أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - سالم العوكلي - حوار حول الديمقراطية في ليبيا















المزيد.....


حوار حول الديمقراطية في ليبيا


سالم العوكلي

الحوار المتمدن-العدد: 2565 - 2009 / 2 / 22 - 08:38
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    


ان طرح السؤال الديمقراطي في ليبيا ، وعلى مستوى ثقافي وتحليلي ، أصبح مهماً جداً وملحاً ، وذلك انطلاقاً من النتائج التي وصل إليها هذا المجتمع ، بعد فترة غير قصيرة من التجريب والممارسة في هذا المجال ، وانطلاقاً من مدى التغيرات التي عصفت بالعالم مع نهاية هذا القرن الحافل بالأحداث الكبيرة ، والتي كان لابد أن تفضي إلى نظرة ناقدة تجاه قضايا ، لم يعد ممكناً طرحها محلياً ، وبمعزل عن سياقها الإنساني ، أمام حمى ذوبان الحدود الاقتصادية والسياسية والثقافية يوماً بيوم .. وهذا ما سيجعلنا بقدر ما نطمح لأن تؤثر رؤيتنا وتجربتنا في الآخرين، على قدر من الاستعداد لأن نتأثر بتجارب الآخرين ، ونخوض في حوار معها ، لأن التاريخ البشري حلقات من التأثر والتأثير بين اجتهاداته ، وهي تبادلات تحكمها معايير القدرات البشرية وهواجس الهيمنة ، ومدى تباين المصالح وتقاطعها ، إضافة إلى هذا النهم النقدي الموجه بقوة إلى مبدأ الأطروحات الشمولية .
إننا أمام عالم تضيق رقعته باطراد بقدر ما تبرز بحدة خصوصياته الزمنية (وليست المكانية) ، أي بمعنى نحن الآن نعيش في هذا العالم اختلاف أزمنة في مكان واحد ، ونكتب جميعاً تاريخاً واحداً ، وهذا ما سيقودنا إلى سؤال جوهري كمدخل لموضوع التجربة السياسية والديمقراطية في ليبيا ، ومفاده ؛ هل تجد السلطة مكان ولادتها وسبب وجودها في الطبيعة نفسها ، أم في الثقافة ؟ وهل الاغتراب البشري في الأصل اغتراب سياسي ، أم اقتصادي ؟
وللتوضيح ، فإن مجتمع الهنود الحمر ، مثلاً ، كنموذج أقرب للطبيعة كان يعيش اقتصاداً كفافياً ، وهو غير محتاج للفائض ، طالما أن السلطة المنفصلة المؤهلة لمراكمة هذا الفائض وإقامة علاقات الاستغلال البشري على أساسها، غير موجودة أصلاً ، ومن هذا المنطلق هل إنجازنا الحضاري كفيل بأن يبعدنا عن هذه الطبيعة ؟ وبالتالي هل ثمة مفهوم للسلطة بمعناها التقليدي يجعل من إمكانية لنبشها المنهجي والموضوعي بمعاول المطالب الديمقراطية ؟
في مجتمعنا الليبي لا نستطيع أن نتجاهل احتدام بعض العلاقات الظالمة بين مكوناته ؛ المواطن والمؤسسة والكيان القانوني والتشريعي والبني الرقابية والقضائية ، واتساع الهوة بين الغني والفقير .. وغيرها ـ بشكل ينمذج مفهوم مجتمع ما بعد الدولة ـ وهذه العلاقات ترسخت رغم التوجه الاشتراكي المتطرف والطرح الديمقراطي التنظيري المتحمس ، والذي كان يبشر بفردوس أرضي ، ويظل مأزق التطبيق خاضعاً لمعطيات مركبة ، تتعلق أحياناً بالقفز على إمكانات الواقع الاجتماعي والثقافي ، أو الذهاب بعيداً في مثالية الطرح الذي يستشرف قيماً إنسانية أكبر من قدرات الإنسان نفسه .
لقد كانت فكرة جدل النظرية العالمية الثالثة مع الإرث الفكري الإنساني منطلقاً لإمكانية الحوار داخلها ، وإن غاب حوار مهم مع الواقع التاريخي والاجتماعي والثقافي للمجتمع المستهدف "وعاء التجربة" الذي مازال حتى الآن في أوج صراعه مع الأمية وصدمة التقنية والتخلف والتكتلات القبلية وعلاقات الإنتاج الريعية البدائية ، مجسداً مجتمع ما قبل الحداثة .
إننا نتفق مبدئياً على الرغبة الأكيدة في تحقيق أكبر قدر من العدالة وإطلاق الحريات وتطوير هذا الجزء من العالم الذي ننتمي إليه وينتمي إلينا ، وهذا الاتفاق ، الذي يجسد المشترك ، سوف يجعل الحوار حول الواقع السياسي بما فيه الطموحات الديمقراطية ، ينبني داخل هذا الإطار ، وضمن الجدل بين مسؤوليات تاريخية تقودها النخب السياسية ، ومسؤوليات اجتماعية وثقافية ، تتشكل شئنا أم أبينا ضمن حراك المجتمع الطبيعي ، وتقودها النخب الثقافية .
إن ركائز الدولة الليبية التقليدية بدأ تشكلها السياسي فعلاً مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين ، أعقبها مباشرة مرحلة ما يسمى بالطفرة النفطية التي بدأت مع منتصف الستينات ، والتي شكلت في مجملها مجتمعاً طفراوياً ، عانى إلى حد كبير من التورم السياسي والاقتصادي غير المتجذر ، فعلى المستوى السياسي غاب التخصص والتراكم والخبرة التي كانت من المفترض أن تفرز نخباً سياسية بإمكانها أن تخلق أرضية صلبة للأداء السياسي ضمن استراتيجية بعيدة المدى ، يكون أحد مستهدفاتها تهيئة الواقع اقتصادياً وثقافياً للتأصيل للدولة الديمقراطية ذات الثوابت التشريعية التي تنظم العلاقة بين جميع شرائح المجتمع ، بدل أن ينصب التركيز على إنجاز إعجازي للطموح الديمقراطي الذي لا يملك ذخيرة سوى الحماس الثوري الساعي إلى حرق مراحل لم تنضج سياسياً ، ولم تبلور قاعدة متوازنة يمكن أن يكون من خلالها أي تصور للأداء الديمقراطي مستمداً حيويته وفعاليته من تركيبة اجتماعية تتواءم مع طموح لا يمكن أن نثريه خارج إفرازات الحداثة ، لأنه في الوقع أحد منجزاتها .
أما على الجانب الاقتصادي ، فإن النفط الذي غدا بفعل التوجهات الاشتراكية المتحمسة المصدر الوحيد للدخل ، أفرز ما يعرف بالاقتصاد الريعي الذي غيب فعاليات المجتمع الاقتصادية المنتجة ، وبالتالي غيب إمكانية ان تكون له فعالية سياسية تنبثق من حس المبادرة ، ومن ثقة مساهمته في إنتاج وتطوير وتنويع الدخل القومي ، وبالتالي فإن التشريعات وحدها لا تكفي لإعطاء المواطن الحس بالمواطنة ومن ثم الثقة التامة في إمكانية التحكم في اختيار القرار ، طالما أنه لا يفعل شيئاً سوى المطالبة وانتظار مرتبه في آخر الشهر ، ومن جانب ثالث فإن عالمية الطرح النظري لهذا المشروع وشموليته أدى بدوره إلى افتراض ذات كونية ، ومواطن عالمي ، تم تذويبه في سياقات قومية وأممية ، تجاوزت خصوصية هذا المجتمع وزمنه ومكانه ، مما جعله ينظر إلى يوتوبيا ليست مفصلة على مقاسه ، وشحنة اليوتوبيا هذه نفسها هي التي جعلت المسافة بين المثال والواقع فلكية ، فضلاً عن كونها شحنته بجرعة من الإجبار وعدم قابلية النقد والأخذ والرد ، ففي اليوتوبيا تصبح العيون مسلطة على ضوء بعيد وواحد دون النظر إلى إمكانية تعدد الطرق التي تسعى إليه ، بينما على المستوى التطبيقي تم تبني وسائل تقليدية لإدارة مشروع هو في جوهره لا بد وان يكون نتاجاً حضارياً ، ولابد أن يفرز مؤسساته الحديثة التي تليق به ، لذلك فالديمقراطية كمنهج عقلاني استكانت لفترة طويلة لأداء عاطفي وحماسة مفرطة ، وكبرنامج يتعلق بالمستقبل تم تداولها وفق مرجعيات ماضوية ، وكمساحة للحوار دون شروط رضخت لهيمنة الصوت الواحد ، وفي المحصلة كمشروع تحديثي أُنيط حمله بأدوات مازالت ترزح تحت نير التخلف الاجتماعي ... ونحن لا نختلف مبدئياً على أن مفهوم السلطة الشعبية حلم إنساني تقاس مصداقية الأنظمة الديمقراطية بمدى الاقتراب منها ، وهذا الطموح يتم إنجازه عبر الجدل بينها ، دون التفكير في إلغاء أي اجتهاد ، وضمن احترام المشترك من المبادئ الأساسية التي تقوم الديمقراطية عليها ، لأن من أهم ركائز الديمقراطية هي أنها تُكوّن في حد ذاتها مناخاً ملائماً لنقد آلياتها ومؤسساتها، وتطويرها طبقاً للمتغيرات التاريخية والثقافية ، بمعنى أن أدبيات الطرح الديمقراطي يجب أن لا تتوخى لغتها الإطلاقية ، وخطابها الأحادي ، الذي يضرب الديمقراطية في جوهرها في ذروة حماسه لها .
وانطلاقاً من هذه الجدلية بين الاجتهادات الفاعلة في العالم ، يمكننا أن نذهب إلى أن انفراد البرجوازية بالحكم ناتج عن وضعها المهيمن في التنظيم الاقتصادي ، بينما الانفراد السلطوي في النظم الاشتراكية ينبع من ممارساتها السياسية ، وبين هذين الانفرادين ثمة منطقة خصبة تتفتح في العالم ، ينمذجها إلى حد كبير التجربة السويسرية التي كثيراً ما ترد في أدبياتنا السياسية كنموذج مهم .
كل ذلك سينقلنا ـ في مجتمع مازال في طور النمو ـ إلى أن نطرح رؤيتنا الديمقراطية ضمن الأسئلة الجوهرية لطاقة أدائنا الثقافي والفكري ، وهو المنحى الذي يفرض علينا سؤالاً ملحاً يتعلق بمفهوم "الديمقراطية الاجتماعية" التي لم تأخذ حقها من التحليل والنقاش أمام طموح سياسي وثوري متحمس لمشروعه ، وهو منحى تم القفز عليه، رغم انه يشكل قاعدة أساسية وتربة خصبة لقيام أية ديمقراطية سياسية ، وتجاهل هذا العامل هو ما أدى إلى إرباك كبير في مجالات تفاعل هذا المجتمع السياسية والاقتصادية والإدارية ( إرباك ينبئ بظاهرة عامة للفساد ستكون حائلاً أمام أي مشروع للتنمية أو التقدم أو الديمقراطية ذاتها ) وهو ناتج بدوره عن طموح هذا المجتمع لتحقيق تنميته ومشروعه التحديثي عبر خطاب سلفي ، ومن خلال وسائل متخلفة ، وكان هاجس البحث عن خصوصيات طبيعية لتركيبة هذا المجتمع التحتية ذريعة لبعث بنى عشائرية ، وفعاليات قبلية ، بينما هي بنى مرحلية لا تمثل ثوابت قارة لأي مجتمع ، وبطبيعتها التاريخية وبنيتها البطركية ضد الحوار والمسؤولية الفردية ، "جوهر الديمقراطية".
لذلك كانت أية محاولة لكسر احتكار السلطة عن طريق أداة ما ، توصل هذه الأداة لإغراء احتكار السلطة ، مثل السلطة المطلقة للمسؤولين عن الأجهزة التنفيذية والتشريعية والرقابية، أو سلطة الأجهزة الأمنية بمعزل عن مرجعية دستورية وقضائية واضحة ، أو سلطة اللجان الثورية التي يتشكل أعضاؤها من مواطنين يعانون من غياب التربية الديمقراطية ، أو بالأحرى الديمقراطية الاجتماعية ، بذلك ستتحول هذه الإمكانية في وعيهم إلى أداة للسلطة، جعلتهم مصدر خوف أكثر منهم حملة أطروحة ، رغم شروط الانتساب التي تراهن على مواطن مثالي بدرجة حالمة هو في الواقع غير موجود ، وهذا ما جعلنا نلمس عن كثب غياب معظم الناس عن حضور المؤتمرات الشعبية (كخيار ديمقراطي وحيد مطروح في التجربة الليبية) لدرجة أن بطاقة العضوية وتوقيع الحضور أصبحت لها علاقة بالمرتب أو بالإجراءات الإدارية ، أو حتى بتوزيع السلع الاستهلاكية المدعومة ، وهو إجراء يتعارض مع الفكرة المرادة من ورائه أساساً ، وهو الشأن الذي يجعلنا نتساءل : لماذا الغياب على المؤتمرات الشعبية إذا كانت فعلاً مكاناً لتقرير مصير المواطن ؟
لأن المواطن الذي لا يملك سكناً ، ومرتبه لا يكفي لسد رمقه ، ولا تصله المياه ، لا يعنيه في الواقع مستقبل علاقتنا بالصين أو دعم نيكاراجوا ، كما ان السلطة التنفيذية لقراراته ، والتي سبق توصيفها ، تعمل ضمن ذهنيتها المتسلطة عبر استعادة بيروقراطيتها أمام قرارات المواطن ، التي هي أيضاً تفتقد لكونها تأتي ضمن خطط مدروسة علمياً ، أو حركة إنمائية تعمل في الواقع ، وهو خلل تنفيذي له مرتكزاته النظرية، يأتي في سياق حمى تذويب الفرد وقضاياه في إشكاليات عامة تخص آليات صراعات بعيدة عن همومه اليومية التي تشكل في جوهرها معنى المواطنة ، أما الغياب شبه الكامل للمرأة ، فإضافة لما سبق ، له أسبابه التي تتعلق بثقافة المجتمع الأبوية ، وغياب الديمقراطية الاجتماعية .
كما أن ما حدث من تفتيت للمراكز حدَّ من إمكانية خلق مركزية مدنية لتراكم يتشكل ضمن رؤيا استراتيجية موحدة، وأطلق حركة التطور في فعلها الأفقي المتوازي ، على حساب فعلها الرأسي المتقاطع ، لتصبح مجالاً لتنافس أمكنة متناثرة على الثروة ، دون اعتبار للدراسات الفنية ، والجدوى الاقتصادية ، ولتفضي في نهاية الأمر على تنافس أفراد على أكبر قدر من هذه الثروة .
إن تجارب اللامركزية كانت دائماً تنتهي بتشويه الديمقراطية ، وذلك لسبب بسيط ، وهو أن اللامركزية تُقوّي القوى المحلية الرجعية ، وتضعف الوعي السياسي العام ، الذي ينمو فقط في ظروف توسيع الآفاق وإدراك الصورة الكاملة للمجتمع ، من جانب آخر فإن البنية القبلية لتشكل المجتمع الليبي ، والتي تم إنعاشها باللامركزية ، فرضت ثقافتها التقليدية على أدوات إنجاز المشروع التنموي والتحديثي ،في مجتمع نامٍ ، يحتاج إلى اكبر قدر من توظيف كل الكفاءات والقدرات العلمية والفنية ، لتؤسس لآلية أوصلت أناساً لا يملكون المؤهلات أو الخبرة أو الكفاءة لإدارة قطاعات تنموية مهمة ، وكان جسرهم إلى الوصول الولاء الثوري ، أو الانتماء القبلي الذي هو وجه متخلف للانتماء الثقافي أو المهني النقابي ، لذلك فغياب هذه التشكلات الحضارية البديلة ذات الطابع الديمقراطي ، وغياب الثوابت الدستورية والقانونية والإدارية في حالة فعلها ، شكل حالة الارتباك الإداري والتراجع المؤسسي ، فالفعاليات الشعبية لا بد ان تتحول إلى فعاليات حضارية ، يحددها الإطار المعرفي والتقني ، بدل بنيتها العشائرية المتعصبة ، والتي هي وريثة مرحلة سيطرة ثقافة ، مجتمع ما قبل الدولة ، ذي الصبغة الرعوية ، واقتصاد الكفاف، وهذا الخلط هو ما جعل التطور الصناعي ـ الذي كان من المفترض أن يفتت الانتماء القبلي باعتبار أن الفرد في القبيلة سيعيش في مجتمع تخصصه العلمي والتقني الجديد وينتمي تلقائياً إليه ـ هو ما جعل هذا التطور يُروَض من قبل السلطة القبلية ، لتصبح بذلك كوادر المصانع والشركات النفطية ذات تركيبة قبلية يحددها الانتماء إلى قبيلة مدير المصنع أو الشركة ، بدل مؤهله أو كفاءته أو خبرته ، وهذا الترويض الذي لم يخطر على بال دراسات الجدوى الاقتصادية ، نتج عن حالة التهجين التي تتمثل في رغبتنا في ولوج العصر بأدوات لا تنتمي إليه.
إن الثوابت في البنية الديمقراطية التي أسهمت في تشكيلها كل الحضارات على الأرض ، بما فيها حضارتنا الإسلامية ، كانت حصيلة تراكم تاريخي معرفي لاجتهادات العقل الإنساني الباحث منذ نشأته عن حل المشاكل التي تعترضه ، وإذا كانت هناك رغبة في طرح أي اجتهاد جديد ، يتم عن طريق هضم هذا التراث وترميم ثغراته أو نقاط ضعفه حسب المتغير ، وليس إلغائه أو القفز عليه ، لأن هذا الإرث تراكم متوافقاً ومتزامناً مع تراكم من الاكتشافات والفتوحات الإنسانية في العلوم والأنثروبولوجيا وفهم الطبيعة والمتغيرات في البنى الاجتماعية والاقتصادية ، والتقانة ، وتعقد العلاقات وتشابكها ، لأن الديمقراطية كمسلك عام تتطلب أكثر من مجرد الاعتراف بالحقوق ، إنها تتطلب أن تفرز مؤسساتها وأدواتها الحضارية والأهم من ذلك عقلها وثقافتها الخاصة التي تغدو مع الممارسة الفعلية الطويلة ثقافة شعبية ، كما أنها يجب أن تنبع من القاعدة كتتويج دستوري لحراك اجتماعي واقتصادي ، يغذيه عقل نقدي مجاور لا يقف مقدس أمام تطلعه ، وكل هذا سيعيدنا إلى إعادة طرح سؤال الديمقراطية الاجتماعية ، فيما يخص العلاقات الأفقية داخل المجتمع ؛ بين الأب وأبنائه ، المعلم وتلاميذه ، المؤسسة ومنتسبيها ، وحرية المرأة وحقوق الطفل ، إلى غيرها من العلاقات التي لا تتسق إلا بتبادل حر للآراء ، وشفافية سوف تكون سمة لأي غطاء سياسي يعلو فوق هذه القاعدة ، لكننا بنظرة بسيطة سنكتشف أن مجمل هذه العلاقات مازال يخضع لثقافة سلطوية تقليدية مهيمنة تنتقل في اتجاه واحد ، وبالتالي ستنتج ذهنية قمعية ، جوهرها المصادرة ، ستكون وراء إجهاض أي طرح ديمقراطي ، يأتي فوقياً ومتجاهلاً لكل هذه المعطيات الطاردة بطبيعتها لثقافة الاختلاف والحوار.
والمسؤولية ملقاة على عاتق النخب الثقافية المنوط بها خلخلة هذه الثقافة الأبوية المحتدمة ، والصراع من أجل انتزاع هامشها التنويري الذي بالتأكيد لن تهبه لها الأنظمة المستفيدة من هكذا وضع يضمن لها الحفاظ على مكتسباتها ، الأنظمة التي هي وليدة واقع اجتماعي متخلف ترث تلقائياً كل أزماته وأدواته القمعية ، من جانب آخر لابد أن يحاذي هذه الخلخلة سعي أصيل يقوم به الهامش المتاح للنشاط الأهلي ، عبر تطوير أداء المؤسسات الشبابية والتعليمية ، والعمل عل شحن المناهج الدراسية بإمكانية الحوار والبحث والمبادرة بدل قالبها التلقيني العنيف الذي لا يمكن إلا أن يفرز ذهنية عنيفة ومغلقة .
ومن هذا المنطلق حري بنا أن نطرح سؤال الديمقراطية للنقاش الجاد ، حتى نتلافى الزمن الطويل المهدر الذي صرفته النخب الثقافية في تحليل أولويات أخرى أخذت الكثير من نزيفهم ، مثل القومية والوحدة والاشتراكية ، متناسين المسألة الأساسية وهي الديمقراطية التي كان من شأنها أن تخلق لهم أرضية التعبير والنقد والتحليل لكل التفاصيل اللاحقة . وما أخشاه الآن أن تأخذ عبارة "الإصلاح" التي تجتاح أدبياتنا نفس الشحنة التجريدية السابقة ، التي تجعلنا نخوض في الحبر قرناً كاملاً دون أن نفكر في وحل الواقع .
إنها مجموعة أسئلة على المثقفين أن يواجهوها من جديد في هذه المرحلة الهامة ، نبدأها بسؤال كان البداية :
هل تولد السلطة في طبيعة الإنسان ؟ أم في ثقافته المكتسبة ؟ وهل الاغتراب الإنساني سياسي أم اقتصادي ؟ بمعنى أن هناك مجتمعات تبنت سياسياً أحدث أنظمة الديمقراطية ، بما فيها تداول السلطة ، ولم تحل أزماتها الاقتصادية ، وهناك مجتمعات تملك مقدرات اقتصادية هائلة ومازالت تحافظ عل نظمها السياسية التقليدية .
وفي مجتمعنا مثلاً هل كان لحضور النفط كاقتصاد ريعي ولإلغاء النشاط الاقتصادي الخاص أثر في إنجاز مشروعنا الديمقراطي ؟ وهل لانسحاب القانون أمام استفحال المظلة القبلية التي اجتاحت بثقافتها كل المؤسسات نفس الأثر ؟
ـ هل بالإمكان أن ننجز ديمقراطية سياسية في مجتمع يعاني من غياب الديمقراطية الاجتماعية والمساهمة الفعالة لقطاعاته المختلف في بنية الاقتصاد الوطني ؟
ـ هل بالإمكان طرح مشروع ديمقراطي بلغة غير ديمقراطية ؟
ـ إن العزلة مقبرة الشعوب ، هذا ما أثبته التاريخ البعيد والقريب ، وبالتالي إذا أردنا الاندماج في اقتصاديات العالم الحديثة ، فما مصير الآليات السياسية التي تحاول أن تدخل العصر برِجْل واحدة ؟
ـ هل بالإمكان إنجاز تقدم ديمقراطي مع رهاب العولمة ، ولافتات السيادة الوطنية التي تشكل حصانة لكثير من الأنظمة القمعية ؟
ـ إذا كانت الديمقراطية ان يحكم الشعب نفسه عن طريق فعالياته المنتجة المختلفة في مناخ من إطلاق الحريات والاعتراف بالمسؤولية الفردية ، فكيف يمكن ان تتعين هذه الفعاليات في مجتمع معاصر ، وما مفهوم التعددية ضمن هكذا توصيف ؟ وما السبيل لإطلاق الحريات في مجتمع تحكمه الكثير من التابوهات (الدينية والاجتماعية ) وهو الواقع الذي تعكسه أزمات مسلمين عاشوا في مجتمعات ديمقراطية علمانية ـ كفرنسا مثلاً ـ ومازالوا في صدام معها بحكم هذه التابوهات التي عبرت البحر معهم .
ـ هل من الممكن أن نتحدث عن ديمقراطية في مجتمع يحدد في دستوره دين الدولة ، أو يتخذ النص المقدس شريعة له طارداً الجدال حول كل تشريعاته الأرضية ذات الجينة المقدسة ؟
ـ اعتماداً على التجربة التاريخية ، كيف نحدد علاقة الثورة بالديمقراطية ؟ هل يمكن أن تقوم ثورة في مجتمع ديمقراطي ؟ وبالمقابل هل ممكن أن تقوم ديمقراطية في مجتمع في ذروة حماسه الثوري ؟ هل العلاقة متزامنة ومتحايثة ، أم هي علاقة مرحلية تلتزم بأن تكون الثورة مرحلتها الأولى ؟
إنها مجموعة أسئلة أتمنى أن تكون مدخلاً لحوار شفاف وعلمي .



#سالم_العوكلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من هنا إلى مكة .. يوتوبيا الصادق النيهوم
- لا بد من الجلوس خلف المقود المجتمع المدني والعلمانية
- الكتابة بالأظفار
- العلم جمالية العقل
- لغة الهيمنة: هيمنة اللغة ،
- اليوتوبيا والدكتاتورية
- من أول السطر


المزيد.....




- فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص ...
- حرب غزة: أكثر من 34 ألف قتيل فلسطيني و77 ألف جريح ومسؤول في ...
- سموتريتش يرد على المقترح المصري: استسلام كامل لإسرائيل
- مُحاكمة -مليئة بالتساؤلات-، وخيارات متاحة بشأن حصانة ترامب ف ...
- والدا رهينة إسرائيلي-أمريكي يناشدان للتوصل لصفقة إطلاق سراح ...
- بكين تستدعي السفيرة الألمانية لديها بسبب اتهامات للصين بالتج ...
- صور: -غريندايزر- يلتقي بعشاقه في باريس
- خوفا من -السلوك الإدماني-.. تيك توك تعلق ميزة المكافآت في تط ...
- لبيد: إسرائيل ليس لديها ما يكفي من الجنود وعلى نتنياهو الاست ...
- اختبار صعب للإعلام.. محاكمات ستنطلق ضد إسرائيل في كل مكان با ...


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - سالم العوكلي - حوار حول الديمقراطية في ليبيا