أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد حاشوش - صورتي الرائعة















المزيد.....

صورتي الرائعة


سعيد حاشوش

الحوار المتمدن-العدد: 2540 - 2009 / 1 / 28 - 05:56
المحور: الادب والفن
    


جسدي النحيف لا يستوعب الغضب المتورم في ألأعماق .. أرى يدي اليمنى تنشال وتنحط بحركة هستيرية طاردة الذباب المخطط والرائحة الفاسدة التي تخيم على الجهات الأربع . أجد نفسي في مشهد غارق في الإحباط .. أطفال ممزقو الثياب يدفعون عربات ثقيلة ، ترتعش أيديهم خوف انقلابها في الحفر والمستنقعات من مياه بالوعات مفتوحة على ممرات السوق ، النظرة العجلى ، الخطى المبعثرة ، صوتي المبحوح .. المخنوق مثل صوت كل الباعة الجوالين أو المركونين على الأرصفة والزوايا الموبوءة . وجوه مغطاة بالسواد لكائنات تشبه النسوة ، هذه الكائنات تفترش الوحل المتفاقم من رذاذ الماء المرشوش بأيدٍ لاتكف عن طرد الذباب الملتصق بذيول السمك المتدلية من حافات المعاجن المسورة بدائرة من السواد . الكائنات الشبيهة بالبشر تنق بصياح مزمن وتفرج مابين الساقين وتضغط بفخذين سمينين على حافات الوعاء المركون بصمت أبدي . ثمة بياض ملحّ على الانبثاق من شقوق البيجامات المتفتقة بسمانات لحم طري . امرأة هائلة الحجم تجلس القرفصاء تنفرد ببيع الكروش والجماجم وأمعاء ماتنفك تلتوي وتبصق سائلا أصفر ، يدها اليمنى تلوي الأنابيب الوردية ليا يذكرني بكعكة الأفعى ، كنت مأخوذا بالأحشاء الملتوية ، الجماجم المبقورة الدماغ ، ورأس الجاموسة المبيضة العينين تبحلق مليا بصمت أبدي حين توقف الدانمركيون بدوريتهم الراجلة ، المرأة الهائلة الحجم والتي هي بلا ملامح تفقأ عين الجاموسة لحظتئذ احتج الذباب وطن ملتصقا بالفاكهة التي أبيعها . يصيبني مس من الجنون حين أنش الذباب لكنه يعاود الالتصاق بإصرار كالمخبول .. كيف أبيع الموز حين تختفي صفرته الشاحبة وراء أكوام الذباب ؟ قالت قائدة القوة الدانمركية الراجلة بلغة انكليزية ضعيفة وعيناها لا تفارقان الأمعاء المسلوقة بالتيزاب..
ـ هل يوجد من يتحدث الانكليزية ؟
خفت أن أقول أنا كي لا يتهمني الباعة بالتعاون مع الاحتلال
ـ في الحقيقة ـ شعرت بالوضاعة حين انقلبت عربة يقودها طفل منغولي واندلقت أحشاء معدة جاموس على الوحل .. فوجئت بالسيدة الدانمركية تقول بعربية مضحكة .
ـ أنا النقيب كريستينا أريد أن أسأل فقط ماذا تفعلون بهذه ..
ولم تسعفها اللغة بإيجاد كلمة مناسبة قلت بدون أن يوعز لي أحد بالإجابة .
ـ هذه اللحوم يأكلونها ..
ورأيتها تلتفت باندهاش تبحث عن كائنات لا تشبهنا نحن البشر .. عادت تسأل بإلحاح ..من ؟ قلت بلا مبالاة :
ـ نحن .. كلنا .. حتى أنتم .
راحت تزم شفتيها النحيفتين امتعاضا وتتحدث مع رفاقها بلغة أجهلها .. تجمع بائعو علاقات النايلون حول السيدة الرشيقة ، اندهشت حين وجدت نفسها وسط حشد من الأطفال والمراهقين .. تفلت من الدائرة بصعوبة .. تقترب من سلالي المليئة بالمشمش والموز المعلق بخيوط تتدلى من قضبان حديدية .. يدي اليمنى ازدادت هستيرية .. بلا وعي .. تلاحق الذباب .. انتصبت مستعدا لخفايا مجهولة وبدون أن أعي قلت لها بالأنكيزية : - أتمنى ياسيدة كريستينا أن تخلصوننا من هذه الجيف ، هذا أيضا إرهاب لكنه نتن .. أقبح إرهاب هو عيشتنا القذرة .. تجمدت السيدة في وقفتها وعطرها النفاذ يخترق بقوة أنفي المكسور عظمة فوق عظمة .. تعلقت عيناها بوجهي ( وجهي يشبه فلاحي القرى البعيدة ) .. هي بالتأكيد لاتستطيع أن تستوعب مايحدث .. كيف أجيد الانكليزية وأبيع الفاكهة وسط هذه الجيف .. قلت : ياسيدة .. اشتروها وخلصونا من المرض .. فوجئت بابتسامة رسمت غمازتين على جانبي الوجه المغطى بخوذة عسكرية .. واليد البيضاء .. عيناي ترقبان اليد حين اختفت في جيب بدلتها العسكرية وبلمح البصر رأيت عشرة دولارات تطوح بها أمام ناظري .. ولأول مرة أرى الدانمركيين يتخلون عن وضعهم العسكري المألوف ببنادق مصوبة على كل الاتجاهات وكثرة الالتفاتات للخلف .. تناسوا مهمتهم العسكرية وانحدرت أفواه الجي سي للأرض .. قالت السيدة : لماذا لاتشتغل معنا مترجما أفضل من هذه .. أجبت بعصبية هذه أشرف مهنة في العراق أبيع وأشتري أنا حر .. وكررت كلمة حر .. أجابت باحترام جعلني أعيد احترام المرأة على سطح الأرض .. أستاذ أنت تشتري هذه الجيف واشحنها بساحبة كي تحرق بعيدا .. سنأتي هنا كل يوم ... في هذه اللحظة بعصها طفل قميء بحركة مستهترة قفزت المرأة مندهشة تلفتت للطفل الذي هرب بضحك يشبه البكاء ورأيت حمرة الخجل تغطي الوجه وقد تكون حمرة الغضب . عادت القوة الراجلة لوضع عسكري يكثر التلفت لكل الوجوه المتشابهة .. لكن عينيها ماتنفكان تبرقان بنظرات حزينة .. تجمع الباعة حولي وبعض المتسولين وبهمة .. اشتريت الجيف والأسماك الفاسدة ولم أجد سيارة بيك آب للتحميل .. لا يمكن أن تدخل سيارة إلى ممرات السوق .. كريت عربات يدوية وأخذنا نزيح القمامة المتكدسة لخضار عفنة أيضا .. لا أعرف كم من الوقت مضى لكني متأكد بأن الدنمركيين سيعودون على نفس الطريق بعد تفتيشهم اليومي بحثا عن عبوات ناسفة . صرفت العشرة دولارات .. فاكهتي اختفت وغدت بلون أسود يطن الذباب وتحاصرني الأسئلة .. متى يأتون ؟ وجوه غير مألوفة السحنات تسأل بإلحاح فما كان مني إلا أن أصرخ باحتجاج : وما علاقتي بالدنمركيين .. أعني الاحتلال .. إلا أني تحدثت معهم ؟ ما ذنبي أن أكون خريجا ولم أعين بوظيفة بعد .. بل لا أعين على الإطلاق لأن عمري تجاوز .. لكن احتجاجي ذهب أدراج الرياح حين رأيت سيارات بيك آب بيضاء استطاعت أن تشق لها طريقا بين النسوة المقرفصات وسط جلبة من اللغط والسباب والصياح .. عربة يجرها حصان أجرب بحوذي ممسوس بضرب الحيوان كي يلحق بالسيارات .. أصبت بالخرس حين قذفت السيارات جثثا وكروشا وسيقانا منزوعة اللحم .. درت حول نفسي كالمخبول ، أصحاب العربات اليدوية عادوا بالجيف دون أن تحرق في مجمع القمامة .. ياالهي .. كيف جاءت كل هذه الجيف وبهذه السرعة ؟ .. اللعنة على الهواتف المحمولة ، نزل أحد السائقين متجها نحوي بخطى وئيدة وثابتة يتحدث بلهجة آمرة :- أين أصحابك الأجانب الأنجاس .. شل لساني ولم أستطع الإجابة .. هم يأكلون الكلاب وبالتأكيد سيشترون هذه الجثث بأسعار عالية .. وقفزت المرأة الضخمة التي بلا ملامح معاتبة السائق متحدثة عن جثة بلون أحمر :- هذا الحمار حين سلختموه يجب أن تقطعوا ذيله وتخيطوا له ذيل بقرة ، عاد الأطفال يتقافزون كالأرانب وثمة مرح بين الجزارين وبائعي الكروش والهياكل العظمية . شعرت بالإحاطة من رجال قساة ونساء ملغاة الوجوه والأسئلة والرائحة القاتلة .. قالت الكتلة الهائلة الحجم : - نحن نسرق لقمتنا من أفواه الكلاب لنبيعها للكلاب .. لماذا لا تتعاون معنا وتستفيد .. رحم الله من أفاد واستفاد .. أفضل من التعاون مع هؤلاء الأنجاس .. صرخت بكل ما أوتيت من قوة .. أنا بائع فاكهة وليست لي علاقة بالاحتلال .. وثمة صمت خيم بشكل غامض على الأفواه المثرثرة عن كل شيء .
رأيت الدنمركيين عادوا وبنادقهم مصوبة باتجاهات أربع .. نظرت بوجهي النقيب كريستينا شاهدت في تلك النظرة حقدا غريبا وكأني أنا الذي تاجرت بهم .. هزت رأسها بيأس حين رأت الجيف أكواما وثمة من يخزني من الخلف .. هيا .. تحدث معهم .. فما كان مني إلا أن شعرت بوضاعة عجيبة وإثم لم أقترفه وإحباط مزمن ، أخذت أضرب رأسي بالقضيب الحديدي الذي تتدلى منه عناقيد الموز .. أصرخ ملتاعا .. حينها طار الذباب مندهشا .. أنا لاأتحدث معهم ولاأتحدث معكم .. بقيت أضرب رأسي كالمخبول وسائق البيك آب يهزني بعنف :0 سنرتب بيع الكروش للأجانب كما نريد لاكما يريدون .... سالت الدماء من جبهتي والتصق الذباب بالدم المسال ويأس باعة الجيف وتركوها أرتالا مكومة وثمة ذباب أزرق يغزوا ويهاجم كل الوجوه .
شعرت بالصغر تحت هول القذارة .. أشعر إني منحط .. منحط إلى حد الرثاء .. كأني سرقت الدولارات العشر .. أصرخ بجنون .. لاأحد يسمع صوتي .. أركل الكروش .. أدوس على الهياكل العظمية .. أرفس .. تتطاير الجيف على كل الوجوه المبحلقة .. في تلك اللحظة أعادتني للوجود لمعة ضوء خاطفة .. ضوء شمسي .. وعرفت أن الدنمركيين التقطوا لي صورة فريدة وأنا أمسك كرشة بيدي اليمنى وأذن رأس جاموسة مبيضة العينين ووجهي ملون بألوان شتى من براز ودماء .. ابتسمت كريستينا وقالت صورة رائعة يمكن أن تسحبها عن طريق الانترنيت ..دبليو .. دبليو .. دبليو .. فيمونت أو .. لم أسمع جيدا أعتقد إنها قالت مونت دونت كم .. جيف مكومة ومغطاة بذباب أزرق يهاجم الوجوه الحية .. يهاجمني .. وابتعد الدانمركيون خوفا من الذباب الذي يغزوا بجرأة وانتبهت لفاكهتي المبقعة بالسواد .. وكمن صعق بالكهرباء قفزت حين بعصني طفل ما من الخلف وجعلني أسب الاحتلال والكروش والذباب .. حين توقفت بغتة أدركت بأني كنت أسب وأشتم نفسي بأقبح الألفاظ وثمة دائرة من البشر الملثمين ونساء بوجوه سود يلتفون



#سعيد_حاشوش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوجهاء
- قوس قزح أبيض...قصة قصيرة
- نحن الحطب بعد شتاء أكلتنا الأرضة
- اليحامير


المزيد.....




- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...
- -الوعد الصادق:-بين -المسرحية- والفيلم الأميركي الرديء
- لماذا يحب كثير من الألمان ثقافة الجسد الحر؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد حاشوش - صورتي الرائعة