدكتور خصباك يفخر بهذا الإنجاز كل الفخر ويعد عمله إسهاماً مشرفاً في خدمة بلده. ويرد على الذين اتهموه بالتحيز للأكراد قائلاً: «...لا يمكن أن يتهم شخص عربي مثلي بالتحيز للأكراد، لكن قعقعة السلاح هي التي تسود وليس صوت العلم والعقل، فمنع الكتاب وصودر، ولم أسأل يوماً من قبل السلطة عن رأيي في المشكلة الكوردية مع أنني مختص بها علمياً. وقد ثبت صحة رأيي فيما بعد، إذ اعترف للأكراد رسمياً بحق الحكم الذاتي...».
إن دعوة خصباك إلى تمتع الشعب الكوردي بالحكم الذاتي منذ مطلع سنة 1959 جاءت في وقت مناسب جداً لتناسي مآسي وأخطاء العهود الماضية، التي سبقت قيام ثورة 14 تموز، وهو انتقال البلاد من الحكم الملكي البائد بأخطائه الكثيرة إلى عهد جمهوري جديد في ثورة تموز 1958. أما سبب فشل النظام الجديد في حل القضية الكوردية فيعود في رأيه إلى العاملين في ميدان السياسة «الذين يعوزهم النضج ويندر بينهم من يغلب المصلحة العامة على مصلحته الخاصة»( ).
ومن الجدير بالذكر أن خصباك وفي معظم كتاباته، يعد محافظة كركوك كوردية، ففي كتابه الكورد والمسألة الكوردية، يقول: «فكوردستان العراق، كما ذكرنا، تتألف من أربع ألوية (محافظة) هي لواء الموصل وأربيل والسليمانية وكركوك، كما تمتد في لواء ديالي فتشمل منطقة خانقين ومندلي...» ويورد الجدول أدناه لبيان نسب السكان الكورد في المحافظات الكوردية( ).
اللواء النسبة
السليمانية 100%
أربيل 91%
كركوك 52.5%
الموصل 35%

أما رأي خصباك في الشخصية الكوردية، فهو: إن الفرد الكوردي هو بلا شك الجندي المجهول والمظلوم خارج كوردستان. ولم تسلم سمعته من التشويه من قبل جيرانه أو من قبل الغربيين. ويقول خصباك إن الكتاب والرحالة الذين نعتوا الكورد بأقسى النعوت، جهلة ومتحيزين. ويذكر أنه قام بدراسة الشخصية الكوردية والخلق الكوردي عن كثب فلمس ما لمسه الكتاب المنصفون «ومن السهل على الدارس أن يدحض افتراءات الرحالة والكتاب الجهلة عن الخلق الكوردي بتحليل بسيط للظروف الاجتماعية والبشرية للمجتمع الكوردي..» وفي نهاية حديثه ودراسته للشخصية الكوردية يستخلص خصباك ما يأتي:
«الخلاصة أن الكوردي إنسان لطيف المعشر، طيب القلب، كريم سموح، محب لأسرته وموطنه ومعتز بقوميته الكوردية أكبر الاعتزاز. ومن الواضح أن أولئك الكتاب الذين وصفوه بصفات خلقية سيئة كانوا إما جهلاء بحقيقة الأمر أو متحاملين عليه، وفي كلتا الحالتين فليس لأوصافهم قيمة علمية»( ).
العلاقات العربية - الكوردية:
يتساءل الدكتور خصباك -بعد حديثه عن أصل الكورد وقوميتهم وتنظيماتهم الاجتماعية والاقتصادية- قائلاً هل هناك علاقة حقيقية بين العرب والكورد، وعلى الأخص الكورد العراقيين؟ ويرى أن العهد الجديد (العراق بعد ثورة 14 تموز 1958) «قد لمس هذه الدعوة من الكورد والعرب على حد سواء، دعوة الإخوة والاتحاد، ولم يكن أحد الطرفين مدفوعاً رغم إرادته إلى إعلان هذا التضامن، فهل هي مجرد مجاملة من العرب للكورد وبالعكس؟»( ).
ويرى خصباك أن العلاقة الكوردية - العربية علاقة حقيقية وليست مزعومة، فهي مبنية على أسس تاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية. وبعد أن يتحدث عن العلاقات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية يقول: إن العلاقة السياسية بين الكورد والعرب، هي ثمرة جميع هذه العوامل أو العلاقات. ويمضي خصباك فيقول: «...وإذا كانت الظروف السياسية بعد الحرب (العالمية الأولى) قد شاءت أن يضم كوردستان الجنوبي إلى العراق، فلم يكن ذلك ليؤدي إلى الإضرار بالكورد لو كانت قد تولت الحكم حكومات وطنية حقة... فاختلاف العرق بين الكورد والعرب لا يعني استحالة الجمع بينهما في دولة واحدة. وقد نجح مثل هذا الاتحاد نجاحاً عظيماً في كثير من دول أوروبا الاتحادية كسويسرا التي تجمع بين الفرنسيين والإيطاليين والألمان، وجيكوسلوفاكيا التي تجمع بين الجيك والسلوفاك، وبلجيكا التي تجمع بين الفلمنك والوالون...، ولكننا نعود لنؤكد من جديد أن هذا الاتحاد يجب ألا يفرض على الشعوب فرضاً، بل لابد أن ينبع من رغبتها الخالصة ومصالحها المشتركة...».
ويرى خصباك، أن الاتحاد بين العرب والكورد قد فرض في البدء على الكورد فرضاً بواسطة الدول المستعمرة الكبرى، التي قررت إثر انتهاء الحرب الكبرى الأولى مصائر الشعوب التي كانت تحت نير الحكم العثماني. وقد كان الكورد كغيرهم من الشعوب، يأملون في إنشاء دولة مستقلة تجمع جميع أجزاء كوردستان المشتتة. لكن المؤامرات الاستعمارية قضت على تلك الآمال بتأييدها تقسيم كوردستان. ولم يكن من المتوقع بالطبع أن تؤدي مثل هذه النتيجة إلى رضى الكورد أو اغتباطهم، خاصة وأن بعض الشعوب التي كانت خاضعة للحكم العثماني استطاعت أن تشكل دولاً مستقلة أو شبه مستقلة كالأرمن مثلاً وهم أقل عدداً. فلما فشلت محاولات الكورد في نيل الاستقلال وتوحيد كوردستان، ووجدوا أنفسهم مخيرين بين الاتحاد مع العرب أو مع الترك، لم يترددوا في إعلان اتحادهم مع العرب. وكان المفروض أن تثبت الحكومة العربية في العراق للأكراد بأنها عند حسن ظنهم وأن اختيارهم كان موفقاً فتشعرهم بأنهم أسياد في منطقتهم بكل معنى الكلمة وأنهم شركاء حقاً مع العرب في الدولة العراقية. إلاّ أن ذلك لم يحدث مع الأسف «...فأدت المعاملة التي عومل بها الأكراد في شتى الجوانب إلى خيبة أمل شديدة قد تبلغ حد الندم إلى اختيارهم مثل هذا المصير. واشتطت الحكومات السابقة في عنجهيتها إلى حد جعلها تتهم كل كوردي يطالب بإصلاح الأحوال الاقتصادية والاجتماعية للمنطقة الكوردية بالروح الانفصالية... ولحسن الحظ أن الأكراد العراقيين ما يزالون يحفظون الود للعرب رغم الأخطاء الكثيرة التي ارتكبتها الحكومات السابقة معهم...».
والاتحاد العربي - الكوردي، في رأي خصباك، يجب أن يبنى على أسس قويمة متينة البنيان خالية من التعصب المقيت وقصر النظر «وفي رأينا أن الاتحاد العربي الكوردي لابد أن يضع نصب عينه الحقيقة الهامة، وهي الاعتراف بالقومية الكوردية اعترافاً حقيقياً وكاملاً لا اعترافاً مزيفاً... فاتحاد الأكراد مع العرب لا يعني انصهار قوميتهم في القومية العربية، فعنصرهم غير العنصر العربي ولغتهم غير اللغة العربية، وإن من الخطأ تغيير الحقائق العلمية فنعتبر الكرد عرباً ونفرض عليهم التكلم باللغة العربية والإشادة بالعنصر العربي على حساب قوميتهم وعنصرهم... فعلاقة الشعوب لا تتوطد على أركان الاستغلال بل على أركان التآخي وتبادل المصالح...»( ).
وفي نهاية حديثه عن القضية الكوردية في العراق، يحذر خصباك وينصح الحكام الجدد الذين تولوا السلطة بعد ثورة 14 تموز 1958 قائلاً: «وختاماً لابد من التأكيد ثانية على وجوب عدم تكرار الأخطاء الماضية. وهذا يستدعي أن نضع نصب أعيننا الحقيقة التاريخية، وهي أن الأكراد ليسوا أقلية من الأقليات العرقية التي وردت إلى العراق، فهم السكان الأصليون لهذه المناطق منذ آلاف السنين، وحقوقهم في العراق مساوية لحقوق العرب تماماً. وما دمنا قد اتفقنا على الشراكة في هذا الوطن فلابد أن نحاول اتباع أفضل الطرق لتدعيم هذه الشراكة (إشارة إلى المادة 3 من الدستور المؤقت). ولدينا أمثلة واضحة من أنظمة الدول الاتحادية ذوات القوميات المتعددة التي سبقتنا في مضمار التقدم الإداري وعلينا الانتفاع منها...»( ).
لقد ثبت صحة رأي خصباك، الذي طرحه منذ سنة 1959، واعترفت الحكومة العراقية رسمياً بالحكم الذاتي لكوردستان العراق في 11 آذار 1970، إلا أنها لم تكن مخلصة في ذلك الاعتراف. كما خابت آمال الجماهير بالعهد الذي أعقب العهد الملكي، وخابت آمالها مرة أخرى العهود التي أعقبته. ويقول خصباك بصدد ذلك: «فقد تكررت الأخطاء وتجدد الطغيان وتوالت المآسي وشاع الحقد والفرقة والانتهازية بين فئات المواطنين على اختلافهم بشكل لم تشهد له البلاد مثيلاً».
المهم في الأمر، أن خصباك استبشر خيراً باتفاقية 11 آذار 1970، لأنها جاءت لتحقق ما كان يدعو إليه، وجدد بالمناسبة حبه للشعب الكوردي، فأصدر كتابه الثاني عن الكورد (الأكراد - دراسة جغرافية أثنوغرافية) سنة 1972، واستهله بهذا الإهداء «إلى زوجتي التي أحبت شعبنا الكوردي كما أحببته». وأوضح الهدف من إصدار الكتاب قائلاً: إن هذا البحث ليس سوى مقدمة لدراسة الأكراد وأرضهم، وهو لا يخلو من نقائص، لأنه كتب في الفترة الواقعة بين عام 1954 - 1958، وكان غرضه لفت نظر السلطات المسؤولة حينذاك إلى ما يعانيه لواء (محافظة) السليمانية خاصة والمنطقة الكوردية عامة من مشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية. ولا ريب أن هذا الأمل قد أصبح في الوقت الحاضر وطيداً بعد صدور بيان 11 آذار التاريخي 1970، فقد اعترف البيان بالذاتية الكوردية وأقر كافة الحقوق القومية للأكراد بما فيها الحكم الذاتي، وآمن بضرورة إعمار المنطقة الكوردية وإزالة كل مسببات التخلف والفقر والإهمال في الميادين الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لذلك. فإن مقترحات هذا البحث قد تكتسب أهمية خاصة في ضوء البيان المذكور وقد يمكن الاستفادة من العديد منها( ).
سألت الدكتور خصباك الذي يعمل حالياً في جامعة صنعاء في اليمن، عن رأيه وتصوراته عن مستقبل الشعب الكوردي في كوردستان - العراق، فأجاب: لا أستطيع أن أدلي برأي قاطع الآن، لأن القضية أصبحت معقدة جداً، وأنا صرت بعيداً عن مسرح الأحداث. ولكنني لا زلت أعتقد أن أفضل حل في الوقت الحاضر لكوردستان العراق أن ينال (الحكم الذاتي) بشكله الصحيح لا المزيف، وبقاؤه مع العراق في الوقت الحاضر (لا تحت النظام الحالي) هو في مصلحته اقتصادياً وسياسياً. أما ما يعقب هذه الخطوة فهو مرهون بتطورات الوضع الدولي وما تمليه الظروف في حينها( ).
مهما يكن الأمر، فإن الدكتور خصباك كان أول من دعا إلى الحكم الذاتي لكوردستان العراق، وأنه ما يزال يهتم بالشؤون الكوردية، فقد تحدث عنها في مؤلفاته الأخيرة، مثل كتابه (ذكريات أدبية) الصادرة سنة 1996 في صنعاء وذكر أن أسباب اهتمامه بها ما زالت نفس الأسباب السابقة وهي: باختصار شعوره بأن الكورد قد ظلموا وأن قضيتهم لم تعالج بصورة صحيحة، وحبه للشعب الكوردي الذي يود خصباك أن ينال حقه، وأن ينصف ليكون جزءاً حقيقياً من «منظومة الشعب العراقي»( ).
ومن المناسب أن نذكر هنا، أنه فضلاً عن مؤلفات الدكتور خصباك عن الكورد وكوردستان، فإن له دراسات وبحوثاً ومقالات قيمة عن الكورد سبق أن نشرت في المجلات الكوردية مثل: مجلة كاروان (كانت وما تزال تصدر في أربيل) ومجلة شمس كوردستان (تصدر في بغداد)، كما أنه كان أحد الأعضاء الفخريين في جمعية الثقافة الكوردية ببغداد. ومثلما ارتبط بوشائج المحبة مع كوردستان، فإنه ارتبط كذلك بعلاقات صداقات متينة مع أدبائها ومثقفيها. وقد سبق له أن زار كوردستان مرات عديدة آخرها زيارته لمدينة أربيل في منتصف الثمانينات حيث كان موضع حفاوة الأوساط الثقافية والعلمية( ).
أما الطلاب الكورد الذين نالوا شهاداتهم العليا في الجغرافية وبإشرافه، فيتذكر خصباك منهم: الدكتورة نسرين محمود والدكتور إسماعيل محمد (يعمل حالياً في جامعة صلاح الدين - أربيل)، وسواهما.
الهوامش:

شاكر خصباك.. ريادة ممتدة
□ عبد الباري طاهر
الأستاذ الجليل الدكتور شاكر خصباك أديب وعالم ومفكر متعدد المواهب. فهو ناقد أدبي واجتماعي وسياسي. فقد كتب النقد منذ أربعينيات القرن الماضي. و(كتابات مبكرة) التي تعود إلى العام 1945/1946 تشهد على تمكن ونبوغ هذا المفكر والعالم في قراءة النصوص الريادية في القصة والرواية والحياة الاجتماعية: السجون، ومكانة المرأة في المجتمع العراقي. وهو مثقف عضوي واسع الاطلاع. ويمتلك تجربة حية وعميقة بالواقع العراقي والعربي. وهو متابع جيد للحياة الأدبية: قصة، وشعراً، ومسرحاً، ورواية، ونقداً. فقد ترصد باهتمام بالغ البواكير الأولى في القصة والرواية والمسرح عند روادها الأوائل: محمد ومحمود تيمور، وميخائل نعيمة، وجبران، ورئيف خوري، وطه حسين، بل إن أستاذنا الدكتور شاكر واحد منهم، وتربطه ببعضهم صلات وعلاقات حميمة.
في (كتابات مبكرة) تبرز موهبته الناقدة في دراسة البواكير الأولى لرواد القص والرواية والحياة الاجتماعية بصورة أوسع. فهو يساري عميق الرؤية. وديمقراطي حقيقي وقومي بالمعنى الفكري والثقافي. وكما قرأناه ناقداً للبواكير الأولى عند رواد القصة والرواية والأغنية: فريد الأطرش، أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، ونظرية الفن للفن، فقد نقد بعمق ونفاذ بصيرة حياة الفلاح الذي يتغنى المغنّون بعيشته التي ما أحلاها بينما ينهشه الجوع والملاريا والبلهارسيا ومختلف الأوبئة والجهل.
وتمثل مسرحيته الرائعة (الدكتاتور) قراءة من أعمق القراءات لتاريخ ومسار الاستبداد عبر الزمان والمكان. فالكرسي (البطل الرأس) للمسرحية هو المكان الأول للتحولات الراعية لسيرة الأبطال التاريخيين الذين بدؤوا حياتهم مكافحين ضد الدكتاتورية والظلم، وما أن ينتصروا ويجلسوا على الكرسي حتى يتحولوا إلى طغاة وأباطرة وقتلة لأعز رفاقهم وأقرب الناس إليهم. فالكرسي حسب المسرحية الكاشفة ما أعظم سلطانه وأشد عذره فهو منتها آمال الشعب ومآسيه في آن.
في الدكتاتور نقرأ الأستاذ الجليل شاكر كعدو رقم (1) للدكتاتور. فهو يترصد مساره الإمبراطوري ابتداء من نابليون بونابرت رجوعاً إلى حمورابي فهتلر وقيصر فستالين ورمسيس فالإسكندر المقدوني فالزعامات القومية الثورية العربية. وهو ما يعني إدراك هذا المفكر أن الطغيان لا وطن له ولا جنس ولا دين ولا قومية ولا يرتبط بمكان أو زمان. ويبقى الكرسي الرمز الأكثر دلالة على تحولات الحاكم وتبدلاته الراعية. تقرأ الدكتاتور عبر الأزمنة كلها والكوكب كله وكأنك تقرأ وتتقرى سيرة أنموذج فاجع يتكرر، تختلف السمات والصفات ولكن الفصل الفاجع واحد. فما الذي يميز في عصرنا الراهن الطغاة الصغار والكبار في أمتنا وفيما حولنا أو في الكوكب الأرضي كله عن الإسكندر الأكبر أو يوليوس قيصر أو هتلر غير اختلاف الزمان والمكان والأدوات والزبانية؟
إن الكفاءة والمقدرة المختص بها شاكر خصباك هي سفر كفاح وتجربة علمية وحياتية غنية وعميقة. وإنها لسـفر معرفة متنوعة ومتعددة تترافد وتجربته الحياتية الممتدة -أطال الله عمره- لأكثر من ثلثي قرن مع تجربته المعرفية والعلمية المتواصلة والمتواشجة لما يزيد عن نصف قرن لتجعل منه رائداً من صناع الديمقراطية والعدالة والحداثة.
ولا يتجلى المعنى الزاكي لترافد التجربة الحياتية والمعرفة في شيء كتجليها في غنى وتنوع وتعدد مواهب الدكتور شاكر وعطاءاته التي تصل إلى واحد وثلاثين ما بين القصة والمسرحية والرواية والخواطر الفلسفية والنقد. وله ما يقرب من اثنين وعشرين عملاً في تخصصه العلمي الجغرافي. ومؤلفاته العلمية تسعة كتب وكلها كنوز علمية وإبداعية تخلد صاحبها. وتجعل منه علاقة مضيئة للباحث والعالم والمفكر.
لقد وهب الدكتور شاكر نفسه باكراً للكتاب. وسفح سني عمره وطفولته في القراءة منذ الصِّبا. وهدته القراءة والكتاب إلى التعرف على أفضل عقول وعلماء وأدباء عصره من معاصريه: طه حسين، والعقاد، وباكثير، والمازني، وجبران، وميخائيل نعيمة، وتوفيق الحكيم. كما تعرف على أدباء ومفكرين عالميين: لامرتين، وهوجو، وغوته، وقرأ إبداعاتهم.
والعبقرية كصياح الديك تعلن باكراً عن نفسها. فقد كتب القصة القصيرة وهو في السادس الابتدائي. عاصر وتتلمذ على رواد القصة القصيرة العرب والعالميين: محمود تيمور، جي دي موباسان الفرنسي، وهوغو، وبلزاك، وغوستاف فلوبير، وتشيخوف. والدكتور شاكر به ناقد بامتياز فرغم دفاعه الموضوعي والمجيد عن رائد القصة القصيرة المصرية محمود تيمور. وإعجابه الشديد بأسلوبه المائز والفريد إلا أنه يوجه له النقد اللاذع عندما يعيد صياغة قصصه بالفصحى، ويتجاهل -أي تيمور- الصدق الموضوعي للمتحاورين الأميين من الفلاحين والباعة بعد أن أصبح عضواً في المجمع اللغوي.
منذ البدء عزف عن الشعر واندغم باكراً في القصة قراءة وكتابة. فالتلميذ في المتوسطة تتجمع لديه مجموعة قصصية ما إن يلتحق بالجامعة في القاهرة حتى تكتمل في (صراع) في العام 1948. ويقوم الأستاذ عبد المجيد لطفي بتقديمها. ويكون الناقد علي جواد الطاهر أحد أهم مشجعيه.
ورغم حداثة سنه فقد غطى نشاطه الأدبي والصحفي والنقدي وأقاصيصه العديد من الصحف السيارة حينها، وبالأخص في وطنه العراق أولاً، ثم يمتد إلى مصر فتكتب عنه المفكرة الإسلامية (عائشة عبد الرحمن) بنت الشاطئ. ويتناول مجموعته القصصية الأولى النقاد في مصر وتكتب عنها العديد من الملاحق الأدبية والمجلات. ومنها: المقطم، والدنيا الجديدة، والصباح، ويمتد الأثر إلى الأبعد. ويتناول العمل الروائي غائب طعمة فرمان في (الرسالة) أشهر المجلات الأدبية حينها.
إن هذا المبدع الإنسان ظل يحرث عمره وإبداعه في الدفاع عن القيم الإنسانية الرائعة والعظيمة: العدل، المساواة، الحرية، الديمقراطية. وجل مؤلفاته على كثرتها الكاثرة أسلحة مشرعة في خاصرة ونحر الدكتاتورية والفساد والظلم.
فقد دافع مبكراً عن حق الأقلية الكردية في العراق. وهي المشكلة التي قرأها عالمنا بعين الضمير الإبداعي اليقظ والحي، في حين كان يغطي عليها ركام من التمييز العرقي والاستعلاء الديني. ومعروف أن الأمة الكردية كالأمة العربية كلاهما تعرض للقمع والاحتلال والتمزيق. وكان تآخي الأمتين في العراق مثالاً للتسامح والتآخي في وحدة المصير. وقد حظيت أو رزئت أمتنا باثنين وعشرين دولة بالمعنى المجازي. فقد حرم الكرد من حقهم في بناء دولة الأمة، وكان العراقيون أكثر إدراكاً لعدالة القضية الكردية كقومية وحقها في الحكم الذاتي.
كان المفكر الإنسان شاكر خصباك من أوائل من التقط خيط القضية الكردية. وكانت مؤلفاته سواء الجغرافية الأكاديمية أو الأبحاث العلمية اللاحقة، والتي تصل إلى تسعة مؤلفات. أو المترجمة في تخصصه نفسه كعالم جغرافي. وهي تصل إلى اثني عشر كتاباً مترجماً.
والحقيقة أن العناية والاهتمام الباكر بالقضية الكردية لا يخدم الأكراد فحسب كإشارة الدكتور شاكر وإنما يخدم العراق كبلد متنوع ومتعدد ومتآخ. وأضيف أن الحل الذي رآه مفكرنا لا يخدم العراق وحده وإنما يخدم الأمة العربية كلها وقضايا مصر ولبنان والسودان والجزائر والمغرب وسوريا.
لقد أدرك الدكتور شاكر باكراً أن الشوفينية والاستعلاء الديني سببان جوهريان لمحنة الأمة الكردية. وقد أسهم الاستعمار في تغذية الصراع والدفع به إلى التفجير.
وهناك ملمحان مهمان في تفكير الدكتور خصباك، الأول: إدراكه الفطن والعميق لمآسي الكرسي وتبعات وويلات الدكتاتورية وما يتناسل منها.
والملمح الثاني قراءة لحق المرأة والأقليات (الأكراد) ودفاعه المجيد عن حقها في الحرية والعدالة والمساواة.
وقد ترك أستاذنا الدكتور شاكر تركة علمية وإبداعية تتميز بنزعة الاستقلالية والموضوعية ونزاهة العالم الصادق والشجاع.
مرة أخرى تحية إجلال وإكبار ومحبة لهذا العالم الذي سفح العمر والفكر بجهد ودأب قل نظيرهما. تحية للأستاذ الجليل الدكتور عبد العزيز المقالح ولمركز الدراسات والبحوث اليمني. وكم نتمنى لو أن الجامعات التي عمل فيها أستاذنا الدكتور شاكر تتبنى فكرة التكريم.

نبوءة مبكرة بعبقرية نجيب محفوظ(*)
□ د. عبد السلام محمد الشاذلي
نشر الكاتب العربي الكبير الدكتور/ شاكر خصباك أعماله الكاملة عن دار عبادي للدراسات والنشر في عدد من السلاسل ذات الحجم الصغير، والدكتور/ شاكر خصباك روائي عربي من رواد القصة والرواية في العراق، وقد التحق بجامعة القاهرة في عام 1948 ونال شهادة الليسانس في الجغرافيا من الجامعة نفسها في أوائل الخمسينيات، ثم استكمل دراسته العليا في الجامعات الإنجليزية وحصل على درجة الدكتوراه في التخصص ذاته في عام 1958، وهو من الرعيل الأول من الجغرافيين العرب الذين دخلوا مجال الكتابة الأدبية وهم يمتلكون دقة التفكير العلمي ورقة الإحساس الإنساني، مع القدرة الأدبية على الوصف والتصوير. والأسماء في هذا المجال عديدة، ونكتفي بالإشارة إلى الدكتور/ محمد عوض، والدكتور/ محمد الصياد وغيرهما.
في المجلد الثالث من هذه الأعمال الكاملة نشر الروائي العربي الدكتور/ شاكر خصباك مجموعة من المقالات والدراسات الأدبية تحت عنوان (كتابات مبكرة) تناولت تلك الدراسات الأدبية دفاعاً عن الرواية العربية بمصر في الأربعينيات. وعلى الرغم من دفاع الكاتب الروائي العربي شاكر خصباك عن موهبة محمود تيمور الأدبية إلا أنه يلتفت في فترة مبكرة جداً إلى عبقرية نجيب محفوظ ويبشر بمستقبله الأدبي العظيم حين لم تكن كتابات نجيب محفوظ الإنسانية قد ظهرت بعد.
ولقد فرضت موهبة نجيب محفوظ الإبداعية في مجال الفن القصصي نفسها فرضاً على كل الذين كانوا يقدرون الفن الروائي من الاتجاه اليميني أو اليساري على حد سواء، ولقد أشاد سلامة موسى في فترة مبكرة بموهبة نجيب محفوظ مثلما اعترف نجيب بالأثر البالغ الذي تركته النزعة الموضوعية الاجتماعية لسلامة موسى على وجدانه على نحو ما ظهر فيما بعد بصورة لافتة في (الثلاثية) عندما تحدث عن الكتابات المبكرة لكمال عبد الجواد في المجلة الجديدة. كما استطاع الكاتب والناقد الأدبي سيد قطب في بداية حياته الادبية -عندما كان يتتبع أثر الفن الروائي ومسؤولية الكلمة في أذهان الناشئة- أن يبشر في فترة مبكرة بعناصر وضاءة من ملامح العبقرية الروائية لكاتبنا الكبير (راجع له: كتب وشخصيات).
ويلاحظ الدكتور شاكر خصباك مع غيره من النقاد أن القصص القصيرة التي كانت تنشر لنجيب محفوظ في الصحف والمجلات في مصر قصص تبشر بنبوغ (قصصي عظيم) إلا أنها (يعوزها متانة اللغة). وهذا هو ما لاحظه كل الذين قيّموا أعمال نجيب محفوظ في تلك الفترة، فعلى الرغم من قوة البنيان الفني في الأعمال القصصية والروائية الأولى لنجيب محفوظ إلا أن اللغة الروائية أو اللغة القصصية أو ما يطلق عليه النقد الحديث اليوم مشكلة (السرد) بكل أبعادها اللغوية والفنية معاً، كانت في حاجة إلى رحلة عمر لكاتب كبير استطاع أن يوصل لغة الرواية العربية اليوم إلى درجة عليا من الشفافية والنقاء بل وصل بها في كثير من المشاهد إلى درجة (الشعرية) بالمعنى الأدبي العام. وعلى الرغم من أن عالم نجيب محفوظ الروائي المبكر لم يكن يخلو من معالجة بعض المشاكل الاجتماعية، إلا أنه في بعض القصص القصيرة المبكرة خاصة، لم يكن يقصد إلى نقد حالة اجتماعية معينة على نحو ما يلاحظ الدكتور شاكر خصباك الذي لاحظ أيضاً منذ الأربعينيات أن نجيب محفوظ كان في تلك القصص غير الاجتماعية -إن صح التعبير- يبرع في تحليل شخوص أبطاله براعة عظيمة. وهذه القدرة على التحليل القصصي هي التي جعلت شاكر خصباك يضع نجيب محفوظ في مرتبة تعلو على أستاذه ومعلمه في فن القصة، وهو المرحوم محمود تيمور.
يعمد الدكتور شاكر خصباك في هذه المقالة المبكرة عن نجيب محفوظ إلى تحليل المعنى الإنساني الوطني لروايات نجيب محفوظ التاريخية مثل (رادوبيس) و(كفاح طيبة) وغيرهما، ويلفت نظر القارئ إلى المعاني السامية في تصوير الكاتب لتلك العصور التاريخية البعيدة؛ ثم نراه يتناول عملاً واقعياً اجتماعياً مبكراً لنجيب محفوظ وهو رواية (خان الخليلي). وهكذا يصل الكاتب بإحساس صادق وفي أسلوب علمي دقيق إلى رؤية صادقة لمجمل مسار إبداعات نجيب محفوظ. يقول الدكتور شاكر خصباك في نهاية مقالته: «تلك هي آثار الأستاذ نجيب محفوظ التي تبشر بعبقرية قصصية مبدعة ومستقبل أدبي عظيم، ولا ريب عندي أنه سيتحف الأدب العربي بمرور الأيام، بآثار باقية تخلد اسمه للأجيال القادمة».
واليوم يهدي شاكر خصباك كتاباته المبكرة التي تتضمن هذه المقالة النادرة والفريدة في النقد الروائي العربي إلى نجيب محفوظ مرفقاً بها صورة نادرة أيضاً لمجموعة من كبار كتاب الرواية في الوطن العربي، حيث يبدو نجيب محفوظ في أوائل الخمسينيات شاباً نابضاً بالحيوية والتفاؤل، وكان السحار ونجيب محفوظ وعادل كامل ويوسف جوهر وغيرهما، من المؤسسين لدار النشر للجامعيين التي طبعت أعمالهم المبكرة من الحاضرين في الصورة.


القاص شاكر خصباك(*)
□ عبد الملك نوري
يجلس أمامك بمباذله البيتية في غير تكلف في مكتبه الصغير -غرفة الضيوف- وراءه مجموعة من أسفار الأدباء العالميين وحوله بعض الأثاث البسيط بألوانه الحارة. وقد تجد بعض الكتب والأوراق ملقاة هنا وهناك. وتصغي إلى الراديو يرسل موسيقى هادئة من أحد الأركان بينما تحضر زوجته استكانات (أقداح) الشاي وتجلس في المكتب متمتعة بدفء الحديث. عندئذ يغمرك ذلك الجو العائلي البسيط وتحس أن البيت إطار حياته الطبيعي وموضع حنانه الدافئ الذي لا يحد. وقد تمر في ذهنك ذكريات مشوبة بأشواق غامضة - منظر عائلي في إحدى مسرحيات تشيخوف.. شخصية معلم طيب القلب من رواية قديمة، أو ذلك الإحساس الشعري الدافق في أقاصيص كاترين مانسفيد.. تحس أنك في عالم صغير هادئ بعيد عن ضوضاء العالم الخارجي. تطل عليك فيه باستمرار عيناه الذكيتان المتحركتان وراء النظارة وتلك البسمة المتفتحة أبداً على شفتيه. وقد تبتسم إذ تجده أحياناً يثور ويتهم نفسه بالعجز إزاء ما صنع الآخرون من جبابرة الأدب العالمي.. تبتسم وتدرك أنه واحد منا.. في الطريق.. يعاني مثلنا مشقاته الجمة. ولكنك تدرك أيضاً أن مثل هذا الشخص لا يمكن أن يقعده اليأس عن مواصلة المسير وهو يملك كل تلك الطاقة الحيوية التي دفعته من (صراع) إلى (عهد جديد). في هذه المجموعة القصصية الأخيرة شيء من قسوة الحياة ومرارتها بينما لا توجد مثلها في نعومة حياته البيتية وفي هذا الدفء الحنون الذي ينتشر من شخصه أينما حل. ولكنك تعلم حالاً أن شاكر خصباك ليس من الكتّاب المنطوين على ذواتهم.. إن أمامه الحياة بأجمعها يستمد منها أقاصيصه وإنه ذو بصيرة. وهو ينقل عن الواقع ولكنه ينقله ببساطة محببة. وكثيراً ما يكون هو المتكلم في أقاصيصه الذي يعرض حلقات القصة واحدة بعد أخرى. وهو يمتاز على الآخرين الذين ينقلون عن الواقع بأنه يتعمق في مواضيعه ويكتب أقاصيص حقيقية لا مقاصات. وأخيراً يمتاز بجهاده المخلص الدائب في سبيل تحسين فنّه وتطويره. وإزاء ذلك كله لا تملك إلا أن تعجب بشخصه كفنان وكإنسان.



#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شذرات
- قصة حب
- الفصول الاربعة
- موت نذير العدل
- أين الحقيقة؟
- نهاية إنسان يفكر
- الواعظ
- التركة
- خواطر فتاة عاقلة
- العنكبوت
- الخاطئة
- رسائل حميمة
- انطوان تشيخوف -دراسة نقدية-
- الرجل الذى فقد النطق
- امرأة ضائعة
- صراع -مجموعة قصصية-
- بيت الزوجية -مسرحية-
- ذكريات ادبية
- القهقهة ومسرحيات اخرى
- الطائر


المزيد.....




- هل تصريح نتنياهو ضد الاحتجاجات في الجامعات يعتبر -تدخلا-؟.. ...
- شاهد: نازحون يعيشون في أروقة المستشفيات في خان يونس
- الصين تطلق رحلة فضائية مأهولة ترافقها أسماك الزرد
- -مساع- جديدة لهدنة في غزة واستعداد إسرائيلي لانتشار محتمل في ...
- البنتاغون: بدأنا بالفعل بنقل الأسلحة إلى أوكرانيا من حزمة ال ...
- جامعات أميركية جديدة تنضم للمظاهرات المؤيدة لغزة
- القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ ...
- الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
- فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
- إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - شاكر خصباك - ستون عاماً من الإبداع(1-2)