ضيا اسكندر
الحوار المتمدن-العدد: 775 - 2004 / 3 / 16 - 09:11
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
لا يوجد شخص يرتاح إليه ( أبو عبدو ) ويفضفض همومه أمامه أكثر من ( أبي كفاح ) . فهو مناضل عريق عرفته سجون الوحدة السورية المصرية مذ كان يافعاً ... واستدعته فروع الأمن مراراً في العقود الأخيرة . ومع ذلك لم تبرح دمه سوسة الاهتمام بالصغيرة والكبيرة في هذا الوطن , وخاصة السياسية منها .
وأبو عبدو يلتقي معه مرة على الأقل شهرياً . يحمل إليه رزمة من التساؤلات والاستيضاحات ويفردها أمامه الواحدة تلو الأخرى , ويحشو مخيلته بالأجوبة الدسمة , ويكرّ عائداً إلى بيته وقد امتلأت روحه رضىً وتفاؤلاً . قال في نفسه : سوف أزور الأستاذ أبا كفاح وأضرب عصفورين بحجر ؛ أبارك له بالمنصب الجديد الذي استلمه حديثاً ( مستشار مدير عام شركة النبيذ الوطني ) بعد أن حنّت عليه الحكومة وتناست تاريخه وأكرمته . وبنفس الوقت أدردش معه حول قضايا الساعة ...
عندما تطلّع إليه أبو كفاح , وبحكم خبرته وفراسته في قراءة ما تخبئه الوجوه , أسرع في استنطاقه مسهلاً عليه الولوج في المواضيع التي جاء من أجلها :
- أراك مبسوطاً يا أبا عبدو ! ألهذه الدرجة كان تحرير الأسرى واسترجاع جثامين الشهداء ... له كل هذا الوقع عليك ؟
- يا أستاذ ! أنا مبسوط فعلاً لكنني في الحقيقة أكاد أتمزق غيظاً , تصور أنني لم أكن أعلم أنه لدينا أسرى لدى " إسرائيل " !! أمعقول هذا ؟ ! والأنكى من ذلك لم يكن في عداد المستقبلين في مطار بيروت أيّ مسؤول سوري ؟ !! ولم يجرِ التلفزيون السوري أية مقابلة مع أيّ أسير محرر ؟ !!! وكذلك الأمر كافة وسائل الإعلام المحلية , وحتى الجبهوية منها .. ؟ !!!!
- على رسْلك يا أبا عبدو ! السياسة فن التعامل مع الممكن , لا تنسى التهديدات الأمريكية لسوريا وتخاذل الأنظمة العربية , وغياب الحلفاء الحقيقيين لبلدنا على الصعيد الدولي .. إن استفزاز الوحش الإمبريالي إجراء يفتقر للحكمة . ثم هل نسيت أن أهم الداعمين لحزب الله هو سورية ؟ وباعتراف الحزب نفسه الذي صرح بأكثر من مناسبة بأنه لولا الدعم السوري لما تحرر الجنوب اللبناني ولما عاد الأسرى ...
- طيب , لبنان ! هذا البلد الصغير يستقبل الأسرى ويقيم لهم المهرجانات و الندوات والاحتفالات والأعراس ... وتتسابق المحطات الإعلامية فيه , المرئية والمقروءة والمسموعة ... لرصد هذا الحدث ... كل ذلك , ألا يُعدّ استفزازاً للوحش الإمبريالي ؟
- صحيح , ولكن لا تنسى أن كل ما ذكرته تم بمباركة سورية إن لم نقل بتحفيز وتشجيع منها ..
- ( أحس بنبرة جديدة في خطاب أبي كفاح لم يألفها به سابقاً , وقرر أن يرمي كل ما لديه من سهام في وجه محدّثه دفعة واحدة ) طيب أستاذ أبو كفاح ! علمنا أن قيادة حزب البعث في سوريا وزعت استبياناً إلى أعضائه لأخذ رأيهم في شعارات " الوحدة والحرية والاشتراكية " ألم يكن من الأفضل لو تم نشر ذلك على الملأ وأمام جميع القوى السياسية في البلاد ؟
- هو حزب طليعي قائد للدولة والمجتمع بموجب الدستور كما تعلم ... ومن حقه أن يستطلع آراء أعضائه أولاً ..
- طيب , هل من المعقول أن تكون اتفاقية الشراكة الأوربية طيّ الكتمان أمام حتى المهتمين بالشأن الاقتصادي ؟ !
- ( متبرماً ) لم تنتهِ المفاوضات بعد . وما زالت هناك العديد من القضايا الشائكة والعالقة فيما بيننا ..
- طيب , ما هو مبرر صمت وسائل إعلامنا حيال إطلاق سراح أكثر من مئة معتقل سياسي ؟ ولماذا لا تفرج السلطات عما تبقّى من معتقلين سياسيين ؟ ولماذا لا ترفع الأحكام العرفية عن رقاب العباد ؟ ولماذا لا تستعجل بتقنين الحياة الحزبية في البلاد ؟ ولماذا تم رفع أسعار عشرات المواد ؟ ولماذا ..
- هوبْ هوبْ هوبْ .. طوّل بالك يا زلمه ! وهل من الممكن حمل عشر بطيخات بيد واحدة ! إن سياسة التدرج المتبعة سوف تؤتي ثمارها لا ريب في ذلك . ولكن الأمر يحتاج إلى صبر وأناة وعدم تسرّع .. أما بشأن تعديل بعض أسعار المواد , فالحكومات السابقة كانت تزيد الرواتب أولاً , وفي اليوم التالي ترفع الأسعار , فكانت الاحتجاجات على كل ذي شفة ولسان ...! الآن سنعكس الآية , لنرى ردود أفعال المواطن الذي لا يعجبه عجب ..
- ( وقد بلغ سيل التوتر الذبى ) أبو كفاح ! جيوش الإحباط بدأت تزحف باتجاهي وتكاد تصرعني ..
- ( كوّر قبضته ودقّ بها على الطاولة ) هذا ما تريده بالضبط أمريكا وإسرائيل ! إياك ثم إياك أن تستقبل الإحباط بأيدي مرحبة ! إنك بذلك تقدّم خدمة جليلة للاستعمار! يا أبو عبدو ! يا رفيق ! يا حبيب ! كبّر عقلك شوي ...! ( ونهض من خلف مكتبه محاولاً تغيير مجرى الحوار كلياً ) بالمناسبة نحن عاتبون عليك , هل يعقل أنه لا يحلو لك التعامل بالإنترنيت , إلا بزيارة المواقع التي نحجبها حرصاً منا على أمن الوطن والمواطن ... ممّ تشكو المواقع الصديقة ؟! آه ممّ تشكو ؟ إنها تسلّي كثيراً , فيها النكات والدردشات والتسوق .. وفضائح الفنانين ...
- ( رازه جيداً وتمعّن طويلاً بتقاسيم وجهه الجديدة عليه كل الجدة وأجابه وهو يداري انفعالاً عظيماً ) : اعذرني أبا كفاح ! لا أدري ماذا أقول لك ..! ( زافراً بحرقة ) في الواقع أراك تغيرت كثيراً , لم أعهدك بهذه الروح الانهزامية أبداً ... وكأنني أتحدث مع شخص آخر لا يمتّ بصلة إلى أبي كفاح ! إنك تتحدث بلسان الحكومة تماماً يا رجل !!!
- ( برصانة وهدوء ) الموضوعية والتعقل والابتعاد عن التطرف ... سمات أساسية في شخصية الإنسان الحضاري يا أبو عبدو ...
- هل أفهم من هذا أن المنصب الذي تبوأته , يفرض عليك هذا التراجع عن مواقفك السابقة !
- لا لا يا أبو عبدو ... أرجو ألا يذهب تفكيرك إلى البعيد... ثم لم تنتبه إلى نفسك , هل تعلم أنك حتى الآن لم تبارك لي بالمنصب الجديد ...
- يبدو أنني لست موضوعياً ولا متعقلاً , وأقترب كثيراً من التطرف ... ولهذا لن ألقي عليك تحية المباركة ولا حتى الوداع ..
وقام أبو عبدو دون أن يرشف من القهوة أية رشفة . وقرر في نفسه البحث عن شخص آخر , وليس بالضرورة أن يكون قد خاض غمار المعتقلات والسجون والمنافي ... وسمى أبناءه برموز الكفاح والنضال والثورة ...
ضيا اسكندر – اللاذقية
#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟