أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - جورج بوليتزر وجي بيس وموريس كافين - اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس الثاني عشر















المزيد.....



اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس الثاني عشر


جورج بوليتزر وجي بيس وموريس كافين

الحوار المتمدن-العدد: 2509 - 2008 / 12 / 28 - 09:18
المحور: الارشيف الماركسي
    



النزعة المادية الجدلية
حياة المجتمع الروحية
النزعة المادية الجدلية هي وحدها التي تحمل جواباً علمياً على مشكلة الوعي، كما رأينا في الجزء الثاني. كما أنها تتيح لنا فهم أصل الأفكار وعملها، وفهم النظريات الاجتماعية والآراء السياسية والمؤسسات السياسية التي هي جزء من المجتمع.
ولقد خصص ستالين لهذه المسألة صفحات مهمة من كتابه "النزعة المادية الجدلية والنزعة المادية التاريخية".
وتتضمن هذه المسألة جانبين يجب التمييز بينهما بدقة:
1 – ظهور مختلف صور الوعي في الحياة الاجتماعية.
2 – أهميتها والدور الذي تقوم به.
ويبحث الدرس الثاني عشر الجانب الأول، بينما يبحث الدرس الثالث عشر الجانب الثاني. وأما الدرس الرابع عشر فهو يدرس أصل الاشتراكية العلمية وأهميتها.

حيَاة المجْتمَع الرّوحيَّة
هي انعكاس لحياته المادية

1– مثال
2– "التفسيرات" المثالية
3– النظرية المادية الجدلية
أ) حياة المجتمع المادية واقع موضوعي موجود مستقلاً عن الوعي وعن إرادة الأفراد والإنسان عامة
ب) حياة المجتمع الروحية انعكاس لواقع المجتمع الموضوعي
ج) كيف تتولد الأفكار الجديدة والنظريات الاجتماعية
د) مسألة الآثار الباقية
4– الخلاصة

1 – مثَال
نقرأ في بعض نشرات الأونسكو أن السلم لا يمكن تحقيقه إلا بواسطة "تهدئة العقول"، وأنه يجب، إذا ما أردنا القضاء على الحرب، القضاء عليها في عقول الناس. لأن سبب الحروب ذاتي. أو كما يقول المحللون النفسيون هناك "غريزة للاعتداء" تكمن في وعي كل إنسان أو ما يسمى "بالكراهية الموروثة".
مثل هذه النظرية، عن أسباب الحرب، هي نظرية مثالية يختلف عنها موقف النزعة المادية الماركسية، فهي تقول أن سبب الحروب يكمن في واقع المجتمعات الموضوعي. أصل الحروب في عصر الاستعمار الأزمات الاقتصادية التي تؤدي إلى البحث عن أسواق جديدة بواسطة القوة. وهذا قانون موضوعي وهو قانون الفائدة القصوى الذي يفسر لنا الحروب. أما فيما يتعلق بالأمور الذاتية (كفكرة الحرب) (والكراهية وغريزة الاعتداء) فهي تتولد عن التناقضات المادية التي توجد وضعاً موضوعياً للحرب. والواقع الموضوعي هو الذي يفسر لنا ظهور الأمور الذاتية وليس العكس.
يمكننا أن نستشهد بغير ذلك من الأمثلة. ويلاحظ بصورة عامة أن العصور الحالية تظهر تعارضا قويا بين النظرية الفكرية للرأسمالية في النزع الأخير، وهي نظرية فكرية تقوم على العداوات القومية والعنصرية وعلى السلب والحرب ، وبين النظرية الفكرية للاشتراكية المنتصرة، وهي تقوم على التعاون والإخاء بين الأمم والأفراد كما تقوم على السلم. ولقد عبر بول اليوار عن هذا النضال بين النظريات الفكرية المتناقضة في شعر رائع.
يجعلنا الواقع الموضوعي للمجتمعات ندرك، في كلتا الحالتين، ـ حالة الرأسمالية والبرجوازية الكبرى من جهة وحالة الاشتراكية والحركة العمالية من جهة ثانية ـ نضال الأفكار لأن حياة المجتمع الروحية هي انعكاس لحالته المادية.
وتتعدد وجوه حياة المجتمع الروحية من فن وقانون ودين، الخ. ولا يمكننا أن ندرس هذه الوجوه جميعاً بالتفصيل. وإذا رجع القاريء إلى كتاب "النزعة المادية الجدلية والنزعة المادية التاريخية" لوجد ستالين يلح في القول على الأفكار الاجتماعية والنظريات الاجتماعية والآراء السياسية والمؤسسات السياسية وذلك نظراً لأهميتها العملية الكبرى.
الأفكار الاجتماعية: وهي الأفكار التي يكونها الفرد في مجتمع معين حول مكانه في الوجود، وكذلك الأفكار عن الملكية والأفكار الأخلاقية عن العائلة والحب والزواج وتربية الأطفال (أو ما يسميه فلوبير بالأفكار "الموروثة") وكذلك الأفكار التشريعية. مثال ذلك الفكرة البرجوازية القائلة بأن حق الملكية "حق طبيعي" قائم بذاته. وتعبر هذه الفكرة عن الواقع المادي، وهو أن الملكية الخاصة هي أساس المجتمع البرجوازي، ولما كانت ملكية وسائل الإنتاج لا تُمس في نظر البرجوازية المتملكة، كانت فكرة الملكية الخاصة، في رأي الأخلاق البرجوازية، معطى أساسياً.
النظريات الاجتماعية: وهي النظريات التي تجعل من الأفكار الاجتماعية التي أشرنا إليها سابقا مذهبا وعقيدة تجريدية. مثال ذلك نظرية "المدينة" عند أفلاطون، ونظرية الدولة عند هوبس وجان جاك روسو وهيجل ونظريات الخياليين الاجتماعية أمثال بابوف وسان سيمون الخ...
الآراء السياسية: وهي الآراء الملكية أو الجمهورية المحافظة أو المتحررة الفاشية أو الديمقراطية الخ...
والأفكار حول حرية الرأي والاجتماع والتظاهر الخ..
المؤسسات السياسية: أي الدولة ومختلف أجزاء نظام الدولة. وهناك فرضية ماركسية مهمة جدا تعتبر الدولة عنصراً من حياة المجتمع الروحية فهي تعكس حياته المادية.
2 – التفسِيرَاتُ المثَاليَّة
فلنعد إلى الموقف المثالي الذي بدأنا منه فهو أكثر المواقف انتشاراً ويتخذ وجوهاً
عدة منها:
أ) أقدم النظريات وأشدها غموضا هي النظرية الدينية اللاهوتية. فهي ترى في حياة المجتمعات المادية انعكاساً للفكرة الإلهية وتحقيقاً لمخطط وضعته العناية الالهية. فالنظام الاجتماعي صادر عن الإرادة الآلهية. ولما كانت الطبيعة والعقل البشري لا يتغيران فكل تغيير في المجتمع كفر والحاد وهو من عمل الشيطان لأنه مس لارادة الله، ولهذا كانت كل فكرة تدعو للتغيير آثمة. وقد تولد عن هذه النظرة النزعة الأكليركية التي تقول بأن الأكليروس، وهو المؤتمن على اسرار الله، يمكنه أن يضمن النظام "الاجتماعي" وقامت البرجوازية الثورية بمحاربة هذه النظرية التي كانت تلائم تماماً المجتمع الإقطاعي.
ب) ثم تأتي نظرية مثالية جوهرها برجوازي وقد توسع بها فلاسفة القرن الثامن عشر الفرنسي. فقد قاموا بمحاربة "الحق الإلهي" باسم "الحق الطبيعي" و "الديانة الطبيعية" وباسم "العقل". فكانوا يقولون بأن النظام الاقطاعي فوضى لأنه لا يتفق ومتطلبات العقل الذي يجد كل إنسان صورته في نفسه. يجب إذن تغيير المجتمع باسم العقل الشامل الخالد، فيصبح النظام الاجتماعي أخيراً انعكاساً للنظام العقلاني.
وهذه النظرية كالسابقة مثالية بالرغم من أنها تمثل خطوة للإمام بالنسبة للنظرية السابقة لأنها تعبر عن أفكار البرجوازية الثورية أمام أفكار الإقطاعية الرجعية. فهي لا تتساءل عن أصل الأفكار بل هي تعتبرها معطى اولياً يتولد منه واقع المجتمعات المادي.
يجب أن نلاحظ، مع ذلك، أن فلاسفة القرن الثامن عشر الماديين – ولا سيما هلفتيوس أدركوا أن أفكار الإنسان هي ثمرة تربيته. كما إنهم ألحوا على القول حول تعدد النظريات الفكرية في المجتمعات عبر الزمان والمكان ـ ولكنهم كانوا يجهلون علم المجتمعات الذي سيؤسسه ماركس، ولذلك عجزوا عن الاندفاع في التحليل أكثر مما فعلوا.
ج) يجب أن نعترف لهيجل بمكانة مهمة. فلقد قام في كتابه "فلسفة التاريخ" بدراسة العلاقات بين التطور المادي والتطور الروحي في المجتمع. ولما كان مثالياً فلقد أقام "الفكرة" السيدة، في البدء، التي تولد المجتمع ولا تقل في ذلك عن الطبيعة. وما التاريخ إلا عبارة عن تطور الفكرة. وهكذا يصبح تاريخ اليونان القديم عبارة عن تجلي فكرة الجمال. وكذلك يكون سقراط وعيسى المسيح ونابوليون لحظات من لحظات الفكرة.
ولما كان هيجل جدلياً فهو يقوم في بعض الأحيان بتحاليل رائعة. غير أن نزعته المثالية تقضي به إلى أن يجعل للرجال العظام دوراً كبيراً مبالغا فيه فيمسون العوامل الوحيدة للتقدم التاريخي. كان لا بد لهذا الجانب من فلسفة هيجل أن تستغله بوقاحة الفلسفة الفاشية التي تعتقد أن الشعب لا شيء، وأن "السوبرمن" المعصوم هو كل شيء. ولهذا قال أحد المعجبين بالدوتسي "الفاشية هي ما يفكر به موسوليني في هذه اللحظة" كما كان هتلر يقول أمام فرق الصاعقة: "سأفكر من أجلكم".
د) الصورة الأخرى للنزعة المثالية علم الاجتماع الذي وضعه دور كهايم وزملاؤه.
لربما تولت الكثيرين الدهشة إذا قلت لهم بأن علم الاجتماع الذي وضعه دور كهايم مثالي. ألم يهاجم علماء الاجتماع اللاهوت والميتافيزيقا؟ ألم يحاولوا دراسة الوقائع الاجتماعية (كالمؤسسات، والقانون، والعادات) دراسة موضوعية حسب تطورها وهم خالو الذهن من أي رأي سابق بصددها. لا شك أنهم أرادوا ذلك ولكن الفرق الكبير بين الارادة والفعل. إذ أن علماء الاجتماع البرجوازيين، عادة، يفسرون التغيرات المادية بواسطة نمو "الوعي الجماعي" الذي يظل سراً غامضا في ذاته. فيبدو تاريخ المجتمعات عندئذ كتحقيق مستمر للمطامح الأخلاقية التي تكمن في الوعي الإنساني منذ العصور الأولى. فلماذا يتطور "الوعي الاجتماعي" باتجاه معين ولا يتخذ أتجاها أخر؟ لا أحد يدري. ذلك لأن علماء الاجتماع يجهلون (أو يتجاهلون) الإنتاج، ونضال الطبقات وهما من عوامل التاريخ. بل يفضلون العوم على السطح. فإذا وجد الضمان الجماعي فما ذلك الا لأن "الأفكار تطورت" لأن كل شيء يرجع كما ترى فلسفة ليون برنشفيك إلى "تقدم الوعي".
هـ) يجب أن نشير إلى أن من بين أبطال النزعة المثالية المندفعين في هذا الميدان برودون الذي تحدثنا عنه سابقا يرى برودون أن تاريخ المجتمعات هو تجسيد مستمر لفكرة العدالة "الكامنة" في "الوعي" منذ بداية الإنسانية. ولهذا كانت علاقات الإنتاج تحقيقاً "للمقولات الاقتصادية" التي ترقد في "عقل الإنسانية". وهذا الوعي غير المحدث ـ أو "العبقرية الاجتماعية" كما يقول برودون ـ ماثل في التاريخ بأكلمه. فهو يفسر كل شيء ولا شيء يفسره. ولما كان الوعي هو ما هو عليه انتهى الأمر ببرودون إلى إنكار واقع التاريخ نفسه.
ليس من الصحيح القول بأن شيئا من الأشياء يحدث أو أنه ينتج لأن كل شيء موجود في المدنية وفي الكون يفعل منذ القدم. وكذلك شأن الاقتصاد الاجتماعي" ولا شيء جديد تحت الشمس. وهكذا يزول التاريخ بجرة قلم.
نلاحظ أن برودون الذي يثور دائماً ضد الجزويت ورجال اللاهوت باسم الوعي ـ برودون الذي يتبجح بمعارضة "نظام الثورة" (أي نظامة) "بنظام الوحي"، برودون الذي يخيفه تنظيم البروليتاريا الثوري فيتولاه الذعر أمام العمل فيجعل من حزب العمال "كنيسة" كما يفعل اليوم زملاؤه الاشتراكيون الديمقراطيون ـ هو نفسه ضحية الأفكار الأكلييركية التي يخيل إليه أنه يحاربها. لأن "الوعي" بالنسبة للبرجوازي الذي يخيل إليه أنه معيار العالم والتاريخ ليس سوى الآله القديم بعد أن أصبح علمانياً بصورة غامضة. وهكذا تكون فلسفة برودون مثالية في أصلها.
وقف ماركس في وجه هذه الفلسفة في أحد كتبه الرائعة: "بؤس الفلسفة" (1847) فكتب يقول: "لنقل كما يقول السيد برودون أن التاريخ الحقيقي الذي يسير حسب الزمن هو التتابع التاريخي الذي ظهرت فيه الأفكار والمقولات والمبادىء" .
فلقد كان لكل مبدأ عصره الذي ظهر فيه، فظهر مبدأ السلطة، مثلاً، في القرن الحادي عشر، كما ظهر مبدأ النزعة الفردية في القرن الثامن عشر. وهكذا كان العصر ينتمي للمبدأ وليس المبدأ هو الذي ينتمي للعصر، أي أن المبدأ هو الذي يضع التاريخ وليس التاريخ هو الذي يضع المبدأ. حتى إذا ما تساءلنا، كي ننقذ المباديء والتاريخ معاً، لماذا ظهر مبدأ ما في القرن الحادي عشر أو في القرن الثامن عشر بدلا من أن يظهر في عصر أخر، اضطرنا ذلك للبحث عن حالة الناس في القرن الحادي عشر وحالتهم في القرن الثامن عشر، وما هي حاجاتهم وقواهم الإنتاجية وطريقتهم في الإنتاج والمواد الأولية لهذا الإنتاج وأخيراً كيف كانت العلاقات بين الناس، تلك العلاقات التي هي ثمرة لهذه الظروف الحياتية.
أليس تعمق جميع هذه المسائل هو صنع للتاريخ الحقيقي للناس في كل عصر وتمثيل هؤلاء الناس على أنهم أبطال مأساتهم وممثلوها في نفس الوقت؟ ولكن حينما ننظر للناس على أنهم ممثلو تاريخهم وأبطال هذا التاريخ نصل من وراء ذلك إلى نقطة البداية الحقة لأننا تخلينا عن المبادىء الخالدة التي تحدثنا عنها آنفا .
ويصح نقد ماركس لبرودون على جميع صور النزعة المثالية التي اشرنا اليها في المقاطع (أ) (ب) (ج) (د) لاننا نجد في جميع هذه الحالات أن الواقع ينظر إليه بالمقلوب حتى يصبح تفسير الأفكار الحسي غير مفهوم. وتدلل النزعة المادية الجدلية، التي تعيد الأشياء إلى أوضاعها الصحيحة، على أن الأفكار الاجتماعية هي انعكاس لتطور التاريخ المادي الموضوعي. لأن النزعة المادية الجدلية وحدها هي التي تقيم دعائم علم النظريات الفكرية.
فالنزعة المثالية تعلن عن الأفكار وتقوم بعرض لها آخذة على "النزعة المادية" "الملعونة" أنها تنكر الأفكار (وسنرى أن هذا غير صحيح) والحقيقة أن النزعة المثالية تتحدث عن الأفكار بقدر جهلها لها، فهي تطلب منها أن تفسر كل شيء وأن ظلت هذه الأفكار غير مفهومة لها.

3 ـ النظريَّة المَاديّة الجَدليَّة
إذا صح أن الطبيعة والكينونة والعالم المادي هي المعطى الأول بينما الوعي والفكر هما المعطى الثاني المشتق من المعطى الأول، إذا صح أن العالم المادي هو واقع موضوعي يستقل في وجوده عن وعي الناس، بينما الوعي هو انعكاس لهذا الواقع الموضوعي فأن نتيجة ذلك أن حياة المجتمع المجتمع المادية وكينونته هما أيضا المعطى الأول بينما حياة المجتمع الروحية هي المعطى الثاني المشتق من المعطى الأول، وأن حياة المادية هي واقع موضوعي يستقل في وجوده عن إرادة الإنسان، بينما حياة المجتمع الروحية هي انعكاس لهذا الواقع الموضوعي ولهذه الكينونة .
وهكذا تكون النظرية القائلة بأن حياة المجتمع الروحية تعكس حياته المادية نتيجة مباشرة للنزعة المادية الفلسفية التي عرضناها في الجزء الثاني من هذا الكتاب (ولا سيما في الدرس العاشر).

أ) - حَياة المجْتَمع المَادَية وَاقع مَوضُوعي مَوجُود مُستَقلاً عَن الوَعي وَعنْ إرادة الأفراد والإنسَان عَامَّة
سمى بعض المفكرين المثاليين هذا الواقع الموضوعي المستقل عن الوعي بالقضاء المحتوم ولقد جدد الوجوديون الألفاظ مع احتفاظهم بنفس الشيء، فهم يتحدثون عن "الإنسان ـ الملقى به ـ في العالم" وعن "وضع" الإنسان. وسوف نرى في الجزء الرابع من هذا الكتاب المخصص للنزعة المادية التاريخية أن هذا الوضع ليس سراً وأنه يمكننا أن ندرسه بصورة علمية.
وسوف ندرك، بدراسة بعض الأمثلة، ما هو هذا الواقع الموضوعي المستقل عن الوعي.
حين أخذت البرجوازية الفتية الأوروبية، في عصر الإقطاع، ببناء المصانع الكبيرة، كانت تجهل نتائج هذا "التجديد" الاجتماعية الذي سيؤدي إلى ثورة ضد السلطان الملكي الذي كانت تنعم بعطفه (بعد أن شجعت الملكية المصانع الجديدة) كما أدت إلى ثورة ضد طبقة النبلاء التي كانت تحلم بدخولها!
حتى إذا ما أدخل الرأسماليون الروس الصناعة الحديثة الضخمة إلى روسيا في عهد القياصرة لم يدركوا أنهم يمهدون بذلك لانتصار الثورة الاجتماعية في المستقبل.
وحينما دخل صانع الأحذية، الذي يتحدث عنه ستالين في كتابه "فوضوية أم اشتراكية ؟"، في خدمة ادلخنوف فأنه كان يجهل أن النتيجة البعيدة لهذا القرار، الذي كان يظنه مؤقتا، ستكون انضمامه إلى الأفكار الاشتراكية .
حينما أقام الاستعماريون الأمريكان، ثم الرأسماليون الغربيون، الحصار الاقتصادي حول الاتحاد السوفياتي والديمقراطيات الشعبية عام 1947 على أساس مشروع مارشال، لم يخطر ببالهم أنهم يعملون بذلك على تكون سوق عالمي جديد، سوق اشتراكي يقضي على السوق الرأسمالي الوحيد القديم .
ذلك هو القضاء المحتوم الذي يدور حوله الكثير من القصص. يؤدي النضال من أجل ارضاء المصالح المباشرة الى نتائج اجتماعية بعيدة عن إرادة أولئك الذين قاموا بهذا النضال. وليست هذه المصالح المباشرة اعتباطية لأنها صدى للوضع الموضوعي في فترة معينة وفي مجتمع معين وفي طبقة اجتماعية معينة.
وهذا جزء مهم من النزعة المادية التاريخية عبر عنه ماركس بقوله:
يدخل الناس، خلال الإنتاج الاجتماعي لوجودهم، في علاقات معينة ضرورية مستقلة عن ارادتهم، وهي علاقات إنتاجية تمثل درجة معينة من نمو قواتهم المادية .
مثال ذلك أن العلاقات الرأسمالية للإنتاج لم يخترها الناس بأنفسهم لأن نمو قوى الإنتاج، وسط المجتمع الإقطاعي، يؤدي بالضرورة إلى تكوين علاقات رأسمالية للإنتاج، وليس غيرها سواء أراد الناس ذلك أم لم يريدوا. وهكذا يُجبر كل جيل جديد على الخضوع لظروف موضوعية. فهل هذا هو القضاء المحتوم؟ كلا. لأننا ـ سنرى ـ أن الدراسة العلمية للعلاقات الموضوعية للإنتاج تسمح لنا بفهم طبيعتها والتنبؤ بتطورها والإسراع بها.
أما القول "باستقلال" الذهن، في كل مناسبة، كما يفعل المثاليون، فأن ذلك جهل للظروف الموضوعية التي تفرض نفسها على الذهن وهو لا يدري منها شيئا. لأن هذا هو حظ المفكر المثالي التعس. فهو يعتمد على وعيه دون أن يتساءل عن الظروف الموضوعية التي تعمل على وجود هذا الوعي وفعله فيخيل إليه أن الوعي يكتفي بذاته. وهذا وهم تحاربه النزعة المادية. نخلص من الملاحظات التي قدمناها إلى نتيجة مهمة عملية. فلقد برهنا على أن تغييرات مهمة مادية قد تمت عبر التاريخ دون أن يعي الذين شاركوا فيها أو أثاروها نتائجها أو يريدوا هذه النتائج. من الخطأ القول، إذن، بأن الثورة الاشتراكية لن تحدث في بلد إلا إذا آمن جميع العمال سابقا بالنظرية الثورية. لأن ملايين الناس الذين صنعوا بأيديهم، في تشرين الأول سنة 1917، الثورة لم يكونوا بعيدي النظر كما كان لينين أو البلشفيك وهم طليعة الثورة العلمية. ولكنهم حين قاموا بهذه المهمة التاريخية الكبرى كانوا يعملون على تغيير وعيهم الخاص وانتصار الإنسان الجديد، وهو انتصار تنبأ به ماركس علمياً.

ب) – حَياة المجتمع الرّوحيَّة انعكَاس لواقِع المجْتمع المَوضُوعي
ليست إرادة الناس هي التي تحدد، بصورة اعتباطية، العلاقات الاجتماعية، كما قلنا. بل أن وعي الناس يحدده واقع المجتمع المادي الذي هم أعضاء فيه.
غير أن هذا المجتمع ـ وسنعود لتفصيل ذلك في الجزء الرابع من هذا الكتاب ـ لم تولده معجزة. بل هو مجموعة العلاقات التي تكونت لتؤمن للناس نضالا ينتصر على الطبيعة، وهي علاقات يحددها، بالضرورة، مستوى قوى الإنتاج التي يملكها الناس والتي يجب عليهم التلاؤم معها. (لا يمكن أن تكون العلاقات بين الناس منذ عشرة آلاف سنة هي نفس العلاقات التي أوجدتها الصناعة الحديثة الكبرى).
حتى إذا ما أردنا أن ندرك كيف تكون الأفكار الاجتماعية انعكاسا للمجتمع وجب علينا النظر إلى هذا المجموع المعقد.
يدلل التاريخ على أنه كان للناس، في عصور مختلفة، أفكار ورغبات مختلفة فما ذلك إلا لأن الناس كانوا في هذه العصور المختلفة يناضلون ضد الطبيعة بصور مختلفة من أجل معيشتهم، ولهذا ارتدت علاقاتهم الاقتصادية طابعا مختلفا. فلقد جاء زمن كان الناس فيه يناضلون ضد الطبيعة مشتركين على أساس الشيوعية البدائية، فكانت ملكيتهم نفسها، في ذلك الوقت، شيوعية، ولهذا لم يكونوا يميزون بين "ما يخصني" و "ما يخصك" فكان وعيهم شيوعيا. ثم جاء زمن تسرب فيه التمييز بين "ما يخصني" و "ما يخصك" إلى الإنتاج، فاتخذت الملكية من ثمَّ طابعاً خاصاً فردياً. ولهذا تسرب الشعور بالملكية الفردية إلى وعي الناس. وأخيرا أقبل الزمن ـ وهو زماننا ـ الذي اتخذ فيه الإنتاج طابعاً اجتماعياً جديداً. ولهذا لم تعتم الملكية بدورها، أن اتخذت طابعاً اجتماعياً وأخذت الاشتراكية تتسرب شيئاً فشيئا إلى وعي الناس .
ندرك الآن خطأ النزعة المادية الساذجة، فهي تلاحظ أن ليس هناك فكر بدون دماغ فتستنتج من ذلك أن الأفكار الاجتماعية تقوم على أساس عضوي صرف. فإذا ما غيرنا جسم الإنسان غيرنا بذلك أفكاره السياسية!
تلاحظ النزعة المادية الفلسفية، بحق، أن الدماغ هو عضو التفكير. وأن هذا الدماغ نفسه مرتبط بالظروف الموضوعية التي تعمل على وجود الناس: فهو دماغ كائن اجتماعي. أو كما كتب ماركس يقول: "الإنسان في واقعه هو مجموع العلاقات الاجتماعية ". ينعكس إذن في دماغ المفكر "مجموع العلاقات الاجتماعية" (أما أن الإنسان يجهل ذلك أو أن أحد فلاسفة الجامعات لم يفكر به فهذا لا يغير من الأمر شيئا).
والدين أصدق مثال على أن الأفكار انعكاس للواقع.
يقول المثاليون، على غرار اللاهوتيين، أن كل إنسان يجد من تلقاء نفسه في داخله فكرة الله، وأن هذه الفكرة موجودة منذ بداية الإنسانية، وأنها سوف تستمر باستمرارها.
والواقع أن فكرة الله هي ثمرة وضع الناس الموضوعي في المجتمع القديم.
ويقول انجلز أن الدين يولد من نظريات الإنسان المحدودة، وهذه النظريات محدودة بعجز الناس البدائيين المطلق تقريبا أمام الطبيعة المعادية التي كانوا لا يفهمونها. وهي محدودة من ناحية ثانية بتعلقهم الأعمى بالمجتمع الذي لا يفهمونه والذي كان يبدو لهم أنه تعبير عن إرادة سامية. وهكذا كانت الآلهة، وهي الكائنات المهمة الجبارة المسيطرة على الطبيعة والمجتمع، انعكاساً ذاتياً لعجز الناس الموضوعي أمام الطبيعة والمجتمع.
وكان على تقدم العلوم الطبيعية والاجتماعية أن يظهر طابع المعتقدات الدينية الوهمي (الاعتقاد بوجود آلهة متعددة ثم الاعتقاد بوجود آله واحد). ومع ذلك فطالما استمر استغلال الإنسان للانسان استمرت الظروف الموضوعية التي تحمل على الاعتقاد بوجود كائن فوق البشر يوزع السعادة والشقاء على الناس. أو كما يقولون: "الإنسان يرجو ويأمل والله يحكم ويقرر".
ولهذا كان الفلاح في روسيا القديمة، وقد أرهقه الفقر وفقد كل أمل بالمستقبل، يستسلم للإرادة الآلهية. ولقد جاءت الثورة الاشتراكية فوضعت في يد المجتمع السيطرة على قوى الإنتاج ومكنته، في نفس الوقت، من إدارة المجتمع بصورة علمية، كما زادت في سيطرته على الطبيعة. فوجدت عندئذ الظروف الموضوعية لتنمحى من وعي الناس الأفكار الدينية التي ولدتها ظروف موضوعية أخرى.
وكذلك فأن الأفكار الأخلاقية هي انعكاس للعلاقات الاجتماعية الموضوعية وللتطبيق العملي الاجتماعي. يرى المثاليون في الأخلاق مجموعة من المبادىء الخالدة المستقلة عن الظروف الخارجية فهي تأتينا من عند الله أو يفرضها علينا "الضمير" المعصوم عن الخطأ. ولكن يكفي أن نعلم أن الوصية القائلة "لن تقتل قط" لم توجد وتصبح ذات مغزى ألا بعد أن ظهرت الملكية الخاصة.
وسوف تفقد فكرة السرقة، في المجتمع الشيوعي، كل أساس واقعي لأن أزدياد الخيرات سيبلغ حداً تزول معه الحاجة إلى السرقة. فكيف نتحدث إذن عن أخلاق خالدة؟ تتغير الأخلاق مع المجتمع وبواسطته. ولما كان المجتمع يتطور بواسطة نضال الطبقات فأن هناك نضالاً آخر بين أخلاق الطبقة المسيطرة وأخلاق الطبقة المستغلة (بالفتح)، يسيطر على الأخلاق الأولى روح محافظ أو رجعي، ويسيطر على الأخرى روح ثوري. ولما كانت الطبقة المسيطرة تملك، خلال سنوات طويلة، الوسائل القوية لفرض أفكارها فأن ملايين الناس تقبل أخلاق الطبقة المسيطرة على أنها الأخلاق الوحيدة. ويذهب ضحية هذا الوهم أعضاء الطبقة المسيطرة أنفسهم.
ولنضرب لذلك مثلا: قامت البرجوازية الفرنسية الثائرة في القرن الثامن عشر بهجومها ضد الإقطاع باسم الحرية والعقل والعدالة الخالدة. فكانت تجعل من مصالح، كطبقة ثورية، مصالح الإنسانية عامة. وكانت مخلصة في ذلك.
غير أن انتصار الثورة البرجوازية جعل للكلمات معناها الحقيقي والتاريخي. فدللت على أن هذه الأفكار الأخلاقية الشاملة هي التعبير عن المصالح الخاصة بطبقة معينة: الحرية؟ أجل حرية البرجوازية بأن تنتج وتتاجر من أجل أرباحها الطبقية، وأن تحتفظ لنفسها بالسلطة السياسية الخ..
وكانت تأبى هذه البرجوازية، التي قامت بالثورة تحت شعار الحرية، على البروليتاريا حرية تأليف النقابات والنضال عن طريق الاضراب. الخ. فشنقت "بابوف" باسم الأخلاق الخالدة لأنه أراد إلغاء الملكية البرجوازية. ولهذا قال انجلز:
"نعلم اليوم أن حكم العقل هذا لم يكن سوى حكم البرجوازية فكرياً، وأن العدالة الخالدة كما أعلن عنها آنئذ قد تحققت تماماً في العدالة البرجوازية .
فهل يعني هذا أنه لن يكون هناك قط أخلاق شاملة؟ كلا. فلسوف تصبح الأخلاق عامة بين الناس حين تتحقق، بصورة موضوعية، الظروف الاجتماعية التي تجعل هذه الأخلاق فعالة ـ أي حين يلغي انتشار الشيوعية العالمي كل تعارض للمصالح بين الناس، كما يلغي جميع الطبقات.
يفتح نضال البروليتاريا الثوري ضد البرجوازية (وضد أخلاقها الشاملة المزعومة) الطريق أمام انتصار أخلاق شاملة إنسانية وليس انتصار فلسفة المثاليين المشوشة. أفلا يمكننا، اليوم، أن نتوصل لهذه الأخلاق الشاملة؟ كلا. فلقد تحققت مبادئها التي تدعو للتعاون الأخوي، لأول مرة منذ المجتمع الرأسمالي، في أخلاق الطبقة الثورية الا وهي البروليتاريا. ولا سيما في البلاد التي انتصرت فيها الثورة الاشتراكية. فبينما أقامت البرجوازية، في قضائها على الإقطاع، استغلالا مكان آخر فلقد قضت البروليتاريا، بقضائها على الرأسمالية، على كل استغلال للإنسان بواسطة الإنسان.
لأن القضاء على التناقضات الطبقية يمهد السبيل لازدهار الأخلاق الشيوعية الشاملة التي تكون أخلاق طبقة البروليتاريا الثورية أول صورة لها .
نرى أن تعارض الأفكار الأخلاقية عبر التاريخ، وبصورة عامة، تعارض الأفكار، يعكس تعارض المصالح في الطبقات الاجتماعية المتناحرة. ولهذا يمكننا أن نفهم سبب تطور الأفكار الاجتماعية. فإذا انتقلت البرجوازية، مثلا، في فرنسا، خلال مئة وستين عاما، من النزعة الشمولية الأخلاقية القائلة بأن الناس جميعا أخوة إلى النزعة العنصرية الفاشية القائمة على كراهية اليهود واضطهاد العمال الأفريقيين الشماليين، فأن ذلك يفسره تطور هذه الطبقة المادي. فهي كانت تعتقد، حين كانت ثورية كانت ثورية، أنها تستطيع التكلم باسم جميع الناس. حتى إذا ما هددها الخطر بررت سيطرتها وادعت صفاء دمها، وهكذا كان يفعل الإقطاعيون!

ج) – كيفَ تتولَّد الأفكَار الجَديدَة وَالنظريَّات الاجتماعيَّة الجَدِيَدة
تعتقد النزعة المثالية أن الأفكار تتولد في ذهن الناس دون أن يعرفوا سببها مستقلة عن ظروف حياتهم. غير أن النزعة المثالية تعجز عن الرد على السؤال التالي: لماذا ظهرت فكرة ما في أيامنا هذه ولم تظهر في القدم؟
لا تعتقد النزعة المادية الجدلية، وهي التي لا تفصل قط الأفكار عن أساسها الموضوعي، ولا تؤمن بأن الأفكار الجديدة تتولد بصورة سحرية. تتولد ألأفكار الجديدة كحل لتناقض موضوعي نشأ في المجتمع. فنحن نعلم بأن الدافع على كل تغيير هو التناقض ( انظر الدرس الخامس). لأن نمو التناقضات داخل مجتمع معين يثير مهمة حلها عند اشتدادها. فتظهر حينئذ الأفكار الجديدة كمحاولة لحل هذه التناقضات.
وهكذا فأن نمو التناقضات الخاصة بالمجتمع الإقطاعي ـ أي الانفصال بين علاقات الإنتاج القديمة وقوى الإنتاج الجديدة ـ هو الذي ولد الأفكار الثورية في الطبقة الصاعدة: فإذا بنا نشهد ظهور مشاريع الإصلاح الاجتماعي والسياسي بالمئات. ولقد حدث ما يشبه ذلك في المجتمع الرأسمالي، فقد تولدت الأفكار الاشتراكية لحل التناقضات التي كان يشقى بها ملايين الرجال والنساء والأطفال. ومما يميز كبار المجددين قدرتهم على حل المشاكل التي هي انعكاس لتناقضات المجتمع الموضوعية، والتي تعترض وعي معاصري هذه المشاكل.
لأن الإنسانية لا تثير سوى المشاكل التي يمكنها أن تحلها، ولأن المشكلة لا تبدو الا حيث توجد الظروف المادية لحلها أو أن هذه الظروف قد أخذت في الظهور .
وتبدو هذه الجملة غير مفهومة لمن لم يتعرف على النزعة المادية الجدلية وهي تفسر كما يلي: أن من يقول بوجود "مشكلة" يقول بوجود "تناقض" يجب حله. وما التناقض سوى نضال بين القديم والجديد! فإذا ما ظهر تناقض ما فمعنى ذلك أن الجديد قد وجد بصورة جزئية ولو أنه لم يولد بعد. مثال ذلك أن الخطر لا يمكن أن يهدد المجتمع الإقطاعي إلا حين تأخذ القوى المتناقضة في داخله، بالعمل، تلك القوى التي ستقضي عليه فيما بعد (وهي الصناعة والبرجوازية).
وكان حل هذه المشكلة هو انتصار هذا الجديد الذي كان يبحث عن طريقة للظهور.

د) – مَسْألة الآثَار البَاقية
تتيح لنا النظرية التي عرضناها في هذا الدرس أن نوضح ميزة مهمة لتاريخ الأفكار إلا وهي مسألة الآثار الباقية
فهناك أثر باق حين تستمر فكرة في الأذهان بينما زالت الظروف الموضوعية التي يقوم عليها وجودها.
وهناك نظرية أساسية في النزعة المادية الفلسفية تقول بأن الوعي لاحق للواقع المادي (الطبيعة والمجتمع). فالوعي يتأخر عن الوضع الموضوعي. وهكذا يعيش الحذّاء الذي تحدث عنه ستالين حياة عامل بصورة موضوعية بينما هو يحتفظ بعض الوقت بوعي برجوازي صغير.
وكذلك يتأخر الناس، الذين يعيشون في مجتمع يتغير، في إدراكهم لهذه التغيرات. حتى إذا ما ظهرت هذه التغيرات حاولوا البحث عن الحلول بين الأفكار القديمة التي احتفظوا بها من الماضي. وتقف هذه الأفكار الباقية من الماضي (وهي الأفكار التي ولدت في ظروف موضوعية قديمة) في وجه الأفكار الجديدة التي تتعلق بالظروف الموضوعية الجديدة. مثال ذلك: كان العمال الذين كانت تستغلهم البرجوازية الصناعية، في مطلع الرأسمالية، يبحثون عن حل لشقائهم في عودة خيالية إلى الصناعة اليدوية فأخذوا في تحطيم الآلات.
ولكن على الأفكار الباقية أن تتراجع كلما نمت التناقضات الموضوعية، فتبدو العودة إلى الماضي مستحيلة، بينما يقوى ساعد الأفكار الجديدة، التي تتفق مع القوى الموضوعية الصاعدة.
يمتد وجود الماضي في الوعي حتى يصبح الحاضر غير محتمل فتمس الضرورة للبحث عن الجديد فينتصر المستقبل عندئذ.

4 – الخلاصَة
كان لعنوان هذا الدرس ما يبرره. إذ يجب علينا الاعتماد على حياة المجتمعات المادية لفهم حياتها الروحية، ونستخلص من ذلك بعض التعاليم ذات الأهمية العملية الكبيرة.
1 ـ المشاكل الوحيدة التي يمكن حلها في زمن معين هي تلك التي تثيرها حاجات المجتمع الواقعية. ولهذا يقيم الماركسيون عملهم على دراسة عميقة للظروف الموضوعية، في زمن معين، ولهذا كان عملهم مثمراً. فهم يعارضون في ذلك نزعة "بلوم" المثالية التي تنكر طابع الوقائع الاجتماعية المادي، ولا سيما الوقائع الاقتصادية، فتجعل من الاشتراكية نزعة صوفية، فيكون بذلك مصير كل عمل الفشل.
2 ـ لا يجب على المناضل الثوري، في علاقاته مع العمال، أن يكتفي بما يفكر به هؤلاء العمال. فالأفكار شيء والظروف المادية شيء آخر. إذ يمكن للعامل أن يخضع، على غير وعي منه، لتأثير الأفكار البرجوازية فتكون أفكاره محافظة.
فهل هذا مما يدهش؟ كلا. لأن الطبقة المسيطرة، في نفس الوقت الذي تستغل فيه العمال، تبذل كل جهدها لإقناعهم بأن هذا هو الكمال. (ذلك لأن الأخلاق الرسمية التي تلقن في المدارس لا تعلم النضال الطبقي بل الرضى بالواقع).
فلا يجب إذن مؤاخذة هذا العامل لأن أفكاره الخاطئة تعبر عن الواقع الموضوعي لمجتمع تسيطر فيه البرجوازية. وفوق هذا يعمد الثوري، بالإضافة إلى تعدد الآراء التي تفرق بين العمال، إلى التحليل المادي للظروف الموضوعية فيوضح وحدة المصالح.
وهكذا تقوم وحدة العمل. وتصبح وحدة العمل هذه ممكنة لأن ما يحدد ظروف النضال الطبقي ليست الأفكار بل ظروف النضال الطبقي هي التي تحدد الأفكار. ولهذا توجه موريس توريز إلى العمال الكاثوليك عام 1936 بقوله: أنهم عمال مثلنا نحن الشيوعيين. فلنتحد في النضال المشترك من أجل مصلحة شعبنا ووطننا ".
3 ـ دللنا في هذا الدرس على أن تغير الأفكار له أساس مادي. ولهذا نتائج مهمة في تربية العمال الثورية، إذ لا يمكن تمثل الأفكار الثورية إلا في النضال وبواسطته في المصنع وفي المكتب. ويجعل النضال الاجتماعي (وهو ظرف موضوعي) التغيرات المهمة في وعي العمال ممكنة. (وهذا هو الانعكاس الذاتي). وهكذا يقوم العمال، الذين لم يصبحوا ثوريين، بتجربتهم خلال نضالهم لحل تناقضات المجتمع الرأسمالي الموضوعية. فيكتشفون بمساعدة الطليعة الماركسية اللينينية حلول مصائبهم فيصبحون بدورهم ثوريين.
تعريب شعبان بركات
المكتبة العصرية ..صيدا . بيروت



#جورج_بوليتزر_وجي_بيس_وموريس_كافين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اصول الفلسفة الماركسية .. الدرس الحادي عشر
- اصول الفلسفة الماركسية..الدرس العاشر
- اصول الفلسفة الماركسية . الدرس التاسع
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس الثامن
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس السابع
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس السادس
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس الخامس
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس الرابع
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس الثالث
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس الثاني
- اصول الفلسفة الماركسية


المزيد.....




- طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز ...
- اعتقال عشرات المتظاهرين المؤيدين لفلسطين في عدة جامعات أمريك ...
- كلمة الأمين العام الرفيق جمال براجع في المهرجان التضامني مع ...
- ال FNE في سياق استمرار توقيف عدد من نساء ورجال التعليم من طر ...
- في يوم الأرض.. بايدن يعلن استثمار 7 مليارات دولار في الطاقة ...
- تنظيم وتوحيد نضال العمال الطبقي هو المهمة العاجلة
- -الكوكب مقابل البلاستيك-.. العالم يحتفل بـ-يوم الأرض-
- تظاهرات لعائلات الأسرى الإسرائيليين أمام منزل نتنياهو الخاص ...
- جامعة كولومبيا تعلق المحاضرات والشرطة تعتقل متظاهرين في ييل ...
- كيف اتفق صقور اليسار واليمين الأميركي على رفض دعم إسرائيل؟


المزيد.....

- تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)* / رشيد غويلب
- مَفْهُومُ الصِراعِ فِي الفسلفة المارْكِسِيَّةِ: إِضاءَةِ نَق ... / علي أسعد وطفة
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 5 :ماركس في عيون لينين / عبدالرحيم قروي
- علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاري ... / علي أسعد وطفة
- إجتماع تأبيني عمالي في الولايات المتحدة حدادًا على كارل مارك ... / دلير زنكنة
- عاشت غرّة ماي / جوزيف ستالين
- ثلاثة مفاهيم للثورة / ليون تروتسكي
- النقد الموسَّع لنظرية نمط الإنتاج / محمد عادل زكى
- تحديث.تقرير الوفد السيبيري(1903) ليون تروتسكى / عبدالرؤوف بطيخ
- تقرير الوفد السيبيري(1903) ليون تروتسكى / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - جورج بوليتزر وجي بيس وموريس كافين - اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس الثاني عشر