أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - مجلة الحرية - العدد السادس من مجلة الحرية 2009















المزيد.....



العدد السادس من مجلة الحرية 2009


مجلة الحرية

الحوار المتمدن-العدد: 2561 - 2009 / 2 / 18 - 04:14
المحور: الصحافة والاعلام
    


بعد التحية .......... يسر هيئة تحرير " مجلة الحرية " أن تضع بين أيديكم العدد السادس من " مجلة الحرية " متمنين أن ينال رضاكم ويحظى بأعجابكم
ساعين من أجل تواصلكم معها عبر إقتراحاتكم ومساهماتكم القيمة من أجل الوصول بها الى المستوى الذي نصبوا اليه ....
أن " مجلة الحرية " هي مجلتكم جميعا ... فشاركوا في آرائكم من أجل تطويرها وأبدوا بملاحظاتكم من أجل أستمرارها بالحلة التي بها تكون "المصباح " الذي ينير دروب الحرية والديمقراطية ... و"اللسان " المعبر عن حال كل المحرومين بلاتمييز على أساس القومية أو الطائفة أو العرق ... انها "منبر" الحرية الذي سيبقى دائما " فجرا " يكشف الظلام ويعريهم بكل أصنافهم وإنتمائاتهم ...
مع جزيل الشكر والتقدير

حميد لفته الحُريزي
رئيس مجلة الحرية وصاحب الأمتياز
العراق – النجف – 14 / 2 / 2009
موبايل : 07801718823


أي نوع من الديمقراطية نريد ؟

الدكتور البروفسور - رادي بوجوفيتش*

بينما كان الشعب المصري يتجاهل العرب والمصريين المشاهير في نهاية القرن التاسع عشر، وكما انتقده المفتي المصري محمد عبده على ذلك، فان بعض الساسة الغربيين يدرّسون اليوم الشعوب التي تبحث لها عن مكانه في هذا العصر والعالم المتجير بدون ان تمحو تاريخها. فهذا التناقض قد يفهمه البعض بغير الطريقة التي يفهمها الاخر. ويمكننا القول بان نفس التناقض هذا نجده عندما نلتقي بمفهوم الديموقراطية! حيث ان الديموقراطية صارت اليوم سلعة يقدمها الغرب والقوة الوحيدة لمشتريها في كل بقعة من بقاع العالم المتحير.علما بان المشكلة ليست في العرض والطلب بل تكون المشكلة في طريقة التقديم وكيفيتها لهذا " السلع" والاخذ بصحة مفهومها! وحسب ما أعتقد فان مشكلتنا المشتركة والاساسية مع مبادىء الديموقراطية وسعة الحرية ليست الا مسألة مزيفة وكاذبة. فالمشكلة الحقيقية تظهر عندما تريد الشوفينية الحضارية الغربية، التي تراقب سير العملية الديموقراطية، ان تلغي و تدمر



جميع القيم الاجتماعية والاخلاقية في مجتمع تقصد احتلاله، ويجري ذاك الاحتلال، مع شديد الاسف، بالتعاون مع بعض المثقفين المحليين غير الواعيين!


أنا اليوم نقف أمام الديموقراطية كما كان بعض المفكرين في العالم غيرالغربي يقفون امام مسالة قبول وتلقي الثقافة الغربية قبل 100 سنة! وبهذا يجدر بنا ان نذكر ما قد كتبه في ذلك المجال العالم الروسي (نيكولاي تروبيتسكوي Nikolay Trubeckoy) ، اللغوي المشهور ومؤسس المدرسة اللغوية الجديدة عام 1926 في العاصمة براغ. حيث ان تجربته ومعرفته للثقافة الغربية تكون مهمة جدا بالنسبة لنا لانه عاش فترة في الغرب و كان استاذا في جامعة فينا، حيث يمكنكم ان ترواليوم لوحة الشرف له.
كتب ( تروبيسكوي ) تلك الدراسة التي ساتحدث عنها والتي ما زالت عصرية تحت العنوان "أوروبا والانسانية" وشرح لنا في البداية معاني كلمات القومية، العالمية، والشوفينية في ثقافة قد سمّاها الثقافة الرومانية الالمانية (الجرمانية). وجاء تحليله الدقيق بنتيجة انه ليس هناك فرق بين مصطلحي العالمية والشوفينية لان اصحابهما وانصارهما ينبعون من مصدر واحد وهو ان الثقافة المذكورة تمثل شكلا و طريقا وحيدا نحو الحضارة المتقدمة! ويصف عالمنا هذا الموقف من مبالغة دورهذه الثقافة وقيمها الانسانية بكلمة ألانانية أو egocentrism .



ومن المهم القول بان العالم (تروبيتسكوي) يعزز تحليلاته باستخدام مختلف العلوم مثل: علم النفس، الانتروبولوجية، الرياضيات، وعلوم الشعوب و غيرها.
ومما يجعل تلك الثقافة التي نستطيع اليوم ان نطلق عليها اسم الحضارة الغربية خطيرة دون ان نفهم تلك الخطورة فهما واضحا هو ان تلك الحضارة – كما يقول ( تروبيتسكوي) – لا تتغلب على الثقافات و الحضارات الاخرى بنشر الراسمالية او الاشتراكية وانما تتغلب عليها بطمعها وطموحها، اي بكلمة اخرى تنتصر عليها بالانانية الجائرة. وعلى ما يبدو لي فيمكننا اليوم ان نحوّل مصطلح الحضارة الغربية مع نوعيتها في الديموقراطية التي تنشرها الى مصطلح "العولمة".



ان تجربة روسيا في بعض الاصلاحات (الاوروبية) التي قام بها القيصر(بيتير الاكبر - بداية القرن 18) تعطي الباحث الروسي ( تروبيتسكوي) حججا ودوافع لكتابته ونقده الجدي لشوفينية الثقافة الرومانو جرمانية , هذا النمط الثقافي الذي يفهمه الباجث (أريك خبزبراون )
Eric Hobsbrawn خطورة و ظلما على الجضارات الاخرى. حيث ان التجربة الصربيا في القرن الماضي تاكيدا على ذلك. فان قبول الليبيرالية والديموقراطية بثقافتها و قيمها الغريبة من قبل المجتمع الذي يحاول حذوها وتحقيقها بين أفراده وادخالها في ثقافتهم وتقاليدهم المختلفة تماما من الثقافة الاخرى يشبه غرس شجرة البرتقال في القطب الشمالي او نقل دبّ أبيض الى الصحراء!

ساحاول في السطور القادمة ان اقدم أهم المواقف للعالم المذكوراعلاه من تلقي ثقافة اخرى وتحقيقها في مجتمع غيرها وهي كما يلي:
• نفي مفهوم الثقافة عند بعض الباحثين الغربيين وهيكلية الدرجات الثقافية التي تكون ناتجة من الانانية الاوروبية الخاصة للمجتمع الغربي.
• ان محاولة تلقي ثقافة اخرى تمحو قوى شعبية وابداعية، اعتمادا على ان الشعب يريد ان يتلقى ثقافة آخرى يصرف طاقته الابداعية فيها. فالعالم الروسي يسمى هذا الجهد ب "عمل سيزيف" (البطل الخرافي الاغريقي)!



• فحتى ينجح شعب ما في قبول ثقافة غيره فانه لا يمكنه ابدا ان يكون متساويا مع الشعب الذي تلقى منه ثقافته!
• تغريب المجتمع يؤدي الى تمزّقه، حيث ان كل جيل فيه له حياة الخاصة والهوى بين الوالدين والاطفال تتعمق أكثر بين جيل وآخر!
• ان الفوارق بين الطبقات الاجتماعية في مجتمع متقبل لثقافة أخرى تكون أكبر منها من ثقافة ملقيها.
• ان وراء تقديم هذه الثقافة الناهبة "المتقدمة" تقف – في الحقيقة – الثقافة الرومانية الجرمانية.
• لا يمكن مقاومة تلك الثقافة والحضارة برفضها ببساطة او تجاهلها بسخف او بالوسائل الحربية، بل هناك طريق وحيد وهو – كما قال الباحث قبل مئة سنة! – في توحد الشعوب الروسية، الهندية، العربية، الصينية و بقية الشعوب في العالم.



• ان الثقافة الرومانية الجرمانية تكون واحدة فقط من الثقافات التي يمكن ان تؤثر، جزئيا فقط على ثقافات اخرى مشيرا هنا الى مسالة دولة وشعب يابان التي أخذت كثيرا من الغرب و لكنها ما زالت تحتفظ بنجاح بماضيها و تقاليدها المقدسة.
• يجب التخلص من نمط ومعانقة هذه الثقافة "المتقدمة" لانه من ورائها تقف العقيدة الغريبة على بقية شعوب العالم.
• ان ثقافة اوروبا ليست ثقافة عالمية، انها واحدة من الثقافات فقط، ولا تتقدم الثقافات الاخرى اطلاقا.
• ان التغريب يكون خطيرا جدا لمستقبل كل شعب في العالم.
• رسالة و مهمة كل مثقف في ان يتوعى من الضلال ولا ينشر بدون وعي تلك الحضارة العقائدية.
• المثقف الحقيقي يجب ان يتخلص من كابوس ان الحضارة الغربية تكون أفضل الحضارات و يهتم أكثر بماضي ثقافته و قيمها الدائمة.




استنتاج العالم تروبيتسكوي في بحثه ان تلقي ثقافة اخرى ودخول اي شعب في ثقافة غيره لا يمكن الحدوث الا بالاندماج الانثروبولوجي وهذه الطريقة تكون صعبة جدّا ونادرة الحدوث في تاريخ البشرية! و لكن – ينبّهنا العالم – ان مسألة قبول وتلقي الثقافات الاخرى باكملها لا يعني انا يجب ان نرفض اندماج الثقافات وتبادل القيم المثمرة. مع ان قبول الثقافات الاخرى المختلفة عن الثقافة المحلية يسبب في المستقبل مشاكل كثيرة للمجتمع؛ ففي نهاية المطاف، يسبب التأخر والجمود للثقافة التي تلقت ثقافة أخرى باسم التقدم ونشر الديموقراطية! فهل يجب ان نتذكر الان تاريخ الحضارة الاسلامية العربية المجيدة في الماضي البعيد وواقع هذه الثقافة التي تنوي، بمفهوم الديموقراطية، تلقي القيم الغريبة عليها؟ وفي رأيي هناك أمثلة و تناقضات متشابهة في هذا المجال توجد بين الشعوب الاخرى.
ان قراءة هذه الدراسة المنذرة للعالم الروسي تدفعنا الى أن نفكر و ندرس ماضينا بدقة وموضوعية خالصة وأن ناخذ باعتبار رأينا في أن الليبرالية يجب أن تراقب بالقوة المحافظة على القديم وكما يجب أن نهتم موضوعيا بجميع الاتجاهات الفكرية التي تعارض الحداثة وكما يجب ان نقرأ من جديد أعمال ريني غينون Rene Genon و (رجا غارودي )Roger Garodi والفلاسفة الروس من نهاية القرن 19 و بداية القرن 20 و( أليكسندار دوغين)


Aleksandr Dugin و( مارك سيجويق) Mark Sedgwick من المعاصرين. ان الكفاح والمعركة مع الحداثة لا تعني رفضها و تجاهلها بل نقدها وانتقائها، وان تكون الديموقراطية والحرية وحقوق الانسان هدفنا الاساسي والمشترك بغض النظر عن انتمائنا الى الليبرالية او المحافظة، أوأن نكون من أنصار الحداثة أو التقاليد.
ان الديموقراطية لا تستطيع ان تعيش خارح اطار ثقافة مجتمع ما و تقاليد هذه المجتمع و كما يقول أدوار سعيد في كتابه " الثقافة و الامبريالية" : No one can deny the persisting continuities of long traditions, sustained habitations, national languages and cultural geographies ًص. 408) .


و لذا يمكننا فهم كلمات ( نعوم تشومسكب) Noam Chomsky بسهولة حول كتاب سعيد الجديد: Edvard Said helps us to understand who we are and what we must do if we aspire to be moral agents, not servants of power!
ان المثقف الحقيقي يجب ان يخدم شعبه و ثقافته فقط. و الشعب – يقول الكتاب الاحضر – يجب ان برافب نفسه, هذه هي الديموقراطية. هذه هي الحرية. و كما يقول محمد عبده "انما الحرية بيد الامة لا بيد الحاكم". و لذا فيكون من المفيد لو قرأنا من جديد مقالة تم نشرها منذ 120 سنة تحت عنوان الحق المرّ بقلم هذا الرائد و المصلح الاجتماعي و الفكري. و للديموقراطية وجهان: الوجه الساطع و المضيء و الوجه الدامس والمظلم و انا يجب ان نلفت نظرنا الىالوجه الاول و الافضل مع احترام التاريخ و الماضي و تجارب الاسلاف و الاخرين. و لا يسمح لنا أيضا اهمال البحث عن الاسباب و الظروف التي ارتقت بها تلك الامم "المتقدمة" الى مراكزها و الطريقة التي انالتهم الحرية و الديموقراطية.
و بغض النظر الى ما قدمته من الافكار فأمامنا تفكير عميق جدّا و سؤال لا بد منه:
هل تقدم لنا الحضارة "المتقدمة" بديلا في تحويل الانسان نحو افضل بآليات الدولة و بعد ان فشلت تلك الحضارة بمهمتها الدينية أوهل التقدم المستمر يعني


الانفصال عن الاديان السماوية نهائيا؟ هل استعمال تلك الآليات يفصل الانسان من الانسانية المقصودة ؟!
* ( جامعة بلغراد، صربيا و جامعة سلوبومير، الجمهورية الصربية، البوسنة والهرسك ).
**********************************************************
أ.د جعفر مهدي عبد الصاحب

يتصور الكثيرون بأن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وفقا لطبيعة النظام الرئاسي الليبرالي الأمريكي مطلق الصلاحيات في تحديد مسارات السياستين الداخلية والخارجية لبلاده وبشكل يفوق سلطات الملكيات المطلقة خلال العصور الوسطى. ولكن الواقع يثبت بان منظومة الهياكل السياسية المهيمنة على عصب الحياة الاقتصادية في النظام الرأسمالي تلعب دورا رئيسا في تحديد دور الرئيس في السياستين الداخلية والخارجية، وسوف نركز في سياق هذا المقال على السياسة الخارجية بشكل خاص لأنها محور اهتمامنا.

من الصحيح القول بأن الرئيس يتمتع حسب الدستور الأمريكي (الصادر عام 1797) بصلاحيات كبيرة، فهو يختار (15) سكرتيراَ (وزيراً) ويمتلك حق الفيتو على قرارات الكونغرس، ويعين قضاة المحكمة العليا. ويمكن القول إن الرئيس يجمع بين ممارسة وظيفتي رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء في البلاد.
لقد ظهر الدستور الأمريكي بهذه الصورة نتيجة لمكانة الرئيس الأول جورج واشنطن(1789_1797) الذي كان يتمتع بمكانة كبيرة تبوأها في مرحلة ما بعد الاستقلال جعلته يمتلك صلاحيات تشبه صلاحيات ملوك إمبراطوريات القرن الثامن عشر، ومن الطبيعي ان تلك الصلاحيات لا تلائم اليوم طبيعة القرن الحادي والعشرين. ولكن من الناحية القانونية والشكلية من الصعب توضيح عدم منطقية التطبيق المعاصر للدستور في الولايات المتحدة.
إذا كان رئيس الولايات المتحدة له مكانة "الإمبراطور من غير توارث" وسلطة شخصية واسعة فإن ذلك يؤدي إلى إلغاء أهمية الانتخابات الرئاسية ويلغي دورها في الحياة السياسية للولايات المتحدة.
وبهذا لا يمكن الافتراض بأن كل الأشخاص الذين يشغلون هذه الوظيفة أن تكون لديهم مواقف متشابهة للمشاكل الكبيرة المتعددة التي واجهت أمريكا خلال العقود الزمنية الماضية وهذا يعني من المفترض أن لكل رئيس وجهة نظر خاصة به، ولكن هذا الأمر لم يحصل في الولايات المتحدة الأمريكية . والدليل على ذلك أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة شبه ثابتة، وتتغير بشكل بطيء وتدريجي. وهذا يعني أيضا أن هناك جهات مستورة تحرك الرؤساء اثنا أداء أدوارهم الرئاسية. وسوف نستخدم في هذا المقال ما قاله الكتاب والسياسيون الامريكيون عن رؤسائهم.
ولابد من الإنصاف القول إن هناك رؤساء كانوا قد أذابوا اتجاهاتهم الشخصية في سياسة بلادهم وبالطريقة الحقة الواردة في الدستور، و نقصد في مقدمة أولئك جون كندي(1961-1963) وريتشارد نيكسون(1969-1974) ولكنهما يعدان استثناءً.
ويذكر هنري كيسنجر في كتابه (سنة إعادة البناء) العديد من الوقائع التي يوصم بها الرؤساء الأمريكان بالغباء والنقص وعدم القابلية من لندون جونسون(1963-1969) وجيرالد فورد(1974-1977) ورونالد


ريغان(1981-1989) وبيل كلنتون(1993-2001) نزولا حتى جورج بوش(2001-2008)والذي بقيت بضع اشهر لنهاية رئاسته.

الرئيس جيرالد فورد بالوصف الكيسنجري

من المعلوم أن جيرالد فورد لم يصل إلى كرسي الرئاسة عن طريق الانتخابات بل ورثه من ريتشارد نيكسون بعد فضيحة ووتر غيت، وليس لدىأقرب مساعديه أية فكرة عن قدراته، ومنهم هنري كيسنجر، الذي قاله عنه في كتابه الذي ذكرناه : " لم يصل جيرالد فورد الذي وضع بمنصب الرئيس لهذه المكان عن طريق الانتخابات وليس لديه تجربة ولا مكانة أدبية تذكر. ووفق كل المقاييس كان شخصية غير ضليعة بالسياسة".
فعلى القاريء الكريم أن يتصور كيف يمكن لرجل غير ضليع بالسياسة ان يصبح رئيس اقوى قوة في العالم!! وهذا الكلام لم يصدر من أعداء أمريكا وإنما صدر عن بروفيسور وسياسي أمريكي ضليع في السياسة الخارجية.
لقد اشتكى فورد من سلوكيات بعض معاونيه الذين تصرفوا معه بشكل غير محترم، ومنهم وزير الدفاع (شيلزنغر) الذي أهانه علناً، وذكر كيسنجر أن فورد اشتكى عنده من وزير دفاعه، قال كيسنجر عن لسان فورد: "إن جيمي شليزينغر لم يخض معركة ضدكم بل ضدي، وهو يعتقد أني أحمق وأنتم الذين تسيروني بأصابعكم الصغيرة، وهذا لا يعجبني".
تدل تصرفات فورد على أن السياسة الخارجية مفهوم غير واضح بالنسبة اليه، وفي أول زيارة لرئيس مصري للولايات المتحدة عام 1975 استقبلهم الرئيس فورد ولكن الوفد المصري بهت حين سمع الرئيس يتحدث عن الشعب الإسرائيلي العظيم.
وفي عام 1976 عندما كان الاتحاد السوفيتي مهيمناً على نصف القارة الأوروبية قال فورد في إحدى المقابلات التلفزيونية: " لا توجد في شرق أوروبا أي هيمنة سوفيتية".
وقد أخذ مساعدوه يسفهونه (مثل كيسنجر) إلى الحد الذي جعلهم يكتبون علناً بأنهم كانوا يتخذون العديد من القرارات السياسية المهمة دون استشارته وعلمه مثل قرار الاتصال مع الفلسطينيين ومنظمة التحرير الفلسطينية.
كيف يصف كيسنجر رئيسه ريغان:

من المعروف أن الرئيس الأمريكي رونالد ريغان (لفترتين رئاسيتين) كان شخصية بدون علم وفهم،وكان كل ما يعرف عنه أنه ممثل مغمور يظهر في أدوار ثانوية هابطة، وقد أثار فوزه استغراب الرأي العام الأمريكي.
كان جهله بالسياسة الخارجية يشبه جهل فورد. وفي كتاب لكيسنجر (الدبلوماسية) يصف فيه ريغان بسخرية مفضوحة إذ قال : "كان ريغان يذهل المثقفين لعدم استيعابه ما يدور حوله فهو ضعيف الإطلاع على التاريخ، ومعرفته شحيحة جداً، وهناك كثير من الوقائع التاريخية التي تحدث عنها تنقلب إلى نوادر مثيرة للضحك والاندهاش لعدم استنادها إلى حقائق التاريخ، فعلى سبيل المثال تحدث الرئيس ذات يوم في جلسة غير رسمية عن وجه التشابه بين غورباتشوف وبسمارك وهو يؤكد أن الرجلين واجها نفس المشاكل الداخلية، لولا أنهما قد تراجعا عن التخطيط الاقتصادي المركزي وحبذا اقتصاد السوق.
وفي إحدى الجلسات الخاصة مع أحد أصدقائي اقترحت على صديقي أن يحذر ريغان بعدم إعادة هذا الحديث أمام أي ألماني على الإطلاق . في حين أخبرني ذلك الصديق بأن ليس من اللياقة أن ينقل تحذيري إلى ريغان لأن مثل هذه الأفكار مخزونة في ذاكرته بهذا الشكل ومن الصعب إزالتها، وليس لديه قابلية ليطلع على مجريات العلاقات الدولية، وهو يحفظ بعض الأفكار العامة مثل التسامح السياسي، شر الشيوعية، أهمية بلاده، حتى أن تحليل القضايا الكبرى ذات الأهمية ليس لديها مكان عنده.
ويمكن أن نأخذ بنظر الاعتبار بأنه قبل بدء أحد الاجتماعات التاريخية في مكتبة الكونغرس، وكما أتذكر كان اجتماعاً خاصاً، قلت فيه عندما تتحدثون مع ريغان عليكم أن تسألوا أنفسكم : من يعقل أن مثل هذا يصبح رئيساً أو حاكم ولاية؟ وكيف حصل ذلك؟ في حين يجب أن توضحوا لكتاب التاريخ كيف أصبح شخص بهذه القابلية العقلية حاكماً لكاليفورنيا ثماني سنوات وهو الآن الرجل الأول في واشنطن منذ سبع سنوات".

لقد أهان كسينجر ريغان وبشكل مكشوف وانتقده بشكل لاذع حينما ذكر أن ريغان لم يكن له وجود أثناء كتابة خطبه. ولقد كان مستشار الأمن القومي شديد الحذر والدقة حينما قال: "إن هناك من يكتب إلى ريغان خطبه الخاصة

وهذا ليس موضوعاً مهماً ولكن ريغان كان ألعوبة في إصبع من كان يكتب له تلك الخطب". لم يكن ريغان يعلم ببعض القرارات الخطيرة التي اتخذتها "إدارته" ،شأنه شأن فورد، مثل قرار الهجوم الجوي على ليبيا بدون علمه، حيث تم إسقاط طائرتين حربيتين ليبيتين عام 1981.
كم ظهر ريغان أمام عدسات الإعلام مغفلاً في فضيحة إيران – كونترا وصرح أكثر من مرة بأن ليس له علم بهذه العملية المعقدة التي أسهمت فيها عدة دول (إيران، لبنان، إسرائيل، نيكاراغوا)، التي ارتكبت فيها "إدارته" أكثر الأخطاء فداحة، إذ أهملت تلك الإدارة طلب الكونغرس بالتوقف عن مساعدة الإرهابيين (الكونترا في نيكاراغوا) وانتهكت المقاطعة المفروضة على إيران، وتدخلت في شؤون لبنان الداخلية وألحقت الضرر بالميزانية العامة للبلاد بسبب الفاتورة الخيالية الإسرائيلية المدفوعة لشراء الأسلحة. ومع ذلك كله أخذ ريغان يطلق التصريحات المرتبكة التي ينفي بها علمه بما حصل تارة وتارة أخرى يؤكد بأنه كان على علم بذلك، وهذا يعني أنه كان عديم الوزن في منصبه وغير مؤثر في وظيفته وأثبتت هذه الحقائق أنه كان لا يعرف الدول المذكورة التي كانت مشتركة في الفضيحة.


كلنتون:
لا يختلف بيل كلنتون عن ريغان، إذ قضى فترتين رئاسيتين في البيت الأبيض، وينبغي أنه قد قضى سنة لاختيار مساعديه (من بداية الحملة الانتخابية حتى استلامه السلطة) إلا أن الحقائق تشير إلى أن الرئيس تعرف على بعض مساعديه أول مرة في بداية فترة رئاسته، وهذا ما كتبه كلنتون نفسه في مذكراته إذ ذكر بأنه تعرف على رئيس مكتب الميزانية العامة وكوادر الدولة (ليون باينت) بعد فوزه بالانتخابات مباشرة.
إن كلنتون بعباراته تلك لم يوضح بشكل تام كيف وضع رجلا لا يعرفه في مثل هذا المنصب الحساس ونفس الشيء حصل لبعض أعضاء مكاتبه الأخرى.

كلنتون وعدوان الناتو على يوغسلافيا:

وضع الجنرال (ويسلي كلارك) في يوليو من عام 1998 خطة عدوان الناتو على جمهورية يوغسلافية الاتحادية، و لم يخبر هذا الجنرال قائده الأعلى بهذه العملية الخطيرة أي لم يخبر كلنتون ولا قائد أركان القيادة العامة (شلتون).
لم تنفع تلك المواد المكتوبة في دستور الولايات المتحدة التي تقتضي موافقة شلتون (وإعطاء ملاحظاته) على تلك الخطة المهمة.
قدم الجنرال كلارك الخطة أولاً إلى (جيم ستاينبرغر) مساعد مستشار الأمن القومي، ومن خلال الوصف الذي قدمه كلارك حول هذا الحدث نستنتج أن ستاينبرغر أعطى موافقته للعمل بموجب هذه الوثيقة التي كانت عبارة عن مقدمه للعدوان على جمهورية يوغسلافيا الاتحادية.
كيف يمكن أن تصدر الموافقة على خطة خطيرة كهذه من قبل أحد المستشارين الذين لا علم لهم في الرأي العام. لم يوضح كلارك ذلك، ولكنه اعترف بأنه ارتكب مخالفة جدية لقواعد التسلسل الوظيفي الخاصة باتخاذ القرار.
ولكن كلارك كم كان صلفاَ ولم يحترم المكانة الدستورية لرئيس الولايات المتحدة عندما كتب قائلاً: "عندما ذهبت عند الرئيس وتحدثت معه بشأن الخطة أنكر بأنه كان ممتعضا، ومن المحتمل أنه فهم الموضوع بشكل خاطئ حيث كان رد فعله أشد من اللازم".


جورج بوش الابن:


بعد أن أنهى كلنتون إقامته في البيت الأبيض أصبح جورج بوش الصغير من الناحية الشكلية أقوى رجل في أمريكا، وفي عام 2004 كسب ثقة الناس لفترة رئاسية ثانية، في حين كان وزيره السابق للمالية (بول أو نيل) يصف لنا جورج بوش(في كتابه ثمن التذبذب) بكل سخرية وهو يترأس اجتماعاً في مكتبه حيث "ظهر وكأنه أعمى في غرفة مليئة بالطرشان".
ويؤكد (بول أو نيل) بأن أول اجتماع له مع بوش كان يشبه مناجاة تنطلق من حنجرة ممثل يقف وحده على خشبة مسرح ليطلق الأصوات مع نفسه، وذلك أن بوش لم يسأل سؤالاً واحداً، ولم يهتم ببرنامج العمل الخاص بخزانة الولايات المتحدة و بقى طوال اللقاء مستمعاً فقط.

إن غباء بوش فاق غباء فورد، ففي مؤتمر صحفي عقد في يوليو عام 2004 أوضح بوش أن فلسطين لها حدود مشتركة مع العراق.
نادى بوش في فبراير عام 2005 رئيس الوزراء الفلسطيني محمود عباس "أبو العباس" أكثر من مرة.
وأطلق على الرئيس البولندي صفة رئيس الوزراء بدل الرئيس بمناسبة زيارته إلى سلوفاكيا.
وقد ذهبت بعض الصحف الغريبة مثل (الأنديبيندنت) أكثر من هذا إذ ذكرت أن شخصية مثل شخصية بوش تتطلب حذراً و انتباهاً شديداً.
وبموجب قواعد دستور الولايات المتحدة فإن للرئيس صلاحيات واسعة أكثر من أعضاء مكتبه، لأنه هو الذي وضعهم بهذه المناصب وهو الذي يحدد لهم واجباتهم، ولكن ما حصل في ما يسمى "بإدارة بوش" شيء آخر إذ لا توجد له حالة مشابهة من هذا القبيل قد حصلت من الناحية العملية، فهناك قانون خطير يتعلق بتنظيم عمل جهاز المخابرات صدر عام 2004 ومدعوم من قبل الرئيس والكونغرس ولكن ذلك القانون لم يقر، وعندما سأل أحد


أعضاء الكونغرس لماذا لم يتم تبني القانون المذكور؟ كان الجواب: "أن الرئيس بوصفه قائدا عاما لم يفلح في إقناع وزير الدفاع بإيقاف معارضته للقانون... هذا ما حصل منذ أشهر".
لا نريد أن نتبنى استنتاجا يتعلق بدور الرئيس في النظام الأمريكي المعاصر، وقد ذكرنا المعلومات التي تتحدث قبل كل شيء عن ممارسة الوظائف السياسية الاقتصادية في النظام الأمريكي.
نعرف اليوم القليل عن عملية اتخاذ القرار في الولايات المتحدة، وهذه ليست قضية نظرية بل هي على هيئة مشكلة عملية، لأن إجراءات اتخاذ القرار وصياغتها لم يفصلها الدستور عن عملية اتخاذ القرار، بينما تثبت كل الأمثلة التي ذكرناها العكس أي هناك اختلاف جذري من الناحية التطبيقية.
وبناءَ على ما تقدم يتبين بوضوح أن من يحتل الموقع الأول في البيت الأبيض صحيح انه يمتلك الصلاحيات الدستورية في إصدار القرارات ولكنه من الناحية العملية لا يسهم في عملية صنع القرار، وذلك أن صنع الرئيس نفسه تجري من خلف الكواليس وإلا كيف يصل الأغبياء الى كرسي الرئاسة. ومعذرة للتعابير القاسية ولكنها تعابير عراف السياسة الخارجية السيد كيسنجر، وكما يقال ناقل الكفر ليس كافرا.

*****************************************
سايكلوجيا المال-حميد لفته

سلوك النصب والأحتيال على المال (1)


في ظل تفكك المنظومة القيمية لمجتمع من المجتمعات تظهر سلوكيات وشخصيات تمتاز بالفهلوة والضحك على ذقون الآخرين تسعى بكل وسيلة لجمع المال بطريقة اللطف المزيف والخطف المستتر بمناكش حريرية أو مطارق حديدية بوجه ملاك أو مظهر وحش ، وخصوصا في عصر العولمة الرأسمالية وهيمنه قيمها وسيادة ثقافتها في العالم حيث تعمل مؤسسات ضخمة وعقول كونية من اجل جمع المال من الشعوب والأفراد ، من أبناء الوطن أو من خارجه ، من الأشقاء أو الغرباء فذلك لايهم لازال يدر مالاً !!!
وكما يذكر كارل ماركس(( إن الرأسمال ينفر من الصخب والمنازعات، وهو بطبعه، هذا صحيح جدا، ورغم ذلك فليست هذه الحقيقة كلها .



إن الرأسمال يكره فقدان الكسب كما يكره الكسب الضئيل،وكما تكره الطبيعة الفراغ ،وليكن مضمونا 10% ،عند إذ يمكن استخدام الرأسمال في كل مكان .إما إذا كان 20% مضمونا، فانه يتحمس ويحمى، وإذا كان 50% كان جسورا جنوني التهور، وعند 100% يدوس بقدميه جميع الشرائع البشرية، وعند 200% لايكون ثمة جريمة لايجرؤ على ارتكابها، حتى لو تعرض للمشنقة.وهكذا يكون الفوضى والشقاق ملائمين للربح فانه يشجعهما كليهما)) (1)
وان مايحصل في عراقنا اليوم خير نموذج ومثال على نهج وسلوكية الفرد حيث أحرز عراق اليوم درجات متقدمة في هذا المجال حيث النهب والسلب والاختلاس والفوضى والشقاق بكافة أنواعه الطائفية والعرقية نظرا للظروف الاستثنائية التي يمر بها البلد في عهد الدكتاتورية والاحتلال وحقيقة الدافع الحقيقي للرأسمال الأمريكي المسلح في احتلال العراق ومقدار أرباحه التي تزيد على 200% واندفاعه في ارتكاب اشد الجرائم وحشية في التاريخ البشري ورعايته لكل الفتن والقلاقل والاضطرابات لأنهما أكثر الأوضاع ملائمة للسلب والنهب بمستوى دولي عبر ماأسمياه ب((الفوضى الخلاقة))!!!! لتخلق المال لأصحاب رؤوس الأموال والموت والعذاب للناس الأبرياء افردا وشعوب.
ومن أهم هذه الأساليب للحصول على المال على مستوى الأفراد وهو مايهمنا هنا سلوك النصب والاحتيال والذي يعرفه د .أكرم زيدان :-
(( استخدام التضليلfalsification)) )) من اجل الحصول على أموال الآخرين أو الامتلاك بالباطل لأشياء ذات قيمة مادية عن طريق الغش والخداع والمراوغة والنزيف واختلاق الأكاذيب والمعاذير وتبديل الواقع والمبالغة والتهويل ، بجاذبية مصطنعة تشد أنظار وإسماع الآخرين بما يضمن استثارة دوافعهم وانفعالاتهم وعواطفهم ))(2).
إن لهذه السلوكية أنواعاً وأشكالاً وأساليب مختلفة ينتجها المحتال ويسلكها تبعا لإمكانياته وقدراته الذاتية وخصائصه النفسية حيث يرى انه بارعُ ومتمكنُ في أساليب الاحتيال أكثر من غيره ، وطبعا تتحكم في الأسلوب المحتال الظروف المحيطة به ، ومنها طبيعة النظام القائم ومتانة أو هشاشة القيم الاجتماعية وسهولة أو صعوبة اختراقها


وتجاوزها ، وطبيعة الثقافة السائدة وطبيعة شخصية المنصوب عليه أو الضحية . والذي غالبا مايسعى برجله نحو النصاب أو المحتال وكما يقول د. أكرم زيدان (( المحتالون على المال لايطاردون ضحاياهم وإنما الضحايا الطامعون هم الذين يطاردونهم .. فالمصيدة لاتطارد الفأ ر))(3) ،تميز النصاب بكونه يعرف كيف يتخفى وبأي وجه يظهر للضحية حسب ظروفها وحاجاتها وطلبها لما تريد ، فهم الانقياء الأتقياء والوعاظ البلغاء ، والحكماء وفاعلي الخير ، والعارفين ببواطن الأمور وما تخفي الصدور ، من أصحاب المعارف والحظوظ والتقدير و... و ... وكل ما يمهد الطريق لتقع الفريسة في القفص باختيارها ،ويروى إن حذيفة بن اليمان :-
((إن قوما يجيئون يوم القيامة ،ولهم من الحسنات الجبال، فيجعلها الله هباء منثورا ،ثم يؤمر بهم إلى النار. فقيل خلهم لنا يارسول الله قال: أنهم كانوا يصلون ويصومون ويأخذون أهبة من الليل،ولكنهم كانوا إذا عرض عليهم الحرام وثبوا عليه)) (4)
إن سلوك النصب والاحتيال يقسم إلى:-
سلوك النصب والاحتيال المباشر.
وسلوك النصب والاحتيال غير المباشر.
الاختلاس.من النوعين السابقين إلى النصب والاحتيال على الأفراد أو المؤسسات، وإلى: النصب والاحتيال على المؤسسات يقسم إلى:
أ‌- النصب والاحتيال الداخلي:
• الاختلاس.ت وقروض غير مشروعة وغير مضمونه .
• الاختلاس .
ب‌- أسلوب النصب والاحتيال الخارجي .







أسلوب النصب والاحتيال الداخلي

ولاشك إن هذا المرض من الإمراض الخطيرة المتفشية حاليا في دوائرنا ومؤسساتنا وبمختلف أسمائها ودرجاتها حيث تعتبر مؤسسات الدولة العراعنه.ن أكثر الدول فسادا ماليا وإداريا حسب التقارير الدولية الموثوقة والرصينة ، ويكون هذا الاختلاس وهو احد وسائل النصب والاحتيال الداخلي في مؤسسات الدولة أو القطاع الخاص، عن طريق إعطاء قروض بدون ضمانات ، أو إرساء مناقصات بعطائات عالية ومواصفات متدنية مقابل عمولة أو رشوة معينة ، عقد صفقات بيع أو شراء مع أفراد أو جماعات أو شركات محلية أو أجنبية دون المواصفات المطلوبة وعدم اختيار أفضل العروض مقابل مبالغ تودع في حساب الموظف المعين وهناك الكثير من الأمثلة المذهلة في هذا المجال وخصوصا في العراق ما بعد الاحتلال لظروف داخلية وخارجية ذاتية وموضوعية
ومن هذه الأسباب والدوافع :
الشعور بالمظلومية :
حيث يشعر الموظف بأنه لن يتقاضى الأجر والمخصصات التي يستحقها جزاء ما يقدمه من خدمات وجراء ما يدر عمله للدولة أو المؤسسة من كسب مالي كبير مما يدفعه إلى سلوك الاختلاس بمختلف أشكاله لرفع هذا الظلم عنه .
وقد اخذ موضوع الشعور بالمظلومية في بلدنا خصوصية خاصة ، حيث إن اغلب من اعتلى كراسي المسؤولية في عراق مابعد التغيير يشعر بأنه تعرض إلى ظلم فاضح طوال سنوات نفيه، أو سجنه، أو معارضته للنظام السابق،وان الدولة والمجتمع مدينة له في كل شيء ، مما يبرر له الاستحواذ على المال بمختلف الطرق المشروعة وغير المشروعة لتعويض ما فاته ، ومما يزيد هؤلاء اندفاعا هو شعورهم بالقلق وعدم الثبات والاستقرار في ظل وضع مرتبك وهو عرضه للتغير والاستبدال وترك المنصب مجبرا أو مختارا مما يتوجب عليه الحصول على اكبر كمية من المال والأملاك والحيازات في الداخل والخارج كضمانة لحياة مرضية له



ولا بناءه في قادم الأيام فقد تضطره الظروف إلى مغادرة البلاد ثانية والعودة إلى بلاد المهجر خصوصا وان اغلبهم مزدوجي


الجنسية ، وليست بحاجه إلى ذكر الأسماء والأمثال لمثل هذه النماذج والشخصيات وهي تستغل ارفع المناصب في الدولة ومؤسساتها ممن كشف النقاب عنهم وبالتأكيد إن المستور اكبر من ذلك بكثير .
كذلك فان من أسباب هذا السلوك هو قلة المراتب والحوافز المادية المخصصة للموظف أو المسئول فيجعله يعيش حالة من شظف العيش والضنك المادي، مما يدفع العديد منهم ممن لايملك الحصانة الذاتية ولا يمتلك من قوة الردع الذاتي الذي يحول بينه وبين ارتكاب جريمة اختلاس المال العام أو المال المؤتمن عليه في المؤسسات الأخرى . ويجب إن لا يغيب عن البال إن هذا المبرر أصبح ضيقا إن لم يكن متواريا تماما خصوصا في المراتب العليا من السلم الوظيفي في العراق بسبب ارتفاع المرتبات بشكل كبير، ولكن رغم ذلك نرى استمرار واستفحال عمليات الاختلاس من قبل هؤلاء الأشخاص للحصول على المزيد من المال والثروة ،ونزاهة الكثير من الموظفين الصغار ذوي المرتبات المتدنية، مما يوجب ألبحث عن أسباب هذه الظاهرة في الوضع والتنشئة النفسية والاجتماعية للفرد وفي الخلل والثغرات الكبيرة في قوانين الدولة وضوابطها مما يفسح المجال أمام هؤلاء المختلسين للإقدام على مثل هذه الجرائم الخطيرة التي تلحق ضررا بالغا بالصالح العام وسمعة وهيبة الدولة.
كذلك ضعف أو فساد الأجهزة الرقابية للدول بل وتغاضيها عن مثل هذه الجرائم حتى في أعلى مؤسسة رقابية في الدولة العراقية – البرلمان – بسبب حالة المحاصصة ونهج (( شيلني وشيلك )) و((سترلي وسترلك )) لتورط الكثير من أفراد ومنتسبي وقيادي هذه الكتل السياسية في جرائم نهب واختلاس للمال العام هذا ما نعلمه من خلال النزر اليسير الذي يتسرب للرأي العام العراقي


والذي ينضح من إناء القوى الحاكمة عند الاختلاف فيما بينهم وصراعهم حول المكاسب والامتيازات فنجد التواني عن فساد فلان أوعدم نزاهة علان ضمن صفقات متبادلة بين القوى المتحاصصة!!؟؟ والأمر من هذا لم نشهد معاقبة، أو محاسبة، أو


على الأقل استرداد المبالغ المختلسة والمسروقة والمنهوبة من قبلهم إلى خزينة الدولة باعتبارها أموال الشعب الجريح والمحروم ولايمكن التنازل عنها لأي سبب من الأسباب ولا يملك أياً كان الحق في إهدارها.
سلوك النصب والاحتيال الخارجي على المؤسسات :-

وهي الأساليب المتنوعة والمتفرعة التي يسلكها أفراد أو مؤسسات من مؤسسات دولة أو مؤسسات قطاع خاص للحصول على أموال منقولة أو غير منقولة باعتبارها حقوقا مستحقة لهم بذمة المؤسسات المنصوب عليها وهؤلاء النصابين من خارج المؤسسات، وربما يحققون عمليات النصب والاحتيال هذه بالتواطؤ مع بعض العاملين داخل هذه المؤسسات أو ممن يستغلون ثغرات النظام وآلية عمل هذه المؤسسات وغالبا ما يقوم بهذا النوع من النصب والاحتيال أفراد ذوي خبرة كبيرة في النصب والاحتيال والتزوير والتأويل ، ومن الأمثلة التي يذكرها الدكتور أكرم زيدان _ ما يتم استحصاله من شركات التامين مقابل أحداث وحوادث وهمية مفتعلة لأاساس لها من الصحة .

ثانيا : أسلوب النصب والاحتيال المباشر .
وهو أسلوب نصادفه ونسمعه أو نتعرض له خلال الحياة اليومية للأفراد ضمن علاقات الشراء والبيع خصوصا ، ومن ذلك خداع المشتري بمواصفات وعينات مختلفة عن البضاعة الأصلية ، كذلك عن طريق النقود والعملات المزورة التي أصبحت واسعة الانتشار في عملتنا العراقية – الطبعة المحلية


– بعد السويسري في العهد السابق ولازالت مستمرة لحين التاريخ ، وقد تفنن الأشخاص والجماعات في تقليد العملات وتزوير الماركات الأصلية وترويج المزورة في الأسواق العراقية بحيث أصبح من الصعوبة بمكان الإفلات من شراك هذه المنتوجات والماركات والعملة المزورة ،على الرغم من علامات((الخط ،والنخلة،والفسفورة)) كعلامات تميز الفرق بين العملة المزورة والعملة الأصلية، ولا نظن إن هناك مجتمعا كما


المجتمع العراقي تعرض لمثل هذه الوسيلة من النصب والاحتيال الذي مورس حتى من قبل السلطات وخصوصا في زمن الحصار المفروض على العراق ولسنوات طوال وتدهور الاقتصاد العراقي بشكل مريع . ولسنا بحاجة للأمثلة والشواهد في هذا المجال لأنها أكثر من أن تعد وتحصى وأثارت من المشاكل والنزاعات لايزال قسما منها قائما إلى الآن.


ثالثا : سلوك النصب والاحتيال غير المباشر :
وهذا الصنف من الاحتيال لايتم وجها لوجه ،وإنما يتم عن بعد ، وقد أصبح شائعا وواسع الانتشار الآن بسبب تطور وسائل الإعلام والاتعن المتعةدة وخصوصا الانترنيت ،ومن هذه الأساليب المسابقات الوهمية والوعود بإرباح خيالية ، عملية التسوق والعمالة الالكترونية والتي تغزو عراقنا اليوم حيث تنهمر مليارات الدولارات خارج البلاد وشركات وهمية أو شبه وهمية من دون أي ضمانات تذكر عبر شبكة كبيرة وخطيرة من وكلاء وسماسرة هذه الشركات لاصطياد الضحايا ونهب أموالهم وتهريبها ، عملية الغش والترويج الكاذب لسلعة أو دواء أو ما شابه يحملونه صفات ومفعول سحري لا يكشف زيفه إلا بعد حين , الوعود الكاذبة واستدراج طالبي فرص العمل أو فرص الدراسة وحتى فرص الصداقة والزواج و و و


.... الخ غالبا ما تكون لا صحة لها وإنما تروج من قبل أشخاص وشركات وهمية تنشر شباكها في كل أنحاء العالم لاصطياد الضحايا والباحثين عن المتعة والكسب السهل والربح السريع الغير مشروع. وكذلك ذوي النوايا الطيبة وكما قال الإمام علي عليه السلام((إلى الله أشكو بلادة الأمين ويقظة الخائن)).(5)




الدوافع النفسية لسلوك النصب والاحتيال المال


من المسلم في المجتمعات الطبقية وخصوصا التي تتميز بالتمايز الطبقي الحاد والفارق الكبير في امتلاك الثروة والمال وواقع وجود أعداد غير هينة من العاطلين عن العمل وكما وصف الحال الإمام علي (ع) قائلا(( اضرب بطرفك حيث شئت من الناس،فهل تبصر إلا فقيرا يكابد الفقر أو غنيا بدل نعمة الله كفرا، أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا،أو متمردا كأن بإذنه عن سمع المواعظ وقر)) (6) لاشك إن مانشهده في عالمنا اليوم لأشد وقعا واقسي أثرا بما لايقاس مع عهد الإمام عليه لسلام لذلك فان عصرنا يعج بالمصابين بالخلل النفسي و الانحراف في السلوك الاجتماعي السوي كنتيجة لهذا الواقع الذي شح فيه السوي وساد الموسوي،و تخفى أسبابه ومسبباته بفعل بنية فوقية مضلله تميل إلى التعمية والتضليل وليس إلى التفسير والتنوير والتعليل . ومن هذه السلوكيات سلوك النصب والاحتيال المالي والحصول على الثروة والمال بأسهل الطرق واقلها كلفة وهو دافع قوي للنصب والاحتيال والاختلاس في مثل هذه المجتمعات وان بدرجات متفاوتة, فان ما يشجع عمل النصب ،والاحتيال عوامل عديدة من أهمها كما ذكرها الدكتور أكرم زيدان وهي :-


أولا / سلوك الضحية
أن ما يشجع على ارتكاب جريمة النصب والاحتيال هو مدى سهولة اقتناص الضحية وما تحمله من عوامل تسهل وتشجع وتحفز نزعة النصب والاحتيال لدى المجرم , فهناك من الضحايا من يظهر حرصا كبيرا وتحرزا ومقاومة القدرات. الدفاع عن أمواله والسعي لاسترداد حقوقه , ولكن دافع كسب الثروة والتصرف غير السليم لكسب المال يوقعهم في شرك النصابين والمحتالين والذي يدعى (( الضحية الحريص )) ويكون بعكسه ما يسمى ((بالضحية السهل)) . إما


الضحية (( الداعي )) فهو الشخص الذي يضع نفسه وأمواله وسط شباك المحتالين والنصابين عن طريق اندماجهم وعلاقاتهم مع هذه النماذج وتسهيل عملية إقراضهم بدون ضمانات, وهو من الصنف عالي الطموح محدود القدرات . إما ((الضحية المستفز)) هذا الضحية الذي يعرفه ادم زيدان ( فهو في نظر ذاته أذكى المخلوقات وأكثرها دقة ومهارة.وما عداه من البشر أغبياء وحمقى ينقصهم الفهم والإدراك )(7), كذلك فان هذا النموذج غالبالنصب واصطيادراته ويقظته واستهانته بالآخرين مما يدفع بالنصابين إلى أن ينصبوا له الفخاخ والمكائد والمحفزات لإيقاعه في شباكهم والضحك عليه . وهناك بعض العوامل الأخرى ما يشجع على النصب والاحتيال كعامل العمر والجنس حيث يستهدف الشباب لقلة تجربتهم ،وضحاياهم من الشيوخ والمرضى لضعفهم ،وتستهدف النساء لعدم قدرتها الجسمانية للدفاع عن نفسها وقلة خبرتها الاجتماعية وخصوصا في البلدان المحافظة , كما يتعرض لفعل النصب والاحتيال ،أفراد الأقليات في بلدان المهجر لجعلهم في أساليب حياة وتقاليد وقوانين دول المهجر . وهناك العديد من الروايات والمشاهدات والابتكارات والقصص الشبه خيالية التي تحكى عن طرق النصب واصطياد الضحايا. كما إن من دوافع النصب والاحتيال هو ( نسق الحياة ) الذي يجد المرء نفسه أو يضع هو نفسه ضمنه لأسباب المختلفة كالزواج أو السكن أو المعاشرة مما


يدعوه إلى مسايرته إلى طلب المال ليكون في المستوى الاجتماعي المطلوب ضمن هذا النسق المعاش . كما يعزى البعض السبب إلى الرغبة في الهيمنة والسيطرة عن طريق سلب المرء وإفقاره وإذلاله ففي المال عزة وفي الفقر والحاجة مذلة مما يدفعهم إلى احتقار من يضمرون له الكراهية والعداء لغرض السيطرة عليه وإذلاله. كما إن هناك دافعا مرضيا للاحتيال والنصب يتعلق بالإحساس بالسعادة والنشوة في ممارسة هذا السلوك وليس بدافع الحاجة الماسة وقلة الثروة والذي غالبا ما يمارس من قبل مشاهير الأغنياء والأثرياء لغرض المتعة , ساعين إلى تكديس المزيد من الثروة مقابل بؤس وشقاء الآخرين مما يشعرهم بالنشوة والسعادة.


الصفات والسمات التي يتصف بها المحتالون والنصابون

اصطلاح ( الشخصية ) personality مشتق من كلمة persona الإغريقي التي تعني (( القناع )) والقناع في تلك الفترة من الزمن كان يضعه بضعة المحتالين على وجوههم في أثناء تمثيلهم المسرحيات المختلفة باعتبار إن كل قناع يدل على دور الممثل وشخصيته )(8).
ومن الواضح إن الإنسان البدائي أو إنسان ما قبل العولمة الرأسمالي عموما لم يكن قادرا أو لم يكن يمتلك المرونة الأخلاقية القيمية بحيث يتمكن من التحكم بانفعالاته وتقاسيم وجهه وحركات جسمه لمحاكاة تصرفات الشخصية أو حتى الحيوان الذي يريد تقمص سلوكه وتصرفه أي ( شخصيته ) مما ألجأه وبذكاء إلى ابتكار الأقنعة ليخفي وراءها ملامحه وشخصيته الحقيقية المعتادة في سلوكه داخل المجتمع , إما في ظل ثقافة الاستهلاك السائدة حاليا بقيادة الرأسمال العالمي الأمريكي المعولم فقد تم تدجين الإنسان وتمت عملية سيولة و ( مرونة ) وليونة الشخصية ومطاطيتها بحيث من الممكن تشكيلها وتعديلها وتركيبها حسب ما يشاء الفرد ويرضى وخصوصا شخصية النصابين والمحتالين من


فئة طالبي المال والثروة والجاه وقد كان لنا وصف بهذا الشأن لهؤلاء الأشخاص في مقالات بعنوان ( قرود العولمة ) و ( هتا فو عصر العولمة ) وكما وصفهم الشاعر الكبير محمد مهدي ألجواهري في قصيدته الشهيرة طرطرا.هؤلاء المسوخ والحرباوات نراهم في كل عصر وزمان يغيرون جلودهم ولبسهم وسلوكياتهم وأفكارهم وحتى أسمائهم وأسماء أبنائهم-حيث شهدنا أسماء أبو صباح وأبو عبد الكريم وأبو عبد السلام وأبو صدام وأبو أسراء و..و..- وكل مايقربهم من مصدر السلطة والجاه و مايدر عليهم المال والجاه والثروة مقتدين بمقولة ((الغاية تبرر الوسيلة)) باعتبار إن غايتهم الأولى والأسمى في الحياة هي كسب المال فلا مانع من سلوك أي طريق أو أي شكل وإتباع أية وسيلة في الحصول عليه وخصوصا عندما يكون الحاكم مستبدا وغير عادل ولايتسم بالحكمة والشفافية والمساواة بين أبناء شعبه وعدم وضع الشخص المناسب بالمكان المناسب ،فيجتمع حوله الانتهازيون والمراءون والنصابون والمنافقون من كل شكل ولون.وقد قال الإمام علي (ع) ((يأتي زمان لايقرب فيه إلا الماجل،ولا يظرف فيه إلا الفاجر ولا يضعف فيه إلا المنصف، يعدون الصدقة فيه غرما، وصلة الرحم منا والعبادة استطالة على الناس، فعند ذلك يكون السلطان بمشورة الإماء وإمارة الصبيان وتدبير الخصيان))(9)
وجل مانخشاه أن نكون من أهل هذا الزمان في عراق اليوم؟؟!!



ومن ميزات النصاب انه لايؤمن بالعطاء بل بالأخذ والأخذ باستمرار كما لايؤمن بالواجبات بل بالحقوق فقط.ومن طباعه فقدان مقياس((الكم والكيف))في الحصول على المال.فلا يحول دون سعيه إليه قلة مقداره أو طريقة الحصول عليه.
ومن ميزاته أيضا تعظيم وتضخيم قدراتهم وإمكانياته أمام الناس سعيا منه لسد خواء دواخله وإحساسه بالدناءة والحقارة والخواء.

يتميز الأغلبية الساحقة من النصابين والمحتالين بالنرجسية وان لم يكن كل النرجسيين هم من النصابين والمحتالين،وبما إن المال يعتبر أهم أعمدة حب الذات النرجسية لذلك يتوجه النصاب بدافع نرجسيته إلى النصب والاحتيال على ألناس من اجل تكديس الثروة وإفقار الآخرين ومنة عليهم بإعطائهم الهبات والمكرمات ومن الملاحظ إن اغلب الزعماء والرؤساء في حكومات العراق المتعاقبة يتميزون بهذا الوصف من النرجسية فهم لايعطون المواطنين المال باعتباره حقا من حقوقهم تضمنه القوانين ودستور الدولة لابل يختارون من يعطوهم على شكل هبات ومكرمات وهدايا من صاحب السلطة والجاه سعيا للإذلال واستعباد وكسب رضا ومديح الآخرين لهم. فكما يرى د.أكرم زيدان((إن نسبة الاضطرابات النرجسية بين عامة الناس هي تقريبا 1% إما بين النصابين والمحتالين فقد تصل إلى 84%))(10)
كذلك فان مايتمتع به النصاب تميزه بصفة العداء ومعاندة المجتمع وعدم حبه للمحيطين به وهو لايقوم بأي فعل أو علاقة مع الآخرين إلا بدافع المتعة الشخصية فلا يمكنه إن يبني أية علاقات مع الآخرين مهما


كانت درجة قربهم منه إذا كانت تحمله شيئا ولو بسيطا من المسؤولية المعنوية أو المادية وكما يصفهم د.أكرم .زيدان((ليس ثمة ولاء للمجتمع أو الأسرة أو الأصدقاء ويبدو ذلك في عدم استجابتهم انفعاليا للمواقف التي يستجيب لها أغلبية الناس خصوصا تلك التي تتصف بالضغط والقلق وتحمل المسؤولية نظرا إلى أنهم شخصيات لاتقوى على تحمل أدنى مسؤولية))(11)


وانه لمن المؤسف حقا إن نرى إن الأغلبية الفعلية لمثل هؤلاء في عموم السلوك العملي والفعلي للفرد العراقي أوفي اقل تقدير لطبقته السياسية ورموزها وتبدل ولاءاتهم بين المواقع والعناوين والدواوين الأكثر ربحا والأقل مسؤولية وضررا. ((وتقدر نسبة المحتالين بين المحتالين والنصابين في المجتمع حوالي 100% بينما لاتقدر نسبتهم بمابين 1%و3% بين عامة الناس)) (12)



لذلك نرى إن هؤلاء لاتفصلهم فواصل كبيرة عن قوى الإرهاب والجريمة المنظمة وعصابات السطو والقتل المتعمد فيما لو وسدت عليهم طرق النصب والاحتيال المعتادة،وهنا يبطل استغرابنا فيما نشهد أو نسمع بحادث سلب لسيارة أو بيت أو متجر وقتل أصحابه على الرغم من عدم مقاومتهم للمجرم وعدم معرفتهم له وهنا تكمن خاصية النصب مقترنة بمعاداة وكراهية الناس لمثل هؤلاء المجرمين والنصابين ألقتله. حيث كان المتعارف عن طباع اللصوص والسراق بأنهم لايقتلون ولا يضربون ضحاياهم إلا دفاعا عن النفس وعندما تسد بوجوههم طرق الهرب والنفاذ بجلودهم عند اكتشاف أمرهم.
ومن صفات هؤلاء النصابين أنهم لايحسون بأي خجل أو حرج من وصفهم بالكذابين والمحتالين والنصابين وإنما يشعرون بالنشوة والفخر والسعادة لأنهم استطاعوا إن ينتزعوا من الناس هذه الصفات الذميمة لأنهم لايستطيعون إن يحصلوا على الصفات الحميدة نتيجة إصابتهم بهذا الانحراف السلوكي الخطير،ويرى الدكتور أكرم زيدان (( إن الأسرة هي المنظمة الأولى الخاصة بالتطبيع الاجتماعي، يمكننا إن نقول إن الأسرة تؤدي دورا لايستهان به في تكوين شخصية النصابين والمحتالين فكثيرا منهم جاءوا من اسر مفككة متهدمة فقدت احد الوالدين أو كليهما





سواء عن طريق الموت أو الطلاق أو الانفصال العاطفي، مما أسفر عن الحرمان العاطفي وضعف في استدماج العديد من القيم والمعايير الاجتماعية التي يحصل عليها الطفل من الوالدين خصوصا إذا كان احد الوالدين من المحتالين النصابين أيضا)) (13)
في ظل هذا الاستنتاج وهذه الرؤية ماذا يمكننا إن نقول عن واقع ومستقبل العراق في ظل ماتعانيه الأسرة العراقية على امتداد عقود من الحروب والتشريد والقتل وملايين الأرامل والأيتام والمطلقات في عهد الديكتاتوريات المتعاقبة و في عهد (الديمقراطية)) الأمريكية المسلحة وإشاعة ظاهرة الإرهاب والعنف الطائفي الذي يظهر بكونه نتيجة وسببا في وقت واحد لماسي وويلات وآلام ومعاناة العراقيين المزمنة.


هذا الواقع جهودا جبارة مثابرة وسريعة ورصينة في مختلف الاتجاهات التربوية والنفسية والاقتصادية والثقافية لإعادة ترميم القيم المنهارة وإعادة بناء قيم جديدة تستند إلى المحبة وتكافوء الفرص والأمان ونبذ كل مظاهر التمايز الطبقي الحاد في المجتمع ورعاية الأسرة والطفل وإعطاء المرأة مكانتها اللائقة في المجتمع كفرد فاعل منتج وليس أداة تفريخ ومتعة فقط .والعمل على تقليص الهوة في الملكية بين مختلف طبقات الشعب ((حيث أصبح زوالها حلما بعيد المنال))وعدم ترك الحبل على الغارب لقوى الاستغلال ومالكي رأس المال اجشع بطبيعته ليفتك بحياة الناس ويفكك عرى المجتمع مما يدفع للفساد والانحلال والخراب.
وكما قال المفكر المرحوم هادي العلوي ((حمل القرآن طبقة الأشراف وحدها مسؤولية الفساد والدمار الذي يصيب المجتمعات وذلك في قوله((وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا)) (14)
كذلك يستدعي العلاج بناء مؤسسات عيادات علاج نفسي كبيرة بإشراف أخصائيين أكفاء في علم النفس والاجتماع من اجل علاج الإعداد الغفيرة من العراقيين اللذين تعرضوا للهزات والاضطرابات النفسية والعاطفية وخصوصا جيل الشباب والأطفال والمرأة.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع :


نود أن نشير إلى الجهد الفكري الكبير المبذول من قبل الأستاذ الدكتور أكرم زيدان في كتابه القيم (سيكولوجية المال) * هوس الثراء وأمراض الثروة. باعتباره بحثا فريدا من نوعه وموضوعه مما يجعله يحتل أهمية كبيرة لإشغاله فراغا هاما في المكتبة العربية حسب علمنا المتواضع. وقد كان لمضمون الكتاب اثر كبير في انضاج واخراج هذا البحث مرتديا حلة عراقية.
1- د.أكرم زيدان- سيكولوجية المال- عالم المعرفة- ص79.
2- نفس المصدر ص79.
3- ابن أبي الحديد- شرح نهج البلاغة- دار الكتاب العربي- الطبعة الأولى-ص252.
4- نفس المصدر السابق.
5- نفس المصدر ص 187 خطبه 129 ج8.
6- أكرم زيدان- سيكولوجية المال- ص87.
7- نفس المصدر ص96.
8- نهج البلاغة ج18 خطبه 98 ص98 .
9- أكرم زيدان-سيكولوجية المال-ص100.
10- نفس المصدر ص101.
11- نفس المصدر ص108.
12- نفس المصدر-ص102.
13- هادي العلوي- أضواء على معضلة الكنز- ص17.
14- كارل ماركس-رأس المال- ص175.

******************************************************************************************************8


الإنسان وأساطيره(1)



كامل الجباري

سألني الحكيم هلكان عن سر حزني ويأسي, بعد أن شاهد علامات الهم والقنوط على وجهي. أجبته: لقد استحضرت بعض الروايات التي تتحدث عن نهاية التاريخ. سواء تفاؤلية يوكو هاما الخادعة, التي تبشر بسرمدية الرأسمالية الطيبة, أو رواية الفناء الأخير المتشائمة. أنما دعاني إلى ذلك هو الميل القديم للإنسانية لإنتاج الأساطير والخرافات ومن ثم الإيمان بها وتصديقها ولم يتحول هو إلى أسطورة تخضع لها الأشياء. إن سبب يأسي هو عجز الإنسانية عن التحول إلى كائن أسطوري, وبذلك أعلنت عن موتها التاريخي.
لقد اكتشفت الخيط الدقيق بين التمجيد والتصفيق, وكلما أشعلنا البخور, أنتجنا صنما وقدسناه, وبذلنا في سبيله الغالي والنفيس. فما عانيناه من التوتاليتارية وفجائعها, وما جنيناه من الديمقراطية وفظائعها. ونحن في كل الأحوال نصفق ونهتف كالمهرجين في السيرك, بوجوه منمطة, وعقول مغيبة.


لقد افتقدنا ذواتنا واستبدلناها بذوات أخرى, أو صرنا ذواتا متوحدة, وجزر متباعدة, مشحونة بالانانوية, وفي الحالتين يفترس بعضنا بعضا. فهل فقدت الإنسانية الأمل في التحول إلى كائن أسطوري؟
قدم لي قدحا من الشاي, وقد بدت على ملامحه علامات الانشغال الفكري العميق. ثم قال:
اعلم إن الإنسانية منذ تواجدها على هذه الأرض, قد أنتجت الأساطير والخرافات, فكانت تؤامها وظلها واحتياجها الدائم. ومن حديثك إنك تذم ذلك وتطلبه في آن. وقد يبدوا للعقول المسطحة والساكنة, إن في ذلك تناقضا, ولكن العقول العميقة والمركبة, تجد في ذلك شيئا أخر سأوضحه.
إن الأسطورة, أساسا, هي محاولة الإنسانية للتغلب على ارتهانات الضرورة, كما هي محاولة فهم العالم وإعادة تشكيله. إن امتياز الإنسان عن غيره إنه كائن مفكر. والفكر يتطلب الخيال والسعة, والإبحار في المجاهيل, وتفكيك الأشياء وإعادة تركيبها. ناقضا عجزه الموضوعي بما يوفر له الخيال من أدوات فيعيد صياغة واقعه بأدوات الخيال والتخيل, وهو ما قامت به الأسطورة. فكثيرا ما نتهم الطفل الواسع الخيال بالكذب والبراعة فيه. ونؤنبه على ذلك, فلا يفهم السبب, وهو على حق. فكلما سألناه عن حادث معين يعيد صياغته بشكل مختلف. فهو لا يفهم تادلجنا الناتج عن الانصياع إلى متطلبات الضرورة وهو لا يعترف بالنهايات ولا يعرفها. يكتشف العالم في كل لحظة, فيعيد صياغته من جديد, فلا ترضيه صياغة تصل إلى نهاية النفق وتنغلق. فهو اقرب إلى الفنان التشكيلي منه إلى المصور الفوتوغرافي. وهو الجانب المشرق المستشرف من الطبيعة الإنسانية وسر ديمومتها وتقدمها.


وقد نسأل الطفل الأخر فيجيب إجابات محددة. نراها ثابتة ومكررة. فنتهمه بمحدودية التفكير, وهذا خطأ أخر. فهو يمثل جانبا أخر من الطبيعة الإنسانية. وهو الجانب الذي يجد الحلول ضمن الممكن ومن خلال قوانين الضرورة. المستوى الأول يمنعك من الجمود والسكون الذي يفرضه الخضوع والعجز وبالتالي الموت, إذا ما وصلت الضرورة المحددة إلى نهايتها وكفت عن العطاء, فتكلست وأعاقت. فينطلق الفكر في التساؤل والتدبر, والبحث والمغامرة في المجهول, فلا فكر بدون تساؤل دائم وبحث مضني. الطفل الأول يمثل المستوى الأول للإنسانية, وهو المستوى الذي تتفرد فيه ولا تتشارك مع بقية الحيوات. أما الطفل الثاني, فيمثل المستوى الثاني وهو مشترك بها مع البقية, وإن يكن مشتركا واعيا, فما تنتجه خلية النحل من عسل, يختلف عما تنتجه مصانع السيارات من سيارات. وهو الذي يسهل مصاعب الحياة ويجعل العيش ممكنا. ويجدر بنا الإشارة إن التراتب هذا لمجرد الترتيب وليس لبيان الأولويات, فالمستويات تتفاعل فيما بينها, ولا تعمل الواحدة بمعزل عن الأخرى. فالأسطورة تفقد فاعليتها وافقها الرحب وتتحول إلى خرافة تأخذ مظهر اليقين الشعبي, فتأخذ بشكلها بعيدا عن مضامينها وغاياتها ومغازيها, فتنعزل عن ظروفها وأزمنتها. وعندها تحول النخب الأسطورة إلى خرافة بما يخدم مصالحها. وتجد ذلك عند ذوي الثروة والنفوذ وأرباب الحكم وفي مفاصل المجتمع كافة فحتى للعاهرات نخب مهيمنة على حد تعبير الايطالي باريتو. وعندما تتحول الأسطورة إلى خرافة, فأن النخب تستطيع أن تسير الجمهور وتحوله إلى قطيع تابع هلامي الملامح لا يمثل نقيضا على مستوى التناقض, بل ضدا على مستوى التضاد يضيع في صراع البدائل, تتقاسمه النخب المتصارعة فيكون وقودا لمصالحها, ولا يفهم أبدا سر بؤسه وماساته.
الأسطورة إذا, ليست ذميمة بذاتها, ولا ممتدحة لذاتها, فهي في الأصل رغبة الإنسانية وأدواتها للفهم والتفسير والتعلم والتعليم والتغيير. كما هي وسيلتها لقهر الضرورة عندما لا يتوفر لها الإمكان لقهرها فتعكس طبيعة الأشياء في التحول والتغير والحركة والفتوحات العظيمة المجاهيل. وكما قالت حكاية (كايدارا)* :
[ أيتها الحكاية, المحكية, لتحكى...
هل أنت حقيقية؟
للأط]¹ (التشديدهون في ضوء القمر, حكايتي قصة خرافية.


للنساء اللاتي يغزلن القطن في ليالي موسم البرد الطويلة, هي وسيلة ممتعة لتمضية الوقت.
للذقون المشعرة والكعوب الخشنة هي رؤية حقيقية.
فأنا, في الوقت نفسه, بلا معنى ومفيدة ومعلمة...
احكيها أذا من اجلنا ]¹ (التشديد مني)
نشاهد هنا, تعدد المستويات في الفهم, فيتم التساؤل: هل أنت حقيقة؟ في الإجابة نرى الحقيقة متحركة حمالة أوجه, فهي قصة خرافية للأطفال الذين يلهون. وللنساء العاملات وسيلة ممتعة لقتل الوقت الطويل, وإضافة المتعة إلى روتين العمل الممل وهي رؤية حقيقة, للذقون المشعرة والكعوب الخشنة – أي للمسنين يقول همباطبا إن هذا الوصف يطلق على ذوي الحكمة والمعرفة عند شعوب غرب افريقية- ونلاحظ اقتران الذقون المشعرة بالكعوب الخشنة حيث إن الشعوب التي أنتجت هذه الحكاية هي شعوب رعوية.
ومن ديباجة حكاية (كايدارا) تبتدئ الحكمة: يأيها الإنسان لا تتزمت ولا تتعصب ولا تتحدد, فهناك وجوه عديدة للأشياء, وأفاق لا متناهية للمعرفة, وزوايا مختلفة للنظر. فما هو صواب بالنسبة لك, قد يكون خطأ بالنسبة للآخر, ليس لأنك على صواب, أو أنه على خطأ, أو بالعكس, بل الاختلاف سببه اختلاف المنظار, أو الزاوية المحددة, التي فرضتها عوامل وظروف عديدة ساهمت في تكوينك. فما أنت إلا ورقة بيضاء تلونها تجربتك وأوضاعك وما يسود ويؤثر في مجتمعك.



تساءلت: ولكن أيها الحكيم ألا نستطيع القبض على جوهر الحقيقة ومعرفة كنهها, وإلا ما معنى المعرفة وما فائدة الفلسفة؟! وهل نبحر في بحر له حد واحد ولا ساحل أخر له؟ أجاب الحكيم: هو ما تقول وهو غيره. فالإنسانية قد أنتجت ما لا يحصى من الفلسفات والعقائد والأفكار, وكل تبني على ما قبلها فتطوره أو تنقضه. وكلما جاءت امة لعنت أختها. فالحقيقة لها منازل متجددة, ومستويات متعددة. فوصولك إلى ميناء ليس معناه نهاية المطاف. وستستمر هذه الرحلة إلى أن تتحول الإنسانية إلى كائن أسطوري عندما تنتهي ارتهانات الضرورة المختلفة وتصير هي الضرورة الوحيدة لذا فأننا نرى الإنسان قد سار على سطح الماء. وركب بساط الريح مسافرا عبر الأجواء. وسخر الجن – ذوي القدرات الخارقة لنواميس الضرورة لمصالحه. غير إن محاولاته الدائبة لاسطرة نفسه ليست كلها ورودا من دون أشواك. فنرى, مثلا, كيف دفع عباس بن فرناس حياته ثمن لمحاولته الطيران. وكيف دفع غاليلو الثمن باهظا لنقضه خرافة مركزية الأرض وثباتها. وكيف اختفى الحلاج وسجن وصلب لأنه رمى الخرقة بعد معرفته للأسرار وكشفها للعامة وكيف دفع الكثير من المفكرين والمبتدعين والهراطقة- عبر التاريخ- الثمن باهظا لكسرهم خرافة سائدة تجد قوتها في ’’العقل‘‘ السالب التابع القابع, ومصالح وقمع المستفيدين من الجهل والأمر الواقع.
من كل هذا, نفهم ديباجة حكاية كايدارا, حيث تقول عن نفسها [فأنا, في الوقت نفسه, بلا معنى ومفيدة ومعلمة...]² وهذا هو جوهر الأسطورة, وسر عبورها للأزمنة المختلفة, واعتلائها سروج الظروف المتعاقبة, وحدوثها في لا زمان ولا مكان محدد. حيث تقول الحكاية:
[حدث ذلك في بلد كايدارا, الخارق للطبيعة, البلد الذي لا يمكن للذاكرة الإنسانية أن تحدد له موقعا بدقة في الزمان ولا في المكان.
آه يا أبناء أبي الأعزاء مانا الذي كان أول من حكي هذه المغامرة, يحدد زمنها ببضعة فصول شتاء, بعد الفترة التي جمدت فيها الجبال. وهي الفترة التي انتهى فيها الجن من حفر قاع الأنهار.]³
إن الأسطورة هي خرق لقوانين الضرورة, ونواميس الطبيعة, في محاولة لتفكيك الأشياء وإعادة تركيبها وصياغتها من جديد بما يحقق للإنسان توقه إلى السيطرة على الأشياء من حوله, وتسخيرها لصالح تفوقه- وهو المستوى الذي يمثله الطفل الواسع الخيال- ولو انتزعنا من ثنايا الحكاية


الإنسان. نرى أبطالها الثلاث, الذين يلتقون في ملتقى طرق ثلاث, يمثلون ثلاث مستويات للشخصية الإنسانية, وقد قدم امادو همباطي با هذا التفسير:
[ هذه الحكاية تقدم لنا ثلاثة أبطال يقومون برحلة, أو بالأحرى, بعملية بحث, الهدف منها هو تحقيق الذات الكاملة للفرد عندما ينجح في كشف أسرار الأشياء والحياة. فالإنسان يعتبر بالفعل قادرا على العيش وفقا لثلاث حالات: حالة فضة خارجية بحتة, تدعى ’’قشرة‘‘, وحالة وسط, أكثر نقاء, تدعى ’’خشب‘‘ وأخيرا حالة جوهرية ومركزية تدعى لب.
اثنان من بين إبطال القصة الثلاث يمثلان احدهما القشرة والثاني الخشب فهما لن ينهيا رحلتهما. أحدهما سيقذف به مثل القشرة والثاني سيحترق مثل الخشب. وحده الثالث, حمادي, الذي يمثل ’’اللب‘‘ وقد مر بنجاح عبر المحن المضنية المنثورة بمهارة في طريقه. ويخلص همباطي با إلى: إن كل واحد من هؤلاء المسافرين يرمز أذا إلى إحدى حالات الكائن البشري ككل. ]4
لقد أعطى الكائن الخارق كايدارا الذي [ كان العرش الذي يجلس عليه يدور من دون توقف وكايدارا يبدو مثل شمس عظمى. لم يكن في إمكان احد أن يصف شكله. ]5 لقد أعطى الرجال الثلاثة ما يكفي من الذهب لحمل ثلاثة ثيران.
[ سأل حمادي: ياكايدارا, ألا كشفت لنا عن معاني الرموز التي شاهدناها على الطريق التي قادتنا إليك؟
قال كايدارا: أحسنوا استعمال الذهب الذي قدمته إليكم ستجدون كل ما تشاءون بما في ذلك السلم الذي يقود إلى قمة السماوات والدرج الذي يغوص في باطن الأرض ]6
لقد منح الكائن الخارق كايدارا الشبان الثلاث دامبورو وحمتودو وحمادي ثلاث أحمال من الذهب لكل منهم. قال دامبورو: سأستخدم الذهب لأكون زعيما أوحدا أو سيدا ذا شأن. وقال حمتودو: إن الزعماء أكثر الناس شقاء, بل سأصبح تاجرا [سأضاعف ثرواتي إلى درجة إن كايدارا, إذا راني ستصيبه الدهشة من ازدهار أحوالي]7
قال حمادي: [أما أنا, فلن أسعى إلى أن أصبح زعيما أو أضاعف ثروتي. لا أريد أن أسبح في الرخاء. لقد عقدت العزم, إن أقتضى الأمر, على إنفاق كل عائداتي لمعرفة معاني ورموز بلاد الأقزام. ليس في ذهني أي أحلام


أخرى. سيرى البعض في رغبتي ضربا من الجنون الخالص, وستبدو للآخرين رغبة متواضعة للغاية, إما بالنسبة لي, فأن ذلك هو الهدف الأعظم والأكثر فائدة الذي يمكن لإنسان أن يتخذه لنفسه على هذه الأرض ]8
دامبورو يمثل السلطة, وهي القشرة, أما حمتودو فيمثل الثروة وهي الخشب, إما حمادي, فيمثل اللب, الذي هو المعرفة التي تقود إلى الإنسان الكامل, فقد تمسك دامبورو بالسلطة وحمتودو بالثروة فكان مصيرهما الموت على يد اللبوة بالنسبة للأول, والغرق بالنسبة للثاني لأنهما خالفا نصيحة كايدارا, ولم يحسنا استعمال الذهب. أما حمادي فقد ضحا بكل الذهب من اجل معرفة إسرار بلاد الأقزام, بلاد كايدارا, وكيل الإله جينو الخفي, وبذلك تخلص من الضرورة وارتهاناتها, فتمكن من أن يكون الإنسان الكامل, الإنسان الأسطوري. وكما قال همباطي با: [كذلك في كايدارا فأن التخلي التلقائي عن الذهب الممنوح من ألإله كايدارا نفسه هو الذي يمكن حمادي في النهاية من الخروج منتصرا من كل المحن... وحمادي بتنازله عن ذهبه – مع أنه الثروة الشرعية لرحلته البحثية – يفوز هو أيضا بحياته ويحصل في النهاية على أكثر مما أعطى. ]9
وتوضح ها يكمان في تذييلها إن همباطي با يوضح هذا الموقف بأن [يذكرنا بمكوك الحائك التقليدي ومنواله المكون من ثلاث وثلاثين قطعة, والمرتبط برمزية ’’الكلمة الخلاقة‘‘ (الإلهية) المنتشرة في الزمان والمكان. المكوك موجود في اليد اليمنى تعتقد اليد اليمنى إنها تمتلكه, وهي في الحقيقة لا تحتفظ به, لان عليها أن تقذف به إلى اليد اليسرى. عندما تكون اليد اليمنى فارغة تعتقد اليد اليسرى إنها قد انتصرت. لكنها أيضا لن تحتفظ بالمكوك, عليها أن تعيده... وخلال تلك اللحظة الخاطفة الهاربة حيث لا تمتلك كلتا الكفتين شيئا, وبينما يكون المكوك ينتقل من أحداهما إلى الأخرى, يضاف خيط جديد إلى قطعة النسيج, ويتحقق لغز ’’الخلق‘‘ المتجدد دائما.]10 وهذا المثال, أكد الحكيم هلكان, هو الذي يجيبك على تساؤلك عن القبض على الحقيقة, فالحقيقة كخيوط المكوك, في كل حركة تضيف خيطا إلى النسيج, وهي حركة مستمرة متغيرة, تنمو باستمرار. هي خلق دائم متجدد.
سألت الحكيم هلكان: لماذا, دوما, نفرغ أساطيرنا العظيمة من ثرائها ورموزها ودلالاتها, فنحولها إلى خرافات قاتلة؟



أجاب: قد يرجع ذلك إلى تنوع أسباب الضرورة وتعقيداتها, وتطور وسائلها وأدواتها, ومن جهة أخرى الميل الحثيث للإنسان لإخضاع الأشياء لمناطيق التجريد, التي تمسطر الأشياء وتقولبها, ورغم توهم التجريد, بانعزاله واستقلاله, غير إن مساماته مليئة بنفايات الضرورة, وتأثيراتها المختلفة. وهذا بحث آخر قد نتكلم عنه لاحقا.
وهنا سكت هلكان عن الكلام المباح... إلى أن يدرك الشعب العراقي وفقرائه نور الصباح.


هوامش

*حكاية كايدارا هي الحكاية التي حكاها امادو همباطي با وكما تقول عنها هيلين هيكمان في مقدمة لكتاب "لا وجود لخصومات صغيرة" (حكايات جص6. من الساڤانا). أنها تصف (المسار الكامل للبحث عن الحقيقة, بما فيه من محن معينة تترك بصمات على ذلك المسار, سواء في طريق الذهاب أو في طريق العودة) ص6 . والكتاب المذكور من تأليف امادو همباطي با . ترجمة وتقديم محمد أحمد بنعبود. مراجعة أ. ليلى عبد الحميد بدر. سلسلة إبداعات عالمية. تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت. يونيو 2008
1- امادو همباطي با(لا وجود لخصومات صغيرة) ص181 ديباجة حكاية كايدارا.
2- نفس المصدر. ص181
3- نفس المصدر. ص181 . في ملحق هوامش كايدارا, مانا: الصفة التي كان يشار بها قديما, للملوك العالميين – بكسر اللام- وقد أصبحت اسما للملك العالم – بكسر اللام- الأسطوري الذي نجده في عدد كبير من الحكايات التلقينية (التعليمية). أما عن الفترة التي تجمد فيها الجبال يقول الهامش: الجبال تصبح صلبة. الجبال في أسطورة خلق العالم, كانت, في الأصل لينة مثل الزبدة النباتية, لكن جينو الإله الأوحد, الخالق, الأزلي, منح ’’الملك الأعور‘‘ أي ’’الشمس‘‘ القدرة على جعل الجبال صلبة بفعل كثافة نظرته. ص200 ملحق هوامش كايدارا. كتبتها ليليان ركسيلوت .
4- نفس المصدر. ص284 . تذييل. أحاديث أمادو همباطي با حول حكاية كايدارا (اختارتها وقدمتها هيلين هيكمان ) .


5- حكاية كايدارا. ص205 . نفس المصدر.
6- نفس المصدر. ص205 . وفي الهامش: السلم والدرجات, رمزان للبحث عن المعرفة الظاهرة والباطنة. وفي ملحق هوامش كايدارا:
الذهب هو المعدن الباطن بامتياز, بسبب نقائه وعدم قابليته للتغيير... هو يجلب السعادة إذا أحسن استخدامه أي أذا أستخدم في البحث عن المعرفة وإلا فأنه سرعان ما يضيع مالكه, هو إذا معدن محير ويتضمن هو أيضا الثنائية الواردة في أصل الخليقة.
7- نفس المصدر. ص206 .
8- نفس المصدر. ص207.
9- نفس المصدر. ص288. تذييل أحاديث امادو همباطي با حول حكاية كايدارا. (اختارتها وقدمتها هيلين هيكمان). حيث أن حمادي قد أستعاد بالإضافة إلى حموله الثلاث من الذهب فقد أضاف إليه كايدارا أحمال رفيقيه الست من الذهب. لقد ورث السلطة والثروة, إضافة إلى المعرفة.
10- نفس المصدر. ص288 .
****************************************************************************************************


كلمة في الانتخابات

نبيل محمد



إن ردة الفعل السلبية التي تكونت مؤخرا لدى كثير من بني مجتمعنا العراقي،تجاه صندوق الاقتراع،لها مايبررها في الواقع، حيث انم احصل في المرة السابقة من إرداف لصفة القدسية لقائمة انتخابية ما، هو بالحق سلب لحرية الناخبين وتكبيل للعقل في الاختيار،وإذا مانظرنا أيضا إلى أداء الحكومة التي أنجبتها هذه القائمة ( المقدسة ) خاصة من جهة عنايتها بالفقراء والطبقات المسحوقة وأكثرهم لرأيناه أداء دون الحد المقبول بكثير.وهؤلاء من ذوي الدخل الشحيح، هم بالذات من يسهل خداعهم بمنح قدسية ما لشخص أو قائمة ما. فكان مصب غضب هذه الشريحة الكبيرة وغيرها من طبقات اجتماعية أخرى برزت عندنا متمثلا بالتصميم على عدم الذهاب مجددا في إي انتخابات قادمة(1)، هذا مانسمعه كل يوم في الشارع ،وهم في هذا ( اللافعل ) يعتقدون انه بإمكانهم تنحية من خدعهم فيما مضى، والأحرى بهم التحدي والمزاولة على زيارة صندوق التصويت، هذا الصندوق الحبيب، كلما كان هناك لهم الحق فان هذا السبيل سبيل الديمقراطية ،هو القويم نحو اطمئنان بلدنا ورفاهه، ولو إن ثماره لاتأتي سريعة النضج، فقد تتطلب عدة سنين وربما عقود من الزمن لكن لاننسى هنا،إن لأبنائنا وأحفادنا وحتى الأجيال اللاحقة علينا الحق بسن هذه الطريق وبلورتها،فان كل الأمم التي نرى رخائها


الآن،ما وصلت إلى هذا الحال، إلا بعدما قطعت أشواط مريرة في هذا السبيل (2) .
من هنا تأتي أهمية الحرص على الممارسة الديمقراطية لكل من يكن الهم والحب إزاء هذا الوطن وأبناءه، وهنا أيضا تأتي أهمية دور المؤسسات الحكومية والمنظمات الاجتماعية، بتوعية الناس وتنوير العقول،خاصة وان العراق حديث عهد بالتجربة الديمقراطية.
إن الديمقراطية عندنا،تحتاج الكثير والكثير جدا من الإيضاح والشرح والتعليق والتحشية، فهي ليست الذهاب يوم الانتخاب واختيار مرشح ما، فهذه البداية ليس إلا ، أو قل احد حقوق المواطن، وهناك حقوق كثيرة تكون على عاتق الحكومة ،ولابد له من الحصول عليها.
لقد جاء تعريف لنكولن للديمقراطية( حكم الشعب بالشعب للشعب) تعبيرا جامعا وواضحا ،ففيه إشارة إلى طاعة الناس للحكومة والى مشاركة المجتمع ايجابيا في تشكيل القرارات وفيه أيضا تأكيد على قيمة هذه القرارات في استهداف وتحقق الصالح العام، وفيها فان المواطنين جميعا سواسية، لايرفع بعضا عن بعض مال(3) أو مولد أو جاه ،ولايمكن أن تقوم الديمقراطية مالم يطبق نفس القانون على الجميع. وفيها نكون حرية الرأي مكفولة للكل.
ومن حيثيات الديمقراطية، إنها يجب أن تكفل لكل فرد، بصرف النظر عن عنصره أو عقيدته أو لونه أو جنسه،اقل مايلزم لحياة كائن بشري وهو:-
1-الطعام والكساء اللازمان لبقاء الفرد في حالة كاملة من الصحة والإنتاجية..
2-الإسكان اللازم،ليس فقط من حيث الحماية ضد الجو، بل كذلك من حيث السماح للفرد بمكان يسكن ويستجم ويستمتع فيه بأوقات فراغه.
3- التربية الضرورية لتنمية الملكات اللازمة وتمكين الفرد لان يعمل كعضو فاعل في المجتمع.



4- الخدمات الصحية والطبية الأزمة للوقاية من الأمراض وعلاجها وكفالة المحافظة على صحة الفرد والمجتمع.
وكما ان الانتخابات مسؤولية المواطن تجاه بلده ومواطنيه فانه أيضا مسؤولية كل من يترشح لهذه المناصب الرفيعة أنها مسؤولية الإفراد المالكين لطاقات وكفاءات القيادة و حمل وأداء الرسالة , بالترشح للمناصب الحكومية , سواء المحلية القادمة أو المركزية ( مجلس النواب ) التي ستليها بفترة ان شاء الله , ويجب ان لا يردعهم ما في الساحة من مخاطر , فان الاستعداد للتضحية بكل شيء محو من أمم صفات القادة , ومن اجل غلق الباب أمام من يسعى وراء الامتيازات المادية التي تتوفر حاليا مع هكذا مناصب ( 4 ) . وهذا الأمر يجب التوقف عنده مليا وبحذر , فأولا الترشيح لهكذا مناصب ليس مشروعا تجاريا , بل هو التطوع وتحمل الأعباء لخدمة الناس . ولنذكر بان المال ليس دائما وسيلة السعادة والرفاه وجلب الرفعة والجاه , بل كثيرا ما تكون الأموال الوافرة , عبء ثقيل يصل الى حد النقمة . وفي كلمتنا هذه , لا باس من التعرض للرأي الآخر , الذي لا يرضى بالخضوع لرأي الشعب (5) , ان كان لديه مستوى الوعي متدنيا , وقليل الخبرة بالتجربة الديمقراطية , وما دامت الأمة متفرقة ممزقة الأوصال , مشتته الأهواء , وما دامت أحزابها السياسية خاضعة في تصرفاتها لمأربها الخاصة , وما دام أفراد الطوائف المختلفة يعوزهم الوعي العام , فالتمثيل النيابي حديث خرافة ساقه الوهم والتقليد . ولا تكون الرئاسة الأعلى يد حاكم مطلق عادل , قوي , نزيه , شجاع , عالم , حازم , أصيل الرأي , ينبغي له الشروع في تطهير واسع يتناول أهل النفوس الضعيفة ومحترفي السياسة والنهازين والمهرجين , فيقصيهم عن مناصب الحكومة ذات المسؤولية ليفسح المجال لأهل الإرادة القوية والتصميم الحازم والضمير الحي . هذا الرأي يصيب شيئا من الحقيقة في شان انتخابات مجالس المحافظات القادمة , ففي ظل الفساد الإداري المستشري عندنا , نرى من غير المنطقي منح الصلاحيات والسلطات الواسعة لما يسمى بالحكومات المحلية في كل محافظة , متمثلة بالمجالس المحلية , من اجل ضمان حقوق الناس في كل المحافظات بواسطة السلطة المركزية القوية الحازمة العادلة .



( 1 ) ان ردة الفعل تطورات لدى الكثير إزاء العقيدة نفسها , بعدم التفريق بين ممثليها بالحق وبين المدعين . فقد كان هناك نفور كبير من الدين وكل ما يمت إليه.
( 2 ) لو تصورنا الوضع معكوسا إي الحكام وحتى الحكام المحليين ليتم تنصيبهم من قبل أمريكا أو غيرها أو يصلون بطرق أخرى لسدة الحكم, إما كنا سنطالب بالانتخابات ؟
( 3 ) اخطر شيء على التضامن الاجتماعي هو عدم المساواة الاقتصادية فسوء توزيع الثروة , هو دائما أساس السخط ومصدر القلق واستمرار وجوده يقسم المجتمع الى طبقات متوارثة بين الناس . وهناك طريقتان يمكن يهما منع هذا التحول , احدهما إلغاء الملكية الفردية إلغاء تاما , ونزع ما في حوزة الناس من أملاك , وهذه هي الطريق التي سارت عليها الشيوعية نظرا وعملا , والطريق الأخرى هي وضع قيود على تكديس الثروة , والتاك دانها لا تتركز في أيد بذاتها , بل يتداولها المجتمع باستمرار , وقد اختار الإسلام الطريق الثانية .
( 4 ) ما يحصل من تمتع مسئولي الحكومة بالأموال الوفيرة التي يحصلون عليها من رواتب وامتيازات أخرى , بلغ حدا فوق التصور , وتكاد تصبح ظاهرة ثرائهم ظاهرة طبيعية تغيب عنها الرقابة و المحاسبة ( نستذكر هنا رقابة الإمام علي ( ع ) الصارمة لولاته على الأمصار ) كما ان البذخ والإسراف في الأحوال المعاشية لمسئولي الحكومة سيؤدي بالنهاية الى عزلة الحاكم بشتى درجاته عن الناس , ونفورهم منه , بل وكراهيتهم الى حد تصيد الأخطاء والنقد المدمر , فتبتعد هذه العلاقة عن المتصور لها من مودة



وتعاون بين الاثنين , كل هذا يدعونا للتساؤل عن إمكانية خفض هذه الرواتب .
( 5 ) ينسب هذا الرأي للإمام محمد عبده , حيث قد تأتي رغبة الشعب عن عاطفة عارمة بعيدة عن الفهم والتحليل والاختيار العقلي الواعي , فمثلا في انكلترا ذات مرة خرجت مظاهرات احتجاجية ضد استيراد أنواع نادرة من طيور الزينة الاستوائية .


*****************************************************************************************************








تجديد الماركسية ممكن .. وضروري

 عطية مسوح

ما يزال ( تجديد الماركسية ) موضوعا للبحث والاجتهاد وقد لا يكون ما وصل إليه ( المجددون ) مطلق الصحة أو كافيا لهذا ما زالت وستبقى موضوعا للحوار .
فبعد انهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي , وفيما عرف ببلدان المنظومة الاشتراكية , ظهرت بين الماركسيين , في العالم وفي وطننا العربي , ثلاثة اتجاهات / تيارات في التعامل مع الماركسية :
الاول : وقف موقف ردة الفعل الدفاعية , فاعلن بعد الانهيار لإصرار أو تمسكه بالماركسية اللينينية كما هي , كما جاءت في نصوص ماركس , انجلز ولينين , وربما غيرهم . وهذا الاتجاه كان موجودا في سورية , وعلى الساحة العربية عامة .
الثاني : وقف موقف التنكر للماركسية وأعلن الخروج منها , إذ رأى ان الانهيار هو دليل على بطلان الماركسية بوصفها فكرا اشتراكيا علميا .

الثالث: اعتمد موقف قراءة الماركسية قراءة جيدة, وإعادة النظر في نصوصها , وفق التطورات الكبيرة ووفق معطيات العصر . وقد ظهر هذا الموقف في العالم وفق بلادنا, للتعرف على ما فيها من نقاط ضعف ونقاط قوة, من اجل تجديدها وتطويرها, وهو – في اعتقادي – الموقف الأكثر صحة وصوابا. هناك منالاتجاه تنصب محاولات كثير من الباحثين الماركسيين العرب , وانأ واحد منهم , كي تتجدد الماركسية وتكون ملائمة للعصر وقابلة لان تكون سلاحا بيد الطبقة العاملة والكادحين الساعين من اجل العدالة والاشتراكية في عالمنا المعاصر .
وقد يطرح هنا سؤال:هل يمكن تجديد الماركسية فعلا، دون ان تخرج عن جوهرها؟وهذا سؤال كبير.
هناك من يقول: لا يمكن تجديد الماركسية، لأنها فكر واكب مرحلة زمنية معينة , ووضعا سياسيا وفكريا عالميا معينا , وتبنته تجربة محددة , وانتهى بانتهائها . باختصار, يقول بعض الباحثين والمفكرين ومنهم من كان ماركسيا: زمن الماركسية ولى !
وهناك من أنصارها من يتوجس خوفا من فكرة تجديدها , فهو يحبها الى درجة التقديس – ومن الحب ما قتل 1 وبالتالي يرفض إعادة النظر فيها وإدخال تعديلات على بعض نصوصها ومفاهيمها وقوانينها , أو أبطال بعض نصوصها التي عفا عليها الزمن , أو كانت خاطئة أصلا .
وارى انه بهذا يلحق بها الأذى ولا ينفعها في شيء بل انه يقتلها !
اعتقد ان تجديد الماركسية ممكن بل ضروري , وهو لا يخرجها من طبيعتها . وذلك استنادا الى أمرين أساسيين موجودين في الماركسية ذاتها .
- الأول ان الماركسية في الأصل فكر نقدي – ماركس قرأ واقع النظام الرأسمالي في أوربا قراءة نقدية , وقرأ الفكر الإنساني قبله قراءة


- نقدية , وهذا ما يجب على الماركسيين في مختلف بلدان العالم ان يقوموا به وان يقرؤوا واقعهم , والفكر الإنساني , قراءة نقدية – وهذا يعني إنها تمارس منهجها النقدي , لا على الواقع وعلى الفكر الآخر فقط , وإنما على ذاتها أيضا .
- الثاني ان الماركسية منهج يقوم على النفي , وهذا يقتضي ان على هذا المنهج , ويمكن لمن يستخدمه , ان ينفي النصوص الماركسية ذاتها , استنادا الى هذا النهج ذاته , لأنها وضعت في مرحلة معينة .
فالنص يعبر عن فكرة , ولدت في واقع معين , وتجسدت في نص , فالنص هو سجن للفكرة , لأنها تصبح حروفا وكلمات بينما الواقع الذي ولدها يتطور ويتغير باستمرار . لذلك تدخل الفكرة منطقيا في تناقض مع الواقع بمجرد ان تصاغ في نص .
وهذا ينطبق على كل الأفكار وعلى كل نصوص العالم , ومنها نصوص الماركسية ( ماركس , انجلز , لينين ) , وعلى قرارات الأحزاب أيضا .
انطلاقا من هاتين النقطتين / المرتكزين, فان نفي النصوص الماركسية واجب على الماركسيين , من اجل تجديد أفكارهم وجعلها موائمة للواقع المتجدد , ومتسقة مع منهجهم نفسه .


على هذا يمكن ان نقول ان الثابت في الماركسية ليس نصوصها , وإنما منهجها النقدي , منهج النفي , وهذا يعني ان النصوص خاضعة لهذا الثابت , وينبغي ان تتحول باستمرار انطلاقا من المنهج ذاته .
في الماركسية ذاتها – عندما نعيد النظر بها ونقرؤها قراءة جديدة – نجد أمرين
- أ


- افكارا أو نقاط ضعف أصلية ( موجودة في الفكر منذ وضعه ) وهذا أمر طبيعي , والماركسيون يتحسسون من هذا القول , ويعتقدون ان الماركسية صواب مطلق , وهذه نظرة دينية تقديسية . وليس في العالم فكر صحيح بالمطلق أو فكر لا تعتريه نقاط ضعف .
- نقاط ضعف مكتسبة , لان الواقع متبدل والنصوص ثابته , فتنشأ بطبيعة الحال تناقضات بين النصوص والواقع .
وتجديد الماركسية يعني بالدرجة الأولى وضع اليد على نقاط الضعف فيها , سواء أكانت أصلية أم مكتسبة .
هنا , على الماركسيين , حتى يستطيعوا تجديد فكرهم وجعله ملائما للحياة من جديد , ان يقلعوا تماما عن كثير من المصطلحات التي استخدموها سابقا ( استخدمها لينين وستالين والمدرسة السوفيتية ) , مثل التحريف , رفض التحريف , رفض المراجعة , رفض التنقيح , فهذه المصطلحات ألحقت أذى كبيرا بالماركسية لأنها أسهمت في تجميدها .




إذا أول ما يجب ان يتفق عليه الماركسيون هو الخلاص من فكرة التحريف أو من رفع سلاح التحريف والاتهام بالتحريف في وجه كل من يحاول ان يجدد الفكر .
علما ان التحريف أصلا مصطلح ديني , نقل الى الماركسية نقلا في سياق تقديسها .
النقطة الثانية , ان على الماركسيين – في إطار سعيهم الى تجديد فكرهم – إعادة الطابع الفلسفي للفكر الماركسي . فالماركسية , فلسفة , بالدرجة الأولى , وليس الفكر الاقتصادي والنظريات التفصيلية المنبثقة منها إلا جوانب .
الأساس أنها فلسفة , وهي في الأصل فلسفة في الحرية , بمعنى ان ماركس كان قبل ان يصبح ماركسيا بالمعنى المتعارف عليه –


فيلسوفا , وكانت تشغله فكرة الحرية مثلما شغلت كل الفلاسفة في عصره . وفي انشغاله هذا , وجد ان سبب ( اغتراب الإنسان واغتراب الكادح الذي يعمل دون ان يأخذ كامل حقه ) , وذلك بسبب علاقات الإنتاج القائمة على الاستغلال , ولن يصل الإنسان الى حريته إلا إذا تخلص من اغترابه , ولن يتخلص من اغترابه إلا بتغيير علاقات الإنتاج الرأسمالية .
إذا هاجس ماركس في الأصل هو وصول الإنسان الى الحرية , عن طريق تغيير علاقات الإنتاج .



هذه الرؤية ضرورية جدا , ومفيدة جدا , لأننا كنا سابقا ننظر الى الماركسية على أنها فكر طبقي , فكر للطبقة العاملة , فكأننا كنا نوقفها على رأسها لا على قدميها . الماركسية قدماها في الأرض ورأسها يتطلع الى الحرية .
هي فلسفة إنسانية في الحرية قبل ان تكون فلسفة طبقية , وقد جاء طابعها الطبقي في سياق بحثها عن الحرية , لان ماركس وجد ان خلاص الإنسان من الاغتراب يقتضي قلب علاقات الإنتاج وتغييرها , ومن يقوم بهذا التغيير هم الكادحون , الطبقة العاملة . فطبقية الماركسية تأتي في سياق بحثها عن الحرية , وجوهرها الأساسي هو أنها فلسفة إنسانية .
إما الجوهر ( الأساس الثابت ) في الفلسفة الماركسية فهو منهجها لا نصوصها – كما في أية فلسفة أخرى – وهنا علينا ان نوضح المقصود بمنهج ماركس , وسأعرض أهم ملامح هذا المنهج , وارى ان النقاط التالية أساسية فيه :
1-الانطلاق المادي في دراسة أية ظاهرة . هذا يعني ان ننطلق في تفسير أية ظاهرة من الواقع الاجتماعي ومن مصالح الجماعات والطبقات , لا من ان الرغبات هي التي تولد الموقف , فالسياسات هي تغبير عن المصالح وتنبثق منها .


2-دراسة الظاهرة , أية ظاهرة كانت , في إطارها المجتمعي , إي دراسة علاقاتها بالظاهرات الاجتماعية الأخرى , إذ لا توجد ظاهرة مستقلة بذاتها وكلها متشابكة دائما .
3-ان ندرس الظاهرة في إطارها التاريخي – ومن هنا جاءت المادية التاريخية – إي من خلال خصائص المرحلة التي تظهر فيها الظاهرة المدروسة , ومستوى تطور المجتمع والمستوى


السياسي والفكري في المجتمع , ومن خلال عمقها التارخي ( مستوى القوى المنتجة وتجربة الشعب , وبوصفها امتدادا لظاهرات سابقة ) . وامتدادها في المستقبل .
4-الانطلاق من ان السيرورة في كل الظاهرات ( الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ) تحركها التناقضات , فالتناقضات في أساس السيرورة وأساس التطور , والتناقضات بصراعها , تولد التطور , وهذا التطور يقوم على أساس ان الجديد ينفي القديم . الظاهرة يحركها التناقض , وطريق التطور هو النفي المستمر : الجديد ينفي القديم .
5-الاستناد في دراسة أية ظاهرة من الظاهرات المجتمعية العامة , ومن ظاهرات الفكر خاصة , الى المخزون المعرفي الذي حققه الإنسان في تاريخه , وهذا ما استهتر به كثير من الماركسيين , أو معظم الماركسيين , إذ كانوا يظنون ان فكرهم منقطع عن المخزون المعرفي للبشرية , شخصياتهم وفي سلوكهم وعاداتهم ... والماركسية هي إضافة الى هذا المخزون وحلقه من حلقاته .
6-يقوم منهج ماركس المعرفي على دراسة ظاهرات الوعي والتطور الفكري من خلال جدل الانعكاس والاستقلالية فالفكر هو ابن الواقع،ولكنه في الوقت نفسه مستقل عته، بمعنى انه يرفضه ويؤثر فيه ويغيره،وهو سلاح من اجل تغييره،فهو ليس تابعا له(تبعية ميكانيكية)!


هذه نقطة أساسية في منهج ماركس،ولكن الماركسيين-للأسف- في معظم بحوثهم كانوا يغفلونها، ويرون ان الانعكاس يعني تبعية الأفكار للواقع.وفي هذا إلغاء لأي دور تغييري للفكر.
الفكر ينبع من الواقع،هذا صحيح، وهو يحمل ملامح الواقع،وهذا صحيح أيضا، لكنه مستقل عنه، ويضع تغيير الواقع هدفا له.
وفي الفكر أيضا علاقات داخلية(جدل داخلي)، ولتطوره قوانين خاصة به، وجدل الأفكار فيما ببينها عامل من عوامل تطورها.
لقد اقترحت منذ عام 1992 صيغة بديلة للصياغة المعروفة التي تقول ان الفكر(الوعي) انعكاس للواقع،والصياغة البديلة هي: مصدرية الواقع وأسبقية الفكر.
إي ان الواقع هو الأساس ،هو مصدر الوعي والأفكار، لكن الأفكار،والوعي لابد ان تسبق الواقع وتتصور واقعا بديلا،كي تستطيع الإسهام في التغيير.
هذه النقاط أراها الجوهري في منهج ماركس المعرفي، إي في الفلسفة الماركسية. ومن الضرورة العودة اليها عندما نبحث في تجديد الماركسية.
الماركسية والديمقراطية
إما النقطة الأساسية التي تحتاج الى بحث وتجديد، والتي شغلتني كثيرا-أفردت لها/70/ صفحة في كتابي(الماركسية،من فلسفة للتغيير الى فلسفة للتبرير)-فهي علاقة الماركسية بالديمقراطية.
انطلقت من سؤال:- هل الماركسية فلسفة ديمقراطية؟؟ أو هل الفكر الماركسي فكر دي، لسببين وقد وصلت الى جواب.
وجوابي:- نعم! الفكر الماركسي فكر ديمقراطي،لسببين:-



أولهما:- الماركسية منطلقها ديمقراطي(وضع مصير الانسان بيديه،لابيد الغيب، ولا العظماء والقادة،وماركس قال:-البشر هم صانعو التاريخ!) وهذا بحد ذاته منطلق ديمقراطي.



وثانيهما:- غاية الماركسية هي غاية ديمقراطية(تحرير الإنسان من الاغتراب)ز وهذا يعني التساوي بين البشر في الحقوق الأساسية.
فالماركسية فكر ديمقراطي منطلقا وغاية. وهذا ماعبر عنه ماركس وانجلزب: تخليص الإنسان من عالم الضرورة ونقله الى عالم الحرية دون علاقات استغلال.
لكن هل هذا يعني إنها ليس فيها مشكلة تتعلق بالديمقراطية؟؟
أقول:نعم فيها مشكلة، وهي الحشوة بين المنطلق والهدف.فالمنطلق ديمقراطي والهدف ديمقراطي،ولكن فيما بينهما نقاط ضعف أهمها:-
- الماركسية ترى ا ن الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية لايجري تدريجيا، ولايتم إلا عن طريق الثورة.
رغم ان الانتقال-بحسب الماركسية ذاتها-من تشكيلة الى أخرى يبدأ بنشوء علاقات إنتاج للتشكيلة السابقة. إما في الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية فيرى ماركس ان علاقات الإنتاج الاشتراكية لا تنشا في أحضان النظام الرأسمالي، وإنما ينشا فيه من يحفر قبر الرأسمالية (الطبقة العاملة) إما علاقات الإنتاج فلا تنشا.





هذا يعني ان الانتقال يحتاج الى القضاء على سلطة الرأسمالية واستلام السلطة، ثم تغيير علاقات الإنتاج تغييرا قسريا،بالقوة، وهذا يستلزم انه لابد من مرحلة،بين الرأسمالية والاشتراكية سماها ماركس انتقالية،وشرحها لينين فيما بعد،وتحدث عن بداياتها لكنه لم يستطع الحديث عن نهاياتها،فإذا بها تطول وتطول،وهدف هذه المرحلة غرس علاقات إنتاج جديدة في المجتمع لم تنشا نشوءا عاديا طبيعيا.




أي ان الاشتراكية ستقوم الدولة بدور إكراهي معين محدد في المجتمع،ومن هنا جاء التعريف بان الدولة أداة إكراه، وجاءت ديكتاتورية البرولتاريا،التي رفضت مبدأ الانتخاب الحر النزيه، بعد ان تستلم السلطة.وذلك لان العلاقات ليست راسخة في الأرض وليست ناشئة في أحشاء النظام الرأسمالي.
هذه النقطة هي الأساس في ضعف الديمقراطية،أو غيابها في المااركسية فكرا، وفي التجربة الاشتراكية التي عرفت في القرن العشرين ممارسة.
من هنا يمكن التنبه الى ان غياب الديمقراطية في النظام الاشتراكي لايتعلق بسوء التطبيق فقط،بل له أساس نظري فكري لابد من معالجته،عندما نضع اليد على نقاط الضعف هذه.
علينا إذا ان نسعى لإيجاد نصوص ومفاهيم ماركسية جديدة تخلصها من ضعف نزعتها الديمقراطية، وتحقق نوعا من الاندماج بين القيم الديمقراطية التي توصلت إليها البشرية عبر العصور(تداول



السلطة،الانتخاب الحر وتعدد الأحزاب) والفكر الماركسي الداعي الى الحرية والعدالة،وهذه نقطة أساسية في تطوير الماركسية وتجديدها.
إذا ،إعادة الاعتبار للماركسية بوصفها فلسفة الحرية،إي إبراز طابعها الإنساني وجعل طابعها الطبقي تابعا لطابعها الإنساني أولا ،والتجديد في نقاط ضعفها المتعلقة بالديمقراطية ثانيا، والسعي للوصول التدرجي الى الاشتراكية ،ثالثا.
ينبغي اعادة النظر بطريقة الوصول. كان الماركسيون يقتنعون بطريق الثورة، ويرفضون فكرة التطور التراكمي. الآن ثبت ان الثورة-فيما يتعلق بنقل المجتمع من علاقات الإنتاج الرأسمالية الى علاقات الإنتاج الاشتراكية- فعل مخالف للديمقراطية،ومخالف للتدرج الطبيعي في المجتمع.إما عن الثورات الوطنية،وعندما يتعرض شعب للاستعمار فهنا يكون كلام آخر وتصبح الثورة أمرا مشروعا.
- هل نضعف الماركسية بهذا؟؟ لا نقويها لأننا نحافظ لها على دور في هذا الواقع المتغير، ونحافظ عليها سلاحا في أيدي القوى التغيرية، في أيدي القوى التي تسعى الى الديمقراطية والعدالة في المجتمع.
إما ان نقول:- سنقوم بالثورة من اجل نقل المجتمع من علاقات الإنتاج الرأسمالية الى العلاقات الاشتراكية،فهذا هو الفعل المخالف


للديمقراطية والمنافي للتطور الطبيعي للمجتمع،فالتدرج الطبيعي للمجتمع يعني ان نصل الى الاشتراكية بتراكمات يقوم بها الكادحون وأنصار العدالة،عر الضغط وعبر الحكم إذا استلموه عن طريق الانتخابات،بحيث تكون هذه المنجزات التي يحققونها في مجال العدالة لاستطيع نظام آخر-إذا جاء نظام آخر ضد الاشتراكية-ان يلغيها.
هذا هو الطريق الذي يمكن ان نصل به الى العدالة والاشتراكية،ونكون بذلك ماركسيين في الجوهر، لأننا نفهم الماركسية-حينئذ- على أساس منهج ماركس القائم على التطور والنفي.

*الماركسية والماركسيون في عصرنا-كتاب عن الطاولة المستديرة- الطبعة الأولى تموز 2008- الطاولة المستديرة التي دعا إليها مكتب العمل الفكري التابع للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري.
















سمير أمين
1ـ مأساة الثورات الكبرى:

تتميَّز "الثورات الكبرى" بواقع أنها تندفع بعيداً إلى الأمام نحو المستقبل، خلافاً "للثورات العادية"، التي تكتفي بالاستجابة لمتطلبات التحولات المطروحة على جدول أعمال اللحظة.
في المرحلة الحديثة هناك ثلاث ثورات كبرى فقط (الفرنسية، والروسية، والصينية). الثورة الفرنسية لم تكن مجرد "ثورة برجوازية"، أحلَّت النظام الرأسمالي محل النظام القديم، وسلطة البرجوازية محل سلطة الأرستقراطية. فهي أيضاً ثورة شعبية (وفلاحية تحديداً) طرحت مطالبها التساؤل حول النظام

البرجوازي نفسه. فالجمهورية الديمقراطية المدنية الجذرية، التي تستوحي مثالها من فكرة تعميم الملكية الصغيرة على الجميع، ليست نتاج منطق تراكم الرأسمال المباشر (القائم على اللامساواة)، بل إنكار له (في إعلانها الواعي بأن الليبرالية الاقتصادية عدو للديمقراطية). بهذا المعنى، كانت الثورة الفرنسية تحتوي، مذ ذاك، بذور الثورات الاشتراكية القادمة، التي لم تتوافر شروطها "الموضوعية"، طبعاً، في فرنسا آنذاك (تشهد على ذلك الحركة البابوفية). الثورتان، الروسية والصينية (ويمكن أن نضيف لهما ثورتي فيتنام وكوبا)، وضعت لنفسها الشيوعية هدفاً. وهذا متقدم جداً، بدوره، على الموجبات الموضوعية لحل المشكلات المباشرة في المجتمعات المعنيَّة.

لهذا السبب، تتلقى كل الثورات الصدمة الناجمة عن استباقها زمنها. فبعد لحظات تجذرها القصيرة تتلاحق التراجعات، والعودات إلى الماضي. تعاني هذه الثورات، إذاً، صعوبات كبيرة، دائماً، في الاستقرار (استغرق استقرار الثورة الفرنسية قرناً كاملاً). في المقابل، تدشن الثورات الأخرى (كالأميركية والإنكليزية) عملية انتشار النظام بشكل ثابت وهادئ، مكتفية بتسجيل موجبات العلاقات الاجتماعية والسياسية القائمة في نطاق الرأسمالية الوليدة. لذلك، بالكاد تستحق هذه "الثورات" اسمها. فتسوياتها مع قوى الماضي، وغياب رؤياها للمستقبل، سمتان بالغتا الوضوح.
رغم فشلها، تضع الثورات الكبرى التاريخ على مدى أبعد. فمن خلال القيم الطليعية التي تحدد مشروعها، تسمح للطوباويات الخلاّقة بمتابعة غزوها للعقول، وتحقيق طموح الحداثة الأسمى، أي جعل الكائنات الإنسانية صنَّاع تاريخهم. وهذه القيم تتباين مع قيم النظام البرجوازي، النابعة من مسلكيّات التكيُّف السلبي مع مقتضيات توسع الرأسمال، المسمّاة موضوعية، التي تمدُّ الاستلاب الاقتصادي بكامل قوته.

2 ـ وزن الامبريالية، المرحلة الدائمة في التوسع العالمي للرأسمالية :
كان التوسع العالمي للرأسمالية استقطابياً دائماً، منذ أصوله، وفي كل مرحلة من تاريخه. لم تَلْقَ هذه الميزة في الرأسمالية القائمة بالفعل، على أهميتها، الاهتمام الضروري، وذلك بسبب النزعة المركزية الأوروبية التي تسيطر على الفكر الحديث، بما في ذلك الصياغات الأيديولوجية الطليعية الخاصة بالثورات الكبرى. ولم تنجُ الماركسية التاريخية للأمميات المتعاقبة إلاَّ جزئياً من هذه

القاعدة العامة.
إنَّ فهم البعد الهائل لهذا الواقع الإمبريالي، واستخلاص المسائل الإستراتيجية المتعلقة بتغيير العالم، تبعاً لهذا الفهم، يشكل ضرورة لا حياد عنها لكل القوى الاجتماعية والسياسية ضحايا توسع الرأسمالية، في مراكزها كما في أطرافها. لأن ما طرحته الإمبريالية على جدول أعمال اليوم ليس نضوج الشروط التي تسمح "بالثورات الاشتراكية" في مراكز النظام العالمي (أو تسريع التحولات الذاهبة في هذا الاتجاه)، بل التشكيك بهذا النظام انطلاقاً من تمرد أطرافه وانتفاضاتها. وليس صدفة أن تكون روسيا 1917 "الحلقة الضعيفة" في النظام، ولا أن تنتقل الثورة باسم الاشتراكية نحو الشرق لاحقاً (الصين، مثلاً)، في حين تخيب توقعات انهيار الغرب، الذي وضع لينين آماله فيه. من هنا، تواجه المجتمعات المثوَّرة المعنية مهمة مزدوجة ومتناقضة في آن، هي "اللحاق" (وهذا يقتضي اللجوء إلى وسائل ومناهج مماثلة لما في الرأسمالية)، و"صناعة شيء آخر" (بناء الاشتراكية). كانت المزاوجة بين هذه المهمات كما كانت عليه، هنا أو هناك. كان يمكن لها أن تكون أفضل، ربما، بمعنى أن تسمح بتقوية التطلعات الشيوعية بالتزامن مع إنجازات اللحاق. ولكن يبقى أن هذا التناقض الفعلي يقع في صلب تشكل الشروط الموضوعية للتطور التاريخي في المجتمعات ما بعد الثورية. كانت أشكال التنظيم والعمل السياسيين، التي ابتدعتها "الأحزاب الثورية" (شيوعيو الأممية الثالثة بالدرجة الأولى) أسيرة الفكرة القائلة بأن الثورة "قادمة حتماً"، وأن شروطها الموضوعية قد اجتمعت. ولا ينقص "الحزب" إلاَّ بناء التنظيم المكلف بمهمة "فعل الثورة". وكان هذا يفترض في تلك الظروف أن يتم التركيز على التجانس ("الوحدة الفولاذية"، فيما بعد)، وعلى النظام شبه العسكري. احتفظت الأحزاب المشار إليها بأشكال التنظيم هذه حتى بعد التخلي عن خيار الانقضاض الثوري المباشر منذ سنوات 1920. عندئذٍ وضعت في

خدمة هدف ذي أولوية مختلفة: حماية الدولة السوفياتية، من الداخل كما من الخارج.
في أطراف الرأسمالية المعولمة ـ "منطقة العواصف" في النظام الإمبريالي ـ ظل شكل آخر من الثورة على جدول الأعمال. إلاَّ أن هدفه ظلَّ ملتبساً ومشوشاً: هل هو تحرر وطني من الإمبريالية (والإبقاء على الكثير، بل على الأساس من العلاقات الاجتماعية الخاصة بالحداثة الرأسمالية)، أم أكثر من ذلك؟ وظلَّ التحدي نفسه:"اللحاق" و/ أو "صناعة شيء آخر"؟ أكان ذلك متعلقاً بالثورات الجذرية في الصين وفيتنام وكوبا، أو غير الجذرية في مناطق أخرى من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وكان هذا التحدي يتمفصل بدوره مع مهمة أخرى اعتبرت أولوية كذلك هي الدفاع عن الاتحاد السوفياتي المحاصر.

3 ـ الدفاع عن الدول ما بعد الثورية في صلب الخيارات الاستراتيجية الطليعية :
وجد الاتحاد السوفياتي، وبعده الصيني، نفسيهما في مواجهة استراتيجيات عزل منهجي من جانب الرأسمالية المسيطرة والقوى الغربية. هل يجدر بنا أن نذكر بأن الولايات المتحدة، على مدى ثلث عمرها القصير، بنت إستراتيجيتها، كقوة مهيمنة في النظام الرأسمالي، على هدف محدد هو تدمير هذين الخصمين، اشتراكيين كانا أم غير اشتراكيين؟ وهل نذكر بأن واشنطن تمكنت من أن تلحق بهذه الاستراتيجية حلفاءها في مراكز الثلاثية الأخرى وفي الأطراف، وأن تحل تدريجياً سلطة طبقات كومبرادورية محل السلطات النابعة من حركة التحرر الوطني ذات التوجه الشعبي؟

يفهم عندئذٍ لماذا أعطيت الأولوية عموماً لحماية الدول ما بعد الثورية، طالما أن الثورة لم تعد على جدول الأعمال المباشر. كل الاستراتيجيات السياسية التي وضعت ـ في الاتحاد السوفياتي أيام لينين وستالين وحلفائه، وفي الصين الماوية ثم بعد ماو والبلدان التي حكمتها أنظمة وطنية شعبوية، والطلائع الشيوعية (أكانت تحت راية موسكو، أو بكين، أو مستقلة) ـ كل هذه الاستراتيجيات تحددت بالقياس إلى المسألة المركزية : حماية الدول ما بعد الثورية.
لقد عرف الاتحاد السوفياتي والصين في آن معاً ترددات الثورات الكبرى

وتواجها بنتائج التوسع المتفاوت للرأسمالية العالمية. وضحّى كل منهما، تدريجياً، بأهدافه الشيوعية الأولى في سبيل مقتضيات اللحاق الاقتصادي المباشرة. لقد حضر هذا الانزلاق، في التخلي عن هدف الملكية الاجتماعية الذي يعرِّف شيوعية ماركس، وإبداله بالإدارة الدولتية المترافقة مع أفول الديمقراطية الشعبية التي خنقتها الديكتاتورية الفظّة والدموية أحياناً،تسارع التحول نحو عودة الرأسمالية. وهو تحول مشترك في التجربتين كليهما على اختلاف المسارات التي أدت إلى ذلك. في الحالتين كانت الأولوية "للدفاع" عن الدولة ما بعد الثورية، وترافقت الوسائل الداخلية المستخدمة لهذا الغرض مع استراتيجيات خارجية مناسبة لها. عندئذٍ دُعيت الأحزاب الشيوعية إلى الالتحاق بهذه الخيارات، لا في الاتجاه الاستراتيجي العام وحسب، بل في التكيفات التكتيكية اليومية. وما كان هذا لينتج إلاَّ شحوباً سريعاً في فكر الثوريين النقدي، الذين ابتعد خطابهم المجرد بشأن "الثورة المرتقبة" عن تحليل التناقضات الفعلية في المجتمع، واستمرت لديهم أشكال التنظيم شبه العسكرية رغم كل المتغيرات.
حتى الطلائع التي رفضت الالتحاق، وتجرأت أحياناً على النظر إلى واقع المجتمعات ما بعد الثورية، لم تتخلَّ عن المقولة اللينينية الأصلية (الثورة المرتقبة)، دونما اعتبار لكون الوقائع تكذب هذه المقولة بشكل أكثر وضوحاً من يوم إلى آخر. ذلك كان حال التروتسكية وأحزاب الأممية الرابعة، وحال عدد كبير من المنظمات الثورية التي تستلهم الماوية أو الغيفارية. والأمثلة على ذلك كثيرة، من الفلبين إلى الهند، ومن العالم العربي إلى أميركا اللاتينية.



4 ـ بناء وطني و/ أو بناء اشتراكي في الأطراف المجذّرة :

اصطدمت حركات التحرر الوطني الكبرى في آسيا وأفريقيا، التي دخلت في نزاع مفتوح مع النظام الإمبريالي، مثلما اصطدمت الثورات التي قامت باسم الاشتراكية، بمقتضيات "اللحاق" وتحويل العلاقات الاجتماعية في صالح الطبقات الشعبية. على المستوى الثاني هذا كانت الأنظمة ما بعد الثورية أقل جذرية من الأنظمة الشيوعية. ولهذا السبب أطلق على الأنظمة الأولى صفة "الوطنية ـ الشعبوية". مع ذلك استوحت هذه الأنظمة أشكالاً من التنظيم التي وضعتها تجارب "الاشتراكية القائمة فعلياً" (الحزب الأوحد ، لا ديمقراطية السلطة، إدارة دولتية للاقتصاد). إلاَّ أنها أذابت فاعلية هذه الأشكال بخياراتها الأيديولوجية المشوشة والتسويات التي ارتضتها مع الماضي. في هذه الشروط تحديداً دعيت هذه الأنظمة القائمة، مثلما دعيت الطلائع النقدية (الشيوعية التاريخية في البلدان المعنية) إلى دعم الاتحاد السوفياتي، والصين بنسبة أقل، والحصول على مساعدتهما. لا شك أن بناء هذه الجبهة المشتركة ضد العدوان الإمبريالي للولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين واليابانيين كان مفيداً لشعوب آسيا وأفريقيا. فقد أتاح هامشاً من الاستقلالية لمبادرات الطبقات الحاكمة من تلك البلدان ولعمل طبقاتها الشعبية، في آن معاً. البرهان على ذلك يقدمه الواقع الذي أصبحت عليه هذه البلدان بعد الانهيار السوفياتي.
وحتى قبل هذا الانهيار لم تحصل الطبقات القائدة ذات التوجه "الغربي" على أية فائدة تذكر (المثال الأبرز على ذلك يقدمه السادات الذي اعتبر أن الولايات المتحدة تمتلك 90% من أوراق الصراع العربي - الإسرائيلي، وأن الصداقة معها تسمح بقلب الأوضاع لمصلحة القضية العربية والفلسطينية). على العكس من ذلك شجع استسلام هذه الأنظمة توسيع الاستراتيجيات الهجومية لدى الإمبريالية (وعزز بالمناسبة محور واشنطن ـ تل أبيب).

أما ما كان يمكن أن يثير الجدل فهي الشروط التي فرضها الاتحاد السوفياتي على القوى السياسية الملتزمة جانب الطبقات الشعبية في البلدان الحليفة (وتحديداً الأحزاب الشيوعية). كان يمكن للمرء أن يتصور أن هذه الأحزاب ستحتفظ، في الجبهة المعادية للإمبريالية، باستقلالية كاملة في حركتها، كاعتراف بالازدواجية الإشكالية في المشاريع والمصالح الاجتماعية للشركاء

الملتزمين بهذه الجبهة. لأن الطبقات القائدة كانت مستمرة في مشروع ذي طبيعة رأسمالية، رغم كونه "وطنياً"، في حين أن تلبية مصالح الطبقات الشعبية كانت تفترض تجاوز هذا الأفق الذي كشف التاريخ حدوده الضيِّقة. على العكس من ذلك غذَّت خيارات الدولة السوفياتية الأوهام التي حملها المشروع الرأسمالي الوطني في ذاته، وأضعفت بالتالي تعبيرات الطبقات الشعبية المستقلّة. وكانت بدعة "الطريق اللاّرأسمالي" المزعوم تعبيراً عن هذا الخيار.

لا شك أنه في تلك المرحلة ـ مرحلة باندونغ (1955 ـ1975) كان من الصعب التمييز بين مصالح الأنظمة ومصالح شعوبها. فالسلطات هذه كانت قد انبثقت لتوها من حركات تحرير ضخمة هزمت الإمبريالية في أشكالها القديمة (الاستعمارية وشبه الاستعمارية)، وترافقت أحياناً مع ثورات حقيقية (الصين وفيتنام وكوبا). كانت هذه الأنظمة لا تزال "قريبة" من شعوبها وتتمتع بمشروعية راسخة.

قَبِلَ الشيوعيون العرب، في غالبيتهم، مقترحات القيادة السوفياتية: إذ تحوّلوا، في أحسن الأحوال، إلى "جناح يساري" للأنظمة الوطنية الشعبوية المعادية للإمبريالية. وقدموا بالتالي دعماً لا نقد فيه تقريباً، وعملياً بلا شروط. ولعلَّ أبرز الأمثلة على هذا حل الحزب الشيوعي المصري نفسه سنة 1965 على

أملٍ وهمي أن يُسمَح له بإعادة تنشيط الحزب الاشتراكي الناصري. وكذلك التحاق خالد بكداش في سوريا بمقولة أن ما هو قائم على جدول الأعمال لا يمكن أن يكون أكثر من بناء وطني، وإخفاء طبيعته الرأسمالية. لقد عبَّرت

عن رأيي في هذه المسألة المركزية في مكان آخر، وتحديداً في مناسبة نشر مذكرات عدد من مناضلي تلك المرحلة في مصر. وكانت خلاصتي أن الشيوعية العربية، بمجملها، لم تخرج من الإطار الأساسي للمشروع "القومي الشعبوي"، متجاهلة أنه يندرج في خيار راسمالي صرف في نهاية المطاف. لم يكن هذا الخيار ظرفياً، ولا "إنتهازياً"، بل كان من طبيعة بنيوية يعكس النواقص الأصلية لدى هذه الشيوعيات، وتشوُّش الإيديولوجيات التي تحملها، وأخيراً جهلها بالطبقات الشعبية التي كانت مدعوّة للدفاع عن مصالحها الاجتماعية المباشرة والبعيدة المدى. وكانت نتيجة هذا الاختيار البائس أن فَقَدَ الشيوعيون مصداقيتهم ما إن بلغت الأنظمة القومية الشعبوية حدودها التاريخية، ودخلت مشروعيتها في مرحلة التآكل. وبما أن اليسار الشيوعي لم يقترح بديلاً يتجاوز الشعبوية القومية، فقد نشأ فراغ على المسرح السياسي فتح الطريق أمام انتشار الإسلام السياسي.

لا شك أن بعض الشيوعيين العرب هنا وهناك رفضوا هذا الالتحاق اللامشروط بالدفاع عن سياسة الدولة السوفياتية. وأمثلة "القوميين" في اليمن الجنوبي، وبعض الكتل "الماوية" تقدِّم شواهد على ذلك. إلاَّ أنَّ هؤلاء أيضاً لم يخرجوا من فرضية اللينينية الأصلية القائلة "بأن الثورة أصبحت وشيكة". وكانوا في هذا يشاطرون الغيفاريين في أميركا اللاتينية والنكساليين في الهند الرؤيا نفسها. ويُثبت فشل الحركات الشجاعة التي استلهمت هؤلاء أن المقولة اللينينية تنبع من تبسيطية مأساوية، وأنها خاطئة في النهاية.

5 ـ فتح النقاش حول الانتقال الطويل إلى الاشتراكية العالمية :

بعد الاعتراف بخطأ لينين في تقديره للتحديات الواقعية ونضوج الشروط الثورية، علينا أن نذهب أبعد من النقد الذاتي لتاريخ الشيوعية في القرن العشرين، لكي نفتح نقاشاً مبدعاً ومكشوفاً في شأن الإستراتيجيات الإيجابية البديلة للقرن الواحد والعشرين.




لن أعود هنا إلى ما سبق أن اقترحته في مكان آخر، بل ألخِّص الجوهري في النقاط الآتية:

I. علينا ان نتلمَّس ستراتيجيات تجيب على تحدي خيار "الانتقال الطويل"من الرأسمالية العالمية إلى الاشتراكية العالمية.

II. ستتمازج خلال هذه المرحلة منظومات اجتماعية واقتصادية وسياسية ناتجة عن الصراعات الاجتماعية لعناصر إعادة إنتاج المجتمع الرأسمالي، وعناصر تُطلق وتطوِّر علاقات اجتماعية اشتراكية. منطقتان متنازعتان في مزيج وتناقض دائمين.

III. الإنجازات على هذا الطريق ممكنة وضرورية في كل مناطق النظام الرأسمالي العالمي، في مراكزه الإمبريالية كما في أطرافه التي حُوِّلت إلى كومبرادور. بالطبع يجب أن تكون الإستراتيجيات المرحلية لمثل هذه التحولات واقعية وخاصة بقوة الأشياء نفسها، وتحديداً فيما يتعلق بالتناقضات بين المراكز والأطراف.

IV. هناك قوى اجتماعية وأيديولوجية وسياسية تعبِّر من خلالها المصالح الشعبية عن نفسها، ولو في حالة من الغموض، بدأت تفعل في هذه الاتجاهات. إلاَّ أن هذه الحركات تقطر خيارات مختلفة، بعضها تقدمّي، وأخرى حاملة أوهام أو رجعية بوضوح (مثل الإجابات شبه الفاشية على التحديات). إنَّ تسييس السجالات بالمعنى الإيجابي والفعلي للكلمة يشكل شرطاً لبناء ما أسمّيه "التلاقي في التنوع" بين القوى التقدمية.

V. تشكِّل ضحايا التوسع الرأسمالي الليبرالي أكثرية في كل مناطق العالم. وعلى الاشتراكية أن تكون قادرة على تجنيد هذه الفرصة التاريخية الجديدة. وهي لا تستطيع ذلك إلاَّ إذا أخذت في الاعتبار التحولات الناتجة عن الثورات التكنولوجية التي غيَّرت في العمق هندسة البنى الاجتماعية. يجب ألاَّ تظل الشيوعية علم "الطبقة العاملة الصناعية" بالمعنى القديم للكلمة، فقط. لأنها

تستطيع أن تصبح راية المستقبل لأكثريات واسعة من العاملين، بصرف النظر عن تنوُّع مراتبهم. إنَّ إعادة بناء وحدة العاملين، مَن يتمتّع منهم بوضعية مستقرة في النظام، ومَن هم مستبعدون منه، تشكِّل اليوم تحدياً رئيسياً للفكر الإبداعي للتجديد الشيوعي. في الأطراف يقتضي هذا البناء أيضاً تنظيم حركات واسعة قادرة على فرض حق الحصول على الأرض لكل الفلاحين. وتزداد إلحاحية هذا التجديد عندما نعرف أننا انتهينا بنسيان واقع أن الفلاحين يشكّلون نصف سكان الأرض، وأن الرأسمالية في جميع أشكالها عاجزة عن حلّ المشكلة الزراعية.

VI. إن إستراتيجية عملٍ فعّال ضمن هذا الخيار المطلوب يجب أن تكون قادرة على إحداث اختراقات في اتجاهات ثلاثة: التقدُّم الاجتماعي، والديمقراطية، وبناء نظام عالمي متعدد المراكز. إن الديمقراطية السياسية المقترَحة كرفيق طريق لخيار الرأسمالية الليبرالية الاقتصادي هي على شفي إفقاد الديمقراطية كل مصداقيتها. وفي الاتجاه المعاكس، لم يعد مقبولاً فرض تقدُّم اجتماعي من فوق، بديلاً عن إبداع السلطة الديمقراطية للطبقات الشعبية لصيغ هذا التقدم وأشكال توسعه. لن تكون هناك اشتراكية من دون الديمقراطية، ولكن لا منجزات ديمقراطية من دون تقدُّم اجتماعي. أخيراً، ونظراً لواقع التنوع القومي (وتحديداً في الثقافات السياسية التي ترسم هذا التنوُّع)، واللامساواة الناتجة عن تاريخ توسع الرأسمالية العالمية، فإن فتح الآفاق التي تمكِّن من تحقيق اختراقات اجتماعية وديمقراطية يفرض بناء نظام عالمي متعدد المراكز. والشرط الأول لذلك، هو، بالطبع، إلحاق الهزيمة بمشروع واشنطن الرامي إلى السيطرة العسكرية على الكوكب.







*************************************************************************************************
(ارنست غيلنر والمجتمع المسلم)
(مدخل أولي)
• بقلم عباس التميمي
يعتبر(ارنست غيلنر) من ابرز الانثروبولوجيين الانجليز المعاصرين وهو بالاضافة الى اسهاماته المهمة في حقل الانثروبولوجيا الاجتماعية فان له اهتماما بشتى الوان الفكر الاجتماعي والرؤى النقدية وتجلى هذا الامر في كتابه(مابعد الحداثة والعقل والدين)(1) والذي قدم فيه تحليلات تمتاز بالكثير من الذكاء والموضوعية حول الصراع الثقافي والايدولوجي بين الشرق والغرب من جهة وبين اماط من الرؤى الكونية التي تحكم رؤيتنا للحقائق الكبرى في التاريخ اضافة الى نقده الى الخيار الديني والذي يحكم



رؤية (اهل الشرق) وكذلك نقده لتيارات(مابعد الحداثة) وماطرحته من مفاهيم نسبية الحقيقة والتاويل المستمر للذوات العارفة التي تضع الحقائق واشاعة مفهوم (الحقيقة التاويلية) وانكار (الحقيقة الموضوعية) ودفاع غيلنر عن العقلانية التنويرية المنفتحة وغيلنر متخصص في الاساس بقضايا المغرب العربي وشمال افريقيا وهذا واضح وجلي في ثنايا كتابه الذي نحاول اليوم ان نقدم (مدخلا اوليا) لقرائته وهو كتاب (مجتمع مسلم)(2) والذي قدم فيه (غيلنر)خلاصة فكره وتحليلاته بشان المجتمعات المسلمة محاولا ايجاد رؤية تعتمد التفسير الاجتماعي الديني اي التعامل مع البعد الديني في مقترباته الاجتماعية ومؤشراته السلوكية اليومية انه يتعامل مع الدين وقد نزل الى الاجتماع البشري وصار سلوكا وفعلا متحققا على صعيد التجربة اليومية للحياة ورابطا من روابط ديمومة الفكرة الدينية في الوانها الانسانية المختلفة وانه يبتعد بهذا الفهم عن (الدين النصوصي) اي الدين المجرد الذي يقبع هناك في تعالي النصوص والمتون الدينية المقدسة.
وكتابه(مجتمع مسلم) يستحق الوقوف عتده لمنهجه في التحليل ورؤيته الشمولية في النظر الى المجمعات الاسلامية. يقدم غيلنر كتابه بفصل تحت عنوان ( التدففق واعادة التدفق في ايمان الرجال) والذي يمتد من الصفحة(17) الى الصفحة(174) وهذا الفصل الاول الطويل يمثل الخريطة المنهجة والمهاد النظري لباقي فصول الكتاب( الاحدى عشر) فهو يطرح فيه جملة ادواته المنهجية في التحليل ومنطلقاته النظرية في محاولته التفسيرية لبنية المجتمع المسلم من خلال الانثروبولوجيا والملاحظ على منهجية غيلنر انها متعددة اي انه ياخذ من عدة منطلقات فلسفية واجتماعية ليجعل منها الة للتحليل ومسارا للرؤية والكشف وبسبب تعددية هذه المصادر ربما اخذ على منهجه عدة ماخذ ووصف على ذلك بانه (منهج تلفيقي) بسبب تعددية منطلقاته النظرية كما على ذلك في نقد الانثروبولوجوي طلال اسد.



اعتمد غيلنر في عمارته الانثروبولوجية على عدة اركان نمثل الاضاءات الكاشفة لتحليلاته ومن اهم هذه المنطلقات:-
1- ابن خلدون وكتابه المقدمة وبخاصة افكار ابن خلدون بخصوص العصبية القبائلية وارتباطها بتاسيس مفاهيم (الدولة) في الحضارة الاسلاميه( فالرياسة لاتكون الا بالغَلب والغَلَب انما يكون بالعصبية) والتي يرى فيها غيلنر محصلة افكار عالم الاجتماع المسلم ورؤيته للكيفية التي تقدم بها السلطة والمجتمعات عبر التاريخ العربي وتاكيد ابن خلدون على روح الجماعة والتماسك المتحقق عن طريق الروح القبلية وطبيعة البدواة المتوحشة والتي يصعب معها انقياد اهل القبائل للحكم والسلطة وهنا ياتي دور النبوة والدين والشريعة لكي تقوم بالدور المروض للذات العنفية البدوية.
2- نظرية ايفانز بريتشارد(الانقساميه) حول المجتمعات البدوية والتي يعني فيها ان السلطه في القبائل تكون موزعة ومتقسمة في القبيلة ولايمكن ان تكون السلطة في القبيلة مركزية موحدة وبالتالي وفي ظل هذه الوصف يصعب ايجاد (الدولة والحكومة) في مثل هذه المجتمعات الانقسامية وفي ظل المجتمعات ذات البنى الانقسامية القبلية تكون القوة هي السبيل الوحيد للذات وهي نتشرة في كل البيوت وفي جميع رؤساء البيوت.
3- هيوم الفيلسوف الانجليزي المعروف وكتابه الشهير حول الدين الطبيعي وقد اخذ غيلنر منه نظريته التي اطلق عليها اسم ( نظرية التارجح البندولي) بين( الشرك والوحدانية) والتبي يقصد فيها الايمان باله كامل مختف عنا يسبب لناالقلق الوجودي الدائم ولذلك سوف نذهب الى الشفعاء والاولياء والصالحين كوسطاء بين الاله الكامل

وبين البشر ونبجيلنا لهم بالالقاب والاوصاف والصلوات والادعية والزيارات ستةلد نوعا من الوثنية السابقة التي هجرها البشر وادعوا انهم تخلصوا منها بفعل التقدم العقلي وهكذا سوف يرجع البندول في حركته الى الوراء مرة اخرى صوب الشرك والوثنية والاصنام. ويحاول عيلنر ان يدمج نظرية (ابن خلدون ) السياسية مع نظرية (هيوم) حول التارجح الديني لكي توفر له البعد النظري المطلوب في عملية ايجاد التفسير العلمي الانثروبو لوجي للمجتمعات الاسلامية.
4- بالاضافة الى ذلك اعتمد غيلنر على (ماركس) و(دوركهايم) وماكس فيبر) مستخدما بعض افكار هؤلاء الفلاسفة كادوات منهجية فيؤعملية تفسير وتحليل الواقعة الاجتماعية ومهماقيل عن منهج غيلنر وكتابه(مجتمع مسلم) فانه كتاب يستحق القراءة والتامل. والفصول التي تعقب الفصل الاول الطويل تمثل تطبيقا عمليا على المقدمات المنهجية التي عرضها غيلنر في لفصل الاول من الكتاب وهذا هو ديدن الانثروبيولوجييين انهم يرغبون في دراسة (القرى والمدن) اكثر من دراسة (النصوص والمتون). على د تعبير غلنر نفسه.

الهوامش:-
1- مابعد الحداثة والعقل والدين/ ارنست غيلنر/ ترجمة معن الامام دار المدى/ط1/2001.
2- مجتمع مسلم/ ارنست غيلنر/ترجمة/ د. ابوبكر احمد باققدر مراجعة الدكتور رضوان السيد/ دار المدار الاسلامي ط1/ 2005.



#مجلة_الحرية (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإشكال العراقي
- مشروع مبادئ عمل وبرنامج حركة اليسار الديمقراطي العراقي-حيد-
- ((البات)) بين لعبة((المحيبس))ولعبة((الانتخابات))
- من ينصف ((ابو كلاش))
- رسائل الصحفي الطائر : الصح(في) والصح(حافي)
- فك الالتباس في تعيين عباس؟؟؟ الرسالة الثامنة من رسائل الصحفي ...
- الدولة – السلطة
- إلى من يهمه الأمر
- اموالنا المهجرة!!!
- رسائل الصحفي الطائر -بلاد بلا مقاييس
- احتجاج اشعب الطماع
- بطاقة شخصية-الحكاية الثانية عشرة لهلكان العريان
- حول آلية منح العضوية في نقابة الصحفيين العراقيين
- اليسار العراقي وانتخابات مجلس المحافظات القادمة
- انذار غير مسموع!!!!
- رسائل الصحفي الطائر!!
- من بركات العولمة-رمان مركب على عنبه هندية
- الإشكال اللبناني
- وصف حي لاحتفال((هلكان العريان))مع أبناء عمه بعيد العمال العا ...
- نحلم بحاكم نترحم على والديه!!!-بقلم حميد لفته


المزيد.....




- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا
- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...


المزيد.....

- السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي / كرم نعمة
- سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية / كرم نعمة
- مجلة سماء الأمير / أسماء محمد مصطفى
- إنتخابات الكنيست 25 / محمد السهلي
- المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع. / غادة محمود عبد الحميد
- داخل الكليبتوقراطية العراقية / يونس الخشاب
- تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية / حسني رفعت حسني
- فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل ... / عصام بن الشيخ
- ‏ / زياد بوزيان
- الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير / مريم الحسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - مجلة الحرية - العدد السادس من مجلة الحرية 2009