أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مهدي بندق - غرام الأسياد بين الكفيل والأجير















المزيد.....

غرام الأسياد بين الكفيل والأجير


مهدي بندق

الحوار المتمدن-العدد: 2555 - 2009 / 2 / 12 - 06:34
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



كان الأمير مضجعا ً ساعة القيلولة، حين تسللت إلي أذنه همسة من أحد عبيده الواقفين.. يا رب ألهم مولانا بشي من العطش. اعترت الدهشة الأمير فزأر : أنا عطشان . وإذا بالعبد الهامس يعدو إليه كالبرق بقارورة الماء. شرب الأمير ثم راح يراقب . بعد قليل عاد العبد إلي مكانه والارتياح يعلو وجهه .
ما الحكاية بالضبط يا هذا ؟! قال العبد: كنت أشعر بالظمأ يا مولاي، فتمنيت أن تطلب الماء لأسقيك أولا ً ، ثم أشرب أنا من بعدك .

ترى من صاغ نفسية العبد على هذا النحو التعس ؟ إنه نظام العبودية. ذلك النظام الذي عرفه البشر منذ ظهرت الإمبراطوريات القديمة، عبر الحروب ، ليتخذ المنتصرون من أسراهم المهزومين ومن أطفالهم عبيدا ً ومن نسائهم جواري . فما هو العبد ؟ ( لاحظ التعبير : ما ، التي هي أداة الاستفهام لغير العاقل ) إنه كائن موجود في ذاته ، وليس موجودا لذاته ، كائن يتم تشكيله باعتباره شيئا ً مملوكا للسيد ، يقتله أو يستحييه ، يستخدمه كأداة للإنتاج في المحاجر والمناجم والحقول، أو يدربه على المصارعة الدامية مع أقرانه لزوم الترفيه في الاحتفالات، بينما الجواري يستخدمن لإنتاج اللذة الجنسية ، أو للخدمات المنزلية من تنظيف وطبخ وتربية أطفال.

هكذا تنعقد العلاقة بين العبد ( ذكرا ً كان أم أنثى) وبين سيده داخل بنية Structure، للسيد فيها مطلق الحقوق ، وللعبد الواجبات المطلقة . وحتى ما يحصل عليه العبد من طعام وملبس ومأوى ليس مما يدخل في باب حقوقه ، إنما هي صدقات و تفضل ٌ من السيد إن شاء استمرت ، وإن رغب ألغيت . ومع الوقت تتأصل هذه المعاني داخل عقول ووجدانيات السادة والعبيد على السواء . فالسادة لا يشعرون بأدنى حرج من كونهم جبارين قساة ، وبالتوازي لا يشعر العبيد بأي غبن مما يلاقون ، بل وربما نهضوا لمقاومة وصد من يأتي لتحريرهم ، مساندة ً منهم لسادتهم .. هكذا فعل الآلاف من عبيد الجنوب الأمريكي بالضد على جيش الشماليين الذي جاء ليرفع عنهم نير العبودية !

ثقافة العبودية هذه ما كان لها أن تبقي أبد الدهر ، فالثقافة التي تناقض البيولوجيا لا مندوحة أمامها من الزوال والانقراض ، ذلك ما جرى تدريجيا ً عبر العصور التاريخية .. انتفض عبيد روما ثائرين بقيادة سبارتاكوس – الذي لم تكن ثقافة العبودية قد ترسخت بعد في قلبه وروحه - حيث ساهمت ثورة العبيد تلك ، مع عوامل أخرى ، في تآكل الإمبراطورية الرومانية ، فكان أن انقسمت أولا ً إلي قسمين ، ثم تحللت ثانيا ً إلي دويلات شبه مستقلة ، يحكم كلا منها " لورد " لا ينظر لسكانها نظرة روما القديمة لعبيدها " القانونيين " . العبودية الصريحة إذن ما لبثت حتى حل محلها في العصر الإقطاعي نظام " الأقنان " وفيه لا يكون الفلاح القن Helot عبدا ً للسيد " اللورد " ، بل يمسى فحسب مُلكا للإقطاعية ، غير مصرح له بمغادرتها وقت ّ يشاء ، وبهذا صار العبد نصف عبد ، وصار توزيع إنتاج الأرض مناصفة بين أقنانها وبين اللورد سيد الإقطاعية نظير حمايته لهم من غارات اللوردات الآخرين !

هذا الشكل الجديد من الاسترقاق ما كان له أيضا ً أن يستمر ، إلا بمقدار ما كان للنظام الإقطاعي ذاته أن يدوم . ولكن كيف يدوم نظام هو بطبيعته معوق لنمو القوى الإنتاجية ؟ كان البورجوازيون ( = سكان المدن ) قد بدءوا مسيرتهم مع التاريخ اعتبارا ً من القرن الخامس عشر ، بأمواج من الكشوف الجغرافية ، و البحوث العلمية ، والرؤى الفكرية ، واشراقات الفنون والآداب ، جنبا ً إلى جنب الاختراعات المتسارعة التي أدت إلى تشييد الورش الكبيرة ، فالمصانع المعتمدة على الطاقة البخارية حديثة الاكتشاف ...الخ في كلمة كانت الرأسمالية قد ولدت كنظام عالمي جديد ، نظام مدرك أنه لن يمضي قدما ً قبل أن يصفي النظام السابق عليه : الإقطاع .

كانت الرأسمالية في أمس الحاجة للأيدي العاملة ، بيد أن الأيدي هذه كانت " محجوزة " لدى الإقطاعيين
البلداء ، لابد إذا ً من " تحرير " عبيد الأرض أولئك المساكين ، هكذا صاح البورجوازيون الأوربيون وهم يطوون صفحات القرن الثامن عشر : Lesser passé, lesser fair
كان هذا هو شعار الثورة الفرنسية : دعه يمر ، دعه يعمل .

العبودية الصريحة إذا ً أطاح بها سقوط الإمبراطوريات القديمة ( الإغريقية فالرومانية فالعربية فالعثمانية)
والعبودية المقنـّعة في العصر الإقطاعي ، ألغاها البورجوازيون رسميا ً( على الأقل ) في العصر الرأسمالي ،
ليس من باب الأخوة والمرحمة ، وإنما فهما ً واستيعابا ً لدرس سبارتاكوس من ناحية ، ومن أخرى جراء صعود النقيض : البروليتاريا الثورية التي أشعلت الثورات في كل مكان من أوروبا . فكان ضروريا ً إبرام تسويةCompromise تاريخية ، ومن هنا يمكن فهم الكيفية التي بها تتالت المواثيق الدولية تحمي حقوق الإنسان ، تمنع استرقاقه بأية صورة من الصور ، وتؤكد على حقه الطبيعي في أن يحيا كائنا ً لذاته ، وليس مجرد شئ في ذاته ، مقرة له بحقه في العمل لدى من يشاء ، وبحقه في ترك العمل حين يشاء ، بل ومسلمة للأجراء بحقهم في الإضراب عن العمل لا بغرض تركه فعلا ً، بل لكي يجبروا أصحاب الأعمال على التفاوض معهم لرفع الأجور، وتحسين الشروط ، وتعديل العقود، بل والسماح لهم بالمشاركة في الإدارة من خلال النقابات . وقد توج هذا كله بالتسليم للعمال بحق إنشاء الأحزاب التي يمكن أن تحملهم إلى حكم البلاد من خلال انتخابات عامة حرة ونزيهة.

ليس مما يدهش إذا ً أن الرأسماليين أنفسهم قد باتوا مقتنعين بأن ما تكتسبه الطبقة العاملة من مساحات على دروب الحرية ، إنما هو أمر في صالح الجميع : رأسماليين وعمالا ً، حيث البديل ثورات " حمراء " تعصف بالنظام ذاته لصالح ... ماذا ؟ اشتراكية قد تفضي إلى شيوعية ؟ اضطرابات قد تؤدي إلي فوضى ؟ لا أحد يدري على وجه اليقين ، فلقد اختفى اليقين منذ أن صادقت العلوم الاجتماعية ، والفلسفة الحديثة ، ومن قبلهما الفيزياء على أن فكرة الحتمية ليست إلا أسطورة ، وفي هذا برهان كاف على أن الحرية ( نقيض الحتمية ) كامنة في صميم الوجود الطبيعي ، كما في العقل البشري ، لا يعكر على ِطلابها تبدل أشكال القيود فيزيقية كانت أم ميتافيزيقية .

أين كانت ثقافتنا العربية من كل هذه التطورات ؟ كانت نائمة في غائط طالما حسبته عسلا ً ! حتى جوبهت
بالعالم الرأسمالي المتقدم يزرع في أرضها بذرته الخبيثة المسماة إسرائيل، ينهش حصادها ويدمر مدنها ويفترس أبناءها ، ضمانا ً لإبقاء العرب ضعفاء متخلفين ، ليس لهم سيطرة على ثرواتهم الطبيعية ( تحديدا ً النفط Life Blood) ولا دور لهم في ترسيم أسواقهم الداخلية . ولقد كان حريـّا ً بهذه الثقافة العربية أن تقبل التحدي – على الأقل - في مواجهة إسرائيل ، بأن تتحول مثلها إلى النظام الديمقراطي ، لولا تجذر العلاقات الإنتاجية شبه العبودية وشبه الإقطاعية في العميق من تربتها . والأسوأ أن يرتد إلي تلك العلاقات المتخلفة عناصر كثيرة من بعض الشعوب التي قطعت أشواطا ً على طريق الحداثة ( الشعب المصري مثالا لا حصرا ً ) حتى لنراهم – من أجل المال الذي يفتقرون إليه في وطنهم – يقبلون العمل كأجراء في بلدان لا تقبلهم إلا بنظام " الكفيل " الذي يتسلم جواز سفر " الأجير " حال وصوله ! عندئذ يغدو الأجير شيئا ً لا يملك من أمر نفسه إلا ما يقرره له الكفيل، بما في ذلك حقه في ترك العمل والعودة إلى بلاده ! وفي حال كهذا يمكن للأطباء أن يجلدوا ، وللمهندسين أن ُيشتموا ، وللمدرسات أن يضربن بالعصا ما لم يغطين الرؤوس والأذرع . ومع الوقت يبدأ الأجير في التماهي مع الوكيل ( إنه على حق إذ يريد لي السلامة في الدنيا والآخرة ) ومع الوقت أيضا ً يقع الأجير في غرام الوكيل إلي درجة أنه يقلده حين ينتهي عقد عمله ويعود إلى أهله ، ومع الوقت ثالثاً
يكتسب الأهل أنفسهم نفسية " الكفيل " فيمارسون الاسترقاق على من هم دونهم: الأطفال. فهل نظل صامتين حتى نرى أطفالنا يواجهون مصيرا ً أشبه بمصير العبد الذي يبقى ظمآن في انتظار أن يطلب سيده الماء لكي يشرب هو من بعده ؟




#مهدي_بندق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النصر الحمساوي بلغة الخبراء العسكريين
- حرب غزة : ثقافة الإبادة الجماعية ضد ثقافة الإنتحار الجماعي
- إلى أين يذهب أهل غزة ؟
- رومولوس العربي يبيع غزة
- قصيدة : القادمون للهلاك
- إسرائيل تعلن الحرب الثقافية على اليونسكو
- الحوار المتمدن يصحح الممارسة اللغوية المعاصرة
- حوار مع الشاعر المفكر مهدي بندق - أجراه وائل السمري
- التفكيك ضرورة حياتية للعالم العربي
- قراءة يسارية في أزمة الرأسمالية العالمية
- سقوط امبراطورية اليانكي
- التعديلات الدستورية القادمة في مصر
- تفكيك الثقافة العربية بين المفكرين والمؤرخين الجدد 2
- تفكيك الثقافة العربية بين المفكرين والمؤرخين الجدد 1/2
- هيا بنا نتفلسف x هيا بنا نغيّر العالم
- ثقافة الإرهاب الفكريّ : الجذور والثمار
- كتاب البلطة والسنبلة - نقد النقد
- مستقبل مصر ليس وراءها في الصحراء ، بل أمامها صوب البحر
- كيف يعرقل المثقف التقليدى مسيرة الديمقراطية
- هل هو محتوم أن ينجح النموذج الأيرلندي ويخفق لبنان العربي؟


المزيد.....




- مصور بريطاني يوثق كيف -يغرق- سكان هذه الجزيرة بالظلام لأشهر ...
- لحظة تدمير فيضانات جارفة لجسر وسط الطقس المتقلب بالشرق الأوس ...
- عمرها آلاف السنين..فرنسية تستكشف أعجوبة جيولوجية في السعودية ...
- تسبب في تحركات برلمانية.. أول صورة للفستان المثير للجدل في م ...
- -المقاومة فكرة-.. نيويورك تايمز: آلاف المقاتلين من حماس لا ي ...
- بعد 200 يوم.. غزة تحصي عدد ضحايا الحرب الإسرائيلية
- وثائق: أحد مساعدي ترامب نصحه بإعادة المستندات قبل عام من تفت ...
- الخارجية الروسية تدعو الغرب إلى احترام مصالح الدول النامية
- خبير استراتيجي لـRT: إيران حققت مكاسب هائلة من ضرباتها على إ ...
- -حزب الله- يعلن استهداف مقر قيادة إسرائيلي بـ -الكاتيوشا-


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مهدي بندق - غرام الأسياد بين الكفيل والأجير