أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - الخاطئة















المزيد.....



الخاطئة


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2537 - 2009 / 1 / 25 - 06:19
المحور: الادب والفن
    


رواية -


الطبعة الأولى – 1998م

الصوت الأول

ما أن وقعت عيناي على هنادي حتى شعرت بانجذاب إليها . وبدا لي وجودها في ذلك المكان أمراً غير طبيعي. ولو كنت صادفتها في الشارع لحسبتها تلميذة في مدرسة ثانوية من الصنف المعتد بجماله. ولم تكن تضع مكياجاً على وجهها خلافاً لجميع النزيلات. لكنها في الحقيقة لم تكن في حاجة إلى مكياج. فبشرتها شمعية شفافة مشربة بالحمرة، وخداها موردان، وشفتاها قرمزيتان، وعيناها السوداوان الواسعتان مكحلتان طبيعياً. كانت متميزة جدا بين النزيلات اللواتي يحتللن ركنا من الصالة0
قلت لحميد: لاشك أنها نموذج فريد من "العصفورات" يا حميد.
فقال : من حسن حظنا أننا مررنا بـ "كرادة خارج".
* * *
في مساء الخميس حاصرتني رغبة قوية في رؤية هنادي، فمضيت إلى "كرادة خارج" بمفردي. ولم يبدو عليها أنها عرفتني. وعجبت كيف نسيت وجهي في أيام قلائل. ولكنني قلت في نفسي: وأية غرابة في ذلك ؟! فهي أكثر النزيلات زبائن ما تكاد تخرج من غرفتها حتى تدخل مع آخر.
والغريب في أمرها أنها لم تكن معنية باجتذاب الزبائن بل كانت تخزرهم في ترفع وكبرياء. وقد حَييتها بأدب فلم ترد عليّ. وقلت كلمات رقيقة فتجاهلتها. وسرعان ما استلقت على الفراش وتهيأت لمهمتها وكأنها تؤدي عملاً وظيفياً.
* * *
كانت مجموعتنا قد اعتادت على الالتقاء مساء كل خميس في "مشرب الجندول" في شارع أبي نؤاس"". وكنا مجموعة من المحامين الشباب نرتبط بزمالة المهنة وصداقة أيام الدراسة. وكنا نمضي الجزء الأول من سهرتنا في احتساء الشراب والجزء الثاني في زيارة أحد نُزُل “البتّاوين”. وقد تخيرَنا عدداً من تلك النُزُل خصصناها بأرقام معينة وسّمينا نزيلاتها بـ "العصفورات".
قال حميد ونحن نتهيأ للجزء الثاني من السهرة : ما رأيكم لو زرنا "رقماً" جديداً وتعرفتم إلى عصفورة جديدة؟
فقال هادي: وهل هناك “رقم” لم نزره في “البتّاوين” ؟
قال حميد: هذا "الرقم" ليس في "البتّاوين" بل في "كرادة خارج".
قال أكرم: وما الذي يدعونا للذهاب إلى مكان بعيد و"الأرقام" على بعد خطوات منا؟
قال حميد: أُؤكد لكم أنكم لن تندموا إذا ما رأيتم العصفورة الجديدة.
ثم التفت إليّ متسائلاً: أليس كذلك يا نبيل؟
قلت في فتور: صحيح أنها عصفورة لطيفة ولكن ليس إلى هذه الدرجة.
قال حميد: ولكنك أُعجبت بها، فما الذي غيرّ رأيك فيها؟
فقلت: أنا لم أغيرّ رأيي غير أنها قد لا تستحق كل هذا العناء .
قال ناجي محتجاً: وما معنى هذه الخيانة؟! تزوران أرقاما من وراء ظهورنا؟
وقال فخري وهو يقهقهً: يبدو أنكما لستما شريكين في مكتب المحاماة فقط بل في المغامرات أيضاً.
وعقب سعيد: وفي خارج البتّاوين.
قال حميد: كانت مصادفة لا أكثر. وعلى كل حال أنتم مدعوون للتعرف على هذا "الرقم" الجديد.
قال أكرم: لا أظننا في حاجة إلى هذا العناء فكل العصفورات متشابهات.
قال حميد: أؤكد لكم أنها مختلفة.
قال ناجي: لنمتحن ذوق حميد فإذا لم يعجبنا غرّمناه اللأجر .
قال حميد: أنا موافق.
فقلت: أما أنا فلن أكون رفيقكم هذه الليلة فأنا متعب.
ولا أدري لماذا اعتذرت عن مرافقتهم مع أنني كنت تواقاً لرؤية هنادي.
* * *
في الخميس التالي اقترحت على الصحاب أن نمضي الجزء الثاني من سهرتنا في رقم “1”. فقال حميد: ولماذا لا نمضيها في الرقم الجديد؟
قال أكرم : أنا لست مستعداً لأن أضاجع امرأة تتعالى عليّ.
وقال فخري وهو يقهقه : وأنا غير مستعد لأن أضاجع لوح جليد!
قال ناجي: هيا بنا إلى رقم “1” فهو أقرب الأرقام إلينا.
وقصدنا رقم “1”. واستقبلتنا العصفورات بالترحاب. وأقبلت عليّ نجية وسحبتني من يدي إلى غرفتها. تأملتها وهي تتمدد على الفراش عارية وقد غرق وجهها بالمساحيق. وطفرت إلى ذهني صورة هنادي بوجهها الأنيق الأشمَ فتسمرت في مكاني. تساءلت نجيّة: مالك يا عيوني؟ لماذا لا تأتي إلى الفراش؟
أخرجت مبلغ المال المعهود ووضعته على الطاولة وقلت: عفواً نجية. أرجو أن تعفيني فأنا متعب هذه الليلة.
* * *
حين تهَيأ الصحاب في الخميس التالي لتمضية الجزء الثاني من السهرة وجدتني أقول فجأة: عفواً يا جماعة، فلديّ التزام عائلي يضطرني للعودة مبكراً إلى المنزل.
وأسرعت إلى “كرادة خارج”. وما أن احتوتني غرفة هنادي حتى استقبلتني بتجاهلها المعهود. خاطبتها برقة فلم ترد عليّ. نضت عنها رداءها بصمت واضطجعت في سريرها. وخيّل إليّ وأنا أراها متمددة في فراشها أنها إحدى الدمى التي كان يستخدمها الجنود أيام الحرب للترفيه عنهم.
* * *
حينما توجهت إلى “كرادة خارج” في الخميس اللاحق كنت واثقاً أن هنادي ستتعرف عليّ هذه المرَة. لكنها رمقتني في استعلاء وكأنها لم ترني من قبل. فتسمرت في مكاني والحيرة تعصف بي. ثم لفت انتباهي كتاب فوق المنضدة فأخذت أتلهى بتصفحه. كان كتاب طه حسين ”المعذبون في الأرض”. ترامى إليّ صوتها الباهت: دورك.
تفرست في وجهها فخيّل إليّ أنه يتفجر بقرف الدنيا كله. قلت محاولاً استدراجها إلى الكلام: عفواً.. يبدو أن أحدهم نسي هذا الكتاب هنا.
فالتزمت الصمت وعيناها معلقتان بالسقف. ثم عادت تقول بصوتها الباهت: دورك.
اتجهت إلى السرير متثاقلاً وقد تلاشت رغبتي.










الصوت الثاني
مالك تقلّب الكتاب في عجب؟ لعلك تستنكر أن تقرأ واحدة مثلي كتاباً لطه حسين. ولكن اعلم أنني أحب أدب طه حسين أكثر من أي واحد منكم. هيا تقدم أيها الذئب البشري لتمتهن جسدي.











الصوت الأول
صرت أتهيب اقتحام غرفة هنادي. وكلما احتوتني تجاذبتني قوتان؛ واحدة تجرني الى السرير، وأخرى تشدني بعيداً. وكم من مرة هممت وأنا أتخفف من ملابسي أن أعود أدراجي. ولم تنطق هنادي خلال أسابيع سوى كلمات معدودات. ولكنه كان صمتاً يضج بالترفع والكبرياء.












الصوت الثاني
إنه يحضر في ميعاده خلافا لتوقعاتك، فهو مازال راغباً في جسدك حتى بعد أن اكتشف أنك تقرئين طه حسين. وإن وجهه يعكس تردداً وهو يتأهب لافتراسك. لكن الولوغ في جسدك فوق كل شيء أكنت تقرئين طه حسين أم لا تقرئيه. فأنفاسه تهب عليك حارة خانقة وهو يفترس جسدك.













الصوت الأول
امتلأت إعجابا بهنادي وأنا اسمعها تصرخ في وجه ذلك الجلف "أنا لست عبدتك حتى أأتمر بأوامرك” وإذا به ينفجر كالبركان. واشتد هياجه حين رأى الزوار ينسلون خارجين حتى لم يبق في الصالة سواي. وتقدمت منه الرئيسة محاولة تهدئته فدفعها دفعة قوية ألقت بها على الأرض. ثم انهال على هنادي ضرباً ولكماً ورفساً وهو يلوح بمسدسه. فما شعرت إلا وأنا أهجم عليه وأنتزع المسدس من يده. وإذا به يركع على قدمي مولولاً: “لا تقتلني الله يخليك” وما أن أفلته حتى ولىّ هارباً. وأحاط بي النزيلات وهن يزغردن إلا هنادي التي لا زمت موضعها وهي مقطبة الوجه. وعجبت أي امرأة غريبة هنادي هذه.







الصوت الثاني
كان لابد لك أن تفعلي ما فعلت حتى وإن أغضب ذلك الرئيسة الكلبة. فلم يكن هذا الوحش سوى ذئب بشري جائع. يريد أن يفرض نزاوته عليك كما يفعل أصحاب النفوذ. ألا يكفيك ما تلقينه من إذلال ومهانة حينما يرسل في طلبك صاحب السيوف والنجمات وصاحب المعالي ليشبعا نزواتهما الشيطانية؟! على الأقل هذا الحيوان ليس ذا سلطان يضطرك للانصياع لنزواته الشاذة . كل ما هنالك أنه مستعد لأن يدفع أكثر. وإنه ليتخيل أن بوسعه أن يشتريك بماله ويشتري انسانيتك . إخسأ أيها الحيوان الحقير فأنا لا أزن مالك بكعب حذائي.
وأنت أيها الذئب الآخر الذي يرتدي مسوح الرهبان. هل تحسب أنك كسبتني بتصرفك العنتري؟ كلاكما وحش على شكل إنسان. ولعلك توقعت أن أشبعك ضماً وتقبيلاً لما فعلته من أجلي. لا..لا أيها المرائي. لقد كان صراعكما صراع ديكة من أجل الدجاجة. ولاشك أنك معتاد على هذه المعارك في بيوت النخاسة. ولكن عليك أن تفهم أن مناورتك هذه مكشوفة لديّ ولن تخفي حقيقتك عني.

الصوت الأول
قررت أن تكون تلك الليلة آخر ليلة ترى فيها عيناي نُزُل “كرادة خارج”. وداخلني الاطمئنان وأنا أتخذ ذلك القرار. فقد بدأ يقلقني تعلقي بهنادي. ولولاها ما تعرضت لذلك الموقف المخزي. فما أن دخلت الصالة حتى بدا لي شيء مريب في سلوك الرئيسة تجاهي . فقد استقبلتني بترحاب غير اعتيادي، وأصرت على أن أنتقل إلى مقعد بجوار كرسيها الفخم الذي يتصدر الصالة الفسيحة. وشكرتني على موقفي وقالت: "إن أيّ شخص أخر لم يكن ليقوم بما قمت به إن لم يكن شجاعا وأنت عوضت خير تعويض عن غياب الحارسين". ثم أضافت وهي تحدق في وجهي بقحة: " وموقفك الشجاع جعلني أفكر في ضمك إلى الحارسين وسأكافئك مكافأة سخية. وطبعاً سيكون شرف عظيم لك أن تنضم إلى حرس الرئيسة زنّوبة فما رأيك؟" ووقع عليّ كلامها وقع الصاعقة، وأحسست كأن ناراً لاهبة تندلع في جسدي. وكانت هنادي تراقبنا من بعيد. وأردت أن أقول شيئاً لكن الكلمات الغاضبة تلاطمت على شفتي. فنهضت فجأة وغادرت المكان.


الصوت الثاني
لم تخب ظنوني فيك. إظهر على حقيقتك أيها المرائي..يا من يرتدي مسوح الرهبان. لقد كنت بارعاً في إخفاء حقيقتك لكن الرئيسة الكلبة كشفت لعبتك وستضمك إلى كلبيها “منكر” و ”نكير”. ويظهر أنك كنت تخطط للالتحاق بهما. فما بالك تتظاهر بالغضب؟! أهذا جزء من اللعبة؟ على كل حال أنتِ أعرف بقواعد اللعبة أيتها الرئيسة الكلبة، ولاشك أنك واثقة أنه إذا كان قد خرج غاضباً اليوم فلن يطول غيابه.










الصوت الأول
كنت أتوقع ما سألاقيه من عناء جرّاء قراري. فزيارة هنادي باتت من ضرورات حياتي. ولقد أحسست بما يشبه الضياع وأنا أشارك الصحاب في سهرة الخميس. وكنت طوال الوقت مشتت الذهن أكاد أكون غائباً عمن حوالي. وقد سألني أكرم: ماذا بك يا نبيل؟ أأنت مريض؟
فقلت: فعلاً. أنا أعاني من صداع حاد.
قال حميد: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا تنصرف يا نبيل؟
وقال فخري وهو يقهقه : خصوصاً وأنك ما عدت تشارك في الجزء الثاني من السهرة لأنك صرت حنبلياً.
فقلت: بل على العكس. سأشارككم هذه الليلة فليس لديّ ارتباطات عائلية.
واختار الصحاب رقم “1” فسرني ذلك . فأنا أرتاح لنجية . ومع ذلك وجدتني عازفاً عنها. سألتني: مالك يا عيوني؟
فقلت: بي صداع حاد يا نجية.
نهضت مسرعة وهي تقول: سأعد لك شراباً من ““ورد الجوري”” يزيل صداعك في الحال.
ولقد خفف الشراب من صداعي.

















الصوت الثاني
مالك تتفحصين الوجوه كلما أطللت على الصالة كأنك تتوقعين رؤيته بين المنتظرين؟ ومالك موزعة العاطفة بين الأسف والرضى ؟ لقد انتصف الليل ولم يحضر. لا شك أنه يلعب لعبته ببراعة ليكسب أكثر. هذا كل ما في الأمر. حذار يا بدور.. حذار. لقد لقنتك الحياة دروساً قاسية وعليك أن تعيها. فكل الرجال ذئاب00 ذئاب خسيسة.











الصوت الأول
انقضى الأسبوع في عناء لكنني انتصرت. ولم اتوقع هذا النصر. .كنت أخشى أن تنهار إرادتي في اللحظة الأخيرة. لكن الشوق إلى هنادي دوّخني في الأسبوع التالي. وتدنّت مقاومتي باقتراب يوم الخميس، وأيقنت أنني قاصد “كرادة خارج” لا محالة.
وفي مساء الخميس تهيأت لزيارة “ كرادة خارج”. وتخيرت ملابس أنيقة لم أكن أرتديها إلا في المناسبات. ووقفت أمام المرآة أضع اللمسات الأخيرة لهندامي. وفجأة رأيت وجهي المنبسط يتغير شياً فشياً حتى أنكرته. واتقدت عيناي غضباً. وهتفت في هياج وأنظاري مسمرة على صورتي: “ألا تخجل من نفسك أيها الرجل؟ أنسيت أن الرئيسة اختارتك قوّاداً لها؟” وفي الحال فككت ربطة عنقي وألقيت بها بعيداً. وتناثرت قطع ملابسي في الهواء.






الصوت الثاني
فات موعده ولم يحضر. لا شك أنه لن يحضر. ولن أراه مرة أخرى.وعليً أن أعترف أنه لم يكن يدبر لعبة خسيسة. ولكن هل يمكنك تصديق ذلك؟ يعرّض حياته للخطر من أجل سواد عينيك؟ كوني واقعية يا بدور ولا تصدقي هذه اللعبة. وتذكري لعبة هاني. وحذار يا بدور.. حذار. لا تصدقي أن في الرجال خير. فكلهم ذئاب جائعة.












الصوت الأول
اعترفت لنفسي بأنني عاجز عن الصمود إلى النهاية، وأن نزل “كرادة خارج” شر لا بد منه. وناقشت ما حدث في حيادية فاقتنعت بأنني مبالغ في التحامل على الرئيسة. فسلوكي في تلك الليلة كان مشجعاً لها على التفكير في الانتفاع من جرأتي.
في نهار الخميس أبلغت حميد باعتذاري عن المشاركة في السهرة. وهرعت إلى “كرادة خارج”. وأرسلت إليّ الرئيسة من فوق كرسيها الشامخ نظرات تنطوي على التجاهل والاستصغار.
أطلت هنادي من فوق سياج الطابق العلوي وأومأت لصاحب الدور وهمّت بالانصراف. ثم توقفت فجأة وتسمرت عيناها عليّ. ولاحت ابتسامة ضئيلة على وجهها. لكنها واجهتني بنفس المظهر اللامبالي حين ضمتني غرفتها، بل إنها بدت أشد عجرفة. واجتاحتني خيبة أمل مريرة وأنا أتأملها مضطجعة في الفراش ووجهها يطفح بالاحتقار. أخرجت النقود ورميتها على المنضدة وخرجت.



الصوت الثاني
ماذا جرى لكِ يا بدور؟ لماذا خفق قلبكِ وأنتِ تلحظينه بين المنتظرين؟ لقد أوشكتِ أن تدعيه إليكِ متجاوزة الآخرين. كيف يمكن أن يحدث هذا لكِ؟ أنت التي تزعمين أنكِ وعيت دروس الحياة ؟ حذار يا بدور.. حذار. عليكِ أن تتعقلي. في كل مرة تطلّين على المنتظرين تخالسينه النظر. ستقعين مرة أخرى في الفخ يا بدور. أتراك نسيت الفخ الذي نصبه لك ماهر؟ إنهم جميعاً بارعون في نصب الفخاخ. كل ينصب الفخ بطريقته الخاصة. وإنه لينصب لك فخاً على طريقته.. كما نصب لك ماهر فخاً في قصائد الغزل التي سلبت عقلك وأسلمتك إلى هذا الماخور. كوني أذكى منه يا بدور. برهني له على أنك لم تبلعي الطعم وأن ألاعيبه لم تنطل عليك.







الصوت الأول
غادرت النزل غاضباً. واستوقفت أول تاكسي صادفته ليحملني إلى منزلي. لكنني قلت للسائق فجأة وأنا في منتصف الطريق: “حوّد بي على مشرب الجندول في شارع أبي نواس من فضلك”.
واستقبلني الصحاب بحرارة. قال حميد: أنا أبلغت الجماعة باعتذارك يا نبيل.
فقلت: حسبت أن ظروفي لن تسمح لي بالحضور.
قال فخري وهو يقهقه ً: إذن لا عذر لك اليوم في مشاركتنا في الجزء الثاني من السهرة.
فقلت: وهو كذلك.
ومع أنني لم أدرك السهرة في بدايتها لكنني احتسيت من الشراب أكثر مما اعتدته. تساءل أكرم ونحن نتأهب للجزء الثاني من السهرة: ما رأيكم في أن نزور اليوم رقم “3”؟
فقلت بحماس: أنا اليوم من مؤيدي رقم “1”.
قال فخري وهو يقهقه : ألا تلاحظ أنك صرت من المدمنين على رقم “1”، يا نبيل؟ فماذا عدا مما بدا؟
قال سعيد: لا تنس يا فخري أن رقم “1” أحبّ الأرقام إلى قلوبنا جميعاً.
واستقبلتني نجية برقتها ولطفها المعهودين. وداخلني الارتياح وأنا أتمدد بجوارها. لكن صورة هنادي قفزت إلى ذهني وتشبثت به. وكلما حاولت إبعادها ازدادت تشبثاً. وأخذت تكبر وتكبر أمام عيني حتى ملأت فضاء الغرفة. قالت نجية وهي ترمقني بقلق: مالك يا عيوني؟ أنت تبدو منزعجاً.
فقلت: صداع حاد يا نجية.
قالت متوجعة: ماذا أصابك يا عيوني؟ هل أصابتك عين؟ صار الصداع يلازمك.
وقامت لتحضر لي شراب “ورد الجوري”.
* * *
لازمتني أحداث الخميس طوال الأسبوع. وكلما فكرت فيها ازددت حيرة وعجبا. فلم يكن ثمة شك في أن هنادي سرت برؤيتي. فقد انبسط وجهها ولاحت بسمة مشرقة على وجهها. وكنت واثقا أنها ستستقبلني هذه المرّة بالترحاب. فما الذي غيرّها؟! ولماذا واجهتني بذلك الجفاء؟ وصممت ألاّ أعاود زيارتها بعد أن لمست منها كل ذلك الإهمال والاحتقار.


الصوت الثاني

هل سيحضر ليلة الخميس؟ اعترفي يا بدور انك قسوت عليه. كان وجهه وهو يفارق الغرفة يعكس كدراً عظيماً. أيمكن أن يكون بارعاً في التمثيل إلى هذا الحد؟ عليك أن تعترفي بأنه لم يبدر منه منذ عرفته ما يسيء إليك. كان دائماً مثال التهذيب00 لا.لا. انه لا يختلف عن أي ذئب بشري آخر. ألا يحضر إلى هنا لكي يمتهن جسدي؟… لكنه كان دائماً رقيقاً معك خلاف الآخرين. ولا تنسى انك لست سوى سلعة يدفعون ثمنها. وليس من حقك أن تتشرّطي عليهم سلوكاً خاصاً تجاهك. فما أنت سوى كلبة نجسة تمتطيها الذئاب الجائعة.. لكنني آدمّية وسأبقى آدمية رغم أنوفهم. أنا لا أبيعهم سوى جسدي. وهو ليس سوى القشرة التي تغلف روحي.. روح بدور النقية الطاهرة. أنا أفضل منهم جميعاً. إنهم ليسوا سوى حيوانات. وما أبشعهم وهم يتسلقون جسدي ويمارسون أحط الحركات..وما أبغض أنفاسهم وهي تلفح وجه00 ولكن عليك أن تعترفي أنه كان مهذباً معك دائماً، وأنك كنت خشنة معه دائماً. وكم من مرة حاول فيها أن يقول لك كلمات رقيقة فصددته.. أنا لست في حاجة إلى كلمات رقيقة يُتصدق بها عليّ. أنا بدور التي كان يمكن أن تصير أديبة مرموقة لولا ماهر الكلب. ولن أنخدع أبداً بكلمات رقيقة يُتصدق بها عليّ.
















الصوت الأول
صرت أفهم المعاناة التي يكابدها مدمني المخدرات. فما أن اقترب يوم الخميس حتى حاصرني شوق لا يقاوم إلى هنادي. وفي مساء الخميس مضيت إلى “كرادة خارج” وأنا مسلوب الإرادة. وأخذت مكاني بين المنتظرين. وكما حدث في الخميس الفائت أضاء وجه هنادي الجامد حينما وقع بصرها عليّ.
عندما دخلت الغرفة ألقيت عليها تحية متحفظة. ودهشت وأنا أسمعها ترد عليّ بتحية رقيقة. راقبتها في عجب وهي جالسة على طرف السرير ساهمة الوجه. تساءلت بصوت خافت: أأنت مستعجل؟
سارعت أقول: أبداً.. أبدا.
أشارت إلى مقعد بجوار السرير وقالت: ألا تجلس قليلاً؟
قلت ً: بكل سرور.
ساد صمت متوتر لدقائق كانت هنادي خلاله مطرقة. ثم رفعت رأسها وقالت وهي ترميني بنظرة سريعة: أتحب الأدب؟
قلت في حماسة: أنا ً من عشاق الأدب..ومن محبيّ طه حسين بالذات.
أضاء وجهها وقالت ببطء:أنا أيضاً أحب طه حسين.
قلت في حماس: كلانا إذن من عشاق طه حسين.
قالت بلهجة مترددة: أنا قرأت كل رواياته.
فقلت: إذن أنت قرأت منها أكثر مما قرأت.
قالت دون أن ترفع أنظارها : ربما تقول ذلك مجاملة لي.. ولعلك لا تصدق ما قلته.
قلت بلطف: أنا اصدقك.. وعفواً لا تسيئي بي الظن.
أطرقت ثانية. ثم أخذت تنضو عنها رداءها ببطء. قالت بصوت خافت: أظنني أخذت من وقتك أكثر من اللازم.
قلت في لطف وأنا أضع يدي على كتفها: بالعكس..أنت أدخلت السرور على قلبي.
نهضت متباطئا ووضعت المبلغ المعهود على الطاولة وغادرت الغرفة عجلا.







الصوت الثاني
كفاك عناداً يا بدور واعترفي بأن حضوره قد سرّك. بل إنكِ كنت تترقبين حضوره بشوق. أفلم تقتنعي بعد بأنه يختلف عن غيره ؟! أيمكن أن يكون ما وقع تمثيلا ؟ كم كان مهذباً. التهذيب.. هذا الذي تفتقدينه في كل ذئب بشري عرفته. والآن وأنت تستعيدين سلوكه معكِ منذ عرفته يتبين لكِ أنه كان مهذباً منذ الليلة الأولى.. وأنكِ منجذبة إلى وجهه الباسم وإن أبيتِ أن تعترفي بذلك. وهو لا يشبه الذئاب البشرية في شيء. كل ما في الأمر أنه يؤدي ما لجسده من حق عليه. وهو لم يفكر مرة أن يمتهن جسدكِ كما يمتهنه الآخرون. ولقد احترمكِ وأبى أن يؤذي مشاعرك منذ عرف أنك من عشاق الأدب. أفليس هذا دليلاً على أنه لا ينتمي إلى الذئاب البشرية ؟ أنت سعيدة.. اعترفي بذلك يا بدور.. سعيدة لأول مرة منذ زمن طويل.






الصوت الأول
اتجهت إلى " كرادة خارج" وأنا أحمل معي رزمة من كتب طه حسين. واستقبلتني هنادي ووجهها يترقرق بشرا. قالت في شيء من الحياء وهي تقتنص من وجهي نظرة سريعة: ألا تجلس قليلا ؟
فقلت: بكل سرور.
وجلسنا متجاورين. قلت وأنا أقدّم لها رزمة الكتب: أرجو أن تقبلي هذه الهدية المتواضعة.
فضّت الرزمة بأصابع مرتعشة وأخذت تقلّب الكتب مبتهجة ثم هتفت: كتب طه حسين؟! ما أجملها من هدية!
قلت: تصورت أن الهدية ستسرّكِ.
قالت وهي ترمقني بامتنان: أنت أفرحتني جداً بهذه الهدية.
فقلت: أنا مسرور إذن.
صمتت وهي خافضة الطرف وقد تورّد وجهها. وخيّل إليّ وأنا أسترق من وجهها نظرات عجلى أنها لم تكن على مثل هذا الحسن يوما. كان وجهها يشرق نورا. قالت بصوت خافت من دون أن ترفع أنظارها: أنا في الحقيقة لست معتادة أن أعرف أسماء الذين يزورونني..
وسكتت محرجة. ثم أضافت وهي تمسح وجهي بنظرات عكرة: ولا يهمني ذلك.
ثم حنت رأسها وقالت بنبرة مترددة: ولكن هل تسمح لي بأن أعرف اسمك؟
فقلت: يسرّني جداً أن تعرفي اسمي.. اسمي نبيل. أما أنا فعرفت اسمك منذ ثاني لقاء لنا. إنه هنادي.
فشردت عيناها وهزّت رأسها ببطء. قلت مبتسما: وأصارحكِ أن اسمكِ بدا غريباً لي، فنحن لا نستخدم في بلدنا مثل هذا الاسم. وهو أقرب لأن يكون اسماً مصريا أو لبنانيا.
قالت بصوتها الخافت: إنه ليس اسمي الحقيقي.. استعرته من رواية " دعاء الكروان".
فقلت: هكذا خطر على بالي خصوصاً بعد أن عرفت أنك من عشاق طه حسين.
قالت وهي تختطف من وجهي نظرة عجلى: لكنني لا أريدك أنت بالذات أن تناديني بهذا الاسم.
تساءلت في عجب: لماذا؟ إنه اسم لطيف.
صمتت قليلاً ثم أجابت وعيناها شاردتان: ربما قلت لك السبب يوما.
ثم التفتت إليّ باسمة وقالت: أريدك أن تناديني باسمي الحقيقي وهو بدور.
فقلت: يسرّني ذلك يا بدور.. وهو أجمل من هنادي. واسمحي لي أن أقول إنه اسم على مسمىّ.
قالت وقد توردت وجنتاها: شكراً.
وصمتت لحظات وهي شاردة ثم همست: اظنني عطلتك كثيرا.
وشرعت تنضو عنها رداءها. مددت يدي أستوقفها وقلت: عفواً بدور.. أنت أسعدتني بما فيه الكفاية.
قالت وعيناها تفيضان بالامتنان: أشكرك جداً يا أستاذ نبيل.
وأشاحت بوجهها عني وأنا أضع النقود على المنضدة. قلت وأنا أهمّ بمغادرة الغرفة: سأراك في مثل هذا اليوم.
قالت وعيناها معلقتان بوجهي: شكراً لك يا أستاذ نبيل.. شكرا و ألف شكر .
















الصوت الثاني
اليوم سيحضر نبيل. ويالطول الساعات حتى يقبل المساء. كل ساعة منها تعادل يوماً كاملا. وكم كان الأسبوع الفائت ثقيلاً ومملاً. تصبّري يا بدور فأنت في أول الصباح. ما زال أمامك عشر ساعات على الأقل حتى تري " نبيل". وجدير بكِ أن تحافظي على هدوء أعصابكِ فسيلفت حالكِ نظر الأخريات..وخصوصاً سليمة التي تترصدكِ وتفتعل المشاحنات معكِ. وسيكون ذلك مدعاة للسخرية بكِ. كنت تستنكرين حكاياتهن عن زوّار المساء وما تكشف لهن فناجين قهوة الصباح من خيالات وأوهام عنهم. وكنت تحتقرين عواطفهن تجاههم. واعتبرت نفسك منذ اليوم الأول من عالم آخر لا يمت لعالمهن.. لا يمت لعالم العواطف الرخيصة. وها أنت ذا تقعين في الفخّ.. تعدّين الساعات بنفاد صبركي يحين المساء لتلتقي بنبيل.. لكن نبيل يختلف عن غيره. إنه نوع آخر من الرجال.. وهل أنتِ واثقة من ذلك؟ ما أدراكِ أنه نوع آخر حقا؟ ألم يكن ماهر نوع خاص من الرجال؟ ماهر المدرس اللامع والشاعر الذي تلتهب قصائده بالعواطف؟! ماهر ال ستاذ المحترم ؟ أكان يخطر لكِ أن ينكشف عن ذلك النذل؟! ثم ماذا عن هاني؟! هاني المقاول المحترم الذي أنقذكِ من الغرق وآواك في بيت قريبته المزعومة وقدَم لكِ عملاً في " مكتبه " ؟! أكان يخطر على بالكِ أن يقتحم غرفتكِ ذات ليلة ويبرك فوق جسدكِ حتى الصباح؟! حتى علوان القوّاد صاحب المتجر المعروف .. أكان يخامركِ الشك فيه وهو يغمركِ بأحرّ العواطف؟!.. لا.لا. نبيل غير هؤلاء. نبيل إنسان. كل الدلائل تؤكد لي أنه إنسان0 إنسان لا علاقة له بأمثال تلك الذئاب البشرية.














الصوت الأول
بدا لي شيء من التحفظ في سلوك بدور حين احتوتنا الغرفة. ومع أنها بادرتني بتحية رقيقة لكنها بدت متهيبة. وانقبض قلبي لذلك. وساءلت نفسي أتراها ستعود إلى حالتها القديمة؟ خالستها نظرات قلقة وهي تخلع رداءها، ثم خطوت نحوها ووضعت يدي على كتفيها. توقفت وقد وشا وجهها بالتردد. قلت برقة: جئت لأبادلك الحديث يا بدور لا غير.
لازمت الصمت دقائق وهي خافضة النظر. ثم تساءلت بنبرة مترددة: أأنت متأكد أنك لا تضيع وقتك بالحديث معي يا أستاذ نبيل؟
فقلت بحرارة: يعجبني الحديث مع واحدة تعشق أدب طه حسين.
انبسط وجهها وترا قصت على ثغرها بسمة سعيدة وتساءلت : هل نجلس إذن؟
جلسنا على مقعدين متجاورين. ومكثت صامتة وهي مطرقة. وخيَل إليً وأنا أتأمل وجهها أن رأسها يعجّ بالأفكار. قلت برقة: عفواً بدور إذا كنت أتدخل في شئونك الشخصية… ولكن ألا تحبين أن تخبريني ما الذي يشغل ذهنك؟
رفعت رأسها وقالت وهي تتفرس في وجهي: أصد قني القول يا أستاذ نبيل. ألا تحاول خداعي بسلوكك هذا ؟
سألتها مدهوشاً: وماذا في سلوكي الذي ينم عن الخداع ؟
أجابت مترددة: إنني لم أتعود مثل هذا التهذيب من الرجال الذين…
وسكتت فجأة. فقلت: الحق معك، أنا لا ألومك.
وهيمن علينا الصمت. رفعت بدور رأسها أخيرا وقالت: معذرة يا أستاذ نبيل. أنت تقدر ظروفي ولا شك.
فقلت : بكل تأكيد.
قالت في شيء من الحياء: أصارحك بأنك تختلف عن كل الرجال الذين عرفتهم. وهذا ما يجعل الأمر بالنسبة لي صعب التصديق.
فقلت: أنا لا ألومك. والحقيقة.. ما الذي يجعلني أختلف عن غيري؟ ألست واحداً من الذين يحضرون إلى مثل هذه الأماكن ويمارسون عملاً يمتهن الكرامة البشرية للطرف الآخر؟
هتفت في احتجاج: لا.. لا يا أستاذ نبيل. أنت لست من هذا النوع من الرجال. أنا لا أراك هكذا.
فقلت: أنا مسرور لحسن ظنَك بي وأشكرك على ذلك. وثقي أنني أجد من المتعة في الحديث معك أكثر من أيّ فعل آخر. وأنت شخصية رائعة يا بدور. وأرجوك ألاَ تشكَي في كلامي هذا.
قالت وهي تغمر وجهي بنظرات ممتنة: ما أسعدني بقولك هذا يا أستاذ نبيل. ربما لا تقدر أن تتصور كم أسعدني كلامك هذا.
قلت وأنا أنهض: اسمحي لي أن أنصرف فلا يحقّ لي في أن أشغل من وقتك أكثر مما شغلت.
وأخرجت من جيبي المبلغ المعهود فأمسكت بيدي وهتفت في توسَل : أرجوك يا أستاذ نبيل..أرجوك. لا تفعل. إذا كنت تحترمني حقيقة فلا تفعل.
وأطالت التحديق في وجهي وهي تهمس بلهجة ضارعة: أرجوك..
قلت وأنا أعيد النقود إلى جيبي: كما تحبين. إلى اللقاء في الأسبوع المقبل يا بدور.
قالت وعيناها معلقتان بوجهي : سأنتظرك بشوق.



الصوت الثاني
مسكينة أنت يا حورية. ما ذنبك حتى تودّعي الحياة وأنت في أوج شبابك؟! وأنت يا بدور المثقفة … بدور المتعجرفة. هل تنازلت يوماً وتحدثت معها؟ هل تنازلت يوماً وسألتها لماذا تبكي كل يوم؟! لا بالطبع. فأنت لا تعدّين نفسك واحدة منهن. منذ اليوم الأول وأنت تعيشين في عزلة عنهن. تمضين نهارك في غرفتك المغلقة منصرفة إلى كتبك. وما أدركت يوماً أن زميلاتك بشر مثلك لا يروقهن أيضاً أن تمتهن أجسادهن كل ليلة. وما فكرت أنهن يطوين بين جوانحهن مشاعر كالتي تطوينها بين جوانحك. وكل ما هنالك من فرق بينك وبينهن أن الظروف أتاحت لك أن تتعلمي وتتثقفي وحرمتهن مثل هذه الفرصة. وأقمت بينك وبينهن جداراً من الكراهية. نعم. عليك أن تعترفي بذلك. اعترفي بأنهن كنّ جميعاً يحقدن عليك وليست سليمة وحدها لأنك كنت تتعالين عليهن. وها قد أدركت أخيراً أن جوانحهن تطوي من الآلام ربما اكثر مما تطوين. وأنهن يضمرن من النبل ربما أكثر مما تضمرين. ولكن بعد أن راحت إحداهن ضحية لظلم الرجل. مسكينة أنت يا حورية. وما أمرّ دموعك التي كنت تذرفينها كل صباح. وما أشد أسفي لأنني لم أحاول يوماً أن أسرّي عنك. كنت مشغولة بنفسي. وكم تلوّعت حينما حكت لي سليمة حكايتك . أهكذا تجازين على نبلك؟! تتلقين الطعنة القاتلة من اليد التي ضحّيت بكل شيء من أجلها؟! يالظلم الرجال!
















الصوت الأول
استقبلتني بدور بوجه غائم. وكنت طوال الأسبوع أرسم صورة مشرقة للقائنا المقبل. وعجبت ما الذي يجعلها غائمة الوجه وقد قالت لي إنها ستنتظرني بشوق. سألتها مبتسما: هل قرأت شيئاً مما أحضرته لك من كتب طه حسين يا بدور؟
قالت وهي كدرة الوجه: لم أقرأ شيئاً.
تأملت وجهها الغائم وتساءلت وقد داخلني شعور بالتشاؤم: هل حدث شيء غير اعتيادي يا بدور؟
قالت وهي تهزّ رأسها: نعم حدث شيء فظيع. قُتلت حورية.
تساءلت في انزعاج: أهي تلك الشابة الحزينة الوجه؟
قالت: نعم .. هي.
قلت في أسف: ما أفظع ذلك! ولكن كيف حدث ذلك؟!
رمتني بنظرات مشمئزة وقالت: إنه ظلم الرجال.
ابتسمت ابتسامة صغيرة وقلت: عفواً بدور.. ولكن ليس جميع الرجال ظلمة.
قالت وهي تضغط على كلماتها: بل جميعهم.
وأضافت وهي تشيح بوجهها عني: يالظلم الرجال.
والتزمت الصمت خشية من أن يثير كلامي غضبها. وأخيراً قلت: أرجو أن يكونوا قبضوا على القاتل لينال جزاءه.
رفعت رأسها وحدجتني بنظرات متهكمة وقالت: كأنك لا تعرف أن القاتل لن يحكم إلاّ بعام أو أقلّ. فالقتل تمّ غسلا للعار.. والقاتل هو ابن عمّها. وقد سلمّ نفسه إلى الشرطة.
تمتمت في أسئ: فليرحمها الله.
قالت بلهجة قاسية: إذا كان سيرحمها … وهي الخاطئة.
وسكتت قليلاً ثم أضافت في تهكم: نحن مغضوب علينا في الدنيا والآخرة. ونحن مأكولات مذمومات كالسمك رغم خدماتنا. ماذا كان سيفعل الشباب لولانا؟!
واحترت بم أردّ عليها. قلت أخيراً: أما كان الأجدر بها ان تحتاط لنفسها ما دامت تعلم أن لها ابن عمّ يترصدّها؟
قالت وهي متجهمة الوجه: كانت مطمئنة أنها ليست مطاردة منه. فهو نفس الشخص الذي غرّر بها ووعدها بالزواج ثم نكث وعده. ولم يشفع لها أنها كتمت سرّه وتحملت وزر الفضيحة وحدها.
قلت وأنا أهزّ رأسي: لاشك أنه إنسان جاهل.
قالت في تهكم: وهل تعتقد حقّاً أن هنالك فرقا بين الجاهل والمثقف بينكم أنتم الرجال يا أستاذ نبيل؟ فالرجل مسموح له أن يفعل أي شيء.أما المرأة فما هي سوى عبدة له .
قلت بلهجة محرجة: عفواً بدور. لكنك تبالغين. والحق معك فأنت متألمة لهذه الجريمة البشعة. ولكن كيف يتساوى الرجل الجاهل والرجل المثقف في نظرك؟
قالت وهي عابسة الوجه: إذا كنت تعتقد ان هذا الشخص قام بجريمته لأنه شخص جاهل فسأروي لك قصة مشابهة بطلها رجل مثقف. فقد سمح هذا الرجل المثقف لنفسه وهو مدرس ثانوي أن يستغلّ حب تلميذته للشعر والأدب فينظم لها قصائد غزل ملتهبة حتى أوقعها في شباكه. ثم كان من السهل عليه بعد ذلك أن يغويها واعداً إياها بالزواج. ولما طالبته بإنجاز وعده تنكر لها وتبرّأ من وعده.
وسكتت وهي مدلهمة الوجه. ثم تساءلت بلهجة قاسية: ألم يفعل هذا الرجل المثقف ما فعله ابن عم حورية الجاهل فيدمرّ حياة تلك الفتاة البريئة؟!
وأضافت وعيناها تتوهان ً: هكذا أنتم الرجال.
وفي تلك اللحظة تناهت إلينا خبطات قوّية على الباب. ثم تعالى صوت الرئيسة الغاضب: هل نسيت نفسك يا هنادي؟
فنهضت مسرعاً وقلت: إلى اللقاء يوم الخميس القادم يا بدور.














الصوت الثاني
ماذا جرى لك يا بدور؟ لماذا ثرت في وجهه هذه الثورة العاصفة وكأنه هو المسؤول عن مقتل حورية؟ وإلى متى ستظلين تقسين عليه وكأنه المسؤول عن أخطاء الرجال جميعا؟ صحيح أن ماهر نذل خسيس وهاني ذئب بشري وعلوان قوّاد حقير… ولكن من قال إن الدنيا تخلو من الرجال الطيبين؟ وإذا كنت حاقدة عليهم لأنهم يمتهنون جسدك كل ليلة فعليك أن تعترفي بأن هذه ثمار المهنة التي فرضت عليك. رفقاً به يا بدور وإلأ فسيأتي يوم تتحسّرين فيه على رؤيته. إن للصبر حدود يا بدور. وقد ينفد صبره فلا ترينه مرة أخرى00 لا0لا يمكن أن يحدث ذلك. إنه يعلم جيداً أنني لا أقصده بثورتي. إنه واسع العقل ولا شك أنه يدرك ذلك.







الصوت الأول
في الخميس التالي استقبلتني بدور استقبالاً حارّاً. وقادتني إلى الكرسي متهللة الوجه. ثم قالت بسرور: أنا كنت واثقة أنك ستأتي.
تساءلت مستغرباً: وكيف لا آتي؟ ولماذا لا آتي؟
قالت متلعثمة: خشيت أن تكون زعلت مني.
سألتها : ولماذا أزعل منك؟
أجابت وهي تغضّ بصرها: كنت شديدة في كلامي عن الرجال.
ثم سارعت تقول: لكنني أؤكد لك يا أستاذ نبيل أنك لم تكن مقصوداً بذلك الكلام.
فقلت: لا يمكن أن أزعل منك يا بدور فأنت لم تقولي غير الحق.
سارعت تقول: لكنني لا أقصدك.. أؤكد لك أنني لا أقصدك. فأنت لا تشبه الرجال الذين عرفتهم.
فقلت: أرجو أن أكون عند حسن ظنك يا بدور. ولكن كيف لا تغضب واحدة مثلك من الرجال؟ لاشك أن الحياة أصابتك بغرم عظيم بسبب واحد من هؤلاء الرجال.
حنت رأسها وهي محزونة الوجه. وسال خيطان من الدمع على وجنتيها. همست كالمخاطبة نفسها: لماذا كان من حظي أن أعرف رجلاً مثل ماهر بدلا من أن أعرف رجلاً مثلك؟
قلت برقة: ها أنت ذ ي عرفتني يا بدور.
رفعت إليّ عينين أثقلهما الدمع وتمتمت: بعد خراب البصرة؟!
فقلت في حنوّ: لا تيأسي من رحمة الله يا بدور.
لثبت مطرقة وقتاً ثم نفضت رأسها بقوة وقالت: أعذرني يا أستاذ نبيل. ليس من حقّي أن أحزنك بأقوالي. أنت تأتي هنا لتسعد لا لتحزن.
فقلت: أنا سعيد بوجودي معك يا بدور.
تأملتني لحظات مفكرة ثم قالت وعيناها مسمرتان بوجهي: أريد أن أسألك سؤالاً أرجو أن تجيبني عنه بصراحة يا أستاذ نبيل. هل تشتاق إليّ أيام الأسبوع؟
قلت في اندفاع: ربما أكثر مما تتصورين.
قالت وهي تلقي برأسها إلى الوراء وتضحك ضحكة جذلة: ما أسعدني بذلك… ما أسعدني!
ثم أضافت ووجهها يترقرق بهاء: لكنني أؤكد لك يا أستاذ نبيل أن شوقي لك أعظم.
فقلت: شكراً على عواطفك يا بدور.
نظرت في ساعتي ونهضت فتشبثت بسترتي وتساءلت ملهوفة: إلى أين؟
فقلت: يجب ألا ننسى أنفسنا يا بدور. أنت لك مسؤولياتك ويحب ألا اعطّلك اكثر من الوقت المسموح به لئلا تغضب الرئيسة.
هتفت غاضبة: فلتذهب الرئيسة إلى الجحيم. إنها فطيسة وليست رئيسة.
قلت مبتسما: كثيراً ما تساءلت يا بدور من الذي منحها هذا اللقب.
قالت في ازدراء: هي التي منحت نفسها هذا اللقب وفرضته علينا جميعاً و على الزؤار أيضاً.
قلت وأنا أضحك: على كل حال يبدو أنها تتمتع بسلطات الرؤساء المستبدين فعلا.
وأخرجت مبلغ المال من جيبي فهتفت ضارعة: أرجوك.. أرجوك يا أستاذ نبيل.. لا تفعل.
قلت بلطف وأنا أضع المبلغ على النضدة : إذا كنت حريصة على ألاّ تنغّص علينا الرئيسة علاقتنا فلا تعترضي يا بدور.
وغادرت الغرفة عجلا .

ا












الصوت الثاني
كيف ستنقضي أيامك حتى يحلّ الخميس التالي يا بدور؟ وأيّ عذاب ينتظرك؟ لقد شعرت وهو يفارق غرفتك كأنه أخذ روحك معه فصرت جسداً بلا روح. حتى القراءة باتت عسيرة عليك. وكلما بدأت بها شرد ذهنك وبرز لك وجهه الباسم الحبيب من بين السطور. ما أشد شوقك إليه! وإن شوقك لرؤيته يكاد يذيبك0 أصبحت لا تطيقين فراقه. وصار انتظارك ليوم الخميس شاقاً عسيرا. مسكينة أنت يا بدور. ماذا ستصنعين بنفسك؟! ماذا ستصنعين بها؟









الصوت الأول
ظللت أياماً مشغول الذهن بأمرين، الأول تمديد فترة لقائي ببدور والثاني التملص من سهرة الخميس كلياً. و استقرّ رأيي على مفاوضة الرئيسة في دفع مبلغ إضافي لقاء الوقت الزائد وتغيير موعد لقائنا إلى منتصف الأسبوع . وحينما مضيت إلى "كرادة خارج" مساء الثلاثاء أصيبت بدور بما يشبه الذهول وهي تلمحني في الصالة بين المنتظرين. وكادت تنزلق من فوق السلم لولا أنها تداركت نفسها. وما أن احتوتنا الغرفة حتى ألقت بنفسها عليّ وضمتني إلى صدرها ضمة طويلة. قالت بصوت يتفجر فرحا: أية مفاجأة عظيمة هذه يا نبيل؟ أنا لم أشعر بمثل هذه الفرحة منذ زمن بعيد.
فقلت: بدا لي أن لقاءنا في مساء الثلاثاء ربما يكون أكثر ملاءمة فالبيت أخفّ ازدحاما بالزوّار.
قالت وعيناها تغوصان في عيني: أهذا هو السبب الوحيد يا نبيل؟
قلت مبتسما: لنقل أن هذا من جملة أسباب أخرى.
قالت في انتشاء وهي تلقي بشعرها الأسود الطويل إلى الوراء: ليكن السبب ما يكون، لكنك خلّصتني من عذاب الانتظار لثلاثة أيام أخرى.
فقلت باسما: أو فلنقل بأن كلينا قد تخلص من عذاب الانتظار لثلاثة أيام أخرى.
تساءلت بنبرة وشت بقلقها وعيناها تجولان في وجهي: ألا تجاملني بقولك هذا يا نبيل؟
فقلت : أبداً يا بدور. أنا أعني كل كلمة قلتها.
قالت مسحورة: ما أسعدني بكلامك هذا يا نبيل.
وصمتت قليلاً وهي تتفرس في وجهي بانتشاء ثم قالت: لن نتقيدّ اليوم بالوقت المحدد يا نبيل ولتذهب الرئيسة إلى الجحيم.
فقلت: ليس اليوم يا بدور. لا نريد مشاكل مع الرئيسة، لكنني نويت أن أفاتحها في دفع مبلغ إضافي للوقت الزائد.
فقاطعتني في إباء: لا ..لا. لن تدفع مالاً بعد اليوم يا نبيل. لن أسمح لك بذلك أبداً.
فقلت: لكننا لا نريد مشاكل مع الرئيسة يا بدور.
قالت في إصرار: سأدفع المبلغ من نصيبي وليس من حقّها أن تعترض.
فقلت: أنا قادر على دفع المبلغ يا بدور.
رمتني بنظرة مثقلة بالعتاب وقالت: أتريد أن تعامل نفسك كزبون يا نبيل؟
أجبت معتذرا: أنت تعلمين أن مثل هذه الفكرة لا تخطر لي على بال يا بدور.
انبسط وجهها وقالت: أنا واثقة من ذلك.
وصمتنا. وتبادلت عيوننا نظرات مشوقة . قالت أخيراً: كأنك في قلبي يا نبيل فأنا أيضاً كنت أفكر في أن أطلب من الرئيسة أن تمنحك وقتاً اضافياً. فأنا لا أكاد أرتوي من حديثك ولا أكاد أشبع من رؤيتك.
وأضافت وهي تكزّ على أسنانها ووجهها يتعكر: لابد لي أن أكلّم الرئيسة الكلبة في ذلك وعليها أن توافق على طلبي.
فقلت: سأكون سعيداً جداً لو نجحت في مسعاك يا بدور.





الصوت الثاني
يا حبّي 0 يا حياتي 0 يا روحي. هل تحبني كما أحبك؟ أية سعادة هذه التي تتكشف لي يوماً بعد يوم؟! من قال إنني إنسانة كُتب عليها الشقاء؟! كيف يقال عني ذلك والحياة تدخرّ لي كل هذه السعادة؟! يكفيني أنني أحبَ 0 أحبُ شخصاً كنبيل. لقد محى هذا الحب كل بؤس حياتي . حتى لو كنت أتمرغ كل ليلة في هذا الوحل 0 حتى لو كان جسدي النجس يتمرغ كل ليلة في الأوحال. بدور لا علاقة لها بهذا الجسد. بدور روح نقيَة. وهي تعانق روحاً أعظم نقاء هي روح نبيل. ما أسعدك يا بدور.










الصوت الأول
ما أن وقع نظر الرئيسة عليّ وأنا أخطو في الصالة حتى أشارت أليّ بالدنوّ منها. قالت وهي متجهمة الوجه: إجلس.
فاقتعدت كرسيّاً بجوارها. استمرت تقرقر في نارجيلتها دقائق من دون أن تنظر إليّ. ثم التفتت إليّ وقالت في تعاظم: أنت تعرف بالطبع أنني المسؤولة الوحيدة عن إدارة هذا البيت.
فقلت: بالتأكيد أيتها الرئيسة.
والتزمت الصمت ثانية وهي تقرقر بنارجيلتها ثم عادت تقول بلهجتها المتعاظمة: وتعرف أيضاً أن البنات مسؤولات أمامي في كل شئ.
فقلت: بالتأكيد أيتها الرئيسة.
فالتفتت إليّ وقالت بفظاظة: ما دمت تعرف كل ذلك … فكيف تشجّع إذن إحدى بناتي على الخروج على قوانين البيت؟
فسألتها : عفواً ايتها الرئيسة.. ولكن كيف فعلت ذلك؟
قالت بلهجتها الفظة: هذا ما فعلته حينما شجعت البنت هنادي على طلب البقاء معك لوقت أطول.
قلت في لطف: لم يكن الغرض من ذلك الخروج على قوانين البيت أيتها الرئيسة. وأنا نفسي فكرت في أن أفاتحك في ذلك على أن أدفع مبلغاً إضافياً لقاء ذلك.
قالت في استنكار: أفلا تعلم أن المسألة ليست مسألة فلوس؟ هناك قوانين للبيت يجب مراعاتها. وأنا لست مستعدة أن أستقبل زوّاراً في بيتي يكسّرون تلك القوانين.
وفي الحال تخيلت فداحة الخطب الذي قد يحلّ بي إذا لم أسترضها. فقلت بدماثة: أنت رئيسة هذا البيت وليس من حقّ أحد أن يقترح أشياء لاترتضينها وأنا أسف لما حدث.
قالت في عظمة وهي تهز رأسها: طبعاً فأنا الرئيسة زنوبة التي لديها من الحكمة ما يجعلها تعرف كيف تدير بيتها أحسن من أي شخص. وأنا أرعى مصالح البنات على أحسن ما يرام.
فقلت في حماسة: بالتأكيد أيتها الرئيسة.
صمتت طويلاً وهي تقرقر بنارجيلتها وعيناها تجولان بعظمة في أرجاء الصالة. ثم قالت بلهجتها المتعاظمة: تذكّر هذا إذن.
فقلت في لطف: بكل تأكيد أيتها الرئيسة.
ما أن انفردت ببدور حتى قالت غاضبة: ماذا كانت تريد منك الرئيسة الكلبة؟
فقلت: اهدئي يابدور ولا داعي للغضب. كل ما هنالك أنها ذكرّتني بقوانين البيت.
هتفت ثائرة: وأية قوانين تلك التي تتحدث عنها؟ إنها كيّفتها لمصلحتها وتوطيد سلطتها علينا لا أكثر.أما نحن فلا حقوق لنا0إنها تعيش كالملوك ونحن نعيش حياة بائسة اشبه بحياة الحيوانات.
قلت بلطف: إهدئي يا بدور ولا تستسلمي للغضب.
قالت في هياج: وكيف لا أستسلم للغضب وهي تسلبنا كل حقوقنا وتعاملنا كالسجينات؟ أنت لا تعرف ما يجري في هذا البيت يا نبيل. إنها تديره بتسلّط فظيع ولا تقبل اعتراضاً من أحد. والويل لمن تخرج عن طوعها فالحارسان "منكر" و "نكير" حاضران لتلقينها درساً لا تنساه.
فقلت: لا عجب إذن أن أسميتم هذين الحارسين "منكر" و "نكير". ولا عجب أن اختارت الرئيسة بيتها في هذا المكان القصيّ وضربت عليه هذا النطاق من العزلة.
قالت وهي تهزّ رأسها في سخط: نحن رهائن لديها يا نبيل. تصور أن أية واحدة منّا لا تستطيع أن تخرج خارج البيت ما لم يكن برفقتها " منكر " أو " نكير ".
قلت في عجب: ومع ذلك فهي تدّعي أنها ترعى مصالحكن على أحسن ما يرام.
قالت بلهجتها الثائرة: إنها لتتشدق أمامنا دائماً بأن المعاملة التي نلقاها في بيتها هي أحسن من المعاملة في أي بيت آخر.
وصمتت وهي كدرة الوجه. ثم قالت في غضب: أنا لن أظل عبدة لها. وإذا كان الأخريات يقبلن بعبوديتها فأنا لن أقبلها.
قلت برفق: عفواً بدور.. ولكن عليك بالتعقل وعدم معاندتها.
خزرتني بانزعاج وقد انعقد حاجباها وتعكر وجهها. ثم نهضت فجأة وقالت ببرود: كنت أتوقع أن تثور عليها أنت أيضاً. ومادمت تنصحني بإرضائها فتفضل إلى السرير.
راقبتها مشدوها وهي تخلع رداءها وتستلقي على السرير. ثم قمت صامتاً وغادرت المكان.
















الصوت الثاني
أنتِ حمقاء يا بدور وستظلين حمقاء. كيف فعلت ذلك؟ لماذا تصرّين على أن تدمرّي الشيء الجميل الوحيد في حياتك؟ ستفقدينه يا بدور. لا شك أنك ستفقدينه إن لم يكن اليوم فغداً ما دمت تمارسين معه هذا السلوك الأحمق. وعندئذ ماذا ستفعلين؟ كيف سيكون شكل حياتك حينما يتوارى عنها؟!00 لا .لا. لايمكن أن يحدث هذا لي. لا يمكن أن يزعل مني. إنه يعلم أنني أحبّه. عفوك يا نبيل. عفوك يا حبّي. أنا لم أقصد سوءا. كنت أريدك ان تشاركني ثورتي على الرئيسة الكلبة التي تصادر كل حقوقنا. لكنني أنسى أنك حكيم تزن الأمور بميزان العقل لا العاطفة . كيف سأحتمل عذاب الأسبوع كلّه لأتأكد في نهايته أنك لست زعلاناً مني؟!








الصوت الأول
كنت قد اعتدت على تقلّبات بدور النفسية. ولذلك لم يغضبني موقفها الأخير مني. وكما توقعت استقبلتني بشوق في لقائنا التالي. قالت وهي تنكس رأسها وتسارقني نظرات خفرة: كنت سخيفة معك يا نبيل. أليس كذلك؟ لكنني أؤكد لك بأنني أدفع ثمن تصرفاتي السخيفة معك غالياً فأظل طول الأسبوع متألمة معذبة.
قلت برفق: لست في حاجة إلى الاعتذار يا بدور فأنا أقدّر ظروفك.
تفرست في وجهي بنظرات تائهة وتساءلت: أصدقني القول يا نبيل.. أهناك كثيرون من هم مثلك بين الرجال؟
فقلت : بالطبع فما أنا سوى رجل اعتيادي. وكل من أعرفهم من صحاب مثلي.
صمتت لحظات ساهمة ثم هزت رأسها وقالت كالمخاطبة نفسها: أنا لا أصدق ذلك. لا يمكن أن تكون رجلاً اعتياديا. خبرتي بالرجال لا تؤيد قولك هذا.
قلت برفق: اسمحي لي أن أكون صريحاً معك يا بدور. خبرتك بالرجال ليست خبرة دقيقة. فلسوء حظك لم تعرفي الرجال إلا وهم في أسوأ أحوالهم.
قالت مفكرة: مع أنني أميل إلى تصديق ما تقوله يا نبيل لكنني أصارحك بأن حقدي على الرجل واحتقاري له لا يمكن أن يُنزع من قلبي . طبعاً هذا الكلام لا يشملك. أنت نوع آخر من الرجال.
قلت مبتسما: أنا واثق أن الأيام ستنزع من قلبك الطيب هذا الكره والاحتقار للرجل. فأنت تمتلكين قلباً كبيرا ً يا بدور.
أطرقت مفكرة ثم رفعت رأسها وقالت: ربما كنت كبيرة القلب فعلاً يا نبيل. وإلا فكيف نسيت الوعد الذي قطعته على نفسي بشطب الرجل من حياتي بعد أن عرفتك؟
فقلت: هذا دليل أكيد على طيبة قلبك.
قالت وابتسامة صغيرة تطوف على ثغرها: أيمكنك أن تحزر يا نبيل لماذا اخترت اسم هنادي بدلاً من اسمي؟
فقلت: ربما كنت قد تأثرت برواية طه حسين "دعاء الكروان".
فقالت : فعلاً. أنت حزرت. فهنادي كما تعلم كانت مصممة في البداية على الانتقام من الرجل الذي غرّر بأختها وتسبّب في قتلها. فأنا نويت أيضاً بعد أن غُرّر بي أن أنتقم من الرجال وأحتقرهم ..
فقلت : لكن هنادي كما تعلمين كانت طيبة القلب فلم تقو على الانتقام بل على العكس أحبت الرجل الذي كان سبباً في مقتل أختها. والحقيقة أنك شبيهة بهنادي قلباً وقالبا. فما أسرع ما نزعت الحقد من قلبك على الرجال حالما عرفت نموذجاً حسناً منهم.
قالت مفكرة : يبدو لي أنني شبيهة بهنادي فعلاً يا نبيل.
فقلت : أنا مقتنع بذلك.
ثم نهضت قائماً وأنا أقول: أعتقد أننا استنفدنا الوقت المخصص لنا يا بدور ولا نريد إغضاب الرئيسة.
قالت وهي تعبس وجهها: اللعنة على الرئيسة الكلبة. أنا لم أستمتع بالحديث معك بعد وكأنني رأيتك قبل دقائق. أريد أن أشبع من حديثك الحلو يا نبيل. أريد أن أشبع من وجهك الباسم0 ربما لا تتصور مدى سعادتي وأنت تتحدث معي.
فقلت: وأنا كذلك يا بدور. ولكن لابد لنا أن نراعي ظروفنا.




الصوت الثاني
كيف ستقدرين على مراعاة ظروفك يا بدور؟ إن أمرك يتعقد يوماً بعد يوم. ها أنت ذا تغرقين في حب نبيل إلى أذنيك. وليس لك إلا أن تمضي معه وقتاً يبدو وكأنه دقائق بعد انتظار شاقّ لمدة أسبوع. فأيّ عذاب أمامك؟ أما يكفيك ما تقاسينه من عذاب الذئاب البشرية التي تمتهن جسدك كل ليلة؟ وعليك أن تظلي كل ليلة مفتوحة العينين حتى الفجر تستحضرين صورته. حتى القراءة لم تعودي تجدين فيها سلوتك. فمن بامكانه أن يخفف عنك عذابك يا بدور؟ ولمن تشكين همومك؟ ما أعظم حاجتي إليك يا أميّ. لم أفتقدك منذ فارقتك كما أفتقدك اليوم. أنت الوحيدة التي في مقدورها أن تخفّف من همومي. وكم أفتقد البسمة الحنون على شفتيك. وصحيح أنك امرأة بسيطة لم تتلق سوى قدر ضئيل من التعليم. لكن ذكاءكِ الفطري أغناكِ بالمعرفة. لقد عوضتني عن خسارة أبي وكنتِ لي نعمَ الأُم والأب. ورعيت آمالي وطموحاتي وجاهدت أعظم الجهاد لكي أواصل تعليمي. وكم كنت تسرّين حين كنت أحمل إليكِ شهادتي فتقرئين فيها أنني الأولى على صفي. وكنتِ تبشرين نسوة الجيران أجمع بذلك. وكنتِ تبذلين لي من الرعاية أيام الامتحان ما يملأ قلبي عزما. بل كنت من شدة قلقكِ وانشغال بالكِ عليّ تبدين وكأنك أنت التي تؤدين الامتحان نيابة عني. ما أعظم حزني إذ خيّبت أملك فيّ يا أمّي. أهذه هي نهاية آمالكِ فيّ ؟ أن أكون بغياً حقيرة ؟! ولعلكِ فطنتِ بذكائكِ للكارثة التي عصفت بحياتي لكنك لم تجرئي أبداً على أن تفاتحيني بها. وكانت عيناكِ الحائرتان تلقيان عليّ ألف سؤال وسؤال وأنت تشهدينني أصطلي في نار الحيرة والعذاب. وكيف كان بقدرتي أن أصارحكِ بالحقيقة يا أمُي؟ لو كانت كارثتي فحسب لهان عليّ الأمر. لكنها كانت كارثتكِ أيضاً وكارثة أخواتي المسكينات اللواتي أسأت إليهن أعظم الإساءة بسلوكي الأحمق. أولئك الأخوات اللواتي كن يرينني المثل الأعلى لهن فيستفتينني في كل شئونهن. كان لا بد لي أن أغيب عنكن قبل أن تفوح رائحة الفضيحة يا أُمي فما كان بقدرتي مواجهتكن. وقد كنت صادقة يا أمّي فيما ذكرته في رسالتي . لقد انتويت فعلا أن أدفن نفسي في مدينة بعيدة عن البصرة لأُجنّبكن الفضيحة. وهذا ما حاولت أن أفعله يوم وصولي إلى العاصمة لكن الأقدار أبت عليّ ذلك. وليتها استجابت لرغبتي لجنّبتني هذا العذاب. ما أشد شوقي إليك وإلى أخواتي العزيزات00 وإلى مدينتي الحبيبة البصرة00 و[لى مدرستي وزميلاتي00 و[لى النزهات الحلوة في العشار على ضفاف شط العرب. إنني أعيش الآن في جحيم يا أمّي. إن بدور التي تعرفينها.. بدور الشماء قد ماتت يا أمي وخلفتها فتاة حقيرة اسمها هنادي. كم أتمنى أن أريح رأسي على صدركِ الحنون وأنسى همومي. وكم حلمت أنني مقتعدة حجركِ وأنتِ تضفرين لي جدائلي كما كنت تفعلين وأنا صغيرة.. أية أحلام وأية أوهام يا بدور. ما أنت الآن سوى عبدة من عبدات قوّادةّ خسيسة وكلبة نجسة تمتطيها كل ليلة الذئاب الجائعة. فما لك وحبّ شاب مثل نبيل مطمح أية فتاة طاهرة! يا لبؤسك يا بدور.. يا لبؤسك!












الصوت الأول
كنت كعادتي عصر كل سبت أتمشى بمفردي على شاطئ دجلة في شارع أبي نواس مترقبا غروب الشمس.. ذلك المنظر الذي يسحرني دائماً. وحين غاصت الشمس في أعماق النهر تهيأت للعودة إلى المنزل . ثم اذا بي أستوقف تاكسيا وأطلب منه التوجّه إلى "كرادة خارج". لست أدري كيف حدث ذلك، لكنه بالتأكيد لم يتمّ عن تخطيط مسبق . وكم ابتهجت بدور برؤيتي! فما أن خلوت بها حتى عانقتني عناقاً طويلا وأمطرت وجهي بالقبلات. وبدت نهباً للارتباك لا تدري كيف تتصرف. وفجأة أجهشت بالبكاء وتلاحقت شهقاتها الحارة. سألتها بانزعاج: ما بكِ يا بدور؟ هل حدث لكِ مكروه؟
هزت رأسها بشدة وهي أسيرة شهقاتها. قلت: فلماذا تبكين إذن؟
قالت وهي تمسح دموعها براحة يدها: إنني أبكي من شدة فرحي يا نبيل. فلم أتوقع زيارتك قبل مساء الثلاثاء.
فقلت: هذا صحيح. وأصارحكِ يا بدور أن هذه الزيارة كانت مفاجأة لي وليست لكِ فقط. فجأة وجدتني أستقل تاكسيا وأطلب منه التوجه إلى هنا.
أطالت بدور النظر في وجهي وعيناها والهتان.ثم تساءلت بانتشاء: هذا يعني أنك اشتقت إليّ يا نبيل. أليس كذلك؟
فقلت باسما: أظن ذلك.
تأملتني دقائق بنظراتها المفتونة ثم حنت رأسها وقالت هامسة: مهما تشتاق إليّ يا نبيل فأنا أشدّ شوقاً إليك.
ثم رفعت رأسها وتساءلت بوله وهي تغرق عينيها في عينيّ: ماذا يعني ذلك يا نبيل؟ ألا يعني أننا يحبّ بعضنا بعضا؟
قلت مبتسما: وهل عندكِ تفسير آخر؟
أمالت رأسها وأسندته إلى كتفي. وهمست وعيناها سارحتان: ليتني أموت في هذه الدقيقة.
هتفت جزعاً: أيّ تمنيات هذه يا بدور؟
همست وهي حالمة العينين: لأنني الآن في قمة السعادة يا نبيل وأخشى أن تضيع مني هذه السعادة يوما .
وفي تلك اللحظة تعالت الخبطات على الباب. فقفزت بدور على قدميها وصرخت: ماذا تريدين!
ترامى إلينا صوت الرئيسة الفظ: الناس في الإنتظار.. ألا تفهمون؟
قلت وأنا أنهض : يجب أن أذهب يا بدور قبل أن تغضب الرئيسة.
هتفت بدور وهي تخبط الأرض بقدميها في هياج: الكلبة اللعينة.. أنا لست عبدتها.
ربتّ على كتفها وقلت برقة : عفواً بدور.. لا تنسي أننا تحت سلطانها، وإذا عاندناها خسرنا كل شيء. وسأعمل جهدي على أن أزوركِ مرتين في الأسبوع يوم السبت ويوم الثلاثاء. فلا تنزعجي هكذا.
لكنها ظلت تتمم وقد أفترسها الغضب: الكلبة اللعينة.. الكلبة اللعينة.
قلت متلطفاً وأنا أتأهب لمبارحة الغرفة: لأجل خاطري إهدئي يا بدور.
وخطوت مسرعاً نحو الباب.





الصوت الثاني
لتذهبي إلى الجحيم أيتها الكلبة الخسيسة. لن أفتح الباب حتى لو كسرته.أنا لست عبدتك. أخبطي على الباب حتى الصباح.. لن أفتح الباب. لن أدع أولاد الكلاب يمتهنون جسدي. أنا بدور. أنا لست هنادي. أنا الفتاة الطاهرة النقية.. عاشقة الأدب.. عاشقة طه حسين. ليت بإمكاني أن أقص عليك مأساتي يا سيدي فتكتبها بقلمك الرائع عبرة للناس. عبرة لمن يعيش على هذه الأرض المليئة بالمعذبين. ومن حقي عليك يا سيدي ان تكتب مأساتي فقد عشقت أدبك وأنا صبية. وشكراً لكِ يا ست مديحة إذ علّمتني حب طه حسين يوم أهديت لي كتابه "الأيام" مكافأة لي على أفضل " إنشاء" فى الصف. ولن أنسى كلامك عنه يا ست مديحة أبداً. فما يزال يرن في أذني حتى اليوم.. " اعلموا يا بنات أن أدبنا العربي يدين بأعظم الفضل لكاتبين كان كلاهما كفيف البصر هما أبو العلاء المعري وطه حسين".. لن أنسى كلامك هذا أبداً يا ست مديحة. وقد قرأت كل كتبه يا ست مديحة. كيف يمكنني المثول بين يديك يا سيدي لأحدثك بمأساتي؟ أنا التي كنت أحلم في أن أكون أديبة لامعة تدافع مثلك عن المعذبين في الأرض وعن الفقراء والمظلومين فصرت فانتهيت إلى أن أكون بغياً يمتهن جسدها كل ليلة الذئاب البشرية وتستعبدها قوّادة خسيسة. و يا ليتك تصوّر بقلمك الجبار يا سيدي ما يطفح به قلبي من حب عظيم لنبيل..هذا الحب الذي أعاد إليّ إنسانيتي.. أعاد إليّ كرامتي.. أعاد إليّ طهارة روحي.. وهذه القوّادة الخسيسة تبتغي خنقه . وهي تصر بما تملك من سلطان على أن أبقى كلبة نجسة تمتطيها الذئاب الجائعة.. لا..لا. لن أسمح لك بذلك أيتها القوّادة الخسيسة. لن أسمح لكِ بذلك حتى لو أزهقت روحي..












الصوت الأول
في مساء الثلاثاء اتخذت مجلسي في الصالة انتظاراً لدوري. وبدت الرئيسة متشامخة على كرسيها وهي متجهمة الوجه. وتوقعت بين لحظة وأخرى أن تظهر بدور أعلى السلمّ لكنها ظلت محتجبة. ثم لمحت إحدى النزيلات تؤشر لي فصعدت إليها. وما أن دخلت غرفتها حتى أغلقت الباب من الداخل. قالت لي في توجّع: أنا سليمة.. أنا صديقة هنادي.. هنادي محبوسة في غرفتها يا أستاذ نبيل.
هتفت في انزعاج: ماذا تقولين؟
قالت متوجعة: نعم هي محبوسة في غرفتها منذ صباح البارحة.. يا عيني عليها.
سألتها مرتاعاً: ولكن لماذا؟ ما الذي حدث؟
قالت بلهجتها المتوجعة: بعد أن فارقتها ليلة السبت أغلقت عليها الباب ورفضت أن تفتحه. وفي الصباح أمرت الرئيسة "منكر" و "نكير" أن يكسرا الباب. فكسراه وأخرجا هنادي وأنزلاها إلى الصالة. وأمامنا جميعاً تعاونا على ضربها حتى خفنا أن تموت بين أيديهما. ثم سحلاها إلى غرفتها بعد أن غابت روحها وأقفلا عليها الباب. وبعد ذلك أمرتهما الرئيسة أن يحرقا كل كتبها.
قلت في هياج: المجرمة.. كيف تركتموها تفعل بها ذلك؟
قالت سليمة في مرارة: ومن تجرأ منّا على الاعتراض عليها يا أستاذ نبيل؟
قلت في غضب: سأبلغ الشرطة في الحال.
هتفت سليمة مرتعبة: لا..لا يا أستاذ نبيل.أتريد أن توقعها في بلية وتوقعنا معها؟
سألتها بعد أن هدأت قليلاً: فما الحلّ إذن؟ هل نتركها محبوسة؟
قالت سليمة: اسمع يا أستاذ نبيل. الشدّة لا تنفع مع الرئيسة بل تضرّ. والأحسن لك أن تأتيها بالسياسة. اذهب إليها وترجّاها لتعفو عنها وتعهّد أمامها بألاّ تعصي أمرها مرة أخرى. وأنا متأكدة أنها ستقبل وساطتك لأنها هي أيضاً ليس من مصلحتها أن تبقى هنادي محبوسة. فكما تعلم هنادي مرغوبة.
وبدا لي اقتراح سليمة معقولاً فمضيت إلى الرئيسة . قلت وأنا أجلس بجوار كرسيّها: كيف حالك ً أيتها الرئيسة؟
لبثت صامتة دقائق وهي تقرقر بنارجيلتها. ثم أومأت برأسها من دون أن تنظر إليّ. قلت في لطف: إنني علمت بتصرف هنادي وجئت أتوسط عندك للعفو عنها أيتها الرئيسة.
قرقرت بنارجيلتها طويلاً ثم قالت بفتور من دون أن تلتفت إليّ: وساطتك مرفوضة فذنبها لا يغتفر.
فقلت: حتى الله يغفر الذنوب أيتها الرئيسة.
هزت رأسها وقالت: ونعمَ بالله.
فقلت : أنا أعلم أن هنادي أخطأت ولكن المفروض أنك كأمهّا..
قاطعتني في تعاظم : أنا أُمّ جميع البنات وأرعى مصالحهن أكثر مما يرعينها هنّ أنفسهن.
فقلت: إذن فلتكن هذه آخر مرة تخطيء فيها هنادي بحقّك.
قرقرت طويلاً بنارجيلتها وهي عابسة الوجه. ثم التفتت إليّ وقالت في تعاظم: انا الرئيسة زنوبة .. تقلل من قدري أمام الزوّار؟! تعضّ اليد التي أحسنت إليها؟ ماذا كان سيكون مصيرها لو لم آوها وأرعاها؟!
سارعت أقول: الحق معك أيتها الرئيسة.
وبدأت النارجيلة تقرقر بهدوء. التفتت إليّ أخيراً وقالت وقد لانت لهجتها: أنا سأسامحها هذه المرّة لأجل خاطرك ولكنها ستكون آخر مرة.
فقلت : شكراً لك أيتها الرئيسة.
مدّت يدها إلى كومة من المفاتيح وناولتني مفتاحاً وقالت: اذهب إليها.
قطعت الدرج قفزا. ولما فتحت باب الغرفة كانت غارقة في الظلام. أدرت مفتاح النور فانبعث ضوء خافت. كانت بدور متقرفصة في فراشها. تقدمت بخطى رفيقة وجلست على طرف السرير. قلت برقة وأنا أنحني عليها: بدور .. أنا نبيل.
فتحت عينيها وما أن رأتني حتى هبّت جالسة وألقت ذراعيها حول عنقي وهتفت بانبهار: من؟ حبّي؟
وأجهشت ببكاء هستيري. وراحت تضغط خدّها على خدّي. قلت برقة: اهدئي يا بدور … اهدئي. سيكون كل شيء على ما يرام.
تراخت شيئاً فشيئاً وسكنت الإرتجافة في جسدها واستحال بكاؤها إلى شهقات متباعدة. قالت وعيناها تضجّان بالألم: إنها مزّقت كل كتبي يا نبيل … كل كتب طه حسين.
فقلت : لا يهم … سأعوّضك عن كل كتاب فقدتيه. ولكن كيف سمحت لنفسها هذه المجرمة أن تفعل بك ما فعلت؟
قالت ووجهها ينضح بالكبرياء: أنا كنت أعلم أنها ستفعل بي ما فعلت … وإلاّ فما فائدة كلبيها " منكر " و " نكير"؟
قلت محتدما : يظهر أنهما كلبان شرسان فعلاً من نوع الكلاب البوليسية.
قالت في أنفة: أنا لا أخافهما … والمهم أنني كسرت أنفها وحقرّتها أمام الزوار ولم أفتح الباب 0 لكنني لم أكن أتصور أنها ستمزّق كتبي.
فقلت: لا تهتمي يا بدور … سأحضر لك كل ما ترغبن فيه من كتب.
ثم أضفت وأنا أمسح وجهها بنظرات مشغوفة: لو تعلمين كم تألمت حينما حكت لي سليمة ما جرى لك على يدي " منكر " و"نكير".
شبكت ذراعيها حول عنقي وغمرت وجهي بالقبلات. ثم قالت مقلّدة صوتي وهي تتفرس في وجهي بنظرات هائمة : عفواً أستاذ نبيل. ساجعلها تضربني كل يوم لكي تتألم من أجلي.
قلت في احتجاج: لا يا بدور . .لا . أرجوك ألاّ تعرّضي نفسك لمثل هذا الموقف مرة أخرى. سيصيبني ذلك بحزن عظيم . ويبدو أنني لم أكن الوحيد الذي تألم لك بل زميلاتك أيضا. كانت سليمة متوجعة جداً من أجلك وهي تحكي لي ما جرى لك. إنها فتاة طيبة حقا.
قالت بدور في امتنان: شكراً لها… شكراً لهن جميعاً… كم خفّفن عني. كن يغافلن الرئيسة الكلبة ويحادثنني من وراء الباب … إنهن طيبات ً يا نبيل. وإنني لأشعر بالخجل لأنني قاطعتهن في البداية قبل أن أعرفهن على حقيقتهن … قلوبهن تمتلئ بالحب والرحمة يا نبيل رغم ما لقين من ظلم الحياة.
قلت وأنا أهزّ رأسي: لقد ظلمتهن الحياة فعلاً.
استمرت بدور تقول متوجعة: لقد ظمتهن الحياة فعلا يا نبيل وظلمهن المجتمع . ولكل منهن قصة مأساوية . وهن يعشن هنا حياة بائسة معذبة يا نبيل. تصور أنهن كثيراً ما يتذكرن مستقبلهن المظلم فيتباكين ويتساءلن: "ما ذنبنا يا ربنا فكتبت علينا هذه الحياة؟ وماذا سيكون مصيرنا حينما نكبر فلا يرغب فينا أحد؟ وحينما نموت … هل سترمينا في نار جهنم ونحن الخاطئات أم أنك ستعفو عنّا؟!" وليتك ترى وجوههن الذابلة الصفراء المرهقة يا نبيل وهن يستيقظن وقت الضحى. وفوق ذلك كله تعاملهن الرئيسة الكلبة معاملة السجينات.
قلت برفق: أرجوك يا بدور ألاّ تفكري في معاندة الرئيسة. و ما كان ينبغي لك أن تعانديها هكذا وتسّببي لنفسك هذه المعاناة .
قالت وهي تنظر إليّ معاتبة: وكيف لا أعاندها يا نبيل وهي مسرة على خنق حبّي؟ إنه النافذة الوحيدة التي أتنفس منها هواء الحياة.
قلت برقة: ومع ذلك عديني ألاّ تعانديها مرة أخرى يا بدور فقد تعهدت لها بذلك. وهذا في مصلحتنا.
قالت وهي ترنو إليّ بنظرات والهة: من أجلك أنا مستعدة أن أفعل أي شيء يا حبّي.
قلت وأنا أنهض: إذن سأذهب وأنا مطمئن. وسأزورك مساء السبت ومعي عدد من الكتب.
قالت وهي تضمني ضمة قوية: سأعد الساعات حتى يحلّ يوم السبت يا حبّي.







الصوت الثاني
أنت الدنيا كلها يا نبيل. نسيت آلامي حينما رأيتك. تصورت أنني سأموت. ولو أنها منعتك من رؤيتي لمتّ فعلاً. لا حياة لي بدونك يا نبيل00 ماذا ستفعلين يا بدور؟ ماذا ستفعلين؟ كيف ستواصلين الحياة تحت سلطان الرئيسة الكلبة؟ وماذا بيدك أن تفعلي؟ أنت تعلمين أنه ليس بمقدورك أن تفلتي من إسارها00 اللعنة عليك يا علوان. القوّاد. الحقير. الكلب. كيف طاوعك قلبك على أن تبيعني لها؟ لقد احتميت بـ "بوتيكك" من " مكتب" هاني بعد تلك الليلة السوداء. وكنت أعمل فيه منذ مطلع الصباح حتى المساء بأجر رمزي. كل ذلك من أجل الستر. فلماذا يعتني لها ؟ ولكن ما أنت سوى قوّاد خسيس. فماذا ينفع اللوم فيك؟ لقد وقعت في شبكتها وكل المسكينات وقعن في شبكتها بمعاونة أمثالك من القوّادين. ولن تفلت من شبكتها أية واحدة منا ما دام هناك "منكر" و "نكير"00مسكينة أنت يا بدور. يا من تملك روحاً شفافة يأسرها الشعر والأدب. يا من كانت تحصد كل الجوائز الأولى في مسابقات المدرسة الأدبية والخطابية 0 كيف غصت في هذا الوحل؟ 00 لعنة الله عليك يا ماهر. لماذا فعلت بي ذلك؟ لقد أخلصت لك الحب وأسلمت نفسي إليك … أنا الفتاة الطاهرة النقيّة. لماذا لم تتزوجني كما وعدتني وتنقذني من الفضيحة؟ كنت سأعمّر لك بيتاً سعيدا. كنا سنحيا سعداء وإن لم نكن أغنياء.ماذا ستفعل لك أموال خطيبتك الغنيّة؟ يا لها من دنيا وسخة! إنها ماخور لا يختلف في شيء عن هذا الماخور0ماخور كبير يتسلط فيه القوّيّ على الضعيف. أنت الشيء الوحيد النقي فيها يا نبيل 0 وعليّ أن أشكر ربي لأنني عرفتك. ماذا تسوى الدنيا بدونك؟ وينبغي لي أن أقنع برؤيتك لدقائق وأرضى بأسر الرئيسة الكلبة وإلاّ حرمت من رؤيتك. سأستجيب لرغبتك يا حبي وأقبل بعبوديتي. هذا هو نصيبي من الدنيا ويجب عليّ أن أقبله من أجل عينيك.









الصوت الأول
تخيرّت مجموعة من الكتب لبدور ومن بينها كتباً لطه حسين. ومضيت مساء السبت إلى "كرادة خارج" مبكرا. وحين ضمّتنا الغرفة بادأتني بدور بعناق حارّ. قلت وأنا أناولها رزمة الكتب: جئتك بالدفعة الأولى من الكتب يا بدور.
قالت وهي تقلّبها بفرح: شكراً لك يا نبيل. شكراً وألف شكر. لم أدر ماذا أفعل بنفسي .فظللت طوال ااوقت أفكر بالرئيسة الكلبة ..
قلت مبتسماً: ظننت أننا حللنا مشكلتنا معها يا بدور.
همست وهي تنظر بعيداً: بالعكس يا نبيل. مشكلتي معها لم تحلّ بل ازدادت تعقيداَ!
سألتها في قلق: ولماذا؟ ما الذي حدث؟ هل تعرضت لك ثانية؟
رفعت إليّ وجهاً ذابلاً وقالت: ليست هي المسؤولة عن التعقيد يا نبيل. أنا المسؤولة. لم أعد كما كنت قبلا. كنت مستسلمة لسلطانها ولم أكن أخشاها. أما اليوم فصرت أخافها خوفاً شديدا.
فقلت ّ: أنا أعذرك يا بدور. لم يكن سهلاً عليك أن تتلقّي ذلك الضرب الوحشي.
فسارعت تقول: لا .. لا. ليس الضرب هو ما أخشاه يا نبيل. لكنني صرت أخشى غضبها الذي قد يحرمني من رؤيتك.
وأضافت هامسة وهي تغض بصرها: وهذا ما لا طاقة لي باحتماله يا نبيل.
تأملت وجهها الذابل وفي عينيّ حبّ عميق. ولأول مرة منذ عرفتها لاحظت طابع الانكسار يهيمن على مظهرها . وشعرت بقبضة تعصر قلبي. قلت لها فجأة: عفواً بدور. ولكن هل توافقين على أن أبحث لك عن عمل شريف تتكسبين منه؟
رفعت رأسها ورمقتتي في انكسار مرّ وقالت: وهل تحسب أنني اخترت العمل هنا طوعاً وفضلته على أي عمل شريف آخر مهما يكن نوعه يا نبيل؟
ثم أطرقت وقالت وهي تهزّ رأسها بحزن: إنني ظللت شهراً بكامله محبوسة في سرداب البيت وأنا أتلقى الضرب الشديد كل يوم من " منكر " و " نكير " دون أن أنصاع لأمرها حتى كاد يتلف جسمي. وفي النهاية استسلمت لها واشترطت عليها شرطاً واحدا فقط هو أن تتركني لكتبي أثناء النهار. فرضيت بشرطي وتعهدت بإحضار ما أطلب من كتب. وهذا ما جعلني أبقى على قيد الحياة وإلاّ لمتّ كمدا.
قلت مرتبكا: عفواً بدور فلم أقصد إلى المعنى الذي فهمتيه. إنني قصدت إلى إنقاذك من أسر هذه الرئيسة الشرّيرة.
قالت وهي تهز رأسها في يأس: وهل تتصور أن في الإمكان الإفلات من أسرها يا نبيل؟ إن من وقع في شبكتها لا يمكنه التحرر منها.
قلت بحذر: عفواً بدور.. ولكن كيف وقعت في شبكتها وأنت الفتاة الذكية؟
أطرقت صامتة لدقائق ثم رفعت رأسها وقالت في بطء: كنت صممت أن أحتفظ بقصتي لنفسي يا نبيل ولا أحكيها لأحد. لكنك صرت قطعة منّي. فإذا حكيت لك قصتي الآن فكأنني أحكيها لنفسي. وكثيراً ما أستعيد أحداثها مع نفسي بالفعل.
ثم روت لي قصتها من البداية إلى النهاية. قلت متألما: ما أفظع ما شهدت من جور الحياة يا بدور. وينبغي ألا تظليّ في قبضة هذه المجرمة. هناك محاكم ويجب أن يُزجّ بها في السجن. وإذا سمحت لي سأتخذ التدابير لذلك فأنا محام ويمكنني التكفل بهذا الأمر.
هتفت فزعة: لا يا نبيل .. لا. لا تفعل. لن تستطيع أن تفعل لها شيئاً. وقد يزيد حالي سوءا. ونحن جميعاً ندرك أننا أسيرات سلطانها ولا تفكرّ أية واحدة منّا في الإفلات. وكثيراً ما قالت لنا هي نفسها " لو فكرّت أية واحدة منكن في الهرب فسأظفر بها حتى لو ذهبت إلى آخر الدنيا". وهى قادرة فعلاً يا نبيل. فيدها طويلة جداً ولها صلات قوية مع أشخاص من أعلى المقامات ومن ذوي النفوذ العظيم. وأنا لا أحتمل فقدان ما أتمتع به من مزايا… مزّية القراءة ومزّية رؤيتك. ففقدانهما يعني لي الموت .
وصمتت وقتاً وهي مطرقة ثم رفعت رأسها وقالت وعلى شفتيها بسمة مرّة: فما عليّ إلاّ الخضوع لواقعي . أليس هذا هو ما اقترحته عليّ يا نبيل؟
نكست رأسي محزوناً وقلت: الحق معك.








الصوت الثاني
كنت في نار فصرت في نارين يا بدور. أمسيت في سجنين بدلاً من سجن واحد.. سجن الرئيسة الكلبة وسجن خوفك. لم تكوني تبالين بشيء بعد أن اعتدت حياتك الجديدة وصارت واقعاً مفروضاً عليك. وكانت القراءة تعوّضك عن عالمك القذر وتنسيك كل شيء. كنت في رحابها تخلعين عنك ثوب حياتك الليلية الدنس وتحيين في عالم آخر لا علاقة له بعالم هنادي. تحيين في عالم بدور النقيّ . عالم الأدب الذي يطهرّ النفس من أدران الحياة. كنت تعيشين بمعزل عن كل ما حواليك. حتى هموم زميلاتك كنت بمعزل عنها. حتى الرئيسة الكلبة لم تعودي تتضايقين منها. والآن انقلبت حياتك رأساً على عقب بعد أن أشرق في أفقها نبيل. الآن صرت متمردة على حياتك هذه. وصرت تخشين أن تغضبي الرئيسة الكلبة فتحرمك من رؤية نبيل. ونبيل.. ما موقفه منك بعد أن حكيت له حكايتك ؟ هل سيظل يغضّ الطرف عن أولئك الذين يمتطون جسدك كل ليلة؟! وأنت . كيف ستجرئين على التحديق في وجهه بعد الآن؟ لقد عاودك الشعور الذي كان يتملكك حين تمرغت بوحل مهنتك لأول مرة.. يوم كان يهاجمك الغثيان وتعاجلك الرغبة في القيء كلما امتطى جسدك ذئب بشري. مسكينة أنت يا بدور. من قال إن حكاينك أقنعت " نبيل " ببراءتك؟ ربما وجدك مخطئة منذ البداية.. منذ استسلمت لغواية ماهر. لقد زعمت له أنك كنت تلميذة متميّزة مشهود لها بالذكاء والثقافة. فكيف استسلمت مثل هذه التلميذة لغواية مدرَّسها بتلك السهولة؟! وكيف سمحت له أن يلعب بعقلها؟! اعترفي يا بدور بأن غرورك هو الذي أسلمك إلى هذا المصير وأنك كنت مستعدة لأن تُخدعي. وإلا فكيف قبلت سلوك ماهر الذي كان أشبه بسلوك الصبيان المراهقين وأنت التلميذة المثقفة صاحبة الشخصية المتميّزة؟! يودع قصائد الغزل ورسائل الغرام في دفترك فتغتبطين لذلك. وتصّدقينه حين يهمس لك بأن ما يلقيه على التلميذات من قصائد الغزل المشهورة موجه إليك. ثم تستسلمين لغوايته بتلك البساطة. وبعد أن وقع ما وقع أما كان الأجدر بك أن ترغميه على الزواج منك؟ أما كان الأجدر بك أن تفضحيه بدلاً من أن تفرّي من البصرة ؟! ثم كيف جازت عليك خدعة هاني؟ ألم تحدثك نفسك بأن سلوكه مثير للريبة … فكيف واصلت العمل معه وارتضيت الإقامة في بيت تلك المرأة الغريبة الأطوار التي زعم أنها قريبته؟ وعلوان .. علوان القوّاد.. كيف لم ترتابي بنواياه وهو يبالغ في التودّد إليك؟ وكيف تغافلت عن الهمسات المريبة التي كان يتبادلها مع الرئيسة الكلبة وهما يسارقانك النظر كلما زارت متجره؟ ثم كيف وافقت على مصاحبة الرئيسة الكلبة إلى منزلها بحجة واهية مع أنك كنت ترتابين في توددها إليك فدخلت إلى الشبكة برجليك؟! كيف حدث لك كل ذلك يا بدور الذكية المثقفة؟! أهذه هي نهاية الثقافة التي حشوت بها دماغك؟ أن تكوني بغياً حقيرة؟ اعترفي يا بدور بأنك كنت دائماً غبّية ساذجة مغرورة. واعترفي أنك كنت دائماً جبانة وإلاّ لقضيت على حياتك حينما فررت من أسر هاني أو حينما حبستك الرئيسة الكلبة في قبو البيت. والآن تتوقعين من نبيل أن يرثي لك وأن يحترمك. لقد أخطأت خطأ عظيما في حكاية قصتك له. فهي حكاية تدمغك بدلاً من أن تبرئّك. ولعله كان يعتقد في السابق أن ظروفاً قاهرة فرضت عليك هذا المصير اللأسود . ولعله كان يختلق الأعذار . أما الآن فقد توضح له أنك مسؤولة عن مصيرك بحماقتك وغبائك وغرورك وضعف إرادتك. وكان ينبغي لك أن ترفضي واقعك هذا منذ البداية. فما أنت الآن سوى خاطئة يا بدور. كلبة نجسة تمتطيها كل ليلة الذئاب الجائعة. لقد فقدت كل شيء. فيا لبؤسك يا بدور . يالبؤسك.
















الصوت الأول
حينما غادرت النُزل خيّل إليّ أنني أحمل أحزان الدنيا على كتفي. وأيقنت أن بدور باتت أغلى شيء في حياتي . و لم يعد بوسعي السكوت عما تكابده من قهر في أسر الرئيسة. وناقشت مع نفسي حالتها كقضية جنائية. وجرّبت استثمار خبرتي القانونية لإيجاد مخرج لها. فخطر لي في البداية أن أهُيّيء معالم قضية جنائية بطلتها الرئيسة. فلا شك أن ضغوطها على النزيلات في ماخورها هي ضغوط جنائية. ويمكن بالتالي تقديمها إلى المحاكمة. لكنني اصطدمت بعقبة وهي غياب شكوى الطرف المجني عليه. فبدور وزميلاتها يرفضن بالتأكيد تقديم شكوى ضدها. فالخوف من جبروتها يكاد يشلّهن كليّا. وهن يعتبرن الخضوع إليها أمر مسلّم به ولا مجال لنقاشه. وعجزت في النهاية عن صياغة تكييف قانوني للقضية. وأورثني ذلك كرباً عظيماً.
حينما مضيت لزيارة بدور مساء الثلاثاء التالي كان قلبي مثقلاً بالهمّ. واستقبلتني بلهفة عارمة وشبكت ذراعيها بقوة حول جسدي وكأنها تخشى أن أفلت منها. وانطلقت تردد بلهجة محمومة وهي تفرش وجهي بالقبلات: شكراً للّه أنك أتيت يا نبيل.. شكراً للّه.
قلت في شيء من الدهشة: ولكن ما الغرابة في مجيئي يا بدور؟ أنت تعلمين أنني أترقب موعدنا بلهفة.
قالت بلهجة مضطربة: أصبحت أخاف من أيّ شيء قد يعيقك من المجيء يا نبيل. ولا أحتمل فكرة غيابك عن الموعد. إنني أعدّ الساعات منذ الصباح.
قلت في حنان: وأنا احمل لك نفس الشعور يا بدور.
تساءلت في وله: أحّقاً أنك ما تزال تحبني يا نبيل؟
فقلت في عجب: وما الذي جدّ حتى أنقطع عن حّبكِ؟
همست ووجهها يتلوّن: أتعني أن حكايتي لم تنزع حبّي من قلبك يا نبيل؟
: بل زادته يا بدور. فالجور الذي ألحقته بك الحياة ملأ قلبي بالغصّة.
همست بلهجتها المضطربة: تخيلت أنني فقدتك يا حبي .
ثم رفعت عينيها إلى السماء وهتفت ووجهها يترقرق بشراً: شكراً لك يا ربي.. شكراً لك إذا أنعمت عليّ بهذه النعمة التي مسحت كل أحزاني.
فقلت ً: وما ذنبكِ حتى تقاسي كل هذه الأحزان؟
قالت منقبضة الوجه: هذا هو نصيبي من الدنيا يا نبيل. لكن حّبك عوّضني عن كل شيء.
فهتفت : لا.. لم يعد في إمكاني قبول هذا الوضع. لن تبقي خاضعة لعبودية هذه المستبدة.
قالت بلهجة منكسرة: أنت تعلم يا نبيل أن الإفلات من قبضتها أمر مستحيل. وأنا لست قادرة على اي تصرف يعرّضني للحرمان من رؤيتك.
تأملت وجهها المنكسر الحزين بقلب موجع. ثم قلت فجأة وأنا أحدّق في وجهها: هناك طريقة تخلّصكِ من قبضتها يا بدور.
تساءلت في وجع : وما هي يا نبيل؟
فقلت: نتزوج .
شهقت بدور في ارتياع وهتفت باستنكار: نتزوج؟! مستحيل.. مستحيل يا نبيل.
قلت في إصرار: لا.. ليس مستحيلا. سأجد طريقة لتهريبكِ من النزل ثم نعقد زواجنا.
هزت رأسها بشدة وهتفت: مستحيل.. مستحيل يا نبيل. نتزوج؟! مستحيل.. مستحيل أن يتزوج شخص مثلك إمراة مثلي.
قلت وأنا ارمقها في حبّ: انت زوجة رائعة لأيّ رجّل يا بدور.
قالت وقد أسرها الاضطراب : لا يا نبيل.. تتزوجني؟ أنت تتزوجني؟ أنسيت من أكون؟
قلت برقة: من تكونين؟ فتاة طيبة أسلمتها ثقتها بأناس فقدوا ضمائرهم إلى هذا المصير.
حنت رأسها وتمتمت: أنت أنبل شخص على وجه الأرض يا نبيل، و لا يمكن أن أستغل نبلك وشفقتك عليّ. فأنا فتاة خاطئة. أنا أعلم أنني خاطئة ولا عذر لي أبدا.
قلت وأنا أمسح وجهها بنظرات حنون: ثقي يا بدور أن قراري هذا لا علاقة له بالشفقة. وأنتِ تعلمين أنني أحّبكِ. وكل حب متبادل لابد أن ينتهي إلى الزواج.
قالت وهي أسيرة اضطرابها : ولكن ألا ترى أنه قرار فجائي يا نبيل أملته عليك رغبتك في إنقاذي من أسر الرئيسة الكلبة؟
فقلت : أبداً.. أبداً يا بدور. إنه ليس قراراً فجائياً. صحيح أنني لم أفاتحكِ به من قبل. بل وأصارحكِ أنني لم أناقشه حتى مع نفسي. لكنه كان يكمن في أعماقي منذ أن تأكدت أنني أحّبك وأنك تبادلينني الحب.
شحب وجه بدور شحوباً عظيماً حتى حاكى وجوه الموتى. وبقيت مطرقة ووجهها يكشف عن صراع محتدم. ثم رفعت رأسها أخيراً وقالت في تأنّ وكأنها تزن كلماتها: أسمع يا نبيل. سأتعامل بحيادية مع اقتراحك هذا. وسأقترح عليك بدوري اقتراحا لا أرضى عنه بديلا.
قلت بلهفة: ما هو؟
قالت بلهجتها البطيئة: أن نمنح أنفسنا مهلة شهر قبل البتّ فيه. وهذه المهلة ستتيح لكلينا أن يفكّر فيه تفكيراً عقلانيا.. بشرط أن تعدني وعداً صادقا أن تناقشه مع نفسك نقاشاً موضوعياا بعيداً عن العاطفة المجردة..وأن تطرحه كذلك على أصدقائك المقربين وتستمع إلى آرائهم فيه. هل أنت موافق يا نبيل؟
قلت وأنا أهزّ رأسي : وهو كذلك يا بدور.




الصوت الثاني
أأنت في حلم أم يقظة يا بدور؟ يعرض نبيل عليكِ الزواج؟ لابد أنكِ حالمة. لقد خيل إليك انك فقدته بحكايتك ِ الحمقاء..وإذا به يعود إليكِ وفي نيتّه أن يتزوجكِ. هل ما سمعته حقيقة أم مجرد حلم؟ وأيّ رجل نبيل هذا ؟ أهو انسان حقيقة أم أنه ملاك هبط عليكِ من السماء ليضمدّ جراحكِ؟ كيف يمكن أن يكون إنسانا ويكون ماهر إنساناً أيضاً؟ كيف يمكن أن يمتّ نبيل إلى بني البشر ويكون هاني وعلوان وكل من عرفتهم من الرجال من البشر أيضاً؟! شكراً لك يا ربي يا من وسعت رحمتك السماوات والأرض. ها أنت ذا تشملني برحمتك بعد أن كدت أيأس منها. منذ الليلة سأغفو دون أن تعكرّ نومي الكوابيس المرعبة. منذ الليلة سأنام وقلبي عامر بالطمأنينة والسلام. شكراً لك يا ربي. وشكراً لك يا حبي.



الصوت الأول
اقتنعت بمهلة أسبوع ً بدلاً من شهر لدراسة قراري دراسة متأنيّة كما طلبت بدور. وأمضيت الأسبوع بالفعل في مناقشة نتائجه مناقشة مسهبة. وشغلت بأفكاري ليلاً ونهارا حتى خيَل إليّ أن مخّي سينفجر ويتطاير شعاعا. واحتجبت عن بدور أثناء ذلك الأسبوع كيما أصل إلى قناعة كاملة بعيداً عن تأثيراتها. وياله من أسبوع شاق لم أعهده في حياتي. وكم من ليلة فيه ظللت مفتوح العينين حتى الصباح . وكان رأسي يعجّ بالتصورات عما سيترتب على زواجي من عواقب . وفي نهايته أيقنت أن زواجي من بدور هو فوق أيّ اعتبار آخر. ومضيت إليها وأنا أحمل قناعتي الكاملة. وما أن احتوتنا الغرفة حتى انهالت عليّ ضمّاً وتقبيلا وهي تتمتم محمومة: أصحيح أنك حضرت يا حبي ؟
قلت وأنا أقودها إلى المقعد: اهدئي يا بدور.. اهدئي. أنا لم أغب عنكِ هذا الأسبوع إلا لكي أحمل لكِ قراري الحاسم وقناعتي الكاملة.
قالت وهي تمسح وجهي بنظرات خائفة: أصدقني القول يا نبيل.. هل وفيت بوعدك وفكّرت بقرارك بموضوعية وعقلانية؟
فقلت س: هذا ما كنت أفعله طوال أيام الأسبوع يا بدور.
قالت وعلى وجهها بسمة قلقلة: ألم تجده قراراً عاطفياً وغير عقلاني أوحت إليك به اللحظة الآنيّة؟
فقلت : على العكس. وجدته قراراً عقلانيا جداً . و كان ينبغي لي أن أتخذه منذ أدركت أنني أحّبكِ.
أشرق وجه بدور إشراقة بديعة. لكنه سرعان ما غام وأطرقت صامتة. وفجأة أجهشت ببكاء مكتوم واهتزّ جسدها بقوة. قالت بصوت مجروح: لماذا لم تدلني على نبيل يا ربي قبل أن أغوص في الوحل؟
قلت برقة: ها أنت ذي التقيت بي يا بدور ولا شيء يهمّ.
رفعت رأسها وقد تبلّل وجهها بالدمع وتساءلت: كيف لا يهمّ يا نبيل؟ كيف لا يهمّ؟ لست سوى بغي حقيرة يمتهن جسدها كل ليلة .
قلت بلطف: لكن ذلك ليس ذنبكِ يا بدور. إنه ليس خطيئتك.. إنه خطيئة المجتمع.
مسحت دموعها براحة يدها وقالت وعيناها ما تزالان دامعتين: وماذا يغيّر ذلك من واقع الحال يا نبيل؟ كيف تقنع المجتمع أنه ليس خطيئتي؟ ومن يقبل بمنطقك هذا ويغفر لك الزواج مني؟
فقلت : إنها حياتي وأنا المسؤول الوحيد عنها.ولست مسؤولاً أمام أحد لتبرير قراراتي مادمت مقتنعاً بها.
صمتت طويلاً وهي تائهة العينين ووجهها يفور بالحزن. ثم همست كالمخاطبة نفسها: لو تعلم كم أحّبك يا نبيل.. يا ليت بقدرتي أن أفتح قلبي لتقرأ ما فيه.
قلت برقة وعيناي تتبعان عينيها:وأنا أبادلك نفس الحب يا بدور. وحبّنا كفيل بضمان السعادة لنا بالرغم مما قد يواجه زواجنا من مصاعب .
قالت وهي تهز رأسها في شك: وهل سيدعنا المجتمع نستمتع بحياتنا يا نبيل؟ هل سيتركنا لحالنا؟
فقلت ً: لا حق لأحد أن يتدخل في حياة غيره يا بدور.
ظلت صامتة دقائق وهي تائهة النظرات ثم همست: ليت لنا جناحان نطير بهما إلى كوكب آخر يا نبيل .. ليتنا نمضي إلى مكان لا يعرفنا فيه أحد حتى لو كان جزيرة مهجورة .
قفلت : لسنا مضطرين للعيش في جزيرة مهجورة يا بدور. ومن حقّنا أن نعيش ضمن المجتمع ونفرض عليه إرادتنا.
لاحت منها التفاتة إلى ساعة يدها فهّبت واقفة في فزع وقالت: انتهى وقتنا يا نبيل . ولا شك أن الرئيسة الكلبة غاضبة الآن .
ثم أضافت في مرارة وهي تبتسم ابتسامة حزينة: أترى يا نبيل؟ نحن لسنا أحراراً نفعل بأنفسنا ما نشاء.
قلت وأنا أنهض: سترين أننا قادران على أن نفعل بأنفسنا ما نشاء رغم أنف المعترضين.
قالت وهي توّدعني عند الباب: لا تنس أن تفي بالجزء الثاني من تعهدك يا نبيل وهو استشارة أصدقائك .
فأجبتها: لا حق لأصدقائي أن يتدخلوا في حياتي يا بدور لكنني سأستجيب لرغبتك.







الصوت الثاني
مالك تحاولين الهرب من السعادة التي أنعم بها الله عليك يا بدور؟ أكان يخطر على بالك أن تتهيأ لك مثل هذه الفرصة يوماً؟! إنها الفرصة التي أهدتها السماء إليك لتعّوضك عما ألحقته بك الحياة من غرم. ولكن كيف لي قبول هذه التضحية من نبيل ؟ هو الشاب اللامع يتزوج من واحدة من حثالة المجتمع؟ من كلبة نجسة تمتطيها كل ليلة الذئاب الجائعة؟!.. وما ذنبك؟ هل اخترت لنفسك مثل هذا المصير؟ ألم يكن هذا المصير جناية من جنايات المجتمع عليك؟.. وما ذنب نبيل ليتحمل هذا الغرم؟.. نبيل يحبك والحب حمّال لأعظم التضحيات. ومن حقّك أن تقبلي تضحيته ما دمتِ تحبينه بقدر ما يحبك إن لم يكن أكثر. ومن يدري؟ربما استطعت تعويضه عن تضحيته ولعلك تحيلين بيتكما إلى جنّة وارفة الظلال. جنّة تغدقين فيها عليه من الحب مالم تغدقه امرأة على رجل00 يا ربّي أتراك عاقبتني على ذنب اقترفته دون أن أدري ثم عفوت عني؟ شكراً لك يا ربّ. شكراً على هديتك العظيمة. إنها عوّضتني عن كل ما كابدته من عذاب.


الصوت الأول
في سهرة الخميس، وبعد أن اكتمل عقد الصحاب، قلت فجأة: عفواً أيها المحامين.. اسمعوني لحظة لأعرض عليكم قضية تخصّ أحد معارفي لتفتوني برأيكم فيها.
قال هادي : ألا تكفينا المرافعات التي تشغلنا طوال الأسبوع يا نبيل؟
وقال فخري وهويقهقه : وهل ستدفع لنا مبلغاً لقاء هذه الاستشارة القانونية؟
قال حميد وقد لاح الاهتمام على وجهه: لنستمع إلى هذه القضية يا إخوان .
ثم التفت إلىّ وقال: هيّا.. حدّّثنا عن هذه القضية يا نبيل.
فقلت: ملخص القضية أن صاحبي هذا أحب بغياً وهي تبادله الحب. وهو ينوي الزواج منها بالرغم من إدراكه أن هذا الزواج قد يلحق الأذى بسمعته وسمعة أسرته . فهل من حقه اتخاذ مثل هذا القرار؟
قال سعيد : هذا القرار ليس سليماً. فالمفروض أن يكون طرفا الزواج متكافئين.
وقال ناجي: وهو قرار غير عادل في جوهره. فسيجني عليها لو تزوّجها لأنه لن يغفر لها ماضيها.
وقال أكرم: ياإخوان. دعونا نسأل نبيل أولاً إن كان صاحب القضية عاقلاً أم مجنوناً قبل أن نواصل النقاش.
قلت في شيء من العصبية: عفواً اكرم.. ولكن ألا توضح لي لماذا هو مجنون؟
فسألني أكرم: ألم تقل إنها تحترف البغاء؟
فأجبته: لكنه أكد لي أن الظروف هي التي أجبرتها على ذلك. فماذا لو مدّ لها يد العون وانتشلها من سقطتها؟ أليس هذا عملاً شهماً؟
قال سعيد: يمكنه أن يبحث عن طريقة أخرى لمعاونتها..أما الزواج فلا.
وقال ناجي: أعتقد أن زواجاً من هذا النوع مكتوب عليه الفشل. فمهما كان صاحبك هذا ذا مروءة يا نبيل فلن ينسى أنها كانت بغياً في يوم من الأيام .
وقال حميد وهو يضغط على كلماته ويرميني بنظرات حادة: أنا أعتقد أن صاحبك هذا لا يقوم بعمل شهم يا نبيل بل بعمل أناني. فهو يهدف إلى إشباع نزواته الذاتية على حساب سمعة عائلته . فالبغي امرأة خاطئة ومرفوضة من قبل كل الناس .
فقلت : وإذا كانت خاطئة.. ألا يحق لها التوبة؟ فلماذا ترفض توبتها؟ ألا يقبل الله التوبة.. فلماذا يرفضها البشر؟ ثم ألا نعلم ان معظم أمثال هؤلاء المنحرفات ضحايا ولسن مسؤلات عن انحرافهن ؟ فلماذا نصر على معاقبتهن ؟ا ولماذا يجب حرمانهن من فرصة أخرى في الحياة الكريمة؟
قال أكرم: البغي امرأة خاطئة بكل المقاييس كما قال حميد.
فقلت : عفواً أيها السادة. تذكروا قول السيد المسيح عن مريم المجدلية:" من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر". وتذكروا أنها صارت من أحب حواريه إلى نفسه.
قال فخري وهو يقهقه : لكننا لسنا أنبياء يا نبيل,
وقال ناجي متعجباً: أنت متحمس يا نبيل لهذه القضية وكأنها قضيتك الشخصية.
فقلت : أبداً. كل ما هنالك أنني مسؤول أن أحمل لصاحبي مشورة لا تتجافى وروح العدالة. وأرى أن نقاشنا لهذه القضية يتجافى وروح العدالة ..ولكن يبدو ان الأفكار الإنسانية التي نؤمن بها لا مكان لها في الواقع المعاش بل في الرؤوس فقط. ثم اسمحوا لي أن أسالكم : كيف يحق لنا أن نزعم أننا محامون ندافع عن العدالة ونحن نتخذ مثل هذه المواقف؟
قال حميد وهو يرميني بنظرات حادة: اسمع يا نبيل. هذه القضية لا علاقة لها بالأفكار الإنسانية ولا بالعدالة . فالبغي مهما تكن ظروفها شخصية مرفوضة في أي مجتمع من المجتمعات. وإذا كان صاحبك عدواً لنفسه ولعائلته فليتزوج من معشوقته هذه ولكن أبلغه ألا يبحث عن تبريرات عقلانية لعمله الطائش هذا.
وقال فخري وهو يقهقه : ثم من قال لك إننا مسؤولون فعلا عن العدالة يا نبيل ؟ كل ما هنالك أنها مهنة نأكل منها عيشنا كسائر المهن .
وعقّب أكرم قائلاً : لقد قال حميد القول الفصل. وأظننا في غير حاجة إلى مواصلة النقاش خصوصاً و أنه حان موعد الجزء الثاني من السهرة. وعليك يا نبيل ابلاغ صاحبك بأن هيئة القضاة قد رفضت قراره في الزواج من صاحبته.
وعقب حميد وهو يصليني بنظراته الحادة: ولا تنس يا نبيل أن تتقول لصاحبك أيضاً أنه لو نفّذ قراره لدمّر سمعة أبيه المحترم وقضى على مستقبل أخواته في الزواج بل ربما ماتت أمّه حزناً عليه .
قال فخري وهو يقهقه: لكأنك تعرف هذا الشخص يا حميد وتعرف عائلته.
أجاب حميد وهو ما يفتأ يصليني بنظراته الحادة: لا.. أبداً.. وإنما هو كلام عام .
وتأهب الصحاب للجزء الثاني من السهرة فاعتذرت عن مشاركتهم واتجهت إلى المنزل وقلبي مثقلاً بالهم.












الصوت الثاني
اليوم سيحضر نبيل. وعليك أن تبلغيه بالجواب بموافقتك. ولا مبرّر للتسويف يا بدور. لو ضيّعت هذه الفرصة لحكمت على نفسك بالموت وحكمت على نبيل بالشقاء. وأنت تدرين أنه لم يعد بإمكانك احتمال وضعك في هذا البيت. إنك لتشعرين بالاختناق. وإن منظر الرئيسة الكلبة ليملؤك بالتعاسة. إن كل نظرة منها إليك سكينّ تغمد في قلبك. ولقد صرت تحسّين بأن الذئاب البشرية يغتصبونك. فجسدك لم يعد ملكاً مشاعاً لكل من هبّ ودبّ. آن الأوان لأن تمنعي الذئاب البشرية من الولوغ فيه. إنه صار ملكاً خالصاً لنبيل. لقد تغيّر كل شيء . لم تعودي هنادي. لقد استعادت بدور شخصيتها. لقد ماتت هنادي. وإذا واصلت العيش في هذا البيت ماتت بدور أيضاً . وعليك أن تقبلي عرضه يا بدور. عليك أن تقبلي عرضه رأفة بنفسك ورأفة به. فهو يحبك يا بدور. يحبك ربما أكثر مما تحبّيه00 لا.لا. لا يمكن أن يحبني أكثر مما أحبّه. أنا أعبده. أستغفرك يا ربّي من زلّة لساني هذه وأنت تعلم بقصدي. صرت يا نبيل الهواء الذي أتنفسه. فاذا انحبس هذا الهواء عني اختنقت ّ. أنت إكسير حياتي يا نبيل . فكيف لي العيش بدونك؟! ولكن هل يحق لي أن أقتضيك كل هذه التضحيات يا نبيل ؟! ربما اضطررت إلى أن تعيش في عزلة عن أهلك وأصدقائك. فلعلهم سيقاطعونك إذا تزوجتني.. وليكن يا بدور. متى كان الأهل والأصدقاء كل شيء في الحياة؟ ماذا يربط الإنسان بأصدقائه وحتى بأفراد عائلته سوى علاقات خارجية لا مساس لها بجوهر الحياة؟ العلاقات الحقيقية هي التي تقوم بين رجل وامرأة. بين الزوج وزوجته. وكثيراً ما قرأت مثل هذا الكلام في الكتب يا بدور. أفليس المفروض أن تنتفعي بما قرأت؟ وقد وهبكما الله هذه الهبة. هذا الحبّ الذي ربط بين قلبيكما والذي سيعوّضكما ن كل شيء.. شكراً لك يا ربي، لقد رضيت عني أخيراً. ولعلك غضبت عليّ قبلاً فعاقبتني، لكنك ستقبل توبتي الصادقة. فأنت التوّاب الرحيم. سأتوب يا ربي توبة نصوحا وأكفرّ عن ذنوبي. وسيصحبني نبيل إلى بيتك الحرام فأتطهر من ذنوبي وأعود نقيّة كما كنت قبل أن أعرف ماهر. ستغفر لي خطاياي يا إلهي فأنت الغفور الرحيم وسألتزم بكل فروضي الدينية وأعوّض عما بدر مني من تقصير. شكراً لك يا ربي. أية سعادة تدّخرها لي الحياة حينما يضمّنا بيت واحد أنا ونبيل؟ وستفرحين بسعادة ابنتك يا أمّي. فسأعود إليك وأنا بدور الابنة الشمّاء التي تعرفينها بعد أن أمحو العار الذي دنّستكم به. ستعود إليك ابنتك العزيزة التي كانت موضع فخرك واعتزازك. ابنتك التي كانت تغمرها سعادة عظمى وهي تسند رأسها إلى صدرك الحنون. وسأطلق شعري وأسألك أن تضفريه لي جديلتين كما كنت تفعلين وأنا صغيرة. حمداً لك يا ربي على السعادة التي تدّخرها لي. حمداً لك وألف حمد.




الصوت الأول
استثارني نقاش الصحاب استثارة بالغة. ودعاني إلى مراجعة مهنتنا نحن المحامين والتي يفترض أنها مكرسة للدفاع عن العدالة . واقتنعت أنها ليست سوى أكل عيش شأنها شأن سائر المهن كما قال فخري . كذلك دعاني النقاش إلى مراجعة سلوك الناس جميعا بنظرة نقدية جديدة . فتراءى لي أن الكثيرين منهم يزعمون أنهم يتبنوّن الآراء الإنسانية فإذا دعتهم الحياة إلى تطبيقها تنصلوا منها خوفاً من مساسها بمصالحهم. ووجدتني لست بمنأى عن مثل هذا السلوك المزدوج. فقد انطوى سلوكي مع الر ئيسة مثلا على كثير من التنازلات خشية ً من المساس بمصلحتي. ولم أدر كيف يمكنني مصارحة بدور بما دار بيني وبين الصحاب من نقاش0 وحينما التقيتها سألتني وابتسامة مضطربة تترنح على شفتيها: هل استشرت أصدقاءك يا نبيل؟
قلت متردداً: لم استشرهم بعد لأنني مازلت غير مقتنع بأهمية ذلك. ولن يؤثر رأيهم في قراري أكان سلبيّاً أم إيجابيا. لكنني سأفعل على كل حال في أقرب فرصة.
قالت والابتسامة المضطربة تتشبث بشفتيها: أترى يا نبيل؟ أنت نفسك غير مطمئن إلى رأي أصدقائك.
قلت متهربا: أبداً. كل ما في الأمر أن رأيهم لا يهمني في قليل أو كثير يا بدور وليس من حقهم التدخل في حياتي.
أطرقت بدور وقد غشي وجهها انكسار فاجع. وبدا لي أن وجهها الذابل قد ازداد شحوباً عما عهدته في المرة السابقة. سألتها في قلق: مالك يا بدور؟ هل تحسّين بالمرض؟
قالت وهي تتجنبني بنظراتها: لا .. أبداً.
فقلت: ولكنك تبدين شاحبة الوجه وكأنك خرجت من مرض طويل. صارحيني يا بدور فالعلاقة بيننا لم تعد تسمح بأن يخفي أحدنا عن الآخر شيئاً.
رفعت إليّ عينين ذابلتين وقالت: كل ما في الأمر أنني لم أعد أنام إلاّ قليلا.
تساءلت : ولماذا يا بدور؟ ما الذي حدث؟
رمقتني بعينين معذبتين وقالت: أصارحك يا نبيل بأنني صرت لا أحتمل وضعي هنا.
فسألتها : لماذا؟ هل خلقت لك الرئيسة مضايقات جديدة؟
قالت : لا . لكنني لم أعد أطيق رؤيتها.
وسكتت ووجهها ينضح بالقرف. ثم همست وكأنها تخاطب نفسها: لولاها ما انتهيت إلى هذه الحال.
فقلت محزونا: الحق معك.
ظلت منكسّة الرأس دقائق. ثم قالت بلهجة مجروحة وهي خافضة العينين: وهؤلاء الذين يمتهنون جسدي كل ليلة.. إنه لأمر لم يعد في طاقتي احتماله .. كأنهم يغتصبونني على مرأى منك.
قلت وأنا أُربّت على خدّها: أنا أفهم موقفك هذا يا بدور وأقدّره. فماذا تتصورين شعوري تجاه هذا الوضع؟ أنا أيضاً لم أعد أطيقه. لذلك لابد لنا أن نتزوج بأسرع وقت وننقذ نفسينا من هذا العذاب. ولا داعي للمهلة التي فرضتها.
قالت بلهجتها المنكسرة: وهل هناك أكثر رغبة مني في إتمام هذا الزواج يا نبيل؟ إنه سيرفعني من جهنم إلى الجنّة. لكنني لا أرتضي لك قراراً مستعجلاً تندم عليه إذا فترت عاطفتك نحوي.
قلت في عتاب: وكيف يخطر لك أن عاطفتي يمكن أن تفتر نحوك يوماً يا بدور؟
قالت وهي تبتسم ابتسامة خجولة وتغضّ طرفها: كثيراً ما قرأت في القصص أن الحب قد يموت حين يخضع لروتينية الحياة اليومية يا نبيل.
فقلت ضاحكا: دعك من القصص ففيها كثير من الخيال. وكوني على ثقة يا بدور أنني سأظل أحبك فأنت المرأة الوحيدة التي اختارها قلبي.
قالت في اندفاع: وأنت أيضاً الرجل ااوحيد الذي أحببته حقا يا نبيل. كنت أتصور أنني جرّبت الحب قبلك، وأعني حبّ ماهر، لكنني أدركت الآن أن ذلك لم يكن حبّاً حقيقيا لأنه لم يثر في قلبي من نشوة وعواطف وأشواق كالتي أعرفها الآن.
قلت في رقة: وما دمنا واثقين من حبنا يا بدور .. فِلمّ هذا التأجيل؟
قالت وهي تغمر وجهي بنظرات مفتونة: كل غرضي يا نبيل هو أن أُتيح الفرصة لك لتترسخ قناعتك بسلامة قرارك. كيف يمكنني قبول قرارك بهذه السرعة؟ كيف يمكنني قبول قرارً خطيرً يتعلّق بحياة أحبَ إنسان إليّ، بل أحبّ إليّ من الحياة نفسها؟ أنا لست فتاة طائشة يا نبيل وإن تصرفت في حياتي تصرفات حمقاء. وقد قرأت الكثير من الكتب وحاولت تثقيف نفسي . وأستطيع أن أدرك كم سيكلفّك هذا القرار من تضحيات . ألست بنت هذا المجتمع يا نبيل؟ ألا أدرك نظرة المجتمع إلى البغي؟ فكيف باستطاعتي المواقفة بهذه السرعة على زواج أحبّ شخص إلي من بغي حقيرة؟
فقلت في حزم: اسمعي يا بدور. نحن لا نملك سوى حياة واحدة وعلينا أن نعيشها بالطريقة التي تتوفر لنا فيها السعادة. ونحن يحب أحدنا الآخر حبّا رائعاً. وهذه الحقيقة هي أهم حقيقة لنا. فما دخل الأخرين في الأمر؟ وهل من العقل أن نضحي بسعادتنا من أجل إرضائهم؟! ولماذا ينبغي لنا أن نهتم لآرائهم أصلاً؟ هل سيعيشون حياتنا بدلاً منّا؟ وهل بإمكانهم أن يوفرّوا لأي منّا السعادة إذا حرم بعضنا من بعض ؟
قالت ووجهها يترقرق حباً: أنا شخصياً مستعدة للعيش معك في جزيرة مقفرة لو اقتضى الأمر ولا يهمّني وجود أي إنسان. وإذا تزوجنا فعلا فسأعزل نفسي عن كل البشر وألازم بيتي ولن أفكرّ في عقد صلة مع أيةّ واحدة من جاراتي. بل لن أرُي وجهي لأيّ مخلوق. ولكنك لا تستطيع فعل ذلك. فلك أهلك وأقرباؤك وأصدقاؤك . و أخشى أن يقاطعوك0 بل فد تضطر أنت نفسك إلى مقاطعة أصدقائك0 فربما كان قد ضاجعني بعضهم . وستظل تعيش ً بلا أصدقاء.
قلت مترفقا: اسمعي يا بدور. كل هذه الأفكار دارت برأسي فرفضتها . وأنا مستعد من الآن لمقاطعة الجميع . فنفوسهم تنطوي على زيف ً. وربما انتقلنا حالما نتزوج إلى بلدة لا يعرفنا فيها الناس.
قالت بلهجة معذبة: وهل سيدعنا الناس لحالنا يا نبيل دون أن ينبشوا في ماضينا؟
فقلت: نحن لم نرتكب جريمة حتى نخشى أن ينبشوا في ماضينا يا بدور. وأنت بالذات مجنيّ عليها. أنت وزميلاتك ضحايا المجتمع. ضحايا الفقر والحاجة أو مكر الرجال. وأنتن لستن سعيدات بمهنتكن. وإلاّ فأي امرأة في الوجود تستمتع باستقبال عشرات الرجال كل ليلة؟ أنتن ضحايا ولستن طرفاً في جريمة. وينبغي أن تكون معاملتكن على هذا الأساس. ويجب عليك يا بدور أن تعي ذلك وتفكري على هذا النحو.
قالت وهي تائهة العينين: وكم واحد في المجتمع يفكر مثلك هكذا يا نبيل؟
فقلت: إذا لم يفكروا هكذا فالقصور في عقولهم.
قالت وهي تغضّ طرفها وقد احمرّ وجهها: وأنت يا نبيل. ألن تفكر يوماً وأنت تنام معي كم رجلاً دنّس جسدي قبلك؟
قلت في حزم : اسمعي يا بدور. حينما اتخذت قراري في الزواج منك فذلك يعني أنني سأتعامل مع بدور وليس مع هنادي. هذا ما استقرت عليه قناعتي. ماذا تتصورين أنني كنت أفعل طوال أيام الأسبوع التي احتجبت فيها عنك؟! لقد ظللت ليلاً ونهارا أناقش كل ما يترتب على قراري من عواقب في كل مناحي حياتي. ووضعت تلك العواقب في كفّة والزواج منك في كفّة فرجحت كفّة الزواج منك. فأرجوك ألاّ تفكري في أيّ أمر آخر بعد الآن لأن عدم الزواج منك ستصيبني بالمعاناة والتعاسة.
تلبثت بدور مطرقة دقائق وهي مضطربة الوجه. ثم همست كالمخاطبة نفسها: لا يزال هناك أمر يشغل بالي يا نبيل.
سألتها: ما هو يا بدور؟
قالت هامسة: أولادنا يا نبيل. ماذا سيكون مصيرهم في هذا المجتمع الظالم؟ ألن يؤاخذوهم بجريرة أمّهم؟ من الذي يتزوج من فتاة كانت أُمّها بغياً ؟
فقلت: لا تشغلي بالك بهذه القضية يا بدور. أنا أيضاً خطرت على بالي مثل هذه الفكرة. وأطمئنك أنني لست مغرماً بالأولاد. ويمكن أن نستغني عنهم ونعيش لبعضنا. ماذا ينفع الأولاد؟
قالت وهي ترمقني بامتنان: هل هذا معقول يا نبيل؟ هل من المعقول أن تكون مستعداً لكل هذه التضحيات من أجلي؟ ما أنبلك! ما أنبلك! أنت اسم على مسمى يا نبيل.
قلت وأنا أغرق عينيّ في عينيها: معقول لأنني أحُبك حُباً خرافياً يا بدور.
وفي تلك اللحظة ارتفعت خبطات قويّة على الباب وتعالى صوت الرئيسة الغاضب: هل نسيتما نفسيكما؟
قلت وأنا أنهض بعجلة وأضع قبضة من المال على المنضدة: علينا أن نتخلص من هذا الإرهاب يا بدور. وسأعد خطة لهربك من هذا السجن.
قالت في انفعال: وسننجح إن شاء الله يا نبيل.
فتحت الباب فرأيت الرئيسة منتصبة بجواره بهامتها الضخمة وقد تعكرّ وجهها بالغضب. قلت في لطف: عفواً أيتها الرئيسة. أنا دفعت كل الغرامات المترتبة على الوقت الزائد.
قالت بصرامة: عليك أن تلتزم بالوقت كما أفهمتك يا أستاذ نبيل. وأنا لا أسمح بهذه المخالفات.
قلت وأنا اهبط السلّم عجلا: شكراً أيتها الرئيسة.

الصوت الثاني

يا ويلك يا بدور. لقد كتب القدر عليك الشقاء الأبدي. يالضيعة آمالك! يا للفرحة التي لم تتمّ! لقد كان الهاجس في أعماقك يحذرك من المضيّ بعيداً مع الأحلام. فلا يمكن للحياة أن تدخرّ لمثلك كل هذه السعادة. فأنت ممن ولدن للشقاء لا للسعادة. أنسيت كم ذقت من الحرمان وشظف العيش منذ أن توفي عنك والدك وأنت ما تزالين في العاشرة من عمرك؟ أنسيت كفاح أُمّك المرير؟ لقد عملت دلاّلة ً لكي توفرّ لك ولأخواتك لقمة العيش. ولولا صلابة أُمّك لتسوّلتم في الطريق0 حتى الأقرباء لم يكونوا يسألون عنكم. وكان على أُمّك الحنون أن تحمل العبء كله على كتفيها. ولكن ما ذنبي؟ لماذا ينبغي أن تظلمني الحياة ؟ لماذا ينبغي أن أدفع مثل هذا الثمن الباهظ؟ ا لماذا ينبغي أن أدفع ثمن جرائم غيري؟ لماذا يجب أن أتلقّى مثل هذا الجور؟ ما الذي فعلته في حياتي حتى أعاقب مثل هذا العقاب؟ لقد كنت دائماً فتاة طيبة أحب كل الناس رغم ظروفي القاسية0 أحب معلماتي وكل زميلاتي. حتى الزميلات اللواتي كن يحسدنني على تفوّقي وحبّ المعلمات والمعلمين لي0 حتى لبيبة التي كانت تنافسني على حب الأسذ ماهر بل وتكيد لي. فلماذا جوزيت على طيبتي هذا الجزاء الظالم؟!00 لا . لا يا بدور. اعترفي بأنك كنت أنانية حينما ارتضيت الزواج من نبيل زاعمة أنك ستعوّضينه عن تضحيته . ولكن ماذا عن أبيه القاضي المحترم؟ ماذا عن أخواته المحصنات؟ ماذا عن أمه المسكينة؟ كنت ستحطمينهم جميعاً. فيا له من ثمن باهظ كان سيدفعه نبيل لحبّك. هذا الإنسان الذي تزعمين أنك تفتدينه بحياتك. وأنه أهون عليك أن تموتي ألف مرة من أن تمسّ شعرة من رأسه بأذى. كيف خطر لك أن تقبلي منه هذه التضحية العظيمة؟ وكيف لم يخطر لك ما كان سيلحق هذا الزواج بعائلته من دمار؟! وشكراً لأبيه الشيخ الذي أعاد إليك وعيك. شكراً له إذ أعاد إليك عقلك بعد أن شلتّه عاطفتك00 شكراً لك يا سيدي الشيخ. كم كان منظرك مهيباً وأنت تتحدث معي بكل ذلك اللطف والدماثة والتهذيب. أنا البغي الحقيرة وأنت القاضي المبجل . أنا لا أستحق منك كل ذلك اللطف والكرم يا سيدي. ولقد أدهشني وجودك بين المنتظرين فلست معتادة أن يزورني رجال مسنّون. وذلك الشاب الذي كان يجلس إلى جوارك. لقد تذكرته في الحال فقد كان بصحبة نبيل حينما حضر لأول مرة إلى هنا. لقد بدا لي وجودك بين المنتظرين مريباً يا سيدي الشيخ. وحينما دخلت غرفتي شعرت في الحال أن كارثة ستلمّ بي. وانقبض قلبي وأنا أتفرس في وجهك فأرى الشبه واضحاً بينك وبين نبيل. وحينما كلّمتني أدركت في الحال أنك والد نبيل. فصوتك الحنون الدافئ هو صوت نبيل. وقامتك الشامخة هي قامة نبيل. ووجهك الصبوح الباسم هو وجه نبيل. ولا أدري كيف تجرأت وسألتك: "أأنت والد نبيل؟"
فأجبتني وأنت تتهاوى على الكرسي: "نعم يا ابنتي".أنا نجيب الصالحي والد نبيل .
لقد غمرتني بلطفك وكرمك وتهذيبك يا سيدي الشيخ وأنت تحاورني وتبدي لي التقدير والاحترام. وأخبرتني بأنك غامرت بسمعتك كقاضي وحضرت إلى هذا المكان متنكراً لأنك كنت واثقاً أنك ستواجه امرأة تستطيع أن تفهمك وتستجيب لرجائك. وقلت لي إن المرأة التي يحبّها نبيل ويضحّي بكل شيء من أجلها لابد أن تكون متميّزة. وقلت لي أيضاً إنك لا تدينني بسبب ما أنا عليه لأنك تعلم كم واحدة مثلي قد جنت عليها الظروف. بل وأسرفت في كرمك حتى بلغت الذروة حين قلت لي بأنك لا تشك بأنني الزوجة التي تسعد نبيل وأنك لم تكن لتعارض زواجه مني لولا أن مجتمعنا لا يرحم. وانه سيدين نبيل ويحطم حياته بل ويحطم حياة عائلته أيضاً وخصوصاً أخواته البريئات. ثم قلت لي إنك علمت أنني من محبّات الأدب وسألتني إن كنت قد قرأت رواية " مرجريت غادة الكاميليا" للأكساندر دوماس الصغير فأجببتك نعم قرأتها. فقلت لي أنا جئتك الآن ملتمسا عطفك وحسن تفهمك كما فعل والد أرمان دوفال حبيب مرجريت حين سألها أن تلغي موافقتها على الزواج من ابنه رفقاً بعائلته. ثم حدثتني عن كل ما يتعلق بعائلتك. وأؤكد لك يا سيدي الشيخ أنني كنت أجهل تلك الأمور. وإلاّ فيكف أرتضي لنفسي أن أدمّر سمعة قاض مهيب مثلك؟ وكيف أرتضي لنفسي أن أشوّه سمعة فتيات بريئات وأقضي على فرصهن في الزواج؟ لا . لا. مستحيل أن أفعل هذا. أنا فتاة طيبة ولست شريرة يا سيدي القاضي. وإذا كنت ارتضيت أن يضحي نبيل بمستقبله من أجلي فلأنني تصورت أنني سأعوضه عن ذلك بحبّي. ولكن كيف لي أن أبرّر لنفسي هذا الفعل الشرّير بحقّك وحق بناتك. أخوات نبيل حبي وأعزّ إنسان على قلبي؟ كيف أرتضي لنفسي أن أمسّ عائلته بأذىَ؟ هذا الملاك الذي أعاد إليّ طهارة نفسي؟! وشكراً لك يا سيدي القاضي يا والد أنبل إنسان على هذه الأرض0 شكراً لك على أن فتحت عينيّ المغمضتين وأعدت لي عقلي الضائع وإلا لكنت ارتكبت غلطة كانت ستصيبني بالندم طوال حياتي وبقدر شعر رأسي. لقد فتحت عيني وعقلي يا سيدي على حقيقة لست أدري كيف غابت عني وهي ان حب نبيل لي لا يعطيني الحق في أن أادمّر عائلته وأقضي عى مستقبله . وعفوك يا أعزّ إنسان على قلبي عما سأسببه لك من تعاسة. وأنا واثقة أنك ستسامحني… وسينسيك الزمن حبّي ويعوّضك بمن هي خير مني0 يعوّضك بالزوجة التي ستسعدك وتحافظ على مستقبلك. فأية امرأة في الوجود ستكون محظوظة بالزواج من رجل مثلك. ويكفيني أن أكون ذكرى جميلة تطوف في خاطرك وحلماً عابراً مرّ بك. فوداعاً يا حبي. يا أعزّ الناس.










الصوت الأول
هرعت إلى "كرادة خارج" وأنا أحسّ بسرور غامر فسأنقذ بدور أخيراً من حياتها المأساوية وسنبدأ معاً حياة جديدة. وكنت قد أعددت خطة لتهريبها من النزُل اقتضتني أياماً من التفكير والتمحيص. وحالما دخلت الصالة ووقعت عينا الرئيسة علىّ ألقت بمبسم النارجيلة جانبا ونهضت قائلة: تعال معي.
تبعتها وهي تتجه إلى غرفة منعزلة. وما أن احتوتنا الغرفة حتى رأيت "منكر" و "نكير" ماثلين أمامي . قالت الرئيسة وعيناها تقدحان شرراً: أين هنادي؟
قلت في دهشة: أليست هي في غرفتها؟
صرخت ووجهها يتفجر غضباً: لا تتباله وأجبني أين هنادي وإلا فالويل لك.
قلت في انزعاج: هل تعنين أنها ليست في البيت؟
صرخت في هياج: قلت لك لا تتباله.
وغمزت بعينها وإذا بلكمة تنحط على ظهري وكأن صخرة هائلة انحدرت فوقي. قلت جزعا : أنا أحذّرك من استخدام العنف وإلا فستندمين. واخبريني أنت أين هنادي؟
صرخت ثائرة: وتجرأ على تهديدي؟ أنا الرئيسة زنوبة.. تهددني؟‍! من أنت حتى تهددني؟
فقلت : أنا محامي وأعرف كيف أنتزع من الظلمة حقوق الآخرين.
اندفعت صارخة: أنت تهددني؟ أنت؟ إن تهديد أكبر رأس في البلد لا يخيفني. وأنا أعتبرك مسؤولاً عن هربها. فعليك إحضارها وإلا فأنني أقسم بكل غال ونفيس أن أسوّد لك عيشتك. فلست أنا التي يُضحك عليها. وعليك أن تفهم أن لحمي مرّ.
وسكتت لحظة ثم أضافت ووجهها يغلي غضباً: كان يجب عليّ ألا أتساهل معك منذ عرفت أنك لعبت بعقلها.
وأشارت إلى الحارسين وفي الحال تحوّلت إلى كرة يتلاقفانها بالصفعات والركلات واللكلمات. وما لبثت ان فقدت الوعي.
صحوت من غيبوبتي وإذا بي ملقى بجوار الجدار الخلفيّ للنزل . نهضت متحاملاً على نفسي ومشيت بصعوبة حتى الشارع العام. واستقللت تاكسيّاً نقلني إلى منزلي. ومنذ ذلك اليوم وأنا أبحث عن بدور في مراكز الشرطة والمستشفيات وحتى في بيوت الهوى وفي كل شبر من أشبار العاصمة وفكرة واحدة تتشبث بذهني: "لابد أن أعثر على بدور. لابد أن أعثر عليها".

-تمت-







#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسائل حميمة
- انطوان تشيخوف -دراسة نقدية-
- الرجل الذى فقد النطق
- امرأة ضائعة
- صراع -مجموعة قصصية-
- بيت الزوجية -مسرحية-
- ذكريات ادبية
- القهقهة ومسرحيات اخرى
- الطائر
- كتابات مبكرة
- مسرحية -الغرباء-
- عالم مليكة
- البهلوان ومسرحيات اخرى
- هيلة
- مسرحية-القضية-
- اوراق رئيس
- مسرحية -الدكتاتور-
- الهوية
- الاصدقاء الثلاثة
- عهد جديد....مجموعة قصصية


المزيد.....




- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - الخاطئة