أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سامح المحاريق - سراديب السماء ..















المزيد.....



سراديب السماء ..


سامح المحاريق

الحوار المتمدن-العدد: 783 - 2004 / 3 / 24 - 06:47
المحور: الادب والفن
    


( يهوذا لم يفعل ذلك لأجل الفضة
بل لذهب الرسالة
يهوذا قوم طريق السماء ..
فالكلمة صاعدة إلى الملكوت فذروها هناك .. )

أسوأ من الحرب الأيام التي تسبقها ، أهرب من رتابة أزيز محركات الطائرة  إلى داخلي، سوء الأحوال الجوية جعلني أشك في قدرة هذا الكيان على الطيران والولوج إلى مملكة الرب ، حيث يتصاعد الخوف ويتدرج في تشكيلاته ليأخذنا قسرياً إلى جنائن الايمان ، والاطمئنان إلى عينين ترقبان هذا الكون بهدأة أوشكت أن تنقضي ...

اخترت جلستي بعيداً عن الزملاء زاهداً عن السفسطات المطولة ، وعروض التنظير المجانية الفجة على حافة الهلاك ، هلاك بعيد لناس بعيدة ، ، لا ينخدع أحد في عزلتي الحكيمة ، لست مترفعاً عن الخوض بنذالة في الوليمة القادمة ، ولكنني أركن إلى البطء الذي يليق بكهل متعب وحزين ، الحزن من صفات الأنبياء والشياطين ، وقد تعودت ألا أثق لا بحزني ولا بحزن الآخرين ، فاعذروني .. لا شي يمنعني من الرقص أحياناً على الجثة المسجاة أمامي بخيلاء وظفر ...

جلس صبري علوان وبرهان متجاورين في مفارقة ساخرة ، آه ألن تترك الظلمة الضياء ليتجلى ولو ثانية ، الظلمة  التي لابد وأنها ستخيم على الكون بعد آخر أيام الخلق تهبط على روحي لتلقيني في ذاكرتي نحو الخطوة الأولى ، اللحظة الخئون التي تفلت فيه القدم المتعبة من أعلى الهوة المرعبة،، أحدهما سيغادر الآخر ليلجأ لي ولن يغضب الآخر ...

كل شيء مضطرب في الطائرة ، المضيفات المرهقات تلاشين بعيداً عن أسئلتنا ، خمنت أن المشكلة في عمان وفي الثلوج التي تهطل حوالي هذا الوقت من كل شتاء ، كوفد شبه رسمي كان علينا أن نلحق بجدول أعمال متخم ، في الحرب  السابقة لم نذهب إلى هناك ،أعددنا أخبارنا وتقاريرنا من بوفيه الجريدة ، كانت الأحداث تتسارع بنمط قاتل ومريب ، الآراء المنقسمة والنقاشات الصاخبة ، أتذكر أول خلاف كبير بيني وبين برهان ، ذهبت بعده إلى إنشاء مجلة النور ، كان من المستحيل استمرارنا في الجريدة ذاتها ،كنا في معسكرين ضدين ،  الطاووس الذي يسكن عقله لم يفارقه حتى الآن ، مع الوقت أدركت أن لوثته بذاته هي ما قربتني منه كل هذه السنين ، لي أيضاً لوثاتي الشخصية ، الأوكسوتين يأخذني إلى الاتجاه المضاد ، أبتعد عن أفكاري ، شربت القليل من الماء  ، أشعر بتحسن بسيط ، أحس ذاكرتي مضطربة تماماً ، تلك الصندوق القذر المستهلك حتى آخره ..


تقيأت مرتين في الأسبوع الماضي وأشعر برغبة في القيء ... آلام المعدة صارت العامل الحاكم لمزاجي في الفترة الأخيرة ، التغيرات الحادة في الوزن ، نوبات العصبية الملازمة للآلام الشديدة في المعدة ، زاد الألم مع تصاعد أزيز الطائرة ، تذكرت مخاوفي من ركوب الطائرات ولكن شيئاً في داخلي يحدثني دائماً بأنني لن أموت ميتة مفاجئة ، سأعرف بموتي قبل وقوعه بوقت يمكنني من إخفاء الحقائق وإعادة ترتيبها بما يحفظ ماء الوجه لي ولآخرين ، بعد كل هذه السنوات أجد لدي ما أبيعه وأجد دائماً من يرغبون في الشراء ،

في السنوات الماضية كنت أبيع كلامي واليوم أبيع صمتي ، الصمت المجبول من الكفر  والذهب ..

    لم ألحظ الفتاة ذات الجسد المتسق ، التي تجالس مالك كنعان في المقعد الأخير من الطائرة ، نبهني لها برهان بإشارة واضحة صوبها، نظرت إليها كانت مبهورة بالشخصية التي تبادلها الحديث ، ابتسمت بخبث لمالك الذي تجاهل مخابثتي ، لا زاله بريقه يجتذب مريدين جدد أينما حل ، لم أنتبه لحيلة برهان أيضاً لوهلة أولى ، ولكنني وحين ذهبت إلى المرحاض الصغير لأقمع رغبتي في القيء وصافحت مالك عن قرب ، وصافحتها خيل لي أني أعرفها ، حين أعطيتهما ظهري أحسست بيد تشدني من معطفي ، التفت ، واجهتها ، كانت هي ، دهشتي كانت كل ما يمكنني أن أعطيه لتصرفها الغريب ، الفتاة كانت تقاربني طولاً ، ابتسمت ، مدت يدها ثانية ..

-  ألست شريف علم الدين مدير تحرير النور ..
- نعم ، أنا
- أنا ابنة الصاوي عمار..

للإنسان ذاكرتان بعيدة وقريبة ، وعلى زحمة ما في ذاكرتي الحاضرة ، وعلى كثرة ما ألقيته في ذاكرتي البعيدة من ناس وأماكن وأوقات لم أدفع بالصاوي عمار إلى تلك الهوة السحيقة ، ، كل هذه السنوات وهو حاضر في خاطري على الدوام ..

فكرت في أن أعانقها ولكنها كانت من ألقت بجسدها الذي أحسست وكأني أعرفه من زمن إلى صدري ، أحسست كل الطائرة تنظر ناحيتنا ، وقف مالك معنا محاولاً الفهم ،

دنيـا الصـاوي عمـار ، رأيتها للمرة الأولى وهي ابنة بضعة أشهر في المنزل الصغير الذي كان الصاوي وعبير يستأجرانه في الدقي ، قبل سفري إلى موسكو ،أهداني هو وعبير معطفاً ثقيلاً لازلت احتفظ به رغم قدمه ،و أعدت لي عبير يومها فطائر بالسكر ، أتذكر طعمها إلى الآن .. كنت أتحرج دائماً زيارته بعد زواجه من عبير، اعتقدت حين أقدم على هذه الخطوة ان علاقتنا ستتأثر بشدة ، لم يكن ذلك صحيحاً ولكنني كنت أتجنب زيارتهما إلا في حالات نادرة وضرورية ، كانت ليلة ممطرة و  الشتاء في بدايته أوصلني الصاوي إلى مصر الجديدة في تلك الليلة ، ، جلسنا نتنقاش في السيارة لأكثر من ساعة دون أن يقبل دعوتي اللحوحة له بالصعود ، رافضاً فكرة صعود ستة طوابق لشرب الشاي في شقة تسودها الفوضى كشقتي .. كان مزاجه رائقاً في تلك الليلة كما لم يكن من قبل ، تراجعت رغبته في فلسفة الأشياء ورأيته ميالاً لمعايشتها ببساطة وعفوية .. 

لم أتمكن من رؤيته في الأسبوع التالي ، الأسبوع الأخير قبل سفري و تحدثت مع عبير مكالمة مطولة ، كانت الأخيرة بيننا أذكر معظمها حرفياً ، تزداد كلماتها وضوحاً في ذاكرتي كلما بذلت جهداً أكبر لنسيانها

***********


- حدثني أبي عنك كثيراً .. كثيراً ، ولكنني أذكر عندما زرناك في الأسكندرية ، عندما كنت في المدرسة ، كنت صغيرة ولكنني أتذكر تلك الأيام جيداً ..


كانت تحدثني بحماس وهي واقفة ، طلبت منها الجلوس إلى جانبي ، كانت عيناي تبحثان عن برهان ، الزنديق يذوب تماماً حين أكون في حاجته ، كنت أريد أن أعرفها إليه ، كان هو والصاوي على خلاف جميل وطويل ، سيفرح الزنديق برؤية ابنة الصاوي الوحيدة ،
 
بدا جسده من بين كرسيين أخذتها من يدها وطرقت بيدي على رأسه ، ابتسم حين رأى الفتاة في يدي ، أحسسته شامتاً في مالك ، ولكنني تعجلت في تعريفه بها كي أقطع تكهناته الخبيثة ..

- دنيـا ابنة الصاوي عمار ..

   ملامح وجه برهان الثابتة نوعياً تغيرت بشكل مفاجئ ، لم ينفعل بهذه الدرجة منذ وقت ، خصوصاً عندما توقف عن التدخين المفرط محاولاً الحصول على أيام أكثر من أيام العمر المجهد ، الرجل يراوغ حتى الله ، يعتقد أنه سيفلت بأيام زائدة ، ستقتله تلك الأيام القادمة ، من عاداته ألا يقف لأحد ولكنه توقف  ليمسك يدها الصغيرة بحنو وثقة ..

 

 

 


 
( الرخ الذي أغلق الشمس عن عيوني ، يلقي بالجيف القديمة لتعكر صفحة روحي )

 


لغزالة في الروح :

كنت أعرف أنها ستأتي إليّ هنا في مكاني النائي ، حيث  أقرأ الغادين والرائحين ، شيطان في داخلي يوزعهم بين جنة ونار ، منتظراً نهاية رهانه الأزلي ...أوصد الله دوني سماءه الواسعة فبقيت مترصداً الصاعدين إلى قبتها الغامضة ، كنت في مكاني البعيد أتلذذ بمرارة الشاي في حلقي الجاف ، متصنعاً الاتزان والرهافة في الركن القصي ...

لثيابي المتنافرة الألوان وسجائري المعلقة بشفتي الغامقة ، الحذاء المتسخ الملقى أمام العيون كصرخة احتجاج ، بعض المقاطع الشعرية ، جرائد شعبية ، وأفكار عنكوبتية لا يدرك كنهها غيري ، كانت تتأتى إلي كمغفرة مؤقتة لتشاركني التذمر واللعنات ...

أتطلع من موقعي على حافة السماء إلى المهزلة الأرضية الدائرة هنا في كلية الحقوق ، كانت حالة اللا سلم واللا حرب ألقت أوزارها ، ولكن الحذر كان هناك طائراً أسوداً عظيماً يتبدى بقعة على الشمس الحانية ،

هناك ، مسكوناً بالحواري والأضرحة والمصاطب والتكايا ، والتواشيح وثقافة اللون والرائحة في شوارع الحسين ومصر العتيقة ، النهود المتنمرة خلف البراءة المستعارة في شارع سليمان باشا ، ساعات التسكع الطويل في ليالي الصيف ، الصرمحة الصباحية في المقاهي الرخيصة والمشبوهة هنا وهناك ،
مسكوناً بالهواجس وأصوات الليل ، بالطريق الزراعي إلى بحر الأسكندرية المضبب الرمادي في مارس ،،
مسكوناً بالروح المعلقة على أستار الجسد كقنديل يضيء بزيت رديء...

أميز خطوتها في صهيل الضوضاء الساعة الثانية والنصف تماماً ، أميز وجهها ، المسكينة تحتضن كباية الشاي الساخن بكلتا يديها المنمتين ، أحدثها وعيناي إلى الزر الضعيف على الاستدارة الفريدة الطازجة لأنوثة تعبر إلى التوحش ...

وأنا في مقعدي الخشبي البسيط ، أؤلف كوني الموازي ، مبتدئاً بأدق التفاصيل والخفايا ... مارقاً بعكس اتجاه التاريخ والنبؤات .. أتشهى وجهها الفذ آتياً من البعيد ،

 

تفاصيل أكثر اتقاداُ:

عبير سالم ، لم يسألني أحد عنها في أيامها ، كنت منحازاً لها ، مأخوذاً ، أشهد مواسم تحولاتها المذهلة ، أصفق لسقطاتها ، هفواتها ، أخطاؤها وخطاياها ، إغماضة العين والتثني ، التشبث المتصاعد حتى الذروة الموجعة كلعبة الموت المفاجيء ،
 
عبير سالم .. خريف 1971
حتى ذلك التاريخ كانت آثار الطفولة الهادئة ترحل تباعاً عن صفحة الوجه المستديرة الصافية ، من أين اكتسبت تلك الابتسامة الأنثوية المرواغة ، لدى أصدقائها الأولون إجابة لم أسع إليها ، ولا الصاوي عمار سعى إليها حين تزوجا بعدها بسنوات قليلة ، كنت أيامها في معزلي الاختياري في الأسكندرية ، أخبرني صديق مشترك ، استغربت لماذا لم يخبرني الصاوي بنيته ولا دعاني إلى الحفلة الصغيرة التي أقاماها ، اعتقدت أن علاقتنا ستدخل منحىً آخر أيامها ، ولكن الأيام أثبتت العكس تماماً ، بعد زواجها أخذ جسد عبير في الامتلاء في إطار اتساقه  المتزن ، ولكن وجهها أخذه الشحوب شيئاً فشيئاً ، صارت ميالة للاطراق الطويل ، والابتسامات التي بغير معنى ، كانت تنسحب إلى همومها اليومية أكثر فأكثر ، محاولة تسيير شئونها المنزلية براتب الصاوي المتواضع ، كان صبرها على هذا الوضع السيء نتيجة تقدير عميق لقرار الصاوي الجريء عندما ارتبط بها ، القرار الذي لم أجرؤ أنا شخصياً على اتخاذه ، ، لم يكن منفصماً مثلي ، أردتها كالجميع عشيقة ، محطة قطارات صامتة وهادئة ،

لم أكن شخصية عابرة في حياة عبير ، كانت تأتي إلى في صباحات شارع سليمان الباكرة ، حاملة خطتها لتغيير العالم ، كنا نسير كثيراً ونذهب إلى أماكن كثيرة ، بيننا لغة تواطئية مرهفة ، دخلت إلى غاشية الكمون بعد زواجها من الصاوي ولكنها لم تنطفئ أبداً ..

الصاوي اعتبر نفسه محظوظا بزواجه من عبير ، واعتبرته كذلك ، حتى من لسنوا على هذا الارتباط وانتقدوه كانوا يحسدون الصاوي من أعماقهم ، ، الأعماق المنفرة لجرذان الهوامش الصغيرة ،
 
كنا أنا وهي والصاوي نضطر  إلى تناول محاولاتها الفاشلة غالباً في إعداد عشاء شهي ، على الرغم من وعودها الدائمة بتجاوز أخطائها المحورية في المقادير ، ولكننا كنا نستمتع بالشاي الي يعده الصاوي على طريقته ..

أتذكر أراءها الأولي في الصاوي ، كانت دائماً ما تنتقد اسمه الغريب ، وتنفر من طريقته في تحليل الأمور كانت تعتقده مدعياً ، ولكنها تغيرت من ناحيته لدعمه الدائم لها نفسيا ومعنويا ، أنقذها دائمة من السقوط في فخاخ الكآبة والاحباط ، ولكن لا أعرف كيف غادرته بعد ذلك ، كيف أدارت له ظهرها ، تاركة إياه يواجه أسوأ أيام حياته وحيداً حتى سقط من اعيائه الأزلي في مستشفى القصر العيني في شتاء 1983
لا أعرف ما الذي حدث بينهما  قبلها ، لم أكن موجوداً بالقرب من الصاوي أنا أيضاً ، هجرته عبير إلى غير عودة في بداية الثمانينيات ، لا أعرف الظروف أو الأحداث التي سبقت خطوتها الغريبة وقتها ،وتجنبت أن أناقش الصاوي في ذلك في المرات القليلة التي لقيته فيها بعدها ،  لم تأخذ دنيا معها ولم تهتم بذلك بعد وفاة الصاوي ، تركت خلفها أسئلة كثيرة .. لا أحد يعنيه أن يصطدم بإجابتها ..

 

 

 

 

 

 

 

 

 


من أوراق ذلك الزمان

المدينة المطفئة مدينتي ، ستجدونني تائها دوما أعيش تحولاتي العارمة ، أرتدي قلقي الشتائي وأمضي في الطرقات المظلمة ، أعلق عيني بالأضواء البعيدة ، يستفزني الخفوت فأعرف ما بنفسي من شبق للدفء ، هل يصدمكم تشردي

ليس تشرداً إنه الشرود ، لا أشرد في شيء أو كنه أو معنى ، أشرد بذاتي .. وأنا الشارد منذ بدء الخليقة ، ألم يكن كل شيء في اللوح العظيم في السماء ، أتقرؤون هناك شرودي ؟؟

أتدهشكم مني وقاحة اللفظ وفجاجة الإشارة ، أنا العاري هناك .. تشهدون مني أعاجيبي ، كنت الأراجوز في شوارع الفقراء وكنت صديق المساكين و حليفهم ولكنهم باعوني بحفنة قمح وشعير ، ليصنعوا خبزهم اليومي ، وألقوني في غيبة الجب بدراهم معدودات ، بالفضة بعتم ذهب الرسالة قبلي .. ومع ذلك فإن قلبي الكبير سيغفر لكم أخطاءكم وهناتكم في حق الرجل الدهري ( والرجل الدهري لقب أعزه من صديق علقتموه على المشنقة لأنه صاح بكم في ليل الهزيمة ،،  قبلها بليال المغول على الأبواب أسمع ضجيج حوافر الخيل وهمهماتها .. فاحذروا .. احذروا )

أنا رجل الدهر و موجز اللعنات .. لا أنتمي إلى زمان أو هوية ، ولكنني ساخط وحزين ،
هل تعرفون ماذا يفعل الحزن في الرجال ؟؟
سأنبئكم بهذا ..
إنه يأتي خفيفاً كسريان الخدر ثم يستلق الشرايين ليمتصها كأفعى تحطم العمود الفقري لفريستها المستكينة ،، ثم يروح ثم يأتي ويروح ويأتي ليظل طعمه اللزج المرير في طرف العمر .. إنه لا يمنحكم لذة الاعتياد عليه ولا التعايش معه ..


الحقائق المتأخرة :

تحدث إلينا الطيار بأن الطائرة ستحتاج بعض الوقت لتغادر وطمأننا ، كانت دنيا قد استقرت لجانبي مستمعة معي لكلام برهان عن والدها ، كانت تعرف كل ما قاله برهان ولكنها كانت على حافة البكاء ، لاعاطفية برهان وصدقه الحيادي جعلتها تتأثر بشدة ، لمحت له بالتوقف عن كلامه لأجلها ففهمني ، عشرون عاما من العمل المشترك جعلته يفهمني ، كانت تنظر إلى السقف محاولة السيطرة على انفعالاتها ، برغم اختلافها عن عبير شكلياً إلا أن لها نفس العيون العميقة الجميلة حتى وهي مغمضة ،،

- هل تعتقد أن الحرب ستقوم قريباً

ألقت بهذا السؤال لتبتعد عن الحديث عن أبيها ، أو لتكسر الصمت الذي خلفه برهان لنا ، اعترفت لنفسي بأنها أجمل من عبير وهي تنظر ناحيتي منتظرة إجابتي ،
- ستقوم الحرب في أي وقت .. الأمور وصلت لنقطة اللاعودة ,, كل هذه الأساطيل التي تحركت لن تعود دون حرب ، لقد تعدت مرحلة التخويف ..

- لماذا انتظروا كل هذه السنوات ؟ أعني لماذا لم ينهوها في المرة الأولى ؟
- الظروف كانت مختلفة ، قد نضطر لمناقشة برهان في هذا ..
- لا لا .. قرأت له أراءه في الجريدة في الأسابيع الماضية ، ولكنها المرة الأولي التي أراه شخصياً إنه انسان صعب ..
- احتجت سنوات طويلة لأفهمه، معك حق في ذلك ..

أرى نفسي على السواد المضطرب القلق لعينيها المستديرة تقريباً ، لها بشكل عام وجه أيقوني كقديسات العصور الوسيطة ، لا شئ فيها ينتمي إلى الصاوي .. ولا لعبير أيضاً ، كأنها حالة مستقلة ، نبوءة قديمة أتت في أوانها ، أقلقتني أفكاري السريعة الوامضة في سراديبي ، كان يمكن لهذه الجالسة بجواري أن تكوني ابنتي ..

- أين هي أمك الآن ؟
هرب مني السؤال ليفتح الباب لكل احتمال

* توقعت أن تسألني هذا السؤال ..

لم أعرف بماذا أجيبها .. كانت تكتم ابتسامة ما في داخلها ، ولكنها أمسكتها أحست أنها  ألقت بالحجر الذي عكر صفو البحيرة الهادئة .. كنت أتوقع إجابة عادية ..
* آسفة ..
أطلقت ضحكة متعمدة ، مفتعلة لأخرجها من مأزقها ..
* يبدو أنكما صديقتان ..
* لسنا كذلك .. ولا أعتقد بوجود فرصة لنكون كذلك .. ولكن أحياناً كثيرة نتحدث ، كنت ستتزوجها قبل أبي ، أليس كذلك ؟؟
• *أنا ؟ كان مجرد مشروع ولم يكتب له النجاح للأسف ..
* أعتقد أنه لحسن حظك ..
 
أدهشتني إجابتها ، هربت إلى خارج الموضوع .. زهدت في معرف أخبار عبير كيلا أنزلق إلى حوار يستثير فوضاي الداخلية ، تحدثنا عن الحرب القادمة ، حدثتني عن أنشطتها اليومية ، طموحاتها ، أفكارها ، للمرة الأولى أشعر أنني على حافة التاريخ ، خارجه تقريباً ، مملوءاً بأدران زمن مضى ولن يعود ، بأوجاع الروح وأوساخ الجسد ..

**************

في شوارع الرعب والرغبة ، ذاهبا للمدينة التي يتركها الجميع ، وحدي ، مفرداً وفريداً .. وحدي أذرع الشوارع ، أتقي البرد بالتخبئ بين البنايات العالية التي تكسر حدة الرياح العاصفة .. تخيفني الانفجارات في أطراف المدينة ، باحثاً عن دفء متاح ، أشعل سيجارتي بين يدي حتى لا تخطفني رصاصة قناص لا هوية له ..
هربت من هناك إلى هناك .. لا أشعر إلا بالخوف .. الخوف من الخوف ذاته ، انفصام العرى بين الروح والجسد .. الاحتقار المريب للوجود الضبابي المراوغ ... ليست الحرب ما أخافه ، ليس الموت المباغت الذي لن يأتيني .. أخاف لحظات الاختناق بالحب الذي تخلقه الحرب فيعربش على القلب ، ليسقط في ضعفه الممسوخ ...

 

إنها الحرب ..
يتحدث صبري  عن تصوراته للحرب ، عن الأيام القادمة ،،
 
* ليس في طاقتهم أن يخوضوا مستنقع حرب الشوارع ، ولا رغبة لديهم في ذلك ،، لم يحققوا شيئاً من مغامراتهم السابقة ، ولكنني أشك في رغبة العراقيين في المقاومة .. معنويات منخفضة ، وقيادة يبدو أنها مشوشة حقاً

كلماته أشعلت جدلاً سرقني من الضغط النفسي الذي أوقعته دنيا عليّ  ، بين مؤيد ومعارض وجدتني أجتر ذكرياتي عن الحروب التي عايشتها ،
كنت طالباً في المدرسة الثانوية أيام النكسة.. أحسست بالذل وأنا أسمع الخطابات التراجعية في الإذاعة ، الرمال تبتلع الجيش في سيناء ، وتطوحنا للبيانات المتضاربة إلى لا شيء سوى المزيد من التيه 

مع الجموع التي خرجت إلى الشوارع خرجت ،مع  الأجساد منصهرة في قيظ الصيف الساخن ، جلست على أسفلت الشارع .. ترن في رأسي كلمات خطاب التنحي  الفخمة الحزينة .. لم أبكي ولم أنتحب ، ولم أصرخ حنحارب مع الصارخين ، كانت براءتي تغادرني بغير رجعة ،
 لم أبك على النعش المتهادي في كبرياء في شوارع القاهرة الحزينة ، لم أهلل للعابرين إلى الضفة الأخرى للقنال في اكتوبر ، لم أصفق للبواخر التي حملت الفدائيين الفلسطينيين من بيروت ، وفي الحرب الأخيرة كان يعنيني توزيع الجريدة أكثر من الحرب نفسها ..
 واليوم أجد نفسي أتشهى طفلة كان يمكن أن تكون مني ، أجد نفسي وغداً حقيقياً حين سرقت النظر إلى استدارتها الناضجة أثناء انفعالها في مجادلة صبري .. ذهبت إلى المرحاض وتقيأت ، شعرت بضعف شديد ، ألقيت بجسدي على كرسي فارغ في آخر الطائرة ، أتذكر الصاوي عمار .. الرجل الذي أكل نفسه .. الذي صعد بخيلاء ليضع رأسه المقصلة ، أحد ما كان سيأتي ليهبط بالنصل الهائل على رقبته النحيلة .. هو من جعل نفسه خارج حسابات الجميع ، هو من قتل نفسه بنفسه ، من حملها فوق طاقتها ، لم يغادرنا ولكننا غادرناه ، ومع ذلك رسمناه بطلاً وقديساً ، سحقاً لأرتال الأغبياء المتباكين ، سحقاً لك يا صاوي يا عمار ،

لم تتركني في هدأتي جاءت ، جلست إلى جواري ثانية ،
* هربت مني ، يبدو أنك اعتدت الهرب دائماً ..
* الهرب يكون فضيلة أحيانا ، لا زال أمامك الكثير لتتعلميه ، لا يكفي أن تكوني ابنة الصاوي عمار لتكوني فيلسوفة ،
* ولكن يكفي أن أكون ابنة عبير سالم لأكون مجنونة ،
• *أين هي الآن ؟
* يهمك أن تعرف ، سأريحك ، إنها في القاهرة منذ القاهرة منذ بضع سنوات  ، حاولت الانتحار مرتين ، وتتعاطى نصف دزينة من الحبوب لكي تستطيع النوم بهدوء ، وتنفق ببذخ ، تمتلك مالاً كافياً لتنشر مذكراتها ، ألا تعتقد أن هذا سيضرك ..

ضحكت بعنف لأعلو هبوطي النفسي ، ،

* هل تعتقدين أن أحداً سيكترث بقراءة مذكراتها .. عبير كانت مجرد فتاة في إطار حركة كبيرة ، كان دورها عادياً ، توزيع المنشورات لا يختلف أحياناً عن بيع الجرائد على الإشارات ..

* معك حق إذا كانت ستنشرها بصفتها عبير سالم ، ولكنها ستفعل ذلك بصفتها زوجة الصاوي عمار ، عليك أن تنظر إلى أمي بجدية يا أستاذ شريف ، لا تنظر لها على أنها عاهرة المعبد ، لست سادن الأسرار المقدسة الوحيدة ..

* لا أدعي ذلك ،
• *تستغرب دفاعي عنها .. صح؟
 
  لم أرد على سؤالها، ولكنني شعرت أنها تعرف الكثير  ، ليست الطفلة التي كنت أشتري لها العصير من سان استيفانو ، إنها الآن امرأة في أوسط العشرينيات من عمرها ، شرسة ، عاودتني أفكاري الملوثة تجاهها ، ولكن كلمات الطيار المقتضبة لنا بربط أحزمة الأمان ، أوقفتني .. أخرجتني من أزمتي العابرة ..

لم يكن إقلاعا سهلاً ، انخلعت الطائرة من الأرض بعنف ، شعرت بحنان تجاه الطيار الذي ينازل الأجواء العاصفة تقريباً حولنا ، ولكن وجدتني أفكر في الموت بإيجابية خصوصاً إذا كان بجوار إمرأة رائعة كهذه التي تتنفس بدفء بجانبي ، تلك التي أتت في أوانها كنبؤة آن لها أن تتحقق ، لم تأت كي تحاكمني لو أرادت ذلك لكانت أتتني من قبل ، وحتى لو أنها تريد فأنا ذا مستعد ، لم يعد لدي شيء أخافه .. أو أعطيه ، بعد استقرار الطائرة في السماء نظرت ناحيتي ، معلقين بين السماء والأرض ،  هنا في الملكوت ، وحيدان برغم الجلبة ، نظرت ناحيتي فأيقنت أنني لا أخشى وجهي الآخر لأول مرة في حياتي .. كانت تنوي الكلام ولكنها لم تنطق ، حدقت فيّ ، كانت تريدني أن أبدأ .. كنت أبحث عن أول كلمة حين أتى برهان إلينا .. قدم إلينا شكولاته فاخرة سعدت بها كأنها هي الراكضة هناك في ذاكرتي على شاطئ سان استيفانو  ، تركنا للصمت ومضى ..

 

 

 

 

أوراق منسية

  كان يجب أن يخرج من اللعبة  ، كان صادق مشهور اتخذ موقفاً عدوانياً من الصاوي ، مقالاته العنيفة أيام  الاجتياح في لبنان وهجومه على الجميع ، جعلاه وحيداً ، هاجم التاريخ والجغرافيا ، الأفكار.. الأديان.. الفلسفات ، أخبرني صادق بالاستعداد لمهمة جديدة عقب عودتي من بيروت التي ذهبت إليها لتغطية خروج قوات منظمة التحرير من بيروت ، لم أسأله عن طبيعة المهمة لعلمي بأني لن أحصل منه على أي إجابة ، ولكن برهان أخبرني أن الصاوي سيخرج من الجريدة وأنني المرشح لاستلام مكانه ، كعادتي في المواقف الحرجة والأخلاقية هربت بعيداً ذهبت إلى الأسكندرية ، تعمدت ألا ألتقي بالصاوي أو أتصل به ، كان إجازة مفتوحة قد طلبتها من صادق ، قبل بها على مضض .. ، لم ينقض منها بضعة أيام  حين أبلغني برهان بإقصاء الصاوي ، في أقل من نصف ساعة كنت في القطار المتجه للقاهرة ، كنت أفكر في الخطوة القادمة ، لا أعرف كيف ستمضي علاقتي بالصاوي بعد اليوم ، ولكن وعندما وصلت إلى الجريدة وجدته بانتظاري ليسلمني مكتبه ويهنأني  على منصبي الجديد ، لم أكن لقيته من أشهر طويلة ، كان متعباً ونحيلاً أكثر مما عهدته ، أخبرني أنه كان سيرشحني لهذا المكان لو أنهم سألوه ، حاولت أن أوضح له موقفي ، أخبرته أنني سأعتذر ،

* ذلك لن يقدم ولن يؤخر يا شريف .. ليست المشكلة فيك المشكلة في وجودي ، صادق محرج جداً من بعض الدوائر ، ومن بعض الناس ، أتعبته كثيراً للرجل ، ويجب أن أمضي الآن ..

زرته مرة واحدة بعد ذلك ، وزارني مع دنيا في أواخر ذلك الصيف ،، حتى عرفت بوفاته في شهر فبراير في القصر العيني ،  

سأكون كاذباً لو قلت أنني لم اتوقع موته حين غادر الجريدة ، كنت أرى الموت في عينيه ثقيلاً وكابياُ ، كنت أراه خارج زماننا المعاش وخارج منطق الحياة ، لو أن الحياة تدار بالعدل ، لو أنه يسوس حركتها الدؤوبة منذ وطئت قدم أبينا آدم هذه البسيطة ، لكان الآن هنا معنا ، ذاهباً إلى هناك بين يدي الموت الذي خطفه مبكراً ....
 
كيف تأتي الدهشة المباغتة ومن أين ؟؟

واجهتني بكل أنوثتها ، فأعادت شياطيني القديمة إلى أول الذاكرة .. شعرت بمدى خطورة اقترابها الفجائي من أذني .. يديها المتشبثة بمسند المقعد الذي يتوسطنا كانت تتعرق ، أتابع هذه اليد التي تمسك بعقلي كمخلب هرة فارسية أتت من بلاط أرستقراطي لتنهش هدوئي وسكينتي ...

هي الأنثى .. والآن وبين السماء والأرض .. في قلب الموت .. في تلافيفه وفجواته .. تأتي شاهقة كقمة جليدية بعيدة .. قريبة بما يكفي لاحراقي ..

* أبي ليس ملاكاً كما تتصوره يا شريف .. ليس كذلك أبداً .. في أيامه الأخيرة مع أمي كانت تهويماته وأوهامه ولوثاته تحكم المنزل ، المسكينة ،، حملتني وأنا طفلة إلى الطبيب في ليلة شتائية قاسية .. لم يكن لديها ولو جنيه واحد ركضت في المطر إلى إحدى صديقتها ، ساعة أو أكثر لتقترض منها أجرة الطبيب وثمن الدواء ، هل تعرف ماذا كان يفعل أبي وقتها ، كان يغلق الباب على نفسه في نوبة كآبة غير عابئ بتوسلاتها ...
 أنتم لا تعرفون ذلك ، ولكن عبير سالم التي واجهت عنجهيته وغروره وتلسطه عليها هي من تعرفه .. عبير التي خسرت كثيراً بكلامها وخسرت أكثر من صمتها ..

 هل تعرف من اسعد أمي على الانعتاق من أبي .. إنه عمي .. أنت تعرف الرجل هو من ساعدها وأجبر أبي على تطليقها ..

كنت أود أن أمنعها عن الاسترسال في حديثها ، كانت تأخذ كلماتها من بئر سحيق ملئ بالحسرات والمواجع في روحها .. كانت ترتعش .. ولكنها مضت ..

* تزوجت من أحد أقاربها ، كانت زوجته الثانية ، للحق الرجل ساعدها كثيراً ولكنها بقيت بعيدة عني لفترة طويلة .. ، لم تتدخل في قراراتي أبداً ولكنها دعمتني كثيراً ، مادياً على الأقل ، أبي ليس قديساً يا شريف .. وليست أمي كذلك ، ولكنكم أنتم من كنتم حوراييه وتلاميذه ، وحتى أنتم تركتوه يموت وحيداً ومفلساً وحزيناً ، كلكم شركاء في قتله .. أنت وصادق وبرهان والجيزاوي وأسماء حكتها لي أمي .. أمي لا تكرهه ، ولا تكرههم .. ربما لم تكره شخصاً في حياتها مقدار ما كرهتك .. نعم كرهته . ، لا تستغرب .. هناك انتهازيون أكثر منك منافقون في كل مكان وكل نقطة على هذه الأرض ، وجبناء وأنذال ، ولكن كل هؤلاء لم يؤذوها . . أنت وحدك من تركتها ، من أدرت لها ظهرك .. من زففتها إلى جنون أبي ونزقه .. أنت الوحيد الذي خنتها ..

صدمتني كلماتها ، ذلك الحوار الأحادي الطويل ، كنت أنظر إلى الغيوم الكثيفة ، وكانت تنتظر كلماتي ، أمسكت بيدي ، وتوسدت ذراعي في تصرف لم يلفت انتباه أحد على غرابته ، كانت حالة الجوء السيئة قد أخذت كل واحد إلى عالمه .. هدأت الجلبة .. إنسحبت الأصوات كانت الطائرة ترتج بعنف ، ولكنني كنت أنا وهي وحيدان في عالم آخر وبعيد ، في فردوس استباقي ، أنضر وأجمل من ذلك المتواري في أقاصي الملكوت البعيدة ، كانت تتمرغ في جسدي ، فما عدت أميز الأنثى من الطفلة القديمة الراكضة في دمي ..

غنائية الصاوي عمار الأخيرة :

جميعكم بلا استثناء لكم أذنابكم المراوغة ، لم تنقذكم منها حضارة أو دين أو تمدن ، وأنا أراها وحدي فأحذروني .. إحذروني .. كلكم من الخطيئة والدنس جئتم .. كلكم أكلتم من الثمرة المحرمة .. كلكم مذنبون ومدانون ومشوهون ومسوخ .. عالمكم الذاهب في دماره لن يكون جنتي الموعودة .. ولن أقف في الطوابير الطويلة لآخذ كتابي بيمني أو شمالي ، أنا الملتاث الذي شرب من الترياق المقدس وأزدرد نبتة الخلود ، موتي ليس نهايتي ولكنه دليل الاتهام لعصركم الجبان ..

ألم أك من صاح في ليل الهزيمة ، فسخرتم من تأوهاته المقدسة ، ألم أك من سمع حمحمة الخيل الآتية من بعيد ، ألم أر الغربان المحملة بالموت ، تشق السماء إلى القرى الوادعة على ضفة النيل الغريب في أرضه ، ألم لكم النبوءة ، ألم أك لكم النبي والولي والشاهد والشهيد ...

لماذا أنكرتموني ثلاثاً ، وأربعاًُ ، وخمساً ، ولكما بزغ فجر أو غشي ليل أنكرتموني ،

سأكون هناك في طرف الملكوت جالساً وحدي ، أراكم في الطوابير الطويلة ، وأهتقف طوبي للقلب الذي لم يهادن ، طوبى لمن لم يأكل من ثمرة الخطيئة الأصيلة ..

سأكون هناك فأحذروني فأنا أعرف أذيالكم ذيلاً ذيلاُ ، وأراها تفلت من تحت الثياب المبهرجة لتفضحكم ، وأسخر منكم أنا المعلق على الثريات والمندس تحت السجاجيد الفاخرة في قصوركم البعيدة ، أنا المختبئ في كل مكان معكم أشهد عريكم المقزز ، فأمعن في هذياني الأزلي وأضحك ملئ فمي ، سأسخر منكم في ذلك اليوم الذي كتب علي وعليكم .. سأسخر منكم لأني لم أجد من يؤدبني بآداب عصركم الوقح ..

طوبي للقلب الذي لم يمسه الدنس .. طوبي للقلب الذي لم يمسه الدنس..

متتابعات

خيك الهدوء على الطائرة ، ربما الخطر المحدق بهذه الرحلة خلق جو السكينة المترقبة ، أنظر إلى الأضواء الكثيفة لساحل البحر الأحمر السياحي ، للمرة الأولى لا أرى أن الموت مرعباً كما كنت أراه في السنين الماضية ، عاودت يدها الصغيرة التعلق بأصابعي التي نظرت إليها من بين أصابع دنيا كأنني أراها لأول مرة هي الأخرى ، يسمونه الماضي وأسميه الزمن المحترق ، خرجت منه أعضائي ، ولا زالت روحي عالقة بأوساخها هناك، كنت أتجاهل فيه المئات من الأحداث التي كنت أعتبرها عارضةً وهامشية ، مع علمي أن تتابعها خلق الخطايا الكبيرة ، التي تخنقني الآن على حافة القيامة ، أتطلع إلى أصابعي التي جدلت لي حبائل التجربة ، ومهدت لي طريق الغواية الحريري ، فأدركت كم كنت أصغر من التجربة ، وعرفت كيف دخلتها طائعاً مطواعاً ، 

هذه اليد   كانت تعايش بهجتها الأخيرة ، أتذكر عبير في هذه اللحظة ، أكثر من أي شيء آخر ، حين صعدنا سلم الغواية سوية إلى الشقة المستعارة في المنيل ، جسدها المنمنم التلقائي في انفعاله ، الموشى بالشامات والزغب الأشقر ، أتذكر الكلمات الكبيرة .. ولكنني أمضي بعيداُ في الصندوق المعتم ، البحر المضطرب في الإسكندرية الشتائية ، نوات فبراير التي تخرج من شرنقتها الترابية بالمطر الفجائي ، النوات الصاخبة والعنيفة والمغرية بالغضب وبالشهوة وبممارسة أكثر العادات انحطاطا وسادية، كانت نوات عبير ضارية ، لا تعرف المهادنة .. كانت تأخذني إلى العالم الموازي .. عالم لا يعرف اللاءات الكبيرة ،
ولكنني وهناك قررت أن أخرج منها ، أن أغادرها ، لم أكن أول الزائرين لهذا العالم ، ولم أكن أطمح إلا بتذوقه ، لم أفكر يوماً في امتلاكه ، الصاوي ظن أنه امتلكه بورقة بالية من مأذون شرعي وبعض الزغاريد المختنقة ، صعدت إلى التجربة بساقي ، وعجنت الخطيئة بأصابعي ، وحين انتهينا كان بداخلي شيء ينتهي ، ،

   حكمت علاقتي بعبير معادلة جديدة بعد الرحلة الأولى .. انسحب الكلام فيها إلى الوراء ,, الصمت والترقب أكلا من جسدها المنمنم ، لم أتركها ، دفعتها لتركي للخلاص من عالمي ، وكان الصاوي هناك على طريق خلاصها ,, ولكنها انزلقت منه أفلتت لتمضي في الطريق القدري المراوغ ..

والآن هنا ، لم يعد في ما يراوغني به الزمان ، غادرني توقي ونهمي ومطامعي ، لأسكن في الزمن الحاضر ببهائه يداً متعرقة بين أصابعي ، وخوفاً من حالة اللاخوف التي أحياها ،،

انتبهت للتفاصيل الخارجية لدنيا ، الشعر القصير المصبوغ باللون الأحمر الغامق ، العنق الوافر والعيون الغامقة بلا لون تنحاز إليه ، الحذاء الرياضي والصوت الطفولي الذي يناقض الكلمات الكبيرة ، الكبيرة والحزينة التي ينطقها ، أخرجتني إلى الغيوم بجسدي أمتحن القيامة ، أتذكر مقاطع شعرية كنت أكتبها على هوامش كتبي في المرحلة الثانوية ، لا أتذكرها بوضوح ، ولكنني أتذكر الشاعر الذي كنت أسميه ابن السماء ، لعله هنا يشهد هلعي وترهاتي من مكان ما ، ذلك الذي خدعنا بموته المبكر ، وترك قصيدة لم يكملها أحد ، ولن يكملها أحد .. أتذكره يدخن الشيشة في مقاهي وسط البلد ، وينضح شعراً لمن ظلوا ومن هربوا ، لمن صدقوا ومن كذبوا ، لمن أخلصوا ومن خانوا ، ينضح الشعر من حياته القصيرة ، يقايض أيامه بالغناء المرير .. هذا أيضاً لم أشهد موته ولكن صورته في المستشفى قبل موته أستحضرتني في لحظاته الأخيرة ،

كانت تطمينات الطيار غير كافية في تلك اللحظة ، صاعدت دنيا من تعلقها بي ، أحسست بالحرارة تمتد في جسمي بأكمله ، كانت ملوحة لسانها على وجهي في تلك اللحظة ، لا أعرف هل كانت تخادع خوفها بهذه التصرفات ، أم كانت تعيشه على طريقتها  ، ولكنني كنت مستسلم تماماً ، استسلاماً جميلاً ، نسيت خوفي ، صعدت فوقه تماماً ، كنت أراه بقعة صغيرة في قاع روحي ، الخوف الذي حكمني كل هذا العمر أصبح منفراً مثل قرد يستعرض سوءته على الأشجار العالية ، كدت أن أنساق إليها ، ولكن صورتها القديمة كانت بيني وبينها ، بيني وبين الأنثى الأخيرة قبل قيامة الروح الأخيرة .. كنت أتمنى أن أرافقها إلى مصيري النهائي وأجتاز معها سراديب الموت والظلمات ،
كنت في موته حاضراً كما كنت في موت الصاوي عمار ، كنت الآخر الغائب ، ولكنني سأموت ولن يشهد موتي أحد ..

حين عدت إلى وجهها المزغب كأمها ، كانت الدموع ترسم خطاً أسوداً على وجنتيها ، كانت تبكي صامتة ووحيدة .. مددت يدي أمسح دموعها .. ولكنها منعتني ، ورسمت ابتسامة صادقة وسحبت يديها من أصابعي ، وذهبت بعينيها عبر النافذة المفضية إلى سماء ضيقة ، وبقيت بداخلي تنتحب ..

 

 ولكن صوت الطيار الحازم أخرجني من كل هذا لعله أخرج الجميع ، فجائياً وسلطوياً وقدرياً ،

النبأ الذي حملته كلماته المقتضبة طغى على حالة الطائرة المضطربة والهدوء العجائبي الذي كان سائداً قبلها بلحظات ،

لقد قامت الحرب ، الأجواء في المرحلة القادمة أصبحت غير آمنة على الاطلاق ، سيضطر للعودة أدراجه ، صبري جذب اهتمام الجميع ، تاريخه العسكري جعله هالة ضوء جمعت حولها هوامش الليل ، لم نهتم أنا ودنيا كثيراً ، ولكننا تابعنا الأحاديث المتحلقة حولنا لتخرجنا من خلوتنا المختلسة من أوقات الخوف
المهادن والوديع ..

* هل سنعود إلى القاهرة ؟؟
* ربما أو ربما إلى أي مطار قريب ؟؟
* أتمنى أن نعود إلى القاهرة .. لم تعد هناك فائدة من المضي في أي اتجاه ، فقدت حماسي للذهاب إلى هناك أو إلى أي مكان ..
* وأنا كذلك ، هل تعرفين البعض يريد الوصول إلى عمان بأي ثمن، للتوجه إلى هناك  ، لا أحد يعلم لأي مدى ستصل الحرب ،

مضى بنا الحديث وكأننا لم نكن قبل دقائق سوية خارج التاريخ .. يداً بيد خارج الوجود .. كان الطيار قد قرر العودة بنا إلى القاهرة ، فضل البعض المضي إلى عمان لسلوك الطريق البري .. ولكن الطيار رفض أي إقتراح بهذا الخصوص ، كنا فعلياً نعود أدراجنا بمحاذاة البحر الأحمر ، نحاول أن نخمن ما الذي ستأتي به الساعات القادمة ..

              

سامح المحاريق
الأسكندرية شباط 2003  

ت ترتعش .. ولكنها مضت ..

 

* تزوجت من أحد أقاربها ، كانت زوجته الثانية ، للحق الرجل ساعدها كثيراً ولكنها بقيت بعيدة عني لفترة طويلة .. ، لم تتدخل في قراراتي أبداً ولكنها دعمتني كثيراً ، مادياً على الأقل ، أبي ليس قديساً يا شريف .. وليست أمي كذلك ، ولكنكم أنتم من كنتم حوراييه وتلاميذه ، وحتى أنتم تركتوه يموت وحيداً ومفلساً وحزيناً ، كلكم شركاء في قتله .. أنت وصادق وبرهان والجيزاوي وأسماء حكتها لي أمي .. أمي لا تكرهه ، ولا تكرههم .. ربما لم تكره شخصاً في حياتها مقدار ما كرهتك .. نعم كرهته . ، لا تستغرب .. هناك انتهازيون أكثر منك منافقون في كل مكان وكل نقطة على هذه الأرض ، وجبناء وأنذال ، ولكن كل هؤلاء لم يؤذوها . . أنت وحدك من تركتها ، من أدرت لها ظهرك .. من زففتها إلى جنون أبي ونزقه .. أنت الوحيد الذي خنتها ..

 

صدمتني كلماتها ، ذلك الحوار الأحادي الطويل ، كنت أنظر إلى الغيوم الكثيفة ، وكانت تنتظر كلماتي ، أمسكت بيدي ، وتوسدت ذراعي في تصرف لم يلفت انتباه أحد على غرابته ، كانت حالة الجوء السيئة قد أخذت كل واحد إلى عالمه .. هدأت الجلبة .. إنسحبت الأصوات كانت الطائرة ترتج بعنف ، ولكنني كنت أنا وهي وحيدان في عالم آخر وبعيد ، في فردوس استباقي ، أنضر وأجمل من ذلك المتواري في أقاصي الملكوت البعيدة ، كانت تتمرغ في جسدي ، فما عدت أميز الأنثى من الطفلة القديمة الراكضة في دمي ..

 

غنائية الصاوي عمار الأخيرة :

 

جميعكم بلا استثناء لكم أذنابكم المراوغة ، لم تنقذكم منها حضارة أو دين أو تمدن ، وأنا أراها وحدي فأحذروني .. إحذروني .. كلكم من الخطيئة والدنس جئتم .. كلكم أكلتم من الثمرة المحرمة .. كلكم مذنبون ومدانون ومشوهون ومسوخ .. عالمكم الذاهب في دماره لن يكون جنتي الموعودة .. ولن أقف في الطوابير الطويلة لآخذ كتابي بيمني أو شمالي ، أنا الملتاث الذي شرب من الترياق المقدس وأزدرد نبتة الخلود ، موتي ليس نهايتي ولكنه دليل الاتهام لعصركم الجبان ..

 

ألم أك من صاح في ليل الهزيمة ، فسخرتم من تأوهاته المقدسة ، ألم أك من سمع حمحمة الخيل الآتية من بعيد ، ألم أر الغربان المحملة بالموت ، تشق السماء إلى القرى الوادعة على ضفة النيل الغريب في أرضه ، ألم لكم النبوءة ، ألم أك لكم النبي والولي والشاهد والشهيد ...

 

لماذا أنكرتموني ثلاثاً ، وأربعاًُ ، وخمساً ، ولكما بزغ فجر أو غشي ليل أنكرتموني ،

 

سأكون هناك في طرف الملكوت جالساً وحدي ، أراكم في الطوابير الطويلة ، وأهتقف طوبي للقلب الذي لم يهادن ، طوبى لمن لم يأكل من ثمرة الخطيئة الأصيلة ..

 

سأكون هناك فأحذروني فأنا أعرف أذيالكم ذيلاً ذيلاُ ، وأراها تفلت من تحت الثياب المبهرجة لتفضحكم ، وأسخر منكم أنا المعلق على الثريات والمندس تحت السجاجيد الفاخرة في قصوركم البعيدة ، أنا المختبئ في كل مكان معكم أشهد عريكم المقزز ، فأمعن في هذياني الأزلي وأضحك ملئ فمي ، سأسخر منكم في ذلك اليوم الذي كتب علي وعليكم .. سأسخر منكم لأني لم أجد من يؤدبني بآداب عصركم الوقح ..

 

طوبي للقلب الذي لم يمسه الدنس .. طوبي للقلب الذي لم يمسه الدنس..

 

متتابعات

 

خيك الهدوء على الطائرة ، ربما الخطر المحدق بهذه الرحلة خلق جو السكينة المترقبة ، أنظر إلى الأضواء الكثيفة لساحل البحر الأحمر السياحي ، للمرة الأولى لا أرى أن الموت مرعباً كما كنت أراه في السنين الماضية ، عاودت يدها الصغيرة التعلق بأصابعي التي نظرت إليها من بين أصابع دنيا كأنني أراها لأول مرة هي الأخرى ، يسمونه الماضي وأسميه الزمن المحترق ، خرجت منه أعضائي ، ولا زالت روحي عالقة بأوساخها هناك، كنت أتجاهل فيه المئات من الأحداث التي كنت أعتبرها عارضةً وهامشية ، مع علمي أن تتابعها خلق الخطايا الكبيرة ، التي تخنقني الآن على حافة القيامة ، أتطلع إلى أصابعي التي جدلت لي حبائل التجربة ، ومهدت لي طريق الغواية الحريري ، فأدركت كم كنت أصغر من التجربة ، وعرفت كيف دخلتها طائعاً مطواعاً ، 

 

هذه اليد   كانت تعايش بهجتها الأخيرة ، أتذكر عبير في هذه اللحظة ، أكثر من أي شيء آخر ، حين صعدنا سلم الغواية سوية إلى الشقة المستعارة في المنيل ، جسدها المنمنم التلقائي في انفعاله ، الموشى بالشامات والزغب الأشقر ، أتذكر الكلمات الكبيرة .. ولكنني أمضي بعيداُ في الصندوق المعتم ، البحر المضطرب في الإسكندرية الشتائية ، نوات فبراير التي تخرج من شرنقتها الترابية بالمطر الفجائي ، النوات الصاخبة والعنيفة والمغرية بالغضب وبالشهوة وبممارسة أكثر العادات انحطاطا وسادية، كانت نوات عبير ضارية ، لا تعرف المهادنة .. كانت تأخذني إلى العالم الموازي .. عالم لا يعرف اللاءات الكبيرة ،

ولكنني وهناك قررت أن أخرج منها ، أن أغادرها ، لم أكن أول الزائرين لهذا العالم ، ولم أكن أطمح إلا بتذوقه ، لم أفكر يوماً في امتلاكه ، الصاوي ظن أنه امتلكه بورقة بالية من مأذون شرعي وبعض الزغاريد المختنقة ، صعدت إلى التجربة بساقي ، وعجنت الخطيئة بأصابعي ، وحين انتهينا كان بداخلي شيء ينتهي ، ،

 

   حكمت علاقتي بعبير معادلة جديدة بعد الرحلة الأولى .. انسحب الكلام فيها إلى الوراء ,, الصمت والترقب أكلا من جسدها المنمنم ، لم أتركها ، دفعتها لتركي للخلاص من عالمي ، وكان الصاوي هناك على طريق خلاصها ,, ولكنها انزلقت منه أفلتت لتمضي في الطريق القدري المراوغ ..

 

والآن هنا ، لم يعد في ما يراوغني به الزمان ، غادرني توقي ونهمي ومطامعي ، لأسكن في الزمن الحاضر ببهائه يداً متعرقة بين أصابعي ، وخوفاً من حالة اللاخوف التي أحياها ،،

 

انتبهت للتفاصيل الخارجية لدنيا ، الشعر القصير المصبوغ باللون الأحمر الغامق ، العنق الوافر والعيون الغامقة بلا لون تنحاز إليه ، الحذاء الرياضي والصوت الطفولي الذي يناقض الكلمات الكبيرة ، الكبيرة والحزينة التي ينطقها ، أخرجتني إلى الغيوم بجسدي أمتحن القيامة ، أتذكر مقاطع شعرية كنت أكتبها على هوامش كتبي في المرحلة الثانوية ، لا أتذكرها بوضوح ، ولكنني أتذكر الشاعر الذي كنت أسميه ابن السماء ، لعله هنا يشهد هلعي وترهاتي من مكان ما ، ذلك الذي خدعنا بموته المبكر ، وترك قصيدة لم يكملها أحد ، ولن يكملها أحد .. أتذكره يدخن الشيشة في مقاهي وسط البلد ، وينضح شعراً لمن ظلوا ومن هربوا ، لمن صدقوا ومن كذبوا ، لمن أخلصوا ومن خانوا ، ينضح الشعر من حياته القصيرة ، يقايض أيامه بالغناء المرير .. هذا أيضاً لم أشهد موته ولكن صورته في المستشفى قبل موته أستحضرتني في لحظاته الأخيرة ،

 

كانت تطمينات الطيار غير كافية في تلك اللحظة ، صاعدت دنيا من تعلقها بي ، أحسست بالحرارة تمتد في جسمي بأكمله ، كانت ملوحة لسانها على وجهي في تلك اللحظة ، لا أعرف هل كانت تخادع خوفها بهذه التصرفات ، أم كانت تعيشه على طريقتها  ، ولكنني كنت مستسلم تماماً ، استسلاماً جميلاً ، نسيت خوفي ، صعدت فوقه تماماً ، كنت أراه بقعة صغيرة في قاع روحي ، الخوف الذي حكمني كل هذا العمر أصبح منفراً مثل قرد يستعرض سوءته على الأشجار العالية ، كدت أن أنساق إليها ، ولكن صورتها القديمة كانت بيني وبينها ، بيني وبين الأنثى الأخيرة قبل قيامة الروح الأخيرة .. كنت أتمنى أن أرافقها إلى مصيري النهائي وأجتاز معها سراديب الموت والظلمات ،

كنت في موته حاضراً كما كنت في موت الصاوي عمار ، كنت الآخر الغائب ، ولكنني سأموت ولن يشهد موتي أحد ..

 

حين عدت إلى وجهها المزغب كأمها ، كانت الدموع ترسم خطاً أسوداً على وجنتيها ، كانت تبكي صامتة ووحيدة .. مددت يدي أمسح دموعها .. ولكنها منعتني ، ورسمت ابتسامة صادقة وسحبت يديها من أصابعي ، وذهبت بعينيها عبر النافذة المفضية إلى سماء ضيقة ، وبقيت بداخلي تنتحب ..

 

 

 

 ولكن صوت الطيار الحازم أخرجني من كل هذا لعله أخرج الجميع ، فجائياً وسلطوياً وقدرياً ،

 

النبأ الذي حملته كلماته المقتضبة طغى على حالة الطائرة المضطربة والهدوء العجائبي الذي كان سائداً قبلها بلحظات ،

 

لقد قامت الحرب ، الأجواء في المرحلة القادمة أصبحت غير آمنة على الاطلاق ، سيضطر للعودة أدراجه ، صبري جذب اهتمام الجميع ، تاريخه العسكري جعله هالة ضوء جمعت حولها هوامش الليل ، لم نهتم أنا ودنيا كثيراً ، ولكننا تابعنا الأحاديث المتحلقة حولنا لتخرجنا من خلوتنا المختلسة من أوقات الخوف

المهادن والوديع ..

 

* هل سنعود إلى القاهرة ؟؟

* ربما أو ربما إلى أي مطار قريب ؟؟

* أتمنى أن نعود إلى القاهرة .. لم تعد هناك فائدة من المضي في أي اتجاه ، فقدت حماسي للذهاب إلى هناك أو إلى أي مكان ..

* وأنا كذلك ، هل تعرفين البعض يريد الوصول إلى عمان بأي ثمن، للتوجه إلى هناك  ، لا أحد يعلم لأي مدى ستصل الحرب ،

 

مضى بنا الحديث وكأننا لم نكن قبل دقائق سوية خارج التاريخ .. يداً بيد خارج الوجود .. كان الطيار قد قرر العودة بنا إلى القاهرة ، فضل البعض المضي إلى عمان لسلوك الطريق البري .. ولكن الطيار رفض أي إقتراح بهذا الخصوص ، كنا فعلياً نعود أدراجنا بمحاذاة البحر الأحمر ، نحاول أن نخمن ما الذي ستأتي به الساعات القادمة ..

  سامح المحاريق

الأسكندرية شباط 2003      



#سامح_المحاريق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الورقة البيضاء
- السلاسل الحجرية .. موزاييك نصي قلق
- ليل بدونك


المزيد.....




- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سامح المحاريق - سراديب السماء ..