أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - منذر خدام - دكتاتورية البروليتاريا أم الديمقراطية الشاملة















المزيد.....



دكتاتورية البروليتاريا أم الديمقراطية الشاملة


منذر خدام

الحوار المتمدن-العدد: 787 - 2004 / 3 / 28 - 10:41
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


(10)
1-مفهوم " دكتاتورية البروليتاريا " .
في هذا المبحث سوف نناقش مفهوم "دكتاتورية البروليتاريا"باعتباره ركناً أساسياً من أركان النظرية الماركسية يحدد موقفها من السلطة . في القراءة الأولى لهذا المفهوم يتبين كم هو مشبع بالروح النفووية للأخر، وبالتالي كان من الطبيعي،والمنطقي أن يلعب دوراً مساعداً في تعبيد الطريق أمام قيام الدكتاتورية في البلدان " الاشتراكية" السابقة تحت يافطة بناء الاشتراكية، ودولة العمال والفلاحين. ومع أن هذه الرؤية للسلطة وبناء الدولة يمكن اعتبارها محجوزة ومتجاوزة بالمعنى التاريخي ، وأن العديد من الأحزاب الشيوعية قد تخلى عنها رسمياً ، فإنه لا يمكن بناء رؤية ماركسية جديدة للديمقراطية ، بدون نقد هذا المفهوم الأساس في النظرية الماركسية .
يشير ماركس في إحدى رسائله إلى أن مساهمته الأساسية في مجال الصراع الطبقي تتلخص في برهانه على تاريخيته ، وأن النضال الطبقي سوف يفضي موضوعياً إلى دكتاتورية البروليتاريا، وأن هذه الدكتاتورية نفسها لا تعني غير الانتقال إلى القضاء على كل الطبقات،والوصول إلى المجتمع الخالي من الطبقات(1).واعتبر لينين إن من أراد أن يكون ماركسياً حقاً عليه أن يؤمن بدكتاتورية البروليتاريا فهي شرط ضروري لذلك .
ماذا كان يعني مفهوم " دكتاتورية البروليتاريا " بالنسبة للماركسيين الكلاسيكيين ؟.ولماذا اختاروا مصطلح "دكتاتورية " لتوصيف أوسع أشكال الديمقراطية التاريخية، كما نظر لها هم أنفسهم ؟ .
لقد استند ماركس في برهانه على دكتاتورية البروليتاريا إلى تحليله لأوالية اشتغال القوانين الاقتصادية الرأسمالية التي تفضي موضوعياً إلى تشكيل طبقتين متضادتين مبدئياً: الطبقة البرجوازية وطبقة الأجراء .وأن سيرورة الطبقة الأولى سوف تفضي موضوعياً إلى تلاشيها التدريجي ، في حين أن سيرورة الطبقة الثانية تقود موضوعياً إلى توسعها المستمر ، وعند نقطة معينة من المسار العام للتاريخ سوف تتحول إلى الطبقة الأمة .
يبدو أن تحليل ماركس واستنتاجاته من الناحية النظرية متماسكة منطقياً، فالأوالية العامة لاشتغال القوانين الاجتماعية الموضوعية ومنها بالدرجة الأولى القوانين الاقتصادية تؤدي فعلاً إلى إزاحة مستمرة للعمل الحي من دائرة الإنتاج،بل ومن الدوائر الأخرى لاستهلاك قوة العمل،وهذا ما نشاهده اليوم نتيجة الثورة العلمية والتكنولوجية المعاصرة.وعلى المدى البعيد يمكن توقع وضعية اجتماعية جديدة نوعياً يصبح الانقسام الرئيسي فيها هو بين وقت العمل ووقت الراحة وليس بين من يملك وسائل الإنتاج ( رأس المال ) ومن لا يملك .
لكن ما لم يقله ماركس ( وما كان باستطاعته أن يقوله آنئذ ) هو كيف سوف تتحقق هذه الصيرورة الموضوعية على الصعيد السياسي والأيديولوجي؟ وفي أية وضعية بنيوية سوف تكون هذه الطبقة الأمة المزعومة ؟ وعندما حاول إنجليز مقاربة هذه الصيرورة العامة من الناحية السياسية قارنها بصيرورة الحركة الدينية المسيحية . ومع أن هذه المقارنة الصائبة لم تقل كل شيء ، فإنها أضمرت أشياء كثيرة. فمن المعروف أن واقع الحركة السياسية الماركسية في الوقت الراهن وتنوع فضاءاتها الأيديولوجية المباشرة يشبه إلى حد بعيد وضعية الحركة الدينية المسيحية(وغير المسيحية) التي مزقتها الانقسامات والصراعات . ونظرا لأن الدور التاريخي السياسي للحركات الدينية في أوربا يمكن اعتباره متجاوزا ، فهل ينطبق ذلك على الحركة الشيوعية ؟!
لا شك بأن المبررات التاريخية لوجود الفكر الماركسي والحركات السياسية التي تعمل تحت رايته لا تزال قائمة، مع ذلك فان مظاهر الشيخوخة تبدو عليها جلية واضحة .ومن بين الأسباب العديدة التي أدت إلى ذلك الفهم الخاطئ لدكتاتورية البروليتاريا وتطبيقاته العملية.
إن تقصينا لموضوعة دكتاتورية البروليتاريا باعتبارها قضية سياسية ، أي شكلاً أو نموذجا لسلطة الطبقة العاملة ، قد بين لنا بجلاء افتقار النظرية الماركسية إلى معالجة كاملة ومتسقة لها. وإن ما قيل حولها في الأدب الماركسي الكلاسيكي لا يزيد عن شذرات قيلت في مناسبا متفرقة يمكن أن تسمح بتأويلات عديدة ومتباينة . فعندما سئل إنجليز مثلا عن فهمه لدكتاتورية البروليتاريا أشار إلى كومونة باريس حيث :
أ-الانتخاب المباشر لممثلي العمال إلى هيئات السلطة العليا ،والاحتفاظ بحق عزلهم من مناصبهم من قبل الذين انتخبوهم .
ب-تحديد سقف أعلى للرواتب لكبار الموظفين بحيث لا تتجاوز حدا معينا قياسا إلى وسطي رواتب العمال .
ولقد اعتبر إنجليز كومونة باريس نموذجا لدكتاتورية البروليتاريا مع أن الحزبين الرئيسيين فيها ، البرودونيين والبلانكيين لم يكونا حزبين شيوعيين.
ولقد ساهم الموقف النفووي للشيوعيين ضد البرجوازية إلى جانب التباس مفهوم " دكتاتورية البروليتاريا " ذاته في تكوين تصور الدولة لدى الحركة الشيوعية وفي ممارستها السلطة (2) . ومع أن إنجليز كان قد أوضح في إحدى إصدارات البيان الشيوعي ( الطبعة الإنجليزية ) بأن المقصود بالبروليتاريا هم فئة العمال الأجراء الذين يبيعون قوة عملهم ليعيشوا، إلا انه لم يغير كثيرا من الالتباس الحاصل. بل وبقي الالتباس قائما على الرغم من الإشارات العديدة إلى المحتوى الديمقراطي الواسع لدكتاتورية البروليتاريا في الأدب الماركسي وإنها تعبر عن مصالح أوسع الفئات الاجتماعية . فلقد قيل في حينه إن الفوز بالسلطة السياسية هو فوز بالديمقراطية. ومعروف أيضا شعار لينين" كل السلطة لسوفيتيات العمال والجنود والفلاحين " ..الخ.
لكن كيف تتحدد الحمولة الديمقراطية لمفهوم " دكتاتورية البروليتاريا " بالمعنى السياسي؟ لا يجيب الأدب الماركسي . وعندما يشار عادة إلى تجارب البلدان " الاشتراكية "السابقة ، فإن النتيجة تكون سلبية . لقد أدت التجربة السياسية للقوى الماركسية في البلدان "الاشتراكية " السابقة إلى القضاء على جميع الأحزاب السياسية " المعادية " وتحويل الأحزاب "الحليفة" إلى مجرد ديكورات سياسية شكلية ، وحتى حزب الثورة ذاته فقد اختزل لصالح بعض المستويات القيادية فيه ،ليتحول إلى مجرد جهاز بيروقراطي .
إن التباس مفهوم " دكتاتورية البروليتاريا " كان في صلب الحوارات و السجالات الفكرية التي جرت في صفوف الحركة الشيوعية العالمية ، وكان من نتائجها، بالإضافة إلى أسباب أخرى عديدة ،الانقسام الكبير في صفوفها الذي حصل في أوائل القرن العشرين .بالطبع يمكن قول الكثير عن دور الستالينية في تشويه " دكتاتورية البروليتاريا " كما يمكن قول الكثير أيضا عن ممارسات الحركة الاشتراكية الديمقراطية ومهادنتها للبرجوازية . فعندما تخلت الأحزاب الشيوعية عن الديمقراطية تحت ذريعة بناء الاشتراكية ،لم تبن الاشتراكية ، كذلك الأمر بالنسبة للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية التي غابت عن برامجها الاشتراكية تحت ذريعة التمسك بالديمقراطية ، فقد سقطت بالكامل في اللعبة البرجوازية ،وأخذت تمارس السياسة من مواقعها بالذات (3).
إن القضية المطروحة في الوقت الراهن هي إعادة الجمع بين الاشتراكية والديمقراطية. فشعار" المزيد من الاشتراكية يعني المزيد من الديمقراطية " له ما يبرره في البلدان الرأسمالية المتقدمة . أما في ظروف التخلف فإن هذا الشعار خاطئ . يصح هنا القول " إن مزيدا من الديمقراطية يعني مزيدا من التقدم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية " .
السبب الثاني الرئيسي لابتذال مفهوم " دكتاتورية البروليتاريا " من قبل جميع الأحزاب الشيوعية هو فصل الديمقراطية بالمعنى الاجتماعي والاقتصادي عن الديموقراطية بالمعنى السياسي، الأمر الذي قضى على الاثنين معا، وكرس الحزب الشيوعي القوة السياسية الوحيدة في البلدان الاشتراكية السابقة . فمنذ البداية اعتبرت البرجوازية بكل فئاتها عدوة ولا بد بالتالي من القضاء عليها ، وكان الحزر كبيراً من بقية القوى الاجتماعية. " إن تدفق الطلاب والأدباء القوي على الحزب مقرون بشتى الأضرار إذا لم نبق هؤلاء السادة ضمن الإطارات اللازمة .."(4) .في ظل هذه المعطيات فإن البديل المنطقي ،الذي أكدنه التجربة العملية هو قيام دكتاتورية شمولية، الدولة فيها تقف في مواجهة جميع فئات الشعب بما فيهم العمال أنفسهم . وحتى الحزب الشيوعي نفسه تحول إلى مجرد جهاز من أجهزتها .نفتح قوسين لنقول إذا كان للأنظمة الدكتاتورية ما يبررها من ضرورات تاريخية في شروط وسياقات تاريخية محددة ، فإنها في الوضعية التي نعالج لا تبرير لها تحت أية ذريعة كانت . لقد ألحقت الدكتاتوريات الشمولية في البلدان " الاشتراكية " السابقة ضررا كبيرا بقضية تطور بلدانها بسبب كبتها التناقضات الاجتماعية، ومنعها من التعبير عن نفسها بصورة سلمية ، وتكوينها للشخصية الاجتماعية بصورة أحادية الجانب .ولم يكن الحال أفضل في البلدان المتخلفة التي استلهمت النموذج " الاشتراكي " الذي كان قائما ، فلم تستطع إنجاز مهام المرحلة الوطنية الديمقراطية بصورة سليمة ، فتعمق اغتراب المواطن عن وسائل إنتاجه ، بل عن وطنه أيضاً.
لقد برهنت الحياة أن مفهوم " دكتاتورية البروليتاريا " قاصر جدا، وهو متجاوز في الوقت الراهن. واللافت أن يتمسك ماركس وغيره من الكلاسيكيين ، بل المجددين أيضاً بمفهوم دكتاتورية البروليتاريا لتوصيف البناء السياسي الذي تسعى الحركة الشيوعية إلى بنائه . السبب في ذلك حسب رأينا يكمن في إحدى الاستنتاجات الماركسية المعروفة التي تفيد بأن تاريخ التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية الطبقية، هو في الوقت ذاته تاريخ للقمع والنهب والدماء، مارسته الطبقة المسيطرة في المجتمع على الطبقات الأخرى ، وإن سلطة الطبقة العاملة لن تكون غير سلطة قمعية خلال مرحلة إلغاء الطبقات (المرحلة الانتقالية) . لكن القمع في دولة العمال سوف تمارسه الأكثرية على الأقلية ( كذا) .
ماذا كان من نتيجة التصورات الأيديولوجية السابقة في الحقل السياسي ؟ من المعروف أن الصراع الطبقي في ظروف الرأسمالية أفرز موضوعيا الأحزاب السياسية كشكل جديد للوجود المجتمعي ولممارسة الصراع الطبقي في الحقل السياسي .وعندما شمل القمع الذي مارسته الأحزاب الشيوعية في البلدان "الاشتراكية " السابقة، مجال الممارسة السياسية ، كان لا بد من إلغاء الأحزاب السياسية المعادية على وجه السرعة ، ليشمل القمع لاحقا الأحزاب الحليفة موضوعيا ، وتتحول الأحزاب الأخرى الحليفة مباشرة إلى مجرد هياكل شكلية.
إن الإلغاء التعسفي للأحزاب السياسية التي هي شكل ضروري للوجود المجتمعي في ظل الرأسمالية يمارس المجتمع من خلالها حياته السياسية ألحق ضررا كبيرا بقضية التقدم الاجتماعي وأربك الحياة السياسية ومهد الطريق أمام قيام الدكتاتوريات الشمولية .إن وجود الآخر المختلف سياسيا يشكل حدا معياريا لمصداقية مواقفك السياسية ،وهو ضروري أيضا للبناء الاجتماعي السليم ولحراكه التطوري الداخلي ، ويحصن المجتمع ضد الأخطار في اللحظات الانعطافية الحادة . هذا ما يؤكد عليه علم السياسة وتبرهن عليه الممارسة العملية . من هذا المنطلق لا يصح أن تستهدف الحركة السياسية، الدكتاتورية مها تم تزيينها أيديولوجيا ، بل الديمقراطية الشاملة .
2-مفهوم " الديمقراطية "
إن مفهوم "الديمقراطية " مثله مثل أي مفهوم أخر وثيق الصلة بموضوعه، فعندما يتغير مضمون الديمقراطية تتغير الدلالة الاصطلاحية للمفهوم ذاته . من الناحية المنهجية نعالج الديمقراطية في ثلاث مستويات رئيسية هي :
في المستوى الأول تتحدد الديمقراطية إيجابيا على شكل إعلان مبادئ عامة. مثلاً ، كأن نقول إن الديمقراطية تتحدد بوجود حرية التعبير، والتعددية السياسية، وسيادة القانون ،وتبادل السلطة.. إلى آخر هذه المحددات. لكن إذا نظرنا إلى هذه المحددات المبدئية من الزاوية التاريخية فسوف تبدو بلا قيمة في ذاتها إلا كمبادئ ، كمثل مجردة . أما قيمتها الحقيقية فهي في الشكل التاريخي الذي تظهر به .فمن خلال سيرورتها التاريخية كانت هذه المبادئ الديمقراطية تتصير وتغتني بمحددات جديدة ويتوسع بالتالي المعنى الاصطلاحي لها .لذلك من الصعوبة منهجيا الحديث عن الديمقراطية بصورة عامة ، بل عن الديمقراطية التاريخية،كأن نقول مثلا الديمقراطية الإغريقية ، أو الديمقراطية في إنكلترا في بداية القرن العشرين الخ.بكلام أخر إن الموضوع الذي يشير إليه مفهوم" الديمقراطية " هو موضوع تاريخي بامتياز ، يختلف باختلاف الشروط الاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة في كل بلد ، في هذه المرحلة أو تلك من مراحل تطوره .فعلى سبيل المثال الديمقراطية اليونانية القديمة كانت مقتصرة على طبقة الأحرار التي كانت تشكل في حينه 12% من عدد السكان فقط . الديمقراطية في إنكلترا وفرنسا في القرن التاسع عشر كانت تشطرت على من يحق له الترشيح والانتخاب أن يمتلك مقدارا معينا من الثروة كحد أدنى .ولم يتم الاعتراف بحق المرأة في الانتخاب والترشيح في أغلب البلدان الأوربية إلا في العقدين الرابع والخامس من القرن العشرين. بل ولا تزال المرأة تفتقر إلى المساواة بالرجل أمام القانون في بلد مثل سويسرا .
باختصار يشهد تاريخ الديمقراطية عموما، وتاريخ الديمقراطية البرجوازية خصوصا على أنها كانت تتضمن على طول الخط عناصر غير ديمقراطية (قمعية) تظهر أحيانا بصورة سافرة، مثل حرمان فئات اجتماعية بكاملها من ممارسة الديمقراطية ، وفي أحيان أخرى تستتر في القانون الانتخابي الذي يحدد طريقة معينة لممارسة الحقوق الديمقراطية .مع تطور الرأسمالية تراجعت الأشكال السافرة للحد من الحقوق الديمقراطية لصالح الأشكال غير السافرة ،على شكل تحديدات وقيود يفرضها القانون الانتخابي تتعلق مثلا بشروط الترشيح أو بتوزيع الدوائر لانتخابية ..الخ .ففي فرنسا مثلا توزع الدوائر الانتخابية بشكل يجعل بعض المرشحين يحتاجون من أجل الفوز إلى أضعاف ما يحتاجه غيرهم من أصوات في دوائر أخرى(5) .
وقد يتوسع نطاق التحديد الذي يفرضه القانون الانتخابي بحيث يوضع المواطنون أمام خيار وحيد كما يحصل عادة في نظام الانتخاب السياسي المباشر الذي يعتمد البلد كدائرة انتخابية واحدة و يتم التصويت لاختيار قوائم حزبية . في هذا النوع من الديمقراطية يحق لكل مواطن أن ينتخب لكن لا يحق له الترشيح (نموذج إسرائيل ). ومن الواضح أننا لا نشير هنا إلى الحيل الانتخابية و إمكانية شراء الأصوات أو التزوير .. الخ، التي جعلت من الديمقراطية البرجوازية لعبة فعلاً.
في ظروف المنطقة العربية حيث لا تزال الديمقراطية الحقيقية حلما فإن الإشكالية أكثر تعقيدا. فالتاريخ السياسي القديم والحديث هو تاريخ للدولة المركزية الشمولية ، فليس ثمة من تقاليد ديمقراطية.وإذا كان لذلك ما يبرره في التاريخ القديم ،بل وإذا كانت الدولة القوية ضرورية في ظروف التخلف، فان ما هو غير ضروري فيها في الوقت الراهن هو طابعها الشمولي .
إن النظر إلى الديمقراطية في البلدان العربية من زاوية علاقاتها بمختلف أشكال الوجود المجتمعي يبين أنها لا تزال تتحدد سلبا .فالمصالح الاجتماعية الطبقية أو الفئوية وحتى الفردية منها لها محددات طائفية أو قبلية ،أو عشائرية، أو أثنية أو الجهوية،أي كل ما ينتمي إلى العلاقات الشخصانية الخ وتتكثف هذه المحددات وتبرز خصوصا في الحقل السياسي . بكلام أخر إن نمو العلاقات الرأسمالية في البلدان العربية لم يصهر البنية المجتمعية على قاعدة وطنية ،وذلك بسبب الطابع الخاص للرأسمالية الطرفية، وشروط تصيرها ،والحضور المكثف للتراثي في الوعي الاجتماعي . لذلك لا تزال العلاقات الشخصانية، ونزعة الإنابة والاختزال في الآخر، وما يفترض به أن ينتمي إلى الماضي، فاعلة في الحقل السياسي كما في الحقول الاجتماعية الأخرى .
إن الرأسمالية في منطقها الداخلي تتطلب موضوعيا وجود درجة معينة من الديمقراطية ، لكنها مع ذلك قد تلجأ إلى مختلف الأشكال الاستثنائية للدولة والسلطة في ظروف معينة . يزداد احتمال اللجوء إلى هذه الأشكال الاستثنائية للدولة والسلطة كلما كانت الأساليب السياسية في استحواذ فضل القيمة هي السائدة ، وبالعكس تقل احتمالاتها كلما كان رواج رأس المال نظاميا ،وتستخدم الأساليب الاقتصادية فقط في استحواذ فضل القيمة .ولا تزال هذه الواقعة النظرية صحيحة في الظروف الراهنة ، على الرغم من أن الاتجاه العام نحو الديمقراطية يتعزز أكثر فأكثر ،ويضيق الخناق على الأنظمة الدكتاتورية. في هذه الظروف أخذت قضية الديمقراطية تحتل موقعا متقدما في جدول الأعمال للحركة السياسية والاجتماعية العربية يتنامى الاهتمام بها ،وتتسارع الحركة باتجاهها .وإذا كانت بعض الفئات الاجتماعية لا تزال تعاكس هذه الميول الديمقراطية المتنامية ، متذرعة بتخلف البنى الاجتماعية والسياسية أو بتخلف الوعي العام تارة ،أو بضرورات الصراع مع العدو الصهيوني تارة أخرى، فان ذلك لم يعد مقبولا . فكما أنه لا يمكن " تعلم السباحة قبل النزول في الماء" فلا يمكن تعلم الديمقراطية والتعود عليها والارتباط بها إيجابيا بدون ممارستها .
تحدثنا حتى الآن عن الديمقراطية في نموذجها الذي ظهرت به في فكر وممارسة البرجوازية الأوربية، ومن المعروف انه لم يكن واحدا ولا نهائيا، لذلك فان الاجتهاد في مجال الديمقراطية فكراً وممارسةً أمر مشروع ومبرر . يلح على ذلك الظروف السائدة في مجتمعاتنا العربية ،التي تتطلب رؤية جديدة للديمقراطية تكون في مصلحة تطورنا اللاحق .
في ظروف البلدان الأوربية تكفلت حركة رأس المال بصهر البنية الاجتماعية وإعادة تشكيلها على أسس وطنية جديدة .بكلام أخر لعبت المصالح الاقتصادية وما نسجته من علاقات وروابط في المجتمع الدور الحاسم في إزاحة البنى الاجتماعية الإقطاعية وأشكال الوجود المجتمعي العائدة إلى ما قبل الرأسمالية من حقل الممارسات السياسية أو إضعاف دورها بحيث لم يبق لها شأن يذكر.
في بعض الدول التي نشأت أصلا على أسس عنصرية أو استعمارية اعتمدت البرجوازية المحلية نظام ديمقراطي ضيق كما كان الحال في جنوب أفريقيا العنصرية ، أو نموذج ديمقراطي مباشر كما في " إسرائيل " .
لقد كان دعاة المشروع الصهيوني منذ البداية واعين للمخاطر الكامنة في الطبيعة التركيبية لمجتمعهم المصطنع، لذلك تم اختيار نموذج للديمقراطية يساعد في تسريع عملية صهر البنية الاجتماعية لكيانهم تمثل في الديمقراطية السياسية المباشرة واعتماد الدائرة الانتخابية الواحدة على أن يتم الانتخاب على أساس القوائم الحزبية . في هذا النموذج الديمقراطي فقدت التجمعات اليهودية القادمة من بلدان مختلفة دورها السياسي الانعزالي وبالتالي لم تعد تعيق عمليات الاندماج الداخلي للمجتمع الصهيوني .مما لا شك فيه، أن اليهودي القادم من بلد معين كان سينتخب ابن جاليته نظراً لقربه منه وللروابط التي تجمعه به في حال استخدم نموذج أخر للديمقراطية. بهذا الشكل ساعد الاختيار السليم لطريقة ممارسة الديمقراطية في تسريع انصهار ودمج البنية المجتمعية للكيان الصهيوني . ومع انه لا تزال توجد بقايا انتماءات جهوية أو اقوامية فاعلة بعض الشيء في الحقل السياسي إلا أنها لا تهدد انصهار البنية المجتمعية للكيان الصهيوني.
في لبنان البلد المجاور "لإسرائيل " يختلف الوضع تماما .هنا الدولة الطائفية، والنموذج الديمقراطي المطابق لها ،حافظت على بقاء البنية المجتمعية مفككة لا تتصل بالوطن إلا من خلال الكيانات الطائفية والمذهبية والزعامات الإقطاعية السياسية المستندة إليها .
نخلص إلى القول بأن الديمقراطية التي ننشدها ونجتهد لبلورتها نظريا لتلائم الظروف السائدة عندنا مدعوة للمساهمة في صهر البنية الاجتماعية ، بحيث لا يعود يتوسط علاقات المواطن بوطنه أي كيان طائفي أو مذهبي أو قبلي أو عشائري أو جهوي .. الخ .بكلام أخر إن إشكالية الديمقراطية تتمثل من حيث الجوهر بضرورة الوحدة العضوية الوظيفية بين الديمقراطية في المجال الاقتصادي والاجتماعي ،والديمقراطية في المجال السياسي .فالأسس الاقتصادية ،والاجتماعية ،والسياسية للديمقراطية التي ننشدها تشكل كلا لا يتجزأ. ولا بد ،بالتالي ،من خلق أفضل الظروف لكي تعبر عن نفسها في بناء الدولة والسلطة . وباعتبار أن هذه الأسس تتغير باستمرار فإن شكل الديمقراطية يتغير هو الآخر باستمرار أيضا .
في ظروف البلدان العربية يبدو لنا أن أفضل نموذج للديمقراطية يناسب هذه الظروف هو نموذج الديمقراطية الواسعة الذي يسمح لمختلف التناقضات الاجتماعية الضرورية في المرحلة الراهنة من زاوية منطق التاريخ ، أن تعبر عن نفسها في جميع مستويات الدولة والسلطة ، وبشكل خاص في الهيئات التشريعية .في ضوء ذلك نعرف الديمقراطية بأنها : الاوالية العامة لظهور التناقضات الاجتماعية وحركة صراعها وحلها بالوسائل القانونية السلمية .بهذا المعنى فان الديمقراطية ليست شكلا لممارسة الحياة السياسية فقط، بل أسلوبا في الحياة بصورة عامة .
غير أن اشتغال هذه الاوالية العامة لظهور التناقضات وحلها بصورة سلمية يتوقف إلى حد بعيد على بنائها التنظيمي، وهذا هو موضوع المستوى الثالث من بحث إشكالية الديمقراطية .
إن ممارسة الديمقراطية يتوقف على كيفية بناء الدولة ،وتكوين مستويات السلطة فيها ،والعلاقات المتبادلة بينها . وباعتبار أن السلطة في النظام الديمقراطية تكتسب شرعيتها من الإرادة الحرة للشعب ، فان قانون الانتخاب الذي ينظم الشكل الذي تعبر من خلاله هذه الإرادة الشعبية عن نفسها ، مدعو لتأمين أفضل الظروف القانونية والإجراءات الإدارية كي تعبر عن نفسها هذه الإرادة من خلال صندوق الاقتراع.
ثمة أفكار كثيرة تتعلق بالبناء الهيكلي للدولة وتوزيع السلطات ، وكذلك بالقوانين والإجراءات المنظمة للممارسة الديمقراطية ، من السابق لأوانه تفصيل القول فيها . مع ذلك يمكن إبداء بعض الملاحظات كمادة حوارية لا أكثر .
عندما تكون البنية الاجتماعية منقسمة داخليا إلى بنى طائفية أو اثنيه ، يمكن عندئذ التمييز بين نوعين من الأحزاب السياسية تعمل في مستويين سياسيين مختلفين :النوع الأول يشمل الأحزاب المنفتحة أيديولوجيا وسياسيا على جميع المواطنين بغض النظر عن انتمائهم الطائفي أو المذهبي أو الاثني ، وتمارس هذه الأحزاب نشاطها على المستوى الوطني لانتخاب الهيئات التشريعية الوطنية .أما النوع الثاني فتعمل على المستوى المحلي (مستوى التقسيمات الإدارية أو التوزيعات الطائفية أو الاثنية) لانتخاب السلطات المحلية إلى جانب الأحزاب السياسية من النوع الأول. وفي مجمل الأحوال لا يجوز السماح، بقوة القانون، بوجود أحزاب سياسية لا تؤمن بالديمقراطية ولا تمارسها عمليا في حياتها الداخلية وفي علاقاتها مع القوى الاجتماعية الأخرى .
فيما يتعلق بطريقة الانتخاب إلى الهيئات التشريعية الوطنية نرى أن يلحظ القانون الانتخابي إجراؤها على مرحلتين : في المرحلة الأولى تجري الانتخابات على أساس سياسي نسبي حيث تكون البلد دائرة انتخابية واحدة .
وفي المرحلة الثانية تجري الانتخابات على أساس طبقي أو فئوي بحيث ترفع كل طبقة أو فئة اجتماعية عددا من المندوبين عنها يتناسب مع حجمها أو فاعليتها في المجتمع . ويمكن تثقيل حصة الفئات الاجتماعية الأكثر فعالية في المجتمع مثل حصة البرجوازية الوطنية وحصة المثقفين . وفي البداية يمكن توزيع المقاعد في الهيئات التشريعية الوطنية مناصفة بين المرحلتين ، على أن تزداد حصة المرحلة الأولى على حساب المقاعد المخصصة للمرحلة الثانية مع تزايد انصهار البنية المجتمعية .
فيما يخص الانتخابات إلى السلطات المحلية في المحافظات والبلدات والمدن يمكن إجراء الانتخابات على أساس الدوائر الانتخابية تتنافس فيه القوائم الحزبية أو الأفراد .
إن ديمقراطية تمارس بهذا الشكل على الصعيد الانتخابي تتطلب بالضرورة تغييرا في السلطات التنفيذية بحيث يتم انتخابها من المجالس التشريعية المعنية على أن تكون مسؤولة أمامها. ومن الواضح أن الديمقراطية المقترحة سوف تكون أوسع من أية ديمقراطية برجوازية معروفة، لكنها مع ذلك تتضمن العديد من التحديدات والقيود .فعلى المستوى الوطني مثلا فإنها تمنع الأشكال الطائفية والمذهبية والعشائرية والجهوية للوجود المجتمعي من التعبير عن نفسها سياسيا، مما يقلل من أهميتها ومن دورها في تفتيت البنية المجتمعية .
المراجع
1- انظر رسالة ماركس إلى يوسف فيديما ير ،5 آذار 1852 ، مختارات ماركس إنجليز، مرجع سبق ذكره ، الجزء الرابع ص 134 .
2-قسم إنجليز مجتمع روما إلى ستة فئات واعتبر الفئة الأخيرة التي لا تملك إلا قليلا لكنها معفاة من الخدمة العسكرية والضرائب تمثل البروليتاريا في ذلك العهد ./ أصل العائلة ، المختارات ، مرجع سبق ذكره ، المجلد الثالث ص 315 / .
3-مجلة(( الوقت))العدد 8 (19899 ص 108 .
4- من رسالة إنجليز إلى أوتو نوتيغل ، 12 آب 1890 . المختارات مرجع سبق ذكره ، الجزء الرابع ص 153 ./
5-انظر كتاب جورج مارشيه (( الديمقراطية في فرنسا )) .



#منذر_خدام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل تعود سورية إلى النظام الديمقراطي
- سيادة الرئيس....
- الحزب السياسي ودوره في الصراع الاجتماعي
- الإسلام والديمقراطية
- الصراع الطبقي في الظروف الراهنة
- الديمقراطية بالمعنى الإسلامي
- قراءة في الحدث- الزلزال العراقي
- الديمقراطية التي نريد
- الصراع الطبقي وأشكاله
- أزمة الديمقراطية في الوطن العربي
- البناء الاجتماعي ومفاهيمه الأساسية
- المادية التاريخية وسؤالها الأول
- الديمقراطية: معوقات كثيرة …وخيار لا بد منه
- المادية الجدلية وسؤالها الأول
- الديمقراطية بين الصيغة والتجسيد
- المنهج الماركسي واشتراطاته
- شي بحط العقل بالكف....
- منطق الفكر
- نقد الفكر مقدمة لنقد السياسة
- الديمقراطية وبيئتها المفهومية في الوعي السياسي العربي


المزيد.....




- القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ ...
- الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
- فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
- إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية ...
- مئات المستوطنين يقتحمون الأقصى المبارك
- مقتل فتى برصاص إسرائيلي في رام الله
- أوروبا.. جرائم غزة وإرسال أسلحة لإسرائيل
- لقطات حصرية لصهاريج تهرب النفط السوري المسروق إلى العراق بحر ...
- واشنطن.. انتقادات لقانون مساعدة أوكرانيا
- الحوثيون: استهدفنا سفينة إسرائيلية في خليج عدن وأطلقنا صواري ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - منذر خدام - دكتاتورية البروليتاريا أم الديمقراطية الشاملة