أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - حميد باجو - اليسار والحاجة إلى التجديد المعرفي















المزيد.....



اليسار والحاجة إلى التجديد المعرفي


حميد باجو

الحوار المتمدن-العدد: 2496 - 2008 / 12 / 15 - 09:26
المحور: في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
    


كثيرا ما يتردد في النقاشات الدائرة حاليا وسط اليساريين، أننا لم نعد نفهم ما يجري في المجتمع، وأن كل توقعاتنا السابقة قد جاءت بعكسها، وأن اليسار بشكل عام، قد فقد البوصلة. بعضنا يلعن المشاركة الحكومية، والآخرون يلعنون الطوباوية اليسراوية، ومنا من يتهم الدولة بالتآمر والبعض الآخر يؤاخذ على المثقفين تقاعسهم وعدم تحملهم لمسؤولياتهم في إرشادنا .... ألخ
وقد بدا هذا التضارب في الآراء والتقديرات واضحا مثلا، حين طرحنا في إطار فضاء الدار البيضاء للحوار اليساري سؤال: ماذا يعني اليسار اليوم؟ فجاءت الإجابات متنافرة ومتعددة بتعدد الحاضرين والمتدخلين في ذلك اللقاء. وإذا كان هناك شبه إجماع على الاعتراف بالعجز عن فهم المرحلة وبصعوبة الفعل في الواقع، فإنه لن تجد في المقابل اثنين يتفقان على نفس المدخل أو نفس الوصفة لمعالجة هذا العجز وهذه الصعوبة.
في هذا الإطار كان تقديرنا نحن، أن مشكلتنا اليوم كيساريين، هي في هاته النظارات التي نضعها على أعيننا وننظر من خلالها إلى الواقع، نظارات أصبحت مهترئة ولم تعد تتيح سوى رؤية ضبابية. ما نقصده بالنظارات هو تلك الأدوات النظرية التي تعودنا أن نقرأ بها الواقع، وعلى ضوءها تتحدد طريقة فهمنا له وأساليب اشتغالنا فيه.
عموما يمتح اليسار المغربي أدواته النظرية هاته من مصدرين أساسيين، تراث الحركة الوطنية من جهة وما يحمله من تصورات سواء عن الوطن أو الدولة أو الثوابت الأخرى المفترض أنها تكون هويتنا، ومن تم كل ما يتعلق بنموذج الصراع السياسي الذي بنى عليه اليسار هويته السياسية.
ومن جهة أخرى، تراث الحركة الاشتراكية بشكل عام والماركسية بشكل خاص، وما كرسته هذه الأخيرة من طريقة لتمثلنا للمجتمع، عبر النظر إليه بمنظار الطبقات والاستغلال الطبقي والبروليتاريا والبرجوازية والرأسمال والعمل وفائض القيمة ونمط الإنتاج والتشكيلة الاجتماعية والبنية الفوقية والتحتية ....ألخ
فهذان الصنفان من المفاهيم أو الأدوات النظرية هي التي تؤطر على العموم نظرتنا إلى المجتمع، أو تكون إجمالا فردتي النظارات التي نحملها كيساريين.
بالنسبة إلينا أن مشكلتنا تكمن ربما، في هذه المفاهيم بالذات، أي أننا بسببها، لم نعد نرى ما تجب رؤيته حقيقة في الواقع، وأن ما نتخيله كأنه هو الواقع ليس إلا وهما أو رجع صدى ناتج عن التشويش الذي تحدثه هذه النظارات في رؤيتنا.
لقد سبق وأن طرحت في علاقة بهذا الموضوع، أن من المداخل الأساسية لإعادة بناء اليسار هو إعادة تأسيسه معرفيا. لكن مع الإشارة هنا إلى أن إعادة التأسيس المعرفي هذه لا يجب أن يفهم منها وكأنه يجب أن نغلق على أنفسنا في مكاتبنا وصالوناتنا، لوضع خطاطات نظرية جاهزة ستكون هي الحل السحري لمشكلتنا، ولكن ما نقصده هو ضرورة أن نخرج خلال ممارساتنا ونضالاتنا اليومية من السبل المطروقة سلفا وتجاوز الحدود المتعارف عليها، لنجرب أفكارا وآليات جديدة في الاشتغال، أن لا نبق حبيسي التصنيفات القديمة أو أسرى أصولية يسارية تكفر أو تخون كل من تمرد على مفاهيمها المؤسسة.
بالتأكيد أننا سنكون في هذا التجريب، أمام مخاطر التيه والسقوط في براغماتية عمياء تخبط خبط عشواء، ولهذا سيكون ربما الخيط الوحيد الذي يمكن أن ينقذنا من مثل هذه المخاطر فنتمسك به، أن نبق أوفياء للروح اليسارية الحقيقية، أي أن نكون دائما بجانب الشعب وفئاته المتضررة بالخصوص، وأن يكون مقياسنا الوحيد للحكم على صحة أطروحاتنا أو خطئها، على تقدمنا أو ارتدادنا، هو حاصل ما نقدمه لهذه الأخيرة من مكاسب ملموسة بالمقارنة مع ما يحدث في مجتمعات أخرى مماثلة لنا، ومدى المصداقية والثقة التي تضعها هذه الفئات فينا بناءا على المكاسب المحققة.
سيكون علينا بطبيعة الحال، أن نستفيد من التجارب القديمة والحديثة، وننظر إلى ما ينجز من حولنا، وما جد من إبداعات في مجال الفكر والنظريات، لكن من دون أن نعتمد أي شيئ وكأنه قرآن منزل لا يقبل التحوير.
في هذا الإطار ارتأيت أن أعرض في هذه المقالة، لبعض من الاجتهادات النظرية الجديدة التي استفدت منها شخصيا في السنوات الأخيرة، وذلك من أجل تبادل النقاش فيما بيننا، ولممارسة الاستفزاز الفكري أحيانا في حق بعض العقول الجامدة. سيكون ذلك عبارة عن أفكار أو نظريات جديدة يمكن أن ندخلها تحت عنوان عريض وعام هو: النظرية العامة للأنظمة المعقدة المتكيفة
La théorie générale des systèmes complexes adaptatifs
سأعرضها هنا بشكل خام أو محاولا أحيانا تطبيقها على ظواهر اجتماعية معروفة، مع التأكيد على أن هذه الأفكار هي لا زالت قيد التجريب وتتطلب جهودا من مساهمين متعددين لتشذيبها أو إعادة صياغتها بصورة أكثر اكتمالا.

1- فكرة النظرية العامة للأنظمة
لقد سبق لماركس أن وظف مفهوم البنية لتوصيف الوضع الاجتماعي والطبقي في عصره. وقد تطور هذا المفهوم لاحقا عند باحثين من ميادين علمية أخرى حتى ظهر ما يعرف بالمدرسة البنيوية، ومن ضمنها البنيوية الماركسية كما هو الحال عند ألتوسير مثلا أو مهدي عامل. لكن ما أوخذ على مفهوم البنية أنه ستاتيكي أو ثبوتي، أي أن ما يعكسه عن الواقع ليس سوى لقطات لحظية وثابتة يغيب عنها عنصر التطور والدينامية المرتبط بكل واقع.
ولتجاوز هذه المؤاخذة بالذات، ظهر مفهوم النظام le système الأكثر شمولا ليحيط ببنية أو ببنيات الواقع وهي في حالة من التحول والتطور المستمر. وللتبسيط أكثر ربما، أن الفرق بين المفهومين، هو الفرق بين أن ننظر إلى ظاهرة اجتماعية ما، من خلال عرض ألبوم للصور يظهر لنا لقطات عنها لحظية ومتقطعة في مقابل أن ننظر إليها من خلال شريط سينمائي يأخذ بعين الاعتبار حركية الظاهرة وتحولاتها غير المنقطعة.
وبناءا عليه فإنه باستبدالنا لمفهوم البنية بمفهوم النظام يصبح علينا سهلا التحرر من مفاهيم كلاسيكية من قبيل الطبقة مثلا. فهذه الأخيرة إنما كانت تشير إلى وضع اجتماعي معين تحدد انطلاقا من الموقع ضمن العملية الإنتاجية الرأسمالية، وذلك في لحظة تاريخية ثابتة هي لحظة سيادة الرأسمالية الصناعية خلال القرن التاسع عشر. ولهذا فلا معنى للحديث اليوم عن شيء اسمه البروليتاريا أو الطبقة البرجوازية بالمفهوم الذي تحدث عنه ماركس، وهي لم تعد تفي بالحاجة لتوصيف الحالات الاجتماعية الجديدة الطارئة في المجتمع. وكل من بقي يحلل المجتمع بمثل هذه المفاهيم، فكأنما لا يزال يعرف شخصا ما صار الآن بالغا، بالإحالة إلى صورة التقطت له وهو لا يزال طفلا.
نفس الملاحظة نطبقها أيضا على مفهوم الامبريالية. فهذه الأخيرة كان قد صاغها لينين في أوائل القرن الماضي، لتوصيف الحالة التي كان يوجد عليها العالم آنذاك، أو بنية النظام العالمي في تلك الفترة بالذات، حيث الهيمنة المطلقة للإستعمار الأوروبي على باقي الشعوب الأخرى. غير أنه في العقود اللاحقة شهدنا تحرر عديد من الشعوب من تلك الهيمنة، بدأت مع روسيا نفسها ثم اليابان، وتبعتهما دول أخرى مثل كوريا والنمور الأسيوية ، ثم الصين حاليا، ومن المحتمل أن تحذو الهند قريبا حذوها ومعها البرازيل أيضا وحالات أخرى ممكنة من الدول الصاعدة الجديدة. وفي هذا الإطار تظهر كم هي متهافتة بعض النظريات التي جعلت من مفهوم الإمبريالية قاعدة لها، كما هو الشأن بالنسبة لنظرية التبعية سابقا في أمريكا اللاتينية، أو نظرية العالمثالثية عند سمير أمين. وكم هي أيضا متهافتة النظرية التي حاولت ربط العولمة بالامبريالية الأمريكية أو خلطت بين العولمة والأمركة. فنحن لو بقينا نفكر بنفس المنطق لتوجب علينا الحديث اليوم أيضا، عن الامبريالية اليابانية والامبريالية الكورية والصينية وغدا الأمبريالية الهندية ....ألخ، وأن نتحدث مستقبلا عن "أصينة" العالم، نسبة إلى الصين.
لقد كان من نتائج انتشار النزعة البنيوية، بما فيه داخل الماركسية، أن انبرى المعادون لهذه الأخيرة، مستغلين في ذلك ما حدث في الاتحاد السوفياتي سابقا من انحراف ستاليني وهيمنة الديكتاتوريات القمعية على مجمل دول المعسكر الاشتراكي، للمجاهرة برفض كل نزعة كليانية أو نظريات شمولية، أو ما سموه "بالأنساق الكبرى"، وعلى رأسها النظرية الماركسية. وفي مقابل ذلك دافعوا عما اعتبروه الحق في الاختلاف والتعددية. ومن ثم برزت النزعات الاختلافية والتفكيكية وثقافات الهوامش، ومعادة الاستشراق وكل ما صنف في السنوات الأخيرة تحت خانة ما بعد الحداثة، وذلك بدءا من ميشيل فوكو وادوارد سعيد ووصولا إلى جاك ديريدا. غير أنه من نتائج هذا الهجوم المضاد على البنيوية بشكل عام والماركسية بشكل خاص، أن بدا في لحظة معينة وكأنه يستحيل إيجاد معنى موحد أو نظرية شاملة لتفسير العالم. وهو الفراغ الذي استغله أصحاب التصورات الهوياتية والأصوليات القديمة من الأصولية الإسلامية لبن لادن إلى الأصولية المسيحية لجورج بوش، للعودة لملء الفراغ في الساحة الفكرية.
في هذا الإطار إذن تأتي النظرية العامة للأنظمة، لتفند سواء ادعاءات الاختلافيين والتفكيكيين باستحالة وجود نظرية شاملة لتفسير العالم، أو مزاعم الهوياتيين والأصوليين حول وجود خصوصيات جوهرية تفصل بين الشعوب أو الجماعات العرقية و الدينية مما لا يمكن تجاوزه والقفز عليه. هذه النظرية الجديدة ظهرت بوادرها لأول الأمر في علم السيبرنيتيك و بعده المعلوميات وعلوم التواصل، قبل أن تمتد إلى حقول أخرى، وتلتقي بالخصوص مع التقليد الفكري النقدي لمدرسة فرانكفورت الماركسية الممتدة في اجتهادات هابرماس ونظريته حول الفعل التواصلي.
مما علمتني هذه النظرية شخصيا، هو أن أنظر إلى الوجود وإلى الكون والعالم، باعتباره وحدة واحدة، يخضع لنفس النواميس ويصل إلى نفس النتائج، ليس هناك استثناءات ولا خصوصيات ولا هويات منفصلة، ولكن فقط تمايزات شكلية وكمية وليست جوهرانية. فالإنسان هو نفسه حيث ما كان، والمجتمعات إنما تشتغل بنفس الآليات، وكل ما قد يميزها إنما هي ظروف جيوسياسية وتاريخية، قد تتفاوت بينها لفترة زمنية قد تطول أو تقصر، ولكنها بالضرورة ستمر كلها تقريبا بنفس المراحل والتجارب، أو ما عبر عنه مفكرنا عبد الله العروي بالتاريخانية.
هذه النظرية هي ما ساعدني على التخلص مبكرا من وهم الخصوصية، الوطنية منها أو القومية أو الإسلامية، والدعوة إلى استحضار البعد الكوني في كل ما نفكر فيه ونخطط له، أو ما يعبر عنه بشعار: فكر كونيا ومارس محليا، وأن ننظر إلى ما يحدث في أية نقطة في بلادنا بنفس المنظار الذي ننظر به إلى أية نقطة أخرى في العالم. غير أنه لتكون مثل هذه المقارنات صحيحة، يكفي فقط أن نأخذ بعين الاعتبار درجة التفاوت الزمني وليس الجوهري، الذي يفصل بين النقطتين. وفي هذا الإطار مثلا، تأتي أهمية مقارنة ما يجري في بلادنا مع ما يحدث في بعض مجتمعات أمريكا اللاتينية، باعتبار أن درجة تفاوتها عنا ليست كبيرة، عكس المجتمعات الأوروبية، وأن ما قد يكون حاصلا فيها حاليا، هو نفسه تقريبا ما سيقع في بلادنا بعد عقد أو ما يقاربه من الزمن.
ثم ما ساعدني من جهة أخرى، على تجاوز نزعات اللامعنى والعبثية التي وصلت إليها مثلا تفكيكية ديريدا، هو بعد اكتشاف نظرية الشواش أو الفوضى le chaos، التي جاءت لتبرهن أنه "في كل لانظام يوجد نظام" dans tout désordre il y a de l’ordre ، وأن كل الظواهر في العالم هي مترابطة فيما بينها، أو كما عبر عن ذلك لورنزو، "أن خفقان أجنحة فراشة في غابة الأمازون قد يكون وراء عاصفة رعدية في الصين".
غير أنه لفهم هذا الترابط بين ظواهر كونية أو اجتماعية هي متباعدة فيما بينها في الظاهر، لا بد من توضيح واستحضار عدد من المفاهيم أو المبادئ الوسيطة، التي تفترضها النظرية العامة أو تسمح بإبرازها كما سيأتي بعده.

2- نظرية التعقيد Théorie de la complexité

جاءت هذه النظرية كرد ففعل على التبسيط والاختزالية التي طيعت جل الفلسفات الكبرى للقرن التاسع عشر، من وضعانية أوغست كونت إلى غائية التاريخ في فلسفة هيغل إلى اقتصادوية ماركس ...، فكل هذه الفلسفات الأخيرة إنما كانت قد انبثقت بطريقة أو أخرى، عن نموذج الرؤية أو التصور حول العالم، أو الباراديغم المعرفي الذي أسس له نيوتن بفيزياءه الميكانيكية ونظريته حول الجاذبية. فهذا الأخير تصور العالم وكأنه ساعة كبيرة تتحرك أو تدور عقاربها بدقة مضبوطة حيث كل شيئ، وإن كان يتحرك، فبانتظام ووتيرة مضبوطة، ولا شيئ يقع عبثا.
هذه النظرية الفيزيائية المبنية على الحتمية والنمطية في الحركة، هي ما سيحاول هؤلاء الفلاسفة أعلاه، الاقتباس منها كل في ميدانه أو بطريقته ، فيبدع أوغست كونت مثلا، نظريته الوضعانية الطامحة لتأسيس علم الاجتماع على قواعد علمية صارمة.
وبنفس المنطق سيعمل هيجل على تقديم تصور تقدمي للتاريخ، باعتباره خطا تصاعديا، ينتقل في كل مرة، من مرحلة أدنى إلى مرحلة أعلى على سلم الارتقاء الحضاري، حتى يصل في النهاية إلى تحقيق غايته القصوى والمحددة مسبقا، المتمثلة في الفكرة المطلقة، أي تحقيق السعادة الكلية للبشرية أو ما يماثل الجنة على الأرض. وقد تصور فوكوياما مثلا أن تحقق هذه الفكرة المطلقة قد تم فعلا في نهاية القرن العشرين، بانتصار اقتصاد السوق والديمقراطية السياسية حسب النموذج الأمريكي.
من جهته لم يقم ماركس، سوى بمحاولة إسقاط الرؤية الفيزيائية للعالم كما بلورها نيوتن، متوسطا في ذلك نظرية هيجل عن التاريخ، على ميادين الاجتماع والاقتصاد.
غير أن الاكتشافات العلمية الكبيرة اللاحقة، كنظرية النسبية لأينشتاين، أو فيزياء الكوانتا ونظرية اللايقين لهيزنبرج ....، قد قلبت رأسا على عقب، عديدا من هذه الرؤى والتصورات القديمة عن العالم أو التاريخ.
أولى الحقائق الجديدة التي سيتم الكشف عنها، والتي تهم اليساريين بالخصوص، هي أن التاريخ وإن كان يتقدم على العموم بشكل تصاعدي، فلا أحد في المقابل يستطيع أن يتنبأ بمساره على المدى البعيد أو أن يدعي أنه يملك اليقين عن غايته الحقيقية. فأن يزعم ماركس بأن تطور التاريخ سيؤول بنا حتما إلى تحقيق المجتمع الشيوعي أو الاشتراكي الخالي من كل استغلال طبقي أو ظلم اجتماعي، إنما هو مجرد تنبؤ بالغيب ليس هناك ما يدعمه علميا ولا يختلف في شيء عن رؤى ونبوءات الأنبياء القدامى. وكل ما يمكن أن يقبله العقل السليم على هذا المستوى، هو أن تحقيق المجتمع الاشتراكي العادل يبقى مجرد احتمال من بين احتمالات متعددة لتطور التاريخ، قد يتحقق وقد لا يتحقق، وذلك يبقى مرهونا فقط بمدى استعداد وإرادة القوى الاجتماعية التي لها مصلحة في ذلك.
ثاني الحقائق أن ما يحمله اليساريون، أو بعضهم على الأقل، من اعتقاد عن نظرية الاشتراكية العلمية باعتبارها أداة علمية موثوق منها، فيه كثير من التعدي على مجال العلم . فماركس حين صياغته لنظريته هذه وذلك على مبدئين أساسيين: التصور المادي للتاريخ في مواجهة التصور الميتافيزيقي أو اللاهوتي، ثم التصور الجدلي للتطور في مواجهة التصور الميكانيكي والخطي، لم يكن في إمكانه أن يعتمد في ذلك، على أكثر من المعطيات العلمية المتوفرة لديه آنذاك، أي معطيات منتصف القرن التاسع عشر.
وهذا يعني أنه، بالنظر للاكتشافات العلمية اللاحقة، تكون الاشتراكية العلمية في صيغتها الأصلية قد أصبحت متجاوزة، ولا فائدة منها الآن، أو هي قاصرة حين استعمالها في استقراء وتحليل الواقع الراهن.
من مظاهر تجلي هذا القصور ، نشير هنا إلى بعض الأمثلة:
- الأول حين تقيم هذه النظرية كل التطور المجتمعي على ما تسميه البنية التحتية أو الاقتصادية، وتختزل مجمل البعد المادي للحياة الاجتماعية، فيما هو اقتصادي أو له علاقة بالإنتاج. وهي بهذا الاختزال تعطي للثقافي أو ما تسميه البنية الفوقية دورا ثانويا أو ملحقا بالإقتصاد. وقد كان من نتائج ذلك أن سقطت الاشتراكية العلمية في النزعة الاقتصادوية، وبقيت دائما عاجزة عن إعطاء تفسير لبعض الظواهر الثقافية المستعصية ومن بينها الظاهرة الدينية. وهذا القصور هو ما تنبه له هابرماس، فأعاد للثقافة دورها المركزي في التطور وفي الحياة الاجتماعية عبر صياغته لنظريته حول الفعل التواصلي.
- القصور الثاني هو بالاستمرار في تقعيد الجدل على ثنائية تبسيطية: الشيء وضده ولا ثالث لهما. وهو تقليد قديم أخذه هيجل عن الفلسفة الإغريقية منذ أرسطو فيما يعرفه علماء المنطق بالثالث المرفوع، واستمر أيضا حتى في بعض التقاليد الدينية كما الأمر في الثنائية المانوية حول الخير والشر. وهذه الثنائية نفسها هي التي بقيت تؤثث مجمل الأدبيات الماركسية: الرأسمال والعمل، البروليتاريا والبرجوازية، الطبقات المستغلة (بفتح اللام) والطبقات المستغلة ...
- القصور الثالث هو في عدم القدرة على معالجة أكثر من تناقض واحد في المرة، فتسميه التناقض الرئيسي ، بينما يتم إهمال التناقضات الأخرى المسماة بالثانوية، أو تأجيلها إلى مرة لاحقة. فدائما هناك عدو رئيسي واحد وآخرين ثانويين وطبقة رئيسية مهيمنة وطبقات أخرى ملحقة ... وقد حدث لي شخصيا أن جوبهت على هذا المستوى في مناقشتي مع أحدهم، أن أحدد من هو خصمي الرئيسي في المرحلة الراهنة: المخزن أم الأصولية؟ ولأنني أجبت أن كليهما هما خصمان بالنسبة لي، لم يستسغ مخاطبي هذا الجواب، وألح على ألا أختار أكثر من واحد. وهي الإشكالية التي لا زالت تفرض نفسها أيضا حين الحديث عن ما هي المداخل الضرورية لتحقيق الانتقال الديمقراطي في المغرب، هل يجب التركيز على مدخل واحد رئيسي يحدده البعض في المدخل الدستوري، أم يمكن العمل بمداخل متعددة في نفس الوقت ومتراكبة بعضها في بعض ؟
- القصور الرابع هو في جعل الصراع كأنه القاعدة الوحيدة للتطور. فالتاريخ لا يتطور حسب هذه النظرية إلا عبر الصراع: بين المستغل والمستغل، بين المسيطر والمسيطر عليه، بين الرأسمال والعمل ... ألخ. والحقيقة أن علوم الطبيعة والبيولوجيا بالخصوص، قد أبانت عن أكثر من حالة حيث يكون التكامل أو التعاون بين كائنين symbiose هو وسيلتهما للتطور معا وللحفاظ على نوعيهما بدل الصراع. وبالتأكيد أن مثل هذه الحالات منتشرة في الحياة الاجتماعية، ويمكن أن تساهم في التطور أحيانا أفضل مما يتيحه التصارع.

هذا الميل إلى الاختزال والتبسيطية، هو ما صار ضروريا تجاوزه وذلك عبر تبني رؤية أو تصور جديد عن العالم يقبل بالتعقيد و يكون قادرا على التعامل مع التعدد في الظواهر وفي أبعادها ومستوياتها. وقد كان لتطور علوم البيولوجيا وما ارتبط بها من علوم البيئة بالخصوص، دور رائد في حصول الوعي وبلورة نظرية للتعقيد. ومما توصلت إليه الأبحاث في هذا المجال أن حددت ثلاثة أشكال رئيسية لتجلي التعقيد:
- أن يتم هذا الأخير بشكل بنيوي أو أفقي، أي عبر حصول تكاثر وتعدد للعناصر من نفس المستوى المكونة للظاهرة أو لنظام معين. فالخلايا في الكائنات الحية مثلا، تنزع إلى الإنقسام والتكاثر حتى تضمن لنفسها أكثر الفرص للاستمرار في الوجود. وتكاثر الأسر أو المدن أو القرى المتشابهة فيما بينها هو نموذج للتعقيد البنيوي أو ما يمكن نعته ببساطة، بالتكاثر العددي.
- أن يتم بشكل وظيفي، وهو كما في حالة الخلايا، حتى تزيد من فرص نجاحها، تنزع إلى التخصص حسب وظائف معينة، فتظهر بسبب ذلك خلايا مخية وأخرى دموية وثالثة جلدية ... وفي حالة مدينة معينة مثلا، أن تتنوع الأحياء وتتخصص في وظائف متمايزة: سكنية أو إدارية أو صناعية أو خدماتية ...
- أن يكون بشكل هرمي أو "سلمي" d’échelle، وذلك حين تزداد المستويات أو الدرجات التي يتكون منها النظام داخليا. ففي حالة المقاولة مثلا، قد لا تضم في البداية إلا مرتبتين أو درجين : درج المدير في القمة و درج المستخدمين في القاعدة، ولكن التعقيد يفرض إدخال أدراج أخرى بين المدير ومستخدميه كأن يعين رؤساء أقسام أو رؤساء مكاتب أو مصالح تكون واسطة بين قمة المقاولة وقاعدتها.
هذا التطور الذي تخضع له كل الأنظمة، خاصة الحية منها، أي الأنظمة اليولوجية والاجتماعية والثقافية، غالبا ما يتم بطريقتين أو يمر بمرحلتين، وهو ما حاولت النظرية التطورية الداروينية بعد أن تم تحيينها، توضيحه. ففي المرحلة الأولى، قد يعمد الكائن البيولوجي مثلا أو النظام الحي، إلى التكاثر والتعددية ، حتى يضاعف من فرص نجاحه، لكن في المرحلة الثانية، تخضع ظروف المحيط الخارجي هذا الكائن لعملية انتقاء sélection، بحيث لا يبقى منه إلا من استطاع التأقلم مع متغيرات المحيط، أو اكتسب اللياقة الضرورية. وهو ما عبر عنه داروين بالبقاء للأصلح.
ففي مثال نبتة معينة مثلا، أنها إذ جاءت من تلاقح نبتتين مختلفتين، ستقوم هي بدورها بالتلاقح مع نبات آخر وإنتاج عدد كبير من البذور الجديدة. غير أن كثير من هذه البذور ستندثر ولن تحظى بالاستمرار والانتقاء إلا بعضها، وربما تبقى بذرات أخرى منها في حالة كمون لمدة طويلة إلى أن تتوفر لها الرطوبة والتربة المناسبة للإنبات.
وإذا ما طبقنا هذه النموذج على عالم الأفكار ، نجد أن كل فكرة جديدة، كما أنها نتيجة لتركيب بين عدد من الأفكار السابقة، لا بد أن تتفرع عنها بدورها أفكار جديدة، أي تخضع لقانون التكاثر والتعددية. ثم أن الظروف التي يمر منها المجتمع في مرحلة معينة، تفرض بالضرورة عملية انتقاء ما بين هذه الأفكار المتفرعة، فلا يبقى منها غير الفكرة التي تكون ملائمة لتلك الظروف ، في حين تموت الأفكار الأخرى غير الملائمة، أو أنها تضطر للتقوقع والإنغلاق على نفسها في انتظار ربما ظروف أخرى قد تكون أنسب لها.
فالماركسية مثلا كنظرية قد جاءت نتيجة لاندماج عناصر فكرية من آفاق مختلفة: من الفلسفة الألمانية وعلم الاقتصاد الانجليزي والثقافة السياسية الفرنسية ..... ثم هي بعد ذلك قد انقسمت إلى تيارات عديدة أو تعرضت لعملية التكاثر حيث تفرعت عنها الترييديونية والبلانكية والباكونونية والبرينشتينية و الكاوتسكية واللينينية والستالينية والماوية ... آلخ لكن في الأخير ، من هذه الماركسيات كلها، لم تستطع الاستمرار والتجاوب مع الظروف المحيطة أو حظيت بالانتقاء إلا البعض القليل منها ، ومن ضمنها الستالينية مثلا والكاوتسكية في صيغتها الاشتراكية الديمقراطية، بينما الباكونونية مثلا اندثرت ، وإن بقيت بذرتها تعود للظهور بين الفينة والأخرى في شكل تيارات فوضوية. وكذلك كادت التروتسكية أن تندثر غير أنها عادت للظهور في أشكال جديدة هي ما تمثله حركة أطاك مثلا حاليا. ....
كما أن ما حاول ميشيل فوكو القيام به مثلا في نظريته حول جينيالوجية المعرفة، لا يعدو أن يكون بحثا عن مصير تلك الأفكار التي لم تحظ بالإنتقاء وتم تهميشها أو اقصاءها من الفضاء الاجتماعي كما في حالة فكرتي الجنون والشذوذ الجنسي اللتين قام بدراستهما. وأن ما ذهب إليه ديريدا وغيره من فلاسفة الاختلاف، في الدفاع عن الاختلاف أو التعددية في الأفكار لا يستقيم إلا مع الشق الأول من النظرية أعلاه، أي مرحلة التكاثر والتعدد في الأفكار الجديدة أو ما يسمونه بالاختلاف، غير أنه بعد هذه المرحلة، يتدخل قانون الانتقاء، ليمنح الأفضلية لفكرة معينة على غيرها أو يقصي البعض الآخر. ثم أن ما يذهب إليه آخرون، من مزاعم أن كل الأنساق الفكرية الكبرى كالليبرالية أو الماركسية أو البنيوية ..ألخ، قد انتهى زمانها وما عاد ممكنا غير البحث فيما هو فرعي أو جزئي أو اختلافي أو خصوصي، فذلك لا يعدو من وجهة نظريتنا هذه، التوقف فقط عند المرحلة الأولى من التطور أي مرحلة التنويع والتكاثر، وبالتالي فهم يتجاهلون المرحلة الثانية التي تقوم على الإنتقاء وإبراز أنساق جديدة إلى الواجهة. أو بتعبير الإبستمولوجية، الوقوف عند مرحلة التفكيك وتجاهل مرحلة التركيب.


3- مفهوم النظام والأنظمة الفرعية
يمكن تعريف النظام بشكل عام، ببعض الخصائص الأساسية التالية:
أنه أولا يمتلك حدودا أو "غشاءا" يميزه ويفصله عن العالم الخارجي. وهو إذا ما افتقد هذه الحدود، يفتقد أوتوماتيكيا استقلاليته فيذوب في محيطه الخارجي، وبالتالي لا يبقى نظاما. لكن بين الانغلاق التام للنظام على نفسه، وبين تلاشيه، هناك درجات متفاوتة من الانفتاح أو الانغلاق. فإذا أخذنا مثلا جماعة من الأفراد يربطون علاقات فيما بينهم، فطالما أن هذه الأخيرة لا زالت غير مرسمة أو مهيكلة كعلاقة الصداقة مثلا، فإننا نبقى في مستوى أقل من النظام ونتحدث فقط عن شبكة العلاقات Réseau، ولكن إذا ما اتفق هؤلاء الأفراد على تكوين ناد أو جمعية فيما بينهم، يتحول الأمر إلى نظام يضع لنفسه حدودا واضحة تتمثل في القوانين الخاصة بالجمعية، تفصل أفراد الخارج أو غير المنتمين، عن أفراد الداخل المنتمين. وهذه الحدود أو الغشاء الذي يحيط بالنظام هو الذي ينظم العلاقة مع الخارج. فللجسم الحيواني مثلا حدود هي الجلد المحيط به، وعن طريق هذا الأخير تنتظم العلاقة مع المحيط الخارجي، عن طريق الحواس مثلا لتلقي وتبادل المعلومات، أو عن طريق الفتحات الجسمية الأخرى لتبادل العناصر المادية.
والنظام هو بالضرورة في تحول أو تطور مستمر، حتى وإن اختلفت الوتيرة من حالة إلى أخرى، وذلك راجع إلى ضغط العوامل الخارجية والداخلية على السواء، التي تدفعه إلى الأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الجديدة التي تطرأ في كل لحظة. وهذا ما يسمى في لغة النظرية العامة للأنظمة، بالتكيف adaptation، أو بالبحث الدائم عن "اللياقة" fitness. فإذا أخذنا المقاولة التجارية كمثال على نظام يتطور باستمرار، فذلك لأن المنافسة الخارجية كما العلاقات الداخلية بين مكونات المقاولة، تفرض عليها ذلك، وإلا هي معرضة للتلاشي أو الانفجار.
لكن تجب الإشارة أيضا إلى أن كل نظام ، سواء كان جسما طبيعيا أو ظاهرة اجتماعية أو ثقافية ... هو مركب من عدد من الأنظمة الفرعية أو الصغرى Sous-systèmes، تحكمها نفس الآليات والقوانين الخاصة بهذا النظام. وهذا الأخير هو في نفس الوقت نظام فرعي من نظام أكبر يضمه إلى جانب أنظمة فرعية أخرى تشبهه. فإذا أخذنا كمثال جماعة بشرية معينة كالمدينة، نجدها تتكون من عدد من الأنظمة الفرعية، هي الأحياء السكنية مثلا، كما أنها تنتمي في نفس الوقت، إلى نظام أكبر هي الدولة. وكما أن هذه الأخيرة ليست هي بنفسها سوى نظام فرعي لنظام أكبر هو العالم، كذلك فإن النظام الفرعي الذي يمثله الحي السكني، هو نفسه نظام أعلى لأنظمة فرعية تتمثل في العائلات التي تقطنه. وهكذا يمكن تتبع هذه السلسلة من الأنظمة الفرعية أو الأنظمة الكبرى إلى ما لا نهاية، سواء في اتجاه الأسفل أو اتجاه الأعلى.
وكما يمكن تقسيم النظام العالمي أو الوطني بشكل فوقي، أي حسب الجهات الجغرافية والمجالية، يمكن توزيعه عموديا أيضا، إلى أنظمة صغرى وطيفية متعددة، كالنظام الوظيفي الاقتصادي أو النظام المالي أو الثقافي أو اللغوي ...ألخ. يبقى الاستفهام هنا فقط، ما هي الوظيفة أو الوظائف الأساسية التي على أساسها يمكن أن نرسم حدود نظام جهوي معين ونميزه عن الأنظمة الجهوية الأخرى؟ فإذا كان من الممكن تقسيم النظام العالمي، إلى أنظمة صغرى وظيفية، اقتصادية أو لغوية أو دينية أو سياسية ...، فأي بعد سيحظى بالأولوية حين نريد تحديد انتماء المغرب مثلا، هل البعد اللغوي فنعتبره جزءا من النظام العربي، أم البعد الديني فنحسبه على النظام الإسلامي، أم البعد الاقتصادي فنحسبه من النظام المتوسطي والأوروبي ....؟

4-مفهوم أو نظرية التطور اللامتكافئ
ليست هذه النظرية جديدة، فقد سبق أن كتب عنها لينين منذ بداية القرن الماضي. ومفادها أن الأنظمة الجهوية الفرعية أو الأنظمة الوظيفية المنتمية لنظام معين، وإن كانت تخضع لنفس القوانين والآليات التي تحكم هذا الأخير، فإن تطورها لا يتم بنفس الوتيرة بين نظام فرعي و آخر. فقد تتقدم جهة على أخرى، وداخل نفس النظام الجهوي، قد تتطور دولة أسرع من الدول الأخرى، بل وحتى داخل نفس البلد، فالتطور يتفاوت بين منطقة وأخرى. وهذا ينطبق أيضا على الأنظمة الوظيفية، بحيث قد يكون تطور الزمن السياسي أسرع من الزمن الاقتصادي، وهذا الأخير أسرع من زمن الثقافة مثلا ... ألخ. أو ما يعبر عنه أن لكل حقل اجتماعي أو وظيفة زمانيتها الخاصة.
غير أنه إذا كان لينين من خلال نظريته هذه، قد توفق على الأقل في ترسيخ فكرة أن العالم هو كلية واحدة بأطرافه سواء المتقدمة منها أو المتخلفة، فإن من حاول تعميق نظريته لاحقا، بحصر أسباب هذا التفاوت في عملية نقل فائض الانتاج في اتجاه واحد من الهامش نحو المركز، أو من المناطق المتخلفة إلى المناطق المتقدمة، عبر ما وصف بالاستغلال الأمبريالي، كما رأينا ذلك أعلاه عند غاندر فرانك أو سمير أمين، فهو لم يتوفق في تلمس أهمية عنصر الديناميكية والتحول الجاري باستمرار داخل النظام العالمي، أو داخل أي نظام فرعي على حدة، وتصور هذه العلاقة بين المركز والهامش وكأنها ثابتة غير قابلة للقلب أو التغيير، وهو ما يكذبه حاليا صعود بعض الدول الأسيوية المتخلفة سابقا إلى مصاف الدول المتقدمة.
و مناسبة التذكير بهذا المبدأ هنا، أن الكثيرين حينما تطلب منهم مقارنة ما يجري في المغرب مع الدول الأخرى، يلاحظون الفروق الكثيرة الموجودة، فيخلصون إلى أن المغرب له خصوصيات معينة ولا يمكن مقارنته بهذه الدول. ولكن الخطأ الذي يسقط فيه هؤلاء، أنهم يقارنون واقع المغرب في اللحظة الراهنة بواقع الدول المقارن بها في نفس اللحظة، ولذلك فهم لا ينتبهون إلى أن وتيرة التطور أو المستوى الذي وصل إليه هذا التطور في اللحظة ذاتها، ليس نفسه بين كل الدول. وبالتالي فإن المقارنة الصحيحة التي يمكن القيام بها هي ما بين المستوى الذي وصله المغرب حاليا مع نفس المستوى الذي وصلت إليه دولة معينة في لحظة سابقة. وقد يظهر مثلا من خلال المقارنة التي قد نقوم بها بين المغرب وبعض دول أمريكا اللاتينية، بالاعتماد على عدد من المؤشرات كمستوى النمو الاقتصادي والبنية الديمغرافية للساكنة ونسبة التمدن والأمية ...ألخ، أن هذه الأخيرة غالبا ما تسبق المغرب في مجموعة من الظواهر لمدة تتراوح ما بين عقد وعقدين من الزمن. أو بعبارة أخرى أنه إذا أردنا أن نعرف كيف سيكون عليه حال المغرب بعد عشر أو خمسة عشر سنة، فلننظر ماذا يحدث حاليا في أمريكا اللاتينية.

5- فكرة أو مبدأ الانزياح نحو الهامش
مفاد هذه الفكرة أنه إذا كان كل جديد إنما يظهر في الغالب لأول مرة، في المركز أو في النقطة الأكثر تقدما من النظام العالمي، فإنه سرعان ما تنتقل الظاهرة الجديدة، عن طريق المحاكاة أو أنها تنزاح من المركز نحو النقط أو المراكز الثانوية التي تليها، ومن هذه الأخيرة إلى التي تليها حتى تصل في النهاية وتتعمم على أبعد نقطة في العالم. ولكن في هذه اللحظة يكون المركز قد أنتج ظواهر أخرى أجد منها، ستتبع هي أيضا نفس مسار سابقاتها. فائدة هذا المبدأ في التحليل بالنسبة إلينا، في أن نحسن التعامل مع عدد من الظواهر الاجتماعية التي تعرفها بلادنا حاليا. كيف نفسر مثلا طبيعة بعض المظاهر الاحتجاجية في عدد من المدن المغربية الهامشية، كإفني أو صفرو أو بوعرفة ...، هل هي تؤشر لمد احتجاجي قادم من هناك ليعم في مدن أخرى في المركز كالدار البيضاء أو الرباط، أي سيكون انتقال الظاهرة من الهامش إلى المركز عكس ما تحدثنا عنه أعلاه؟ أم نفسر ذلك فقط بأنه مجرد صدى وامتداد لظاهرة قديمة من الاحتجاج عرفتها مدن المركز سابقا، لم يصل تأثيرها إلى هذه المدن الهامشية إلا في السنوات الأخيرة، وهي الظاهرة التي كانت قد شهدتها الدار البيضاء منذ سنة 1981 والناظور ومراكش سنة 1984، ثم فاس سنة 1990، وهي تصل أخيرا إلى صفرو وإفني وغيرهما؟
وإذا كان هذا التفسير مقبولا، فما هي الظواهر الجديدة التي أمكن إبداعها في المرحلة الراهنة في الدار البيضاء أو الرباط، وبالتالي انتظار انتقالها وتعميمها إلى المدن الأخرى في الهوامش؟
ولنطبق هذا المبدأ على الظواهر الأخرى الثقافية أو الإجتماعية. فظاهرة الأغنية الشبابية الهيب هوب مثلا، أول ما ظهرت، كان ذلك في أواخر الثمانينات من القرن الماضي في مركز العالم، أي في نيويورك وبالضبط في حي هارلم. ولم تمر إلا سنوات قليلة حتى انزاحت الظاهرة نحو أوروبا ومنها باريس، ثم ما فتئ ذلك أن وصل إلينا في مدينة الدار البيضاء حيث سمع بها المغاربة لأول مرة مع حادثة ما عرف بالشيطانيين les sataniques، لتنتشر الظاهرة بعد ذلك إلى كل المدن المغربية. وقد سبق أن حدث نفس الشيئ مع ظاهرة الهيبي في بداية السبعينات، ويجب أن ننتظر أن يتكرر ذلك في المستقبل مع ظواهر أخرى جديدة. وأهمية هذا المبدأ في التحليل، أنه يساعدنا على دراسة ظاهرة ما، حين ظهورها لأول مرة رغم مرور مدة زمنية عليها، وذلك بالبحث عن طريقة تجليها في اللحظة الراهنة في منطقة جغرافية بعيدة أو توجد على الهامش. فالإثنوغرافيون مثلا حين يدرسون بعض المجتمعات البدائية الموجودة على هامش الحضارة، فإنما يسعون من خلال ذلك إلى معرفة كيف تطورت مجتمعاتنا المتحضرة نفسها حين مرورها هي أيضا من تلك المرحلة قبل آلاف السنين من الآن

6- الفكرة السادسة وهي ما سمي في علوم الفيزياء بالفراكتال Fractale
ومفادها أن بعض الظواهر والقوانين التي تطبع نظاما معينا، قد تتكرر أو يعاد تشكلها بنفس الطريقة، ليس فقط أفقيا، أي في الأنظمة المشابهة لهذا النظام الأخير، ولكن أيضا عموديا، أي من النظام الأعلى إلى النظام الأدنى، ثم إلى ما هو أدنى منه، وهكذا دواليك. وكمثال مبسط عن ذلك نأخذه من الطبيعة، أن الشجرة التي يكون لها شكل هرمي ضيقة في القمة وعريضة في الأسفل قرب الجذع، قد يتكرر هذا الشكل نفسه في كل غصن من أغصانها، ثم فروع الأغصان، حتى يصل إلى الأوراق نفسها، التي لا يختلف شكلها المرئي كثيرا عن شكل الشجرة الأم.
هذا النموذج قد نجده في الأنظمة الاجتماعية أيضا، حيث يتكرر مثلا شكل العلاقة التي تربط القطب الحضاري المركزي في أي بلد مع المراكز الحضرية الثانوية من نفس البلد، فتكون هذه العلاقة أو شكلها هو نفسه بين هذه الأخيرة والمدن الصغيرة الموجودة في محيطها، ثم بين هذه الأخيرة نفسها والقرى المجاورة لها ... فشكل العلاقة بين الدار البيضاء مثلا ومدينة فاس، سنجده يتكرر ما بين فاس وتاونات، وهو نفسه يتكرر ما بين تاونات وغفساي، ثم بين هذه الأخير وقرية الرتبة ...
بل أن إعادة تشكل بعض الظواهر على نفس المنوال قد يحدث حتى بين فترات زمانية متباعدة، وهذا هو ما يخلق الوهم عندنا أحيانا ونعبر عنه بالقول أن التاريخ يعيد نفسه.
فائدة هذه الظاهرة في التحليل، وإذا ربطناه بمبدأ التطور اللامتكافئ السابق، أنه إذا اعتبرنا مثلا، أن بلدا مثل التايلاند هو في نفس درجة التطور مثل المغرب، واخترنا مدينة مشابهة و لها موقع مجالي مشابه لموقع مدينة تاونات عندنا، فهناك حظوظ كبرى لأن نصادف ظواهر اجتماعية متشابهة جدا في كلتا المدينتين. وهذا النموذج قد نطبقه على مختلف الظواهر الأخرى الثقافية منها أو الاقتصادية أو السياسية، وبالتالي هو يوفر لنا مجالا واسعا للمقارنة مع ما يحدث من ظواهر مشابهة في بلدان أخرى. بل أكثر من هذا أنه لو أدخلنا عنصر التفاوت الزمني في المقارنة، فسيصبح من السهل علينا التنبؤ بما قد يحصل في بلادنا بعد مدة زمنية من الآن بمقارنته بما يحدث الآن أو سبق أن حدث في مجتمعات أخرى هي نسبيا أعلى في سلم التطور. وهو ما يصلح بالخصوص بالنسبة إلينا في المقارنة مع بلدان أمريكا اللاتينية.

7- فكرة أو مبدأ التعميل أو التكثيف
factorisation ou condensation

قد ظهرت أهمية هذا المبدأ أولا في علم المعلوميات والذكاء الإصطناعي. ففي بداية هذا العلم، كان القيام بعملية معينة على الحاسوب يتطلب إنجاز عدد كبير من العمليات البسيطة المكررة implémentation، لكن بفضل تطور البرمجة، أصبح من الممكن تجميع كل هذه العمليات المملة في عملية واحدة أو في نقرة واحدة على لوحة المفاتيح، هي عبارة عن اختزال أو تكثيف لكل تلك العمليات البسيطة، وهذا ما سمي بالتعميل
وهذا نفسه قد نطبقه على العادات والسلوكات الاجتماعية وعلى الأفكار. فللوصول إلى فكرة الله المتعالي أو المطلق مثلا، تطلب ذلك من البشرية المرور بآلاف السنوات وآلاف التجارب، ونحن الآن حين نمر مباشرة إلى الإيمان بالله، فإننا نقوم باختزال أو تكثيف أو تعميل كل هذه التجارب التي مرت منها البشرية لحد الآن دفعة واحدة. ويمكن أن نعطي مثالا آخرا من تطور التاريخ. فحينما تسأل أحد عن إمكانية تطور المغرب في المستقبل، قد يجيب بأن أوروبا قد قضت لأجل ذلك أكثر من قرنين، وبالتالي على المغرب أن ينتظر مثل ذلك. غير أن مثل هذا الجواب يتجاهل مبدأ التكثيف، الذي قد يسمح لتجربة دامت قرنين أن يتم تكثيفها في عدد أقل من السنوات. وهذا بالفعل ما حصل، فاليابان كثفت تلك التجربة إلى أقل من قرن، وكوريا الجنوبية قلصتها إلى أقل من خمسين سنة، وربما تستطيع دول أخرى أن تحققا إنجازا أحسن من ذلك.

8- نظرية الإنبثاق théorie d’émergence وإمكانيات التنبؤ بالمستقبل

ربما أقرب تعبير عن هذه النظرية، هو حين نقول أن الحاصل من جمع عدد من الأجزاء يكون دائما أكبر من مجموع هذه الأجزاء نفسها، أي أن 2+2 مثلا لا تساوي 4 وإنما أكثر من ذلك. وقد يعبر عن ذلك أيضا بتعبير "عامل التجميع" effet de synergie . ومفاد هذه النظرية، أنه من خلال التقاء أو اندماج بين عدد من العناصر البسيطة، قد يحدث في الغالب ظهور أو انبثاق لعنصر جديد هو أكثر من مجرد تجميع عددي أو ميكانيكي لهذه العناصر الأخيرة . ولأن ما ينتج عن هذا الانبثاق، يكون متجاوزا لمجموع العناصر التي نتوفر عليها في البداية، فإنه سيكون من المستحيل علينا أن نعرف قبليا، طبيعة ذلك الشيئ الذي سينبثق. وهذا يعني أنه لا يمكن الاكتفاء إلى ما لا نهاية، بالمعرفة العددية أو الإحصائية للظواهر التي تحيط بنا، وأنه لابد من توقع أن تحدث في أية لحظة، تحولات نوعية في هذه الظواهر، لا يمكن التنبؤ بها، من خلال المعطيات المتوفرة لنا حاليا فقط. وبناءا عليه، فإن هذه النظرية هي التي تفرض علينا أن ننظر إلى التطور ليس كمجرد خط مستقيم تصاعدي أو يحدث بشكل ميكانيكي، ولكن كمجموعة من الطفرات النوعية التي قد تفاجئنا بين الفينة وأخرى. وأن الطريقة التي يفكر بها المهندس مثلا أو الرياضي التقليدي أو التقنوقراطي، قد تكون صالحة فقط في ظرف زمني محدد، بعدها تحدث متغيرات جديدة غالبا ما لا تكون في الحسبان، تجعل النماذج الحسابية التي يضعها هؤلاء متجاوزة أو بدون جدوى.
وقد أثبتت كل معطيات التاريخ، كيف أن هذا الأخير يتطور أو يتعرض لطفرات من حيث لا يكون أحد يتوقع ذلك. وأنه في كل مرة تحدث طفرات أو ثورات أو تحولات اجتماعية تقلب جل الحقائق التي تكون متداولة في لحظة ما. ولذلك فنحن لا نستطيع أبدا التنبؤ بدقة بما سيحدث في المستقبل، وكل ما نملكه في هذا المجال هو مجرد بضع مؤشرات ، قد تنفع في معرفة الخط العام الذي سيتبعه التاريخ، لكن بشكل جد تقريبي وعلى أمد قريب أو متوسط فقط. وهذا بالضبط هو ما يفند تصور هيجل الغائي عن التاريخ كما لاحظنا أعلاه، ويجعل من الأطروحة الماركسية حول التحقق الحتمي للمجتمع الشيوعي مجرد وهم.
غير أن بعض المؤشرات التي قد تسجل لمعطيات أو تحولات عميقة في التاريخ قد تكون أفيد على المدى البعيد منها على المدين المتوسط والقريب. و كنموذج على ذلك مثلا، أنه قبل انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينات من القرن الماضي، لم يكن أحد، انطلاقا من كل المؤشرات السياسية والاقتصادية والعسكرية والإيديولوجية المتوفرة آنذاك، يتوقع أو يتنبأ بذلك الانهيار. غير أن هناك عالم ديمغرافي هو الفرنسي إيمانويل طود، نشر بحثا في السبعينات، أشار فيه وانطلاقا من مؤشرات التطور الديمغرافي في هذا البلد، إلى احتمال أن لا يصمد النموذج السوفياتي طويلا. ورغم ذلك فقد تفاجأ هذا الباحث نفسه من سرعة حدوث هذا الانهيار بأسرع مما توقعه.
والآن يحاول عدد من المختصين في هذا المجال الأخير، وضع سيناريوهات لاحتمالات تطور العالم في العقود القادمة، بناءا على مؤشرات التطور الديمغرافي للبشر والتحولات النوعية التي تحدث في هذا المجال، من قبيل نسبة الزيادة الديمغرافية مثلا، أو الأمل في الحياة أو عدد الولادات لكل امرأة، أو تركيبة الهرم الديمغرافي .... وللطرافة أنه لغياب أي أمثلة سابقة أو ظروف مشابهة في تاريخ البشرية، يمكن مقارنة هذه التحولات الديمغرافية بها وبالتالي استنتاج ما يمكن أن ينتج أو ينبثق عن ذلك، لم يجد بعض العلماء أفضل طريقة من مقارنة المجتمع البشري بمجتمع حيواني من الثدييات، يعيش في ظل ظروف ديمغرافية مشابهة. وقد أنجزت تجربة في هذا الشأن عبر مراقبة مجتمع من الفئران داخل مختبر، حيث حاول الباحثون معرفة كيف ستتصرف هذه الأخيرة، في حالة تزايد ديمغرافي سريع أو نقص حاد في الأكل أو في تقلص الفضاءات المخصصة لكل فرد أو عائلة…. ومن الخلاصات المثيرة التي خرجوا بها من هذه المراقبة، أن الفئران بعد مرحلة من العنف والحروب فيما بينها، بدأت تسير بشكل تلقائي نحو التحديد من النسل، وحل المشاكل فيما بينها بأقل ما يمكن من العنف، أو ما نسميه بالتدبير الحضاري للحياة المشتركة. والطريف أكثر أنه كلما ازداد تقدم مجتمع الفئران "حضاريا"، كلما تطور دور الإناث وصار لها حضورا أوسع في الحياة العامة باعتبارها الأكثر تأهيلا لتدبير التعايش "حضاريا". أليس هذا بالضبط ما وصلت إليه البشرية أخيرا أو هي تحاول ذلك، وأليس ذلك إحدى مؤشرات التطور في العقود القادمة؟
غير أنه إذا كانت المؤشرات الديمغرافية قد تفيد في معرفة احتمالات التطور على مدى بضعة عقود قادمة، فهل توجد مؤشرات أكثر عمقا منها، ستساعد في وضع تنبؤات لتطور البشرية على مدى أبعد من ذلك؟ على هذا المستوى نكون قد دخلنا في مجال سينما الخيال، حيث لا يوجد ربما أي مؤشر له حد أدنى من العلمية يمكن أن يساعدنا. وربما ما يتبقى لنا في هذا المستوى، أن نعود إلى الظواهر الانبثاقية الكبرى التي حدثت ليس في تاريخ البشرية فقط، ولكن في كل مراحل تطور الحياة على الأرض. ونذكر منها هنا ، بضع نماذج لهذه الانبثاقات. الأولى حينما انبثقت الحياة نفسها على الأرض وظهرت الخلية الأولى، والثانية حين ظهور الكائن الحيواني المتعدد الخلايا أو ذي الجسم المعقد بنيويا ووظيفيا، والثالثة حين ظهور المجتمع الحيواني الأحادي الفاعل
uni-agent كمجتمع النمل مثلا كما سنرى لاحقا، والرابعة ما سميناه بانبثاق نظام المجتمع الحيواني المتعدد الفاعلين multi-agents كما هو الحال عند الثدييات، ثم خامسا حين ظهور "المجتمع الحيواني المثقف" أو المجتمع الإنساني حيث تمتلك الفكرة أو المعلومة استقلاليتها النسبية عن الجسم الذي يحملها. وربما انطلاقا من معاينة هذه التحولات الكبرى في تاريخ الكائن الحي، قد نعثر على مؤشر ما، يدلنا على ما يمكن أن يصيره الإنسان لاحقا، خاصة في علاقته مع الروبوات أو الكائنات الاصطناعية الذكية التي بدأ البعض منذ الآن يتخوف من أن تستعبدنا في المستقبل.

9- نظرية اللايقين l’incertain
تمدنا الفيزياء الحديثة بعدد من النظريات التي قد تساعدنا على فهم ظواهر العالم، أو على العكس تظهر محدودية قدراتنا على الفهم. ومن ذلك نظرية اللايقين التي اقترحها هيزنبرج في العشرينات من القرن الماضي. فهذا الأخير بعد أن لاحظ الصعوبة التي اعترضت علماء الفيزياء في قياس سرعة الأيونات أو الجسيمات الصغيرة ما تحت الذرية، وتحديد موضعها في نفس الوقت، توصل إلى ما مفاده أن المشكل ليس في العلماء أنفسهم ولا في الأدوات التي يستعملونها، ولكن أنه يستحيل ببساطة تحقيق مثل هذا الانجاز حتى ولو تضاعفت عبقرية وذكاء العلماء، أو طوروا أدوات فائقة الدقة. فالمشكل أن هذه الأدوات المستعملة في القياس، هي نفسها مكونة من جسيمات مشابهة لما يريدون قياسه، وأن أية محاولة للاقتراب من هذه الأخيرة تؤدي إما إلى التأثير على سرعتها أو إلى تحريف مسارها. وبناءا عليه فقد أصبح من المسلم به علميا، أنه لا يمكن اكتشاف الحقيقة النهائية، ليس في الفيزياء وحدها، ولكن في كل المستويات الأخرى المكونة للعالم والكون. وأن كل ما يمكن التوصل إليه هو معرفة تقريبية أو معرفة احتمالية، تقوم على حساب الاحتمالات calcul des probabilités ووضع السيناريوهات.
هذه الاستحالة في الوصول إلى الحقيقة النهائية، تؤكدها أيضا النظرية العامة للأنظمة، التي تستبعد مطلقا إمكانية الوصول يوما إلى معرفة تامة بالكون الذي نعيش فيه. والسبب في ذلك بسيط، إذ لأن الإنسان هو نفسه ليس سوى جزء من هذا الكون، فكيف سيتسنى للجزء أن يتعرف على الكل وهو داخله، اللهم إذا وقف هذا الانسان في نقطة خارج الكون ليراقبه من بعيد، وهذا من باب المستحيلات. وفي هذه الحالة لا يبقى أمام هذا الأخير سوى وضع فرضيات بالنسبة للظواهر التي لا زال يجهلها، قد تساعده فقط في توسيع مداركه دون أن يصل أبدا إلى المعرفة التامة أو الحقيقة النهائية. فالإنسان كما لا يمكن أبدا أن يصل إلى استكشاف كل ما يتعلق بالجسيمات المتناهية في الصغر، ولا يمكن أن يعرف أيضا حقيقة الأجسام المتناهية في الكبر، لا يستطيع أيضا معرفة أصل هذا الكون ولا المصير الذي ينتظره. ولذلك هو يكتفي بوضع تصورات حول هذه المواضيع لا تقوم على العلم، ولكن فقط على معتقدات دينية وإيمانية من قبيل خلق العالم من طرف قوة غيبية افتراضية كما سنرى لاحقا. مع العلم أنه يبقى دائما مضطرا في كل مرة يحصل فيها تقدم علمي، لتغيير هذه التصورات الأخيرة ليعوضها بأخرى أقرب إلى المعارف العلمية الجديدة. فقد تصور الإنسان في مرحلة سابقة أن الأرض ثابتة وهي مركز الكون كما في نظرية بطليموس حول العالم. ثم اضطر لاحقا للتخلي عن هذا التصور وتعويضه بواحد آخر يضع هذه المرة الشمس في مركز الكون كما في نظرية كوبرنيك، ثم توالت التعديلات بعد ذلك ليظهر في كل مرة أن الكون هو أوسع وأعقد دائما مما نتصور.
ولأن أبعد نقطة وصلها العلم حاليا في تحديد تاريخ الكون هي حوالي 15 مليار سنة قبل الآن، فقد افترض وباستعمال طريقة إسقاطية extrapolation، أن نقطة انطلاقة الكون قد كانت حوالي هذا التاريخ، بعد حدوث ما يسمى بالإنفجار العظيم le big-bang. لكن ما قبل ذلك، لا أحد يعرف عنه شيئا. وقد وضعت فرضيات عديدة في هذا المجال، تفتقد كلها إلى أي مستند علمي، حيث هناك من ذهب إلى أن الكون يمر عبر حلقات دورية، من وضعية الطاقة الأولية المركزة تركيزا شديدا، إلى انقسام هذه الأخيرة ما بين حالتين: طاقية ومادية، هذه الأخيرة التي ستبقى تتوسع أكثر فأكثر، حتى تصل إلى نقطة لا يبقى ممكنا التوسع بعدها أكثر، فينهار الكون على نفسه implosion، ويعود إلى التركز الشديد حتى يصل إلى نقطة انطلاقه الأولى ليعاود الانفجار من جديد. وهناك آخرون ذهبوا إلى أن الكون الذي نعيش فيه، ربما ليس أكثر من فقاعة بين فقاعات عديدة، أو بعبارة أخرى، أنه واحد من بين عدة أكوان يتطور كل واحد منها حسب وتيرته، وهذا ما يعرف بنظرية تعدد الأكوان multi-vers.
غير أن هذه النظريات العلمية الحديثة، بقدر ما تنفي إمكانية الوصول إلى الحقيقة النهائية، بقدر ما ترفض فكرة أن العالم يسير بطريقة عبثية ولا منظمة. بل وأنه حتى نظرية النسبية التي نطبقها في هذه الحالة هي بنفسها نسبية.
من هنا جاءتنا فكرة أن العالم إنما يتطور حسب طريقة "مخروطية" conique. أي أنه في كل نقطة يصل إليها الكون أو العالم أو التاريخ ...، ينفتح التطور على مجموعة من السيناريوهات يحدها إطار مخروطي الشكل، لا يمكن للتطور أن يحدث إلا من داخله، أي أن لا يتبع إلا واحد من السيناريوهات الموجودة داخل المخروط، أو ما سميناه في حالة المجتمع مثلا، بالممكن التاريخي. فالمخروط هنا نقصد به مجموع تلك السيناريوهات التي يسمح بها التاريخ في لحظة معينة. والتاريخ لا يمكن أن يتحرك إلا داخل هذا المخروط. فإذا طبقنا هذه الفكرة مثلا، على تطور المجتمع المغربي مستقبلا، فإننا سنكون متأكدين، أنه لن يخرج عن عدد محدود من السيناريوهات، تتراوح بين أقصاها تشاؤما، كأن يتعرض مثلا لحرب أهلية على شاكلة العراق أو لبنان، وأقصاها تفاؤلا، كأن يتطور بوتيرة جد سريعة مثل اليابان أو كوريا الجنوبية. ولكنه لا يمكن أبدا أن يعود إلى العصور الوسطى أو ما قبلها، فذلك من باب المستحيلات.
لكن بالمقابل، نحن لا يمكن أن نعرف مسبقا أي سيناريو سيتبع من بين هذه السيناريوهات الممكنة، وكل ما يمكن القيام به على هذا المستوى، هو وضع احتمالات أو القيام باسقاطات مستقبلية على ضوء ما يتوفر لدينا حاليا من معطيات، وترجيح سيناريو على آخر، مع العلم أن ذلك يبقى نسبيا، وأن قيمة الاحتمال تزداد ضعفا كلما ابتعدنا أكثر في الزمن المستقبلي.

10- نظرية النشأتكوينية gnoséologique
استوحيناها هذه النظرية من عند هابرماس، خاصة من كتابه " الماركسية بعد ماركس" الصادر سنة 1975. والفكرة نفسها أخذها هو بدوره عن جان بياجي في نظريته حول علم النفس التكويني. فقد كان على هذا الأخير، أن يواجه أطروحات المدرسة الوظيفية التي كانت سائدة في علم النفس خلال عقود الخمسينات والستينات من القرن الماضي. كان أصحاب هذه المدرسة يفسرون السلوك البشري، على اعتبار أنه مجرد استجابة لمحفزات خارجية، وأنه بمجرد تغيير هذه المحفزات، يمكن أن يتغير سلوك الفرد. غير أن بياجي يرد على ذلك بأن سلوك الفرد إنما هو نتيجة عملية طويلة ومتراكمة من التنشأة والتكوين وذلك منذ ولادته، وأن المحفزات الخارجية وإن كان لها تأثير على الفرد، فليست هي التي ستحدد سلوكه. أي أن العامل الأساسي في ذلك داخلي وليس خارجي.
وقد حاول بياجي أن يبرهن عن ذلك، بتتبعه لسلوك الفرد منذ طفولته، فيكتشف أن لهذا الأخير آليات داخلية تتحكم في تطوره، وهو حتى إن تعرض لمؤثرات خارجية، فهذه الأخيرة لن تكون ذات فعل إلا إذا تم استبطانها من طرف هذه الآليات. أو أن المحفزات الخارجية يجب أن تمر بالضرورة عبر هذه الأخيرة حتى يصبح لها تأثير على الفرد. وقد اكتشف بياجي أيضا، أن الفرد يمر بسبب هذه الآليات بمراحل من التطور السلوكي والنفسي، بحيث تكون كل مرحلة هي نتيجة لكل ما تكون لديه أو راكمه من أحداث وتجارب سابقة. وهذه المراحل هي ما يسميه بياجي بالطفولة الأولى فالثانية ، فمرحلة الصبا والمراهقة ثم الشباب فالبلوغ .. ألخ.
هذه النظرية سيحاول هابرماس نقلها إلى مجال التاريخ والأنتربولوجيا، فيتعامل مع المجتمع وكأنه فرد بشري. أي أنه هو أيضا يتطور بفضل آليات داخلية خاصة، وإذا كانت من مؤثرات خارجية، فإنما يتم استبطانها و إدماجها من الداخل. وكما الفرد البشري، يمر المجتمع أيضا من مراحل متدرجة من التطور حيث تبنى كل مرحلة على ما سبقها من تجارب وأحداث عاشها المجتمع من قبل. فهناك مرحلة الطفولة الأولى حين كان المجتمع البشري لا يزال يتلمس طريقه نحو الوعي بذاته، أو ما يعبر عنه بظهور الثقافة. ووعي الإنسان في لحظة معينة بأنه مختلف عن الطبيعة، إنما يمكن مقارنته بفطام الطفل أو باللحظة التي يعي فيها أنه منفصل عن أمه ومختلف عنها. ثم أن المجتمع يتدرج في تطوره، فنقول عنه أنه في مرحلة الطفولة الأولى أو الثانية، أو في مرحلة المراهقة أو الرشد .... ونحن يمكن أن نعتبر أن البشرية قد بدأت تدخل مرحلة الرشد حين اكتشفت العقل. وبوادر هذا الاكتشاف كانت مع الفلسفة الاغريقية. لكن لأن ليس كل المجتمعات البشرية تسير بنفس وتيرة التطور، فقد تأجل هذا الرشد إلى أن جاءت النهضة الأوروبية. ولكن الوصول إلى هذه المرحلة الأخيرة، لا يعني أن البشرية قد تخلصت من رواسب طفولتها أو مراهقتها. فكما أن الفرد البالغ يبقى محكوما طوال حياته برواسب طفولته، وهو يمكن في أية لحظة أن يعاود السقوط تحت تأثيراتها، فيقوم بتصرفات صبيانية، بسبب ما يسميه علماء النفس باللاشعور الذي يبقى دائما حاضرا في دواخله، فكذلك المجتمع الراشد قد يتصرف بصبيانية وبطيش المراهقة، بسبب تأثير اللاشعور الجمعي الذي وإن بقي في حالة كمون، فهو قد يعود إلى السطح في أية لحظة.
إن خاصية هذه النظرية النشأتكوينية، حين نوظفها في تحليل المجتمع في مرحلة معينة، أنها تفرض علينا ألا نقتصر في التحليل، على الإحاطة فقط بالمعطيات الخاصة بتلك المرحلة، كما تفعل مثلا النظرية الماركسية، حين تقتصر على تحليل العوامل المؤثرة الخاصة بمرحلة تاريخية محددة، كالمرحلة الرأسمالية أو الإقطاعية ... ولكن أن نتعامل مع هذا الأخير تماما كما يتعامل عالم النفس مع مريضه، حين يعمد إلى سبر أغوار كل مراحل حياته، منذ أن خرج من بطن أمه أو حتى وهو لا يزال جنينا.
وأكيد أنه باستحضار أو بالتركيز على أهمية ما يسمى باللاشعور الجمعي في تحليل المجتمعات، يكون هابرماس قد أعطى مكانة قوية للعنصر الثقافي في التحليل، وهو ما سيتأكد لاحقا في نظريته حول الفعل التواصلي، وبالتالي يكون قد تجاوز الماركسية التي بقيت تربط كل شيء بالجانب الاقتصادي فقط وبالعوامل الانتاجية الخاصة بمرحلة معينة. ولهذا ارتأينا أنه ربما من الأفضل أن ننتقل من الحديث عن المادية التاريخية ذات المنشأ الماركسي إلى الحديث عن المادية النشأتكوينية.
وللإشارة فإنه بكشف التطابق بين طريقة تطور الإنسان الفرد وتطور المجتمع البشري تتضح أكثر صحة نظرية الفراكتال أعلاه، التي توضح هنا كيف نفس شكل التطور الذي قد نجده في الكائن البيولوجي هو الذي نجده في النظام الاجتماعي وهو نفسه الذي نصادفه في المستوى الثقافي كما سنرى في الفقرة اللاحقة.

11- نظرية الميمات أو "الجينات الثقافية" théorie des memes
وهي نظرية اقترحها لأول مرة في السبعينات ريتشارد داوكينز، الذي قام أيضا بإعادة تحيين نظرية داروين في التطور، خاصة بعد ظهور عدد كبير من الاكتشافات الجديدة في علم الجينات. مفاد هذه النظرية أن الأفكار والمعاني إنما تتصرف، أو لها تقريبا نفس الآليات كما عند الجينات. أي أنها هي أيضا تسعى إلى التوالد وإعادة الانتاج، والانتقال من مكان إلى آخر والبحث عن البيئات الاجتماعية والثقافية والنفسية المناسبة قصد الاستيطان وضمان الاستمرارية.
وقبل الحديث عن هذه الأخيرة، لا بد من الإشارة أولا ولو باختصار، إلى بعض ما وصل إليه العلم في موضوع الجينات. فما أصبح معروفا على هذا المستوى، أن هذه الأخيرة، منذ أن ظهرت إلى الوجود، أي حين ظهرت الحياة على سطح الأرض منذ حوالي ثلاثة ملايير سنة، وهي تسعى إلى التوالد وإعادة إنتاج نفسها حتى تضمن استمراريتها. ولهذا الغرض عملت الجينات على توظيف كل الإمكانيات التي تتيحها الظروف الطبيعية الفيزيائية منها والكيماوية فوق الكرة الأرضية. وباعتبار أن هذه الجينات هي جزء من هذا العالم الطبيعي الذي تمثله الأرض، فقد كان من الضروري أن تخضع هي أيضا، لنفس القوانين المتحكمة في هذا الأخير. ومن هذه القوانين بطبيعة الحال، قانون التعقيد أو التطور، والذي يأخذ كما رأينا مسارات مختلفة:
فهي قد تأخذ مسارا تعدديا، بحيث تدفع الخلايا التي تحملها إلى الانقسام على نفسها والتكاثر والانتشار حيثما وجدت بيئة مناسبة. ولعل من الجينات التي لا زالت تعتمد هذا المسار في التكاثر، هي جينات البكتيريا والكائنات الأخرى الأحادية الخلية. كما قد تتبع مسار التخصص الوظيفي، أي عوض أن تتفرق الخلايا بعد انقسامها، تفضل البقاء متوحدة في جسم واحد متعدد الخلايا، لكن مع إحداث تخصص أو توزيع للوظائف بين الخلايا المختلفة المكونة لهذا الجسم. ومن تم تنتقل إلى تعقيد سلمي complexité scallaire ou d’échelle، بحيث تتجمع الخلايا المتخصصة في وظائف متشابهة، في وحدات وسطى ما بين الجسم والخلايا هي الأعضاء أو الأجهزة الجسمية.
ومن الأكيد، أن هذه الجينات منذ ظهورها قبل ملايين السنين، وهي تجرب أشكالا وظيفية أو تخصصية مختلفة، لكن عملية الانتقاء التي تفرضها العوامل الطبيعية، كالحرارة والرطوبة والضوء، تجعل كثير من هذه الأشكال تندثر ولا تبقى غير الجينات أو الخلايا التي طورت وظائف ملاءمة مع هذه العوامل الأخيرة. ومع كل تغيير يحدث في الطبيعة، يزداد التعقيد الوظيفي والسلمي في الأجسام الحية. وما أنواع الكائنات الحية الهائلة التي استوطنت الأرض لحد الآن، إلا أشكال اختارتها الجينات لتضمن توالدها واستمراريتها. فالجينات هي التي دفعت إذن إلى ابتكار وظائف أو تخصصات أو آليات جديدة لاستخدامها في بحثها الحثيث عن البيئات الملاءمة للتناسل والتكاثر، ومن ذلك مثلا امتصاص التغذية مباشرة من الأرض عن طريق الجذور بالنسبة للنبات، أو السباحة في الماء أو الطيران في الفضاء أو المشي على الأقدام ...ألخ وعلى عكس القناعة السائدة، فإن أجسامنا حسب هذا التصور، ليست في آخر الأمر غير آلات جد معقدة تستعملها هذه الجينات لتحقيق غرضها في الاستمرارية. فلسنا نحن الذين نسعى أو نرغب في التوالد، وإنما هي جيناتنا التي توظف أجسامنا لتحقيق غايتها.
ثم للإشارة هنا، أن بناء أجسامنا وأجسام كل الكائنات الحية الأخرى، لم يأت بشكل جاهز أو حسب خطة معدة مسبقا، ولكن الهيئة التي نوجد عليها إنما جاءت فقط نتيجة لسلسلة من التجريب والخطأ. أي أنه بعد أن تم تجريب ملايير الأشكال الجسمية، فقط الأشكال التي صمدت منها أمام العوامل الطبيعية، أي التي حظيت بالانتقاء الطبيعي هي التي بقيت، بينما اندثرت الأشكال الأخرى. وبعبارة أخرى، أن الهيئة الجسدية التي نوجد عليها ليست من عمل مهندس، قد قام مسبقا بوضع تصميم أو مخطط قبل الشروع في البناء، كما في التصور الميتولوجي حول قصة خلق آدم، ولكن كأنها فقط من فعل "ملفق" bricoleur يجرب في كل مرة طريقة أو شكلا معينا حتى يعثر على الحل المناسب.
غير أن أهم ابتكار ربما توصلت إليه هذه الجينات، هو ما يسمى بالميمات أو ما سيتطور لاحقا إلى المعاني والأفكار. فالميمة une meme يمكن تعريفها بأنها وحدة معلوماتية أو حزمة من المعلومات، أو ما يشبه "البايت" bit في الاعلاميات، والتي يمكن أن تنتقل من فرد إلى آخر، حاملة معها معنى معين. وهي قد تكون في شكل إشارة أو رمز أو فكرة ...
في البداية كانت الكائنات الحية، وهي تسعى إلى التوالد والبحث عن الاستمرارية، وبعد أن اخترعت الحواس كوسيلة للتعرف على محيطها وجمع المعلومات عنه، تشتغل كل بمفردها، بدون الاهتمام أو التعاون مع الأفراد الآخرين من جنسها. ثم أن هذه الكائنات اهتدت إلى أنه من مصلحتها، لتوفير حظوظ أكثر، أن تتعاون فيما بينها، فظهرت المجتمعات الحيوانية الأولى. غير أن هذا التعاون لكي يتحقق، افترض وجود تبادل للمعلومات التي يتوصل إليها كل فرد مع الأفراد الآخرين. وهكذا ابتكر مجتمع النمل مثلا، طريقة لتبادل المعلومات باستعمال رائحة أو مركب كيماوي خاص، يسمى "الفيرومون" phéromones، تنثره النملة في طريقها كإشارة منها توجهها إلى أفراد جماعتها لتدلهم على موقع للغذاء أو تنبههم لخطر داهم. وعن طريق حاسة الشم، يلتقط النمل الآخر الإشارة ليترجمها إلى معلومة لها معنى معين بالنسبة إليه.
وكذلك ابتكر مجتمع النحل طريقة مشابهة لذلك باستخدامه للذبذبات الصادرة عن أجنحة النحلة حين طيرانها، لإرسال الإشارات وتبادل المعلومات. غير أن هذه الوسائل بقيت جد بدائية، لأنها تفرض على مجتمع من هذا النوع، أن يدفع بالتخصص بين أفراده إلى مستوى تخصص بنيوي، أو يدخل في خانة التعقيد البنيوي. أي أن هذا التخصص يمس البنية الجسدية لأفراد المجتمع، حيث يتخصص بعض الأفراد جسديا وليس فقط وظيفيا، في مهام جد محددة، كأن تتخصص النملة الملكة مثلا في الإنجاب ونملة أخرى في الحراسة وثالثة في جلب الطعام .... وإذا كان مجموع هذا النمل يكون نظاما محكما، ويعمل حسب برنامج معلوماتي مضبوط، فإن التخصص البنيوي للأفراد، يجعل من المستحيل على نملة أن تعيش خارج مجتمعها. وهذا ما يطلق عليه في النظرية العامة للأنظمة، بالنظام ذي الفاعل الأحادي système uni-agent الذي يمتلك مركز قرار وحيد رغم كثرة الأفراد المنتسبين إليه كما في الجيش مثلا، في مقابل النظام متعدد الفاعلين multi-agents système الذي يتميز بوجود عدة مراكز قرار ترتبط وتنسق فيما بينها، كما الأمر في النظام العالمي مثلا.
كانت البداية التي هيأت لظهور مثل هذا النظام الأخير، هو ربما حين اهتدت بعض الكائنات الحية إلى آلية التوالد الجنسي، أي بالتقاء الذكر والأنثى، عوض التكاثر الانقسامي كما عند البكتيريا. وبالخصوص بعد أن اختارت إناث الحيوانات الثديية، الاحتفاظ ببيضها داخل رحمها حتى اكتمال نمو الجنين، ثم الاستمرار في العناية بالرضيع إلى سن معينة.
وربما ستكون تلك العلاقة التي ستنسج بين الحيوان الأم ورضيعها، هي أول نوع من العلاقة بين نظامين حيين مستقلين نسبيا بعضهما عن بعض. أي أن هذه العلاقة هي التي ستؤسس لأول نظام ثنائي الفاعلين bi-agents ، يمثل كل واحد منهما مركز قرار مستقل بذاته، والتي سيمهد لقيام نظام أكثر من ثنائي. وللتواصل بين الطرفين، سيعتمد هذان الفاعلان على وسائط متعددة لتبادل المعلومات، كالرائحة واللمس والصوت والإشارات المرئية.
وبهذا التعدد في الوسائط، سيصبح ممكنا تحقيق التواصل بين أكثر من فردين، وتتحول تلك الإشارات والرموز التي تتبادلها الأم مع رضيعها، إلى إشارات بين أفراد الجماعة الحيوانية المتعددة. ومع المدة ستكتسب تلك الإشارات، خاصة الصوتية منها، ثبوتا واستقرارا أكبر، أي ستتحول إلى وحدات معلوماتية ثابتة، تحمل نفس المعنى مهما اختلف المكان أو الزمان أو الأفراد الصادرة عنهم. فصوت الإنذار الذي يطلقه حيوان معين داخل القطيع، سيكون له نفس المعنى ونفس الوقع على كل أفراد القطيع. وسيكون هذا الصوت من بين أولى الميمات التي ظهرت إلى الوجود.
ومع تزايد التعقيد البنيوي والوظيفي عند مجتمع الحيوانات، أي تطور خصائص جسمية نوعية وظهور وظائف جديدة لدى أفراده، سيغتني سجل هذه الميمات أكثر فأكثر، ويتوسع قاموس الإشارات الحاملة لمعنى. أو بلغة الإعلاميين، ستتبلور مجموعة من "الألغوريتمات" algorithmes ، أي بنوك معلومات مشفرة بطريقة يسهل تداولها بين جميع أفراد المجتمع.
وإذا كانت بعض الكائنات الحية تقوم بتثبيت جزء من تجاربها أو ما راكمته من معلومات وميمات، في صميم بنيتها البيولوجية، أي في شكل رموز وشفرات وراثية تترجمها إلى مركبات كيماوية مسجلة في جيناتها، وهذا ما يحدث في حالة ما يعرف بالطفرة البيولوجية، فإن كائنات أخرى ستبدع آلية أكثر نجاعة وسرعة لنقل المعلومات من جيل إلى آخر. وهو ما يتمثل في التنشئة الاجتماعية. فبفضل هذه الأخيرة، لم يعد من الضروري انتظار مثل تلك الطفرة التي لا تحدث ربما إلا على رأس عدة أجيال، لنقل التجارب المتراكمة عن طريق الوراثة، ولكن أصبح من الممكن نقل ذلك إلى الأفراد المولودين حديثا في زمن قياسي. أما أداة هذه التنشئة الأساسية، فكانت هي المحاكاة، حيث يراقب صغير الحيوان حركات الكبار ليقلدها ويستفيد من خبراتهم، موفرا بذلك الجهد الذي كان سيتطلبه منه المرور بنفس تجارب هؤلاء. ففي حالة التقليد، أنه كلما توفر لحيوان داخل الجماعة معلومة أو تجربة جديدة ثبتت نجاعتها في الممارسة، فإن هذه المعلومة أو الميمة تكون لها أوفر الحظوظ لأن يتقبلها الآخرون، أو تنتقل إليهم عبر المحاكاة والتقليد.
وكلما تزايد حجم المعلومات المتداولة، إلا واضطرت الجينات المكونة للفرد إلى دفع المزيد من الخلايا للتخصص في مجال تخزين المعلومات ومعالجتها، أي الزيادة في عدد الخلايا العصبية والرفع من قدرات الدماغ حتى يكون قادرا على انجاز هذه المهمة. غير أن المزيد من التعقيد البنيوي في الدماغ : تكاثر الخلايا العصبية، أو من التعقيد الوظيفي : ظهور مراكز متخصصة في الدماغ ينفرد كل واحد منها بمعالجة نوع معين من المعلومات، بصرية مثلا أو سمعية أو غير ذلك، قد أدى في مستوى معين، إلى انبثاق وظيفة دماغية جديدة أكثر تعقيدا، لتكون أرضية تقاطع interface لكل الوظائف الدماغية الأخرى، أو للتنسيق فيما بينها. وهذا ما نشاهد له نموذجا قريبا حاليا في مجال المعلوميات، بمحاولة الانتقال من أجهزة الحواسب التقليدية إلى حواسب الذكاء الاصطناعي. وهذه الوظيفة الجديدة هي ما نطلق عليه الذكاء أو الوعي، والذي استطاع أحد الحيوانات من فصيلة الرئيسيات primates، أن يكون السباق إلى إبداعها، فيؤسس بذلك لفصيلة حيوانية أكثر رقيا هي الإنسان.
وستسمح هذه الطفرة الدماغية التي يقدر الأنتروبولوجيون أنها وقعت ما بين 6 و2 ملايين سنة من الآن، بالتداول الواسع للمعلومات، خاصة بعد ابتكار الإنسان لواسطة جديدة قادرة على حمل هذا الكم الهائل من المعلومات، هي اللغة. وسيتواصل هذا التطور الدماغي بوتيرة أكثر فأكثر سرعة، ليظهر الإنسان العارف homo sapiens، قبل 200 ألف سنة، ثم الإنسان العارف الحديث homo sapiens sapiens قبل 50 ألف سنة.
غير أن الجديد النوعي الذي سيحمله هذا التطور الدماغي، هو أن الميمات ستجد التربة جد خصبة للإنتشار حتى بدون الإعتماد على الجسم أو الدماغ الذي حملها في البداية. وبمعنى آخر أنها ستحصل على نوع من الاستقلال الذاتي عن الجسم، تماما كما سبق وأن حصلت الجينات على نوع من الاستقلال اتجاه العالم الفيزيائي والكيماوي الذي أنتجها، فلم تعد مرتبطة بالبيئة التي ظهرت فيها لأول مرة، وصار بإمكانها الإنتقال إلى بيئات جديدة عن طريق السباحة أو المشي أو الطيران.... أي أن هذه الميمات وبفضل الوسائط الجديدة خاصة اللغة، سيصبح بإمكانها التنقل بحرية بين أدمغة الجماعة أو الجماعات البشرية، ويظهر بالتالي نظام جديد بالغ التعقيد و متعدد الفاعلين هو الثقافة.
وهكذا يمكن أن نعرف هذه الأخيرة، بأنها هي مجموع الميمات أو الوحدات المعلوماتية التي راكمتها البشرية منذ انفصالها عن الرئيسيات الأخرى، وبقيت تتداولها فيما بينها.
أما عن الآليات والقوانين التي ستتحكم في هذا النظام الثقافي، فهي لن تخرج بالضرورة عن الإطار العام للنظام البيولوجي باعتبار أن الجزء يتبع للكل. بل وحسب ما تذهب إليه نظرية "الفراكتال"، أن هذه الآليات لن تكون أكثر من صيغة لكن أكثر تعقيدا، من آليات البيولوجيا.
فالميمات ستسعى بدورها إلى البحث عن الاستمرارية، وتتبع في ذلك طرقا متنوعة. فهي من جهة ستحرص على الانتشار والتكاثر العددي، وذلك بالانتقال عبر المحاكاة إلى أكبر عدد ممكن من الأدمغة عبر وسائط جديدة أكثر فعالية تبتكر في كل مرة. ومن ذلك مثلا، توظيف الرنات الصوتية الموزونة كما في الغناء أو الشعر أو الأمثال الشعبية، حيث تستفيد من قابلية خاصة لدى الدماغ البشري اتجاه الأصوات، لتتسرب بسهولة إلى ذهن الفرد المتلقي. فهذا الأخير سيجد سهولة أكبر في حفظ وتذكر الكلام الموزون أو الملحن، بالمقارنة مع الكلام المسترسل العادي. وهذا ينطبق أيضا على الرموز المرئية وعلى الصور التي ستكون في أصل ظهور الكتابة.
ثم أن الميمات ستخضع بدورها، لمبدأ التعقيد البنيوي ، بأن تختار ميمة الاندماج مع ميمة أخرى أو أكثر، لإنتاج ميمة جديدة أكثر لياقة أو قدرة على المنافسة. وما نسميه بالتجريد الذهني ليس في الحقيقة سوى عملية مسترسلة من التعقيد البنيوي، أي من الاندماج بين ميمات متعددة، يتنج عنه في كل مرة ميمة أكثر تعقيدا، قد تكون فكرة أو نظرية أو قانونا علميا. وإذا كانت الجينات في بحثها عن الاستمرارية قد أبدعت آلية التزاوج بين حاملين لنوعين مختلفين من الجينات: ذكر وأنثى، فإنه في عالم الميمات قد يحدث التزاوج أو التركيب بين أكثر من صنفين من الميمات. وبالتالي تكون القدرة على إنتاج الميمات الجديدة أكبر وذلك ما نجده في قدرة التخيل الواسعة عند الإنسان.
وكما أن الجينات تبقى في حالة بحث دائم عن البيئات الطبيعية والبيولوجية المناسبة للانتشار والتكاثر، فكذلك الميمات. غير أن البيئة التي تبحث عنها هذه الأخيرة ليست طبيعية ولا بيولوجية، وإنما من طبيعة نفسية أو ثقافية أو اجتماعية. فإذا أخذنا ميمة معينة كفكرة الإرهاب مثلا، فهي ستجد مبتغاها عند الشخص الذي له مواصفات نفسية معينة ويحمل قناعات ثقافية خاصة ثم أنه يعيش في بيئة اجتماعية تقبل مثل هذه الفكرة، وحين ستعثر عليه ستقوم بالاستحواذ على عقله وبالتالي توظيفه حسب مبتغاها.
وبعبارة أخرى، أنه كما الجينات توظف أجسامنا لتحقيق غايتها، فكذلك تفعل الميمات بعقولنا وأذهاننا. وعلى سبيل الإشارة، أنه لما كنت أحاول شرح هذه الفكرة لزوجتي، وجدت هي التعبير المناسب عن ذلك، بأن الميمات إنما "تسكننا" تماما كما "يسكن الجن" بعض الناس في الاعتقاد الشعبي. وهذا يعني أنه حين أحاول أنا مثلا الدفاع عن فكرة معينة، فليس لأني أنا الذي اقتنعت بها، ولكن لأنها هي التي سكنتني وتقوم الآن بتوظيفي لصالحها. وفي الحقيقة لست أدري وأنا أحاول تفسير فكرة الميمات، إن كنت أنا الذي أخاطبكم هنا، أو أنني مجرد بوق مسخر من طرف هذه الأخيرة، تستعملني لكي تتسرب إلى عقولكم أنتم أيضا.



#حميد_باجو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فتوى المغراوي وسؤال الإصلاح الديني في المغرب
- من أجل إعادة التأسيس المعرفي لفكرة اليسار
- الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية : من يسار للدولة إلى يسار ل ...
- اليسار المغربي نداء بوزنيقة للعمل اليساري المشترك.
- تيار الاشتراكيون الجدد : مسؤولياتنا
- -رحيل اليازغي عن الاتحاد الاشتراكي... نهاية الأزمة أم بدايته ...
- تجربة -الاشتراكيون الجدد-
- الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تيار -الاشتراكيون الجدد-
- التصورات حول العالم والإنسان في الديانات والمعتقدات القديمة
- أي مستقبل لليسار المغربي؟
- اليسار المغربي في الحاجة إلى إعادة التأسيس
- مشروع أرضية لتيار الاشتراكيون الجدد داخل الاتحاد الاشتراكي ل ...
- عن مآل الاشتراكية


المزيد.....




- فيديو غريب يظهر جنوح 160 حوتا على شواطىء أستراليا.. شاهد رد ...
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1000 عسكري أوكراني خلال 24 سا ...
- أطعمة تجعلك أكثر ذكاء!
- مصر.. ذعر كبير وغموض بعد عثور المارّة على جثة
- المصريون يوجهون ضربة قوية للتجار بعد حملة مقاطعة
- زاخاروفا: اتهام روسيا بـ-اختطاف أطفال أوكرانيين- هدفه تشويه ...
- تحذيرات من أمراض -مهددة للحياة- قد تطال نصف سكان العالم بحلو ...
- -نيويورك تايمز-: واشنطن سلمت كييف سرّا أكثر من 100 صاروخ ATA ...
- مواد في متناول اليد تهدد حياتنا بسموم قاتلة!
- الجيش الأمريكي لا يستطيع مواجهة الطائرات دون طيار


المزيد.....

- عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها / عبدالرزاق دحنون
- إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا ) / ترجمة سعيد العليمى
- معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي / محمد علي مقلد
- الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة ... / فارس كمال نظمي
- التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية / محمد علي مقلد
- الطريق الروسى الى الاشتراكية / يوجين فارغا
- الشيوعيون في مصر المعاصرة / طارق المهدوي
- الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في ... / مازن كم الماز
- نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي / د.عمار مجيد كاظم
- في نقد الحاجة الى ماركس / دكتور سالم حميش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - حميد باجو - اليسار والحاجة إلى التجديد المعرفي