أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حسين الهنداوي - المثقف بين الحلم وخيانة الذات















المزيد.....

المثقف بين الحلم وخيانة الذات


حسين الهنداوي

الحوار المتمدن-العدد: 780 - 2004 / 3 / 21 - 07:34
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


النزوع التبسيطي العفوي في نطفته الاولى الى التعامل مع الحالة الجزئية كحالة كلية أدى فيما يتعلق بموضوعة المثقف (بالمعنى المطلق او اذا شئنا الرمزي هنا) الى تكريس وهم ذهني في كل الثقافات كما يبدو جوهره ان المثقف مؤسسة بينما هو في الواقع محض معطى فردي موجود لذاته.
ولقد عمق هذا النزوع وجعله معضلة ‎سقوط القرن العشرين في اغواء الايديولوجيا والركون لها كأداة في معيرة هذا الصنف من المفاهيم. فالادلجة، المؤسسة بنيويا على مؤامرة التعميم، لا تترك الذهن يفلت من عقالها الخشن، بمجرد انجذابه لحظة واحدة اليها.
بلا شك، استدراكا، ان الايديولوجيا – وهنا اعيد افكارا لي نشرت من قبل في الاغتراب الادبي وايلاف- هي اول من ابدع تقسيم "المثقف" الى عالمين متضادين، في محاولة لا تخلو من عبقرية للافلات من مترتبات معضلة تقديس التعميم تلك. كما انها اول من اقترح شتى الاسماء الخلابة لذلكما الضدين فنعتهما بـ "الانساني" مرة وبـ "الميتافيزقي" او "الرجعي" مرة اخرى وبـ"اليمني" و"اليساري" و "الشعوبي" و"القومي‎" مرة خامسة او عاشرة. ولا بد ان نعترف بالاهمية الخاصة التي تنطوي عليها هذه الخطوة باعتبارها، اساسا، تشخيصا موضوعيا للمعضلة المذكورة ومحاولة اولى للخروج عليها.
بيد ان هذا الجهد يظل مجرد خطوة، اذ انه لا ينطوي على تقديم حل جذري، ولو نسبيا، لها بالقدر الذي يظل "المثقف"، في العمق، حبيس مفهوم "المؤسسة‎"، فهذه الاخيرة، هنا تنشطر على نفسها اي تتكاثر او تتعدد، إلا انها لا تلغى بل تتكرس. والاخطر من ذلك، وكنتيجة منطقية من نتائج الادلجة، تترتب ممارسة ذهنية رتيبة، اخرى، تتمثل في السعي الى ترسيم مهمة حضارية او دور تاريخي (او اجتماعي او اخلاقي او سياسي او ديني، حسب الطبخة) يوكل، افتراضا، الى هذه الجهة او تلك من طرف التضاد، فيركض كل منهما في اتجاهه والعشاء خباّز.
وهكذا. فبموجب هذه السيرورة، نجد انفسنا حيال حركة داخلية عنيدة تحرص على قلب الاولويات رأسا على ذنب. فـ "المثقف" كمعطي حيثي، فردي، ملموس، حيوي وممتليء، لا يتضاءل ليصبح مجرد التعريف فحسب، بل، ايضا، ان هذا التعريف نفسه يتوارى متقلصا الى مجرد الدور الموكل له افتراضا. اي ان الايكال هذا، وبمجرد ترسيمه، يتقادم ويتمصدق لاغيا تاريخه الفعلي، وناكرا جذوره مع كل تربة، محققا لنفسه، عبر هذه العملية، تساميا على امكانية العودة لمحاكمة او لمجرد التيقن من مصداقيته او امكانيته ومن مشروعية اي من عناصره المكونة، ومحققا، ايضا، وجودا مبتزا لكيانه، وجودا قبليا ويقينيا بالضرورة، بينما، هو، لم يكن في الاصل ‎‎إلا موجودا وضعيا محدثا وافرازا حميما من افرازات الذهن. والحال انه كلما تقادم، كلما تمترس، و كلما تمترس كلما اصبحت العودة لمحاكمته لاغية، باستثناء عودة واحدة له هي تلك التي تأخذ طابع الاحتكام اليه.
هذه الظاهرة نجدها، كما اشرنا، في كافة الثقافات بلا استثناء. فملكة البيروقراطية في الذهن عالمية من جهة وكليانية شمولية من جهة اخرى. إلا انها تبدو قدرا لا مفر منه في الثقافات الافقية، الثقافات الخطابية الانشائية التي، ولهشاشة بنيوية فيها، لا تجد لذة تفوق لذة التخبط في طرق لا تفضي تقطعها وتتقاطع فيها مع نفسها، نافذة الصبر، مشحونة بطاقة جليلة، طاقة مستنفرة ومتأهبة لخوض غمار اية معركة باستثناء معركة المراجعة، فهذه المفردة الاخيرة، ولا نعرف بفعل اية قوة لعينة وقاهرة، تصبح لديها مرادفا للهزيمة وللهزيمة وحدها.

وتمثل الثقافة العربية الراهنة نموذجا نموذجيا، بنظرنا، للثقافة الافقية المقصودة هنا، حيث تجد "المثقفين"، حتى الكبار بل خصوصا الكبار، هم الاكثر ارتباكا في تعريف ماهيتهم هذه وفي تحديد دورهم كـ"مثقفين".. لذا تراهم في احسن الاحوال مخلوقات غائمة ونرجسية في ذات الوقت. مخلوقات صار ذكرها يثير التثاؤب اكثر مما يثير الاعصاب او الاعجاب. يتامى ايديولوجيات ونضالات مهزومة يتقمصون ثياب العقل المجرد فيتحلقون حولك في دوائر لا منتهية مرسومة في عوالم متبخترة حتى في اجل لحظات تواضعها اليتيمة. واذا استعنا بتعريف شهير لارسطو، فان "المثقف"، في الثقافات الافقية هو اشبه بـ"برغي في ماكنة الثورة" او بـ"وردة على صدر الامة" او بـ"عبد وضيع في خدمة الشريعة". ففي كل هذه التعريفات ثمة تأكيد على لا شيئية المثقف. ولأنه بلا تعريف، تجد "المثقف" عندنا موضع حدسين متناقضين: موضع قداسة وموضع لعنة في آن. انه المقبل المدبر معا كما على جواد امرئ القيس. وعن هذه الازدواجية الحدسية تتفرع ازدواجية تقييمية مضادة على صعيد الدور، تعبر عنها، في الذهن العام، هذه الحالة الغريبة والباهتة، في القطع بعظمة "دور المثقف" اثناء فترات الاستراحة وفي تركه في البيت اذا جد الجد. انه، بكلمة اخرى، بلا دور، او بالاحرى بدور واحد: "الاخفاق". هذا هو الدور الاوضح الذي يتوهمه الذهن العام للمثقف، والمفجع هو ان هذا الاخير ينتهي عادة، هو نفسه، الى القبول باداء هذا الدور وبابداع دافعا اياه غالبا الى لحظته القصوى: "خيانة الذات". ويقدم لنا جوليان بندا في كتابه "خيانة النخب" تحليلا خاصا لهذه الظاهرة في انتقال المثقف من حالة الـ "انا" الطاووسية المتضخمة الى حالة الـ "انا" العصفورية المتذللة، في ثقافة كانت في لحظة ما ثقافة افقية ونقصد بها الثقافة الفرنسية. وفي نصوص لهم في حضرة انكشاري بليد، يقدم لنا عبد الرزاق عبد الواحد وفؤاد مطر وامير اسكندر، وامثالهم درسا رخيصا، عن اسرع المسالك في تطبيق ذلك.

"متفكر عزلوي فرداني يدافع عن مثل الحرية والعدالة لمجرد الدفاع". بعد ان نميز بينه وبين الشخص الواسع المعرفة، هذا هو التعريف الذي نقترحه للمثقف. وهو تعريف، ندرك، ترفضه الايديولوجيا جذريا لانه يحرمها من أدنى امكانية في توظيف المثقف او تحييده بما ينسجم ورغبتها في اعادة رسم "العالم" الذي تريد و"الانسانية" التي تشتهي و"المثل" التي تتبنى. فـ "لا تفكر لوحدك منعزلا" هو التوبيخ اليومي الذي تحرص كافة الايديولوجيات على توجيهه للمثقف، مدركة ان "التفكير العزلوي" يذهب في الاتجاه المضاد، الاتجاه التدميري، لمفاهيمها الخاصة حول اعادة رسم ـ تغير العالم. لكن هذا التفكير العزلوي يظل رغم ذلك الشرط الوحيد الذي يجعل ممن اداته التفكير والكتابة "مثقفا". لانه العامل الرئيسي الذي يسمح له بالتموضع امام "الحلم" بعالم آت، غير معروف بعد، عالم صعب الصنع لحد الان، لكنه لا بد ان يجيء. نقول "الحلم"، لان المثقف لا يستطيع فعل شيء آخر غير "الحلم". ونقول بـ "عالم آت"، لان الحلم لا يمكن ان يكون الا بصدد عالم آت، فالمثقف بمعنى ما خميرة. واي "حنين" الى عالم ماضوي او "دفاع" عن آخر قائم وحاضر هو خطوة باتجاه تلك "الخيانة". بكلمة اخرى ان التفكير والكتابة اللذين هما يدا المثقف الوحيدتان لا يجب ان يهدفا الى انتاج او مراكمة مخزون من الادوات المعرفية لنشر او تفسير افكار ورموز قائمة او كانت قائمة، انما يهدفان الى حث الحرية في الاخر على المغامرة بمد يدها لغيرها، كاسرة قوة العادة، المكتسبة او الموروثة من اجل صنع مستقبل مفترض. فالمشكلة، وهذه فكرة بنت لحظة صفاء فلسفية محضة وكونية، هي ليست في التيقن من حقيقية الافكار، انما في تثوير قدرة الاخيرة على انتاج مستقبل ما، اي مستقبل، واي انتاج، شريطة ان لا يكونا اعادة انتاج لماض او حاضر ما او توليفة من كليهما. فمع اعادة الانتاج هذه يتحول المثقف اما الى داعية او باحث اكاديمي كافا هكذا عن ان يكون مثقفا. لكنه يتحول الى داعية او باحث أيضا عندما يمتنع عن خوض هذه المغامرة، مغامرة ان يكون "خميرة" لعالم آت ما.
لكن ألا يعني باننا نزعم بأن "المثقف" هو بمعنى ما نقيض الباحث او الداعية؟ ان ردنا على ذلك هو قطعا بالايجاب، حتى اذا كان هذا الباحث او ذاك او هذا الداعية او ذاك، مؤتمنا على كل فلسفات الارض وحاملا لكل ثقافات البشر في جرابه.
نعم، اذن، هناك تناقض وتناقض مغلق. ولمسك هذا التناقض من رقبته من الضروري التمييز بين هؤلاء الثلاثة الذين يتماثلون في استخدام الكتابة والتفكير كادوات، لكنهم يتضادون في غاية الاستخدام من حيث ان الباحث يتكرس لتمجيد المدرسي، الاكاديمي، الماضي، وان الداعية اي الايديولوجي، لان الداعية ايديولوجي بالضرورة، يكرس لترويج وحماية الحاضر وترميمه وان المثقف يتكرس لتأسيس ما هو مجرد "حلم" ومثل ومستقبل.
للوهلة الاولى، بلا شك، قد يتماهى هؤلاء الثلاثة ببعضهم البعض الاخر. بيد ان هذا التماهي لا يجب ان يؤدي الى نفي خاصية التناقض منهجيا بينهم كحالات متمايزة جوهريا. وهي حالات ليست متعاقبة في الواحد او الاخر منهم. كما انها لا ترتبط، بالمقابل، بعلاقة قطيعة حاسمة لديه الى درجة نستطيع معها القول بامكانية اجتماعها، كحالات ثلاث، في نفس الشخص وفي ذات الدقيقة من تاريخه الذهني. ومع ذلك، من غير الممكن ان نخلط بينها آخذين الواحدة كما لو أنها الاخرى. لان كل واحدة منها تواصل في الواقع انتاجا متميزا يقف غير مبال بالتقلبات التاريخية للزمن الانتاجي الطويل الخاص بذلك التاريخ الذهني. غير ان خيطا مرشدا، سريا للغاية، هو الذي يفرز، عند تعقبه، المثقف عن الداعية عن الباحث في ذلك التاريخ ويفرض بالتالي حكمه على مملكة التقييم النهائي الخاص. وهذا الخيط المرشد هو ان المثقف يحمل في نقطة ما من القلب شوقا لا يقهر للاطاحة بالثقافة القائمة. فسقراط وافلاطون وابن سينا وابن خلدون وإراسم وروسو وهيغل وماركس ودوستوفسكي وسارتر والكواكبي وعلي الوردي (اذا اقتصرنا على بعض الكبار منهم فقط، لان المثقفين طبقات تبعا لمضمون حب الحرية لذاتها لديهم)، هم نماذج للمثقف الذي يتكرس للحلم بعالم آت مكنوس من الالغام. وبهذا المعنى، فان التحديد الدقيق لـ "دور" المثقف في راهنية لحظته، يصبح معادلا لالقائه بشكل دقيق في العبودية. اذ ليس ضروريا ان يكون له دور. انما بالعكس. فقط عندما يتحرر "المثقف" من افيون "لعب دور" يصبح مثقفا بالمعنى الذي نتبناه. اذ بهذا التحرر وحده يستطيع ان يجعل نفسه صدى للمستقبل في الحاضر. وفي حالة كما في اخرى، فان القول بدور قيادي للمثقف يجب ان ينفى او يثير الضحك. فهذا زعم أدى دائما الى تحويل المثقف الى مجرد دركي على ما هو آت، والى عدو لدود لكل ما هو حر بذاته.

وللنص صلة.



#حسين_الهنداوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حلبجه 88
- مئات القتلى في حرائق سجون عربية وشكوك حول الروايات الرسمية
- الايام...
- رحيل عبد الرحمن منيف روائي الصحارى المتخيلة
- الديمقراطية الدستورية في العراق وهشاشة التأسيس
- العراق واوهام العرش الفارغ الاحرى بالعراقيين استلهام النظم ا ...
- وجها لوجه مع قوات الاحتلال الامريكية في العراق
- الفلسفة ليست غير الحرية في تعريفها الاول والاخير والاسمى
- اوليفيه روا: -عولمة الاسلام- تجري بسرعة وكذلك فشل الاصولية
- الترجمة الفلسفية إلى العربية ونحو فلسفة للترجمة
- تناقضات التأسيس الأرسطي لمفهوم الاستبداد الآسيوي
- سلطة الرقيق او الاستبداد التابع نظام البعث العراقي نموذجا


المزيد.....




- مسجد باريس الكبير يدعو مسلمي فرنسا لـ-إحاطة أسرة التعليم بدع ...
- جيف ياس مانح أمريكي يضع ثروته في خدمة ترامب ونتانياهو
- وثيقة لحزب الليكود حول إنجازات حماس
- رئيس الموساد: هناك فرصة لصفقة تبادل وعلينا إبداء مرونة أكبر ...
- لقطات جوية توثق ازدحام ميناء بالتيمور الأمريكي بالسفن بعد إغ ...
- فلسطينيو لبنان.. مخاوف من قصف المخيمات
- أردوغان: الضغط على إسرائيل لوقف حرب غزة
- محلات الشوكولاتة في بلجيكا تعرض تشكيلات احتفالية فاخرة لعيد ...
- زاخاروفا تسخر من تعليق كيربي المسيء بشأن الهجوم الإرهابي على ...
- عبد الملك الحوثي يحذر الولايات المتحدة وبريطانيا من التورط ف ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حسين الهنداوي - المثقف بين الحلم وخيانة الذات