أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الجنديل - الارصفة تشرب الصراخ ................... قصة قصيرة















المزيد.....

الارصفة تشرب الصراخ ................... قصة قصيرة


أحمد الجنديل

الحوار المتمدن-العدد: 2498 - 2008 / 12 / 17 - 02:01
المحور: الادب والفن
    



قدماه تقودانه إلى الشارع المكتظ بمحلات الصيارفة المزروعة على جانبيه ، تشاركها المعارض الأنيقة لبيع الملابس النسائية والعطور والأقمشة ، التي تفنن أصحابها في عرض بضاعتهم ، بطريقة جذابة ومغرية ، وازدحام المارة الذين وفدوا للتسوق ، وزعيق أبواب السيارات التي يجد أصحابها صعوبة السير في مثل هذا المكان .
كان يتنقل بصعوبة على إسفلت الشارع بجهد في الشارع ، وفي رأسه تدور خواطر مزدوجة سرعان ما تختفي ، لتخلف وراءها خواطر أخرى ، وهواجس لا يستطيع مساراتها ، فمنذ ثلاثة أشهر ، وهو فريسة البطالة التي بدأت تفتك ، بعد أن طرده صاحب المعمل الذي كان يعمل فيه .
اعتاد محمود الخطـّاف ، من تكثيف نشاطه ، إرضاءً لصاحب المعمل ، خوفا من غضبه الذي يؤدي أحيانا إلى طرده من العمل ، لقد شاهد خلال فترة الفترة التي قضاها في العمل . كم من العمال الذي قذف بهم الحاج رؤوف إلى الضياع لأتفه الأسباب ؟ . كان يعلم حجم المعاناة التي تحلّ به ، إذا كان مصيره كمصير الذين طردوا ، فكان أول مكن يصل إلى الورشة التي يعمل فيها ، وآخر من يخرج منها ، منهمكا في عمله ، متقنا له ، متحاشيا كلّما يؤدي إلى إزعاج الحاج رؤوف ، وابنه المتصابي النزق ، الذي يحلو له التعامل مع الجميع معاملة متعالية ومتغطرسة ، لا تخلو من الكلمات البذيئة .
شعر بالخدر يتسرب إلى ساقيه ، وتضايق من رائحة عفنة ، هبّت عليه من حاوية القمامة المركونة على رصيف الشارع ، اقترب من احد الأزقة ، وحثّ خطاه نحو مقهى صغير ، تهالك على كرسي قديم ، مصنوع من سعف النخيل ، شعر بالتعب والكآبة في آن واحد ، قطعة القماش الصغيرة التي بيده ، أخذت طريقها لتزيل العرق الذي نضحته جبهته ، أحضر له صاحب المقهى قدحا من الماء ، وآخر من الشاي ، دون أن يطلب ذلك ، أفرغ الماء في جوفه بلا توقف . ثلاثة أشهر قضاها بطرق الأبواب ، دون أن يفتح له باب واحد ، عرض جوعه على الكثير ، فلم يجد غير الرفض ، لعن تلك الساعة التي التي ركبه الشيطان فيها ، عندما دخل وسام ابن الحاج رؤوف إلى المعمل ، تفحص وجوهنا ، اتجّه إلى الأحذية المكدّسة التي تم إنجازها ، تأمل واحدا منها ، وصرخ بغضب :
ــــ أيّ حمار منكم ، أنتج هذا ؟
العيون تبحث بعضها مع البعض ، لتجد إجابة ترضيه ، والحذاء الذي بيده خرج من يدي ، وليس فيه عيبا ، أجبته بلهجة رقيقة :
ـــــ هذا من نوبتي الصباحية ، وأظنه أعجبك .
نظر صوبي بحقد ، اتخذت أقصى تدابير الحذر خوفا من غضبه ، إلا أنّ ما كنت أفكّر به تطاير دفعة واحدة ، عندما فوجئت بالحذاء يرتطم بصدري بقوّة ، وبصوت يشبه العواء ، لوّح بوجهي :
ـــــ ماذا يعجبني به يا ابن الزانية ؟ خذه معك إلى بيتك لتدخله في .... أمك .
تناسيت ضربة الحذاء ، وبلعت الإهانة ، وقلت في نفسي :
ــــ أنت فقير ، والفقراء نصيبهم الذل في الحياة ، وعليك أن ترضى بنصيبك يا محمود .
أغلقت نفسي على صمت مرير ، ما ألعن الفقراء عندما يجاهدون من أجل ترويض نفوسهم على الذل الهامد ؟ لم أحرّك ساكنا ، ولم يكتف بذلك ، رماني ببصقة استقرت على وجهي ، عند ذاك تحرك شيطاني ، شيطان الفقراء جبان وغبي ، لا يتحرك إلا بالحذاء والبصاق ، وعندما يستيقظ ، تستيقظ معه كلّ صور الإذلال ووجوه الخزي ، يثور بغباء ، يدمّر برعونة ، ثمّ ينكفئ إلى حظيرة الذل الهامد .
ارتفعت يدي لتهوي على وسام ابن الحاج رؤوف بصفعة أشاعت الذعر في وجوه العمال ، أعقبها حذاء هويت به على رأسه ، تبعه آخر ، سقط إلى الأرض ، وجهه مكشوف أمامي وقد تلبسه رعب مخيف ، كان من السهولة أن أمطر عليه كلّ ما في المعمل من الأحذية ، اكتفيت بما فعلته ، وخرجت مسرعا إلى الخارج ببذلة العمل ، تاركا ملابسي مشنوقة على مسمار داخل الورشة .
كنت حينها راضيا عن نفسي ، فخورا بما عملته ، كنـّا نمنح أباه دماءنا ، يعبث بها متى يشاء ، وعندما تتقافز في داخله جرذان العظمة ، يرمينا إلى الضياع ، مثلما يرمي أعقاب سكائره .
انسلخ الأسبوع الأول من محيط الزمن الذي أعيش فيه ن بعدها بدأت رحلة العناء ، طرق الأبواب ، السؤال الذليل والجواب الأكثر ذلا : ( لماذا يمسخ الإنسان جرذا حقيرا بفعل سياط الفقر المدمّر ؟ ماذا يعني هذا الارتماء ألقسري في الحاضنات التعيسة ؟ الحاج رؤوف أغبى من بغل عجوز ، وأحقر من دودة وسخة ، ولكنه يأمر وينهى ، معدته المندلقة ترسل إشارة إلى لكلّ من يراه عن مقدار النعمة الموفورة التي هو فيها ، ونحن عبيده ، نحمل الوجوه الصفراء ، والبطون الخاوية ، والقلوب الجرداء ، دون أن لأحدنا سببا في ذلك .
ماذا يعني توارث الفقر ؟ من يملك ماكينة مكافحة هذه أللعنة إلتي نمت في أرحام أمهاتنا ، فخرجنا إلى الحياة ننوء بثقلها ؟ .
تلبّد داخله بهمّ إضافي ، بدأ رأسه يرسل أبخرة سوداء تأخذ بخناقه ، صاحب المقهى ، يأخذ الشاي البارد ليستبدله بآخر ساخن ، أراد الابتسام له ، شاكرا له ما فعل ، إلا أنه دخل دوامة الإحباط التي ألغت كلّ ما يدور حوله ، بدأ بالانحدار إلى الأسفل ، سقط في دائرة مزرية من المهانة .
أصوات من بعيد تسمع ، تحرك بعض الجالسين ، خرج صاحب المقهى ولم يعد ، الأصوات تقترب كموج هادر ، لم يعد أحد في المقهى ، طغت الأصوات على صدى الكوابيس الجاثمة على صدر محمود الخطـّاف ، تأمل ما يسمع بارتياب ، أراد أن يستعيد ذاكرته ، طاف بعينيه الذابلتين على أرجاء المقهى ، انتقل نظره إلى الشارع ، حركة غير مألوفة بدت أمامه ، الهتافات يسمعها بوضوح ، كانت تمجّد بالوطن ، انفجرت فيه مشاعر خرساء ، نهض من مكانه وراح يسحب نفسه بجهد ثقيل ن اجتهد على توحيد مشاعره ودفعها في اتجاه واحد ، لم يفلح في ذلك ، عثرت رجله اليمنى لرصيف الشارع دون أن يقع ، التحم مع جموع الغاضبين ، عيناه تسرقان النظر إلى الوجوه القريبة منه ، الأيدي مرفوعة إلى الأعلى تلوح بالغضب ، ارتفعت يداه معلنة انضمامها إلى الجميع دون إرادة واعية منه ، تدلت شفتاه لتنفرجا عن أسنان صفراء ، ولثة قرمزية محتقنة ، وبدأ بالهتاف ، كان صوته خجولا أول الأمر ، ثم أصبح يسمعه بقوّة ، المسافة بين خطاه اتسعت ، وجد نفسه في قلب في قلب الحشد الكبير ، أدار وجهه إلى الخلف ، واجه عشرات الوجوه والصدور المكشوفة ، وجوه نحاسية صدئة ، سمراء داكنة ، صفراء ذليلة ، مشاعره بدأت بالتوحد ، داهمه نزيف الثأر ، جموع الفقراء ، يكشفون ما في نفوسهم بسذاجة مفرطة ، جرفته موجة الغاضبين ، تماسك ، وانطلق معهم إلى الأمام خوفا من وقوعه بين أقدامهم ، تيار عنيف من المشاعر الملتهبة يتربص به ، ليحرقه من الداخل ، اجتاز مقدمة التظاهرة ، أعطى ظهره إلى الجزء الفارغ من الشارع ، وراح يصرخ : ( نموت ويحيا الوطن ) ، الخطوط الأمامية التي تتصدر الحشود ، تردد ما يقوله محمود الخطاف ، انتقل صوته إلى وسط الجموع ، تقدم أحد المشاركين ، رفعه إلى الأعلى ، أجلسه على رقبته وقد تدلت ساقاه إلى الكتفين ، الآلاف يمزق حناجرها زئير الغضب ، الدوار بدأ يهاجمه بعنف ، رغب في النزول إلى الأرض ، إلا أن نظره وقع على لوحة المعمل الذي كان يعمل فيه : ( معمل الإخلاص لصناعة الأحذية ) . تحوّل إلى عفريت بفعل الثورة الراكدة في أعماقه ، ماذا لو يهتف بالجميع : ( يسقط الإخلاص المزيف ) . كان الغضب ينطلق متفجرا ليكتسح صمت الشارع ورتابته ، وفي فورة انفعاله ، شعر أنّ حذاءه سقط من قدمه اليمنى ، لم يكترث لذلك ، وراحت التظاهرة ، تشق طريقها إلى ساحة المدينة ، لم يبق فيه شيء من قدرة المواصلة والاستمرار ، أوشك على السقوط إلى الأرض ، أسرع الذي يحمله إلى حافة الرصيف ، وضعه هناك ، وعاد من جديد ليندمج في المسيرة من جديد .
بقي محمود الخطاف على حاله ، ونظراته شاخصة إلى أفراد عشيرته الذي فارقهم مرغما ، ولمّا توارى الجمع من أمامه ، خلع الحذاء الآخر ، ورماه جانبا ، واتجّه صوب بيته ، وقد غزاه فيض من الإحساس بالرضا ، اقتلع كلّ بؤر البؤس ، الذي كان سابحا فيها قبل قليل .



#أحمد_الجنديل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الجنديل - الارصفة تشرب الصراخ ................... قصة قصيرة