أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - عبدالباسط سيدا - كمال مظهر باحث أصيل متجدد 2/2















المزيد.....

كمال مظهر باحث أصيل متجدد 2/2


عبدالباسط سيدا

الحوار المتمدن-العدد: 2550 - 2009 / 2 / 7 - 03:36
المحور: سيرة ذاتية
    


قلّما وجدت نفسي في حرج من أمري كما أجدها اليوم. فالرجل الذي نحتفى ونحتفل به دوحة راسخة الجذور في منابت الفضيلة أخرجت في الضوء فروعاً سامقة تجتليها العيون على بعد يعين فيه نظر المتأمل فيختل لديه تمييز زهرها من ثمرها، ويشتبك عليه نورها بنوارها. لكن الناظر غانم على علات الأحوال، فأياً كان نصيبه من رفد الدوحة ما خلت يده عن خط مستأنسٍ بالنار في ليلة مقرورة لعله يأتي منها بقبس أو يجد على النار هدى. ولقد أمدتنى صحبته الحفية الثرية بمفتاح لمغاليق كنوزه ورموزه فعلى مدى استطالة معايشته ومعاشرته، وبمقدار التغلغل في شجونه وفنونه، تنفرج زاوية فيضه للبصر والبصيرة، حتى إذا استيقن من تمام انكشاف ضميره، انطلقت نفسه من عقد الاحتجاب، فسالت في الأسماع وذابت في الآفاق إلى حيث تستقر عبر القلم والقرطاس في الوعي الظاهر والباطن لعامة قرائه ذخراً مستوفياً لحسن التواصل، حريصاً على أمانة التبليغ مستزيداً في ضخ العطاء، ممتنعاً من هوى التأويل، وتلك أشراط القيمومة على الريادة في محشر الاستنباط والاستكناه من مهرجان النور. ما سألته قط عما إذا كان تفرغه التأريخ من باب الاختيار أم من حسن الصدف، فالتأريخ حدث وتطور وتطلع، فما كان منه حدثاً فقد سهل أمره لدخوله في باب الرواية وأقصى حظها من مراتب الاعتبار بعدها عن التلفيق ويتداعى منه معكوسه الوبيل وهو التضليل الذي قد يعيث فساداً في الأفكار والأرواح آلاف السنين. والبشرية كلها تتجرع غصص الحدث المضلل إلى يومها هذا، لا علاج لها من ذاتها ولا أثر لوجود العلاج من خارج غصص الحدث إلا أن يكون استهلاك المرض نفسه هو العلاج. فما أجَلَّ الخطب وأقسى الكارثة من بلوى تمخضت بها الإنسانية نفسها، وهي بؤرة الضوء الوحيدة في الطبيعة كلها، ولا انتهاء من هذه المناحة إلا بالتواري منها إلى فرجة راحة... وهل من راحة...؟
ولا أدور بكم في الحلقات المفرغة للحدث ما سرّ منها وما ساء وما حاد، وكم منها نفح النفس الأمارة، أو تألّب الشر المبيّت من متربّص: فربّ مُشعوذٍ فتن شعوباً، وربّ شعوب أغرت بنفسها مشعوذاً؛ أم كان الصنم يتكلف النطق ليضلل؟ فعبدوه؟
أما التطور التأريخي الذي هو التطور الاجتماعي نفسه فأنه خليق أن يستقطب آراء متبانية من سبب حدوثه، ولكن يمكن الخلاص من حجاجه بالرجوع إلى المزايا التي تفصل الإنسان عن البهيمة من حيث أنه وحده من جميع الخلق قطع مراحل في سلم التنامي الاجتماعي، فانتقل من بدائية حياة الكهف والغابة إلى ريادة الفضاء، وتلك بديهية لا تحتمل المناقشة وأظهر خلة اتسم بها البشر فارقة بينه وبين الأحياء هي العقل، وقد خرج به عن حكم الغريزة المكررة لنفسها أبد الدهر إلى مراح الاستدلال، وتركيب الصور والحوائج في إدامة الحياة، ومحاولة البقاء بانتماءٍ مطرد إلى تحسين الوسائل وابتداع الحيل. وما كان من حكم طبيعة الأشياء أن يستجيب جسمه إلى طموح العقل فيعتدل شكلاً وقواماً، ويزداد قدرة في توفير القوت ورد العادية وتوسيع الإدراك فحقق معجزتين أولاهما النطق من حيث الأهمية، فقد عجزت الهمهمة والبغام والزقزقة عن تبليغ إرهاصات العقل. وكانت الثانية تقابل الإبهام مع الأصابع الأربعة الأخرى في اليدين خلال مدة تحسب بمئات ألوف السنين، فلولا هذا التقابل لتعسر إيلاج الخيط في سم الخياط أو الإمساك بالسهم في الرماية وتضاعف الجهد المبذول في إقامة حائط عشرات المرات ولزم فيها بدل اليوم الواحد شهر وشهران. إنك إذا حذفت من أطوار البشر هذا التقابل بين الأصابع قلبت جلً اختراعاته الرائعة فخاخاً لتعطيل الفطنة ، وشراكاً لتقييد فاعليته فلا تستطيع يد ماهرة أن تمتد إلى أي جهاز ميكانيكي بغية تصليحه أو تشغيله. فلا مهرب لعاقل من حتمية رد التطور التأريخي إلى فاعلية الإنسان بكل قابلياته الرائعة والمروعة فهو نفسه التأريخ والاجتماع والعلم والجهل والحرب والسلم والقاتل والمقتول بأفانين من صنع الخير وبديع الخيال وجمال البراعة أشكالاً وألواناً يجاوز فيها استطاعة الملائكة، وقد يرد نفسه أسفل سافلين طبقات وطبقات تحت قعر الجحيم... عوفى من مخلوق منتفضٍ على نفسه هو المثل الأعلى فيما أبدع صانع المعجزات. والتطلع هو استشفاف الغد على سبيل الترجيح من دواعي الواقع الراهن مضافاً إليه على سبيل الاحتمال ظهور أمور كانت كامنة أو حدوثها من ممكنات كانت غير متوقعة. وليس لأحد أن ينتظر من غدٍ تصديقَ موحيات اليوم بأكثر من تصديق اليوم لموحيات أمس.

كل هذا الذي قلته وما تجنبت الخوض فيه من حيثيات التأريخ محسوب حسابه وموزون نصابه في مهب المنطق الحي الذي يقيس به كمال مظهر نشاط الانسان؛ فهو يكتشف وجه الصواب من رواية ما بزيادة النبش في مصادرها لاختيار أشكلها بروح عصر الحدث، وأجراها مع السلائق، وأخلاها من عقد التكلف، ثم هو يترك منزعاً في شد القوس تأهباً منه لقبول أضعف الاحتمالات، إذا ثبت على وجه من الوجوه أنها كانت خيار التأريخ برغم التأريخ، كأن يكون ملك مهووس بالحمام ترك جيشه للضياع ريثما يشبع رغبته من تمليس جناح، أو نتف ريشة ناتئة، وقد علمنا أن نيرون كان يعزف على آلة موسيقية، وينظم مكسور القريض، وهو منشرح بالتفرج على حريق روما.

كمال مظهر مؤرخ يشرح لك الماضي كلاً مترابطاً يتنفس ويختلج، ولا يتناوله كما يفعل الطبيب بتشريح جثة أو يفعل القصاب بخروف مذبوح، فلا الجثة الهامدة هي الرجل الذي عرفناه يكوّع العصىّ في إدامة الحياة، ولا الخروف هو هذه الأوصال المقطعة في ڨترينة البيع والشراء فلقد كان يمشي ويثغو ويعلف، كذلك كان التأريخ في أوانه يتحرك غير مؤطر بسياج من العقلانية الفلسفية أقامها حوله نابغة مشغوف اللب بترتيب المقدمات والنتائج على ورق أملس، فورب الكعبة لأن تكون البشرية هي هذا الخليط المتراكم من مخلفات العصور يأخذ بعضها بخناق بعض ويسطو فيه الجار على جاره ويمضغ متكلموها جملاً خالية من الهدف أقرب على التوقع من انتظام الصفوف وتناسق المجهود وتناغم الجمل في الاسعاد والتنمية بريادة حكيم ينثر درره من فوق منبر خطابة.

إن المؤرخ كمال مظهر أنقذ نفسه من قبضة الأحكام المسبقة والقواعد المقولبة والحتمية النابعة من مصدر متعين بالذات، وهداه ضميره إلى نشدان الحقيقة مهما تكن مرة فلا أمل في شفاء المريض بإنكار علته ولامفعول لدواء أملاه التحيّز؛ واستحال صدق مذهب فلسفي أو سياسي في مآل البشر إلا إذا كان تام التفهم لطبيعة البشر ومسايراً لمدى استيعابه ومقبولاً في مزاجه وغير متكلِّف في فرض المتعذر عليه؛ أما أن يتم تطويعه بالسوط في أداء طقوس الدروشة المفروضة تدليلاً على صحة المذهب في توقعاته، فذلك بحد ذاته برهان إفلاس المذهب من كل وجه فقد كفاه بؤساً وعاراً أن يزهو بشهادة تزكية من أنصاف موتى تم تخنيثهم وتأنيثهم، يحركون بين أشداقهم ألسنة ببغاوات.. وأني لأعوذ برب الفلق والفجر ذي الألق أن يصيب رذاذ من الريب فيما أقول موطئ أقدام ناس يشع من أيديهم ،بيضاء من غير سوء، نور المعرفة الكاشفة والثقافة الطاهرة والفن البديع والأمل الخيّر بأنهم بناة الحياة الخليقة بالإنسان، وجنود الحق في دحر الباطل ومنائر الإضاءة إذا ادلهم الليل البهيم. ولا تثريب عليهم إذا أوقدوا في الظلام شمعة فاختلسها شرير التمس ناراً يحرق بها بيدراً، أو فكَ عبقري سر الذرة فوسّع على البشر باباً يفضي إلى ما وراء وهم الواهم من الأرض ومن الفضاء، فيحتكره من لا يؤتمن على وديعة فلا مهرب لحد هذه الساعة من مخاطر الكشوف العلمية باستعمالها في الهدم والجريمة، وهل خلا سكين المطبخ وسيف المدافعة من احتمال ارتداد سحرهما على الساحر؟ وما ظنكم باحتمالات الشطط في استعمال الأدوية بالجهل أو بسوء القصد؟ فالمخترعون المكتشفون العباقرة من أي دين وجنس كانوا في واقع الحال ،وكانوا في ماضي الأحقاب زيت القناديل وتيار الكهرباء ونور البصر والبصيرة لقوم يعقلون..
التقى مساري بمسار كمال مظهر أوائل السبعينات في صحبة زمالة بالمجمع العلمي الكردي، ولم أكن قبل ذلك أعلم من أمره غير اسمه وشهادته العلمية؛ ولكن حدث أني فوجئت بارتياحي الشديد إلى مرآه المتسم بالطيبة الظاهرة، والسلوك الدمث، والتزام آداب المجالسة بلا تكلف على الإطلاق؛ ولا أعلم ماذا كان انطباعه الأول عني، ولا أذكر أني سألته في ذلك، ولن أسأله؛ فقد توافق طبعانا ثم تطابق رأيانا عبر الأيام من أخطر الأمور إلى أصغرها، حتى تعادل طرفا حكمنا على الأشياء سلباً وإيجابا إلا في نقطة واحدة هي في دلالتها كبيرة، فهو أنشط مني في اختلاق العذر للمسيء إليه، وأنا أكتفي بإسقاطه من حسابي، فالمسيء إليّ مختار فيما يوفر له الراحة قادحاً أو محتشماً أو معتذراً. إن الله يغفر الذنوب جميعاً.
كمال مظهر في ميزاني ثقيل ثقيل، نبيل نبيل، جليل جليل، ويزداد من كل ذلك ثقلاً إلى ثقل، ونبلاً إلى نبل، وجلالاً إلى جلال، شهراً بعد شهر، ويوماً إلى يوم، وساعة بعد ساعة. فهو الآن أجلّ منه قبل دخوله القاعة، وقس عليه من ازدياد جلاله الساعة واليوم والشهر باطراد. بل أنى انتقل إلى واحدة من صفاته هي إحدى تكئات البرهان على واقع حاله، فقد ولجتُ من خلال الكلام عن علمه إلى هوامش ملفتة بليغة إنسانية، والعلم شيء مكتسب كان من الممكن ألا يكتسب لحاجب بين الرغبة والمأمول، لكن "الوفاء" جبلّى وجزء من الكيان المعنوي للبشر، ومراتب الناس من هذه الصفة متفاوتة بين رفيع ووسيط وهابط وفاقد، فالذي أراه من وفاء كمال مظهر حالة اتحاد وحلول بين صفة وموصوف لا انفكاك بينهما، فلو تكلّف ضد طبعه باستدباره الوفاء لغاية في نفس يعقوب لوجد نفسه يستدير ليتبع الوفاء إلى عدو مستقتل، سلّم عليه بحرارة منذ سنين مرة واحدة، فأراه من هذا الباب تلميذاً عملاقاً لأبي ذرّ الغفاري في قوله المشهور لشخص مسّه بكلام جارح: يا هذا لا تقذع ودع للصلح موضعاً فإنّا لا نكافىء من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه! إلا أن هذا الذي أشرت إليه في خفض جناح الذل مرحمةً حين يكون شخصه مساءً اليه، ينقلب إلى جهاد المستميت إذا أسيء في الغياب إلى فاضل يعرفه عن قرب، أو أهينت قيمة يقدسها في أساسيّات عقيدته، أو تشوهت في حضوره أحداث ومواقف بكلام المستغرضين؛ فهو لا يهادن في هذه الكبائر حتى يتوب المكابر إلى سواء السبيل. وهو في هذا النهج من السلوك حدّىٌ وجذريّ ومتناه إلى يقين لا يُعاد فيه النظر رغم ما في الثبات عليه من كلفة باهظة، تنوء بها طاقة الاحتمال، وتُغرى بشيء من مسامحة الذات في إغماض النظر. ولكني أدرك فيه شعور الراحة النفسية والرضا عن الذات بالثبات على المعانة النبيلة، فهو يكافئ نفسه بنفسه في مقاضاة هو الشاهد والمدعى عليه والحكم والمحكم، ولا أرى محكمة بلغت معدلة كمال مظهر في دعوى تستأديه أجرة عن كل صفة من الصفات الخمس التي انتحلها مجاهداّ في إحقاق الحق، وليس بعد الحق إلا الضلال.. ولكن ذلك بداية هينة في مشوار الوفاء عند كمال: إن حلبة يمارس فيها فروض الوفاء فسيحة البعاد، عميقة القرارات، عالية الآفاق؛ فهو إذ يقدح ذهنه بالتحديق في القيم المقدسة تنزع روحه بحرارة لاهبة إلى توالي البراهين على أصالة القدسية في نسيج الوجود ،لا على أنها اختلاف البشر في تهويماته العاطفية أو تسبيباته الجانحة، وكفى لذلك أن تكون لمحة البصر وشَهْقَةُ النََفََس حاوية من المعجزات المعَجِّزات ما يخرج بها من منطق العقل عن صنع الصدفة، أو توافق الأحوال في غياب مطلق لحكمة أعانت وليدا على مص الحليب لحظة خروجه من رحم أمه، وتلك ظاهرة في سطوح معجزة الحياة سبقها منذ مليارات السنين تسرّب الحياة إلى المادة الميتة، مستبطنة في أقوى الاحتمال كل التطور اللاحق في الكم والكيف على سبيل الحتم الذي لم يكن له بديل.. مليارات الأسباب المتطاحنة رست على معادلات بدت منحازة لدوام الحياة رغم قسوة الطبيعة الهوجاء، فلا غرابة في توقف كمال مظهر عن الانسياق إلى راحة الإنكار لبدائع الحياة وروائعها، فهو اذ كان لا يسلّم بتسبيب حادثة عرضية، لم يستكمل نصاب الإقناع فلا ينتظر منه قبول انعدام السبب في وجود خلق وروعة تتجاوز جهة الإبداع، فيهما كل المسببات لجميع ما فعله الإنسان منذ تخلّقه لحين هذه اللحظة؛ ولتذهب ثورة فرنسا والبلشفية ومذبحة قصر النهاية بخيباتها إلى حيث ألقت..ّ فماذا كرامة الأسباب لخواتيم أهدرت القيم الإنسانية لعشرات السنين؟ وهل يصمد قبح ركام الجنوح السافر إلى جانب فراشة تلمع نقشةُ جناحيها في شمس الربيع؟
وينداح وفاء كمال على وجه البسيطة، فيرحم العجماوات ويكف عنها أذاه، ويعشق العشب والزهر والشجر في حنان يثير غيرة الجنس الآخر، ثم يتمادى حتى يشمل كتبه وقراطيسه وأقلامه بالعناية والرعاية وبزيادة حب تسلكها في قائمة الأحياء.. ويقدّس كتباً تمده من التأريخ بالخبر المنصف، لا سيما إذا كان الإنصاف يزكّي شعوباً ضعيفة غُلِبت على أمرها ومنها الشعب الكردي؛ وها هنا يبدأ كمال جهاده الأكبر مع النفس في ألاّ تشتط إلى غمط شعب آخر من حقوقه، ومع الضمائر المعلولة من الأرومات الأخرى حين تستمرىء زيف الخيلاء في قهر شعب فاقد القدرة على ردّ العادية، والمزيف المتفاخر ملعون مرتين، فهو من ستر تفاهته بالتعالي على ضحايا القهر من أرومة غيره لن يُفلت بني قومه من شراهة نفسه الحقيرة، فهو لا يجد في كل زمان ومكان كردياً أو بلوجيا يمارس فيهم نذالته، فيواظب من باب الضرورة على الفسق بناس من أرومته هم في مقام ابيه وأمه وأخيه واخته وابنه وابنته، فإذا أفلت هؤلاء الأقربين، فإن جاره ينوب عنه في الفسق بهم فالكل من الهم شرق، والهم نفسه شرقي غير مستورد وموروث غير مستولد؛ فلا وجه لإقامة مناحة خلقية، نلقى باللوم فيها على شعوب ما وراء جبل قاف وجزائر واق الواق...
كمال مظهر في وفائه الكردي درويش مستوعب لحقائق الاجتماع، يرتعش بالجذبة الصوفية تصفية لما قد يعلق بقعر كشكوله من قشيرة أخطأت الطريق. وهو لا يفتأ يلتقط حباً هنا وسنبلاً هناك سقط من خرم أو زلق من يد تعبانة، فهو حاوٍ من كل وجه ورافض من كل وجه في كفتى الإيجاب والنفي لميزان دقّ نابضه قبولاً ورفضاً.
كمال مظهر بادر أول ما تحفز للنزال القومي إلى التحصّن بسلاح الفكر والنظر، بعدما نزع من صدره رواسب الحساسية وقَهَرَ في وعيه فجاجة الأخيلة المراهقة وكان، ربما، ساعده في نبذ القومية الاعتدائية "بواكير المداعبات الأممية، فجاءت نافعة لا ضارة"، نفعت ليدخل محراب القومية المستنيرة بثوب ثقافي نظيف وحس انفعالي عفيف، لا إفراط ولا تفريط، دائب السعي على صراط مستقيم. وهو إذ خص الكرد وكردستان عصارة روحه وحرارة إيمانه ونور وجدانه، فقد امتثل فيه بكل قيمة إنسانية محترمة من دينية ودنيوية واستجاب لبداهة الأشياء من أن يصل أهل بيته وجيرانه من حوله، وناساً يتكلمون بلسانه وينحدرون من أصل واحد تعرضوا مثله لكوارث التأريخ منذ خمسة وعشرين قرناً، وتميّز جهاده كجهاد غيره من بني الكرد المناضلين بنكهة مميّزة هي كثافة الظلم المطبق على الوجود الكردي حيثما كان، فهو محكوم بالمروق والتمرد كلما تململ من أذى لا يطاق، ومفروض عليه أن يكون ولاءه الأول لأرومة الحاكم، ويحرم عليه ولاؤه لنفسه في أوطانه المحكومة خارج العراق حينما يصل الجحود إلى إنكار وجوده أصلاً. فلا يبلغنَّ التوجس بأحد من نية الكردي قلب الدنيا عاليها سافلها فليس في منهجه ولا في طاقته مسُّ غيره بضرر أو أذى، فالعرقية الاعتدائية ترف يمارسه الأقوياء المدججون بالمال والسلاح ونفوذ الكلمة، وعلى قدر ما يستخلص من إيماءات الحاضر فليس من الأفق المرئي ظل احتمال متخيّل لانبعاث الكردي من هبة سحرية أسطورية، تفتق نسيج الواقع الراهن من الشرق الأوسط، ومن ورائه مصالح كبرى مسايرة لدوام الحال السائد فيه؛ وما حمل الكردي السلاح في ماضيه المرصود إلا مدافعاً عن نفسه، منتهياً بالضرورة إلى خسران عظيم. فليس أمام الكردي غير خيار الكفاح المبني على العقلانية إذا سمح به أصحاب الشأن في أوطانه، وقد سلك كمال مظهر هذا الطريق بثبات و اقتناع، بعيداً من المسكنة والاستجداء، فقد دشنت تجاريب الأجيال إفلاس الرحمة في سوق السياسة، لا سيما في البلدان المتخلفة حيث يقتل الأخ أخاه على مقام مرصود مودود وراءه نِعَمٌ تشتهيها النفوس. وكل كلام بغير ذلك تخاريف غفلة أو فخاخ تصيّد وقد يكون تأنقاً في التعبير من باب جبر الخاطر؛ إن نظرة واحدة إلى الساحة العربية ذات العشرين علماً مرفوعاً في الأمم المتحدة، وصاحبة خزين النفط الأول في العالم، ومعبر خط الحضارة مشرِّقاً ومغرِّبا، وملتقى الجهات الأربع من بحرها الأبيض وقنالها الرابط بينه وبين بحرها الأحمر وخليجها اللاهب، فأين هي من مراتب الحصافة الحضارية والدراية التأريخية، ولم الشعث ورتق الفتق وتجاوز المراهقة السياسية؛ وذكر أن الذكرى تنفع المؤمنين؛ فهل يُلام الكردي إذا شط، وهو معصوب العينين، ومشدود اليدين، وفاقد القدرة في الاختيار ومكره ضد مصيره؟ ثم هل أُلام أذا ارتبط أملي بالتقدم الحضاري المذهل على نطاق العالم المتمدن للاقتناع بحلول يوم يتخلّى فيه حامل السوط من تكاليف الحبس والإطلاق في تعامله مع الكردي، فلعل أن يكون لنا أمل من تأخر الأجل، ريثما نرى تباشير فجر يصدق نضال كمال وأمثاله من المؤمنين بإنسانية الإنسان، وقدسية كرامته، شعوباً وقبائل يتعارفون على الهدى والمرحمة فإنهم "...رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا". وسلام على المنصفين من العالمين.





#عبدالباسط_سيدا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كمال مظهر باحث أصيل متجدد 1/2
- غزة: تأملات في مرحلة ما بعد العدوان
- تركيا بين التمزّق الداخلي والهاجس الإقليمي
- الشرق الأوسط: معادلات الراهن واحتمالات المستقبل -3
- الشرق الأوسط: معادلات الراهن واحتمالات المستقبل -2
- 1-الشرق الأوسط: معادلات الراهن واحتمالات المستقبل
- محاكمة نظام صدام في أجواء صدمة الإعدام
- اللهاث خلف السراب تكتيك سئمناه
- جهود مستمرة في مواجهة مأساة مستمرة
- حزب البعث: مؤتمر بائس وموقف حائر
- كردستان العراق: ضرورة تجاوز العصبية الحزبية إلى المؤسساتية ا ...
- حول خلفية وطبيعة موقف حزب البعث من المسالة الكردية
- إلى الانتخابات أيها العراقيون من أجل ألاّ يتحكّم صدام آخر بر ...
- الحضور الكردي القوي في الجمعية الوطنية القادمة ضمان لوحدة ال ...
- المعارضة السورية وضرورة الاعتراف بالوقائع
- تغييب الوعي وأسطرة المزيف في الاعلام العربي - أهمية الاعتراف ...
- تفييب الوعي وأسطرة المزيف في الاعلام العربي
- تغيييب الوعي وأسطرة المزيف في الإعلام العربي - شرعنة الإرهاب
- تغييب الوعي وأسطرة المزيف في الاعلام العربي
- تغييب الوعي وأسطرة المزيف في الاعلام العربي - 1


المزيد.....




- اختيار أعضاء هيئة المحلفين في محاكمة ترامب في نيويورك
- الاتحاد الأوروبي يعاقب برشلونة بسبب تصرفات -عنصرية- من جماهي ...
- الهند وانتخابات المليار: مودي يعزز مكانه بدعمه المطلق للقومي ...
- حداد وطني في كينيا إثر مقتل قائد جيش البلاد في حادث تحطم مرو ...
- جهود لا تنضب من أجل مساعدة أوكرانيا داخل حلف الأطلسي
- تأهل ليفركوزن وأتالانتا وروما ومارسيليا لنصف نهائي يوروبا لي ...
- الولايات المتحدة تفرض قيودا على تنقل وزير الخارجية الإيراني ...
- محتال يشتري بيتزا للجنود الإسرائيليين ويجمع تبرعات مالية بنص ...
- نيبينزيا: باستخدامها للفيتو واشنطن أظهرت موقفها الحقيقي تجاه ...
- نتنياهو لكبار مسؤولي الموساد والشاباك: الخلاف الداخلي يجب يخ ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - عبدالباسط سيدا - كمال مظهر باحث أصيل متجدد 2/2