أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - الطائر















المزيد.....



الطائر


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2519 - 2009 / 1 / 7 - 07:28
المحور: الادب والفن
    



"رواية"

الطبعة الأولى1997

مناجاة

حطّ الطائر على سياج الشرفة فهرعت إليه هناء.
- صباح الخير يا طائري العزيز.. ما أجملك ! كلما تمعنت فيك ازددت إعجابا بك. ما أبدع الألوان التي تحلّي ريشك ! أنت ولاشك طائر متميّز . وأنا معجبة بك جداً أيها الطائر .. سآتيك بطعامك.
سارعت هناء إلى المطبخ وعادت تحمل وعاء الطعام
- كل يا عزيزي .. كُل .
هبط الطائر من سياج الشرفة وأخذ يتفاخر برشاقة ويلتقط الطعام ويتلفت يميناً وشمالاً.
- أنت تعجبني جداً أيها الطائر.. وإنك لتؤنسني .
فرد الطائر ذيله وانغمر في شدو عذب.
- ما أبدع غناءك أيها الطائر وكم يمتعني .
مدّت هناء يدها لتمسك بالطائر. نفض الطائر جناحيه محلّقاً في الفضاء.















زقزقة

دار الطائر حول الشجرة دورتين ثم ترامى فوق الغصن.
الأمّ: هل عدت من زيارتك الصباحية يا بنيّ؟
الطائر: أجل يا أمّي.. وكم أسعدتني زيارتي اليوم.
رمقت الأمّ الطائر في أسف.
الأم: يبدو أن هذه الزيارة صارت من ضروريات حياتك يا بنيّ.
فرد الطائر ذيله مبتهجاً.
الطائر: أجل يا أمّي. واليوم قالت لي إنها معجبة جداً بي وأنني طائر متميّز.
نظرت الأم إلى الطائر في اعتزاز.
الأم: إنها لم تنطق بغير الحق يا بنيّ. أنت متميّز فعلاً بين أقرانك. ألا ترى كيف تتنافس الشابات في التقرب إليك؟ كل واحدة منهن تطمع في حبّك.
الطائر: لكنني لا أرى فيهن جمالها يا أمّي.
الأم: ولماذا يا بنيّ؟
الطائر: إنها أجمل من كل الطير يا أمّي. فلا تجادليني في ذلك.
هزت الأمّ ذيلها في أسىً.
الأم: مسكين أنت يا بنيّ.





حوار

هناء: لماذا لا تنهض يا حازم؟
ظل حازم ساكناً في فراشه وعيناه معلّقتان في السقف .
هناء: قُم يا حازم أرجوك. الساعة تجاوزت السادسة والنصف.
حازم: دعيني مستمتعاً بحلمي يا هناء.
نظرت هناء إلى حازم في عجب.
هناء: وأيّ حلم هذا الذي تفضله على ميعاد اليقظة يا حازم؟
حازم: كان طفلاً جميلاً جداً يا هناء.
هناء: طفل؟! وأي طفل تعني يا حازم؟
حازم: طفلنا بالطبع. كان يجري بين أرجلنا بخفة حتى أننا عجزنا عن الإمساك به.
تعكّر وجه هناء وأظلمت عيناها.
حازم: سيأتينا الولد قريباً يا هناء. لابد أن يأتينا.
هناء: إن شاء الله يا حازم.
صمت حازم وعيناه حالمتان.
حازم: سأصحبه كل صباح إلى مدرسته بعد أن تلبسيه أجمل الملابس يا هناء، وحينما يكبر سندخله أحسن كلية .
هناء: إن شاء الله يا حازم.
حازم: أيّهما أفضل في رأيك يا هناء؟! أن يكون طبيباً أم محامياً ؟!
ضحكت هناء وهي تراقب وجه حازم المتألق.
هناء: أظن أن الطبيب أفضل يا حازم لأنه سيعتني بصحتنا إذا مرضنا.
حازم: بل الأفضل أن يكون محامياً يا هناء. فطريق الشهرة معبّد أمام المحامي. وإذا شارك في السياسة فقد يصير وزيراً.
هناء: إن شاء الله يا حازم.
انقبض وجه حازم ولمعت عيناه.
حازم: أنا واثق أن الحيف سيرفع عنا يا هناء.. وإلاّ فإلى متى يبقى هذا الحيف يلازمنا؟ كل أصدقائي الذين تزوجوا في نفس عام زواجنا لهم ولدان وثلاثة ونحن لانزال نجري وراء الولد. فما ذنبنا؟
هناء: سيأتي الولد حينما يشاء الله يا حازم.
حازم: نعم.. آن الأوان لأن يُرفع عنّا هذا الحيف . وأنا متفائل بهذا الحلم.
هناء: إن شاء الله يكون حلمك فألاً طيّباً يا حازم.

مناجاة

هبط الطائر على أرض الشرفة وأطلق صوته مغرّداً.
- أهلاً بطائري العزيز.
تقرفصت هناء بجوار وعاء الطعام ومدّت كفّها.
- تعال إليّ يا طائري.
نطّ الطائر إلى راحة هناء ووصل عينيه بعينيها.
- يا ربّي ! نظراتك مألوفة لي أيها الطائر ! إنني أشعر كأنني عرفتك من زمن بعيد ! نعم.. نعم.. لابد أنني عرفتك من قبل. لعلك نفس الطائر الذي كان يتردد على شرفة غرفتي في بيت أهلي. وكنت أحبّك كثيراً.
قفز الطائر إلى كتف هناء وانطلق مغرّدا.
- كم أحبّك أيها الطائر! وأحسبك تحبني أيضاً.
رفرف الطائر أمام وجه هناء ونقر خدّها بلطف.
- أنا سعيدة اليوم أيها الطائر. فحازم أفاق صباحاً وهو رائق المزاج. أتدري لماذا كان رائق المزاج اليوم أيها الطائر؟ لأنه رأى طفلاً يجري بين قدميه فأسعده ذلك.
أطل من عيني هناء حزن هادئ.
- نحن متزوجان منذ سنوات أيها الطائر لكن الله لم يرزقنا بالولد حتى اليوم. وهذا مما يكّدر حازم. وقد صار الولد شغله الشاغل . وأصبح معكّر المزاج دائماً.
سكتت هناء متأملة.
- وأنا لا أفهم موقفه هذا أيها الطائر. فهو يحبني جداً وأنا أحبّه جداً. والمفروض أن نكون سعداء بولد أو بغير ولد. لكنه يرى في حرمانه من الولد حيفاً عظيماً. ولكن لماذا يجب أن نستعجل مجيء الولد ونعاند إرادة الله أيها الطائر؟ سيأتي الولد حينما يشاء الله فهو الذي يعرف متى يرزقنا بالولد.
راقبت هناء الطائر وهي ساهمة الوجه.
- ليت حازم يكفّ عن التفكير في الولد أيها الطائر ليسترجع مزاجه القديم.. أو ليت الله يرزقنا بالولد فنستعيد سعادتنا.
قفز الطائر إلى كتف هناء. انحنت هناء على الطائر وقبلته في منقاره . ضمّ الطائر جناحيه ثم اندفع محّلقاً وهو يتقلب في الهواء.




زقزقة

لفّ الطائر حول الشجرة وتقلّب في الهواء مرحاً. ثم اندفع نحو الغصن حتى كاد يرتطم به .
الأم: حذار يا بنيّ .. حذار . ماذا دهاك؟
الطائر: أنا فرح يا أمّي. إنها تحبني.
خفقت الأم بجناحيها في انزعاج.
الأم: تحبّك؟
الطائر: أجل يا أمّي. وقالت لي إنها تشعر كأنها عرفتني وأحبتني من زمن بعيد.
الأم: هذا غريب!
الطائر: أنا أيضاً أشعر كأنني عرفتها وأحببتها منذ زمن بعيد يا أمّي.
الأم: حذار يا بنيّ حذار.. لا يغرّنك كلام بني البشر . فمتى كان البشر يحبّون الطير حبّاً خالصاً؟ إنهم إذا أحبّوه فلكي يحبسوه في قفص ليتسلّوا به.
هزّ الطائر ذيله استنكاراً.
الطائر: لماذا أنت متحاملة على البشر دائماً يا أمّي؟
الأم: أنا لست متحاملة عليهم يا بنيّ فهم لايحبون الأجناس الأخرى إلا بقدر ما ينتفعون منها.
الطائر: أنا لاأصدق ذلك يا أمّي.
الأم: أنا لا أقول سوى الحقيقة يا بنيّ . فكيف يمكن أن يحبّوا غيرهم من الأجناس إذا كانوا لا يحبّون بعضهم بعضاً ؟
الطائر: وما دليلك على أنهم لا يحبون بعضهم بعضاً يا أمي ؟
الأم: بالطبع إنهم لايحبون بعضهم بعضاً. وإلاّ فكيف يرتضون أن يتخم البعض منهم بينما يجوع الآخرون؟ أفلا ترى كيف نتقاسم فيما بيننا ما يتوفر لنا من طعام ؟ ثم كيف يرتضون الإقدام على قتل بعضهم بعضاً بالألوف إذا كانوا يتبادلون الحب حقا ؟
هزّ الطائر ذيله في عجب.
الطائر: ولماذا يفعلون ذلك يا أمّي؟
الأم: لأنهم أنانيون يا بنيّ وكل واحد منهم يحبّ ذاته فقط ويبتغي أن يحقق مصلحته.
الطائر: ولماذا لا يحبوننا نحن يا أمّي؟
الأم: لنفس السبب يا بنيّ . فهم يعتقدون أن أُمّنا الأرض ملكً خالص لهم بكل ما عليها من نبات وحيوان وطير. ولاحق لأيّ جنس آخر من المخلوقات أن يشاركهم في خيراتها.
هزّ الطائر ذيله في ارتياب.
الطائر: ولكن هل من المعقول أن جميع بني البشر أنانيون هكذا يا أمّي؟
الأم: كلاّ يا بنيّ ، هناك منهم الخيّرون أيضاً ولكن ما أقلهم! فاحذر من أن تغدر بك يا بنيّ.
هزّ الطائر ذيله في غضب
الطائر: مستحيل 00مستحيل يا أمي0




























:
حوار


حازم: ألم أقل لك يا هناء أن علينا أن نتفاءل بحلمي؟
هناء: ولماذا يا حازم؟ ما الذي حدث؟
حازم: حدث أنني اكتشفت طبيباً لم نكن نعرفه ويبدو أنه ضالّتنا، وربما تحقّق حلمي على يديه.
هناء: فكيف لم نسمع به يا حازم؟
حازم: إنه عاد حديثاً من الخارج ولم يذع صيته بعد.
هزّ حازم رأسه متهلل الوجه.
حازم: اعتقد أنه سينجح أخيراً في رفع الحيف عنّا يا هناء.
عبرت هناء وجه حازم بنظرات مترددة.
هناء: أنا شخصياً لم يعد لي ثقة بالأطباء يا حازم.
عبس حازم.
حازم: وماذا تعتين؟
هناء: أعني أننا لم ينبنا من الأطباء سوى المعانات والخيبة ياحازم.
هزّ حازم رأسه في استهجان.
حازم: فهل ترين إذن أن علينا أن نستسلم للحيف ونبقى مكتوفي الأيدي؟
هناء: سيبعث الله إلينا بالولد متى شاء يا حازم.
هزّ حازم رأسه بقوة0
حازم: هذا يعني أن نقرّ بالهزيمة. وحينئذ ليس لنا إلاّ أن يضع الواحد منّا وجهه في وجه الآخر طول عمرنا.
طافت على وجه هناء بسمة صغيرة.
هناء: وماذا في ذلك يا حازم؟ ألسنا نحبّ بعضنا بعضا ؟ أنا لن أملّ ذلك يوماً.
حازم: إذا كنت أنت خيالية يا هناء فأنا لست كذلك. سحل يوم يسأم فيه أحدنا الآخر فينطفئ حبّنا.
ارتجفت شفتا هناء.
هناء: لا.. لا ياحازم. أرجوك.. لا تقل ذلك. يا ربي .. احفظ لنا حبّنا.
حازم: إذن ينبغي لنا أن نواصل كفاحنا ولا نستسلم لليأس. لابد لنا من الاستمرار في الكفاح حتى يُرفع عنا هذا الحيف يا هناء. ولا يتمّ لنا ذلك إلاّ بالجري وراء الأطباء فهم القادرون على ذلك.
سكت حازم وعيناه تجوسان في وجه هناء.
حازم: هل استوعبت لماذا ينبغي لنا ألاّ نتعب من الجري وراء الأطباء يا هناء؟
أطرقت هناء وهي كاسفة الوجه.
هناء: الحق معك يا حازم.
ومضت عينا حازم بنظرات رقيقة.
حازم: أنا أدرك أن الأطباء قد أتعبوك يا هناء وخيّبوا ظنّنا . ولكن ينبغي لنا ألاّ نيأس. ينبغي لنا ألاّ نستسلم للهزيمة. سيزيّن الولد حياتنا يا هناء ويحافظ على حبّنا. لا غنى لنا عن الولد إذا أردنا أن نعيش سعداء دائماً ولابد لك أن تستوعبي ذلك.
هناء: إن شاء الله يتحقق مرادك يا حازم.



















مناجاة

تهلل وجه هناء وهي ترى الطائر يحط على سياج الشرفة .
- مرحباً بك يا عزيزي الطائر.
تقافز الطائر برشاقة حول وعاء الطعام.
- أسمعني شيئاً من شدوك أيها الطائر فأنا بحاجة إلى ما يسّري عن نفسي الحزينة.
تنطط الطائر وهو يشدو مترنما. راقبت هناء الطائر بعينين ساهمتين.
- إن شدوك جميل أيها الطائر لكنه لايبدد أحزاني. أتدري لماذا أنا حزينة اليوم أيها الطائر؟ أنا حزينة لأنني سأعاني متاعب الأطباء من جديد. حسبت أنني استرحت منهم وأن حازم أوكل أمرنا إلى الله. فهو الذي سيرزقنا بالولد متى شاء. ولكن يبدو أنه لم يغيّر موقفه.
سكتت هناء وعيناها مثقلتان بالحزن.
- لقد تعذبت كثيراً على أيدي الأطباء أيها الطائر. والآن عليّ أن أخضع لعذابهم من جديد. فقد عرف حازم طبيباً جديداً وعلينا أن نمتحن براعته.
صمتت هناء متأملة . توقف الطائر عن شدوه واشرأب بعنقه نحو هناء.
- أنا مستعدة لأي عذاب على أيدي الأطباء أيها الطائر إذا كان سيأتي الولد. فشوق حازم إلى الولد لا حدود له. وأنا أريد أن آتي حازم بالولد لكي يكون سعيداً . ولكن ماذا لو أن الله لم يرزقنا بالولد على يدي الطبيب الجديد؟ سيعاني حازم من خيبة الأمل والإحباط من جديد بعد أن انتعشت آماله. وكم سيلوّعني ذلك أيها الطائر، فأنا لا أحتمل معاناته.. ياربي.. أنا لا أحتمل معاناته.
انحدرت دمعتان صغيرتان على خدّي هناء. توقف الطائر عن قفزه وانطلق يخفق بجناحيه بشدة .








زقزقة

تقرفص الطائر فوق الغصن وضم جناحيه .
الأم: أراك عدت حزيناً من زيارتك اليوم يا بنيّ . فما بالك؟
الطائر: لأنها حزينة يا أمّي.
أطالت الأم النظر إلى الطائر.
الأم: لماذا تربط نفسك بجنس البشر ودونك كل هذه الأنواع من الطير يا بنيّ ؟! اسمع نصيحتي ولا تفسد حياتك.
الطائر: ولكنني أحبها يا أمّي.
الأم: ولماذا لا تحب واحدة من جنسك يا بنيّ؟! إنك لن تعرف الحزن إذا أحببت شابة من جنسك.
زحف الطائر نحو الأم وأراح رأسه على صدرها فاحتوته بجناحيها.
الطائر: إنني أحبها يا أمّي ولا حيلة لي في ذلك.
هزّت الأم ذيلها متأملة .
الأم: مسكين أنت يا بنيّ.. ويا لحظك العاثر.
استمرت الأم تهز ذيلها متأملة.
الأم: ولكن لماذا هي حزينة اليوم يا بنيّ؟
الطائر: إنها حزينة لأنها لم تنجب ولداً يا أمّي وستخضع لعذاب الأطباء.
الأم: ولماذا يحزنها مثل هذا الأمر؟ ألا يجدر بها أن تطيب نفساً بكل أطفال بني البشر وتتبنى أحدهم بدلاً من أن تحزن؟
الطائر: لا تلوميها يا أمّي. فهي تريد ولداً لكي تسعد زوجها. وهو يريد ولداً من صلبه.
واصل الطائر هزّ ذيله محزوناً.
الطائر: ما أشد حزني عليها يا أمّي.
الأم: لا تحزن هكذا يا بنيّ فالبشر معتادون على الحزن وهي عادة متأصلة فيهم. ويندر أن تجد واحداً بينهم سعيداً لا يعرف الحزن.
رفع الطائر ذيله بدهشة.
الطائر: ولكن لماذا هم كذلك يا أمّي؟
الأم: لأنهم حمقى يا بني ولا يحسنون الاستمتاع بالحياة ولا يقدرون قيمتها . فهم يحزنون لأتفه الأمور التي تجري خلاف رغبتهم فيفسدون حياتهم. ويندر أن يستخدموا عقولهم بصورة سليمة بل يخضعونها لعواطفهم دائماً. ولذلك فنادرا ما يكونون سعداء .
طارت الأم ودارت حول الشجرة ثم انحدرت إلى جوار الطائر، ربّتت الأم بمنقارها على رأس الطائر.
الأم: لا تحزن عليها هكذا يا بنيّ. إن البشر معتادون على التعايش مع أحزانهم فلا تقلق عليها.























حوار


حازم: ألم أقل لك يا هناء أن حلمي سيتحقق؟ وها قد قال لنا الطبيب أن الحمل ممكن.
هناء: أرجوك يا حازم ألاّ تبالغ في تفاؤلك حتى لا تخيب آمالك إذا لم ينجح.
حازم: ولماذا تتوقعين الفشل له يا هناء؟
هناء: ألم يقل هو نفسه إن حكمه ليس سوى حكم أولي وأن الحكم النهائي سيتوقف على نتائج الفحوص؟
حازم: طبعاً. كل طبيب يقول ذلك لكي لا يُلام. ولكن المهم هو الانطباع الأولي لديه. ولو لم يكن واثقاً من حكمه ما طمأننا. سيُرفع عنّا الحيف أخيراً يا هناء والولد آت هذه المرّة لا ريب في ذلك.
هناء: إن شاء الله يا حازم.
صمت حازم وبدا معكّر الوجه.
حازم: أتعلمين يا هناء؟ بعض الناس لايحبون الخير لغيرهم حتى لو تصورهم الشخص من أصدقائه الخلّص.
هناء: وكيف ذلك يا حازم؟
حازم: خذي مثلاً يوسف.
هناء: يوسف من أخلص أصدقائك يا حازم.
لاحت ابتسامة ساخرة على شفتي حازم.
حازم: هكذا كنت أتصور. ولكن يبدو أنني كنت مغشوشاً فيه.
هناء: ولماذا يا حازم؟
حازم: كنت أتصور أنه سيفرح حينما أزفّ إليه أخبار الطبيب. وإذا به يقول لي: "لا يشطح بك الخيال بعيداً يا حازم فليس الأولاد مصدر بهجة دائماً . بل إن ما قد يسببونه من عناء للوالدين أحيانا أكثر بكثير مما يمنحونهم من سعادة ".
سكت حازم والابتسامة الساخرة تتلاعب على شفتيه.
حازم: طبعاً يقول هذا القول فلديه ثلاثة أولاد. صدق المثل القائل ليس من يده في النار كمن يده في الماء البارد.
هناء: لكنك تعلم يا حازم أن يوسف ليس سعيداً في حياته الزوجية بالرغم من وجود الأولاد وأنه وزوجته دائمي الخصام وما أكثر ما توسطت أنت في الصلح بينهما.
حازم: هذا صحيح. ولكنك تعلمين السبب يا هناء. فقد اختار له أهله زوجته ولم يربط بينهما حبّ.
تطلعت هناء إلى حازم وقد أشرق وجهها.
هناء: أفلا يجدر بنا إذن يا حازم أن نشكر الله على نعمته علينا؟ أليس المفروض أن نكون سعداء حتى لو لم يأتنا الولد؟
قطّب حازم وجهه0
حازم: نحن ضحية حيف يا هناء . ولا أدري لماذا لا تستوعبين ذلك. ولابد أن يرفع عنّا هذا الحيف .
اختلست هناء من حازم نظرات مشفقة.
هناء: إن شاء الله يا حازم.. إن شاء الله.




















مناجاة

ظل الطائر يشدو دقائق وهو يتنطط على أرض الشرفة قبل أن تظهر هناء.
- أهلاً بك يا عزيزي الطائر.. أنا مسرورة برؤيتك.
خفّ الطائر إلى هناء وتسلّق كتفها وراح يمسح منقاره بخدّها. قبّلت هناء الطائر في منقاره. صفق الطائر بجناحيه وطار بعيداً ثم انقضّ هابطاً حتى أوشك أن يرتطم بأرض الشرفة.
- رويدك أيها الطائر.. لقد كدت تقتل نفسك.
فرد الطائر ذيله ثم رفع عنقه وربط عينيه بعيني هناء.
- لعلك متشوق إلى أخباري أيها الطائر. لقد زرنا الطبيب الجديد وأجرى لي الفحوص اللازمة. وقد أكدّ لنا أن الحمل ممكن.
مشى الطائر الهوينى وهو يتلفت يميناً وشمالاً ويطلق غناءً عذباً.
- قد يفرحك هذا الخبر يا طائري العزيز. لكن مثل هذا القول ليس جديداً عليّ. كنّا نسمع دائماً من الأطباء الكثير منه مثل ، وكم كان يقتضيني ذلك هذا من معاناة أيها الطائر، فهو يعني الخضوع لعملية جراحية. وقد خضعت حتى الآن لثلاث عمليات. ومع أن كل عمليةا كانت تملؤني خوفاً لكنني كنت أتظاهر باللامبالاة لكي لا أفسد على حازم بهجته. فهو يكون عادة في قمة السعادة قبل اجراء العملية، ولكن ما أن ينكشف فشلها حتى يفترسه الإحباط. ويعاني أسابيع من خيبة الأمل. وكم يلوّعني ذلك أيها الطائر، إن قلبي ليتقطع أسىً لحاله.
صمتت هناء متأملة وقد شملها حزن هادئ.
- يا ربي! كم تأّلم حينما أخفقت العملية الأخيرة! لقد أضرب يومين عن الطعام. واحتجب عن أصدقائه لمدة أسبوع، كان قد بنى آمالاً كبيرة على نجاح العملية فكانت خيبته كبيرة.
طافت ابتسامة حزينة على ثغر هناء.
- أنا أيضاً أحب أن يكون لي ولد وأن أكون أمّاً أيها الطائر. ولاشك أنه شعور مبهج أن تكون الواحدة أمّاً.. تهدهد طفلها في مهده وتغنّي له لكي ينام وترضعه من ثديها.. ثم تراقبه وهو يحبو على ركبتيه وتجري وراءه لكي لا يصيبه أذى.. وكم يطربها حينما يناديها ماما .. لكن الولد لن يأتي إلاّ إذا شاء الله أيها الطائر. وأرجو أن يستجيب الله لدعائنا هذه المرّة ويرزقنا بالولد.
اشرأب الطائر بعنقه محدّقاً في عيني هناء ، ثم طار فجأة بعيداً .

























زقزقة

رفرف الطائر فوق رأس الأم .
الأم: أهلاً بك يا بنيّ. أعددت لك طعاماً من النوع الذي تحبه.
الطائر: لست جائعاً يا أمّي.
الأم: لكنك لم تحزر الطعام الذي أعددته لك يا بنيّ. إنها تينة في أول نضجها.. وهي من الحديقة التي تعرفها.
زقزقت الأم في مرح.
الأم: مساكين أصحاب تلك الحديقة. إنهم لم يهنؤا يوماً بتذوق التينة الأولى. نحن نسبقهم إليها دائماً. كانوا يراقبون تلك التينة كل يوم ليقطفوها قبلنا. لكنني كنت السّباقة إليها.
الطائر: فكيف تريدينهم أن يحبّونا يا أمّي؟
خفقت الأم بجناحيها خفقات متتالية وطالت زقزقتها. ثم طارت إلى العشّ وعادت تحمل بمنقارها تينة صغيرة.
الأم: خذ يا بنيّ.. ما ألذّ هذه التينة.
الطائر : قلت لك إنني شبعان يا أمّي.
حدّقت الأم في الطائر وهزت ذيلها.
الأم: أنت لم تعد تحب طعامنا الطري الذي تعدّه لنا أمّنا الأرض يا بنيّ.
الطائر: أنا أفضل طعام البشر لأنها هي التي تعدّه لي يا أمي.
تأملت الأم الطائر بعينين حزينتين.
الأم: مسكين أنت يا بنيّ!









حوار

حازم: هل أنت متضايقة من أقوال الطبيب يا هناء؟
رفعت هناء إلى وجه حازم عينين غائمتين.
هناء: لا.. ليس تماماً. ولكن كلامه بدا لي غير مطمئن يا حازم.
حازم: بالعكس يا هناء.. كان كلامه في صالحنا كلّياً.
هناء: وكيف ذلك يا حازم؟ ألم يقل إن نسبة نجاح العملية لا تتجاوز الثلاثين بالمئة؟
حازم: وأنت يا هناء.. أفلا تعلمين أن نسبة الثلاثين بالمئة في حساب الأطباء تعني تسعين في المئة في حسابنا؟ هذا هو حساب الطب.. إنه صارم للغاية. ثم أن هناك أمرا لا تعرفينه عن الدكتور حمدي يا هناء. فقد استقصيت أخباره قبل أن نزوره . و تبيّن لي أنه شديد الحذر في تصريحاته لكي لا يتعرض لأي لوم.
بدا على وجه هناء الانشغال وسرحت عيناها.
هناء: ولكن لماذا قال إن هذه العملية هي آخر عملية يمكن إجراؤها لي؟
حازم: لن تكوني بحاجة إلى عملية أخرى يا هناء فستأتي هذه العملية بثمارها بلا شك، وأنا واثق إن الحيف سيُرفع عنا.
فكّرت هناء وهي ساهمة.
هناء: ولكن إذا كان واثقاً من نجاح العملية يا حازم.. فلماذا قال إن فيها نسبة من الخطر على حياتي؟
حازم: وهل تصدقين ذلك يا هناء؟ كيف يخطر لك أنني يمكن أن أوافق على عملية فيها خطر على حياتك؟! كل ما هنالك أن الأطباء يحاولون التنصل من كل لوم حتى لو كانت نسبة الخطأ لديهم واحد في المليون.
انبسط وجه هناء.
هناء: ومتى ستتصل بالدكتور حمدي لنتفقّ معه على موعد العملية يا حازم؟
حازم: لقد قمت بذلك فعلاً يا هناء. فمتى كنت أشغلك بمثل هذه الأمور؟ دعي الأمر لي ولا تشغلي بالك.
هناء: ومتى سيكون موعد العملية يا حازم؟
حازم: في أوائل الأسبوع القادم.
ترقرقت ابتسامة على وجه حازم.
حازم: أتدرين ماذا سأسمّي ولدنا يا هناء؟! لقد استقرّ رأيي على الاسم. سأسميّه "صارم" . نعم .. أريده أن يكون صارماً في حياته فحياتنا لا تحتمل الهزل.
ضحكت هناء وعيناها معلقتان على وجه حازم .
هناء: ولكن لِمَ هذا الاسم العكر يا حازم؟! هناك أسماء كثيرة أكانت قديمة أم حديثة.
حازم: لا.. لا . لا أريد أسماء قديمة أكل الدهر عليها وشرب. ولا أريد أسماء حديثة مائعة مما يطلق على الذكر والأنثى.. جنان.. سهام.. وسام.. "صارم" هو أفضلها.
صمت حازم وهزّ رأسه مفكّرا.
حازم: لن ينادوني بعد الآن بـ "أبو كامل" .. ولن أتعرض لسؤال من لا يعرفني معرفة حقة : "كم عمر المحروس كامل؟" متصورا ان لدي ّابنا فعلا اسمه كامل ! هذا السؤال الذي كلما أُلقي عليّ شعرت كأن خنجراً يغمد في قلبي.
هناء: سلامة قلبك يا حازم.. إن شاء الله يأتي صارم هذه المرّة ويتربّى في عزّك.
حازم: سيأتي صارم فعلاً هذه المرّة يا هناء. فالدكتور حمدي طبيب بارع وسينجح في رفع الحيف عنا. فما ذنبنا حتى نعاقب هكذا؟
















مناجاة

بسط الطائر جناحيه فوق أرض الشرفة .
- مرحباً بطائري العزيز.
وضعت هناء وعاء الطعام على الأرض وجلست بجواره. تلفت الطائر يميناً وشمالاً ثم غمس منقاره في الوعاء. مسّدت هناء جناحي الطائر. نقر الطائر كفّ هناء برفق.
- كُل يا عزيزي.. من يدري؟ قد لا تجدني بعد أيام. فسأخضع لعملية جراحية.
توقف الطائر عن التقاط الطعام وأشرأب بعنقه نحو هناء. بدت هناء ساهمة الوجه.
- لن أكذب عليك أيها الطائر كما أكذب على معارفي فأزعم لك أنني لا أخاف العملية الجراحية. فحتى العمليات الجراحية الصغرى تخيفني . فأنا أيها الطائر أخاف الموت. ولماذا لا أخاف الموت؟! أنا ما أزال في عزّ شبابي.
حلّق الطائر فوق رأس هناء وراح يخفق بجناحيه بقوة
- نعم أيها الطائر . انا أخاف الموت ، وقد تؤدي أية عملية جراحية مهما تكن بسيطة الى الموت. وكلما تقرر موعد عملية جراحية لي يجفوني النوم لليال. يا ربي . . كم أخاف الموت !
استمر الطائر يرفرف فوق رأس هناء في اضطراب.
- سيكون ميعاد العملية بعد أيام أيها الطائر. وانأ خائفة جدا. لم يغمض لي جفن طوال ليلة أمس.
رنت هناء إلى الطائر في حنو :
- إنني أتحدث إليك بهمومي أيها الطائر وان كنت اعلم انك مخلوق أعجم لا تفهم مما أقوله شيئا فكأنني أتحدث مع نفسي . و الحديث معك ينفس عن كربي. فلا يمكنني أن أتحدث مع غيرك بأحزاني. والجميع يتصورون أنني سعيدة بإجراء العملية فانا أتظاهر إمامهم بالسرور.
صمتت هناء وتاهت عيناها.
- لابد ان آتي حازم بالولد ايها الطائر . فأنا أحبه جدا . وهو يحبني جدا. ومن اجل الحفاظ على حبنا سأقوم بالعملية وان كان فيها خطر على حياتي .
عكف الطائر على صدره ينقره بعنف. ثم طار فجأة محلقا فوق رأس هناء ودار حوله دورات سريعة ، ثم اندفع بقوة في السماء.


زقزقة

تهالك الطائر فوق الغصن.
الأم: ماذا بك يا بني؟ انت تبدو متعبا .هل طرت الى مسافات بعيدة؟
الطائر: كلا يا أمي . قمت بزيارتي اليومية فقط.
الأم: فلماذا تبدو منهكا هكذا يا بني؟
زقزقت الأم في مرح.
الأم: هل بدأت تشيخ قبل الأوان يا بني؟
الطائر: كلا يا أمي .. لكنني منزعج.
الأم: ومِمَ أنت منزعج يا بني ؟ هل صادفت في طريقك أشرار البشر من الصيادين؟
الطائر: كلا يا أمي . لم أصادف أي أحد منهم.
الأم: فلماذا أنت منزعج إذن؟
الطائر: إنني منزعج مما قد يجري لها يا أمي
خفقت الأم بجناحيها غاضبة.
الأم: يا ويلك منها... يا ويلك من حبها ، ويا ويلي عليك . لن يفارقك الأذى مادمت أحببت واحدة من بني البشر. يا لحظك العاثر! ألا تتدارك نفسك يا بني قبل ان يمسّك أذى أعظم من وراء هذا الحب؟
نفش الطائر ريشه وانطلق يخمش رأسه بمخالبه .
الطائر: قلت لها لا تتحدثي عنها هكذا يا أمي ، واعلمي أنني لن أكف عن حبها ابدا .
زحفت الأم لصق الطائر وأخذت تنقر جناحه بلطف.
الأم: اعذرني يا بني ولا تلمني ، فأنا لا احتمل حزنك وأخاف منه عليك .
الطائر: انا اعلم ذلك يا أمي ولكن ما بيدي حيلة ، فلا فائدة من إعادة هذا الكلام على سمعي.
الأم : مسكين أنت يا بني!
غمرت الأم الطائر بنظرات حنون.
الأم: ولكن لماذا أنت منزعج عليها يا بني!
الطائر: أخبرتني أنها ستقوم بعملية جراحية وقد تموت فيها.
الأم: وهل هي مريضة؟
الطائر: كلا يا أمي . إنها تقوم بالعملية لكي تأتي بالولد.
أطلقت الأم زقزقة ساخرة .
الأم: ألم أقل لك ان بني البشر حمقى يا بني؟ بماذا ينفعها الولد اذا كانت ستموت؟
الطائر: قلت لك انها تريد الولد من اجل زوجها يا أمي.
الام: ولكن أليس المفروض ان يخاف زوجها على حياتها ؟ الم تقل لي إنه يحبها جدا؟
الطائر: هكذا قالت لي يا أمي.
زقزقت الأم ساخرة .
الأم: أفلا ترى أي نوع من الحب يتبادله بنو البشر يا بني؟ فنحن بنو الطير نفارق الحياة إذا مات إلفنا . أما هم فلا يعرفون الوفاء . فلماذا تضيع شبابك في حب واحدة منهم؟
الطائر:أنا أحبها يا أمي ولا حيلة لي في ذلك.
الأم: مسكين أنت يا بني.
خيم صمت كـئيب. وبدت أوراق الغصن شبه ساكنة يداعبها نسيم خفيف.
الطائر: ليثني استطيع ان اجعلها تدرك انني افهم ما تقوله لي يا أمي لتتخفف من أحزانها.
الأم: اطمئن يا بني. فلا بد ان معارفها يتولون التخفيف من إحزانها.
الطائر: كلا يا أمّي، لا أحد يخفّف من أحزانها.
الأم: وما أدراك بذلك؟
الطائر: هي التي قالت لي ذلك يا أمّي. إنها قالت لي إنها تتظاهر أمام معارفها بالسرور ولا تحدّث أحداً بأحزانها.
زقزقت الأم ساخرة.
الأم: هكذا هم بنو البشر يا بنيّ.. يخادع بعضهم بعضاً ولا يتصارحون بما تضمره صدورهم . وليست حياتهم في أغلب صورها سوى خداع وتظاهر وزيف.. ولكن ما يدريك؟ لعلها تدرك أنك تشاركها همومها.
الطائر: كلا يا أمّي. إنها قالت لي اليوم إنني أتحدث إليك بهمومي وإن كنت أعلم أنك مخلوق أعجم لا تفهم مما أقوله شيئاً.
زقزقت الأم ساخرة.
الأم: هكذا هم بنو البشر يا بنيّ. إنهم يتصورون أنهم أرقى الخلائق وأن بقيّة المخلوقات دونهم ذكاء. إنهم جنس مسكون بالغرور والعنجهية.
هزّ الطائر ذيله مغموماً.
الطائر: أنا أتعذب يا أمّي لأنها لاتدرك أنني أشاركها همومها.
الأم: مسكين أنت يا بنيّ.




مناجاة


رفرف الطائر في فضاء الشرفة وهو يصدح بالغناء. وتنطط بين سياج الشرفة وأرضها وكتف هنا. ثم حلّق في الهواء بقوّة وانفضّ على الشرفة حتى كاد يرتطم بجدارها وواصل شدوه .
- هل أنت فرح بي أيها الطائر؟ الحق معك فقد أوشكت أن أموت. كدت تفقدني يا طائري العزيز لولا لطف الله.
قفز الطائر إلى كتف هناء ومضى ينقر خدّها بشغف. مسّدت هناء ريش الطائر بحنان.
- كم كان يوم العملية شاقّاً عليّ أيها الطائر، لقد كدت أموت رعباً وأنا أُقاد إلى غرفة العمليات. ولا أدري لماذا خفت أكثر من أية مرة سابقة أيها الطائر.
تكاثف الحزن في وجه هناء.
- والذي ملأ قلبي غماً أيها الطائر أن حازم كان وهو يُرافق النقّالة يطفح وجهه سروراً. وكنت أسارقه النظر وقد استخفّه الفرح فتفيض نفسي بالمرارة. أفلم يكن يدرك كم كنت خائفة؟ أفلم يخطر على باله أنني قد أموت في هذه العملية؟
أطرقت هناء وهي مظلمة الوجه. وتقافز الطائر بنفاذ صبر من ركن إلى آخر في الشرفة.
- وكم كانت الأيام التي أمضيتها في المستشفى في انتظار النتيجة شاقة أيها الطائر. كانت شاقّة عليّ وعلى حازم. ومع أن حازم كان واثقاً من نجاح العملية لكن عينيه كانت تموجان بالقلق . كان كالمتهم الذي يترقب حكم المحكمة بالبراءة أو التجريم. ولا تسأل عن قلقي أيها الطائر. كنت أكاد أموت قلقاً وإن تظاهرت بالاطمئنان.
صمتت هناء وابتسامة صغيرة تترنّح على شفتيها.
- لكنني كنت سعيدة أيضاً أيها الطائر. فقد استرجع حازم مزاجه الرائق القديم. وكان طوال الوقت يبدو مبتهجاً كالطفل الذي يترقب الحصول على لعبة عزيزة. وكان في أيام العملية الأولى لا يدري كيف يعبّر لي عن حبّه.
تشبثت الابتسامة بشفتي هناء وهامت عيناها .
- لقد ذكّرني بحيويته ومرحه بسنوات زواجنا الأولى أيها الطائر.. يوم لم يكن يكدّره ويعكر مزاجه التفكير بالولد. كان يوم ذاك يتفنن في إظهار حبّه لي. ولم يكن يطيق فراقي. كان كلما عاد من عمله يحتضنني طويلاً ويغمر وجهي بالقبلات وكأنه عثر على شيء عزيز كان قد أضاعه. وكانت الساعات تبدو لنا كالدقائق. وكان كل شيء يسّرنا ويضحكنا. وكان يقول لي: أطلبي أي شيء يا هناء وسأُحضره لك في الحال.
ضحكت هناء ضحكة سعيدة. وجعل الطائر يدنو منها تارة ويبتعد أخرى.
- نعم أيها الطائر. كنّا سعداء جداً ولم يكن ينغّص حياتنا منغّص. فلم يكن حازم يومذاك يفكّر بالولد. كنّا سعداء أيها الطائر بدرجة كنت أخاف فيها على نفسي من تلك السعادة. كنت أخشى أن يحدث ما ينغصها.
تاهت عينا هناء متأملة. وتنطط الطائر بنفاذ صبر من ركن إلى آخر.
- لقد حسدونا أيها الطائر.. نعم حسدونا. الجميع نفس علينا سعادتنا. كان حازم يقول لي وهو يضحك مغتبطاً: "تصوري يا هناء أن كل أصدقائي وزملائي في الوظيفة يحسدونني عليك. والعزّاب منهم يطلبون مني أن أكلّفك بالبحث لهم عن زوجة في مواصفاتك. ولكن كيف يمكنك أن تجدي لهم مثل هذه الزوجة؟ وهل كل شخص يمكن أن يكون محظوظاً مثلي فتكون من نصيبه زوجة مثلك؟".
وكان صديقاتي يقلن لي: "ما أعظم حظّك يا هناء بهذا الزوج الوسيم المحبّ الذي تتمناه كل فتاة في أحلامها".
غاصت هناء في تأملاتها وقد غام وجهها.
- لقد كنت طوال الوقت أخشى أن تفلت مني هذه السعادة أيها الطائر وأنا أرى الجميع يحسدوننا. وقد صحّ ما توقعت. فبعد مضي ثلاث سنوات على زواجنا تسّرب القلق إلى قلب حازم وتعكرت سعادتنا.. وعرفنا زيارة الأطباء. ولم تعد علينا تلك الزيارات بغير الهموم والأحزان.
عكست عينا هناء حزناً عميقاً.
- يا ربيّ !! أيّ كمد هذا الذي تملكك يا حازم حين أخبرك الطبيب أن العملية قد فشلت!! أي ألم ومرارة وإحباط استقر في عينيك!! إنني لأتجمد في فراشي كل ليلة متظاهرة بالنوم وأنا أسارقك النظر فأراك مفتوح العينين لا يغمض لك جفن.
تدحرجت دمعتان على خدي هناء. ثم أعقبتهما دمعتان أخريان. ثم تلاحقت دموعها الصامتة. وراح الطائر يخمش رأسه. ثم اندفع طائراً في هياج وكأنه يفرّ من مطاردة باز.









زقزقة

تطلعت الأم بلهفة إلى الطائر وهو يتكوّم على الغصن .
الأم: هل رأيتها اليوم يا بني؟
لوي الطائر عنقه وهزّ ذيله ببطء.
الطائر: أجل يا أميّ.. رأيتها . إنها عادت من المستشفى .
الأم: أنا مسرورة لذلك. فستستعيد اطمئنانك الذي فقدته منذ غيابها.
حتى الطائر منقاره وسقط رأسه على الغصن. خفقت الأم بجناحيها في اضطراب ودارت عدة دورات حول الطائر وهي تزقزق في جزع.
الأم: ما بالك يا بنيّ؟ أنت تبدو وكأن الحزن سيميتك.
الطائر: العملية لم تنجح يا أمّي وهي حزينة جداً لذلك.
انطلقت الأم تنقر صدرها بعنف.
الأم: هذا ما نابك من حب واحدة من بني البشر يابنيّ .. تحزن لأتفه الأسباب.
الطائر: قلت لك إن العملية لم تنجح يا أمّي.
الأم: وما الغريب في الأمر؟ ألم تكن تعلم أن العملية قد لا تنجح؟
الطائر: لكن زوجها كان واثقاً من نجاح العملية .
زقزقت الأم ساخرة.
الأم: ليس ذلك غريباً على غرور البشر يا بني. فهم يأبون الاعتراف بأن لأمُّنا الطبيعة أحكامها وعليهم احترامها.
الطائر: إن لهم القدرة على التحكّم في أُمّنا الطبيعة ويستطيعون بتلك القدرة أن يحققوا رغباتهم يا أمي.
هزت الأم ذيلها في استخفاف.
الأم: إن نجاحهم في فرض رغباتهم الذاتية على أُمّنا الطبيعة ليس سوى سياسة قصيرة النظر يا بني. وسيأتي يوم تعاقبهم فيه الطبيعة على استهتارهم بها فتتعذر عليهم الحياة في كنفها . فهم يكادون يدمرون كل شيء فيها.
ران الصمت لدقائق. وهبت نسمة خفيفة فاهتز الغصن برفق.
الطائر: أنا بدأت أصدق آراءك في جنس البشر يا أمّي.
الأم: يجب أن تصدّقها يا بني فأنا لا أقول سوى الحقيقة.
الطائر: إنها حدثتني يا أمي بأنها وزوجها كانا سعيدين في بداية حياتهما الزوجية . ولكن أصدقاءهما ومعارفهما نفسوا عليهما تلك السعادة..
الأم: أرأيت يا بني؟ هكذا هم بنو البشر.. مخلوقات وضيعة لا تنشد الخير إلاّ لنفسها.
أرسلت الأم إلى الطائر نظرات ضارعة.
الأم: لماذا لا تتدارك أمرك إذن يا بني وتنأى بنفسك عن بني البشر؟ إنك لن تجني من صحبة هذا الجنس سوى الأذى.
انتفض الطائر بشدة ونفش ريشه.
الطائر: قلت لك لا تعيدي على سمعي مثل هذا الكلام يا أمي.
فرد الطائر ذيله وقبضه في عصبية ثم طار بعيداً. رافقته عينا الأم في التياع.






















مناجاة

راقبت هناء الطائر بحزن وهو يتقافز على أرض الشرفة.
- إنني حزينة جداً أيها الطائر .. لقد صار حزني عظيماً .
كفّ الطائر عن قفزه وضمّ جناحيه وتدلّى منقاره على الأرض .
- نعم أيها الطائر. أنا حزينة جداً وحياتي باتت تعيسة. إن حازم يتسّرب من بين يديّ أيها الطائر وإنني أوشك أن أفقد حبّه. إنه ليطيل الجلوس أمام التلفزيون وهو صامت لا ينطق كلمة واحدة. وإنه ليتجنب حتى النظر إليّ.
صمتت هناء ووجهها ينضح بالحزن.
- أعتقد أنه يتجنب النظر إليّ أيها الطائر حتى لا أقرأ في عينيه انزعاجه الشديد مني. فبعد كل شيء أنا السبب في تعاسته. ولكن قل لي أيها الطائر : ما ذنبي إذا كان الله لم يشأ أن يرزقنا بالولد؟
انحدرت دمعتان كبيرتان على خدّي هناء. وبدا الطائر مضطرباً . وهو ينطّ من مكان إلى آخر في الشرفة.
- منذ غادرت المستشفى لم يقل لي سوى كلمات معدودات أيها الطائر. ولم تلتق عيناي بعينيه. لقد كنّا في يوم من الأيام نتخاطب بعيوننا ولم نكن بحاجة إلى الكلام. كان يكفيه أن يغرق عينيه في عيني حتى أدرك ماذا يريد أن يقول. وليته يفعل ذلك الآن. ليته يغرق عينيه في عينيّ حتى لو أراد أن يوبخني . ولكن ما أن تلتقي عيوننا الآن حتى تزورّ عيناه عن عينيّ قبل أن أقرأ فيهما أي شيء . أنا أعرف أنه غاضب مني لأنني خيبت أمله مرة أخرى.وليته يقول لي ذلك. لكن صمته يلوّعني أيها الطائر. وأنا لا طاقة لي على احتماله. وكلما هممت أن أكلمه طالعني وجهه الجامد فخانتني شجاعتي.يا ربي . . ما أعظم حزني ! قل لي: ماذا أفعل أيها الطائر؟ ماذا أفعل؟!
تسابقت الدموع من عيني هناء . وأخذ الطائر يزعق بقوّة وهو يدور حول نفسه. ثم حلّق باندفاع موشكاً أن يرتطم بجدار الشرفة.







زقزقة

مسحت الأم الطائر بنظرات شغوفة وهو متقرفص على الغصن وهزت ذيلها في لوعة.
الأم: كلما عدت من زيارتك لها يابني تعاظم حزنك حتى بتّ أخشى أن يميتك.
رفع الطائر إلى الأم عينين كدرتين.
الطائر: لا حيلة لي في ذلك يا أمّي. فحزنها يشتد يوماً بعد يوم وأنا أشاركها حزنها.
الأم: لكنني أفهمتك أن البشر معتادون على الحزن يا بني، فاقتصد في حزنك.
الطائر: لا أستطيع ذلك يا أمي. فهي تقاسي من أحزان عظيمة.
الأم: وما الذي جدّ في الأمر يا بني؟ كل ما هنالك أن العملية الجراحية لم تثمر. وهذا أمر متوقع مادامت تتحدى أحكام أمُّنا الطبيعة.
لوى الطائر عنقه وسقط منقاره على الغصن.
الأم: ارقق بنفسك يا بني. فما الذي يمكنك أن تفعله؟
الطائر: ليتني أقدر أن أعبّر لها عن مشاركتي لهمومها بطريقة تفهمها يا أمي علني أخفف من أحزانها.
الأم: مسكين أنت يا بني!
هيمن صمت يلاعبه حفيف الأغصان.
الطائر: أخبريني يا أمي.. هل هناك من طريقة أتحوّل فيها إلى انسان ؟
خفقت الأم بجناحيها في هياج وتشبثت بالغصن وهي توشك أن تهوي.
الأم: هل جننت يا بنيّ؟ كيف ترغب في التحول إلى جنس يحمل كل الصفات السيئة من قتل وبغي وكذب ورياء وجشع وأثرة وحسد وبغضاء...
هزّ الطائر ذيله في نفاد صبر.
الطائر: كفى .. كفى يا أمي. فأنا أعرف كل هذه الصفات في جنس البشر. لكن ذلك لا يحول بيني وبين رغبتي هذه . فعجزي عن التفاهم معها يعذبني. وقد سألتني اليوم عما يجب أن تفعله لتحلّ مشكلتها وبوّدي لو أشير عليها.
فردت الأم جناحيها وجعلت تنقرهما في غضب.
الأم: إن عجزك هذا لا يبرّر لك أن تتمنى مبادلة حياتك السعيدة الطليقة التي كلّها مرح وبهجة وغناء بحياة تعسة كئيبة كلها هموم ومشاكل وعمل متواصل ورتابة قاتلة. أي شيء جميل في حياة البشر يا بنيّ حتى تتمنى التحول إلى إنسان ؟ ثم ألا تخجل من الانتماء إلى جنس تحرّكه عواطف فجّة وتسيّر حياته قوىً حمقاء؟
خفق الطائر بجناحيه في صبر نافد.
الطائر: أنت شديد التحيّز ضد جنس البشر يا أمي.
الأم: أنت تعلم أنني لا أقول سوى الحقيقة يا بنيّ وأن أنانية البشر وعنجهيتهم وخضوعهم لهواهم هي التي تفسد عليهم حياتهم ، ولو أنهم أصغوا إلى صوت العقل لتغيرّت حياتهم إلى الأفضل ، فكيف تربط نفسك بهم يا بني وهم على هذه الحال؟
الطائر: لا تشتدي في لومي يا أمي فتزيدي من عذابي. إنني أقاسي من أحزان عظيمة.
زقزقت الأم في يأس.
الأم: مسكين أنت يا بنيّ. لقد تشاءمت من حبّك لها منذ اليوم الأول وها قد أثبتت الأيام صحة توقعاتي.
الطائر: أنا أعلم أن حبّي لها خطأ يا أمي لكنني مغلوب على أمري. وإذا كنت تريدين التخفيف من أحزاني فأرشديني إلى طريقة أتحول فيها إلى بشر.
حنت الأم عنقها واستغرقت في التفكير.
الأم: إن مثل هذا الحدث لا يتم إلا بإرادة الخالق يا بني. وقد يستجيب الخالق إلى دعاء مخلوقاته إذا شاء . فما عليك إلاّ أن تدعو الخالق من كل قلبك لعله يستجيب إلى دعائك.. ولكن ما أشد ما سيحزنني ذلك. فستنضم إلى جنس أثر نفعيّ مجرد من المثل والعقل السليم.
صفّق الطائر بجناحيه وعلا صوته مغرداً.
الطائر: سأدعو خالقي إذن بكل قلبي يا أمّي عله يستجيب لدعوتي.











حوار


هناء: حازم.. أ تسمح لي بأن أكلّمك؟
لازمت عينا حازم التلفزيون وهو متجهم الوجه.
حازم: ومن الذي منعك من الكلام؟
هناء: أنت لم تقل لي منذ خرجت من المستشفى سوى كلمات معدودات يا حازم.
حازم: ليس عندي ما أقوله لك.
هناء: لماذا يا حازم؟ ألا تتذكر كيف كنت لا تملّ من الكلام معي؟
حازم: كان عندي ما أتحدث به إليك. أما الآن فليس عندي ما أقوله لك.
رنت هناء إلى حازم بعينين تحيّر فيهما الدمع.
هناء: لماذا يا حازم؟! ما الذي تغيّر فيّ؟
هزّ حازم رأسه هزات بطيئة وعيناه مثبتتان على التلفزيون.
هناء: أنت تلوعني بصمتك هذا يا حازم.
استمر حازم يهز رأسه هزّات بطيئة.
حازم: ليس عندي ما أقوله.
هناء : ولكن حزنك هذا يدّمرك ويدّمرني معك يا حازم.
التفت حازم إلى هناء وقد اربّد وجهه.
حازم: وماذا تتوقعين مني؟ هل تتوقعين أن أكون مسروراً؟! أي شيء يبعث في نفسي السرور؟! هذا الحيف المكلكل عليّ؟
عاد حازم يحدّق في التلفزيون وهو يهزّ رأسه .
حازم: انتهى كل شيء .. فأية حياة أمامي !!
هناء: لماذا تقول ذلك يا حازم؟ سيأتي الولد حينما يشاء الله.
تجمدت عينا حازم على التلفزيون ووجهه يشتد اكفهراراً.
حازم: يبدو أن الناس سيظلون ينادونني بـ " أبو كامل " ولن يكون هناك "صارم" . وسيظلون يسألونني عن عمر كامل!! ولن يكون هناك ولد يرعاني في كبري ويحمل اسمي بعد مماتي .
هناء: أرجوك يا حازم.. لا تيأس من رحمة الله ولا تفقد الأمل.
حوّل حازم عينيه إلى هناء وهما تضجّان تهكماً.
حازم: وإلى متى أخدع نفسي؟ انتهى كل شيء. ألم تستوعبي ما قاله الطبيب أم أنك تتغافلين؟
هناء: لكن أحكام الأطباء ليست نهائية يا حازم وأنت نفسك قلت ذلك.
التصقت عينا حازم بالتلفزيون ورأسه يهتز ببطء .
حازم: لقد قال لنا الطبيب القول الفصل . لا مجال هناك لأن تخضعي لعملية جراحية أخرى. انتهى الأمر. لن يكون لي ولد.
هناء: أرجوك.. لا تقل ذلك يا حازم. أنت تحكم على نفسك بالتعاسة.
حازم: لا يمكنني أن أكون سعيداً وهذا الحيف يلازمني. وكنت آمل أن انتصر عليه. والآن ينبغي لي أن أعترف بأنني هزمت. انتهى كل شيء . وقد حُكم عليّ أن أكون بلا ولد.
هناء: لاتقل ذلك يا حازم.. أرجوك.
التفت حازم إلى هناء ورمقها في عداء.
حازم: فهل أنت سعيدة إذن بهذا الوضع؟!
هناء: أنا لست سعيدة لأنك لست سعيداً يا حازم. وأنا أشعر بالسعادة معك بولد أو بغير ولد.
أطال حازم النظر في وجه هناء وهزّ رأسه.
حازم: يخيل إلي أحياناً أنك مسرورة بينك وبين نفسك لأننا لم نرزق بولد.
رمت هناء حازم بنظرات مذعورة.
هناء: لماذا تقول ذلك يا حازم؟ كيف أكون مسرورة وأنت متكدر هكذا؟ ألست واثقاً من حبي؟
حازم: من يدري؟ لعلك لا تريدين أن يشاركك أحد في حبّك. فأنت لا يهمّك أن يكون لنا ولد أو لا يكون. ولم أرك يوماً ملهوفة عليه.
امتلأت عينا هناء بالدموع واختنق صوتها.
هناء: لماذا تقول عني هذا الكلام يا حازم؟ صحيح إنك زعلان منّي لفشل العملية.. ولكن كيف تقول عني مثل هذا الكلام؟! ألست امرأة وكل امرأة تتمنى أن تكون أمّاً؟
حازم: لا.. ليس من الضروري أن ترغب كل امرأة أن تكون أمّاً . أما الرجل فيمثل له الولد امتداداً لحياته.
سال خيطان من الدمع على وجنتي هناء.
هناء: أنت تظلمني بهذا الكلام يا حازم.
حوّل حازم عينيه إلى التلفزيون وسمّرهما عليه. واهتز رأسه ببطء.
هناء: أرجوك يا حازم.. لا تفقد الأمل.
حازم: لقد فقدته وانتهى الأمر.
هناء: أرجوك .. لا تفعل . أنت لم تيأس من قبل فلماذا اليأس الآن؟
حازم: لأن الأطباء قد أعلنوا عجزهم عن رفع الحيف عنّا.
هناء: ولكن هناك طرق أخرى غير طرق الأطباء يا حازم.
أطلق حازم ضحكة متهكمة.
حازم: إذا عجز الأطباء فمن ينفع غيرهم؟
هناء: ستثبت لك الأيام يا حازم أن قول الأطباء هو ليس القول الفصل.
حازم: لقد هزمت وانتهى الأمر.























مناجاة

سمعت هناء شدو الطائر فأقبلت على الشرفة عجلة.
- أهلاً بطائري العزيز.. سأحضر لك طعامك في الحال.
تنطط الطائر حول وعاء الطعام.
- كيف سأحتمل فقدك أيها الطائر؟ ستكون وحشتك كبيرة عليّ. فأنت صرت مؤنسي الوحيد. لكنني مضطرة أيها الطائر. فلم يعد لي صبر على حزن حازم. وإذا لم أفعل شيئاً يأتيني بالولد فقد أفقد حبّه إلى الأبد.
تأملت هناء الطائر بنظرات مغمومة.
- لقد خيّبت أمله أيها الطائر ولم آته بالولد. لم يشأ الله حتى الآن أن يرزقنا بالولد. ولكنني متأكدة أن الله سيرزقنا بالولد. وإذا كان حازم قد يئس فأنا لم أيأس. ويجب أن أفعل أي شيء ليأتي الولد قبل أن يتسّرب حازم من بين يديّ.
عكف الطائر على وعاء الطعام. وكلما غمس منقاره في الوعاء رفع رأسه وفرد ذيله وتلفت يميناً وشمالاً ثم ألقى عينيه على وجه هناء.
- ما ألطفك أيها الطائر وما أشد حزني عليك.ولكن لابد لي أن آتي بالولد. ولقد أكّد لي الشيخ بسطام أن وصفاته لا تخيب. وكل عارفيه يقولون ذلك.
صمتت هناء وعيناها تتابعان الطائر في أسف.
- أعذرني يا طائري العزيز. كم يشقّ عليّ ما سأفعله بك . فمن الذي سيؤنس وحدتي من بعدك؟ ليس لي غيرك أيها الطائر أشكو إليه همومي. ولكن عليك أن تضحّي بحياتك من أجلي وإلا فقدت حازم. أنت الوحيد القادر على إنقاذي من تعاستي. لقد زوّدني الشيخ بسطام بخليط من الأعشاب وأوصاني أن أمزجها بدم طائر متميّز . وعليّ أن أمضغ تلك الأعشاب عند اليقظة ووقت النوم لثلاثة أيام متوالية وسيأتي الولد إن شاء الله.
سكتت هناء وعيناها معلقتان بالطائر. كفّ الطائر عن التقاط الطعام واشرأب بعنقه نحو هناء.
- إن هذا الأمر يلوّعني أيها الطائر . فأنت طائري العزيز وأنا أحبّك كثيراً. ولكنني لا أعرف طائراً متميّزاً غيرك.
تسلّق الطائر كتف هناء ومسح خدّها بمنقاره.
- ما ألطفك أيها الطائر . يا ربي.. كم سأفتقدك.
مدّت هناء يدها لتقبض على الطائر . نفر الطائر متباعداً واندفع بقوة في الفضاء.























زقزقة

استقرّ الطائر بجوار الأم وراح يحرّك ذيله إلى الأعلى والأسفل وإلى اليمين والشمال ويزقزق في مرح.
الأم: ما أشد سروري إذ أراك اليوم مبتهجاً على غير عادتك يا بنيّ. فمنذ عرفتها فارقتك البهجة.
الطائر: أنا اليوم مبتهج جداً يا أمّي.
الأم: إذن لاشك أنها اليوم مبتهجة وأنت مبتهج لابتهاجها.
هزّ الطائر ذيله في يأس.
الطائر: إنها لن تعرف البهجة يا أمّي حتى يأتيها الولد.
هزت الأم ذيلها في عجب0
الأم: فما الذي أبهجك اليوم إذن يا بنيّ؟ لعلك أدركت أخيراً أن حبّك لاجدوى منه فحررت نفسك منه.
زقزق الطائر في غضب.
الطائر: افهمي يا أمّي إنني سأظل أحبّها إلى آخر رمق في حياتي.
راقبت الأم الطائر وهو ممعن في شدوه.
الأم: فلماذا أنت فرح اليوم يا بني؟ أخبرني لأشاركك فرحك.
الطائر: سأستطيع أخيراً أن أبرهن لها على حبّي يا أمّي.
فردت الأم جناحيها وانكبّت عليهما تنقرهما في جزع.
الأم: لقد أدركت ألاعيبها منذ اليوم الأول يا بنيّ. وكم حذرتك من غدرها. هل قررت أخيراً أن تحبسك في قفص؟
الطائر: لا تسيئي الظن بها يا أمي. فلا يمكن أن تفكر بحرماني من حريتي.. إنها تحبني يا أمي.
تبدد جزع الأم وأراحت منقارها على الغصن.
الأم: أنت خلعت قلبي بكلامك يا بنيّ. حسبت أنها ستحرمني من رؤيتك.
عادت السكينة إلى الأم وفردت جناحيها على الغصن .
الأم: ولكنك لم تقل لي يا بنيّ كيف ستبرهن لها على حبّك .
الطائر: إنها في حاجة إليّ يا أمي.
رنت الأم إلى الطائر في قلق.
الأم: وما حاجتها إليك يا بنيّ؟
توقف الطائر عن شدوه وأدام النظر إلى أمّه.
الطائر: سأقول لك يا أمي وأرجوك ألاّ تنزعجي 0
تقرففصت الأم على الغصن وقد لاح الرعب في عينيها0
الأم: وهل الأمر خطير يا بنيّ؟
الطائر: عديني ألاّ تنزعجي مما سأقوله يا أمي.
الأم: سأحاول ألاّ أنزعج يا بنيّ.
الطائر: إنها بحاجة إلىّ لكي تنجب الولد يا أمي.
هزت الأم ذيلها في قلق.
الأم: وكيف ذلك؟
الطائر: إنها بحاجة إلى دمي يا أمي.
بدت الأم مرعوبة.
الأم: بحاجة إلى دمك؟! وماذا ستفعل به؟
الطائر: إنها ستمزجه بخليط من الأعشاب وتمضغها فيأتيها الولد.
زعقت الأم زعيقاً متصّلاً وانطلقت تخمش رأسها.
الطائر: رفقاً بنفسك يا أمي. ألم تعديني ألاّ تنزعجي؟
الأم: رحماك يا بنيّ. ماذا تريد أن تفعل بي؟! كيف تحكم على نفسك بالموت وتطلب مني ألاّ أنزعج؟
الطائر: وماذا في ذلك؟! ألسنا معرضين للموت في كل لحظة من لحظات حياتنا؟
الأم: ولكن ليس أن نقدم على الموت طوعاً بابني. هذا شيء وذاك شيء آخر. فأنت تضحّي بحياتك عامداً بدون داع.
هزّ الطائر ذيله في استنكار .
الطائر: كيف تقولين ذلك يا أمي؟ كيف تقولين أنني أضحّي بحياتي من دون داع؟ أنا أقدّم حياتي ثمناً لحبّي. أفليس الحب مقروناً بالتضحية ؟
الأم: ولكنه حبّ في غير موضعه يا بنيّ وهو حبّ من طرف واحد.
الطائر: لا يا أمي. إنها تحبني أيضاً. هي التي قالت لي ذلك.
زقزقت الأم ساخرة.
الأم: أفلا تعلم أن الكذب عادة متأصلة في بني البشر يا بني؟ لو كانت تحبّك حقّاً ما هان عليها التضحية بحياتك من أجل رغبة ذاتية.
انتفض الطائر غاضباً وطار محلقاً فوق الشجرة. ثم حطّ ثانية على الغصن متباعداً عن الأم.
الطائر: أنت تغضبينني بمثل هذا الكلام يا أمي. لقد حضرت لأودعك فلا تجعلي الوداع صعباً عليّ.
الأم: لا تغضب مني يا بنيّ. أنا لا أقول سوى الحقيقة فلا تدع حبّك يعميك عن الحقيقة. إنها تضحي بك من أجل رغبة أنانية.
الطائر: قلت لك مراراً يا أمي إنها لا تريد الولد من أجل نفسها بل من أجل زوجها. وهي تخشى أن تفقد حبّه إن لم تأته بالولد. وأنا أحبّها ومن واجبي أن أسعدها.
طارت الأم بعيداً وهي تزعق زعيقاً حاداً . واهتزّ الغصن كأنه يستجيب لزعيقها . ثم هوت على الغصن ثانية. نظر إليها الطائر مخذولاً.
الطائر: لا تصعّبي الأمر عليّ يا أمي فقد جئت لأودعك. سامحيني يا أمي ، يجب أن أذهب الآن.
تشبثت الأم بجناحي الطائر وعكفت على صدره تنقره بوله.
الأم: بنيّ.. لا تحكم عليّ بالموت . لن أعيش بعدك إذا متّ . كيف يهون عليك مفارقة دنيانا إلى العدم؟
الطائر: لست مخيّراً في ذلك يا أمي.
الأم: هل نسيت يا بنيّ أي سحر يشعّ من دنيانا الجميلة في كل وقت من أوقات اليوم وفي كل فصل من فصول السنة؟ أي نشوة تملؤنا حين نستيقظ مبكرين فتصافح عيوننا شمسنا العظيمة وهي تغمر الكون بنورها الذهبي؟ وأي بهجة تتملكنا ونحن نحلق في السماء الرحيبة وقت الغروب فتبهرنا ألوانها العجيبة؟ وأية سعادة تفيض علينا ونحن نطير فوق الحقول والأشجار التي تحتضننا وتقدّم لنا أشهى ثمارها؟ فكيف يهون عليك مفارقة هذه الدنيا الجميلة طوعاً يا بنيّ؟
الطائر: أنا لا أفارقها طوعاً يا أمي.. أنا أضحّي بها من أجل سعادة من أحبّ.. الوداع يا أمي.
تشبثت الأم بجناحي الطائر وهي تزعق بقوة. انتزع الطائر جسده من بين مخالب الأم برفق وانطلق موغلاً في السماء. لاحقت الأم الطائر بعينيها وهي تزعق زعيقاً حادّاً. غاب الطائر عن أنظار الأم فهوت من فوق الغصن ميّتة.


- تمت -









#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتابات مبكرة
- مسرحية -الغرباء-
- عالم مليكة
- البهلوان ومسرحيات اخرى
- هيلة
- مسرحية-القضية-
- اوراق رئيس
- مسرحية -الدكتاتور-
- الهوية
- الاصدقاء الثلاثة
- عهد جديد....مجموعة قصصية
- السؤال؟!!
- الشيء مسرحية من ثلاث فصول
- تساؤلات وخواطر فلسفية
- حكايات من بلدتنا
- دكتور القرية
- بداية النهاية
- حياة قاسية
- صراع


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - الطائر