أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - هيلة















المزيد.....



هيلة


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2510 - 2008 / 12 / 29 - 05:15
المحور: الادب والفن
    



الطبعة الأولى 6 199
قال الدكتور نعمان القاضي وهو يستقر على مقعده بجوار مكتب المدعي العام:أنا آسف يا سيادة المدعى العام لأن أشغل وقتك الثمين.لكنني وجدت من واجبي محادثتك في مقتل الدكتور سعد الصالح لئلا تقع العدالة في خطأ كبير.
قال المدعى العام: وكيف يمكن أن يحدث ذلك يا دكتور وقد جرت المحاكمة بصورة لم يشبها أي خلل قانوني؟ فلقد أثبتت القرائن كلها أن الجاني هو جويسم بن جلوب.
قال الدكتور نعمان: هذا صحيح فقد تابعت بعض جلسات المحكمة .
تساءل المدعي العام: فما مبعث شكوكك إذن؟
قال الدكتور نعمان: ما بعث شكوكي أمران:أولهما يتعلق بشهادة الشهود.
تساءل المدعي العام: وما الذي أثار شكوكك فيها؟
قال الدكتور نعمان: لقد خيل لي أنها انطوت على حماس مبا لغ فيه ضد جو يسم بن جلو ب . فقد تبارى الشهود في إثبات التهمة عليه وكأنهم شاهدوه وهو يضرب الدكتور سعد بتلك الآلة ويقضي به على حيا ته وهو في فراشه . وكان البعض منهم شديد الحماس كإمام الجامع الكبير والعريف خريبط .
فقال المدعي العام: وما الغرابة في ذلك يا دكتور إذا كانت القرائن كلها توحي لهم بذلك؟ أما أنا فلم ألاحظ أي حماس فيها . لقد كانت القرائن كلها ضد جو يسم في نظر أهل البلدة وفي نظري .فمما لا ريب فيه أن جو يسم كان يبتغي القضاء على حيا ة الدكتور سعد با عتبا ره المنافس له على قلب هيلة. وقد ثبت أيضاً انه سرق من منزله مبلغاً عُثر عليه في بيته. وقد أكد ٌجميع الشهود با ن حلم جو يسم كان جمع مبلغ كبير من المال لتقديمه مهراً لهيلة. ثم انك لابد قد لاحظت يا دكتور با نه عجز عن الردَ على أي من الشهود ولم يواجههم إلاٌ بتلك النظرة الغريبة في عينيه وبتلك التأتأة المحمومة "والله أنا مظلوم".
وسكت المدعى العام لحظة ثم أضاف وهو يبتسم:هذا هو جوابي على الأمر الأول وهو شهادات الشهود. فما هو الأمر الثاني يا ترى؟
قال الدكتور نعمان :الأمر الثاني يا سيادة المدعي العام يتعلق با لرسائل التي كان يرسلها إليّ الدكتور سعد من بلدة " ع ".
قال المدعي العام باهتمام : وهل لهذه الرسائل علاقة با لقضية؟
قال الدكتور نعمان :اعتقد ذلك.
قال المدعي العام بشيء من العتب: فكيف امتنعت إذن عن تقديمها إليّ منذ البدء لأضمها إلى" ملف " القضية يا دكتور؟
قال الدكتور نعمان: أنا لا أزعم أنها تتضمن دليلا ً يدعم شكوكي. وكلما أقوله يصددها هو مجرد حدس. وهي رسائل خاصة ذات تفصيلات قد لا تهمكم. وقد لا يرغب الدكتور سعد لو كان حيّا أن يطلع عليها أحد غيري.
قال المدعى العام: يؤسفني أن أقول لك يا دكتور أن القرارات في عملنا لا تنهض على الحدس. ولعل ذلك مألوف لديكم انتم معشر الأطباء.أما في مهنتنا فلا قيمة للحدس وليس لنا أن نقْرر إلا بناء على البراهين التي نستمدها من القرائن الدامغة ومن شهادات الشهود أو اعتراف الجاني.
تساءل الدكتور نعمان: أذن فلا أمل في إعادة النظر في القضية؟
قال المدعي العام :لا أمل إلاّ إذا ظهرت قرائن جديدة تنقض القرائن السابقة.
تساءل الدكتور نعمان بلهجته الهادئة : ولن تنفع الرسائل في هذه الحالة؟
فكر المدعي العام قليلا ً ثم قال :أنا لا اعرف طبيعة هذه الرسائل ،كما لا يسعني الجزم بأنها عديمة الجدوى.ولكن إذا رغبت أن تطلعني عليها فلا مانع عندي.وإذا وجدت فيها ما يلقي أضواء جديدة على القضية وما يوحي لي بقرائن أخرى فقد أطلب
إعادة التحقيق في القضية . لكنني لا ألزم نفسي أمامك الآًن بأي وعد .
قال الدكتور نعمان وهو يخرج من حقيبته حزمة من الرسائل ويسلمها للمدعي العام:وأنا لا أطمع بأكثر من هذا الوعد.وهذه هي مجموعة من رسائله بين يديك0



























14 تموز
عزيزي نعمان
أشعر أنني مشتاق إليك على الرغم من أنه لم ينقض على فراقنا سوى أيا م قلائل. ولا يمتلكك الغرور فقد لا يكون مبعث هذا الشوق المحبة الخالصة بل ما ينتابني من وحشة في هذه البلدة الصغيرة. ولا أدري كيف اختيرت هذه البلدة الواقعة على طرف الصحراء
مركزا إداريا ًرئيسيا ً. فليست هي في الحقيقة سوى قرية كبيره وغالبية أهلها من الفلاحين. والحياة فيها ذات طابع ريفي وهذا مما يزيدها تأخرا. ولا أريد أن أطيل الحديث عن وضعها المتردي لئلا يخطر لك أنني نادم على موقفي من الدكتور بدري . فالحقيقة أنني الآن أكثر قناعة بموقفي. بل إنني آسف لأن موقفي لم يكن أكثر تشددا ولعلك أنت المسؤول عن ذلك. فحينما كنت أحدثك عما كنت ألمسه من لامبالاة وإهمال في "قسمي" من قبل بعض الأطباء والممرضين كنت تهدّئني وتذكّرني بأنني أنا الملوم إذ قبلت رئاسة قسم الباطني. ولكن كيف كان بوسعي أن أدرك بأن الدكتور بدري ينوي أن يسخّرني لخدمة "مستشفى الشفاء" الخاص وأنا أجهل أية صلة له بها ؟ فلم يكن يخطر لي على با ل أن يكون مديراً لمستشفى حكومي عام ومشارك رئيسي في مستشفى خاص في الوقت نفسه حتى وإن كان ذا مركز خطير في الحزب الحاكم!! ولم يكن بوسعي بالطبع أن أغض الطرف عن تقصير وإهمال الأطباء والممرضين المتعاونين معه في مستشفاه الخاص إرضاء له. لذلك لم يداخلني الندم لحظة واحدة على موقفي المتشدد منهم. وكنت مستعداً لأن أدفع ثمن هذا الموقف مهما يكن فادحا. وكم كان الدكتور بدري غبيا حين تصور أن تهديده لي سيزحزحني عن موقفي ! وكم كان سخيفاً حين أرسل إليّ قبل صدور أمر النقل بأيام رسولاً يهمس لي بأن من الممكن إلغاء أمر النقل إذا غيرّت موقفي ! بل كم كان حقيراً حين استخدم الدكتورة نوال ورقة أخيرة للضغط عليّ ! وقد حضرت أنت ذلك النقاش الطويل الذي دار بيني وبينها والذي انتهى بز علها منيّ. وأظنك تشهد بأنني لم أقل شيئاً يبّرر ذلك الزعل. وكل ما في الأمر أنها كانت تتوقع مني أن أستجيب لوجهة نظرها كعادتي لأنها واثقة أنني عاجز عن الصمود أمام نظراتها الآسرة. لكنني خيّبت أملها هذه المرّة. فالتراجع عن موقفي كان يعني إذعاني لقوى الشّر وهذا ما لا أسمح به لنفسي.
وهكذا ترى يا نعمان أنني صرت مستعداً نفسيا للعيش في هذه البلدة مهما تكن ظروفها سيئة. فلا تتصور إذن أن ذمّها ينطوي علي شيء من الندم على موقفي. وصحيح أنني أشعر با لوحشة الآن، لكن هذا الشعور هو شعور طبيعي .فقد انتزعت من محيط يضجّ با لحركة ألفته طول حيا تي وألقيت في مكان راكد هامد. وأنا واثق أن هذا الشعور مؤقت فسيستغرقني عملي استغراقاً كلّيا . فمستشفى البلدة يتطلب جهداً كبيراً، فهو في حالة يرثى لها. وهو يعاني فقراً شديداً في مستلزماته وفي "كادره". تصور يا نعمان أنني الطبيب الوحيد فيه وسأضطر إلى علاج كل الأمراض. ومعظم العاملين فيه من ذوي الكفاءة المتدنية وممن يهملون في واجباتهم عدا المعاون الإداري كاظم جواد. وقد أثار كاظم هذا إعجابي بتفانيه في عمله. ولقد بدأت عملي في المستشفى بإعداد قائمة كاملة باحتياجاته وسأرفعها إلى المحافظ غداً لعله يستجيب لها بالسرعة الممكنة.
سأكفّ عن الكتابة الآن وأحتفظ بانطباعاتي عن بلدة "ع" للرسائل المقبلة. أكرر شوقي إليك وإلي الزملاء فتحياتي لهم جميعاً. واسلم لأخيك المحب.
سعد











21تموز
عزيزي نعمان
ما زلت أشعر بثقل الوقت هنا ولكن لا بسبب حيا ة البلدة الراكدة بل بسبب البطالة المفروضة عليّ. فعدد زوّار المستشفى قليل جداً. وهذه ظاهرة أدهشتني لاسيما وأن وجوه أهل البلدة الشاحبة وأجسامهم الضامرة مؤشرّ واضح على استفحال الأمراض بينهم. وكان بودّي أن أستعلم عن هذه الظاهرة من المعاون كاظم لكن انطواءه لم يشجعني. فهو صموت بدرجة غير اعتيادية ولا يكاد يتبادل معي سوى كلمات معدودات في اليوم. لكنه خرج قبل أيا م عن مألوف عادته وقال لي بلهجة تشي بإعجابه: أنت يا دكتور سعد تختلف تماماً عن مدير المستشفى السابق الدكتور زهير.
فقلت : وكيف ذلك؟
فقال : أنت متضايق من قلّة المراجعين، أما هو فكان يتضايق إذا كثر عددهم. وكان يعاملهم معاملة خشنة.
فقلت : الآن فهمت سبب انصراف أهل البلدة عن المستشفى. ولكن ما سبب موقفه هذا؟
فقال : كان الدكتور زهير متضايقا جداً من وجوده في هذه البلدة المتواضعة وكان يندب حظه دائما.
فقلت : لا عجب إذن أن تدنّت أمور المستشفى إلى هذا الحدّ .. وأنا آسف أن أسمع منك هذا الكلام يا كاظم. فالطبيب يعلم أكثر من غيره أن الاهتمام بصحة المواطنين هو فوق كل اعتبا ر.
ولقد حّرك كلام كاظم عن الطبيب السابق أشجاني يا نعمان. وقارنت موقفه بموقف الطبيب الألماني الشهير ألبرت شفايزر. فقد هجر بلده الجميل وهو في عنفوان شبابه وأقام مستشفى في أدغال الغابون وهي من أشد الأماكن تأخرا وأقساها ظروفا لكي يُعنى بالمرضى الأفريقيين. وظل يعمل في ذلك المستشفى على امتداد حيا ته التي قاربت الثمانين. فأين موقفه من موقفنا؟! وإني لأسائل نفسي أحيانا يا نعمان لماذا لا نتبنى نحن الأطباء مثل هذا الموقف ونحن مسؤولون عن رفع المستوى الصحي لأبناء شعبنا؟ ولماذا نفتقد أمثال الدكتور شفايزر بيننا؟ فأنا مثلاً، واعترف لك بصراحة، شعرت بشيء من الضيق حينما تسلمت أمر نقلي إلى بلدة "ع". وما تقبلت الأمر برحابة صدر إلاّ تحديا للدكتور بدري، لكنني أحس الآن برضى واطمئنان داخلي. فتواجدي في هذه البلدة سيمكنّني من أداء خدمة حقيقية لأبنائها وسأعمل على رفع مستواهم الصحي. وهم في حاجة فعلاً إلى خدماتي.
هذا كل ما عندي الآن من أخبا ر عن بلدة "ع". لكنني أحب أن أنبئك قبل أن أختم رسالتي أنني قد استأنفت رياضتي المحّببة. ففي كل يوم أتجول طويلاً في أسواق البلدة وشوارعها ومشارفها الريفية. وكان يمكن أن أستمتع برياضتي هذه لولا بعض المنغّصات. فحيثما تجْولت اصطدمت أنظاري بإهمال وفقر شنيعين. فبيوت البلدة هيا كل متداعية، وشوارعها ودروبها محفّرة متربة تتناثر على جوانبها الأوساخ، وأسواقها زريّه. أما أهلها فألبستهم مهلهلة ووجوههم بائسة لا تعرف إشراق السعادة. وكل ذلك يحزّ في قلبي يا نعمان ويورثني أسى عميق. وإن سؤالاً ملحّا ليتشبث بذهني على الدوام : متى يا ترى سيتبدل حال هؤلاء المسحوقين فيمارسون حيا ة إنسانية كريمة؟! إن بلدنا في حاجة إلى مبضع جراح ماهر يا نعمان ليستأصل من جسده مسببا ت المرض والجهل والفقر لكي يستطيع مواطنوه أن يتمتعوا بحياة هنيئة .
سلامي لجميع الإخوان ودمت لأخيك المحب .
سعد
ملاحظة: لم يرد في رسالتك أي ذكر للدكتورة نوال. فما أخبارها ؟









7 آب
عزيزي نعمان
فهمت من رسالتك أنك لم تلتق بالدكتورة نوال سوى مرة واحدة . وفهمت أنها لم تكن متحمسة لسماع أخباري . وأنا لا ألومها فد خيّبت أملها في نقاشنا الأخير . وعلى كل حال فلا أحب الخوض الآن في هذا الموضوع لأنني لا أزال متأثرا بما دار في ذلك النقاش . ولأحدثك عن حياتي في بلدة "ع" . وأهم تطوّر فيها هو تزايل الضيق الذي عانيت منه في الأسابيع الأولى والفضل في ذلك لتزايد عدد المرضى . وقد رافق زيادتهم احتشاد عربات الباعة المتجولين أمام باب المستشفى ، في حين لم أكن أشاهد منها في الأسبوع الأول سوى عربة واحدة .
ومن الأحداث ذات الأهمية أيضا تعرّفي بأركان السلطة في البلدة والذين يسمون ب"الجماعة" . وهم يمثلون في الحقيقة اللجنة المحلية للحزب الحاكم . وهي معرفة لم تسرّني في الواقع . ولم أكن قد عرفت منهم سوى المحافظ . وكنت قد زرته في مقره في اليوم التالي لتسلمي العمل زيارة تعارف . وقد فوجئت صباح الخميس الماضي بزيارة وكيله لمكتبي في المستشفى . وحسبت لأول وهلة أنه حضر للعلاج . لكنه أبلغني أنه موفد من قبل المحافظ لدعوتي للعشاء في النادي . فرحبت بالدعوة إذ وجدتها فرصة لمقابلة المحافظ والتحدث معه بشأن قائمة متطلبات المستشفى خارج نطاق الرسميات . ولم يكن قد تمّ فيها أي شيء حتى الآن .
وعند المساء قصدت النادي فقادني الخادم إلى غرفة فسيحة ذات أثاث فخم . ووجدت من الحضور المحافظ صادق حسون ووكيله راضي الشيخ حمود ومدير الأمن نبهان رؤوف ومدير الشرطة فليح العمر ومدير الدائرة الزراعية عبدالله الخطيب . ورحبوا بي ترحيبا حارا .
ولأول وهلة ساد الجلسة جوّ رسمي . قال المحافظ بلهجة متئدة : نحن آسفون يا دكتور سعد إذ لم ندعك إلى النادي قبل اليوم . فقد كنا نتصوّر أنك ستأتي من تلقاء نفسك كما هي عادة كل موظف جديد . وسلفك الدكتور زهير لم يتغيّب عن مجلسنا ليلة واحدة .
فقال مديرالأمن نبهان رؤوف : النادي مرجع الموظفين في البلدة وخصوصاً الغرباء منهم. فكيف يمكن للشخص أن يقضي وقته؟
فقلت : الحقيقة أنني لست معتاداً على قضاء وقت فراغي في النوادي حتى حينما كنت في العاصمة.
سألني المحافظ بعجب : وكيف تقضي وقت فراغك إذن يا دكتور سعد؟
فقلت : لديّ كتبي.. كما أنني أستمتع برياضة المشي حينما يتوفّر لي الوقت.
قال مدير الزراعة عبد الله الخطيب وهو ينظر حواليه ضاحكاً : نحن طلّقنا الكتب منذ ودّعنا الكلية!
وقال الوكيل : بإمكانك يا دكتور أن تمارس هنا رياضة المشي قدر ما تشاء .فالحقول التي تحيط بالبلدة تنبسط على امتداد النظر.. كما يمكنك أن تتمتع برياضة أخرى هي رياضة الصيد.
قال مدير الشرطة فليح العمر وهو يضحك بصوت أجش : أي نعم.. لا بد أن تعمل دعاية لرياضة الصيد يا أستاذ راضي.
وقال مدير الزراعة عبد الله الخطيب : الحق معه يا جماعة.. إنه معتاد على الصيد منذ كان طفلاً.
فقال المحافظ بتهكم : طبعاً حينما كان أبوه يتحكم في أراضي البلدة وأناسها وحتى طيورها.
والتفت إلى الوكيل متسائلاً في سخرية : أليس كذلك يا ابن الإقطاعي؟
قال الوكيل بارتباك : ليس إلى هذه الدرجة يا أستاذ صادق.
فقال مدير الزراعة : لا تزعل من الحق يا أخانا راضي، فالشيوخ كانوا ظلمة متجبرين يتحكمون في فلاحيهم. وكان لبعضهم سجونهم الخاصة يعذبون فيها من يخرج عن طوعهم.
قال مدير الشرطة : أي نعم .. من كان يجرأ من الفلاحين على الخروج على إرادة الشيخ في العهد الملكي البائد؟ كانت لدينا أوامر بملاحقة وسجن أي متمرد على"شيخه".
فقال المحافظ بازدراء : الحق معهم فهم أصحاب السلطة المطلقة في ضياعهم وهم النوّاب المزمنون عن مناطقهم في مجلس النواب المزّيف في والذين ما كانوا يحسنون فيه شيئاً سوى أن يرفعوا أيديهم موافقين على أي مشروع تتقدم به الحكومة قائلين : "موافجين" أو يرسلون برقيا ت تأييد لرئيس الوزراء قائلين فيها : "أؤيدكم أنا وعشيرتي . سيروا على بركة الله".
فقال الوكيل بلهجة مرتبكة : صحيح أن معظم الشيوخ كانوا في العهد البائد من المتجبرين الظلمة يا جماعة، ولكن كان هناك أيضا من يعامل فلاّحيه معاملة طيبة خصوصا إذا كانوا من أبناء عشيرته . ولا تنسوا أن بعضهم كان من أبطال ثورة العشرين .
فنظر إليه المحافظ نظرة ساخرة وقال : لا تدافع عنهم يا ابن الإقطاعي فالفضل في ذلك يعود لأبناء عشائرهم . ثم هل نسيت كيف كان بعضهم يحرق أمام الراقصة في الملاهي الرخيصة ورقة من فئة المائة دينار لكي ينال رضاها بينما يتضوّر فلاّحوه جوعا ؟ لم تكن تستر جيفهم ألف قارورة عطر.
فعقب مدير الأمن قائلا : المهم أن جماعتنا خلصوا الناس من الظلم والجبروت إلى الأبد .
ثم انتقلوا فجأة من هذا الحديث الجدي إلى أحاديث سخيفة تكشف عن ضحالتهم وتفاهتهم . وظللت أنا صامتا طول الوقت . وانتهزت الفرصة أخيرا ً وتحدثت مع المحافظ عن قائمة احتياجات المستشفى فوعدني خيرا ً. ثم انصرف مودعا ً بمثل ما استقبلت به من ترحاب. لكنني قررت بيني وبين نفسي أن تكون زيارتي هذه آخر زيارة للنادي.
ما زال لديّ متسع من الوقت يا نعمان للقراءة أثناء دوامي في المستشفى فأرجوك أن تبعث إليّ بآخر ما توفّر لديك من المجلات الطبية وببعض الكتب الأدبية إن أمكن .
تحياتي للإخوان جميعا ولك مي خالص الود .
سعد




28 آب
عزيزي نعمان
لعلك متشوق إلى أخباري في بلدة "ع" .وأصارحك أن الحياة فيها قد بدأت تروق لي خصوصا وأن العمل أخذ يستغرق كل وقتي . لكن شيئا آخر حبّب إليّ الحياة فيها أيضا وهو نزهات الصيد التي أقوم بها الآن بمشاركة وكيل المحافظ راضي الشيخ حمود . وقد توثقت صلتي به بعد أن أجريت لطفله الصغير عملية جراحية ناجحة صرت بعدها طبيب العائلة . وقد أهداني بندقية صيد ودرّبني على استخدامها . ونحن نخرج في نزهات صيد مرة في الأسبوع في الصباح المبكر . ولقد أتاحت لي هذه النزهات يا نعمان أن أندمج في الطبيعة , ومن المؤسف أننا في العاصمة نفتقد الوقت لذلك. فعملنا لا يكاد يترك لنا مثل هذه الفرصة. ولقد تعلمت أن للطبيعة , ولاسيما الوحشية منها , سحر خاص . ويتجلى هذا السحر في أروع صوره في الصبا ح المبكر. فلا تعكر حركة البشر هدوءها وسكونها. إن نزهاتنا تقودنا إلى عمق الصحراء أحياناً، وهناك تكثر طيور "الدرّاج". وأعترف لك أنني لم أكن أدرك أن للصحراء مثل هذا السحر خصوصاً قبل شروق الشمس. ففي هذا الوقت تختلط زرقة السماء بحمرة الشمس المشرقة. وإن تغريد الطيور ليأسرني بحلاوته وتنوعه .ويخيل إليّ أنها تناجي بعضها بعضا. لذلك كثيراً ما ترددت في إطلاق بندقيتي على هذه المخلوقات الوديعة التي لا ريب أنها تحمل لبعضها من العواطف ما نحمله لبعضنا بعضا وتحب الحياة كما نحبها. ولولا راضي الشيخ حمود ما أطلقت عليها طلقة واحدة. وعلمتني نزهات الصيد الصباحية أيضاً أن أتملى جمال الحقول الخضراء التي تنبسط على مد النظر، وهي تبدو في الصبا ح المبكر منتعشة مزدهرة. حتى النهر الصغير الذي يخترق البلدة يطالعني بسحر خاص ما كنت أتبينه في نهر العاصمة الكبير.. ربما لأنه ما زال أقرب إلى الطبيعة الوحشية. وكثيراً ما وقفت على ضفته التي تتناثر عليها الأدغال والأشجار أتأمل مياهه المنسابة بهدوء وفي أعماقي شوق غامض. حقاً إنني لسعيد بنزهات الصيد هذه يا نعمان وإنها قد أثرت حياتي.
هذا جانب من جوانب أخبا ري عن بلدة "ع". وأحب أن أحدثك عن جانب طريف آخر حدث لي مؤخرا. فقد تعرفت قبل أيام إلى صورة من صور الجمال لم أر لها مثيلاً في حياتي. فبينما كنت أستقبل المرضى دخل كاظم الغرفة وبصحبته شابة وكهلة. وما أن وقعت أنظاري على وجه الشابة حتى شعرت بهرّة كهربائية تنتظم جسدي، وللوهلة الأولى عجزت عن التحكم في نفسي فحّدقت في وجهها مأخوذا، لكنني تمالكت نفسي وتحاشيتها بعيني وأنا أتظاهر باللامبالاة لكنني. كيف أصفها لك يا نعمان؟ لا أدري كل ما أستطيع قوله أنها كالتحفة الفنية النادرة التي أبدع فنانها في صنعها، قلت وأنا أنقل نظرات سريعة بين المرأة والشابة : من منكما المريضة؟
قال كاظم : إنها أم هيلة يا دكتور سعد.
فقالت الأم محتجة : أنا في خير يا أبا جواد بفضل الله وفضل السيد. هيلة هي التي أجبرتني على الحضور.
قالت هيلة في صوت رخيم : كيف في خير يّمه؟ أنت لا تنامين الليل من شدة الألم.
سألت الأم وأنا أبا شر فحصها : مِمَ تشكين يا حاجة؟
قالت هيلة بصوتها الرخيم : هي تئن طوال الليل يا دكتور ولا تقدر أن تنام من شدة آلامها .
فقلت وأنا منهمك في فحصها : سنرى سبب آلامها .
وبعد أن فرغت من فحصها قلت لهيلة : لماذا لم تحضري أمك من قبل وتركت مرضها يستفحل؟
فحوّلت وجهها عني ولم تجب . فقال كاظم : لا تلم هيلة يا دكتور سعد .. إنها أحضرت أمها إلى هنا لكن الدكتور زهير لم ينفعها .
فقالت الأم : دواء السّيد فيه الكفاية الله يطوّل عمره .
فقال لها كاظم بسخرية : لهذا اشتد عليك المرض يا أم هيلة .
قلت للأم : على كل حال سنجرّب هذا الدواء ونرى نتائجه وعليك أن تراجعيني مرة أخرى بعد الانتهاء منه .
وانصرفت الأمّ وابنتها فانشغلت بالمرضى الآخرين حتى خلت الغرفة من المراجعين وتوفر لي الوقت للقراءة . وانتبهت على سعلة فرفعت رأسي ورأيت كاظم يدخل متردداً وعلى شفتيه بسمة خفيفة. قلت له : تفضل اجلس يا كاظم .
قال وهو يجلس بجوار المكتب : أرى أنك يا دكتور سعد لم تتأثر بمرأى هيلة خلافاً لكل من رآها للمرة الأولى .
فقلت : ماذا تقصد يا كاظم ؟
قال والابتسامة تتسّع على ثغرة : أقصد أن جمالها لم يهزك .
فقلت : وهل تتصورني سمج الذوق إلى هذا الحد يا كاظم ؟
فسارع يقول : العفو دكتور سعد .. العفو .. ولكن لم يبد عليك أنك انبهرت بجمالها .
ثم أضاف وهو يهز رأسه بإعجاب : لكن ذلك ليس غريباً عليك . وكل يوم يمّر يزيدني قناعة بأنك تختلف عن غيرك ممن عرفت .
وطبعاً لم أصارح كاظم بالأثر الهائل الذي أحدثه جمال هيلة في نفسي ، وقد ظللت طوال اليوم أسترجع صورتها في ذهني .. أية متعة تنتاب الإنسان تجاه الجمال يا نعمان ؟ إنه لشعور يعجز المرء أحياناً عن التعبير عنه ولا ريب عندي أن الجمال .. وأقصد به هنا جمال الخلقة ، أحد هبات الخالق لهذه الأرض كي تصبح أكثر إشراقاً وجاذبية . إنني لا أزال حتى كتابة هذه الرسالة مستمتعاً بحلاوة ذلك الجمال ومدهشا من تواجده في هذه البلدة .
لقد انقطعت أخبار الأصدقاء عني يا نعمان ورسائلك لا تكاد تحمل لي شيئاً منها . فما أخبار سهراتهم في أماسي الخميس في نادي الأطباء ؟ وهل هناك من جديد عنهم ؟ ا أرجو أن تحمل لي رسائلك المقبلة شيئاً من أخبارهم ومن أخبار الدكتورة نوال .
وفي انتظار رسالتك المقبلة تقبل مني خالص محبتي .

سعد


11 أيلول
عزيزي نعمان
كنت قد حدثتك في الرسالة السابقة عن زيارة هيلة للمستشفى بصحبة أمها والتي أثار مرآها دهشتي . و قبل أسبوعين حضرت ثانية برفقة أمها . ولقد تملكني السرور وأوشكت أن أنهض من مقعدي مرحباً بهما . لكنني سيطرت على نفسي وتظاهرت باللامبالاة .قال كاظم الذي صحبهما وهو يبتسم : دواؤك أفاد أم هيلة كثيراً يا دكتور سعد فهي أتتك اليوم من نفسها .
قلت وأنا أحاول تجنّب النظر إليها : أهلاً وسهلاً .
قالت هيلة بصوتها الرخيم : لأول مرة منذ أشهر صارت أمي تنام بدون أنين يا دكتور .
فقلت : إذن نفعها الدواء .
قالت الأم : بفضل الله وفضلك يا دكتور وفضل سيد علي .
قالت هيلة لأمها محتجة : وما دخل سيد على يا يمّه ؟! من شهور وأنت تأخذين دواءه بدون فائدة .. الفضل كله للدكتور .
فقال كاظم : وهل تمكن سيد علي أن يشفي أحداً بأوراقه المخربشة يا أم هيلة وبأدعيته ؟
أعدت فحص الأم فتبين لي أنها لم تحرز تقدماً حقيقياً. فقلت لها : على كل حال سنكرر الدواء ونرى النتيجة . ويجب أن تراجعيني بعد انتهاء الدواء .
وقبل أيام حضرت الأم وقد عاودتها آلامها ، فلما فحصتها تأكد لي ضرورة إجراء عملية جراحية لها ، وكنت آمل أن أجنبّها ذلك ، قلت مخاطباً أبنتها هيلة : لا بد من إجراء عملية جراحية لأمّك يا هيلة .
فشحب وجه الأم وصاحت مذعورة : عملية ؟ لا .. لا . أبداً .سيشفيني المؤمن . .. سيشفيني سّيد علي .
قالت هيلة وقد بدت الحيرة على وجهها : هل العملية ضرورية يا دكتور ؟
فقلت : إنني حاولت تجنبها ولكن تبين لي الآن أنها الحل الوحيد .
التفتت هيلة إلى أمها وقالت : الشور شور الدكتور يّمه .
فصاحت الأم غاضبة : أنت تخبّلت يا هيلة ؟! أنا أعمل عملية ؟! أخلّيهم يشرّطون بدني ؟! سأذهب إلى المؤمن..هو الذي سيشفيني .
قال كاظم بحنق : وهل نفعتك تعاويذه (وأدعيته) ؟ هل نفعتك أكياس الحرمل ؟ إنه دجّال يا أم هيلة .
فقالت الأم مرتعبة : لا تقل هذا يا أبو جواد فجدهّ سيد طريمش الكبير رأسه حار مثل العباس .
ثم أضافت كالمخاطبة نفسها : لا .. لا.لن أعمل عملية00 سيد على هو الذي سيشفيني بجاه جده سيد طريمش الكبير .
ثم نهضت مسرعة وهرعت نحو الباب كأنها تفرّ من سجن . فالتفت إلى كاظم وسألته : من سيد علي هذا يا كاظم ؟ يبدو أن له تأثيراً كبيراً عليها .
قال كاظم : إنه إمام الجامع الكبير يا دكتور ومرقد جده الأعلى سيد طريمش الكبير معلم من معالم البلدة . وهو مصيبة البلدة .وأظنك ستتعرض لمشاكل معه عما قريب .
قلت في عجب : وما علاقتي به حتى أتعرض لمشاكل معه ؟
فقال : سيكون لك علاقة قويه به . فأنت أصبحت المنافس له .ويوماً بعد يوم كما أرى تسحب منه زبائنه . وإن مرقد جده سيد طريمش الكبير يكاد يخلو من المرضى المربوطين بشبّاك الضريح .
فضحكت وقلت : فنحن إذن طبيبان متنافسان ؟ !
قال كاظم بجد : يبدو أن الأمر سيكون كذلك يا دكتور سعد خلافاً لما حدث مع الدكتور زهير ، فأهل البلدة لم يكونوا يحبّونه أو يثقون به . أما أنت فقد غنمت قلوبهم ببراعتك ودماثة خلقك . ويجب أن أحذرك من خطره يا دكتور سعد فهو شخصية خبيثة ويتمتع بنفوذ واسع بين أهل البلدة وكلاب السلطة الباغية .ومن الآن فصاعداً سأراقبه وأرصد تحركاته لئلا يؤذيك ولئلا يفاجئنا بمؤامرته .
قلت بعجب:إلى هذا الحد يتمتع بنفوذ بين أهل البلدة؟
فقال كاظم: إن نفوذه الديني مستمد من جدّه سيد طريمش الكبير يا دكتور سعد.
وسكت لحظة ثم ضحك قائلا: لقد كان جّده هذا يحتكر النفوذ الديني في البلدة . وأهل البلدة يتداولون الحكاية التالية عنه . فذات يوم وفد على البلدة رجل دين متنوّر وأخذ يزاحمه النفوذ . ولم يكن هو يحسن القراءة والكتابة . فأشاع بين أهل البلدة أن رجل الدين هذا كذاب وجاهل ولا يعرف كيف يفك الخط و أنه مستعد أن يبرهن على ذلك .وذات يوم طلب من رجل الدين الجديد أمام جمع من أهل البلدة أن يخط على الأرض كلمة أفعى . ففعل الرجل . فرسم هو إلى جوارها صورة أفعى . والتفت إلى الحاضرين وسألهم : "أيّ من هاتين الكلمتين هي كلمة أفعى ؟ " فأشاروا إلى صورة الأفعى . فقال لهم :" ألم اقل لكم إن هذا الرجل كذاب ؟" وفي اليوم التالي اختفى رجل الدين المتنوّر من البلدة . وطبعا حفيده سيد علي يسير على خطاه .
فقلت بعجب : ولكن هل يتمتع سيد علي فعلا بمثل هذا النفوذ في البلدة ؟
فقال كاظم :فعلا يا دكتور سعد .
فهززت رأسي وقلت : فغريمي إذن دجال كبير .
تصور يا نعمان حتى في مثل هذه البلدة ينبغي لي أن أحسب حساباً لما قد يلحق بي أهل الشر من أذى ! وقد أثارت ملاحظة كاظم هذه مشاعري وظللت أفكر بها طوال اليوم . ولا أكتمك أنني شعرت بضيق شديد . فإلى متى سيظل أهل الشر يلاحقون أهل الخير ؟ إن أمثال هؤلاء الناس يلحقون ضرراً كبيراً بالمجتمع. فهم يحجبون دور من يعمل على إشاعة الخير وقد يضطرونه إلى الاستسلام ثم التقوقع داخل ذاته .وهذا بالطبع ما يبتغونه ليحكموا قبضتهم على المجتمع ويستبدوا بأموره . ولكن لابد من وجود من يقف في وجوههم يا نعمان وإلا خرب المجتمع ، أما الحيادية. تجاههم فتعود على المجتمع بأفدح الأضرار وهذا ما فعلته تجاه الدكتور بدري . ولعل الدكتور بدري يتصور أنه نجح معي ولكنه في الحقيقة قد أخفق ، فأنا لم أستسلم لشروره ولن أستسلم لشرور من هم أمثاله. وقد عاهدت نفسي على ذلك مهما تواجهني من صعاب . تحياتي للإخوان جميعاً ودمت لأخيك المحب .
سعد



6تشرين الأول
عزيزي نعمان
لقد حدث تغيير مهّم ومبهج في حياتي منذ رسالتي الأخيرة وهو عثوري على خادم لرعاية بيتي . وقد تضحك الآن وتقول لنفسك ما كنت أحسب أن العثور على خادم يعدّ حدثا مهما في حياة طبيب . ولكنه كذلك في هذه البلدة يا نعمان . فمنذ حللت فيها وأنا أعاني من مشكلة العثور على خادم . وكنت أحسب أن مثل هذا الأمر سهل جداً هنا . فأنت تعلم أن من يقومون بالخدمة في العاصمة هم من أهل الريف النازحين عادة . لكني اصطدمت بحقيقة لم تكن تخطر لي على بال وهي أن أهل البلدة هنا يستنكفون من القيام بمثل هذا العمل . وكنت قد كلفت كاظم بالبحث لي عن خادم فوعدني أن يبذل جهده لكنه أكد لي أن العثور على خادم هنا أمر متعذر جداً . وتلطف معي على مألوف عادته فأخذ يبعث زوجته بين حين وآخر للعناية بمنزلي بالرغم من معارضتي الشديدة لذلك . وقبل أيام حمل إليّ كاظم بشرى عثوره على خادم ، فلما استفسرت عنه قال : إنه جويسم .
سألته : ومن جويسم هذا ؟
فقال: إنه قريب من أقرباء هيلة . وهو يصنع حلويات يبيعها للأطفال فهو مغرم جداً بهم ، وهو يتجول بعربته في طرقات البلدة طوال النهار .
ثم استدرك قائلاً : ولكن يجب أن أخبرك يا دكتور سعد بأنه على شيء من البلاهة .
فقلت : هذا لا يهم .. ولكن هل أنت واثق أنه سيترك عمله ويرضى بالخدمة ؟! أعني هل اتفقت معه على ذلك خصوصاً وأنه يحب الأطفال كما تقول ؟
فقال : في الحقيقة أنني لم أتفق معه بنفسي لكن هيلة تولت الأمر بعد أن حدثتها عما تواجهه من صعوبات . وأصغت إليّ باهتمام ثم قالت :قل للدكتور ألاّ يشيل هم ّ .. سأطلب من جويسم أن يخدمه ، وكلنا مستعدين أن نخدمه بعيوننا .
وسكت كاظم قليلاً ثم أضاف وهو يبتسم : هيلة باتت تقدرك وتحترمك احتراماً عظيماً يا دكتور سعد منذ أجريت العملية لأمها وأعدت إليها صحتها ، وهي لا تترك فرصة يرد فيها ذكرك من دون أن تطري عليك وتقول عنك إنك ( دكتور صدك ) لا كالدكتور السابق .
وسكت لحظة ثم أضاف وهو يضحك : وأظنها معجبة بك أيضا لأنك لا تلتهمها بعينيك كما يفعل غيرك .
فقلت : شكراً لها ، ولكنني أصدقك القول يا كاظم بأنني أشك في أن يستجيب جويسم لطلبها.
قال كاظم مؤكداً : جويسم لا يمكن أن يرفض طلباً لهيلة يا دكتور سعد ، فهو يعدّ نفسه ابن عمها وخطيبها .
فسألته : وهل هو خطيبها حقيقة ؟
فضحك وأجاب : لا بالطبع ، لكن هيلة تقول عنه إنه مسكين وأنها تداريه على قدر عقله . وهي حددت مبلغاً من المال مهراً لها لا يمكنه ان يوفره في يوم من الأيام .
ووجدت الفرصة مناسبة لألقي على كاظم ، وهو الوثيق الصلة بأسرة هيلة ، ذلك السؤال الذي طالما حيرني . سألته : ولكن كيف ظلت هيلة بدون زواج حتى الآن يا كاظم ؟
أجاب : أهل البلدة البسطاء لا يجرؤون على الزواج منها. يا دكتور سعد، وهم يخشون على حيا تهم من كلاب السلطة الباغية الذين يحاولون الفوز بها بطرقهم الخاصة.
قبل أن أختم هذه الرسالة يا نعمان أودّ أن أصارحك بأن رسائلك مختصرة ولا تتضمن أخباراً شافية. وأنا أعذرك فأنت مشغول ولا وقت لديك لكتابة الرسائل. ولكن تذكّر أنك واسطتي الوحيدة لمعرفة أخبار الأصدقاء فأنا لا أراسل أحداً غيرك . وفي انتظار رسالتك المقبلة. تقبل مني خالص المحبة والاعتزاز.
سعد











18 تشرين الأول
عزيزي نعمان
في رسالتي قبل السابقة ذكرت لك طرفاً من الحوار الذي دار بيني وبين كاظم حول إمام الجامع الكبير سيد علي طريمش، لكنه لم يورد ذكره مرة أخرى فنسيت كل شيء عنه. وذات صبا ح اقتحم عليّ شخص غرفة الفحص فراعتني هامته المتطاولة وكرشه العظيم وعمامته الخضراء الضخمة .سألني بصوت غليظ : أنت الدكتور سعد؟
فقلت : نعم، وأنت من؟
أجاب في تيه : أنا سيد علي طريمش.
وصدمتني لهجته الفظة فقلت في برود : أيّ خدمة؟
فانحط على الكرسي كما ينحط الجبل وهو يحدجني بنظرات حادة وقال : أريدك أن تفحصني.
سألته : وممَ تشكو؟
فقال بلهجة تنمّ عن الاستخفاف : ألست أنت من يكشف عن المرض؟
فقلت : تفضل إذن إلى طاولة الفحص.
فارتمى بجسمه الضخم على طاولة الفحص. وشرعت بأوليات الفحص من قياس لضغطه ونبضه وتنفسه. وكان كل شيء سليما، فسألته : ممَ تشكو يا سيد علي؟
فأجاب : من آلام في جسمي.
فسألته : أين في جسمك؟
فقال بلهجته المستخفة : في كل جسمي.. وأريدك أن تعرف سبب هذه الآلام.
فقلت : لابد أن تحدد موضع الألم يا سيد علي حتى أستطيع تشخيص المرض.
قال بلهجته المستخفة : أفلست الطبيب الذي يعرف كل شيء؟ فكيف لا تعرف مصدر الألم؟
فقلت : يا سيد علي.. لابد للمريض أن يحّدد موضع الألم ليساعد الطبيب على تشخيص مرضه.
فقال وهو ينهض عن طاولة الفحص : فما با ل الناس البلهاء يقولون إنك تعرف كل شيء؟
فقلت في سخرية خفيفة : أظنهم غشّوك.
قال بصوته الغليظ : قل لهم ذلك ولا تقله لي فأنا أعرفه.
وعاد إلى المقعد بجوار مكتبي فسألته : فإذن أنت لست مريضاً يا سيد علي؟
فقال : بعون الله وعون جدي رسول الله.. أنا لا أعرف المرض.
فقلت : إذن فما الخدمة التي أستطيع أن أقدمها لك؟
فقال بلهجته المتغطرسة : أنا لا أحتاج إلى خدمة من أحد.. الناس هم الذين يحتاجونني.. الصغار منهم والكبار.
فقلت : لا تضعني إذن في قائمة من يحتاجون إليك يا سيد علي.
فقال بخشونة : وأنا لم أفكّر بذلك. لكنني قلت لنفسي من الضروري أن أتعرف على الدكتور الذي لم يحاول ولو لمرّة واحدة تشريفنا في الجامع الكبير.
فقلت : يا سيد علي.. لا أظنك حضرت إلى هنا لتحثني على أداء واجباتي الدينية. فأنا رجل راشد وأعرف واجباتي. ثم أن هذا المكان هو مكان عمل. وكما ترى فالمرضى ينتظرون دورهم في الفحص.
فقال بلهجته العدائية : أنا لم أتوقع منك أن ترحب بي يا دكتور بعد أن سمعت من الكثيرين عن تعريضك بي.
فقلت : ليس من طبعي أن أعرّض بأحد يا سيد علي. وكل ما قلته لمرضاي أنه لا أكياس الحرمل ولا الأوراق المخربشة يمكنها أن تشفيهم من أمراضهم.
قال وهو ينهض غاضبا : وأنا أحب أن أخبرك أيضاً يا دكتور أنني لست من الأشخاص الذين يهزأ بهم وأن لحمي مّر.
ثم غاب عن نظري فجأةً كما ظهر فجأةً. وحالما انصرف أقبل كاظم وهو يضحك وبادرني قائلاً : ها.. ما هي الأخبار يا دكتور سعد؟
فقلت بحنق : هذا الرجل مجنون ولا شك. تصور أنه يهددني.
قال كاظم : هذا ليس أمراً غريبا وما قاله ليس سوى أول الغيث. وكنت أتوقع زيارته لك بين يوم وآخر.
فقلت : وهل يتصور هذا المعتوه أن تهديده سيمنعني من فضح دجله؟ إنه إذن لعلى جهل بواجب الأطباء.
فقال : سيد علي طريمش يعرف حدود نفوذه يا دكتور، وهو نفوذ مستمد من كلاب السلطة الباغية ومن جهل أهل البلدة. وحينما يهدد يعلم أنه في مستوى تهديداته. وعلينا أن نحذر منه. وأنا سأراقب تحركاته مستعيناً با لأشخاص المخلصين لي فاطمئن.
هذا ما عندي من أخبا ر لهذه الرسالة يا نعمان. لكنني أريد أن أسألك سؤالاً قبل أن أختمها : ألم تعد ترى الدكتورة نوال؟! فأنت كففت عن ذكرها في رسائلك كليا . وهل هي السبب في هذه القطيعة يا ترى؟ أقصد هل هي التي تتعمد الابتعاد عنك أم أن انشغالك هو السبب في ذلك؟ أرجو أن أتلقى منك جوابا صريحاً عن هذا السؤال يا نعمان. وفي انتظاري لرسالتك المقبلة تقبل مني خالص المحبة والولاء.
سعد











4 تشرين الثاني
عزيزي نعمان
لقد نكأت رسالتك الأخيرة الجراح في قلبي. ويبدو أن الدكتورة نوال تتصور أنني الطرف المذنب. فقد ذكرت أنها تحدثت إليك عني بكثير من المرارة. ولكن من الذي يحق له التحدث بمرارة .. هي أم أنا ؟!
إنها تعلم جيداً أنني كنت مستعداً لإقامة حيا ة زوجية منذ شهور طويلة وأنني لم أتلكّـأ في هذا القرار أبداً . والدكتورة نوال تدرك جيداً مكانتها في قلبي . ولكنها هي التي كانت تتملص من تنفيذ هذا القرار بحجة أو بأخرى . وكانت تقول لي دائماً بلهجة مزيجة من الدعابة والجدّ :" أمامنا الحياة بكاملها يا سعد ونحن مازلنا شبابا . فما الداعي للعجلة " . ولا أدري كيف نسيت هذا القول الذي كانت تردده دائماً . وكنت أحتار في أسبا ب تأخير زواجنا . فالمفروض أننا كنا جاهزين له ماديا ونفسيا وعمريا . والحقيقة أنني لم أناقش أسبا ب هذا التأجيل معها او حتى مع نفسي لأنني كنت أرفض مراجعة أقوالها أو التدقيق في سلوكها تجاهي. لكنني تعودت وأنا في وحدتي في غرفة نومي هتا أن أستحضر الكثير من المواقف في حياتي ، وخصوصاً ما يرتبط منها بالدكتورة نوال . فأدركت أنني كنت أتهرب من حقيقة مؤلمة وهي أنني لست رجل أحلامها ، وأنها كانت طوال الوقت تحاول منح نفسها فرصة للتمحيص .ولاشك أن هنالك سؤالاً كان يتردد في ذهنها باستمرار : "هل هذا الرجل يحقق طموحاتي في الحياة ؟"فمن الواضح أنها تنظر إلى متطلبا ت الحيا ة بمنظار يختلف عن منظاري وهي تضع في اعتبارها الحسابات المادية فوق كل شيء ، وكل ما تفكر فيه هو الحيا ة الرفيهة. ولا أزعم أنها كانت تعبر عن ذلك صراحة ، لكن ما كان يدور بيننا من نقاشات تتعلق بسلوكي الحرفي كانت تكشف عن هذا الاتجاه . فلقد كانت تلومني دائماً على إهمالي لعملي في عيادتي الخاصة وتفضيلي عملي في المستشفى . وكانت تنتقد ما كنت أقوم به من نصح لبعض مرضاي بمراجعتي في المستشفى الحكومي بدلاً من العيادة (وخصوصاً الفقراء منهم فأنا أعلم كم يشقّ عليهم توفير ثمن العلاج ) معتبرة ذلك تفريطاً في مصالحي الخاصة . بل إنها كانت تريدني – على نحو غير مباشر – أن يكون شأني شأن الأطباء الذين ينصحون مرضى المستشفيات العامة بمراجعتهم في عياداتهم الخاصة .. أولئك الذين لا يفكرون إلا بجمع الأموال الطائلة من تلك العيادات و من الإتفاق مع شركات الأدوية. وكانت تقول لي وهي تضحك ضحكتها الرقيقة : "أنت مثالي أكثر مما يجب يا سعد ، ولا تحاول أن توائم نفسك وما تتطلبه الحيا ة الواقعية . فمن حقّ الأطباء أن يتمتعوا بحياة رفيهة وهم يعيشون طول حيا تهم مع المرض والمرضى لا أن يحيوا حيا ة كفاف " . وحينما كنت أقول لها إن حرفة الطب حرفة خاصة تختلف عن الحرف الأخرى وأن على الطبيب أن ينظر إليها بكونها حرفة إنسانية قبل كل شيء وليست حرفة تجارية ( وهذا ما نص عليه قسمنا الطبي) كانت ترد عليّ بأنني أذهب في هذا المنحى أكثر مما ينبغي , بل كثيراً ما ضحكت مني وأنا أقول لها : " الطبيب يملك إكسير الحيا ة يا نوال ولا يجوز له أن يبخل به على الناس الفقراء فيفقدهم حيا تهم لمجرد أنهم لا يملكون ثمن هذا الإكسير " . وفي الفترة الأخيرة أخذت تسميني مازحة "جالينوس الجديد " وكأن رأي جالينوس بأن مهنة الطب هي خدمة إنسانية قد تغير في الزمن الحاضر وصارت مهنة تجارية لا تختلف عن سائر المهن. إذن من الواضح أن الجانب المادي في الحيا ة يحتل في ذهنها حيزاً هاما , في حين أنني أنظر إلى الجوانب الروحية كأساس للإرتبا ط بين البشر . وربما كان هذا هو جوهر الاختلاف فيما بيننا وهو الذي جعلها مترددة في علاقتنا وغير قادرة على اتخاذ القرار الحاسم .
أما ادّعاؤها با نني هربت من العاصمة إلى هذه البلدة لكي أتجنبها فهو ادّعاء غريب حقا ! فكأنها لا تعلم أنني كنت بين نارين إما أن أعنو للباطل فأحتفظ بعملي في المستشفى وإما أن أثور عليه فأنقل إلى هذه البلدة فتفضيلي النقل إلى بلدة "ع" إذن هو تمسّك بمثُلي العليا لا غير . كان عليها أن تدرك أنني ووجهت بالموقف الإنساني الخالد "أن أكون أو لا أكون" , كما واجه هذا الموقف قبلي هاملت في رواية شكسبير العظيمة حين قال قولته الشهيرة "TO BE OR NOT TO BE" . وكما واجه الألوف من البشر عبر التاريخ مثل هذا الموقف فقرروا أن يتخلوا عن المكاسب الذاتية ليرضوا مثُلهم العليا . وأرجوك يا نعمان أن تفهمها ـ إن لم تكن قد فهمت ذلك حقاً ـ أن تفضيلي الحيا ة في بلدة "ع" هو ليس تهربا من التزاماتي معها بل طاعة للمثل العليا . ومن يدري ؟ ‍ لعل تفضيلي النقل خارج العاصمة هو محاولة مني لإنقاذ نفسي من تأثيرها القوي عليّ وخشية من أن تضيع مني مُثلي إلى الأبد . هذا واسلم لأخيك .

سعد






















18 تشرين الثاني
عزيزي نعمان
أنت تتذكر بالطبع قائمة احتياجات المستشفى التي حدثتك عنها مرارا والتي أرسلتها إلى المحافظ منذ الأسبوع الأول . ورغم مضي هذه الشهور الطويلة لم يتحقق منها سوى القليل . وكتبت إليه عدة خطابا ت رسمية فلم يستجب لها . ففكرت أن أزور النادي للتحدث إليه بشان القائمة خارج نطاق الرّسميات . وكنت قد فعلت ذلك في المرّة الأولى فأثمر الحديث نوعاً ما . ولم أزر النادي مرة أخرى منذ ذلك اليوم . ولم يكترث الجماعة لامتناعي عن زيارة النادي ولعلهم سّروا لذلك . فقد أدركوا أن أخلاقي وعاداتي وأفكاري لا تلائمهم .فأنا لا أشاركهم في الشراب ولا في لعب الورق كما كان يفعل سلفي الدكتور زهير . كما أن أحاديثهم لا تروق لي ولا أستطيع المشاركة فيها . وعلى كل حال فقد كنت مضطراً لهذه الزيارة الثانية , وليتني لم أفعل .فقد كشفت لي حقائق بشعة عن خلق هؤلاء القوم لم أكن أتخيلها . فبعد أن أمضوا الشطر الأول من الأمسية يتطارحون أحاديثهم التافهة وهم يعبون الشراب , وبعد أن أخذ منهم السكر كل مأخذ , التفت مدير الأمن نبهان رؤوف إلى مدير الزراعة عبدالله الخطيب وسأله : ما هي أخبار هيلة يا عبدالله ؟
فقال عبد الله وهو يتحسر : آخ من هيلة .. خلّت في قلبي علّة يا أخونا نبهان .
قال مدير الشرطة فليح العمر وهو يمصّ كأسه ويتمضمض : أي نعم .. هيلة تهوس بلد ‍.
وهز نبهان رأسه وقال : كلما رأيتها تخطر في طرقات البلدة شعرت بجسمي يرتعش من قمة رأسي إلى أخمص قدمي .. كل لفتة من لفتاتها ونظرة من عينيها تخرج المتبتل من صلاته .
قال عبد الله وهو يكركر كركرة طويلة : تصّوروا يا جماعة .. امرأة ضعيفة مثلها تغلبنا جميعاً .
فصاح فليح محتجاً : هيلة امرأة ضعيفة ؟‍ إنها تعادل في قوّتها "فصيل" من الشرطة المسلّحة .ودماغها صلب كالخشب الجاوي .
قال نبهان وهو يفرغ كأسه في جوفه ويلقيه بقوة على المنضدة : والله لن يرتاح لي بال حتى أضع فخذي بين فخذيها .
فصعّده المحافظ بنظرة ساخرة وتساءل متهكما : وكيف تنوي أن تفعل ذلك أيها البطل ؟‍
أجابه نبهان وهو يلتهم "المزّة" بشره عظيم : أحلف برأس سيد طريمش الكبير يا أستاذ صادق أنك مثلي لن يهدأ لك بال حتى تضع فخذيك بين فخذيها .
قال فليح وهو يميل بجذعه العظيم على صحن "المزّة" : ومن الذي لا يشتهي في هذه البلدة أن يضع فخذيه بين فخذيها ؟ ‍‍ دلونّي عليه فإنني أريد أن أعرفه .
قال عبدالله وهو يكركر : والله يا " جماعة" إنني كثيراً ما أحلم بها في منامي .
قال نبهان وهو عاكف على التهام المزّة : أنا أيضا أحلم بها في منامي .
ثم التفت إلى راضي الشيخ حمود وسأله : وأنت يا راضي .. ألا تحلم بها في منامك ؟‍
أجاب راضي : أنا مكتف والحمد لله .
فنظر إليه المحافظ نظرة باردة وقال بتهكم : نعم في حيا ة أبيك يا ابن الإقطاعي .. حينما كنت تؤشر إلى أي بنت من بنات البلدة فتركع تحت قدميك .
قال راضي مرتبكاً : لا تفهمني خطأ يا أستاذ صادق , فأنا أقصد بأنني مكتف بأم الأولاد .
قال نبهان : لا يمكن أن يدعي أي واحد بأنه مكتف تجاه هيلة , وأنا أتحدى أي رجل يّدعي با نه غير طامع فيها .
وسكت لحظة ثم أضاف : الحق يقال يجب أن نعترف بأننا رجال خائبون وإلاّ ما فشلت كل خططنا معها .
فقال عبد الله : الذنب ليس ذنبنا يا أخانا نبهان ولكنها هي ذات دماغ ناشف كما قال أخونا فليح .
قال فليح وهو يمصّ كأسه ويتمضمض : أي نعم .. دماغها ناشف ولا توجد امرأة بنشافة دماغها , فكم من مرّة ظلت حائرة كيف تجني ثمار بستانها بدون مساعدة من أحد دون أن يلين دماغها .
فقال نبهان وهو يضحك: والبركة في خريبط طبعاً .
قال عبد الله : وأنا نفسي أفهمتها مراراً بأن كل إمكانات الدائرة الزراعية في خدمتها إذا لان دماغها فكانت ترد عليّ "الله هو الرازق" .
قال نبهان وهو يهز رأسه : الحق معكم .. العيب ليس فينا فهي التي لا تنفع معها أيّ إغراء أو تهديد ..
فقال راضي : أرحموها إذن يا "جماعة" مادمتم ترون أن إغراءاتكم لا تنفع معها واتركوها لحالها .
فصاح نبهان غاضبا : نتركها لحالها ؟! نجوم السماء أقرب إليها . والله لن يهدأ با لي حتى يدخل ميلي في مكحلتها . ولن نفك الحصار عنها حتى تستجيب لمطالبنا .
قال فليح وهو يمصّ كأسه ويتمضمض : كلنا ننتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر .
فخرج المحافظ عن صمته وقال : كفى لواصا يا جماعة .. فأنتم تلوصون في كلامكم دون أن تدروا .
والتفت نحوي وقال وهو يضحك ضحكة فاترة : والذي يدرك ما في كلامكم من "لواص" هو الدكتور سعد فهو الوحيد الصاحي بيننا .
فقلت وأنا أنهض : خذوا حريتكم وأنا أستأذنكم في الانصراف وغادرت النادي يا نعمان وقد فاضت نفسي تقززاً واشمئزازا . تصور يا نعمان .. هذه هي الطغمة التي تحكم البلدة . فأي عدالة وإنصاف وخير يمكن أن يتحقق لأهل البلدة على أيديها !!
سلامي للإخوان جميعاً ودمت لأخيك المحب ..
سعد







12كانون الأول
عزيزي نعمان
لقد سبق لي أن ذكرت لك في إحدى رسائلي أن هيلة هي التي هيأ ت لي العثور على خادم , غير أنني لم أتوقع أن يكون أداء هذا الخادم مرضيا . فهو علاوة على بلاهته لم يسبق له أن تدرّب على الخدمة في البيوت ,ولذلك كان يعبث بالمنزل في أيامه الأولى عبثاً يضايقني . ومما زاد في ضيقي أنه استمر على عادته في إحضار عربة الحلويات ت معه إلى با ب منزلي . وكان كثيراً ما يهمل عمل المنزل ويخرج إلى الأطفال ليبيعهم الحلويات . لكني لاحظت في الفترة الأخيرة أنه أخذ يتقن عمله وأن المنزل صار أكثر نظافة وترتيبا , فدهشت لذلك .. وقلت له يوما : أنا مسرور منك يا جويسم فشغلك في تحسّن .
فقال بلهجته المتعتعة : الفضل لهيلة يا دكتور .. هي صاحبة الفضل .
سألته مستغربا : وما دخل هيلة ؟
فقال : هي التي تعلمني كل شيء . وهي لا ترضى أن أحضر معي عربة الحلويات .
فقلت : ولكن لا داعي لأن تتعب هيلة معك يا جويسم .
فقال : هي تريد ذلك .. وهي تقول الدكتور يستأهل بان نخدمه بعيوننا .
فقلت:وأنا أشكرك وأشكرها كثيرا يا جويسم .
وأخبرت كاظم بمساهمة هيلة في رعاية منزلي وسألته أن يبلغها شكري . فنظر إليّ متردداً وقال : الحقيقة أنني لست مرتاحاً يا دكتور سعد لاهتما أم هيلة الزائد بأمرك.
سألته دهشا : ولماذا ؟
فقال : لأنني أخشى عليك وعليها يا دكتور سعد . وإني قلق جداً لذلك .
فسألته : وما الذي يقلقك في ذلك ؟
أجاب : إن اهتمام هيلة بأمرك سيثير غضب "الجماعة" وحقدهم عليها وعليك وسيعدونك منافساً خطيراً لهم في الفوز بها . وربما أدى بهم إلى الإمعان في إيذائها وإلى محاولة إيذائك أنت أيضاً .
فقلت : ولكن الجميع يعلمون أنها تحضر إلى منزلي في أثناء تواجدي في المستشفى يا كاظم وليس هناك من صلة بيننا .
فقال : هذا لا يهم وهم لا يفكرون على هذا النحو . صدقني .. أنا أعرف كيف يفكرون . أسألني أنا . والحقد قد يعمي عيونهم فيلحقون بهيلة أذىّ با لغاً .
قلت غاضبا : آلا يكفيها ما تعاني من متاعب بسببهم ؟ ألا يكفيهم ما يفرضون عليها من حصار ؟
فقال : إنهم لا يتورعون عن فعل أي شيء .
فقلت : آن لي إذن أن أتخلى عن حيا دي وأدافع عنها .وسأحدث الوكيل أو حتى المحافظ نفسه في الأمر . فقد لاحظت أنهما غير مؤيدين لرفاقهما في موقفهم من هيلة .
فهّز كاظم رأسه وقال : كلهم كلاب يا دكتور سعد من كبيرهم إلى صغيرهم . وصادق حسون ليس سوى ماكر كذاب . أما راضي الشيخ حمود فخنيث خبيث ، كلهم كلاب يا دكتور سعد لا تستثني منهم أحداً ، ولا فائدة من التحدث مع أي واحد منهم .. اسألني أنا عنهم .
قلت بتصميم : لا .. لا يا كاظم .لابد لي أن أفعل شيئاً من أجلها ، وسأكلم راضي فهو أقرب شخص إليّ .
وانتهزت أول فرصة خرجت فيها للصيد مع راضي الشيخ حمود وفاتحته في الموضوع . قلت له : ما هذا الحصار الذي تفرضونه على هيلة يا أستاذ راضي ؟
فقال محتجاً : أنا لا علاقة لي بهذا الحصار يا دكتور سعد ولست مشاركاً فيه .
وصمت قليلاً ثم قال وهو يهز رأسه : والله هيلة هذه ينجر لها أذن .
فقلت : مادام الأمر كذلك فلماذا لا تعمل شيئاً من أجلها ؟
قال وهو يلوي شفتيه : العين بصيرة واليد قصيرة يا دكتور سعد .
فسألته : وما معنى قولك هذا ؟
أجاب : لا يمكن أن يُعد ابن الإقطاعي واحداً من (الجماعة) بحق يا دكتور سعد ، فولاؤه للحزب مشكوك فيه ونفوذه عليهم بالتالي لا أهمية له .
ثم أضاف وهو يبتسم : والحق معهم في ذلك ،
قلت ضاحكاً :لا تكابر يا أستاذ راضي فقد ولّي عهد الإقطاع فعلاً .
فقال بسخرية : نعم لكي يبدأ عهد إقطاع من نوع جديد .
قلت جاداً : ما علينا .. ولكنك واحد منهم على أية حال يا أستاذ راضي .
فقال : أنا في نظرهم ابن الإقطاعي يا دكتور سعد وحينما يسكرون لا ينادونني إلا بذلك .
فقلت : إذا لم تكن تؤيد حصارهم ولا تقدر أن تفعل شيئاً فلماذا لا تكلم المحافظ فهو يبدو أيضاً غير مؤيد لهم ؟
فنظر إليّ نظرة طويلة ثم قال : قلت لك يا دكتور سعد إن ولائي مشكوك فيه لدى (الجماعة) وبالتالي فليس لديّ نفوذ حقيقي بينهم .. ولعل أكثرهم رفضاً لي هو الأستاذ صادق .
وسكت لحظة وهو يثبت نظراته في وجهي ثم عاد يقول : أنت الآن أصبحت صديقاً عزيزاً يا دكتور سعد ولا أجد حرجاً في أن أخبرك بأمر تجهله .. أتدري لماذا يرفضني الأستاذ صادق؟
سألته : لماذا ؟
فقال وهو يبتسم في احتقار : لأنه ابن الخادم القديم للشيخ حمود ولا يمكن أن يحب ابن السيد .
فقلت مدهشا : ماذا تقول ؟
فقال : أقول الحقيقة يا دكتور سعد فأبوه كان خادماً لأبي يوزّع القهوة في (المضيف) . وأزيدك علماً أنه هو نفسه كان خادماً لي وأنه لولاي ما تيسر له أن يتعلم في المدارس ، فقد كان أبي يرسله معي إلى العاصمة ليُعنى بشؤوني . ولولا ذلك لظل فلاحاً يعمل في الأرض .
قلت : لا شك أنه حفظ لك هذا الجميل إذن فرشحك لمنصب وكيل المحافظ كما ذكرت لي.
قال بمرارة : لا أعتقد أنه اختارني لهذا المنصب وفاءً لي يا دكتور سعد بل لإذلالي ، فهو يعاملني أحياناً كما يعامل فرّاشه.
وابتسم ابتسامة عريضة وأضاف باستهانة : ولكن ما أهمية ذلك ؟! المهم أن أهل البلدة يرونني في هذا المنصب الخطير وهم يجّّلوني أكثر مما يجلّونه ، بل إنهم ليحتقرونه في أعماقهم .
وسكت برهة كأنه يفكر في الماضي ثم التفت إليّ قائلاً : ها أنت ذا عرفت الحقيقة يا دكتور سعد فأرجوك ألاّ تقحمني في هذا الموضوع . وإذا أردت أن يُفاتح الأستاذ صادق فالأفضل أن تفاتحه أنت بنفسك 0
وحدثت كاظم بما دار من حوار بيني وبين راضي الشيخ حمود فقال : ألم أقل لك إن راضي هذا خنيث خبيث ؟ لكن مشكلتك أنك لا تصدقني .
فقلت : كنت أحسب أن بقدرته مساعدة هيلة فإنني لاحظت انه يعطف عليها .
فقال : لا أحد منهم يعطف على هيلة يا دكتور سعد .. الكّل طامع فيها .
وأطرق مفكراً ثم رفع رأسه وقال : أرى أن تطلب من هيلة الإمتناع عن التردد على منزلك يا دكتور سعد إذا كنت تريد أن تخفف مما تلقاه من مضايقات وتتلافى ما يمكن أن يلحقها من أذى .
فقلت : وكيف أطلب منها ذلك يا كاظم وهي تبذل لي كل تلك الخدمات بلا مقابل ؟!
فقال : أترك الأمر لي فأنا سأتولى هذه المهمة .. وإن كنت غير واثق أني سأنجح فيها . فهيلة عنودة ولا يمكن أن تتنازل عن موقفها إن كانت مقتنعة به .
فقلت : فلنأمل خيراً إذن يا كاظم .
لعلك تعجب يا نعمان أنني كرست هذه الرسالة المسهبة للتحدث عن هيلة ، لكنني لا أكتمك أنها بدأت تحتل مكانة عالية في قلبي . فهي ذات شموخ رائع تجاه الطغيان ن وهي الفتاة البسيطة التي لا حول لها ولا طول . ولكن أتمنى أن ينجح كاظم في مسعاه كي لا ينالها مزيد من الأذى .
تحياتي للإخوان جميعاً ولك مني خالص المحبة .
سعد

6 كانون الثاني
عزيزي نعمان
لقد استغربت من اهتمامي الشديد بهيلة . وأحب أن أؤكد لك بأن هذا الاهتمام لا علاقة له با لإعجاب بجمالها أو بالوقوع تحت سلطات فتنتها . لكنني كلما ازددت معرفة بها تكشفت لي جوانب جديدة من شخصيتها. وهي شخصية رائعة حقاً يا نعمان جديرة بكل الإعجاب والتقدير ، بل إنها رمز للشموخ والإباء في هذه البلدة ، وقد أدركت الآن كيف استطاعت الصمود أمام مؤامرات الجماعة بالرغم من بأسهم .
لقد أخبرتك في رسالتي الأخيرة أن كاظمً وعدني بأن ينقل إليها رغبتي في احتجابها عن منزلي دفعاً لما قد يلحقها من أذى. لكنه عاد إلىّ بجواب غامض . وقد فوجئت بها بعد أيام تطّل عليّ في غرفة الفحص ، ولم أكن قد رأيتها منذ زيا رة أمها الأخيرة للمستشفى . وفي الحال شعرت بنفس الهزّة الكهربائية تنتظم جسدي ، قلت لها وأنا أتجنب النظر إليها : أهلاً بك يا هيلة .. كيف حال أمك ؟
فقالت : أمي بخير وأنت صاحب الفضل يا دكتور .. لكنني ما حضرت من أجلها .
فقلت : أهلاّ وسهلاّ بك .. تفضلي اجلسي .
قالت بعد أن جلست على الكرسي بجوار المكتب : زارنا قبل أيا م أبو جواد يا دكتور وقال لي ما أوصيته أن يقول .
فقلت : أنا لا أدري كيف أشكرك على أفضالك يا هيلة ..
فقاطعتني : أنت صاحب الفضل يا دكتور ، ليس علىّ بل على أهل البلدة كلّهم والواجب علينا جميعاً أن نخدمك بعيوننا .
فقلت : ليس هناك فضل يا هيلة . كل ما في الأمر أنني أؤدي واجبي .
فقالت : ليس كل الناس يعملون واجبهم .
ورنت إلىّ بعينيها السوداويين الواسعتين ثم قالت بلهجة رقيقة : أنا عاتبة عليك يا دكتور ،
فسألتها : لماذا يا هيلة ؟
فقالت : كيف تستكثر عليّ ما أفعله من واجب نحوك ؟ هل أنا دون المقام ؟
فسارعت أقول : معاذ الله يا هيلة .. أنت بقدر المقام وفوقه .
تَساءلت بفرح طفولي : صحيح يا دكتور ؟
فقلت : طبعاً صحيح .. ولكنني أخشي عليك من المشاكل يا هيلة .. ويكفيك ما تعانين من المتاعب .
قالت وقد أشرق وجهها با لسرور: ما قلته الآن وحده يهّمني ولا تهمني أية مشاكل فأنا معتادة عليها .
فقلت : أنت تعلمين يا هيلة أنك تواجهين وحوشاً كواسر لا يهمهم .من أجل تحقيق مآربهم أن يلجؤوا إلى أخس الأساليب .
فقالت باعتداد وهي تشد قامتها الطويلة الممشوقة : أنا أعرفهم وأعرف خباثاتهم فلا تخف عليّ يا دكتور .
فقلت : ولكنني سأشعر با لندم الشديد لو تعرضت للأذى بسببي يا هيلة .
وضحكت مبتهجة فانكشفت أسنانها اللؤلؤية المنضودة وقالت بصوت عذب : لا تشعر با لندم من أجلي يا دكتور .. أنا مستعدة أن أخدمك بعيوني .
قلت وأنا أتجنب نظراتها الساحرة : لا أدري كيف أشكرك يا هيلة .. وأنت أحرجتني بكلامك هذا ولا يمكنني أن أرفض خدمتك .
قالت وهي تنهض وقد تبدى على وجهها شموخها الرائع : لا يظل با لك يا دكتور .. أنا لا أخاف من تهديد أحد .
وما كادت تتوارى عن ناظري حتى أطل عليّ كاظم وهو عابس الوجه0 .قال وهو يترامى على الكرسي بجوار مكتبي : هذه هي هيلة العنود .. لا ينفع معها أي كلام .. أليس كذلك ؟
فقلت : بل قل هذه هي هيلة ذات الشموخ الرائع يا كاظم .
فقال : ولكن هذا الشموخ هو الذي يجلب لها المتاعب يا دكتور سعد .
فقلت : وهو الذي يحميها .
فقال : هذا صحيح .. ولكن إلى متى سيظل يحميها ؟ إنهم يضيقون عليها الخناق يا دكتور سعد وهي بالكاد قادرة على استثمار بستانها . والمصيبة أن أي واحد من أهل البلدة عاجز عن الوقوف بجانبها بما فيهم أنا .
فقلت : يا ليت لدينا رجال لهم شموخ هيلة يا كاظم لما استأسد على أهل البلدة من تسمّيهم كلاب السلطة .
قال وفي صوته رنّة أسى : الناس المستضعفون يخشون على حيا تهم ورزقهم يا دكتور سعد فلا تلمهم .
وسكت قليلاً ثم قال وهو يتجنبني بأنظاره : فأنا مثلاً كان ينبغي لي أن أكون أول المدافعين عنها فأنا أكثر أهل البلدة صلة بها . ولعلك تتساءل بينك وبين نفسك لماذا لا أفعل ذلك ، وقد آن لي أن أكشف لك عن أمر تجهله عني يا دكتور سعد .
فقلت : أنا آسف يا كاظم فلست أقصد بكلامي إلى شيء . وأنت غير مطالب بتقديم تفسير لسلوكك .
فرفع رأسه وقال بقّوة : لا يا دكتور سعد . لا بد لي أن أطلعك على الأمر الذي كتمته عنك طويلاّ ، فأنا كنت واحداً من الجماعة .
قلت مدهشا : أنت ؟!
فقال بأسى : نعم أنا . انضممت إلى الحزب متصوراً أنني سأحقق مرامي في خدمة البلدة ، فلما عجزت عن تقّبل سلوك الجماعة هجرتهم لكنهم أخذوا عليّ عهداً ألا أتحدث عنهم بسوء وإلا صُفّيت .
وأطرق ثانية ثم قال كمن يحدث نفسه : تُرى لو لم يكن لدّي عائلة أخشى عليها .. هل كان موقفي سيكون كذلك ؟ ولكن من يدري ؟! لعلني أتخذ من ذلك حجة أداري بها جبني .
فقلت : لا تلم نفسك يا كاظم فأنت سبق لك أن أثبت شجاعتك . يكفيك شجاعة أنك تنازلت عن مكاسب جمة يتمتع بها الجماعة لتطيع صوت الضمير .
وسكت لحظة ثم أضغت : ولكن ما علينا بهذا الآن فنحن في مشكلة هيلة .
فقال وهو يهز رأسه : نعم ، نحن في مشكلة هيلة والمتاعب الحقيقية في طريقها إليك وإليها .
فقلت : لن أتخلى عنها يا كاظم مهما يكن الثمن ، لا بد أن أقف إلى جانبها .
فقال بأسى : وماذا يمكنك أن تفعل ؟
فقلت : سأكلم المحافظ وأطلب منه لتدخل لحمايتها وإلا فسأتخذ إجراءات أخرى .
فقال : لو كان صادق حسون يريد التدخل لحمايتها لفعل .
فقلت : إنه مسئول عن حمايتها ، ولعله غير موافق على سلوك الجماعة .
قال وهو يتأملني بنظرات ساخرة : إذا كنت تعتقد أن الجماعة يمكنهم أن يتصرفوا خلاف إرادته فأنت مخطئ يا دكتور سعد . لا أحد في هذه البلدة يقدر أن يتصرف تصرفاً مخالفاً لإرادة صادق حسون .
فقلت : على كل حال لا ضرر من المحاولة . سيدرك على الأقل أنني وضعته في الصورة .
فقال وهو يهز رأسه : سترى أنه سينكر كل شيء يا دكتور سعد ، وعليك أن تفكر أولاً في طريقة أخرى لحماية هيلة من الأذى .
فقلت : أعدك أنني سأفكر بذلك وإذا لم أجد تلك الطريقة فلابد لي من مقابلة المحافظ والاستعانة به .
أنا أكتب لك هذه الرسالة يا نعمان ولم أجد بعد طريقة لحماية هيلة . وأظن أنه لا مفّر لي من مقابلة المحافظ . وسأحدثك عن ذلك في رسالتي المقبلة با لتفصيل . وتقبل منى خالص الحب .
سعد









21 كانون الثاني
عزيزي نعمان
كنت أخبرتك في رسالتي الأخيرة بأنني سأضطر إلى مقابلة المحافظ إذا لم أجد طريقة أخرى لحماية هيلة . وقد اضطررت أخيراً إلى مقابلته بالفعل . قال لي وهو يبتسم ابتسامته الباردة : كنا : نأمل أن تتردد علينا في النادي يا دكتور سعد بعد أن حضرت مجلسنا في الّمرة الأخيرة . لكنك قاطعتنا من جديد .
فقلت : أنت تعلم يا أستاذ صادق أنه لا فائدة من حضوري مادمت لا أشارككم في الشرب أو لعب الورق . ولا أريد أن أفسد عليكم جلستكم .
قال وابتسامته الباردة تتسع على وجهه : ولكن لا بد أنك تسليت في زيارتك الأخيرة للنادي بما دار بين" الجماعة " من سخف الحديث .
فقلت : أنت تعلم يا أستاذ صادق أن جلسات الشراب لا تعقد من أجل الحديث الجّدي .
قال وقد عاد إليه وقاره المصطنع : هذا صحيح . فيجب آلاّ يحمل المرء ما يدور في هذه الجلسات على محمل الجدّ .
فقلت : ومع ذلك فإنني جئتك لأمر يتعلق بما دار في تلك الجلسة من حديث .
قال وقد بدا شيء من التغير على وجهه : وأي حديث ؟
فقلت : الحديث المتعلق بهيلة .
ضحك ضحكة فاترة وقال : ألم أقل لك لا بد انك تسليت بما دار من حديث بين " الجماعة " ؟ لقد كان هذا الجزء من الحديث مسليا وسخيفاً في نفس الوقت .. وكان بالطبع حديث سكارى .
فقلت : صحيح أنه كان حديث سكارى لكنه كما علمت لا يخلو من واقع .
صمت مفكراً ثم تساءل : وأي جزء منه لا يخلو من واقع يا ترى ؟
فقلت : الجزء المتعلق بالحصار المضروب على هيلة .
فضحك ضحكته الفاترة وقال : وهل صدقت لغوهم ؟
فقلت : الأحداث التي سمعت بها هي التي جعلتني أصدق.
وعاد إلى صمته كأنه يزن كلماته ثم قال بلهجته المتئدة : يبدو أنك استمتعت بالهراء الذي يثرثر به بعض مراجعيك يا دكتور سعد .وهذا هو الضرر الذي يتأتى من كون الشخص محبوبا من أهل البلدة البسطاء0 فهم سذَج ويتصورون أنهم يكتسبون أهمية خاصة حينما ينقلون إلى الأشخاص الذين يحبونهم أخباراً غير عادية 0 ولذلك على المرء أن يكون حذراً في تعامله معهم وألاّ يتبسط أكثر مما يجب .
فقلت : ولكن الجماعة أنفسهم أكدوا هذه الأخبار يا أستاذ صادق . ألم يتحدثوا عن مضايقتهم لهيلة ؟ ألم يعلنوا عن عزمهم على تشديد الحصار عليها ؟
قال وهو يركز أنظاره على وجهي : ألم أقل لك منذ البداية أنه كان حديث سكارى ؟ والسكران لا يحاسب على أقواله يا دكتور سعد .
فقلت : إنني لم أكن لأصدق ما سمعته من الآخرين لولا حديث الجماعة .
فقال وهو يضحك ضحكته الفاترة : لتكن عادلاً يا دكتور سعد .. فالصاحي لا يمكنه أن يقاوم سحر هيلة فما بلك بالسكران ؟
ثم اكتسى وجهه بطابع الجدّ والصرامة وهو يقول : وأنت تعرف يا دكتور سعد أنني أكبر مسئول في هذه البلدة ومن واجب المسؤول أن يحمي المواطن .. تلك هي مسؤوليتي وأنا ضامن حمايتهم . وهيلة هي إحدى المواطنات في هذه البلدة . ومن غير المعقول أن يبلغ مسامعي أنها تتعرض لأذى حقيقي وأسكت عن ذلك وإلاّ كنت مقصراً في واجبي ، وأنا أعدك با نني سأقوم بحمايتها إذا ما تعرضت لأذى حقيقي فاطمئن .
فقلت : هذا ما كنت أتوقعه منك يا أستاذ صادق . وأنا الآن مطمئن إلى مصير هيلة بين يديك .
ثم أضفت وأنا أنهض : ولا أجد بعد ما يدعوني إلى أن آخذ من وقتك أكثر مما أخذت .
مد إليّ يدّه مصافحا ثم تساءل بلهجة حيادية : ولكن هل لي أن أسألك يا دكتور سعد إن كانت هيلة نفسها اشتكت إليك ؟
فقلت : أؤكد لك يا أستاذ صادق أن هيلة لم تشتك إليّ ، وكل ما هنالك أنني سمعت من البعض هذه الأخبار وتأكدت لي من حديث الجماعة .
قال وهو يهز رأسه : يمكنني أن أخمن إذن مصادرك في هذه الحكاية .. وبالمناسبة سلّم لي على كاظم جواد وأبلغه عني ألاّ يتدخل فيما لا يخصه .
ما كاد كاظم يراني داخلاً مكتبي حتى هرع إلىّ وعلى وجهه فضول شديد . قال في تشوق : ها يا دكتور سعد .. بشّر .
فقلت : كما توقعت يا كاظم .. أنكر كل شيء .
قال وهو يمط شفتيه باحتقار : هذا هو المتوقع منه وإلاّ ما كان يمكن أن يكون صادق حسون الذي أعرفه .
فقلت : ما يحيرني هو الطريقة التي تحدث بها بحيث يخيل لمن يستمع إليه أنه يقول الصدق وأنه حريص على مصالح البلدة .
فقال كاظم في سخرية : هذه هي عظمة صادق حسون يا دكتور سعد وإلاّ ما أمكنه أن يكون دكتاتور هذه البلدة يتصرف في شؤونها وكأنها اقطاعية من اقطاعيا ته ، وصدقني يا دكتور سعد .. إنه لا يشتري مصلحة البلدة بقلاّمة ظفر .. اسألني أنا عنه .
فقلت : أتدري يا كاظم ؟! أوشكت أن أصدق أقواله فقد واجهني بمنطق معقول جداً.
فقال بأسى : هذا ليس أمراً غريبا على أية حال فهناك من أبناء البلدة البسطاء من لا يزال يعتقد انه يجهل أعمال " الجماعة " الإجرامية وأنه لا يرضى عنها ولكن الغريب أنه لا يزال قادراً على إقناعك بكذبه ..
فصدقته حينما وعدك في الّمرة الأخيرة أنه سيجهّز المستشفى بكل احتياجاته ثم لم يستجب إلاّ لأقل من القليل من تلك الاحتياجات .
قلت وأنا ابتسم : ما علينا ، ولكن لا بد أن أنقل إليك رسالة شفوية منه ، فقد طلب إليّ أن أبلغك بألاّ تتدخل فيما لا يخصك .
فهتف وقد تفجّر وجهه با لغضب : اللعين ابن اللعين .. طبقاً يريدني ألا أتدخل فيما لا يخصني ليظل هو وكلابه يعبثون بمقدرات أهل البلدة . طبعاً يريدني ألاّ أتدخل فيما لا يخصني لكي لا أكشف عن مخازيهم التي تزكم الأنوف . فهو يعلم جيداً أنني أعرف مخازيهم حق المعرفة واحداً واحداً ، أعرف كيف يستغل نبهان رؤوف مركزه لبث الرعب في قلوب أهل البلدة وابتزازهم .. أعرف كيف يستثمر عبد الله الخطيب إمكانات الدائرة الزراعية و المزرعة النموذجية ويجني منها الألوف.. أعرف الرشاوى التي يتلقاها فليح العمر.. أعرف الأساليب التي يحمل بها راضي الشيخ حمود فلاّحي أبيه القدماء على دفع إتاوات له .. وأخيراً وليس آخراً أعرف روحه الإجرامية التي تدعوه إلى معاملة أهل البلدة بكل هذا التجبر والتسلط والاستعلاء .. نعم إنه يعلم أنني أعرف جيداً كل ذلك عنهم وأعرف أكثر من ذلك بكثير .. فأنا أعرف ماذا يفعل خريبط وكيف يتصرف .
وهدأ غضبه فجأة وأطرق صامتاً . ثم قال كمن يحدث نفسه : لكنه يعلم جيداً أيضاً أنني سأعي رسالته وأطيع أوامره فلا أتدخل فيما لا يخصني فأنا في حقيقتي جبا ن . ولو لم أكن كذلك لكان مصيري هو مصير الرفاق الآخرين الذين ذهبوا ضحية حوادث مؤسفة .. نعم إنه يعلم جيداً أنني سأعي رسالته .
وحنى كاظم رأسه وسمّر عينيه في الأرض وقد فاض وجهه أسى .
إنني أصارحك يا نعمان بأنني لن أستطيع السكوت عما يجري في البلدة من ظلم وتعسف ويخيل إلىّ انك ستقول لنفسك :" مالك يا سعد وما يجري من أمور لا تخصك ؟ فأنت طبيب ونطاق عملك ينحصر في معالجة المرضى" . لكنني في غنى عن الرد على مثل هذا القول لأننا سبق أن تناقشنا طويلاً في مثل هذه القضية . وأنت تعلم أنني رفضت بشدة دائماً رأيك بأن علينا نحن الأطباء أن نؤدي وأجبنا ولسنا بعد ذلك مسؤولين عما يجري حولنا . فنحن في الحقيقة مسؤولون أن نقف ضد الظلم ونناصر العدالة ولا يمكنني ابدأ أن أرتضي هذه الحيادية أو السلبية على نحو أدق وإنني كما تعلم أهتدي بالمقولة الشهيرة (الساكت عن الحق شيطان أخرس ) .
واسلم لأخيك .
سعد





8 شبا ط
عزيزي نعمان
لقد قلت في رسالتك أن من يقرأ رسالتي الأخيرة يتصور أنني مغرم بهيلة وأنني مستعد شأن فرسان القرون الوسطى أن أمتشق حسامي لأدافع عنها حتى وإن كان في ذلك حتفي . ولكنني أؤكد لك أن القضية ليست قضية دفاع عن امرأة فاتنة تخلب لبّ الرجال ،بل قضية ظلم وتعسّف يلحقان بأهل البلدة جميعاً . ولنترك حديث هيلة لنتحدث عن الدكتورة نوال . لقد ذكرت في رسالتك أنك استشففت من حديثها الأخير معك أنها نادمة على ما بدر منها تجاهي وخصوصاً في النقاش الأخير الذي دار بيننا بحضورك ، ولا أدري ما نوع الكلام الذي قالته لك بحيث أوحى لك بهذا التصور ، لكنني أعتقد أن هذا الشعور الذي ربما خامرها هو ليس ندماً بل افتقاداً لشخص لعب دوراً يوماً في حياتها ، فأنا أبا لغ لو قلت إنني لم أترك أثراً في قلبها . ولكن مهما كان شكل هذا الشعور فلن يبلغ حدّ الندم بلا شك . فالدكتورة نوال من النساء اللواتي يحكّمن عقولهن في حياتهن أكثر مما يحكّمن قلوبهن . وهي تختلف في ذلك عن غالبية بنات جنسها . فالمفروض أن يكون الأمر معكوساً با لنسبة للمرأة ، ولعل ذلك من سوء حظي . ولو كانت الدكتورة نوال تحكمّ قلبها لتغير نوع علاقتنا . فالمسألة إذن ليست مسألة ندم ولعلها نزوة عاطفية عابرة . فالدكتورة نوال ليست من النساء اللواتي يستجبن لنزواتهن العاطفية طويلاً .
لقد ذكرت في رسالتك إنها أخبرتك بأنها عاتبة عليّ لأنني لم أرسل إليها اية رسالة منذ نقلت إلى هذه البلدة وأنها مشتاقة لسماع أخبا ري . أتظن أنها ستكون مسرورة لو حدثتها عن شكل الحياة التي أحيا ها في هذه البلدة ؟! كلاّ با لتأكيد . فحينما كنت أحدثها عن المخالفات التي كنت اكتشفها في إدارة الدكتور بدري للمستشفى واستغلاله لنفوذه كانت ترد علىّ بان ذلك لا يدخل ضمن اختصاصي ونطاق عملي ، وإنه ليس من شأني تتبع تلك المخالفات ، وكانت تقول لي دائماً : " ألا ترى كيف يحاول الناس عدم التدخل فيما لا يخصهم ليتجنبوا المشاكل ، فما بالك تزّج بنفسك في المشاكل ؟! ولماذا أنت طالب طلايب ؟" فلاشك أنها لو قرأت رسائلي لهتفت : "هكذا أنت يا سعد والزمن لا يغّيرك .. طالب طلايب " . لذلك لم أفكر في الكتابة إليها ، لعلك تقول لنفسك يا نعمان إنني أتحجج بهذا العذر وأنني شغلت عنها عاطفيا فأبا در إلى القول : ليس الأمر كذلك أبداً . غير أنني لا أستطيع أن أكذب فأقول لك إنني أفكر فيها الآن كما كنت أفكر فيها من قبل . فزخم الحيا ة في هذه البلدة لم يترك للذكريا ت العاطفية مكاناً في ذهني . تصور .. أصبحت مشغول الذهن طول الوقت هنا ! من كان يتصور ذلك ؟! لقد خيل إليّ في الأسابيع الأولى من إقامتي هنا أن الملل سيقتلني . وطبعاً قولي هذا فيه الكثير من المبا لغة . فقد كنت أهرب من الملل با لقراءة المفرطة ومن يدمن القراءة لا يعرف الملل إليه سبيلاً . ولاشك أنك تتذكر قصة تشي خوف التي كنا قد قرأناها عن الرهان الذي تم بين شخصين أحدهما مفلس والآخر واسع الثراء والذي تعهد فيه المفلس با ن يسجن نفسه في داره لمدة عشرين عاماً لقاء مبلغ عظيم يدفعه له الثري ، لكنه اشترط عليه مقابل ذلك أن يمده بما يطلبه من كتب . وقبل انتهاء المدة المتفق عليها بيوم واحد غادر المفلس الدار وبذلك خسر الرهان ، وقد كتب للثري رسالة يقول له فيها إنه بعد أن قرأ كل تلك الكتب لم يعد بحاجة إلى ماله. وأصارحك يا نعمان أن الدكتورة نوال لم تعد تشغل ذهني في الوقت الحاضر وأن صورتها أخذت تبهت في مخيلتي . فأنا مشغول الذهن جداً بمشاكل البلدة . ، (ولكن أرجوك ألاّ تذكر لها هذا القول ) . لكنني سأكون في غاية السرور لو أنها غيّرت أفكارها حقاً . ومن يدري ؟ فقد تبدّلها الأيام وقد أجد فيها أخيراً المرأة التي تخيّلتها (قلبا وقالبا ) لا صورة جميلة فقط . أرجوك أن تبلغها خالص تحياتي وأن تقبل مني خالص الود . ودمت لأخيك.
سعد









11مارس
عزيزي نعمان

لعلك تتذكر سيد علي طريمش الذي حدثتك عنه في رسالة سابقة والتي رويت لك فيها كيف زارني في المستشفى وتحداني أن أعرف المرض الذي يشكو منه . وقد توقفت مواجهتي معه عند ذلك الحد واعتقدت أن الظروف لن تضطرني إلى رؤيته ثانية . ولكن كاظم حذّرني في حينه أن الاصطدام بسيد علي طريمش واقع لا محالة عاجلاً أم آجلاً . ويبدو أنه كان بالفعل يتحّين الفرصة المناسبة لمضايقتي أو الإيقاع بي . ومن المؤكد أنه لم يغفر لي زعزعة ثقة أهل البلدة بقدراته الطبية . وقد صرّح أمام مريديه بأنه حتى لو سامحني على إهاناتي له فإن جدّه سيد طريمش الكبير لن يغفر لي ذلك .
وذات صبا ح أقبل عليّ كاظم وقال مهموماً : استعد يا دكتور سعد لمشاكل سيد علي طريميش .
سألته : وما الجديد في أمره ؟
فقال : الجديد في أمره أن تردد هيلة على منزلك أثار ثائرته .
فقلت : وما دخل سيد علي طريمش وهذا الأمر ؟
فقال : كيف ما دخله يا دكتور سعد ؟ ألم أذكر لك يوماً أنه طامع في الزواج منها ؟
فقلت : لا . لم تقل لي ذلك . وأذكر أنك أخبرتني أنه متزوج من زوجتين .
فقال : وهو يطمع أن تكون هيلة زوجة الثالثة . فلا تعجب إذن أن يثير اهتمامها بك ثائرته .
فقلت : وما الذي فعله فهيج همومك ؟
فأجاب : أخبرتني هيلة أنه حضر إلى دارها أمس وكان ثائراً وطلب منها أن تمتنع نهائيا عن زيا رة منزلك .
فسألته : وماذا كان ردّ هيلة عليه ؟
فقال : هنا المصيبة ، فهيلة هي هيلة ولا يمكن أن تقبل أوامر من أحد او تخضع لضغوط أحد . وهكذا ردت عليه مستنكرة تدخله وسألته إن كان أباها أم أخاها أم زوجها حتى يحق له منعها ؟! فأجابها با نه المسؤول عن الأخلاق والعرف والدين في البلدة وأن سلوكها يتنافي مع هذه الأمور . فردت عليه بأنها لا ترى فيما تقوم به من خدمة لك مخالفة للأخلاق والدين . وقالت له أيضا إن الواجب على جميع أهل البلدة أن يخدموك لأنك أغرقتهم بأفضالك . فاحتدم غضيه وغادر منزلها وهو يتوعدّها ويتوعدك بشّر مستطير .
فقلت : سبق لي أن قلت لك يا كاظم أن تهديد هذا المعتوه لن يخيفني .
فقال : يا دكتور سعد .. أنت لا تعرف ما تنطوي عليه نفس هذا الدجّال من خبث ولا تعرف حدود نفوذه . فلا مانع لديه من اتبا ع أحط الأساليب للإيقاع بخصومه . والمصيبة أن الكثيرين من أهل البلدة ما زالوا مؤمنين بقدراته وبمنزلته الدينية العالية وما زالوا يحلفون برأس جده سيد طريمش الكبير وهو يحيط نفسه بزمرة من المريدين المستعدين لتنفيذ أوامره مهما تكن خطرة .
فقلت : فيما يخصني لا يخيفني تهديد سيد على طريمش ، أما ما يخص هيلة فأنت أعرف بها .
فقال وهو يهز رأسه : نعم أنا أعرف بها . ويمكنني أن أخمن مقدماً كيف سيكون رد فعلها على تهديداته .
وسكت مفكراً ثم قال : لا بد لنا أن نكون من الآن فصاعداً أكثر حذراً . وسأوصي جماعتي بتشديد المراقبة عليه وعلى مريديه لمعرفة حركاتهم وسكناتهم .
وانتهى الحوار بيني وبين كاظم عن سيد على طريمش عند هذا الحد . ولكن ما أن مرّت أيا م قلائل على حوارنا هذا حتى أقبل علىّ ووجهه يحمل سيماء الخطورة وقال : بدأ سيد على طريمش خططه البعيدة المدى بشأنك يا دكتور سعد .
سألته : وكيف ذلك ؟
فقال : إنه خصّص خطبة الجمعة أمس في الجامع الكبير للتحدث عن أهمية حضور صلاة الجمعة في الجامع .وأعلن أن كل من يمتنع عن حضورها مخلاً بواجبا ته الدينية .
فقلت : هذا قول ينضح با لمغالطة وهو لا يهمني في شيء .
فقال : قد لا يهمك ولكنه يهم أهل البلدة .
فقلت : أهل البلدة يعلمون أنني لا أحضر صلاة الجمعة في الجامع الكبير وليس الأمر عليهم بجديد .
فقال : وهذه نقطة ضعف فيك يمكن أن يستغلها سيد علي طريمش . فأنت الوحيد من أعيا ن البلدة الذي لا يؤدي صلاة الجمعة في الجامع الكبير .
فقلت : ولكن ذلك لم يغيّر رأي أهل البلدة فيّّ . وليتك تراهم كيف يستقبلونني بترحاب وودّ وكيف يتسابقون إلى تحيتي كلما مررت في السوق الكبير بل إن البعض منهم يترك دكانه ويسرع إلى تحيتي . إنهم أناس طيبون حقا .
فقال : الجميع يعلم أنك محبوب أهل البلدة يا دكتور سعد .وكيف لا يحبونك وأنت لا تتعب من مراجعاتهم في النهار أو الليل وتعلمهم قواعد الصحة وتهتم بشؤونهم الخاصة وحتى بنظافة بيوتهم ؟ بل إنك لا تقبل منهم أجراً حتى حينما تزور مرضاهم في بيوتهم0 لكن تقولات شخص مثل سيد علي طريمش قد تؤثر فيهم في النهاية فهم سذج يا دكتور سعد وعواطفهم الدينية تمثل نقطة ضعف فيهم يستغلها أمثال سيد علي طريمش ممن يتاجرون بالدين ويستثمرونه لأغراضهم الشخصية والدين منهم براء0
فقلت : أعتقد أن تخوفاتك في غير محلها يا كاظم .
فقال : من الواضح أن سيد علي طريمش قد أعلن عليك الحرب يا دكتور سعد ، وهذه أولى خطواته للتنديد بك . وهو كما قلت لك داهية وبعيد الغور حتى أنه لم يورد أسمك صراحة في هذه المرة لكنه سيعقب هذه الخطوة بخطوات أشد مضاء . و علينا أن نحذر منه .
فقلت : لا تقلق يا كاظم فهو يعلم جيداً أنه لا يقدر أن يضرّني بشيء .
والحقيقة يا نعمان أنني شاركت كاظم قلقه في دخيلة نفسي واعتقدت مثله أن سيد علي طريمش سيعقب خطوته تلك بخطوات قد تسبب الأذى لي ولهيلة . ومما زاد في قلقي أن راضي الشيخ حمود لمحّ لي بعد أيا م عن استياء "الجماعة لتردد هيلة على منزلي ورجاني أن أكفها عن ذلك .
وهكذا ترى يا نعمان أن حياتي في هذه البلدة أخذت مساراً ما كان بخطر لي على با ل . ويبدو لي أن الأيام حُبلى بالأحداث .
تحياتي لك ولكل من يسأل عني مع محبتي الخالصة . سعد

11 نسيا ن
عزيزي نعمان
لقد تحقق ما توقعه كاظم عن خطط سيد علي طريمش ، فقبل أسبوعين أشار في خطبته ليوم الجمعة إلى اسمي صراحة وقد أنعى عليّ امتناعي عن الحضور في الجامع الكبير والمشاركة في صلاة الجمعة . وقال إنه لا يمكن لطبيب يمتنع عن الحضور في الجامع الكبير أن يبارك الله له في عمله وأن يشفي المرضى على يديه . وكان جميع المسؤولين يحضرون الصلاة بما فيهم المحافظ . وكان ذلك إيذاناً منه ببدء حملته العلنية علىّ .
وأتت حملته ثمارها بسرعة لم أتوقعها . فبعد أيا م من تنديده المذكور استوقفي الحاج صاحب محيسن مالك (السيف الكبير) وأنا مارّ في السوق وقال لي بلهجته الوقور : كنّا نتمنى أن نراك تصلّي الجمعة معنا في الجامع الكبير يا دكتور سعد .
فأجبته :لديّ أسبا ب شخصية تجعلني أصلي صلاة الجمعة في بيتي يا حاج صاحب.
فقال مترددا : الصلاة يمكن أن تقام في أي مكان مادام طاهراً يا دكتور ولكن لكي تكفّ ألسنة السوء.
فكان قول الحاج صاحب هذا إنذارا لي بخطورة حملة سيد علي طريمش . وبينما كنت أمارس رياضتي عصر اليوم التالي اعترض طريقي شاب ملتح وقال بقحة : الصلاة الجامعة من أركان الدين إن لم تكن تعلم يا دكتور .
فنظرت إليه ببرود وقلت : المسلم من سلم الناس من قلبه ولسانه يا رجل فالتفت لشؤونك .
وحدثت كاظم بذلك فقال وهو يهّز رأسه محزوناً : هذا يعني أن سيد علي طريمش بدأ يسخّر مريديه في حملته .
ولسيد علي طريمش عدد كبير من المريدين يا نعمان يجتمع بهم عصر كل يوم إما في الجامع الكبير أوفي مرقد سيد طريمش الكبير . وجاء مصداق ظن كاظم في الأيام التالية ، فقد أخذ يعترض طريقي أثناء رياضتي العصرية شبان ملتحون ويكررون على سمعي نفس القول وكنت أنظر إليهم في برود وأواصل طريقي دون أن أرد عليهم .
واستشرت كاظم في كيفية مواجهة أمثال هؤلاء الشباب فقال : أعتقد أن تجاهلهم هو الحل الصحيح يا دكتور سعد ، فهم جزء من خطط سيد علي طريمش ولن ينفع معهم الكلام .
فقلت : فهل أترك لهم الحبل على الغارب إذن يا كاظم ؟ لا بد من إيقافهم عند حدّهم .
فتساءل في حزن : و كيف تقدر على ذلك ؟
فقلت : سأبلغ المحافظ بالأمر ليتخذ الإجراءات الكفيلة بإيقافهم .
ضحك في أسىَ وقال : المصيبة أنك لا تزال تثق بصادق حسون .
فقلت : إن من واجبه أن يكف أذى من يعتدي على سكان البلدة .
وقصدت مقر المحافظ في اليوم التالي فاستقبلني برزانته المعهودة . قلت له : جئت أشكوك سيد علي طريمش يا أستاذ صادق وقد شهدت بنفسك تنديده بي .
ففكر لحظة ثم قال بلهجته المتئدة : نعم وقد ساءني ذلك .
فقلت : أنا لا يهمني تنديده لكنه أطلق ورائي مريديه ليضايقوني كلما التقوا بي في الطريق .
فبدا الامتعاض على وجهه وتساءل : أحقاً فعل مريدوه ذلك ؟
فقلت : نعم وتكررت مضايقتهم لي مراراً . وفي كل مُرة يسمعونني كلمات خشنة فرأيت من واجبي أن أبلغك بما يحدث لي .
فقال بلهجته المتئدة: حسناً فعلت .
وظل صامتاً حيناً ثم رفع رأسه وتساءل وعلى شفتيه بسمته الباردة : ولكن ألا يمكنك أن تتقي لسان سيد علي طريمش بأن تحضر صلاة الجمعة في الجامع الكبير يا دكتور سعد ؟
فقلت : أنا لست مستعداً لإرضاء دّجال مثل سيد علي طريمش يا أستاذ صادق .
فضحك ضحكته الفاترة وقال : دجّال أو غير دجّال لكن له نفوذه على أهل البلدة يا دكتور سعد . وأنت ترى أننا نحن المسؤولين نحضر صلاة الجمعة في الجامع الكبير تجنبا لمثل هذا الإحراج .
فقلت : على كل حال فات الأوان لمثل هذه النصيحة يا أستاذ صادق . وحضوري صلاة الجمعة في الجامع الكبير بعد تنديده بي معناه خضوعي لسلطانه . وهذا مالا أقبله لنفسي .
فقال وقد اكتسى وجهه بوقاره المعهود : أنت محق في ذلك ، ومادام تجاوز حدوده فمن واجبي أن أتدخل ، وأطمئنك أنه لا بد أن يقف عند حدوده .
فشكرته على موقفه وانصرفت وقد لمست نتائج تدخله في الأيا م التالية فقد انقطع أولئك المريدون عن التحرش بي . وأخبرت كاظم بنجاح مقابلتي للمحافظ فهز رأسه في شك وقال: هذه ليست نهاية المطاف يا دكتور سعد ، وسيد علي طريمش داهية . ومادمت قد صرت من أعدائه فهو يخبئ لك الشيء الكثير في جعبته وستكشف لنا الأيام عن ذلك.
وسرعان ما كشفت لي الأيام عن الجديد في خطط سيد على طريمش . فقد انقطع جويسم فجأة عن منزلي . ومرت أيا م ثلاثة على انقطاعه ثم إذا بي أفاجأ بحضور هيلة إلى المستشفى . قالت في اعتذار وهي تجلس : أنا خجلانة منك يا دكتور على فعلة جويسم .
فسألتها : وهل قرر جويسم أن يترك العمل في منزلي يا هيلة ؟
قالت في غضب : اللئيم فعلها معنا .
فقلت : ومن تقصدين يا هيلة ؟
فقالت : ومن غيره ؟ سيد علي . هو الذي خوّف جويسم من الشغل في بيتك وهدّده بانتقام جدّه سيد طريمش الكبير .. وجويسم مسكين .
فقلت : لا يهم يا هيلة . سأبحث لي عن خادم آخر .
فسارعت تقول في احتجاج : لا .. لا يا دكتور .. وأنا وين رحت ؟
فهتفت مذعوراً : لا يا هيلة لا . أرجوك .. كل شيء إلاّ هذا يكفيك ما جرى لك بسببي . ثم ماذا يقول الخبثاء عنك إذا رأوك تعملين في منزلي لوحدك ؟
فقالت بشموخ : فليقولوا ما يقولون .. أنا لا أخافهم .
ثم أضافت وعيناها تشعّان مضاء : أنا لا أفرّح قلوبهم بترك خدمة من نحبّهم .
فقلت : ولكن يجب أن تقدري عواقب قرارك هذا يا هيلة بالنسبة لك لا لي فأنا لا يخيفني تهديد أحد .
فقالت بلهجتها الشموخ : لا تخف عليّ يا دكتور .
فقلت : ولكن هذا كثير يا هيلة ولا يمكن أن اسمح لنفسي أن أعرضك للمخاطر فأنت عزيزة عليّ .
فتساءلت بلهجتها الطفولية وقد أضاء وجهها با لسرور : صحيح يا دكتور ؟
فقلت : طبعاً صحيح .
فقالت وهي تنهض قد استخفها الفرح : أنا أخدمك بعيوني يا دكتور .
ما كادت هيلة تغادر مكتبي حتى هرع إليّ كاظم و تساءل في تشوق : ها يا دكتور سعد . ماذا أرادت هيلة ؟
فقلت : جاءت لتخبرني بأن جويسم قرر الانقطاع عن العمل في منزلي .
قال وهو يهز رأسه : هكذا إذن ؟!
فقلت : الحقيقة أنه أنقطع با لفعل يا كاظم منذ ثلاثة أيا م لكنني لم أخبرك .
فتساءل : وهل أخبرتك هيلة عن السبب ؟
فقلت : هي تعتقد أن سيد علي طريمش مسؤول عن انقطاعه وأنه هدّده بانتقام جدّه سيد طريمش الكبير .
قال متأملاً : وهذا با لطبع جزء من مؤامرات سيد علي طريمش ضدك .. ألم أقل لك إن في جعبته الشيء الكثير وأنه لن يتركك لحالك ؟
وسكت لحظة ثم أضاف : وطبعاً إنه ضرب عصفورين بحجر واحد فحرمك من خدمات جويسم وقطع الطريق على هيلة في الحضور إلى منزلك , فهي لن تقدر بطبيعة الحال أن تحضر إلى منزلك بمفردها .
وسكت ثانية ثم قال : ولكن ربّ ضارّة نافعة فانه خلصنا من هذه المشكلة .
فقلت : ولكن هيلة لا تنوي الانقطاع عن منزلي يا كاظم .
فهبّ مذعوراً وصاح : ماذا تقول ؟! لن تنقطع عن منزلك ؟
فقلت : هكذا قالت .. وهي مصّرة على موقفها .
فقال وهو يتهالك على المقعد وقد ركبه هّم ثقيل : مصيبة ! مصيبة !
فقلت مترفقاً : ولماذا تبدو مذعوراً إلى هذا الحد يا كاظم ؟ ماذا بإمكان سيد علي طريمش أن يفعل ؟!
فقال وهو يطالعني بنظرة حزينة : أنا لا أفكر الآن برد فعل سيد علي طريمش بل برد فعل الجماعة .
فقلت : مازلت أعتقد أنك تبا لغ في رد فعلهم يا كاظم .
فقال وهو يهز رأسه : المصيبة أنك لا تعرفهم كما أعرفهم .وأنا واثق أن تمسك هيلة بموقفها تجاهك سيثيرهم إلى أبعد الحدود وسيعتبرونه نجاحاً منك في الفوز بها . فهذا هو حدود تفكيرهم . وهو أمر لا يمكن أن يسكتوا عنه أبداً ,وستكشف لك الأيام عن صحة توقعاتي .
لقد مضى على هذا الحوار بيني وبين كاظم ثلاثة أيا م يا نعمان . وقد ألزمت هيلة نفسها با لحضور إلى داري كل يوم . ولم يحدث حتى الآن ما يثير قلقي . وأنا أكتب لك هذه الرسالة الآن وقد تجاوز الوقت منتصف الليل والسكون يخيم على الدار وإن تناهى إلى مسمعي من بعيد نبا ح كلاب متقطع وهو الأمر الذي يستمر طوال الليل .. ولكن لحظة .. لحظة . سمعت الآن صوت إطلاق رصاص بجوار الدار , سأضع القلم جانبا لأستطلع الأمر .
... ها أنا أعود إلى الرسالة . لقد درت دورة كاملة في حديقة الدار فلم أر أحداً , ولعلني لم أذكر لك يا نعمان من قبل أن داري يقع في أطراف البلدة بجوار بناية المستشفى . ويكاد يكون منعزلاً عن بيوت البلدة .
لقد دوّختك با خبا ري هذه يا نعمان ولابد أن رسائلي باتت تستهلك قدراً غير قليل من وقتك فمعذرة عن ذلك .
تحياتي للإخوان جميعاً واسلم لأخيك المحب .
سعد




28 نسيا ن
عزيزي نعمان
لا أدري لماذا تصر على أن ثمة علاقة عاطفية بيني وبين هيلة . فأنت تعرفني حق المعرفة وتعلم أنني لا يمكن أن أكون مزيفاً في سلوكي . فعلاقة من هذا النوع يجب أن تنتهي في عرفي با لزواج . وهذا ما لا يمكن أن يتم في حالتي . فأنا كما تعلم مرتبط عاطفيا با لدكتورة نوال . ولكنك كنت محتاطاً في كلامك فقلت إن اهتمامي بأمر هيلة ربما خلق في قلبي نحوها عاطفة الشفقة ,وأن هذه العاطفة قد تجر وراءها ما تجر . وذكرتني برواية الكاتب النمساوي ستيفان زفايج "حذار من الشفقة" . وأنا أعترف لك فعلاً بأنني أحمل شفقة عظيمة لهيلة وإعجابا لا حد له بشموخها . فهي مثال الاعتزاز با لنفس حقاً . ولو كنت مكاني لشعرت نحوها بنفس الشعور وتحمست لها نفس الحماس . وأطمئنك أن ذلك كله لن يقود إلى "الحب" الذي يهدف إلى إقامة حيا ة مشتركة بين رجل وامرأة . أنا لا أنكر أنني كثيراً ما تمنيت بيني وبين نفسي لو كان للدكتورة نوال نفس شخصية هيلة الرائعة بما تنطوي عليه من شموخ وإباء وصلابة تجاه التعسف والباطل , ولكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه كما قال الشاعر .
أما تخوفك من أن يكون انشغالي بأمر هيلة هو الذي صرفني عن الدكتورة نوال (إذ لاحظت أنني لم أعد أورد لها ذكراً في رسائلي) فهو أمر ليس صحيحاً أيضاً . وكل ما في الأمر أنني بتّ مشغول الذهن بما يجري من أحداث حولي وأنه ليس في علاقتنا جديد يستحق الحديث عنه . وقد حدثتك في رسائلي السابقة عن رأيي في موقف الدكتورة نوال من علاقتنا ولا أظن أن هناك جديداً من ناحية الدكتورة نوال نفسها .
لقد ذكرت في رسالتك الأخيرة أن الدكتورة نوال قد لمحت لك با نها ربما فكرت بزيارتي في البلدة فأرجوك أن تصرفها عن هذه الفكرة , فظروفي الحالية ليست ملائمة لمثل هذه الزيارة . ولعل ظروفي تتحسن في المستقبل فأدعوها بنفسي .
تحياتي لأخوان جميعاً واسلم لأخيك . سعد


15 مايس
عزيزي نعمان
لقد أعلن الجماعة الحرب عليّ بعد أن عرفوا بأن هيلة تولت رعاية منزلي بدل جويسم . وكنت أحسب أن كاظم مبالغ في توقعاته عن ردود فعلهم , لكن ما حدثني به راضي الشيخ حمود أكدّ لي صدق تنبؤاته . وقد أخبرتك في رسالة سابقة أن راضي الشيخ حمود حذّرني أثناء نزهة من نزهات صيدنا تحذيراً خفيفاً من مثل هذا الأمر , لكنه زارني قبل أيام في منزلي من أجل هذا الغرض . قال لي بعد أن استقر به المقام : جئت لأحدثك بأمر هام يا دكتور سعد .
فقلت : تفضل يا أستاذ راضي .
وأطرق قليلاً وكأنه يدير الكلام في ذهنه ثم رفع رأسه وحدّق في وجهي وقال : لماذا لا تقصر الشّر يا دكتور سعد وتصرف هيلة عنك ؟
فقلت : إنني حاولت يا أستاذ راضي فأبت أن تخذلني بعد أن تخلى جويسم عني, فهل يليق بي أن أجبرها على ذلك ؟
فقال : يجب أن تفهم يا دكتور سعد أن إصرارها سيضرك ويضرها , ومن واجبي كصديق أن أحذرك . أصبحتما الشغل الشاغل للجماعة.
فقلت متهكما : إذن أضفتم مادة جديدة لأحاديث سهراتكم يا أستاذ راضي ؟
فقال : أصارحك يا دكتور سعد أنه لم يعد من حديث لهم سواكما . لقد جن جنونهم .
فقلت : وماذا حدث يا أستاذ راضي حتى يجن جنونهم ؟! كل ما هنالك أنها تطوعت للعناية بمنزلي .
فقال : ليست المسألة مسألة عناية بمنزلك يا دكتور سعد , وأنت تعلم جيداً أن جوهر القضية ليس كذلك . فهم يشعرون با ن صلة روحية انعقدت بينكما وهذا ما يثير ثائرتهم واتجه حقدهم ليس إليها فحسب بل إليك أيضاً . وأنا خائف عليك يا دكتور سعد , فأنت تهّم أهل البلدة جميعاً ولا نريد أن نخسرك .
ضحكت وقلت : إلى هذا الحد يا أستاذ راضي ؟
فقال : أصارحك يا دكتور سعد أنه لم يعد من حديث لهم سواكما ، لقد جن جنونهم .
فقلت : وماذا حدث يا أستاذ راضي حتى يجن جنونهم ؟! كل ما هنالك أنها تطوعت للعناية بمنزلي .
فقال : ليست المسألة مسألة عناية بمنزلك يا دكتور سعد ، وأنت تعلم جيداً أن جوهر القضية ليس كذلك ، فهم يشعرون بأن صلة روحية انعقدت بينكما وهذا ما يشير ثائرتهم . واتجه حقدهم ليس إليها فحسب بل إليك أيضاً . وأنا خائف عليك يا دكتور سعد ، فأنت تهّم أهل البلدة جميعاً ولا نريد أن نخسرك .
ضحكت وقلت : إلى هذا الحد يا أستاذ راضي ؟
فقال : نعم إلى هذا الحد وأكثر . فحديثهم عنك أصبح ينضح با لغضب ، وهم يقولون إنك غلبتهم بالسلوك الماكر الذي اتخذته وباهتمامك الزائد عن الحدّ بأهل البلدة .
وسكت راضي ثم قال وهو يهز رأسه : إن فليح العمر يقول بغضب كلما اشتد به السكر : "لن أترك ذلك الطبيب الماكر يلهف هيلة منّا ". ولم يعد عبد الله يسمي هيلة إلاّ "بالقحبة" . وهو يهدد ويتوعد با نه سيفضحها ويفضحك بين كل أهل البلدة . أما نبهان فهو يردد دائماً وهو يكز على أسنانه :" اطمئنوا يا جماعة .. خريبط موجود " .
فقلت : لم أكن أتصور أن تبلغ التفاهة بجماعتك إلى هذا الحد يا أستاذ راضي .
وصمت راضي حيناً وقد لاح على وجهه التردد ثم قال بلهجة محرجة : تصور يا دكتور سعد أن غمزهم ولمزهم أخذ يطالني أنا أيضاً لأنني أشاركك في نزهات الصيد .
فقلت : على كل حال أنا لا أريد أن أضعك في موقف حرج يا أستاذ راضي ولا داعي للقيام بنزهات الصيد في الوقت الحاضر .
فقال وهو ينهض : قد يكون من الأفضل أن نؤجل نزهات الصيد في الوقت الحاضر فعلاً . ولكن أرجوك أن تعدني يا دكتور سعد قبل أن أذهب أن تكون حذراً .. واحذر على نحو الخصوص العريف خريبط .
فقلت : أعدك بذلك وشكراً على تحذيرك .
لم يمض على زيارة راضي الشيخ حمود لي سوى أيا م قليلة يا نعمان حتى حدثت لي حادثة كادت تودي بحياتي . فبينما كنت أتمشى في أطراف البلدة وقت الأصيل سمعت صوت سيارة مسرعة خلفي . وما أن التفت ورائي حتى رأيتها مندفعة نحوي فقفزت في الهواء وتدحرجت على جانب الطريق . وتوارت السيارة بلمح البصر . ولبثت منبطحاً على بطني دقائق وقلبي يُسرع في خفقانه وأنا غير مصدق أنني نجوت من عجلاتها . ورويت ما جرى لكاظم فهتف بارتياع ع وهو يضرب جبهته : هذا ما كنت أخشاه يا دكتور سعد .
فسألته : ماذا تعني ؟
فهتف حانقاً : وهل يحتاج هذا إلى سؤال ؟ إنه من تدبير الجماعة . فتّش عن خريبط .
فقلت : لعلنا نظلمه بهذا الاتهام يا كاظم فقد تكون مجرد سياقة طائشة .
صاح مستنكراً : ولماذا نظلمه ؟ ألم يخبرك راضي با ن فليح العمر يردد دائماً : "اطمئنوا .. خريبط موجود " ؟ ثم ألا يكفيك ما سمعته من شكاوي أهل البلدة من أفعال خريبط حتى تدافع عنه ؟
فقلت : على كل حال لا بد لي أن أعترف بأنني لم أميز السائق .
فقال كاظم في تهكم : لا تكن طيبا إلى هذه الدرجة يا دكتور سعد ، فهذه ليست المرّة الأولى التي يتولى خريبط فيها مثل هذه المهمة ولن تكون الأخيرة .
فقلت :على كل حال سأكون أكثر حذراً في المرّة القادمة .
لم تّمر سوى أيا م قليلة على تلك الحادثة يا نعمان حتى تكررت ثانية . وفي هذه المرة نجوت بأعجوبة . واستطعت أن ألمح وراء المقود هيكلاّ ضخماً يشبه هيكل خريبط .وتشاورت مع كاظم في القضية واتفقنا على أن أجابه نبهان رؤوف با لأمر با عتباره المسؤول عن الأمن في البلدة . وقصدته في مقر عمله في اليوم التالي فخرج من وراء مكتبه يسبقه كرشه وقال وهو يمّد إلىّ يده مرحّبا : عاش من شافك يا دكتور .. ما هذه المفاجأة السّارة ؟
فرددت على ترحيبه بفتور . قال هاشّا بعد أن جلس على الأريكة بجواري : ما كنت أتوقع يوماً يا دكتور سعد أن تتلطف وتزورني في مكتبي .. أنت تقاطع سهراتنا في النادي فكيف نتوقع منك أن تزورنا في مكاتبنا ؟
فقلت : أنا لم أحضر للزيارة في الحقيقة يا أستاذ نبهان بل لأمر يتعلق بعملك .
فقال : نحن في الخدمة يا دكتور سعد .
فقلت : جئت أبلغك بمحاولة جرت لاغتيالي إذ حاول أحدهم دهسي متعمداً .
هتف مستنكراً : اغتيالك ؟ ومن هذا الذي يفكّر بقتل الدكتور سعد ؟ لا . لا .. هذا مستحيل يا دكتور سعد .
فقلت: هذا ما حدث . وقد وجدت من الضروري إبلاغك بالأمر باعتبارك مسؤولاً عن الأمن في البلدة .
فقال : أقول لك مستحيل يا دكتور .. مستحيل أن يفكر أحد بذلك . ثم أن الجميع يعلمون أنه لا يمكن أن يفلت من أيدينا أيّ مخّل با لأمن .
فقلت : حتى لو كان من بين حماة الأمن أنفسهم ؟
فقال وهو يحاول إخفاء انزعاجه : ماذا تقصد يا دكتور ؟
فقلت : أقصد أن الذي حاول ارتكاب الجريمة هو أحد أفراد الأمن .. وأقصد العريف خريبط با لذات .
فقال بلهجة لا تخلو من خشونة : أرجوك ، يجب ألاّ يشتط بك الخيال إلى هذا الحد يا دكتور . فالعريف خريبط هو من أكفا العناصر عندنا وممن يعتمد عليهم .
قلت بسخرية مبطنة : فعلاً يبدو أنه من أكفأ عناصركم وممن يعتمد عليه في المهمات الصعبة .
نظر إلىّ طويلاً وقد تغيرت سحنته ثم تساءل وهو يحاول كبح غيظه : ولكن ما الذي يدفع شخصاً كالعريف خريبط إلى محاولة قتلك يا دكتور سعد ؟
فقلت : هذا ما دفعني للحضور إليك للكشف عنه يا أستاذ نبهان .
قال وهو يهز رأسه بشدة : لا . لا يا دكتور سعد .. هذه أوهام ..حدّث العاقل بما يليق . العريف خريبط يحاول قتلك ؟! مستحيل . ثم أن العريف خريبط من حماة الأمن في البلدة ، فكيف يحاول ارتكاب مثل هذه الجريمة ؟
فقلت : فإذن أنت غير مستعد للتحقيق في هذه القضية يا أستاذ نبهان ؟
فخلع نظارته السمكية وراح يدعكها بقوة . ثم تساءل وهو عابس الوجه : وأين القضية يا دكتور ؟! العريف خريبط المسؤول عن الأمن في البلدة يحاول قتلك ؟! ولماذا ؟! لأي سبب ؟ قل لي كلاماً معقولاً يا دكتور سعد لكي أقيم عليه تحقيقاتي .
فقلت : إذا أصررت على عدم التحقيق في هذه التهمة يا أستاذ نبهان فانك تضطرني إلى متابعة حقي لدى مراجع أعلى .
فنظر إليّ طويلاً وقد تغير وجهه ثم قال بلهجة خشنة : اسمع يا دكتور سعد . سأعتبر قولك هذا محاولة منك للنيل من كفاءتي والغضّ من مقدرتي الإدارية ، ويجب أن ألفت نظرك أننا في غير حاجة لأن يعلمنّا الآخرون كيف نؤدي مهامنا وواجباتنا وكيف ندير شؤون هذه البلدة .
فقلت : لا أعتقد أن لشكواي أية صلة بكفاءتك أو مقدرتك الإدارية ، وكل ما هنالك أن جريمة قتل كانت سترتكب بحقي وأنا أريد أن أمنع وقوعها .
صمت قليلاً ثم قال بلهجة فظة : أنت حرّ فيما تفعل يا دكتور سعد . ولكن اسمح لي أن أذكّرك بأن الأسلوب الذي تنتهجه في حيا تك مغلوط . فأنت تحاول دائماً التدخل فيما لا يخصك وتقحم نفسك في أمور ليست من عملك . فما شأنك أنت وهيلة حتى تدافع عنها هذا الدفاع الحار ؟ وبأي صفة تدافع عنها ؟! وما شأنك أنت وقضايا أهل البلدة الخاصة لكي تدّس أنفك فيها ؟!
فقلت : يجب أن تعلم يا أستاذ نبهان أن الظلم والإرهاب الذي تتعرض له البلدة هو من اختصاص أيّ مواطن فيها وأن ما يقوم به العريف خريبط من تعسّف تجاه أهاليها بلغ حداً دافعهم إلى أن يشكو همومهم إلىّ ، فهل هناك من با س في ذلك ؟
فقال وهو يضغط على كلماته : طبعاً هناك بأس في ذلك لأن هناك مسؤولين يتولون حلّ هذه القضايا . وكل موظف مسؤول عن اختصاصه . وهذه الأمور ليست من اختصاصك .
فقلت وأنا أنهض : أنت تّميّع قضيتي بهذا الكلام يا أستاذ نبهان ولا تترك لي خياراً في اللجوء إلى غيرك لضمان سلامتي .
فقال وهو يشيّعني بنظرات حادة : أنت حرّ فيما تفعل يا دكتور .
وقررت في اليوم التالي يا نعمان أن أقابل المحافظ وأبلغه بشكواي وبرفض مدير الأمن الاستجابة لها ، واستمع إليّ المحافظ وقد لاحت على وجهه سيماء الخطورة .وظل صامتاً دقائق بعد أن أنهيت قصتي . ثم رفع رأسه أخيراً وقال بلهجته المتئدة : لا أدري ماذا أقول لك يا دكتور سعد .. القضية في الحقيقة محيّرة ولا أدري ماذا أقول بشأنها .
فسألته : هل تشّك أنت أيضاً يا أستاذ صادق بصحتها ؟!
فسارع يقول : أبداً. أبداً فما الذي يدعو طبيبا محترماً مثلك إلى اختلاق هذه القصة ؟
ثم أضاف بحيرة : ولكن من جهة أخرى ، ما الذي يدعو شخصاً كالعريف خريبط إلى ارتكاب مثل هذه الجريمة ؟!
فقلت : قد لا تتضح أحيا ناً الدوافع التي تدفع شخصاً إلى ارتكاب جريمة ، ودوائر الأمن وجدت لتقصي أمثال تلك الدوافع .
فسارع يقول : طبعاً .. طبعاً .
قلت : لو لم تتكرر الحادثة مرتين معي لما أخذتها بنظر الاعتبار ولعددتها من باب الصدفة .
قال وهو يطالعني بنظرات محرجة : لا أكتمك يا دكتور سعد أن مدير الأمن حدثني با لأمر وكان متأثراً جداً . كما أنه شكا با نك تتدخل في عمله ،أما العريف خريبط فجن جنونه حين سمع باتهامك .
فقلت : ليست شكوى مدير الأمن إلاّ محاولة منه لتمييع قضيتي يا أستاذ صادق .
فصمت مفكراً ثم تساءل : ألا يجوز أن تكون الحادثة من با ب الصدفة با لفعل يا دكتور سعد ؟
فقلت في استياء مكبوت : فأنت إذن تشك أيضاً في جدّيتها يا أستاذ صادق ؟ ولكن أرجو أن ألفت نظرك أنني جئتك طالبا حمايتي من خطر يهدد حيا تي .
فقال مسرعاً : خيراً ما فعلت يا دكتور سعد0 فأنا مسؤول عن حمايتك با لفعل إن كان هناك خطر يهدد حيا تك . وأطمئنك أنني سأتخذ كل الإجراءات التي تضمن سلامتك. ومنذ الغد سأضع حراسة مشددة حول منزلك . وإذا شئت حول المستشفى أيضاً ، ومن الآن فصاعداً من الأفضل أن تغيّر تعاملك مع أهل البلدة وتمنع دخول أي غريب إلى منزلك بما فيهم المرضى ، فالمفروض أن يراجعوك في المستشفى .
وأضاف وهو يضحك ضحكته الفاترة : فأنت تدللّهم أكثر من اللازم يا دكتور سعد.
فقلت : لست في حاجة إلى حراسة خاصة لا في المنزل و لا في المستشفى يا أستاذ صادق ، كما أنني لا أرى ضرورة لمنع المرضى من دخول منزلي .
قاطعني بلهجة خطيرة : لا بد من اتخاذ كل الإجراءات لضمان سلامتك يا دكتور سعد .. وأنا أرى أيضاً أن تمتنع عن القيا م برياضتك اليومية إن أمكن .
فقلت : معنى ذلك أن أكون معتقلاً في بيتي يا أستاذ صادق ولست أطلب إجراء من هذا القبيل . كل ما أطلبه هو معرفة الدوافع التي تحدو شخصاً مثل العريف خريبط إلى محاولة قتلي وبا لتالي منعه من ارتكاب هذه الجريمة .
ففكر قليلاً ثم قال : لا حظ يا دكتور سعد أنه ليس لدينا أدلة لمواجهة العريف خريبط بها ، وأنا وأثق أنني سأثير زعل مدير الأمن لو فعلت ذلك لأن معناه التشكيك بكفاءة إدارته ، بل قد يؤدي ذلك إلى إضعاف ثقة أهل البلدة با لسلطة بأكملها فيما لو تسرّب إليهم الخبر .
وسكت لحظة ثم أضاف وهو يتفرس في وجهي بنظراته النفاذة : ومع ذلك اترك الأمر لي يا دكتور سعد وسأتصرف فيه على نحو يرضيك ويضمن سلامتك .
هذه هي آخر أخباري يا نعمان . ولاشك أنك تشاركني الرأي في أن حياتي هنا باتت محفوفة بالأخطار . وأنا أتصورك الآن وأنت تهزّ رأسك وتقول لنفسك : أنت الذي جلبت لنفسك كل هذه المتاعب يا سعد لأنك تتدخل فيما لا يخصك . وطبعاً لا أريد أن أجادلك في هذا الأمر وأنت تعرف السبب , لكنني أريد أن أقول لك بأن وعد المحافظ بضمان سلامتي لا يمكن الاعتماد عليه . وقد بدأت أميل إلى رأي كاظم في أن وعوده ليست سوى بضاعة للتصدير الخارجي .فلم يستجب حتى اليوم مثلاً لعشر معشار قائمة متطلبات المستشفى . ولا يزال المستشفى يعاني من الفقر الشديد في مستلزماته . وإن تحججه يضعف الإمكانات المالية أمر لا يؤيده البذخ الشديد على أمور ثانوية وكمالية تتعلق بأبهة السلطة . لكنني سأكف عن الضرب على هذا الوتر أيضاً لئلا تقول لنفسك بآن قصتي مع الدكتور بدري تتكرر . وقبل أن أختم رسالتي أحبّ أن أذكرّك با لعبارة التي كنت أرددها على مسامعك حينما كنا نتناقش في مثل هذه الأمور وهي "إن المسؤولية كلّ لا يتجزأ وهي أمانة في عنق الجميع وليست في عنق الشخص المباشر الذي يتولاها فحسب" . ولكن آه من هدوئك وبرودة أعصابك وأنت تناقش أمثال هذه الأمور !!
وختاماً أرجو لك حيا ة هادئة هانئة بعيدة عن المشاكل , ودمت لأخيك المحب .
سعد






















7 1 تموز
عزيزي نعمان
لقد أحكم الحصار عليّ وعلى هيلة وباتت رياضتي اليومية أمراً محفوفاً با لمخاطر . وصار لزاماً عليّ أن أكون شديد اليقظة متنبهاً لكل حركة تحدث ورائي . وكلما اجتزت أحياء من البلدة تتناثر فيها بساتين النخيل ترامت إلى سمعي صيحات من وراء الأشجار تردد : "الدكتور الفاجر .. الدكتور الكافر " . ولم يعد أهل البلدة يقبلون عليّ ويحيّونني كعادتهم حينما يروني ماراً في السوق الكبير , وأخذ الكثيرون منهم يغيًرون طريقهم إذا لمحوني من بعيد أو يغضون أبصارهم لئلا تلتقي عيناي بعيونهم . وكان أكثر ما أدهشني سلوك قنّي تجاهي . وقنّي هذا أحدب متشرد يجوب السوق الكبير وهو موضع تندر أهل السوق ودعابتهم . فكان البعض يقول له :" قنّي .. طماطة حمرة .. باذنجان أسود" فيغضب غضبا شديداً ويشتمهم شتماً مقذعا. وكان يثير عطفي ببؤسه الشديد , فكنت أمنحه مبلغا من المال كلما التقيته في السوق . وكان بدوره يقبل عليّ بمحبة عظيمة كلما رآني من بعيد ويختطف يدي محاولاً تقبيلها .ولكنه في المرة الأخيرة ولّى هاربا حينما وقع بصره عليّ وكأنه يرى غولاً يخشى أن يفترسه .
وبدأت ألاحظ تناقصاً في زوار المستشفى , ولما أبديت لكاظم هذه الملاحظة قال بحزن: امتد الحصار إلى المستشفى أيضاً يا دكتور سعد فلا تعجب لتناقص المراجعين .
قلت باستنكار : ولكن ألم يلق أهل البلدة الشفاء على يديّ فكيف يقاطعونني ؟
فقال بلهجته الحزينة : لا تلمهم يا دكتور سعد فهم محاصرون بين مريدي سيد علي طريمش وكلاب السلطة الباغية .
قلت بأ سف : على كل حال إنني أشعر با لخيبة من صدود أهل البلدة عني يا كاظم.. كنت أتوقع منهم أن يساندوني ضد البغي .
فقال كاظم بلهجته الحزينة وهو يهز رأسه : كيف تلومهم يا دكتور سعد وأنت تعلم أن خريبط موجود ؟! ولكن الحق معك فأنت لا تعرف ما معنى أن يتعرض الواحد إلى هراوات ولكمات ورفسات خريبط .. وأنت لم تجرب معنى أن تسد أبواب الرزق أمام الشخص إذا غضبت عليه السلطة فلا يجد عشاء يومه .. اسألني أنا , إن عصابات الشر من أهل السلطة ذات نفوذ عجيب يا دكتور سعد وهي تعمل على طريقة المافيا فلا يقدر المستضعفون على الفكاك من طوقها . وإن المواطنين البسطاء مساكين ومغلوبون على أمرهم حتى أنهم يخشون أن يشكو ما يلحقهم من ظلم إلى المراجع العليا , وها أنت تراني يئست وانطويت على نفسي أنشد السلامة بتجنب الاصطدام بهم . الشّر أقوى من الخير يا دكتور سعد .
فقلت وقد امتلأت نفسي سخطاً : ولكن موقفي لن يكون كموقفك يا كاظم ولن أيا س بهذه السهولة .. وإن مُثلي لا تسمح لي باليأس . سأقاوم إلى آخر لحظة .
فهزّ رأسه وقال شارد الأنظار : لست أنت وحدك الذي يقول هذا القول .. هيلة تقول ذلك أيضاً , ولكن عبثاً ما تفعلان .
فقلت : هيلة هذه شخصية شامخة .. وبا لمناسبة ما أعظم امتناني لها يا كاظم فهي تزيد من عنايتها بداري يوماً بعد يوم .
فابتسم ابتسامته الحزينة وقال : لم يعد لها من عمل سوى العناية بدارك يا دكتور سعد .. إنها تركت العمل في بستانها نهائيا .
فسألته منزعجاً : ولماذا ؟
فأجاب:لم يعد بوسعها أن تسمع الكلمات الجارحة التي تتطاير حول مسامعها . فكلما خرجت إلى بستانها انطلقت أصوات من هنا وهناك تهتف : "القحبة .. السافلة .. المنحطة" .
فقلت : إنها نفس الخطة المتبعة معي إذن يا كاظم كلما مررت بأطراف البلدة .
فقال : إن مدبر الخطة واحد يا دكتور سعد . وأنا لا أشك أن الجماعة تعمل بالتنسيق مع سيد علي طريمش .فهذه ليست الّمرة الأولى التي ينسقون فيها فهم يمثلون مثلّث الشرّ .
فقلت : لا بد أن أعمل شيئاً لهيلة يا كاظم فلا يمكن أن أتركها تقاسي بسببي .
فقال : وماذا بيدك أن تفعل يا دكتور سعد ؟! فات الأوان لذلك . كان يجب أن تحتاط للأمر منذ البداية .
فقلت : ليس هناك شيء اسمه فات الأوان ، لابد من عمل شيء لتخليص هيلة من هذا المأزق .
واقتنعت أخيراً وأنا أقلبّ الأمر على وجوهه يا نعمان أن الحل الوحيد لمشكلتها هو إجبارها على الاحتجاب عن منزلي . لكنني لم أدر كيف يتسنى لي تنفيذ هذا القرار. وبينما كنت متخبطا في حيرتي إذا بها تهّل عليّ في مكتبي ذات صبا ح . وما أن تطلعت في وجهها حتى شعرت كأن نصلاً حاداً يغرز في قلبي .كان وجهها الجميل قد عراه الذبول ، وكانت عيناها المشرقتان قد فقدتا بريقهما ، ولاحت خطوط خفيفة على جبينها الوضّاء . ولم يعد مظهرها يعكس ذلك الشموخ الرائع . و سألتها بألم : كيف حالك يا هيلة ؟
فابتسمت ابتسامة ضئيلة وقالت : الحمد لله .
فقلت في غضب : هؤلاء المجرمون لم يتركوك في حالك يا هيلة .
فقالت في حزن : هذا متوقع منهم يا دكتور .. لكن خباثاتهم زادت عن الحد .
فقلت في غضب : إنني دريت با لكلمات النابية التي تتعرضين لها كلما خرجت إلى بستانك . ولكن ذلك لا يضيرك فالجميع يعلمون أنك أشرف امرأة .
فقالت وهي خافضة الطرف : لكن تلك الكلمات تجرح قلبي يا دكتور .
فقلت برقة : أنا أقدّر ألمك يا هيلة ، وإن قلبي ليعتصره الحزن وأنا أسمع ما تتعرضين له من أذى وألوم نفسي على ذلك فأنا المسؤول عنه .
رفعت رأسها بقوة وبرقت عيناها وهي تقول : لا ... أنت غير مسؤول يا دكتور .. أنا وحدي المسؤولة .
فقلت : لكنك لو لم تقفي إلى جانبي وتقومي برعاية داري ما تعرضت لمثل هذا الموقف .
انتفضت حانقة فاستطال عنقها البديع وتوثب نهداها الشامخان وقالت بغضب : وهل تركوني لحالي قبل أن أعرفك يا دكتور ؟
ثم أطرقت ثانية وقد علا وجهها الحزن وتمتمت : كلهم طامعون بي .
فقلت : إنني حاولت أن أجنبك مثل هذا الموقف يا هيلة فلم تستمعي إلى نصحي .
قالت : بأنفة وهي تنظر أمامها بثبات : أنا غير نادمة يا دكتور وسأخدمك بعيوني .
فقلت متأثراً : سلمت عيونك يا هيلة .. لكنني أرجوك لآخر مرة رجاء حاراً أن تنقطعي عن رعاية داري حتى تخرسي ألسنة الحاقدين .
رنت إلىّ طويلاً بعينيها الآسرتين وقالت : إذا كنت تريد أن تصغّرني أمام نفسي فأمرني أطيعك يا دكتور .
فاندفعت أقول : معاذ الله أن أفعل يا هيلة .. كرامتك عندي أغلى من كل شيء ، وأنا مستعد لكل التبعات من أجل أن أصون هذه الكرامة .
أشرق وجهها وهتفت بلهجتها الطفولية : صحيح يا دكتور ؟
فقلت بحماس : صحيح و ألف صحيح .
فغمغمت وهي تهز رأسها بارتيا ح : هذا هو أملي فيك .
وسكتت لحظة ثم أضافت : أنا لم آت لزيارتك لكي أشكو لك حالي يا دكتور بل جئت لأحذّرك من جويسم .
فسألتها : ماله جويسم ؟
فقالت : جويسم مسكين وعلى قدر عقله يا دكتور وهم يحرّضونه عليك فخذ حذرك منه .
فقلت : جويسم إنسان طيب ولا يمكن لمثله أن يفكر في أذيّة أحد .
فقالت : ولكن الأحسن أن تأخذ حذرك منه .
فقلت : اطمئني يا هيلة سأفعل .
وقبل أن تغادرني سألتها برجاء : أليس هناك أمل في أن تراجعي رأيك يا هيلة ؟
فقالت وقد شع وجهها الجميل بعزيمة طاغية : لا .. وسأكسر أنوف الطامعين بي.
ولم تبعث زيارة هيلة الطمأنينة في نفسي ، وازددت همّاً على همّ . وبدا لي أننا دخلنا نفقاً مظلماً مجهول النهاية . وقد أكدت لي الأيام صدق مخاوفي يا نعمان فقد اشتدت حملة أولئك الخبثاء عليّ وعلى هيلة وتنوعت أساليبها . فتقلص عدد زوار المستشفى تقلصاً كبيراً حتى عدت أعاني من البطالة القديمة . وانقطع المرضى عن زيا رتي في منزلي نهائيا . واشتدت العبارات النابية التي تتطاير إلى سمعي من وراء أشجار النخيل . واتخذت الحملة على هيلة مساراً خطيراً با ت يهدد حياتها . فكلما دخلت داري أو خرجت منه تعرضت إلى رشقات من الحجارة وإلى الكلمات النابية المعهودة . وقد شقّ ذلك على نفسي حتى أن التفكير فيه كان يسلبني النوم في بعض الليالي . ولم أدر ماذا أفعل . وأخيراً قرّ عزمي على مقابلة المحافظ والطلب إليه الإيفاء بوعده ببسط حمايته على هيلة .
وقصدت مكتبه عند الصبا ح المبكر . وعلى غير عادته استقبلني بفتور أدهشني . قال لي بلهجته المتئدة وهو يطالعني بنظرات با ردة : أرجو ألاّ تكون قد جئتني يا دكتور سعد متذمراً من عدم الإيفاء بمتطلبات المستشفى فأمامنا من متطلبا ت البلدة الشيء الكثير الذي يفوق في أهميته المستشفى .
فقلت : أنت تعلم يا أستاذ صادق أن المستشفى مرفق مهم من مرافق البلدة والاهتمام به معناه الاهتمام بصحة أهل البلدة التي هي حجر الزاوية في صلاح حيا تهم. لكننني ما جئتك لهذا الغرض بل جئت لتذكيرك بوعد قديم سبق أن قطعته لي .
فقال بلهجته المتئدة وهو يعبس قليلاً : وعد قديم ؟! بخصوص أي شيء ؟
فقلت : بخصوص هيلة .
فقال بلهجة وشت بضيقه : وماذا بخصوص هيلة ؟
فقلت : لقد وعدتني حينما حدثتك عما تلاقيه من مضايقات بأنك ستقوم بحمايتها إذا ما تعرضت لأذى حقيقي .
صمت قليلا وهو عابس الوجه ثم قال : نحن نحمي جميع أهل البلدة إذا ما تعرضوا لأذى حقيقي .
فقلت : لكنها الآن تتعرض فعلاً لأذى حقيقي .
فظل ساكتاً لحظات ثم تساءل ببرود : وأي نوع من الأذى تتعرض له ؟
فقلت : إنها تتعرض لرشقات من الحجارة كلما دخلت داري أو خرجت منه ، وقد تصيب منها هذه الحجارة مقتلاً .
ظل صامتاً لحظات ثم قال بلهجة تنطوي على تهّكم خفيف : وهل ترى يا دكتور سعد أن السلطة لا عمل لها سوى حماية كل مواطن يسلك سلوك أخرق ؟
فذهلت لسؤاله ونظرت إليه مدهشا ثم قلت : لم أفهم هذا السؤال يا أستاذ صادق .
قال وهو يضغط على الحروف : أعتقد أن سؤالي واضح يا دكتور سعد ، فالسلطة لديها من المشاكل المهمة ما لا يدع وقتاً لمتابعة كل سلوك أخرق يقوم به أي مواطن في البلدة . ولأكن صريحاً معك يا دكتور . هل نحن مسؤلون أن نوفر الحماية لكل من يخرج على تقاليد البلدة ؟!
فقلت : لكن هيلة لم تفعل شيئاً معيبا يمسّ تقاليد البلدة يا أستاذ صادق .
قال بجفاف : قد يكون هذا رأيك ولكنه ليس رأي أهل البلدة ، وبدلاً من أن تشجعها على هذا السلوك وتقيم الدنيا وتقعدها في الدفاع عنها كان عليك أن تعقّلها وتردعها عنه .
قلت وقد أخذت بلهجته الجافة : كنت آمل أن تقف إلى جانب العدل يا أستاذ صادق وأن تحمي مواطنة بريئة تتعرض للاعتداء .
قال بلهجته الجافة : ليس في هذه المسألة عدل أو ظلم ، وإذا كانت هيلة تريد أن تتحدى تقاليد أهل البلدة فعليها أن تتحمل وزر سلوكها . وإذا كنت تشجعها على ذلك فعليك أن تتحمل مسؤوليتها ، ولا بد أنك تدرك أن لدينا من المشاغل ما لا يدع لنا وقتاً لمثل هذه السفا سف . قم إنني أحب أن ألفت نظرك يا دكتور سعد أنك تتدخل في أمور أهل البلدة بما يخرج عن اختصاصك والجدير بك أن تلتزم باختصاصك .
فقلت وأنا أنهض وقد اكفهر وجهي : أنا آسف إذن أن أخذت من وقتك الثمين .
وغادرت مكتبه مسرعاً دون أن ألقي عليه التحية ، وقصدت إلى المستشفى وقد استعرت بين جوانحي ثورة عاصفة . وما أن وقعت عينا كاظم عليّ حتى تساءل بقلق : ما بك يا دكتور سعد ؟
هتف ثائراً : لا فائدة من بقائي هنا يا كاظم وسأطلب نقلي إلى بلدة أخرى .
صاح مرتاعاً : وهل ستتخلى عن البلدة يا دكتور سعد ؟
قلت : أنا عاجز عن فعل أية شيء هنا ، وعلى الأقل سأخلّص هيلة من متاعب رعاية منزلي .
قال كاظم بلهجته المرتاعة : ولكن ما الذي حدث يا دكتور سعد ؟
فقلت : إنني عائد الآن من مكتب المحافظ ، ومن المؤكد أنه رجل مراوغ كما وصفته با لضبط .
فضحك ضحكة متهكمة وقال : وهل هناك شك في ذلك ؟ ولكن ما الجديد في لأمر ؟
فقلت : إنني ذهبت إليه أطالبه بتنفيذ وعده في بسط حمايته على هيلة وإذا به يرد عليّ رداً خشناً ويقول لي إن عليّ أن أكف عن التدخل في قضايا هي ليست من اختصاصي .
قال كاظم وهو يهز رأسه : لن يكون صادق حسون إن لم يقل لك مثل هذا القول ، وكان من المتوقع أن يقول لك ذلك منذ البداية لولا أنه اتبع معك أسلوبه الماكر .
قلت في مرارة : إنه خدعني حقاً .
فقال : لا عجب يا دكتور سعد فهو أستاذ في المكر والمخاتلة . ولكن كيف تلقي أسلحتك بهذا الشكل وأنت الذي كنت تلومني على يأسي ؟
فقلت : إنه زلزل صمودي بردّه يا كاظم .
وقطع محاورتنا شخص دخل علينا مهرولا واتجه إلى كاظم يهتف في لهوجة : إلحق يا أبا جواد .. هيلة جرحت جروحاً خطيرة وهي تخرج من دار الدكتور .
فصحت به مرتاعاً : ماذا تقول ؟! وأين هي الآن ؟
أجاب : إنها في بيتها يا دكتور وهي في أشنع حال .
فقلت وأنا أتناول حقيبتي متعجلاً : هيا بنا يا كاظم .
ووجدنا هيلة مسجاة على حصيرة في صحن الدار ، وكان لونها الحنطي البديع قد استحال إلى أصفر شاحبا والكدمات الزرق تغطي وجهها . فتحت عينيها حين لمست رأسها وقالت بصوت واه وابتسامة هزيلة تعلو وجهها : أهلاً بك يا دكتور .
هتفت محنقا : ماذا فعل بك المجرمون يا هيلة ؟
قالت بصوتها الواهن : لا تهتم يا دكتور .
وتنفست الصعداء حين فحصت جراحها فوجدتها سطحية ولا خطر فيها ، قلت لها وأنا أضمدّ جراحها : سيكون كل شيء على ما يرام يا هيلة .
قالت الأم بعد أن ظلت صامتة طوال الوقت وهي ترمقني من بعيد بنظرات غاضبة : هذا ما نابنا من معرفتك يا دكتور . لو بقيت على دواء المومن ما جرى لنا ما جرى.
انتفضت هيلة وصاحت غاضبة : قلت لك يا يمّه أسكتي ولا تحكي قدّام الدكتور .
فقلت وأنا أمسح على رأسها بلطف : لا تنزعجي يا هيلة من كلام أمكّ فالحق معها ، فكل ما جرى لك بسببي .
والتفت كاظم إلى الأم وقال لها بخشونة : هل هذا وقت مثل هذا الكلام يا أم هيلة ؟
وتدثّر المكان بصمت حزين . واصطرعت الأفكار والأحاسيس بين جوانحي ، وكان ثمة مرارة وغضب لاذعين يترسبان في قلبي . ثم وجدتني أنحني فجأة على هيلة وأقول لها برقة : هل ترضين يا هيلة أن تتزوجيني ؟
ففتحت عينيها على اتساعهما وهتفت مبهورة : صحيح يا دكتور ؟
وانطلقت زغرودة طويلة من الأم ، وسمعت كاظم يقول : لقد صحّ ظني فيك منذ عرفتك يا دكتور سعد .
وعدت أقول بصوت ملؤه الحرارة : هل تتزوجنني يا هيلة ؟
تأملتني هيلة بعينها السوداويين الواسعتين وقد عاد إليهما صفاؤهما وانبسطت على وجهها إشراقة بديعة ، ثم تمتمت وثغرها الجميل يفتر عن بسمة عذبة : وهل هناك امرأة في الوجود ترفض أن تتزوجك يا دكتور ؟
فقلت مبتهجاً : فإذن أنت موافقة يا هيلة ؟
قالت بصوت واهن وهي تبتسم ابتسامة شاحبة : كم حلمت أن أتزوج شخصاً مثلك يا دكتور .. شخصاً يمتلئ قلبه با لحنان والحب والصدق والإخلاص .. لكن هذا الحلم حرام على مثلي .
فقلت : سنجعل من هذا الحلم واقعاً يا هيلة وسنجعل الحيا ة بهيجة ومشرقة .
قالت بصوتها الواهن : وهل سيتركنا الطامعون نحقق ذلك يا دكتور ؟
فقلت : سنقهر كل العقبات يا هيلة .
بدا على وجهها الشاحب فجأة إعياء بالغ وأغمضت عينيها وهي تتمتم : أنا تعبانة .
فقلت : سأتركك ترتاحين يا هيلة ولكنني سأعود إليك وسنحقق كل آمالنا .
وغادرنا المنزل وابتسامة عريضة تزين وجه كاظم .قال وهو يستقر على المقعد بجوار مكتبي : هل أنت جاد في عرضك يا دكتور سعد ؟
قلت عاتبا : وهل تراني هازلاً يا كاظم ؟
فقال : لكنك تدرك ولا شك المخاطر والمصاعب التي تحيط بهذا الزواج ؟
فقلت : سيقهر تصميمنا كل تلك المصاعب يا كاظم .
فقال : أنا أقصد المصاعب التي سيخلقها كلاب السلطة الباغية لكما يا دكتور 0سيلجؤون إلى كل الوسائل لإفشال هذا الزواج وتدميركما .
فقلت : اطمئن يا كاظم سنقهر كل العقبات بتصميمنا .
التزم كاظم الصمت لدقائق وقد بدا على وجهه تفكير عميق . ثم التفت إلىّ أخيراً وقال بتصميم : اسمع يا دكتور سعد . سأضع بين يديك سلاحاً جباراً تواجه به كلاب السلطة . سأضع بين يديك الأسرار التي كتمتها منذ تركتهم والتي هدّدوني بأن في إفشائها نهايتي ، ليكن . فلتأت النهاية على أيديهم في سبيل هذا الهدف النبيل . آن لي أن أضحي بنفسي من أجل البلدة وستواجههم منذ الغد وتحدثهم واحداً واحداً بتلك الأسرار وتنذرهم بإفشائها إن تعرض أي منهم لزواجكما بسوء . وسيشترون سكوتك ويتركونكما وشأنكما .
فقلت محتجاً : ولكنها تضحية عظيمة منك يا كاظم .
فقال : ألا تعتقد أن زواج الدكتور سعد من هيلة يستحق مثل هذه التضحية ؟
فقلت : بورك فيك يا كاظم وأنت أهل لهذه التضحية .
فقال : سأزورك مساء اليوم في بيتك لأحدثك بكل تلك الأسرار وستعجب أي نوع من المجرمين هؤلاء الذين يتحكمون في مصائر البلدة .
لقد أمضيت عصر اليوم وأنا أحرّر لك هذه الرسالة يا نعمان في انتظار مجيء كاظم . ولا شك أن هذه الرسالة ستثير زوبعة في نفسك حينما تقرأ فيها نبأ قراري بالزواج من هيلة . ولك أن تفسر الأمر كما تشاء . أما با لنسبة لي فكل الذي أعرفه أنني حينما رأيتها مسجاة على الحصير وقد عكس وجهها الجميل ذلك الشعور با لانكسار أدركت أنني مسؤول عن الوقوف إلى جانبها مهما يكلّفني الأمر ، بل وأن أتحدى جميع قوى الشّر من أجلها . كما أيقنت أيضاً أنها هي المرأة التي تصلح لمرافقتي في رحلة حياتي . ووأؤكد لك يا نعمان أن قراري في الزواج منها ليس قراراً عاطفيا أملته الظروف التي أحاطت بي وبها بل هو قرار سليم انطلق من تفكير عقلاني .
وإلى اللقاء في رسالة قادمة .

سعد






#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسرحية-القضية-
- اوراق رئيس
- مسرحية -الدكتاتور-
- الهوية
- الاصدقاء الثلاثة
- عهد جديد....مجموعة قصصية
- السؤال؟!!
- الشيء مسرحية من ثلاث فصول
- تساؤلات وخواطر فلسفية
- حكايات من بلدتنا
- دكتور القرية
- بداية النهاية
- حياة قاسية
- صراع


المزيد.....




- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - هيلة