أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - عهد جديد....مجموعة قصصية















المزيد.....



عهد جديد....مجموعة قصصية


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2494 - 2008 / 12 / 13 - 11:02
المحور: الادب والفن
    


شاكر خصباك


عهد جديـد
مجموعة قصص










الطبعة الأولى – 1951م

















المحتويات
عهد جديد 5
الأغلال 31
الدخيل 37
الرهان 47
قلب كبير 60
المنزل رقم 4 66
حب بالإكراه 76
الخاتم الماسي 83
صديقي عبد عليّ 92
أعوام الرعب 103










عهد جديد

يندر أن أعود من المدرسة ساعة الظهيرة دون أن يستقبلني صوت أبي عند الباب. دخلت الدار فبصرت به متربعا على الحصير في "الليوان" وأمامه صينية الطعام. وجلس إلى جواره أخي الكبير نجم. وكانت أمي تتهيأ لطي القطعة المتبقية من فتيلة الصوف، لكن حماسة أبي للطعام اشتدت حين رآني داخلا فصاح: متى ستصبين الغداء؟
ألقت أمي مغزلها جانبا ونهضت وهي تقول: من عيني.
اتجهت إلى غرفتي بعد أن ألقيت التحية. واستبدلت لباس المدرسة بجلباب البيت على عجل قبل أن ينادي أبي عليّ.
أقبلت زينب بأقراص الخبز ووضعتها في الصينية أمام أبي فمد إليها يده يقلّبها وجها لظهر. ثم رفع رأسه ورماها بنظرة صارمة وقال: ألم تجدي غير هذه الأرغفة المحروقة؟
ونحى بعض الأرغفة بعيدا فتناولتها زينب وغابت في الغرفة لتأتي بغيرها. وحملت فطيمة صحن الطعام الكبير وتقدمت نحو الصينية وهي تمشي في حذر وتتحسس مواضع قدميها كالعمياء. وأراحت الصحن في الصينية وتنفست الصعداء كأنها ألقت حملا ثقيلا عن كاهلها.
عادت أمي إلى جوار الموقد وتشاغلت بمغزلها. وانزوت زينب وفطيمة في ركن من "الليوان" صامتتين. وبين حين وحين كانتا تتهامسان في صوت لا يبلغ مسامعنا.
أقبلت على طبق الطعام في شهية. كانت البامية منطرحة فيه بجوار بعضها في تنسيق لا تجيده سوى أمي وقطع اللحم متناثرة في أنحائه في نظام بديع. التفت أبي إلى نجم وقال دون أن يكف عن مضغ الطعام: أنا أعرف ذلك الزنيم ابن الزنيم، وكنت أخشى أن يوقعك يوما في حبائله ولذلك حذرتك منه، ولكنك خائب. وهكذا سرق منك دينارين في تلك الصفقة. أخرفان هي تلك التي اشتريتها منه؟ الحمل الذي يرضع ثدي أمه أسمن منها.
ولم يرد عليه نجم. أقبل على طعامه وكأن الخطاب موجه إلى شخص آخر. واصل أبي كلامه وهو يلوك الطعام والكلمات: كان الواجب عليك ألا تتصرف دون استشارتي فمازلت لعبة بأيدي أولئك الثعالب. بالله عليك! شاب تجاوز العشرين ومع ذلك لا يزال فريسة للمحتالين!.
عكف نجم على الطعام في صمت. لكن أمي قالت بصوتها الوديع: لا عجب أن يخطئ الإنسان في عمله يا أبا نجم فالعصمة لله وحده.
فالتفت إليها أبي وقال بتهكم: لم يبق إلا أن تعلميني شغلي.
قالت أمي دون أن ترفع عينيها عن مغزلها الدائب الحركة: أنا لا أفهم شيئا في شغلك يا أبا نجم، ولكن..
فصاح أبي مقاطعا: بس.. بس.. هيء.. سخلة تتفلسف!
وكان أبي يخاطب أمي أحيانا بهذه الكنية ربما لأنها داكنة البشرة. وكثيرا ما شعرت بالغضب لذلك . لكن امى لم تكن تعترض عليها أبدا. ولم يحتج نجم عليه يوما. لكنه قال هذه المرة بامتعاض: لا داعى يا أبى لأن تقول عن امى ذلك .
توقفت عن مضغ اللقمة وتدلى فكي الأسفل دهشة. وحدقت في نجم بعيون بلهاء غير مصدق ما التقطته أذناي. أيجسر نجم، ونجم لا غيره، على محاسبة أبي على كلامه؟! رماه أبي بنظرات ملتهبة ثم صرخ بلهجة امتزجت فيها السخرية بالغضب: ما شاء الله! أيعلمني ابني ما يجب عليّ أن أقوله وما لا أقوله؟! بالله عليك! هذا آخر الزمان!
وأعقبت صرخته لحظة صمت. كان وجه أمي قد شحب، ويدها قد توقفت عن الحركة، وسقط مغزلها على الأرض فلم تلتقطه. وتنقلت أنظارها المرتاعة بين أبي ونجم. رفع نجم رأسه في ثبات وقال: آخر الزمان أم أوله فأنا لن أرضى أن أسمع كلمات تهين أمي.
انفجر أبي صارخا: لن ترضى؟! ومع من تتكلم؟! مع من؟! ها؟!
وساد سكون مخيف لحظة من الزمن، وانحبست أنفاسنا جميعا. وفجأة فرقع في الهواء صوت حاد، ولمحت يد أبي تهوي على خد نجم ثم ترتفع لتهوي على الخد الثاني. ثم لعلع صوته: لعلك تفهم الآن من يحتاج إلى الأدب يا ثور يا ابن الثور.
سرت قشعريرة باردة في جسدي وعضضت على شفتي لأكبح دمعي. وتطلعت إلى نجم بقلب دام وبودي لو استطعت أن أفعل أي شيء ينسيه هذه اللحظة، لكنه كان ساكنا سكون القبر. وندت من زاوية "الليون" صيحة باكية، فالتفت ورأيت زينب تجهش في البكاء وجسدها يهتز بقوة . صرخ أبي بلهجة آمرة: هس.. هس وإلا كسرت رأسك.
فغاض صوت النحيب في الحال واستحال إلى نشيج خافت. ظل نجم جامدا لحظات بدت لي كأنها ساعات، ثم نهض فجأة وتوارى في الغرفة. واختلست النظر إلى أمي فلاح لي وجهها شاحباً كوجوه الموتى. وكنت قد كففت عن الأكل فهتف بي أبى آمرا: أكمل غداءك.
فمددت يدي إلى الطبق مقهورا . ثم ظهر نجم وهو يرتدى لباس الخروج ويتأبط صرة صغيرة . واتجه صوب الباب وعينا أبي تتابعانه في استنكار. ولما بلغ الباب التفت جهة أمي وتأملها لحظة ثم خرج مسرع الخطا. فتفل أبي في الهواء . وشملنا صمت مطبق . ثم علا صوت أبي يهتف في تهكم: زعل حضرة الأفندي.. زعل! طبعا يزعل. ولم لا ما دام يعتقد أن من واجبه أن يعلمني كيف أتكلم؟ ماذا جرى لأبناء هذه الأيام؟ أصبحوا كالجاموس الهائج! الاسطى رزوقى القصاب بجلالة قدره يعلمه ابنه كيف يتكلم .لا يا ابن التيس0إ ايه.. النهاية!
ما كاد أبي يغادر الدار حتى انقلبت شهقات زينب إلى عويل أليم. نهضت وأنا أقول لأمي: سأبحث عن نجم في بيوت المعارف والأقرباء.
فرنت إلي بنظرات شاردة. وكان وجهها مصفرا وكأنها نفضت عنها غبار مرض طويل. وخرجت للبحث عن نجم. وكان القلق يستعر بين جوانحي كلما مررت بمنزل أحد الأقرباء والمعارف ولم أعثر عليه. وعند الغروب رجعت إلى المنزل يائسا. وما أن لمحتني أمي داخلا وحدي حتى أسدل على وجهها قناع كثيف من الحزن. تهالكت على الحصيرة وأنا أتمتم: لم أجده.
فاتسعت عينا أمي وارتجفت شفتاها لكنها استمسكت بصمتها.
في ذلك المساء لم يشعر أحد منا برغبة في العشاء. حتى أبي لم يتناول سوى لقيمات معدودات. وكانت أمي قد انزوت بعيدا عندما حضر أبي والتفت بعباءتها وغطت رأسها بطرحة بيضاء تدلت على جبينها. وعكفت على مسبحتها الطويلة السوداء تدير حباتها بحركة آلية. وبقيت طوال وقت العشاء صامتة على غير عادتها . التفت الي ابى اخيرا و سألنى : كيف حال دراستك؟
فقلت: أنا أدرس بجد يا أبي فنحن على أبواب الامتحان.
فقال في استنكار: أبواب الامتحان؟ ما هذا؟ ألم تمتحنوا قبل أسابيع وتأخذوا إجازة؟
فقلت: الامتحان القادم هو امتحان الفصل الثاني يا أبي.
هز رأسه مستنكرا وقال: ما شاء الله! ما شاء الله! ما أحسنها وسيلة للتهرب من العمل! وما أكثر العطل التي تأخذونها بسبب الامتحانات والمعلمون يتقاضون رواتبهم من الحكومة بلا انقطاع. أيسمى هذا عملا؟! الحمد لله الذي لم يجعل كل الناس معلمين وإلا خربت الدنيا.
لم يطل أبى بقاءه وغادر الى المقهى مبكرا عن موعده..حينما رد أبي الباب وراءه أطبق على المكان صمت رهيب. الصمت . . الصمت .. لا شيء سوى الصمت . جمدت أمي في موضعها ساكنة كأنها تمثال. وانكمشت زينب وفطيمة في زاويتهما المعهودة. وتحيرت صينية الطعام في موضعها وقد توسطها صحن الطعام وكأنه لم يمس. كان كل شيء جامدا ساكنا كأن عصا سحرية لمسته فأحالت حركته جمودا. وبدا نور المصباح الزيتي خافتا وفتيلة القنديل آخذة في الذبول كأنها تشاركنا كآبتنا.
زحفت الدقائق وكأنها ساعات والصمت المقبض يخيم علينا كما يجثم الكابوس على صدر النائم. حاولت مرارا أن أحطم الصمت لكنني لم أدر ماذا أقول فقد خوى رأسي من الأفكار.ومكثت ساكنا وظهري مسند إلى الجدار وعيناي محلقتان في الفضاء. حركت أمي أخيرا رأسها وقالت لزينب بصوت واه: متى تتعشيان؟
فقالت زينب: وأنت.. هل ستتعشين معنا؟
أجابت الأم: لن أتعشى فلست جائعة.
فقالت زينب: ونحن أيضا لن نتعشى. سننتظرك حتى تجوعي.
قالت أمي: لا شأن لكما بي. كُلا عشاءكما قبل أن يبرد.
قُلت لأمي: وهل ستبقين صائمة يا أمي؟
قالت بلهجة حاسمة: قلت لكم لن آكل شيئا. فلم تتعبوني وتتعبون أنفسكم؟
فقلت لزينب: ما دامت أمي مصرة على الصوم، فلماذا لا تأكلان؟
فردت زينب: نحن لا نشتهي الأكل.
شعرت أنني أختنق من الصمت فقمت متثاقلا وأويت إلى غرفتي. حاولت أن أقرأ فذهبت محاولاتي عبثا. كان ذهني مشتتا وكانت جوانحي تضج بالقلق. وغلى الاضطراب في داخلي كلما تقدم الليل وأصابتني حالة من الرهبة والجزع.
كانت غرفتي، وهي الغرفة التي يشاركني فيها نجم، تشرف على الزقاق. وتناهت خطوات المارة إلى مسامعي واضحة متميزة في سكون الليل. وكلما انطوت الساعات رهف سمعي. كنت أصغي لوقع الخطوات وهي قادمة من بعيد إلى أن تبلغ باب الدار، ثم تجتازه وتمضي بعيدا حتى تتلاشى رويدا . . رويدا ويبتلعها السكون. وكنت أستقبلها وأودعها بانفعال شديد. فقد كان قلبي يسرع في دقاته كلما دنت الخطوات من الباب، فإذا تجاوزتها تسربت الخيبة إلى نفسي. وأخيرا، أخيرا جدا، توقفت الخطوات عند الباب. وبلغت مسامعي طرقة خفيفة، وكم كان وقع تلك الطرقة جميلا على أذني! هرعت إلى الباب فرأيت أبي يدخل محنيا هامته العالية. وشعرت كأن قبضة قوية امتدت إلى قلبي وعصرته. بادرني أبي سائلا: ألم يرجع أخوك؟
فقلت: لا.
عدت إلى غرفتي أجر قدمي في خيبة. وبعد لحظات سمعت أبي يقول في الغرفة المجاورة: "مساك الله بالخير"، فلم يرد عليه أحد. ومرت دقائق صمت ثم ارتفع صوت أبي ثانية:" ألا تنامين؟"، فلم يحظ بجواب مرت دقيقة صمت أخرى ثم عاود الكلام: ألا تنامين؟ أتبقين هكذا طوال الليل؟
وسمعت أمي تغمغم: لن أنام على السرير.
تساءل أبي: وأين تنامين إذن؟
فقالت: أرض الله واسعة.
ثم هيمن السكون.. سكون متصل شامل.. في البيت والزقاق والكون أجمع. لم أعد أسمع خفق الخطوات في الطريق. وانقطع صرير الجندب الذي كان يعكر الصمت فكأن الكون صيغ من سكون! لا أدري كم بلغت الساعة.. لا شك أنها جاوزت منتصف الليل. أطفأت المصباح واندسست في الفراش.
كان حلما أن أطمع في النوم فقد أطبقت جفوني دون أن يمسها النعاس. تضاعفت رهافة أذني في ظلام الليل، وامتلأ سمعي بطنين السكون.. ذلك الصوت الناعم المتصل الذي يحسه الإنسان يتغلغل في أعماقه. ولست أدري متى لمس النوم عيني.
استيقظت صباحا وأنا أعاني صداعا حادا. وحالما فتحت عيني اتجهت أنظاري إلى سرير نجم. كان فراشه مرتبا لم يمسسه أحد. جلست في سريري شارد الذهن، وتواردت أمام عيني صور الأمس. رأيت يد أبي تهوي على خد نجم ثم ترتفع لتهوي على الخد الثاني. وخالجتنى
رغبة في البكاء فتشنجت عضلات وجهي وارتجفت شفتاي وتقلصت عيناي. ثم قفزت من عيني دمعتان كبيرتان انسابتا على وجنتي في بطء.
خرجت إلى "الليو ان" فرأيت أبي متربعا على الحصيرة وهو متجهم الوجه، وكانت زينب منصرفة إلى إعداد الفطور وهى تروح وتجيء في صمت كأنها تمثال متحرك. اتجهت إلى الغرفة المجاورة وحييت أمي فردت عليّ التحية بصوت مجهد. كانت متقرفصة على فراش زينب وهي شاردة النظرات ويدها تداعب حبات مسبحتها في تراخ. وبدت لي في هيئة مريعة، فوجهها أصفر شاحب وعيناها ذابلتان مكدودتان. قالت لي بصوت واهن من دون أن تنظر إليّ: تناول فطورك يا طاهر لتذهب إلى المدرسة.
فقلت: وأنت.. لماذا لا تفطرين؟ أنت لم تذوقي الطعام منذ ظهر أمس.
فقالت: سأفطر فيما بعد.
عدت إلى "الليوان" وجلست بجوار أبي في انتظار الفطور. كان أبي ساكنا في جلسته وكأنه غائب عما حوله. قالت زينب: عندنا بقايا من جبن البارحة.
قال أبي بعدم اكتراث دون أن يلتفت إليها: هاتي أي شيء.
رنوت إليه مدهوشا.. من الممكن أن يتساهل أبي في أي أمر إلا في الطعام. وها هو يتحدث عنه وكأنه يتحدث عن الصلاة والدين أو المدرسة والمعلمين! وضعت زينب أمامنا الفطور واستدارت للتنصرف فالتقت عيناي بعينيها. أطالت النظر إليّ ثم غطت وجهها بكفيها وأجهشت في البكاء. هتف أبي بصوته الأجش: لم تبكين؟
أجابت وهي تنهنه دموعها: إشتقت إلى نجم فمكانه خال من صينية الفطور.
فقال أبي فى صرامة: من يلوم طاهر إذ سماك "أم دمعة"؟
عكفنا على الفطور في صمت، وكان أبي ساهما شارد النظرات.
قال فجأة وكأنه يحدث نفسه: بالله عليك! صار الشخص ممنوعا من الكلام حتى في بيته! لا تقل الكلمة الفلانية.. لا تلفظ العبارة الفلانية.. لماذا؟! أهي أوامر حكومية؟! عجيب! ومن الذي يأمرك بتقييد لسانك؟ ابنك! هذا آخر الزمان! الأبناء يعلمون الآباء ما يقولونه وما لا يقولونه! وإذا حاولت أن تردهم إلى عقلهم زعلوا منك! من يزعل فليضرب رأسه بالحائط! هذه هي آخرة الأمر! تربي وتشقى فإذا قلت كلمة تركك ابنك وذهب وكأنه صاحب الفضل عليك.. إيه.. النهاية!
كان أبي يتحدث ويمضغ الأكل ببطء. وكنت مقبلا على الفطور بدون شهية. ترددت عيناي بين الطعام ووجه أبي فطالعتني في صفحته معان جديدة.. معان غريبة تعذر عليّ إدراكها. وحين فرغ أبي من فطوره نادى زينب فأقبلت وهي تمسح دموعها. قال لها بصوت جهير: سلي أمك عما تريد من السوق.
فغابت زينب في غرفة أمي ثم ظهرت بعد لحظات وقالت: تقول أمي ليرسل ما يريد.
فهز أبي رأسه ونهض وهو يتمتم: إيه.. النهاية!
ما أن خرج أبي حتى هرعت إلى أمي وقلت: أرجوك يا أمي أن تفطري في الحال.
كانت جامدة في موضعها كما خلفتها وهي ضائعة النظرات. قالت بلهجة مجهدة من دون أن تلتفت إليّ: قلت لك إنني لست جائعة يا طاهر.
قلت بإصرار: أرجوك أن تتناولي فطورك الآن يا أمي. هل نويت الإضراب عن الطعام؟!
تمتمت بصوت تخنقه العبرات وهي شاردة النظرات: كيف آكل وأنا لا أدري أين ولّى ولدي نجم وجهه؟ أحي هو أم ميت؟ أيذوق طعاما أم هو جائع؟! ومن يقدم له الأكل الطيب.. الأكل الذي تطبخه له أمه بيديها ويشمله الرحمن ببركته؟! أين أنت الآن يا ولدي نجومي، أين؟!
لم تكد أمي تتم مناجاتها حتى أجهشت زينب بالبكاء. وكانت قد دخلت الغرفة وانزوت بالقرب من عتبة الباب. وظلت فطيمة ساكنة لكن وجهها غام بالعبوس وعينيها ضجتا بالأم. وتعلقت عيناها بوجه أمي وازدادت انكماشا حتى لتخالها قنفذا.
كان كل شيء حولي عابسا.. أمي بمنظرها الحزين، زينب بنحيبها وشهقاتها المتلاحقة، فطيمة بسحنتها المظلمة. ووجدت ذهني يقفز بي إلى المدرسة. ترى هل يقاسي أحد زملائي ما أقاسيه الآن من غم وضيق؟
انتزعتني أمي من تخيلاتي قائلة: لماذا تأخرت عن المدرسة يا طاهر؟
قلت : لن أذهب حتى تفطري.
فقالت : قلت لك أنني بدون شهية يا طاهر.
فقلت : وأنا لن أتحرك من هنا حتى تعود إليك شهيتك.
فقالت: يوه يا طاهر.. لماذا تكون عنيدا؟
فقلت : لا داعي للقلق يا أمي فليس نجم صغيرا.. إنه رجل ولا خوف عليه. لابد أنه ذهب إلى أحد معارفه ولا يريد أن يكشف عن مكانه الآن وسيرجع في أقرب وقت بعد أن ينسى زعله.
غمغمت أمي وكأنها تحدث نفسها: ماذا جرى لك يا نجم؟ أنت تعرف أباك وتدري أنه يلوم الجميع.. كيف أغراك ‘إبليس على ملاسنته؟ وهل هذه هي المرة الأولى التي يخاطبني فيها هكذا؟! وهو.. إنه لم يضربه من قبل أبدا.. صحيح أنه يصرخ دائما، ولكنه لا يقصد شيئا.. لم يضرب أحدا منكم يوما.. كيف وسوس له الشيطان فضرب نجم؟ اللهم غفرانك وعفوك.. اللهم غفرانك وعفوك.
قلت مترفقا: على أية حال هو أبوه وله حق عليه.. إذا كان من حق المعلم أن يضرب التلاميذ، فكيف لا يحق للأب أن يضرب ابنه؟ أرجوك أن تفطري يا أمي فإن وقت الدرس الأول فات وسيفوتني الدرس الثاني.
فالتفتت إلى زينب وقالت في استسلام: أحضري لي شايا يا زينب أمري إلى الله.
أحضرت زينب فطورا لأمي وهي لا تكف عن مسح دموعها.
وأسرعت إلى مدرستي لألحق الدروس المتبقية.
أمضيت الوقت في قلق مضن. وكنت طوال ساعات الدروس أفكر بنجم وأفترض له مصائر مرعبة. وحطمت تلك التخيلات أعصابي وبلدت ذهني فلم أفهم شيئا من دروسي. ولما عدت إلى المنزل ساعة الظهيرة لم يكن صوت أبي في استقبالي عند الباب، دخلت الدار فرأيت أبي متربعا في "الليون" وهو كاسف الوجه. ألقيت التحية وسألت زينب: ألم يعد نجم؟
فتعلقت أنظارها بوجهي وتكورت عضلات عينيها ولمعت ببريق الدمع، فحولت وجهي عنها سريعا قبل أن تجهش بالبكاء. واتجهت إلى غرفتي متخاذل الخطى وقد فاضت نفسي بالغم. نضوت عني ملابسي في تماهل وأنا جياش الفؤاد. ثم خرجت إلى "الليوان" وجلست بجوار أبي في انتظار الغداء.
تباطأت الدقائق والصمت يخيم علينا. وكنت أراقب أبي من طرف خفي والدهشة تملأ جوانحي. حقا إنه لشخصية جديدة! زايلته الصرامة وتبدت في قسماته وداعة تثير الإشفاق. قلت له أخيرا: متى نتغذى يا أبي؟
فغمغم: لست جائعا.
وغرق في الصمت. وأخيرا تململ في جلسته وقال بصوت ضائع وكأنه يحدث نفسه: بالله عليك! من كان يتصور أن نجم عنيد؟ سبحان الله! كنت أتصور أنه أعظم خلق الله وداعة. كان كالحمل في وداعته. ولكن لا علم لأحد بنفوس البشر سوى خالقها. ماذا عملت له؟! ألا يمكن أن يضرب الأب ابنه؟! حتى البقرة تنطح عجلها إذا غضبت منه.
وسكت لحظة وعيناه زائغتان ثم عاد يقول بلهجته الضائعة: من كان يصدق أن نجم يرحل إلى بلدة أخرى! بعد أن تقصيت أخباره ودخت في البحث عنه علمت أنه سافر إلى كربلاء.. الحمد لله الذي هداه إلى اختيار كربلاء دون غيرها، فهناك صديقنا حمزة القصاب. إيه.. عقوق الأبناء! لو أطاع كل مسلم أوامر ربه لصلحت حال الدنيا.. ولكن من يقرأ ومن يسمع! إيه.. النهاية!
كنت أصغي إلى عباراته البطيئة المبعثرة ونفسي تجيش بالمشاعر المتبانية.. فرح بسلامة نجم، وسخط على رحيله، ورثاء لأبي. واعتصم أبي بالصمت ثانية ووجهه ينطق بالأسى . قلت أخيرا: ألا تتغذى الآن يا أبي؟
فقال بلا اكتراث: إذا كنت جائعا.
حين أحضرت زينب الطعام انحنى أبي على أذني وقال هامسا: أمك لم تأكل شيئا منذ البارحة يا طاهر فاغصبها على الأكل.
ما أن فرغت من الغذاء حتى قصدت غرفة أمي فرأيتها عاكفة على مغزلها وقد انبسطت أسارير وجهها. جلست بجوارها وطلبت من زينب أن تحضر غداءها. فاعترضت قائلة: سأتغدى فيما بعد يا طاهر.
قلت بإصرار: بل ستتغدين الآن يا أمي.
حاولت أن تعترض لكنني بادرت أقول: حلفتك بالعباس أن تتغدى الآن.. حلفتك بالحسين والعباس.
تمتمت بخشوع: يوه يا طاهر.. لم أدخلت الحسين والعباس بعد عيني في المسألة؟! أمري إلى الله.
وإذا جاز أن يمضغ الكلام، فقد مضغت أمي منه أضعاف ما مضغت من طعام! كانت تلوك اللقمة ببطء وهي تتحدث بصوتها الحزين. وكنت صامتا طوال الوقت أستمع إلى صوتها المنغم. وفي اللحظة التي مدت يدها إلى صحن الطعام رفعت عينيها إلى السماء متسائلة: أتغديت الآن يا نجم يا أبني؟
وازدردت اللقمة وما كادت تمضغها حتى هزت رأسها قائلة: توقفت اللقمة في بلعومي.. أنا متأكدة أن نجم جائع الآن.. أنا متأكدة أنه لم يأكل أكلا طيبا.
وسكتت لحظة ثم عادت تقول بنبرة ساخطة: بقي طول عمره ينابز نجم.. لم يرحمه من منابزته حتى جعله يفر من بيته.. الله يسامحه.
وركنت إلى الصمت لحظات ريثما تناولت لقمة أخرى ثم عادت تقول: شكرا لله.. كربلاء ولا غيرها.. إنه بجوار قبر الحسين الآن. ويعلم الله أن محبتك في قلبي يا أبا عبد الله لا تعدلها سوى محبة المصطفى وأبي الأئمة. وقد سلمته بين يديك فاحفظه لي وأعده سالما.. بجاه أختك زينب.
فرغت أمي من غدائها فانصرفت إلى مغزلها. ثم تناهى إلينا سعال خافت ودخل أبي في أعقابه وقال: اتسخ ثوبي وأريد أن أبدله.
فقالت أمي دون أن تحيد عيناها عن مغزلها: ناد أختك الكبيرة يا طاهر.
ناديت زينب فلما حضرت قالت لها أمي: يريد أبوك أن يغير ثوبه.
فاتجهت زينب إلى الخزانة وأخرجت جلبابا نظيفا ناولته لأبي وفارقت الغرفة. قال أبي بنبرة واهنة وهو يغير ملابسه: قضيت ساعات الصباح أروح وأجئ كرقاص الساعة. لم يبق قريب ولا صديق في محلة التعيس لم أسأله عن نجم. ولم أعثر على من أرشدني إلى مكانه إلا بعد أن هلكت.. الحمد لله الذي هداني إلى السؤال عنه في محطة السيارات وإلا لما عرفت مكانه.. أخبرني الأسطى مجيد أنه سافر ظهر أمس في سيارته إلى كربلاء.. إيه.. النهاية!
كان أبي وهو يتحدث يختلس النظرات إلى أمي، لكنها تشاغلت بمغزلها وكأن حديثه لا يعنيها. وحينما فرغ من ارتداء جلبابه التفت إليّ قائلا: لا تهلك نفسك بالدراسة يا طاهر.
ثم أضاف مترددا: وإذا أردت يمكنك أن تصحبني إلى القهوة..
فقلت: الامتحان على الأبواب يا أبي.
فقال: أنت تعرف صالحك.
تعلقت عيناي بهامته وهو يخطو تجاه الباب، ولما اختفى لبثت أحدّق في الفضاء بذهول.. هل هذا أبي حقا؟! وانتشلتني فطيمة من أفكاري حين سمعتها تسأل أمي بلهفة: "هل سيرجع نجم قريبا يا أمي؟" وكانت قد تسللت إلى الغرفة وانكمشت بجوار أمي. أجابتها أمي: لا أدري يا فطيمة.. لكنني سلمته بيدي الحسين والعباس.
فعلا نحيب زينب، وكانت قد دخلت في أعقاب فطيمة. ظللنا صامتين وشهقات زينب تبدد السكون. انثنيت أرسم خطوطا دائرية على الحصيرة وأنا مطرق. وأخيرا التفتت أمي إلى زينب وقالت: لا يصح يا زينب أن تبكي على نجم، فالبكاء يصيب الغائب بعين شريرة.
فكفكفت زينب دموعها. وجثم الصمت الحزين الخانق على الغرفة. ونقلت بصري بين أمي وشقيقتي وجدران الغرفة ومحتوياتها. وخيل إلي أن كل ما في الغرفة يثير الكآبة.. الجدران وقد برزت أحجارها السود بلونها الكالح.. السقف الواطئ وقد تراكم الدخان على جذوعه..نسيج العنكبوت الذي يغطي زوايا السقف كأنه أعشاش الطيور في هندسته.. السرير الخشبي المنزوي في ركن الغرفة بما تراكم تحته من قدور وصحاف.. خزانة الخشب الصغيرة التي تجاهد في الوقوف على قدميها في ركن من الغرفة. واسترعت البقعة المتربة المجاورة لعتبة الباب انتباهي فرحت أراقب أسراب النمل وهي ماضية إلى مأواها في ثقوب الجدران. وامتدت يدي إلى الحصيرة تستل من نسيجها الخيوط الناتئة. وزادت شهقات زينب المترادفة من توتر أعصابي. نهضت بتخاذل وفارقت الغرفة.
أحسست برغبة طاغية في الإفلات من بين جدران المنزل كما لو كانت تلك الجدران حوائط زنزانة تكتم أنفاسي. لكنني لم أدر إلى أين أتجه. وتراءت لي صورة أبي وترددت في سمعي دعوته لي لمصاحبته إلى المقهى. فارتديت ملابسي عجلا وأسرعت إلى المقهى.
وكنت أعرف القهوة التي اعتاد أبي أن يرتادها ، وهو مقهى متواضع يقع على مقربة من منزلنا فى عكد الطويل. وكثيرا ما مررت به في طريقي إلى المدرسة فكنت أرى أبي جالسا بين صحبه وجلهم من القصابين. ولمحت أبي من بعيد وهو يتوسط صحبه. وكان قد احتل مقعدا طويلا وطوى إحدى ساقيه وثنى الأخرى وأراح ظهره على المتكأ الخشبي وأمامه نارجيلة يقرقر بها. ولما حاذيت مجلسهم ألقيت التحية بصوت وجل، فردوا عليّ التحية مرحبين. واعتدل أبي في جلسته وأفسح لي مكانا بجواره وهو يقول بلهجة لطيفة: تعال يا طاهر.
انكمشت بجوار أبي وأنا أحس بالدم يندفع إلى وجهي. وحاصرني الخجل فتلك هي المرة الأولى التي أغشى فيها المقهى. وكان حضوري قد قطع على الجماعة حديثها، لكن أبي استأنف الحديث بعد حين قائلا: الحقيقة يا جماعة أن إفلات الأسطى جلعوط من العقاب بعد أن ضبط في دكانه اللحم المغشوش للمرة الرابعة لأمر عجيب.. مع ان الكل يعلم انه يذبح ذبائحه المغشوشة فى بساتين مشهد الشمس.
فرد عليه أحد الجالسين: يا أبا نجم.. القضية قضية فلوس. والمفتش الجديد طماع للغاية.
فقال شخص آخر: لماذا تلومون الأسطى جلعوط والمفتش لوحدهما؟ إذا كانت السمكة قد جافت من رأسها فما أهمية الذيل؟ القضية قضية كبار لا صغار.
وأيد الآخرون هذا القول بهزة من رؤوسهم. ثم أخرج أبي ساعته بعجلة كمن فاته موعد ونظر فيها ثم قال: يجب ؟أن أذهب الآن إلى دائرة البرق والتليفون لأتصل بحمزة القصاب.. أخبرني الموظف المسؤول أن أعود بعد ساعة فخط التليفون معطوب.
وسكت لحظة ثم أضاف: منذ يومين وأنا كالمتعطل عن العمل.. كيف أشتغل وذهني مشتت تائه؟ أرجو أن أسمع من أسطى حمزة أخبارا عن نجم تطمئنني.
فقال أحد الموجودين: الحق معك يا أبا نجم.. كيف يستغني الدكان عن نجم؟ ألم يفكر كم سيسبب اختفاؤه من قلق لك؟
وأضاف شخص آخر وهو يهز رأسه: نجم درة.
قال أبي متحسرا: صحيح.
والتفت أبي إليّ قائلا: أتحب أن تصحبني يا طاهر؟!
فقلت: أفضل العودة إلى البيت يا أبي.
حينما دخلت زقاقنا رأيت امرأة عبد الأئمة العطار واقفة على باب منزلها تراقب ولدها الصغير وهو يتبرز بجوار الباب. سألتني: عيني طاهر.. أما رجع نجم؟!
فقلت: لا، لم يرجع.
فهزت رأسها وقالت: الله يساعد أمك.. هذا من حظ المسكينة.. لا والله ما تستاهل.
طرقت باب منزلنا فانفتح عن فطيمة. وترامى إلى سمعي خليط متباين من أصوات النساء. وأعلنت فطيمة عن قدومي، وظللت أنتظر دقائق كنت أسمع أثناءها همهمة النساء. لكنني لمحت بعضهن وقد تناثرن على الحصيرة وحجبن أجسادهن ووجوههن بعباءاتهن. اتجهت إلى غرفتي دون أن التفت يمنة أو يسرة ورددت ورائي الباب. لكن لغط النساء تتاهى إلى مسمعي من وراء الباب. قالت إحداهن: الله يعينك يا أم نجم. كيف تذوقين النوم ونجم تائه في البلدان كاليتيم؟
أجابت أمي: الله المعين. أفتظنين يا أم ناجي أنني عرفت الراحة ساعة واحدة؟ لم تذق عيني طعم النوم منذ غاب نجم عن الدار.
وقالت امرأة أخرى: الحق معك يا صفية.. أمن الهين أن يسافر الإنسان إلى بلدة غريبة لا أهل له فيها ولا أقارب؟
وقالت امرأة ثالثة: سيرجع سالما بعون الله.. ما هي إلا أيام ويرجع.
كيف يصبر على البعد عن أمه وأهله؟
وتشعب الحديث بالنسوة، واختلطت أصواتهن وحينما ارتفع أذان المغرب استأذن بالانصراف.
حينما حضر أبي كانت أمي جالسة في "الليوان"، لكنها نهضت وتوارت في الغرفة من دون أن ترد على تحيته. سألته: هل اتصلت بكربلاء يا أبي؟
خلع أبي اليشماغ والعقال وطواهما في عباءته، ثم التفت إلى فطيمة قائلا: ضعيها على السرير.
وترامى على الحصيرة فتعلقت عيناي بوجهه في نفاذ صبر. كان كاسف الوجه تطل من عينيه نظرة كسيرة. لبت صامتا وقتا، ثم قال بلهجة مريرة: بالله عليك! من كان يتصور أن لنجم هذا القلب الغليظ؟ كنت أحسب أن نجم زينة الأبناء، فإذا به كغيره من الأبناء العاقين الذين ينسون أصلهم! إنه كالثور الذي رباه صاحبه منذ كان عجلا، فلما كبر نطحه فقتله!
وسكت دقائق ثم عاد يقول: الحمد لله الذي جعله يختار كربلاء دون غيرها.. والشكر لله الذي هداه إلى الذهاب إلى حمزة القصاب.
وصمت ثانية وأنظاره ضائعة في الفضاء ثم أضاف: أخبرني حمزة القصاب أن نجم طلب منه أن يعمل معه في الدكان فرضي مرغما بعد أن يئس من إقناعه بالعودة إلى الحلة.. وهو مصمم على البقاء في كربلاء.
غاص أبي في صمته ووجهه يتفجر أسى. تطلعت إليه وأنا أحس بالرثاء والحب له، ووددت أن أنكب على يديه مقبلا مستغفرا ذنب نجم.
ظل مزموم الشفتين تائه النظرات. همس أخيرا: سبحانك اللهم من منتقم جبار.. أنا أستاهل غضبك.. أستغفرك وأسألك التوبة.
قلت له: نجم لا يعني ما قاله يا أبي.. إنه زعل موقت ولن يمر يومان أو ثلاثة حتى ينسى زعله ويرجع إلينا.
فهز رأسه كأنه يستبعد هذا الفرض وغرق فـي صمته الحزين. سألته أخيرا: ألا تتعشى الآن يا أبي؟
وأجاب: تعش أنت يا طاهر فلا شهية عندي.
تقدم الوقت والصمت يخيم على "الليوان" ولم نكن نسمع سوى صرير الجنادب التي تصمت حينا وتثرثر حينا آخر. وكنت أفكر في نجم وأتخيل صورا غريبة لحياته. وأخيرا استأذنت أبي في وأويت إلى غرفتي لأذاكر دروسي.
حين احتوتنى غرفتي شرد ذهني وعجزت عن القراءة. واذ كنت أتلهى في تقليب كتبي ترامى إليّ صوت أبي من الغرفة المجاورة وهو يتحدث بنبرة مرة: بالله عليك! لم أكن أتصور يوما أن يكون نجم هكذا.. لو ربيت خروفا لكان أكثر وفاء منه.
وسكت لحظات ثم عاد يتحدث بلهجته المرة: قبل أن يسافر بيومين كنت ذهبت إلى الأسطى أحمد البناء أستشيره في بناء غرفة في "الليون". قلت في نفسي: "نجم كبر، ولا بد أن يتزوج". وكنت أنوي إخبارك لتخطبي له زوجة حسب ذوقك. ثم إذا به يذهب فجأة.. يذهب وهو مصمم ألا يعود.
انقطع صوت أبي دقائق ثم ارتفع من جديد يهتف بلهجته مزيجة من السخط والاستعطاف: لخاطر الله.. هل أصبت بالخرس؟!
فردت عليه أمي بصوت مشروخ: ماذا فعلت بولدي؟
قال أبي بلهجته المرة: وهل كفرت حين ضربته ؟ أتحسبين أنك وحدك قلقة مشغولة البال عليه؟ كأنك لا تعلمين كم أعزّ نجم وهو ولدي البكر وقرة عيوني.
وسكت لحظة ثم أضاف: أنت لا تعلمين كم فكرة سوداء طافت برأسي في هذين اليومين وأرقتني عن النوم.. أنت لا تعلمين كيف كنت أدور كالمجنون في صباح أمس وأنا أسأل الرائح والغادي عن نجم وعقلي يكاد يطير من رأسي.. أنت لا تعلمين كيف كنت أشتغل في هذين اليومين.. أدور كالمخمور، وأخطئ مع الزبائن في الوزن والفلوس كمن لا رشد له.واليوم حينما كلمت حمزة القصاب بالتليفون وأخبرني أن نجم اشتغل معه وأنه مصمم ألا يعود إلى الحلة00كاد عقلي يضيع مني..ايه..النهاية!
وانقطع كلام ابي فجثم الصمت.. صمت عميق متصل. وقمت إلى فراشي وأنا ساخط على كل شيء.
في الصباح رأيت أمي وشقيقتي نشيطات الحركة على غير عادتهن.
ودبت في المنزل حركة غير عادية. وانفرجت أسارير أمي وأشرق وجهها. فاستبشرت خيرا وخمنت أن حدثا سعيدا قد وقع لنا. وبينما كنت أتناول الفطور مع أبي أسر في أذني قائلا: ستسافر أمك إلى كربلاء يا طاهر فاصحبها إلى محطة السيارات قبل أن تذهب إلى المدرسة واحجز لها مكانا مريحا في سيارة جديدة.
ثم دس يده في جيبه وأخرج حافظة النقود وناولنى ثلاثة دنانير وهو يقول بصوت خفيض: أعطها هذا المبلغ.
اصطحبت أمي إلى محطة السيارات، وراحت تلقي على مسمعي طوال الطريق وصاياها عن شقيقتي وأبي والمنزل. ولما اتخذت موضعها في السيارة ودار محركها سألتها: متى تعودين يا أمي؟
فأجابت: لست أدري يا طاهر.. ولكنني أسأل الله ألا يؤخرني.
وتبادلنا تحيات الوداع وقبلتني في جبيني، ثم انطلقت السيارة بركابها فتعلقت عيناي بها. وحينما غابت عني عدت كاسف البال وأنا أسائل نفسي: "هل ستهجرنا أمي لتعيش مع نجم إذا أصر على عدم العودة؟"
وانقضى يومان على سفر أمي. وكانت الدار قد استحالت اثنائهما الى
مقبرة موحشة . خيم عليها الصمت وكأنها مسكن خرب قد هجره أصحابه. وكان نشيج زينب الخافت وصرير الجنادب الصوتين الوحيدين اللذين يعكران السكون .

وطرأ على حياة أبي انقلاب عظيم. بدأ يؤدي الصلاة في مواقيتها. وكان الناظر إليه وهو مستغرق في صلاته يحسبه أحد أولياء الله الصالحين! وضعفت شهيته للطعام حتى لم يعد يتجاوز اللقيمات. وجعل يصرف الوقت متربعا في "الليون" وظهره مسند إلى الجدار وساقاه ممدوتان وعيناه سارحتان في الفراغ. وكان إذا تحدث إلينا نم صوته الأجش عن رقة غريبة! وكان يأوي إلى فراشه مبكرا، لكنني كنت أسمع صرير سريره حتى وقت متأخر. ولم يكن الصرير ينقطع إلى أن يغلبني النوم .
في مساء اليوم السابع كان أبي يؤدي صلاة العشاء، وكنت جالسا في "الليوان" أنتظر فراغه لنتناول طعام العشاء. وكانت زينب منزوية بجانب الموقد وفطيمة منكمشة بجوارها. وفجأة صرت الباب ثم ظهرت أمي وفي أعقابها نجم. قفزت على قدمي وأنا أهتف: الحمد لله على السلامة يا أمي.
وقبلت يد أمي ثم ارتميت على كتف نجم أعانقه وأردد: أهلا بك يا نجم..
واندفعت زينب نحو نجم تعانقه وهي تهتف بين عبراتها: الحمد لله على سلامتك يا نجم.
وظلت فطيمة منكمشة في موضعها، بل ازدادت انكماشا، لكن وجهها أضاء والتمعت عيناها وطافت على ثغرها بسمة عريضة. وقفت أمي ترنو إلى أبي وقد علت ثغرها بسمة مشرقة وراحت تردد: اللهم صلي على محمد وآل محمد.. اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد.. صلاة مقبولة يا أبا نجم.
اشتد الارتباك بأبي، وحاول أن يواصل صلاته لكنه عجز. وكان وجهه قد انبسط وعيناه قد أشرقتا وغمره فيض من الحنان. فكف عن الصلاة أخيراً ورفع أنظاره إلى أمي وقال بصوت متهدج: زيارة مقبولة يا أم نجم.
وتقدم نجم من أبي متعثر الخطوات وانكب على يده لكن أبي سحبها بلطف وهو يتمتم بصوته المتهدج: الحمد لله على السلامة يا نجم.


الأغلال

"أنظري إلى ذلك الصعلوك يا سعاد.. إنه يتعقبنا على دراجته".
قالت رفيقتي إحسان هذا وهي تشير بأنظارها إلى فتى وضيع المظهر رث الملابس اعتاد أن يستقبل أفواجنا كلما غادرنا المدرسة.
فقلت في عدم اكتراث: ما لنا وله؟
فرمقتني إحسان من زاوية عينيها وانفرجت شفتاها عن بسمة ماكرة.
وفجأة اشتد ضجيج دراجته وراءنا، فالتفتت إحسان خلفها في حركة سريعة، ولكنني لبثت متجهة بأنظاري إلى الأمام دون أن تطرف عيناي.
ومرت لحظة بدت لي كأنها ساعة والجرس يلح في صخبه. ثم رأيت الصعلوك ينطلق بعجلته أمامنا فتبعته عيناي في حنق وغيظ. وتناهى إليّ صوت إحسان وهي تسألني متخابثة: ألم تلاحظي شيئا على هذا الصعلوك يا سعاد؟
فقلت: لا، ولماذا ألاحظ أمثاله؟
فقالت: من الغريب أن يخفى عليك أمره!
فقلت: ماذا تعنين بهذا التعليق؟ أأنا مسؤولة عن رصد حركات الناس؟
فقالت: بل أنت تتظاهرين بعدم الفهم يا سعاد، فهذا الصعلوك يحبك، وما حضوره ساعة انصرافنا من المدرسة إلا ليراك.
هتفت في وجهها ثائرة: وماذا يضيرني ذلك؟ هكذا أنت دائما.. تحسدين غيرك، حسنا.. أنا جميلة ومحبوبة من قبل كثير من تلاميذ الثانوية المعتبرين.ألا ترين كيف يتبعنا بعضهم من بعيد عند خروجنا من المدرسة؟ فهل يفعلون ذلك من أجلي أم من أجلك ؟
وفارقتها غاضبة. وحين بلغت الدار تنفست الصعداء كأنني ألقيت حملاً ثقيلا عن كاهلي. وتناولت طعام العشاء دون شهية، ولما أويت إلى فراشي أحسست كأن كابوسا يجثم فوق صدري. أغمضت عيني محاولة إبعاد صورة الصعلوك عن مخيلتي، لكنها ظلت تتراءى لي في بشاعة وامتلأ سمعي بدوي جرس دراجته!
استيقظت في الصباح منقبضة الصدر واهنة القوى. وتبدت لي المدرسة شبحا مفزعا. وعجزت طوال ساعات الدروس عن التصدي لنظرات إحسان الساخرة. وما أن أعلن الجرس انتهاء الدروس حتى اجتاحني شعور بالضعة والهوان. تمنيت من صميم قلبي لو أن "الفراش" يسهو عن دق الجرس ويدع الدرس الأخير يمتد ساعات أخر! كنت أود تجنب رؤية الصعلوك بأي ثمن. كان يتمثل في ذهني فأحس بالاشمئزاز وتتملكني رغبة في الفرار والاختباء عن الأنظار.
حاولت أن أغيب عن عيون رفيقاتي حالما اجتزت بوابة المدرسة، وأسرعت الخطو متوارية عن الأنظار. كان الصعلوك يتعقبني بدراجته، تارة يدنو مني وأخرى ينأى عني. لكنني تجاهلته وعضضت على شفتي غيظا وتابعت سيري في عجلة وارتباك.
ذاعت قصة غرام الصعلوك بي. تلقفتها ألسنة زميلاتي بالتهليل والترحيب فلا بد لألسنتهن أن تثرثر في موضوع ما. ولم يكن بوسعي أن أحتمل البسمات الغامضة التي تتراقص على شفاههن. لم يكن بوسعي أن أطيق النظرات الساخرة التي تومض في عيونهن، وكم كنت أتمنى لو تنشق بي الأرض وتبتلعني حين يعلن الحرس أوان الانصراف. و كان زميلاتي يتأهبن للتمتع بمشهد "الصعلوك العاشق" كما سمته إحسان. كنت أحس أنني أذوب خجلا وذلة ومهانة. وكنت أضرع إلى الله أن يقع له حادث.. حادث يعوقه عن الحضور. ولكنه واظب على الحضور في الموعد المعين كل يوم كأنه المتدين يؤدي الصلاة في مواقيتها. ويوما فلت مني زمام أعصابي فانفجرت صائحة في وجهه: "ألا تكف عن ملاحقتي وتخلصني من وجهك الوسخ ودراجتك الكريهة؟" فشحب وجهه وانسل بعجلته في هدوء.
في اليوم التالي فقد المشهد اليومي أحد عناصره وهو دراجة الصعلوك. وغمرني الارتياح وتهاديت خفيفة كأن قدمي أطلقتا من قيد. لكنني فوجئت به وهو يكمن وراء أحد أعمدة الشارع. كان يرتدي جلبابا نظيفا وسترة جديدة. وكان وجهه حليقا وشعره مصففا. وخالجني شعور بالرثاء.
في الأيام التالية عاودني الإحساس بالغيظ كلما مررت بركنه المعهود ولمحته منزويا في ترقب وشوق. كنت أصمم كل يوم على اجتناب رؤيته، لكن عيني كانت تنجذبان إلى ركنه بالرغم مني. واستفزني هذا الحال فعقدت العزم على ارتداء النقاب. ومع أن فضول زميلاتي تلاشى ولم يعدن يأبهن لأمره، لكن رغبة عنيدة ألحت علي بإخفاء وجهي! قلت لنفسي في تشف وأنا أغادر المدرسة والبرقع يحجب وجهي: "لن يمكنه بعد الآن أن يراني". وصح ما توقعته فقد مررت به وهو منزو في ركنه المعهود فلم يتعرف علي. كان يبحث عني بين الطالبات بعينين متشوقتين.
انتفضت أيام ثلاثة والصعلوك ملازم لركنه المعهود. كان يفحص وجوه التلميذات في لهفة من دون أن يفلح في رؤيتي. وفي اليوم الرابع فوجئت به يمتطي عجلته وقد استعاد هيئته الزرية. وانبرى يخترق أفواجنا في تأن وهو يتفرس في وجوه التلميذات. وكان يصل إلى رأس الشارع ثم يرجع إلى بوابة المدرسة، ثم يعاود السير إلى نهاية الشارع ثم يعود من حيث بدأ. وكان وجهه يعبر عن لهفة طاغية. وداخلني الأسف لحاله.
فى اليوم التالى صحوتً متأخرة عن ميعاد يقظتي اليومي. الصداع يلهب رأسي والضيق يكتم أنفاسي. وتناولت فطوري في غير شهية، وقصدت المدرسة وأنا منقبضة الصدر. تلقيت الدروس ضجرة متبرمة. ولما دق الجرس الأخير زايلني بعض ما أحس به من ضيق. أسرعت إلى الخروج وأنا أتوقع أن أرى الصعلوك فوق دراجته يتجول بين صفوف التميذاتت. لكنني قطعت معظم الشارع دون أن يبدو له أثر. فغمرني شعور بالخيبة. وسرت بخطى متلكأة وأنا أتلفت حوالي طول الطريق متوهمة في كل صوت عجلة تدرج ورائي. ولازمتني مشاعر الخيبة طوال اليوم.
تعاقبت الأيام دون أن يظهر الصعلوك. وبالرغم من أنني خلعت البرقع وصار في امكانه التعرف عليّ، فلم يبدو له أثر. وإذ كنت عائدة من المدرسة ذات يوم انحرف بصري إلى عطفة بجوار منزلنا وإذا به قابعا فيها! خفق قلبي وتواثبت الدماء في شراييني. وحولت عنه عيني سريعا وأوسعت خطواتي. ولما احتواني المنزل ارتقيت السلالم وثبا واتجهت إلى غرفتي من فوري. وجاشت أحاسيس مضطربة في صدري. أطللت من النافذة على الطريق فرأيته معلق العينين بنافذتي.وما أن رآني حتى أسرع متواريا وراء العطفة. وتملكتني رغبة جارفة في الخروج إلى الشارع. وضجت بتلك الرغبة مشاعري. واختنق بصراخها صدري. وما شعرت إلا وأنا أهبط السلالم عجلة.
رددت باب الدار خلفي وقلبي يسرع في دقاته. وانعطفت وراء المنزل وسلكت الزقاق الجانبي ثم ظهرت أمام الصعلوك بحركة مباغتة.
وقفت أمامه وأنا أرسم على ثغري ابتسامة رقيقة. صرعه الذهول وجمد في موضعه كالتمثال. واصلت سيري بخطوات متمهلة وأنا أتلفت ورائي بين لحظة وأخرى. وابتعدت عنه وهو ما زال مسمراً في موضعه. كدت أيأس من استجابته للفتاتي. ثم رأيته يتحرك فجأة وكأنه واقع تحت سلطان قوة مغناطيسية. وغابت دارنا عن أنظاري ودخلت دربا مقفراً من المارة. كان يتبعني بخطوات مترددة. وكلما ازداد اقترابه مني تسارعت ضربات قلبي وتضرمت في أعماقي لذة مبهمة. ودنوت من منعطف يؤدي إلى الشارع العام فتوقفت عن السير .ودرت على أعقابي وانتصبت أمامه وجها لوجه وأنا أبتسم. كان رأسي قد التهب وجسمي قد خدر. وقف الصعلوك لحظات صامتا ثم همهم بصوت مرتعش: أنا عبدك.
تأملت هيئته الزرية وملابسه المهلهلة في استنكار وإذا بي أهتف في ذعر: أبعد عني.. ماذا تريد مني؟ لماذا تلاحقني؟
جمد الصعلوك في موضعه مصعوقا، ونقل نظراته الحائرة فى وجهي . ثم استدارالى االخلف يخطو في تخاذل وكأنه يجر قدمين مصفدتين بالأغلال. وأردت أن أستوقفه لكن قوة طاغية شلت لسانى. فتابعته بأنظاري وأنا أحس بأنني سأنفجر من الغم والضيق.


الدخيل

وأخيرا تحققت أمنيتي بالسكني في مصر الجديدة. كنت قد زرتها مرة وأعجبت بأبنيتها الفخمة المتشابهة الطراز والألوان وسحرت بشوارعها النظيفة الهادئة. وتلك صفات لا تتوافر في الدقى حيث أقيم على مقربة من الجامعة . قصدت مكتب السماسرة وعرضت على الموظف المختص شروطي. نقر على المنضدة متأملا ودس قلم الرصاص في شعره يعبث به مفكرا، ثم رفع رأسه وقال متسائلا: غرفة في "شقة" تسكنها أرملة طليانية فى عمارة فى شارع عثمان بن عفان، والإيجار خمسة جنيهات شهريا... أتعجبك؟
- اتفقنا.
ونقلت متاعي إلى المسكن الجديد. وعلى بابه وقفت امرأة وطفلة.المرأة في مقتبل العمر متوسطة القامة على شيء من البدانة، عيناها السوداوان جميلتان، وكذلك أنفها الأقني الصغير، ووجهها الأبيض المدور. والطفلة سمراء حلوة ذات ملامح رقيقة ووجه بشوش وهيئة مرحة.
- سعيدة.
- سعيدة، أهلا وسهلا.
واجتزت الباب يتبعني البواب. تلفتّ ورائي فرأيت الطفلة ترسل إليّ نظرات ضاحكة. ابتسمت لها فقفزت نحوي وتعلقت بأذيال سترتي. هتفت وهي ترفع إليّ وجهها الضاحك: أنت طويل مثل بابا.
قلت وأنا أربت على رأسها: صحيح؟
لاطفت شعرها في حنان. وفي الحال انطلقت كالقذيفة. عكفت على حقائبي أفرغ محتوياتها في الصوان والمكتب.
- عمو.. عمو..
تحولت نحو الباب أرقب الطفلة وهي تتقدم نحوي متعثرة. كان ذراعاها ينوءان بحمل من دمية وحصان وسيارة صغيرة. وضعتها على الأرض في عناية وشرعت تناولني واحدة بعد الأخرى. قلت وأنا اقلبها بين يدى :الله! من أهدى إليك هذه اللعب؟
لمعت عيناها وهي تقول بزهو: بابا اشترى لي هذه اللعب كلها.. بابا يحبني كثيرا.
ربت على خدها بلطف وقلت: حسنا، غدا سأشتري لك أنا أيضا لعبة جميلة.
أشرق وجهها وبان السرور في عينيها. سألتني وهي تدير عينيها الجميلتين في وجهي: هل ستحبني كما يحبني بابا؟
أجبتها وأنا أعابث شعرها: ما دمت عاقلة فسيحبك الجميع كما يحبك بابا.
أطرقت مفكرة ثم تساءلت: لماذا لا تحبني فتحية كما يحبني بابا؟
فقلت: أنا سأحبك كثيرا جدا.
فانطلقت خارج الغرفة راكضة وهي تنادي أمها. ثم بلغني صوتها المنغم برنين الفرح وهي تهتف: ماما.. عمو سيحبني كثيرا كما يحبني بابا.
وبمرور الأيام تنامى حبى لسالى . وأولعت بروحها الأليفة.. روح تفيض حيويته على البيت فتملأه بهجة وحركة ونشاطا.
وفي كل مساء كنت أخرج إلى شرفة غرفتي وأتمدد على مقعد الراحة.. "المترو" يزفر تحتي كأنه يضيق بحمله، وكمساري "الترام" ينفخ في زمارته بملل، ونفير السيارات يعوي بين الحين والحين، والناس
يروحون ويجيئون، وسالي تقبل عليّ بصحبة دماها.
- هالو سالي!
وكومت لعبها على الأرض وتربعت بجوارها، ثم انبرت تملأ السيارة الصغيرة. وفجأة توقفت يدها عن الحركة وبدت كأن أمرا يقلق بالها. التفت إلي وسألتني: عمو.. هل ستلاعبني عندما يعود بابا؟
سرت في جسدي رعدة خفيفة وأنا أصغي إلى سؤالها. وقلت: طبعا.. طبعا..
صفقت مرحة وهرعت للبحث عن أمها. وتركت السيارة الصغيرة تدور حول نفسها. وتناهى إليّ صوتها وهي تسأل أمها: ماما.. متى يعود بابا؟
تأخر صوت الأم في الرد ثم أجابت: سيعود قريبا يا سالي.
ظهرت أمامي ثانية تتقافز كقطة صغيرة وهي تهتف: بابا سيعود قريبا وسنلعب ثلاثتنا معا.
بقيت مشتت الذهن. وحين أوت سالي إلى سريرها قصدت الأم وسألتها: ألا تعلم سالي بموت أبيها؟
أجابت في أسى: لا، إنها لا تعلم. أرسلتها إلى بيت عمتها في الإسكندرية أثناء مرضه، ولما توفي زعمت لها أنه سافر في عمل.. إنها متعلقة جدا بأبيها.. وأرجو أن تساعدني في إخفاء الحقيقة عنها.
في هذه المرة أدركت لماذا اشتد ولعى بسالي. وكالنهر حين تزدحم مياهه فتتدفق على جوانبه فاضت عواطفي على سالي.. سالي، خذي هذه الشيكولاته.. سالي.. أتعجبك هذه العروسة؟! سالي.. هيا بنا إلى مدينة الملاهي.
وترادفت الأيام، وبدأت الأم تتخلى عن تحفظها تجاهي. اشتركنا أول الأمر في عاطفة واحدة.. حب سالي. ثم تطور الاشتراك في العواطف، وتعددت جلساتنا وطال انفرادنا. وكانت تحدثني دائما عن زوجها. وكانت تبدأ حديثها بعبارة تقليدية: "كان مثال الأب المحب.. شكرا لله الذي هيأ لسالي شخصا مثلك يعوضها حنان أبيها".
ثم أخذنا نتحرر من قيد البيت، وجعلنا نخرج لمشاهدة "فلم" أو لتمضية أمسية في "كازينو سفير". وذات مساء عدنا في الساعة العاشرة والدار يغمرها الظلام. وبينما كنت أتهيأ للنوم اقتحم سمعي صوت سالي تسأل أمها: ماما.. متى يعود بابا؟!
أجابت الأم: قريبا يا سالي.. قريبا.
فعلا صوت سالي متبرما: ولكن متى يعود؟ في كل مرة تقولين قريبا ولكنه لا يعود.
قالت الأم بلهجة آمرة: نامي الآن يا سالي.
انفجرت سالي باكية وصرخت: أريد بابا.. أريد بابا..
قالت الأم برقة: عيب يا سالي.. لا يصح أن تبكي وتصرخي في مثل هذه الساعة.. سيعود بابا وسيحضر لك هدايا كثيرة. إذا لم تكفي عن البكاء فسأخبره وسيغضب منك.
واصلت سالي صراخها: أنا أريد بابا.. أريد أن أراه.. أريد أن أراه.
رددت الأم بلهجة مضطربة: أرجوك يا سالي.. أرجوك نامي الآن.
إذا نمت فسأخبر بابا ليعود سريعا.
خفت صوت البكاء شيئا فشيئا حتى استحال إلى شهقات متباعدة، ثم هيمن السكون. وأويت إلى فراشي ومشاعر الحزن تمور في صدري.
في اليوم التالي ابتعت لسالي دمية كبيرة ذات عينين ترمشان كلما تحرك جسدها.
- سالي.. عندي لك هدية ظريفة.
اقتربت سالى منى تخطو في تمهل وتردد.
- خذي هذه "العروسة" يا سالي.. أتعجبك؟
حدقت فيها مليا وهي عابسة الوجه. وحركت الدمية يمينا وشمالا فانفتحت عيناها وأغلقتا. وفي لمح البصر اختطفتها من يدي وجرت.. ماذا بها؟! مضيت وراءها فعاجلني بكاؤها منبعثا من غرفتها. مددت رأسي من الباب فرأيتها منبطحة على فراشها والدمية مضمومة إلى صدرها. جلست على الفراش بجوارها ومررت يدي على شعرها وقلت: من أغضبك يا سالي؟ لماذا تبكين؟
فواصلت بكاءها في حرقة. قلت في حنان: سالي.. سالي.. لماذا تبكين؟ ماذا بك؟
رفعت إليّ أخيراً عينين مخضلتين بالدمع وقالت بصوت مختنق: متى يعود بابا فيشتري لي "عروسة" مثل هذه؟
فقلت: سيعود قريبا يا سالي.. سيعود قريبا.
وظلت سالي تترقب في لهفة عودة أبيها. كانت تجري خلال ساعات النهار نحو الباب كلما رن الجرس وهي تهتف: "بابا رجع.. بابا رجع"، ثم لا تلبث أن تتراجع مكسورة الخاطر والحزن يطل من عينيها. وأخيرا كفت عن القفز نحو الباب واكتفت بالتطلع إليه في يأس كلما سمعت رنين الجرس. وتباعد سؤالها عن عودة أبيها حتى امتنعت عن إلقائه.
.. وانقلبت سالي مخلوقة جديدة. صار الصمت طابعها المميز والكآبة سمتها الدائمة. وغاب المرح من البيت وخيم عليه جو من الكآبة الثقيلة. سالي.. لماذا لا تضحكين؟ سالي.. لماذا لا تجرين في المنزل؟سالي.. لماذا سلبت البيت بهجته وحيويته؟
وفقدت صداقة سالي في عهدها الجديد. وخطر في ذهني أنني قد أستعيد صداقتها بهدية ثمينة. قلت في نفسي: "هدية جميلة تعيد علاقتنا إلى صفائها". واشتريت لعبة تضع على رأسها طرطورا وتجلس في هيئة المتأمل.
- سالي .. اشتريت لك لعبة بديعة.
- لا أريدها.
رنت إلى الدمية في جمود دون أن تمد لها يدا. وانسحبت مسرعة ، ثم عادت بعد حين. نظرت إليها مشدوها وهي تكوم أمامي اللعب التي أهديتها إليها. واستدارت لتعود فتشبثت بذراعها.
- ماذا بك يا سالي؟ لماذا خاصمتني؟
حاولت أن تتملص من قبضتي فعجزت فانفجرت باكية. وصرخت: أنت كذاب.. أنت لا تحبني.. وأنا لا أحبك.. أنا أحب بابا.. سيعود بابا وسيضربك أنت وماما.
أفلت قبضتها فركضت كأنها تفر من قفص. وتحولت إلى كوم الدمى أتأمله في حزن.
ولم أيأس من استعادة صداقة سالي. كانت قد اعتادت أن تحمل لعبها وتتخير ركنا منعزلا من الصالة وتمضي الوقت معها في حديث هامس. واعتدت أن أتسلل إلى ركنها في حذر فتلتقط أذناي أشتاتا من تلك الأحاديث. كانت أحاديثها تدور عن أبيها دائما. وكانت تخص باحاديثها دميتها المفضلة ميمي: "بابا سيعود قريبا يا ميمي. وحينما يحضر سنلعب معا. أنا أحب بابا كثيرا وهو يحبني كثيرا جدا. بابا قال لي أنه سيشتري لي "عروسة" كبيرة في عيد ميلادي، لكنني لن أحبها أكثر منك يا ميمي. أ أنا لا أحب ماما ولا أحب عمو زكي". وأفاجئها بالظهور قائلا: "هالو سالي" فتصمت ويتجهم وجهها وتتصرف إلى معابثة دماها في عصبية. فإذا فارقتها يائسا عادت إلى حديثها الهامس الحزين مع ميمي. وإذا ألححت عليها في الكلام جمعت لعبها وانسلت إلى غرفتها.
واشتد نفورها مني يوما بعد يوم. غدا مرآي ثقيلا عليها. وكانت مائدة الفطور تجمعنا كل صباح. فكانت تقبل على فطورها خافضة النظر متجاهلة وجودي. وحاولت أن أستدرجها إلى الكلام يوما فانتفضت غاضبة وهرعت إلى غرفتها. ثم صار من المألوف ان تسبقني إلى الفطور فإذا رأتني مقبلا تركت المائدة وغابت في غرفتها.
وساء حال سالي وتدهورت صحتها. دب النحول في جسمها وعلا الشحوب وجهها. وانطفأ بريق عينيها سوى بصيص من الحزن الدفين.وباتت تعيش كالغريبة في الدار لا تكلم أحدا إلا مرغمة. حتى الخادمة فتحية كفت عن صحبتها. لم يعد لها من أنيس سوى دميتها ميمي. أمست ميمي رفيقتها الدائمة تلازمها حيثما ذهبت. وكثيرا ما أشرقت الشمس على سريرها فإذا بميمي بين ذراعيها وشعرها مبلل بالدموع! وهيمن على المنزل جو خانق تتلبد سماؤه بغيوم من الكآبة المقبضة والوحشة القاتمة. صار الحزن الصامت يعشعش في قلوب الجميع. وقالت لي مدام كريستينا يوما ونحن نمضي أمسيتنا في "كازينو سفير": زكي.. أنا خائفة عليها.
فقلت متجنبا النظر في وجهها: الحق معك، فصحتها تسوء يوما بعد يوم.
وران علينا صمت ثقيل. وأطرقنا كأننا نخشى التقاء أنظارنا. وفجأة أجهشت مدام كريستينا بالبكاء . قالت بنبرة معذبة: لا أدري ماذا أفعل..أنا خائفة عليها يا زكي.
فلذت بالصمت وأنا أعاني أحساسا طاغيا بالذنب. وما لبثنا أن غادرنا المكان.
منذ تلك الأمسية فقدنا المتعة في نزهاتنا خارج الدار .ارتفع ستار كثيف حائلا بيننا.. ستار سلبنا المشاعر البهيجة وبعث في نفسينا أحاسيس مقبضة. ثم حدث أن عدنا من "السينما" ذات مساء في وقت متأخر. وما أن فتحنا الباب حتى أبصرنا سالي منطرحة على مقعد في الصالة. أقبلت عليها الأم تهز جسدها في رفق فهبت من نومها تصرخ في حرقة! وتملك الأم الفزع فحملتها بين ذراعيها مضطربة. وانطلقت سالي ترفس الهواء بقدميها محاولة التملص منها. همهمت الأم في اضطراب: ماذا بك يا حبيبتي سالي؟ أه يا ربي، ماذا أصاب ابنتي؟ بالله كلميني يا سالي.. ماذا بك؟
لا جواب سوى البكاء المحرق! ثم انحلت عقدة لسانها فصرخت بين دموعها: لماذا يعيش عمو زكى معنا؟ أنا لا أحبه.. لا أحبه.
انسللت إلى غرفتي وقبضة قوية تعصر قلبي. و تهالكت على المقعد وأغمضت عيني مفكرا. وقبل أن ألجأ إلى الفراش كانت حقائبي معدة للرحيل.
وقفت مدام كريستينا وسط الصالة ترقب البواب في وجوم وهو يروح ويغدو حاملا متاعي. وتم كل شيء فتقدمت منها مودعا وابتسامة حزينة ترف على ثغري. شددت على يديها فأبقت كفي بين كفيها. تفرست في وجهي بعينين تحيرت فيهما الدموع. وجالت عيناي في أرجاء الصالة تبحث عن شيء عزيز لكنها ارتدت إلى وجه مدام كريستينا في أسى. شددت على يديها وهمست: قبلي لي سالي.. أرجو أن تكونا بخير دائما.
أجابت بصوت مرتجف: إعتن بنفسك يا زكي، وليحرسك الرب.
هبطت السلم متمهلا وأنا جيّاش العواطف. وما أن بلغت أسفله حتى ترامى إلى سمعي صوت سالي تهتف فرحة: ماما.. متى يعود بابا؟


الرهان
آخ من البرد! البرد! أينما اتجهت طرقت أذني عبارات الشكوى من البرد. ما هذا الموت الأحمر! ما هذا البلاء! شش.. شش.. باردة.. باردة! لكأن الأرض استحالت إلى قطعة من جليد!
في مطلع هذا العام بلغت الخامسة والعشرين من عمري. وفي خلال هذا الربع قرن لم يهبط على الحلة مثل هذا البرد القارس إلا مرة واحدة، وهذه هي المرة الثانية! ما أقسى البرد! اختفى أنفي وطارت أذناي وتصلبت شفتاي واستعر الألم في أصابعي وصارت قدماي قالبان من الثلج.
- حمود.. بربك املأ لي هذا الوعاء نارا.. سأموت من البرد.
هرع إلي حمود بوعاء مليء بقطع الجمر تشع كأنها أحجار ياقوت ودسه تحت مكتبي. انكببت عليه بوجهي وكفّي، ثم خلعت حذائي لأدفئ قدمي المثلجتين.
- أتدري يا حمود؟ لو لم تنجدني بهذه النار لذهبت شهيدا للبرد.
لاحت على وجه حمود بسمة شاحبة، وسرعان ما توارت لتأخذ موضعها الكآبة الدائمة. حمود مهموم هذه الأيام. لا أدري ماذا أصابه فذهب بمرحه وبهجته وأحالهما غما وأسى. ماذا بك يا حمود؟ ما الذي يقلقك يا حمود؟.. "لا شيء". وليس هذا طبعه. لم يكن يكتم عني أخباره.هل فقدت ثقته فلم يعد يأتمنني على أسراره؟ لا أظن ذلك، فما زلت صديقه الأول. أنه اختصنى من بين موظفي "المسبك" جميعا بصداقته. أقول صداقته وأنا فخور بذلك. فليسخر مني الآخرون إذا شاؤا فسخريتهم لا تهمني في كثير ولا قليل.. ما مبرر الصداقة بينك وبين هذا العامل؟! انت شاب متعلم وهو جاهل.. أنت سكرتير صاحب "المسبك" وهو وقّاد بسيط! يا للأفكارهم السقيمة! إنني لأعتز بصداقته شاؤا أم أبوا فليست القلوب الكبيرة والعواطف الصادقة مقصورة على ذوي الثقافة أو المراكز العالية. وإن حمود ليمتاز بقلب نبيل وعاطفة نقية.. "أنت تدري يا كاظم أن الله وهبني بنتاً واحدة. ولكن وحق صاحب النار والنور أنا لا أعزها أكثر منك". وأنا أعلم كم يحب ابنته حميدة التي ماتت أمها ولم تخلف له غيرها. وقد عرفتها منذ اسبوع حين سألني حمود في صباح ذلك اليوم أن نلتقى في قهوة كاظم سراج في الساعة الثامنة مساءً. قلت له إنني أتناول طعام العشاء في تلك الساعة لكنه ألح علي في طلبه حتى اضطررت الى القبول. ولما التقينا قال لي مسروراً: يا الله بنا يا أبو جواد.
- الى أين؟
- الى بيتي. سنتناول عشاءنا معا.
نظرت اليه مدهوشاً فلم يسبق له أن أنبأني بالمناسبة التي استوجبت تلك الدعوة.
- خير إن شاء الله يا حمود. ما مناسبة هذه الدعوة؟
- أحرام عليّ إذا اشتهيت أن تأكل يوماً في بيتي؟
- اذا كان الامر كذلك فما أحب هذا العشاء الى نفسي يا أبو حميدة.
انطلقنا في دروب محلة الجامعين الضيقة نخرج من درب لنلج آخر والبيوت القديمة الواطئة تحاصرنا على الجانبين. وأخيراً توقف حمود أمام منزل متداع وطرق الباب. انفرج الباب عن فتاةا رشيقة القامة مليحة القسمات. رميتها بنظرة عجلى فراعني احمرار عينيها وانتفاخ جفونها. عبرت وجهي بنظرة سريعة ثم التفت بعباءتها بإحكام فلم يبن سوى وجهها.
احتوتنا غرفة صغيرة قد فرشت بالحصران. تربعت على الحصير وتربع حمود بجواري ولسانه لا يكل عن ترديد عبارات الترحيب. وبعد حين ظهرت حميدة وهي تحمل صينية ملأى بالأطباق ووضعتها أمامنا وانسحبت عجلة.
اجتاحتني رائحة السمك المطبق ومسمّى الباذنجان فوجدتني مقبلا عليهما في شهية وأنا انثر عبارات الإعجاب بالطاهية البارعة. وسر حمود سروراً عظيماً وراح يطري ابنته في شغف متخذا من إعجابي بالطعام محوراً لإطرائه. وأردت ان أشاركه عواطفه فقلت: لكنك لم تذكر يا حمود حسنة من الحسنات التي انعم بها الله على حميدة. فهي ليست طباخة ماهرة فحسب بل هي فتاة مليحة.
فقال بلهجة تخالطها الكآبة: لخاطر الله.. دعك من المجاملة.
فقلت: واين المجاملة في كلامي؟
فقال بمرارة: ألم تر عينيها؟
فقلت: صحيح ان منظرهما مؤلم ولكن بالامكان شفاءهما فالطب قادر على كل شيئ.
وأضفت مازحا: لولا المرض اللعين في عينيها لتهافت على خطبتها الشبان وأنا على رأسهم.
فانبسط وجهه ولمعت عيناه وسألني: أتقول الجد؟
فأخذت بسؤاله وقلت في شيء من الارتباك: ولم لا؟! ماذا يشترط المرء في زوجته سوى خلق حسن ومنبت طيب وشيء من الجمال؟
فهز حمود رأسه وسحابة من الكدر تظلل وجهه. سألته بعد حين لأغير الموضوع: كيف حالك مع الشيخ خضير الحسان؟
فقال: على خير ما يرام. هو وجماعته معجبون بقهوتي.
وسكت لحظة ثم أضاف وهو ينظر إلي برجاء: لماذا لا تحضر (قبوله) يا كاظم؟ أنا متأكد أنك ستعجب به فهو رجل طيب.
- ومتى يقيم (قبوله)؟
- في أمسيات الجمعة.
- سأحاول زيارته في فرصة قريبة وإن كنت لا أحب هؤلاء الوجهاء المترفين.
أمضينا السهرة ننتقل من موضوع إلى آخر وأقداح الشاي تمتلئ لتفرغ ثم تمتلئ لتفرغ من جديد. ولما انصرفت كان حمود سعيدا مرحا وإن بدا عليه شيء من الشرود.
عقب عشاءنا بأيام صار حمود شخصية جديدة. طلّق المرح واستبدل الكآبة به. وانقلبت بشاشة وجهه إلى تجهم واكتئاب.. أي حدث بدل خلقك يا حمود؟!
- حمود.. ماذا بك؟
- لا شيء يا كاظم.
- صارحني يا حمود.. مع من تخاصمت؟
- لم أتخاصم مع أحد يا أبو جواد. هل رأيتني يوما أتخاصم مع أحد؟
- ما الذي يكدرك إذن؟
- لا شيء.. لا شيء الحمد لله.
- كنت أظن أن أحدنا لا يخفي أسراره عن الآخر.
- الحمد لله الذي جنبني إخفاء الأسرار عنك.
- فلم تخفي متاعبك عني إذن يا حمود؟ لا تحاول أن تنكر فلم أتعود منك هذا التجهم والعبوس.
- وحق صاحب النار والنور ليس هناك أي شيء.
في ذلك اليوم أخفقت في اكتشاف علة انقلابه، غير أنني لم أيأس.
وجربت في الأيام التالية شتى الوسائل لاكتشاف سره، لكن أيا منها لم ينجح. ظل حمود يخفي سر كآبته وراء قناع كثيف!
نبشت النار بقضيب خشبي وقد خفت توهجها ومال لونها الأحمر إلى الاسوداد. واتبعت حمود أنظاري وهو يتنقل بحركة آلية من مخزن الحطب المجاو إلى الموقد في صمت. وقلت فجأة: حمود.. بربك أخبرني ماذا اصايك . ما الذي يكدرك؟ أين ضحكاتك المرحة؟
استدار نحوي وطالعني بنظرات تائهة ثم عكف على عمله وهو يتمتم: وهل من الضروري أن أضحك لأبدو مسرورا؟! إذا كنت تريدني أن أضحك فسأضحك..
وأطلق ضحكات قصيرة لكنها اختنقت في صدره، فهتفت حانقا: كفى.. كفى.. أعدك ألا أسألك عن حالك مرة أخرى.
فأرسل إلي نظرات حزينة ثم انكب على النار يغذيها بالحطب في صمت.
قصدت في المساء دار الشيخ خضير الحسان. ولم أكن قد زرته من قبل، فدهشت لمظاهر الفخامة والأبهة فيه. وقادني الخادم إلى بهو واسع اصطفت في أركانه مقاعد وثيرة. وانتثر الزوار على المقاعد وهم في أزياء شتى بين السترة والبنطلون، والجبة والعمامة والكوفية والعقال. ألقيت التحية وخطوت نحو الشيخ خضير وصافحته مسلما. كان الشيخ خضير يستوي على مقعد في صدر البهو بملامحه الوقورة و "عقاله" المقصب وكأنه الزعيم بين أتباعه. تحرك في موضعه حركة لا تكاد تلحظ وهو يمد يده ويهمهم بالتحية. وانسحبت إلى مقعد في إحدى زوايا البهو وتواريت فيه. كان الحاضرون يستوون على مقاعدهم في هيئة متكلفة، وخيل إلي أن أي واحد منهم لم يكن يسمح لنفسه باتخاذ الوضع المريح. وكان الصمت يقطع بين الحين والحين بعبارة تصدر عن أحد الجالسين قد تلقى تعليقا من شخص آخر ثم يهيمن السكون من جديد. قال أحد الجالسين وهو يهز رأسه في عجب: شيء غريب! البرد لا يطاق هذا الشتاء!
فعلق آخر: جاء اليوم الذي شهدنا فيه الثلج يتساقط من السماء كما يتساقط المطر.
وقال ثالث يرتدي لباس "الأفندية": المعروف عن بلدان أوروبا أن الثلج يتساقط فيها أغلب الشتاء. وتكتسي المنازل والحوانيت والشوارع وحتى الناس أنفسهم بغطاء أبيض. والغريب فى الأمر أن الأيام التي يتساقط فيها الثلج أخف وطأة في بردها من الأيام الأخرى. والمعروف أن البرد القارس لا يؤذي الناس في تلك البلدان بل إنهم يغادرون منازلهم ليتزحلقوا على الجليد.
تنحنح شخص كان يجلس بعظمة بجوار الشيخ خضير وقال: أتريدون الصدق؟! البرد الشديد لا يؤذي دائما.
فالتفت إليه الشيخ خضير وسأله: وكيف ذلك يا حاج محمد علي؟
فتنحنح الحاج محمد علي ومسح بكفه شاربه المتصل بلحيته الحمراء وقال: هكذا دلتني تجاربي.
وسكت برهة وهو يهز رأسه هزات خفيفة وأنظاره محلقة في الفضاء كمن يستعيد ذكريات بعيدة ثم قال: حدث لي ذلك أثناء "حجتي" الأولى. وكنا في طريق عودتنا من الحجاز، وكان البرد قارسا جدا.. أي والله.. أذكر أن أطرافي أوشكت أن تتجمد ولكن الشيطان لعنة الله عليه أبى الاّ أن يزورني في نومي. واستيقظت فجرا لأؤدي صلاة الصبح. وكان على مقربة من طريق سفرنا نهر صغير،ففكرت أن أغتسل فيه. ولكن ألا يعد ذلك جنونا في مثل ذلك البرد المميت؟
وهتف بي هاتف: "الموت في أرض الرسول عليه الصلاة والسلام اشرف أمنية، وقبر بجوار بيت الله الحرام خير من عمر طويل." وتوكلت على الله وقذفت بنفسي في ذلك النهر واغتسلت، ثم خرجت نظيفا طاهرا، ولم أصب بسوء.
ابتسم الشيخ خضير وقال بلهجته الوقور: ألست مبالغا في حكايتك هذه يا حاج محمد علي؟ فمن المستحيل على الشخص أن يسبح في النهر في مثل تلك الظروف دون أن يمرض.
فقال الحاج محمد علي: وأنا أقول لك يا شيخ خضير أن الأمر ممكن وقد جربته بنفسي.
ورد عليه الشيخ خضير بإصرار: وأنا غير مقتنع بذلك يا حاج محمد علي.
ساد الصمت لحظة ثم التفت الحاج محمد علي فجأة الى الحضور وقال: يا جماعة .. ما رأيكم في رهان يعقد بين الشيخ خضير وبيني في هذه المسألة؟
سأل الشيخ خضير بعجب: وكيف يكون الرهان؟
أجاب الحاج محمد علي: من يتطوع للقيام بهذه المحاولة يعقد عليه الرهان، فإذا استطاع أن يعبر النهر سباحة فعليك أن تدفع له خمسة عشر دينارا، وإن فشل أدفع أنا المبلغ.
فقال الشيخ خضير: أنا موافق.
وتبارى الحضور في تأييد الرهان. وكنت أستمع إلى نقاشهم في اشمئزاز وأنا أعجب من سخافة الرهان. وكدت أقول لهم انه لا يوجد نهر في الحجاز أصلا. فلماذا تورطون أحد البائسين ليخاطر بحياته من أجل إثبات هذه القصة المختلقة؟ واستحال اشمئزازي إلى سخط مكتوم حينما تم الاتفاق بين الشيخ خضير والحاج محمد علي دون معارضة من أحد. وإذ كان الحاضرون يعلقون على الرهان أبصرت حمود يدنو من الشيخ خضير ثم يقف أمامه ويقول: أنا مستعد للرهان يا شيخ خضير.
فركت عيني غير مصدق ما أرى.. هذا هو حمود بلحمه وشحمه ! إن عيني لا تخدعاني! وكدت أقفز غاضبا لكنني عضضت على شفتي وتشبثت بمقعدي. اتجهت إليه الأنظار في دهشة، وقال الشيخ خضير في عدم رضى: أنت لا تصلح لهذا الرهان يا حمود.. صحتك لا تتحمل ذلك.
فأجابه حمود: الأعمار بيد الله يا شيخ خضير.
تناثرت صيحات الحاضرين محاولة ثنى حمود عن قراره.
- مالك وهذا الرهان يا حمود فلست قادرا على ذلك.
- لا تخاطر بحياتك يا حمود فجسمك النحيف لا يتحمل البرد.
- هل تريد حرماننا من قهوتك الفاخرة يا حمود؟
لكن حمود تمسك بقراره. وأبرم الاتفاق بين الشيخ خضير والحاج محمد علي. واختير الشاطئ المجاور "للمدرسة الشرقية" موضعا للرهان. وانصرف حمود إلى المطبخ فانسللت وراءه. صحت به غاضبا: ماذا أصابك يا حمود؟ هل جننت؟
فضحك وعيناه تومضان بالسرور وقال: سأحصل على خمسة عشر دينارا يا كاظم.
- وهل تبيع حياتك بخمسة عشر دينارا يا أحمق؟
- الأعمار بيد الله يا كاظم.. والله لا ينسى عباده.
- وهل ألهمك الله أن تغامر بحياتك مغامرة المجانين هذه حتى يرعاك؟
- لن أصاب بمكروه بعونه تعالى.
- ما أنت سوى مجنون إذن.
تركته مغضبا ونفسي يتوزعها الحنق والإشفاق. ثم اتخذت طريقي إلى الباب الكبير دون أن أودع الشيخ خضير . وعدت إلى منزلي ونفسي يملؤها السخط على أولئك المترفين الذين يتسلون ببؤس الناس . ولم يغمض لي جفن.. منظر واحد تخايل أمام عينىّ.. حمود منطرح على الشاطئ بجسمه السقيم يعانى سكرات الموت.
في الساعة الثامنة صباحا كنت أذرع الساحة الممتدة أمام شاطئ النهر بجوار "المدرسة الشرقية". وإن جسدي ليرتعش بالرغم من الألبسة الثقيلة التي تدثرت بها، والهواء يهب باردا ويصفع وجهي فأشعر لـه وقعا كوقع السياط. وحوالي الثامنة والنصف تقاطر الصحاب على المكان وفي مقدمتهم الشيخ خضير والحاج محمد على البزاز. ولاح حمود أخيرا بجسمه الأعجف ووجهه يتألق بشاشة.. ماذا جرى له؟! هل جن؟! هرعت إليه وهتفت به متوسلا: اعقل يا حمود.. لا زالت الفرصة أمامك لتنقذ حياتك.
فابتسم قائلا: عيب عليّ يا كاظم أن أتراجع.. الرجال المحترمون ا لا يغيرون أقوالهم.
صرخت مغضبا: أيها المجنون.. هل كانوا محترمون حين دفعوك إلى التهلكة ؟
تخلص حمود من قبضتي وخلع ملابسه وهو يرتعش ثم قفز في النهر وانطلق يسبح بقوة. ثم ضعفت قوته وأخذ يشق المياه ببطء. وحينما وصل الضفة الأخرى كان قد بلغ به الضعف منتهاه. لبث خارج الماء دقائق ثم ألقى بنفسه في النهر ثانية. وكاد يغوص مرارا قبل أن يبلغ الشاطئ. وبين تهليل الحاضرين تمتم بصوت متقطع الأنفاس: "سلموا المبلغ لكاظم" ثم ترنح جسده وهوى على الأرض. كان وجهه قد ازرق وجسده قد تصلب. جثوت إلى جواره أتحسس جسده. وسمعت الشيخ خضير يقول: خذ.. احفظ له حقه.
رفعت رأسي فرأيته مادّا يده بقبضة من الدنانير، فرميته بنظرات حانقة وهتفت: إنكم قتلتموه.. أنتم مسؤولون عن موته.
فألقى الأوراق على الأرض واستدار وهو يقول في كبرياء: ما أشد حماقة هذا الشاب.
دثرت حمود بما معي من ملابس واستأجرت عربة نقلتنا إلى منزله. وندهورت حاله .أحضرت له طبيبا فأطال فحصه ثم جمع أدواته وقال: يا لها من مغامرة حمقاء!
تكومت بجواره وأنا أسير حزن عظيم. وانزوت حميدة في ركن من الغرفة تذرف الدمع في صمت.
انساب الوقت والغرفة غارقة في سكون لا يعكره سوى شهيق حميدة الخافت. ومكث حمود متمددا في فراشه بدون حراك. وأخيرا فتح عينيه وأدارهما حواليه، وحين التقت بعيني طافت على شفتيه بسمة شاحبة. وأومأ إليّ كأنه يريد محادثتي فأدنيت منه رأسي. همس في صوت متقطع لا يكاد يسمع: سأكلفك بمهمة يا كاظم فأنت الوحيد الذي أعتمد عليه.
وسكت لحظة ثم أضاف: وعدني الدكتور عبد السلام الطارق قبل أسبوع أن يشفي عيني حميدة بإجراء عملية جراحية لها مقابل عشرة دنانير. فأرجوك أن تتولى هذه المهمة.
قلت مترفقا: لا تيأس من رحمة الله يا حمود.
تطلع إليّ بنظرات مترددة كأنه يروم الإفضاء بأمر محرج. ثم واصل همسه: وإذا شفيت عينا حميدة ورغبت في الزواج منها فأنا أبارك زواجكما من كل قلبي.
وهممت أن أقول له إنني كنت أمزح تلك الليلة فلست راغبا في الزواج أصلا، لكن الكلمات تجمدت على شفتي. رمقت حميدة في حيرة، ولما التفت إلى حمود ثانية كانت عيناه شاخصتين إلى وجهي وعلى شفتيه بسمة واهنة.



قلب كبير
كان المنزل الذي اتخذت فيه سكني حين قدمت إلى القاهرة للدراسة فى جامعتها يعج بالمغريات. فقد كان زملائى القادمون من بلدان عربية شتى ينتمون إلى أسر موفورة الثراء . وكانوا يجربون لأول مرة حياة متحررة من القيود الأسرية. فكنا جميعا نقبل على اللهو فى اسراف عظيم. وقد أمضيت فيه عامين حافلين باللهو والتبطل ظللت أثناءهما أراوح في سنتي الأولى . ثم سئمت ذلك النمط من الحياة العابثة وعقدت العزم على تجربة حياة جادة. بحثت عن أسرة صغيرة أشاركها السكن لأستكن إلى حياة رزينة تعيننى على الدراسة. وقادني السؤال إلى أسرة فرنسية تقيم في عمارة تطل على ميدان سليمان باشا قوامها زوجان كهلان وصبية في ربيعها الثاني عشر.
انطويت على نفسي في الأيام الأولى، واعتكفت في غرفتي منصرفا إلى القراءة والدرس. لكنني ما لبثت أن استشعرت الوحشة في تلك الحياة الرتيبة. فانسقت إلى الاندماج في الأسرة حتى صرت وطيد الصلة بها. وأخذنا ننتظم كل مساء في جلسة عائلية. وكانوا يأسرونني بأحاديثهم الساحرة عن باريس وجمال الحياة فيها. وكانت الصبية فلورا تشاركنا تلك الجلسات. لكنها لم تكن تلفت انتباهي. كانت تلزم الصمت دائما. وكان يحدث لي أن ألتفت نحوها فأراها معلقة الأنظار بوجهي. وتلتقي عيناي بعينيها وسرعان ما تغض طرفها في ارتباك وتعلو وجنتيها حمرة خفيفة.
وبمرور الأيام اجتذبت فلورا اهتمامي. شيء فيها حبّبها إليّ.. أهي تلك النظرة الوادعة التي تطل من عينيها دوما؟ أم تلك الحمرة الوردية التي تصبغ وجنتيها أبدا ؟ أم تلك الملامح العذبة التي تعبر أبلغ تعبير عن جمال الطفولة؟! لا أدري بالضبط. وأنست منها رغبة في تعلم العربية فاستجبت لرغبتها. فكانت تزورنى فى غرفتى حالما تعود من المدرسة لتتلقى درس العربية.واشتدت ألفتنا فأخذت أصطحبها بين حين وآخر إلى السينما وإلى أمسيات الأحد الموسيقية فى المركز الثقافى البريطانى فى غاردن سيتى.
غير أن تجربتي الجديدة هذه فى التملص من حياتى اللاهية لم تدم طويلا. راودتني صور الماضي وأخيلته في إلحاح. وفقدت الرغبة في مشاركة الأسرة بجلسة المساء. ولم تعد حكايات باريس تثير اهتمامي. ودب السأم في نفسي من رفقة فلورا. وأخيرا ألقيت أسلحة دفاعي واستأنفت حياتي اللاهية ثانية. وتغير منهج حياتي تبعا لذلك، فلم يتبق لدي وقت للانضمام إلى الأسرة في جلساتها المسائية. وتهربت من دروس فلورا. وإذا اتفق وجودي وقت عودتها من المدرسة تحاشيت لقاءها. وكثيرا ما كانت تتسلل إلى غرفتي في خطوات مضطربة وتقف أمامي في ارتباك وهي خافضة الطرف مضرجة الوجنتين.فأنظر إليها في شيء من الضيق فتبادرني قائلة: من فضلك يا سامي00 هل نبدأ الدرس؟
فأرد عليها: أرجوك يا فلورا.. في وقت آخر، فأنا مشغول الآن.
فيشحب وجهها وتلتوي شفتاها وتنسحب بهدوء وفي عينيها نظرة كسيرة. وبمضي الأيام فترت عاطفة فلورا نحوي وبادلتني إهمالا بإهمال. دعوتها مرة إلى غرفتي لحضور درس العربية، وكنت قد باعدت بين مواعيده حتى بات في حكم العدم، فانتصبت أمامي بوجه عابس وعينين عكرتين.رنوت إليها بعجب وقلت: اجلسي يا فلورا. ألست مستعدة للدرس؟
ردت علي بلهجة جامدة: لا.
سألتها: لماذا يا فلورا؟
فانفجرت تصيح: أنا لا أحب هذه اللغة.. لا أحبها.
روعتي ثورتها فتطلعت إليها مشدوها. وقبل أن استفيق من ذهولي هرعت خارج الغرفة.
وتباعدت فلورا عني، وصارت تحتجب عن عيني دوما. ولم أعد أراها إلا على مائدة العشاء وهي مقبلة على طعامها موردة الخدين خافضة النظر. وحين تلتقي أنظارنا يحمر وجهها وتلتمع عيناها ويزوغ بصرها عن وجهي في ارتباك.
تتابعت الأيام وأنا مشغول بحياتي اللاهية. وذات مساء عدت إلى المنزل على غير ميعادي، وما أن فتحت باب غرفتي حتى ألفيتني وجها لوجه أمام فلورا. شحب وجهها وتقلصت ملامحها واشتعلت الحيرة في عينيها. كنت كمن فاجأ لصاً يهمّ بمغادرة المكان بعد أن سرق أثمن ما فيه! أمسكت ذراعها وقلت: مرحبا يا فلورا.. اجلسي.
تراجعت فزعة وهي تتمتم: من فضلك00 دعني أذهب.
قلت مبتسما: أنا أعلم أنك زعلانة مني يا فلورا، غير أنني مشغول جدا فاعذريني.. ولكن خبريني: هل تريدين شيئا؟
ظلت صامتة لحظات وهي خافضة النظر ثم قالت: أعطني كراستي.
بحثت عن كراستها في المكتب، ثم قدمتها إليها وأنا أقول: تفضلي كراستك أيتها العزيزة فلورا.
رمقتنى بنظرة عابسة ثم انهالت على الكراسة تمزيقا وصرخت: أنا لست عزيزتك.. وأنا أكرهك.. أكرهك.
وقذفت القصاصات على الأرض ومرقت من الباب. وأتبعتها أنظاري مذهولا وصراخها يدوي في أذني.
وبدأ سلوك فلورا يزعجني. وداخلني الضيق من تصرفاتها المتشنجة.. يا لها من طفلة مزعجة! كأن المرء لا عمل له سوى الاستجابة لرغباتها فإن لم يفعل فعليه أن يتلقى كراهيتها! طفلة شاذة تثير الأعصاب بتصرفاتها السخيفة. إذا التقيت بها في الردهة فرت من أمامي كما يفر الحمل من الذئب، وإن جلست إلى والديها توارت في غرفتها.هل انقلبت وحشا مفترسا؟! إن الحياة لم تعد تطاق في هذا المسكن.. لم تعد تطاق. ما الذي يشدني إليه؟!أخلت القاهرة من مساكن مريحة؟!علىّ أن أتركه.. علىّ أن أغادره إلى نزل آخر.
انتهيت إلى ذلك القرار أخيرا. وقد تحققت رغبتي عقب أيام قليلة ففارقت المسكن ولكن لا إلى نزل آخر بل إلى أحد المستشفيات الخاصة.
فقد عدت ذات ليلة من سهرة في سيارة صديقي حمدي. وكان حمدي يسوق بسرعة جنونية فاصطدمت السيارة في أحد أعمدة النور في ميدان إبراهيم باشا، فقتل هو ونقلت أنا إلى المستشفى الإيطالي بين الحياة والموت.
أمضيت بضعة أيام في المستشفى غائب الوعي. ثم بدأت أصحو قليلا وأفقد وعيي طويلا. وكثيرا ما رأيت فلورا وأبويها أثناء صحوي بجوار سريري. وفي إحدى المرات صحوت على صوت بكاء. فتحت عيني فطالعتني صور اشخاص ملتفين حول سريري. ولم أميز بادئ الأمر أحدا منهم إذ بدوا أمام عيني كالأطياف. ثم وضحت ملامحهم شيئا فشيئا. فتبينت فيهم الممرضة وفلورا وأبويها. وتعلقت عيناي بوجه فلورا. كانت الدموع تملأ عينيها. وابتسمت لها فراحت تضحك في فرح وهي تحدق في وجهي كالمأخوذة. وتناهى إليّ صوتها كأنه آت من بعيد " إنه لن يموت.. لن يموت.. ألم تروه كيف فتح عينيه وابتسم؟ لن يأخذه الله.. سيشفى وسأراه كل يوم.. من فضلك يا ربي.. لا تدعه يموت". ثم تلاشى الصوت المتهدج وبهتت الصور أمامي حتى لم أعد أتبين أو أسمع شيئا.
انقضت أيام الغيبوبة وبدأت أستعيد وعيي. وكم كنت سعيدا بالنجاة حين أنبأني طبيبي أنني كسبت عمرا جديدا . و كان قد يئس من حياتي حتى أنه صارح الأسرة الفرنسية بنهايتي الحتمية. ترقبت في لهفة زيارة فلورا وأبويها، فطال انتظاري حتى استبد بي اليأس. وكنت ألقي على نفسي عشرات الأسئلة الحائرة عن سبب غيابهم دون أن أجد لأحدها جوابا معقولا.
توالت الأيام بطاء كسالى، وتحسنت صحتي تحسنا مضطردا. وكنت قد عقدت النية على مغادرة المستشفى في اليوم التالي حين زارني رسول من صاحب العمارة وأنبأني برحيل الأسرة الفرنسية وطلب مني إخلاء المسكن من متاعي. وعجبت لذلك أشد العجب. وقصدت المنزل في الصباح التالي لأنقل متاعي إلى أحد الفنادق ريثما أعثر على مسكن آخر. صعدت إلى الشقة بصحبة البواب ليساعدني في حزم الحقائب. وما أن اجتزت الباب حتى هاجمتني وحشة قاتمة وطغت عليّ أحاسيس تضج بالشوق والأسى. دخلت غرفتي وأنا أجيل النظر حولي حزينا آسفا. وبينما انصرف البواب إلى ترتيب كتبي وملابسي في الحقائب وقفت مشلول الحركة أستعرض مشاهد حياتي منذ أن حللت في الشقة حتى غادرتها إلى المستشفى. ولاحت مني التفاتة إلى احدى زاويا الغرفة فلمحت الهدايا التي كنت قد قدمتها إلى فلورا في شتى المناسبات. اقتربت منها بخطا ذاهلة وجعلت أقلبها بين يدي وفلورا ماثلة أمامي.. ورأيت بينها صورة لي كنت قد فقدتها من زمن. وراعني أن أقرأ في صدرها بخط فلورا "أنا أحبك.. أنا أحبك.. أنا أحبك". التفت إلى البواب وسألته بأسى: لماذا رحلوا يا عبده؟
فتوقف عن العمل ونظر إليّ بدهشة وقال: أفلا تعلم يا أستاذ سامي؟ ماتت فلورا فكره أبواها العيش في مصر من بعدها.. ماتت تحت عجلات قطار حلوان وهي عائدة من المدرسة.
صرخت بجزع: ماذا تقول؟! فلورا ماتت؟! كيف حدث ذلك؟
أجاب: إنها سقطت تحت عجلات قطار حلوان يا أستاذ سامي .. وقال الذين شهدوا موتها إنها ألقت بنفسها تحت عجلات القطار متعمدة وأنها لم تسقط قضاءً وقدراً. ولكن هذا غير معقول0 فلماذا تفعل ذلك؟ والله هو العالم بالحقيقة!



المنزل رقم 4

"محسن.. محسن.. مكسور الرقبة.. لا تلعب بالطين".
وانقضت بضع دقائق ثم لعلع بكاء محسن. أطللت من النافذة فوقع بصري على الأم وهي ممسكة برسغ محسن تحاول جره إلى المنزل عبثا. هتفت في رجاء: لا تضربيه يا أم محسن..هو ولد عاقل ولن يلعب في الطين.
فرفعت الأم عينيها إليّ وهي لا تزال ممسكة بيد محسن وقالت: لا والله يا أبني حسون.. هو كالجحش ولا فائدة معه.
ثم التفتت إليه وصفعته على قفاه وصاحت: مكسور الرقبة. ألم أوصك قبل أن تخرج ألا تلعب في الطين؟ يا الله إمش إغسل يديك.
تشبث محسن بموضعه وعلت ولولته. وسمعت نجيبة تقول لأمها: أتركيه يا أمي.. أنا سأحضره.
وظهرت نجية في الساحة وهي متلفعة بعباءتها. انحنت على محسن تقبله وهي تقول برقة: يا الله عيني محيسن اغسل يديك.
فانصرفت الأم وهي تدمدم ساخطة. وخفتت ولولة محسن وبدت في حركاته الطاعة. وكنت قد جمدت وراء النافذة وعيناي معلقتان بوجه نجيبة. وكان قلبي يسرع في خفقانه كأنه حمامة ترف في الهواء. ولمحت نجية تختلس النظر إلى نافذتي وتحاول أن تلتف بعباءتها مدارية ارتباكها. حرك محسن قدميه باتجاه المنزل في تردد فجريت إلى سترتي وارتديتها على عجل وهبطت درجات السلم قفزا. وحين بلغت الساحة كانت نجية وشقيقها على عتبة الباب. توقفت نجية متظاهرة بتنظيف نعلها، وأخذت تلملم أطراف عباءتها حول جسدها وقد تورد وجهها. كانت مضطربة لا شك في ذلك، وكنت مضطربا أنا أيضا. مررت بجوارهما مرتعش الأطراف منحرف النظر. قلت وأنا أواصل سيري بعجلة: كن عاقلا يا محسن.. أنت ولد كبير.
فصاح ضاحكا: أنا عاقل يا عمي حسون.
اندفعت في خطوات واسعة دون أن ألتفت ورائي وأنا أحس بنشوة فياضة. ولست سعيد الحظ كل صباح برؤية نجية. فكثيراً ما وقفت في النافذة قبل انصرافى إلى العمل والنار تتأجج بين جوانحي دون أن تطفئ نجية نيران لهفتي فأنكفئ إلى بنفس تفيض بالخيبة والمرارة. لكن المصادفات الرحيمة كثيرا ما تترفق بي فتخطر نجية عبر الساحة وتكتحل عيناي بمرآها. وأمضي إلى عملي بنفس متوثبة ووجه منطلق ونشاط فياض.
كانت حياتي قاتمة يائسة وأنا أعاني من الغربة بعيدا عن بلدتي وأهلي. ولكن منذ أقمت في المنزل رقم (4) في "محلة الجعيفر" تغيرت حياتي. في هذا المنزل القديم المتداعي شربت من ينبوع السعادة الصافي. ومن كان المسؤول عن كل تلك السعادة؟! انها نجية.. أفديك بروحي يا نجية.. أنت الروح والرئة.. أجل، أحببت نجيبة من كل قلبي وأصبحت كل شيء في حياتي. وراودني حلم الزواج منها جميلا مغريا يملأ رأسي بنشوة كتلك التي تثيرها الخمرة. ولكن كيف السبيل لتحقيق هذا الحلم وأنا أتقاضى مرتباً ضئيلاً ومواردي المالية بالكاد تكفيني لحياة شظفة؟!
كان الزمن يجري وأحلامي تجري معه. وكلما توالت الشهور عظم حبي لنجية وللمنزل رقم (4). لم يعد ذلك المنزل مجرد دار آيلة للسقوط. بات لي دنيا تضج بالحياة البهيجة. هناك بين جدران غرفتي كنت أمضي أسعد الساعات بصحبة نجية. لم أكن في يوم من الأيام وحيدا.كانت نجية تلازمني ملازمة الظل لصاحبه. كانت تروح وتجيء مرحة نشيطة كالحمامة الصغيرة! كانت تنظف الغرفة وترتب الفراش وتطهو الطعام كربات البيوت الحاذقات! وأعود من عملي فتستقبلني على عتبة الباب وثغرها يفتر عن بسمة عذبة، ووجهها يسطع بنور ملائكي. وأستلقي على الفراش متعباً فتتمدد إلى جواري وهي تغمرني بنظراتها الفياضة بالحب. وقد يشاركنا في الغرفة طفل يجري وراء أمه نجية ضاحكا مرحا ويتعلق بذيل ثوبها كالعفريت الصغير!
كانت نجية آية في الجمال. كان جسدها الممتلئ المعتدل الطول فتنة للناظرين. وكان وجهها المدور النحيل كبدر ليلة تمامه. وكانت عيناها الواسعتان بصفاء عيون الغزلان وسوادها.. سبحان الخالق العظيم! كانت كحلوى لذيذة يشتهي المرء أن يلتهمها دفعة واحدة. لذلك كنت أتمنى أن أفتح فؤادي وأخبئها فيه. وإن الله وحده يعلم مم صغيت عواطف الإنسان، وإلا فما معنى أن أغار عليها تلك الغيرة الغريبة؟ أجل، كنت أغار من كل شخص تكلمه. وكنت أغبط أبويها وأخاها محسن لأنها تعيش معهم. وكان أخوها محسن يستأثر بالنصيب الأكبر من حبها ورعايتها. وقد أحببته حبا جما لذلك السبب. كنت أحس إلى جانبه كأنني بجوار نجية نفسها. فكنت أدعوه إلى غرفتي وأمنحه بعض الهدايا البسيطة أو الحلوى الشهية. ورغم أنه كان قذر الوجه مشعث الشعر أبدا، فإنني كنت أقتض الفرص لأغمره بالقبل مستشعرا لتلك القبلات طعما مسكرا. والحق أنني كنت أحس نحوه بامتنان عظيم. فلولاه ما استطعت أن أرى نجية كثيرا. كان يصرف النهار في اللعب أمام الدار. وكان يمتنع عن العودة إلى المنزل ما لم تخرج إليه نجية وتعيده بنفسها. وفي الدقائق التي تنفقها نجية في إقناعه أقف أنا وراء النافذة وأتابعها بنظراتي المشوقة. ولست أزعم أن عيوننا كانت تتشابك دائما خلال تلك الدقائق، لكنها كانت تتلاقى في غالب الأحيان. لم تكن فترة اللقاء تتجاوز لحظات، لكنني كنت أستمتع بحلاوتها كما لو كانت ساعات، بل أياما، بل شهورا طويلة! أجل، لم تكن نجيبة تبخل عليّ بالنظرات المحبة. ويخيل إلي أنها كانت تتصيد المناسبات لتظهر أمام عيني. فقد كانت تتلكأ في سيرها إذا لمحتني في الطريق قادما من بعيد، فأغذ السير حتى أحاذيها ثم أسبقها إلى المنزل. وكثيرا ما رأيتها ساعة ذهابي إلى العمل أو عودتي منه حاملة بعض المشتريات. وقد أراها ساعية إلى منزل مجاور لقضاء مهمة. وإذا التقت بإحدى الجارات تحت نافذتي، وهو ما يحدث على الدوام، رفعت صوتها بالكلام حتى يبلغ مسامعي. ألم تكن تتعمد خلق تلك المناسبات؟! قلبي يقول "نعم". وكان الارتباك يهزها كلما تجاور جسدانا أو التقت عيوننا. وكانت تداري ارتباكها بالتلفع بعباءتها محاولة حجب وجهها بطرفها. ولست أدري لماذا كانت تلك المحاولة تبوء بالفشل دائما ويظل وجهها سافرا كالشمس المشرقة. ولم أكن أحسن حالا منها. كنت أحس بالدوار كلما استنشقت عطرها. بل أنني كنت ارتبك حتى حينما ألتقي بأمها. وكانت أمها تستوقفني كلما التقت بي على باب البناية وتسألني عن صحتي وراحتي. وكانت تهدينى أحيانا طبقا من شيخ محشى .أما أبوها فكنت أضمر له احتراماومحبة كما لو كان أبي. وكان يزورني في أوقات متباعدة فنتسامر معا. وكان حديثه فياضا بالشكوى دائما. وكان مصدر شكواه المنزل رقم (4). فإذا تحدث في هذا الموضوع احمرّ وجهه واشتدت حركة يده وهتف محتدا: أسألك بالله يا ولدي حسون، ماذا باستطاعتنا أن نفعل إذا كان الناس الأغنياء لا ضمائر لهم؟! شكونا إلى المالك سوء حال هذه البناية
عشرات المرات بدون فائدة.. صم بكم فهم لا يسمعون. ماذا يهمه؟ إنه يسكن قصرا لا يؤثر فيه المطر ولا الريح، فعلام يخشى؟ أما نحن فلا ضير هناك في أن تنهد على رؤوسنا ما دمنا ندفع في أول كل شهر الإيجار كاملا، ولا موجب للانفاق على إصلاح البناية. إذا كان الشخص بلا ضمير فما الفائدة يا ولدي حسون؟
كنت أوافقه على شكواه وأقاسمه السخط. فقد كان المنزل رقم 4 آخذا في التدهور يوما بعد يوم، وكان بناؤه ينحل ويتهافت مع الأيام. واعترف أنني ما كنت لأواصل الإقامة فيه لولا وجود نجية.كان منظره يفزعني. أجل يفزعني. ولطالما وقفت أتأمله بدهشة يشوبها الجزع متخيلا أنه سينهار بين لحظة وأخرى قبل أن أفارقه. كان جداره الخارجي منتفخا كبطن المرأة الحامل. وكان التراب يتساقط من بين الشقوق التي تفصل الحجارة القديمة. وكانت الحجارة نفسها توشك أن تذوب من القدم. ما العمل؟ لا بد من المغامرة بحياتي من أجل نجية. أجل، المغامرة بحياتي، فالإقامة في المنزل رقم (4) مغامرة عظيمة. والحقيقة أنه لم يكن لغرفتي من حسنة سوى النافذة المطلة على الساحة. ولولاها ما أفلحت في رؤية نجية. كانت هذه الساحة مرتعا لأطفال الحي. وكان محسن يلهو فيها معظم النهار. وفي الأيام المطيرة كانت أرضها تستحيل إلى مستنقع يتعذر اجتيازه فيكف معظم الأطفال عن لعبهم إلا محسنا وعددا ضئيلا من رفاقه. كان محسن مولعا باللعب. كان شيطانا صغيرا. لم يكن يأبه للمطر أو الطين فاللعب ضرورة له كالأكل والشراب! وهذا من حسن حظي، فقد كانت أمه تلاحقه بصيحاتها وخصوصا أيام المطر. وكانت صيحاتها تنتهي دائما بخروجها إلى الساحة ومعاقبته. ولم يكن ذلك إلا ليزيد محسن عنادا. فكانت نجية تخرج إليه وتمطره بقبلاتها فيستسلم لرجائها ويعود إلى البيت بصحبتها. وفي هذا الصباح كنت أتوقع أن تتكرر الحكاية ذاتها. فقد هطلت في الليلة الماضية أمطار ثقيلة وامتلأت الساحة بالأوحال. ومع ذلك خرج إلى الساحة كعادته كل يوم. وما أن مرت دقائق حتى تعالى صوت الأم ثم لعلع بكاء محسن، فظهرت نجية في الساحة كعادتها فارتديت سترتي عجلا وهبطت السلم مهرولا. وما كدت أجاورها وهي على عتبة الباب حتى عجزت عن التطلع إلى وجهها. وأعترف أنني خائر العزيمة عديم الشجاعة. لكن النظرات العجلى التي اختطفتها من محيّاها ملأت قلبي بهجة. فانطلقت إلى عملي وأنا أحس كأن أجنحة نبتت لي فحلقت في الهواء.
حين جلست وراء منضدة عملي في مكتب البريد تصفحت وجوه زملائي في محبة. كان كل واحد منهم منهمكا في عمله بوجه عابس وملامح صارمة. ولم تكن وجوههم تنطق بتلك السعادة الطاغية التي تفيض من أعطافي. انتابتني رغبة في أن أعانق كل واحد منهم. أحسست أنني أحبهم جميعا، وأن من حقهم عليّ أن أشركهم في سعادتي. وكان صديقي عبد اللطيف عاكفا على عمله بعيدا عني، فلم يكن بإمكاني أن أبادله الحديث. ما العمل؟ لابد لي أن أشارك أحدا في سعادتي. إنصرفت إلى عملي بهمة ونشاط أسجل الطرود والرسائل في السجل الكبير وأنا أتمتم لأصحابها بالدعوات الطيبات. ثم أقبل علي صديقي عبد اللطيف أخيرا بجسده القصير الضخم ووجهه المنبسط المحبوب. بادرته هاتفا: أهلا بالصديق العزيز.
فابتسم قائلا: يبدو أن هذا اليوم من أيام السعد.
فقلت: فعلا يا عبد اللطيف، لقد اكتحلت عيني برؤيتها.
صمت عبد اللطيف وهو يتفرس في وجهي ثم تساءل فجأة: إسمع يا حسون، لماذا لا تتوكل على الله وتتقدم لخطبتها فتخلصنا من تقلبات مزاجك؟
رن سؤاله في أذنيّ رنينا غريبا كأنني أسمعه للمرة الأولى وأثار في صدري عاصفة من الانفعالات. رفعت إليه عينيّ وقلت بحزن: لكنك تعرف البئر وغطاءها يا عبد اللطيف.
فقال: وهل أهلها أفضل حالا منك؟ يا أخي توكل على الله وستجد الأمور ميسرة.
وتوهجت الفكرة في رأسي وعجبت كيف صبرت كل هذه الشهور عن تحقيقها. لست أدري ماذا أصابني في تلك اللحظة. كان كل شيء يتراءى لعيني وكأنني أتبينه للمرة الأولى. كنت كالأعمى الذي ارتد بصيرا. قلت وأنا أحدق في وجه عبد اللطيف: عبد اللطيف.. كنت أعمى.
فقال ضاحكا: والآن؟
قلت: أصبحت بصيرا.
فواصل ضحكه وهو يتساءل: والآن؟
فقلت: سأخطبها بدون تأخير.
فقال بجد: على بركة الله يا حسون.
ما العمل؟ لابد للإنسان أن ينتهي إلى قرار وإلا ضاعت حياته في التردد. ولا أدري كيف انقضى الوقت وحان موعد انصرافنا. كنت في حال من الانفعال لا تسمح لي بالاستقرار على مقعدي. كان الشوق لرؤية نجية مندلعا في قلبي اندلاع النيران في الأتون، وكأنني لم أكتحل برؤيتها منذ أيام طويلة، وكأنني سأراها في صورة جديدة.. أجل، في صورة جديدة فستكون زوجتي بعد حين.
ولفظني مكتب البريد فى باب المعظم إلى شارع القشلة فانطلقت إلى الشارع مرحا كعصفور أطلق من قفصه. واختلطت الأفكار في رأسي وتزاحمت الصور أمام عيني. غدا الجمعة، سأستقل عصر اليوم القطار إلى بعقوبة وأعود بأمي لتخطب لي نجية. وستفتح عينيها بدهشة يخالطها الفرح وتطلق زغرودة طويلة. وستستقبلها أم نجية بترحاب على الباب. وستحمل أمي إلى نجية هدية متواضعة00 أجل هدية فلا بد من هدية.
عرجت على السوق واشتريت قطعة قماش. ومحسن.. لا بد أن أقدم له هدية أيضا . سألتقي به في الساحة كالعادة، وسأرمي إليه هذه الكرة المزوقة.
حثتني قدماي على الإسراع فاندفعت في سيري حتى كدت أهرول وأنا أعبر جسؤ الشهداء متأبطا ريطة القماش، والكرة الكبيرة تهبط وترتفع في يدي، وذهني يحلق في آفاق بعيدة، والسابلة يرتطمون بي وأرتطم بهم دون أن أعيرهم انتباها . كان شوقي لنجية طاغيا لم أحسه بتلك القوة من قبل. وبدا لي الطريق طويلا.. أجل، طويلا جدا. وعجبت كيف كنت أقطعه كل يوم من دون أن أشعر بالإجهاد. وأخيرا أشرفت على الساحة وأنا ألهث تعبا. ولمحت حشدا من الناس يتجمع قرب المنزل رقم (4). وقرع أذني نواح وعويل. دنوت من الحشد مذعورا فلمحت محسن ملقى في الوحل وصراخه يصم الآذان. وكان أبوه مكوما على الأرض بجواره وهو يردد بصوت باك:" إنّا لله وإنّا إليه راجعون". وكان المنزل رقم (4) أثراً بعد عين، وكانت نجية وأمها مطمورتين تحت الأنقاض.


حب بالإكراه

صحيح أن بدور لم تكن تعدو كونها ابنة عمي، لكنني كنت أعزها معزة خاصة. كنت أشتاق إليها وأنا أمارس عملى فى العمارة بعيدا عن بلدتى الحلة. وحينما عدت إليها لقضاء إجازتي السنوية.. يا الله! كيف يمكن أن يغيب عن ذهني ذلك الموقف؟! لكم أثار منظرها في نفسي من غبطة حين تهادت نحوي في خفر وألقت عليّ تحية اللقاء بلسان لعثمه الحياء ووجه ورده الخجل! كذبت عيني وأنا أتأملها مأخوذا. قبل عام فقط خلفتها صبية ساذجة. أما هذه فامرأة.. امرأة تتضوع سحرا وفتنة! أهي بدور حقا؟!
لكم تمنيت أن تطول إجازتي لأستمتع بالحياة الهنيئة في الجو العائلي الذي يظلله بالحنان أبواي العزيزان وتنيره بالبهجة بدور الحبيبة. وفاض قلبي بالسعادة.. سعادة لم آلفها في الإجازات السابقة! ووجدتني مولعا برعاية بدور أكثر من أي وقت مضى. صحيح أنني كنت أرعاها منذ عاشت معنا عقب وفاة أبويها لكنني أحسست كأنني كنت مقصرا في ذلك. كنت أشعر بينبوع من الهناءة يتدفق في قلبي وأنا أراها تخطر في الدار بوجهها الفاتن وشعرها الطويل وقوامها الأهيف.
لست أتذكر كم من الأيام لبثت أنهل من ينبوع السعادة عندما بدأ ذلك الينبوع يغيض شيئا فشيئا حتى جفت مياهه. ولعلها كانت أياما عدة في حساب الزمن لكنني أحسست كما لو كانت دهراً. ولا أعلم أيضا متى بدأ النبع يجف، أفي تلك الساعة التي لمحت فيها "مهدي" متكأ على سور السطح المشرف على دارنا وعيناه مسمرتان على سطح منزلنا كأنه يترقب ظهور شخص معين؟ أم في ذلك العصر الذي وافيت فيه بدور إلى السطح فالفيتها متشاغلة عن العمل، ترصد سور السطح المجاور بلهفة وشوق؟! أغلب الظن أنه بدأ يجف في ذلك العصر، فلازلت أتصور كيف التفت إلى الناحية التي تتجه إليها أنظارها فرأيت مهدي متكأ على السور وفي عينيه شوق فائر.
وبين يوم وليلة تفتحت عيناي على حقيقة مرة! إن بدور لم تعد تلك الصبية الحيّية التي عهدتها بالأمس. كل همها اليوم أن تبدو جميلة فاتنة! إنها تقف أمام المرآة وتطيل الوقوف، تناجيها دون كلل وتناغيها دون ملل! ماذا جرى لك بالله يا بدور، ماذا جرى؟
لم يكن الأمر مغلفا بغموض يعوزه التأويل.. إنه مهدي.. ذلك الشيطان! كانت تقتنص الفرص للتبرج له.. له وحده! وكانت تخلق الأعذار لتخف إلى السطح وتعرض زينتها عليه. وكم اختلست إليها النظر وهي تخطر على مرأى منه في رشاقة وخيلاء، وتطلق موجات الإغراء من شعرها الساحر.. تارة تتهدل بعض خصلاته على جبينها فتلقي برأسها إلى الوراء في دلال متكلفة إبعادها. وطورا تتدلى ضفيرتاها على الصدر الأشم فتقذف بهما على كتفيها في حركة فاتنة. وحينا تتناثر الشعيرات المتوهجة كأشعة الشمس على وجهها فتمتد إليها يدها تداعبها في حنان. بدور.. لماذا اخترت "مهدي" من دون الناس جميعا لتغرقيه بفيض فتنتك؟ إنه ليس أهلا لك فهو فتى سيئ النوايا لا يعرف للحب الصادق معنى. وأنت كالزهرة العبقة المتفتحة في مطلع الشمس فاشتهاك كما تشتهي الفراشة الزهرة الزاهية. وكما تنبذ الفراشة الزهرة بعد أن تمتص رحيقها ينبذ الفتيان العابثون الفتيات الغريرات. وأنا أشفق عليك من هذا المصير يا بدور. فلماذا تتجاهلين غرضي؟!
كان غاية همي أن أصرفها عن مهدي فسيقودها ولعها به إلى المتاعب. لكنها واجهت بالصمم نصائحي المتواصلة.بدور.. إن التعرض لأنظار شاب غريب في هذه الهيأة مضر بسمعة العائلة. ومهدي هذا فتى خبيث.. ألا يمكنك أن تدركي ذلك؟! أرجوك.. أرجوك يا بدور، تجنبي فضوله.
لكنها لم تتجنب فضوله. ماذا بوسعي أن أفعل؟ كان الواجب المنزلي يقتضيها الصعود إلى السطح كل عصر لتهيئة أسرته للنوم. وكانت فرصة ذهبية لمهدي كي يغازلها من أعلى السور. فكيف أسكت عن ذلك؟ وأمرت بدور أن تتلفع بالعباءة عندما تصعد إلى السطح، فتجهم وجهها لكنها لم تفه بكلمة احتجاج. لم أكن قد كلمتها بمثل تلك الخشونة من قبل، لكنني وطدت العزم على هجر أسلوب اللين.
وكان من عادتي أن أمضي عصر كل يوم في منتزه الجبل أو الشارع المحاذي للنهر بصحبة صديقي توفيق لنروّح عن أنفسنا ثم أعود إلى المنزل أوائل المساء. وخرجت وحيدا عصر ذلك اليوم في ساعتي المعينة، ثم رجعت قبل ميعادي ورغبة قوية تجتذبني إلى المنزل. وتلك لحظة لن تمحى صورتها من مخيلتي ما دمت حيا. جمدت بدور في موضعها كالتمثال، وشخصت إليّ بنظرات ذاهلة كما لو كنت عفريتا انشقت عنه الأرض. وكان كل شيء كما تخيلته.. بدور تتهادى على السطح بدون عباءة وشعرها الأشقر منثور على كتفيها كأنها حورية من حوريات الجنة. وكان مهدي متكأ على السور يرصدها بعينين مشوقتين! استولت عليّ مشاعر وحشية فا نقضضت عليها كما ينقض الوحش الكاسر على فريسة ضعيفة. جررتها من شعرها إلى غرفة السطح وأقفلت بابها. وانهلت عليها ضربا ورفسا وصفعا. كانت صيحاتها الفزعة رصاصا يمزق قلبي لكنني عجزت عن كبح مشاعري الوحشية.
ومنذ ذلك اليوم اكتسبت بدور شخصية جديدة. تمادت في غيها كأنها تتعمد اغاظتى . ضاعفت عنايتها بزينتها في الساعة التي تتأهب فيها للصعود إلى السطح. وكنت حين ألمحها وهي تمشط شعرها في عناية ثم تظفره أو تعقصه أو تدعه منثورا على كتفيها أستشعر موجات من الرغبات المتناقضة تتدافع في صدري.كنت أنشد لها الخير، فلماذا واجهته بالشر؟! ولماذا كانت تجد لذة في تعذيبي؟ كانت تدرك مقدار عذابي حين يقترب العصر وتتأهب للصعود إلى السطح. فكانت تتعمد أن تذكرني بتلك الساعة لتغذي شعلة عذابي. فاذا ما حان الوقت خفت خطواتها حتى لتكاد تتحول إلى رقص. وتلألأ شعرها واشتد بريقه. ونشطت حركتها نشاطا عظيما. فهي تروح وتجيء وتدخل غرفة وتخرج من أخرى. وأثناء ذلك تتعمد المرور بجواري دون أن تنظر إليّ. وقد تلقي عليّ نظرة عابرة من زاويتي عينيها كما لو كنت قطعة من أثاث الدار لا تستوقف النظر! وكانت تلك الخطوات الخفيفة والحركة الدائبة والشعر المتوهج تتجمع في مخيلتي وتتجسم شخصا متكاملا له ملامح مهدي. أيها الناس.. من باستطاعته أن يتلقى سلوك بدور في برود ؟! ومن بقدرته أن يشهدها تغازل فتى غريبا أمامه وهو ابن عمها؟!
وأصبت بهوس ربطني بالدار رهن مخاوفي، ولم أعد أطمئن لوجودي بعيدا عن بدور. امتنعت عن نزهتي المسائية ولازمت السطح عصر كل يوم.وكم كان يشقّ عليّ أن أرى عباءتها تنزلق عن رأسها بين حين وآخر وهي منهمكة في عملها فتكشف عن شعرها المتوهج بلون الذهب الصافي!
عجبا لك يا بدور! كم كنت عنيدة قاسية! لقد أعجزتني! أقسم لك أنك أعجزتني . ولم يبق لي من أمنية في الحياة سوى أن يكف ذلك الوقح عن غزله الصفيق. وفكرت في استعطافه عله ينصرف عنك. تصوري! لو فعلت ذلك لكنت كمن يتوسل إلى اللص ليعيد إليه ماله المسروق! لكنني وجدت نفسي أمسك بخناقه حينما التقيته يوماً في الزقاق وأهدده بالقتل أن لم يكف عن الحملقة في سطحنا.
ما أعظم سعادة المرء حينما تستجاب أمنياته اليائسة. وما أعظم البهجة التي تملكتني حينما أقبل اليوم التالي فلم يلح مهدي على السور. وأيقنت أن وعيدي قد أتى بثماره. ألم تر إلى السجين وهو ينطلق من باب السجن بعد أعوام طويلة؟ هكذا كنت حينما ارتديت بدلتي على عجل، وانطلقت مهرولا إلى بيت صديقي توفيق لأحتفل بالمناسبة السعيدة! وكم دهش توفيق من مرحي وهو الذي عهدني في الأيام الأخيرة مغتما حزينا.
ولكن ماذا جرى لك يا بدور؟ ماذا جرى لك؟ أخذت بدورتتنقل في المنزل كتمثال متحرك.. تمثال قد نحت رمزا للكآبة واللوعة والحزن. وصار منظر شعرها كئيبا قاتما كأنه يشاركها في مصابها، ولم يعد يذوق للمشط طعما. وكانت كل حركة منها تعلن اتهامها لي.. وكنت أقرأ ذلك الاتهام في عينيها قاسيا مرا. ثم ما لبثت أن قاطعتني كليا. وصرت أتمنى أن تحدجني بنظراتها القاسية. أجل، غدوت تواقا لأن أحس لنفسي وجودا في دنياها بأي شكل كان! ولكن ذلك الصمت.. ذلك الجمود.. ذلك التجاهل.. يا إلهي، ليس في طوقي أن أحتمل ذلك كله! وراحت تتحاشى أماكن وجودي في إصرار عجيب، وتتجنب النظر إليّ في عناد غريب! ولبثت حائرا معذبا في زحمة العواطف التي تتصارع في قلبي! تارة أحسّ بالغيظ حينما يخطر على ذهني أن صبيا كمهدي استطاع أن يثير في قلبها تلك الزوبعة المروعة. وطورا يدهمنى حزن عميق حين أتمثلها تدب بين جدران الدار في تخاذل والصمت والكآبة يدثرانها بدثار كثيف.
توالت الأيام وحياتي ملفعة بجمودها الكئيب حتى حل ذلك اليوم المشؤوم. وكنت أذرع السطح بخطوات متمهلة وبين يدي كتاب أتظاهر بالقراءة فيه. وكانت بدور منصرفة إلى عملها وهي تتحرك في صمت كالآلة الموقوتة . وفجأة رأيت "مهدي" يظهر في موضعه على السور. ولمحته بدور فأخذت تتحرك برشاقة وعيناها موصولتان بعينيه ووجهها يشع بنور ألآق. تسمرت قدماي في موضعهما وجف حلقي حتى تعذر عليّ أن أبتلع ريقي.وطغت عليّ رغبة جارفة بتحطيم شيء ما.. أيا كان! واختلطت المناظر أمام عيني، فرأيت بدور تتجه إلى السياج المشرف على فناء الدار وتنحني عليه منادية أمي في فزع. وخيل إليّ أن جسدها يترنح على السياج فاندفعت نحوها مسرعا. وبين صرخاتها الفزعة مددت يدي لأجذبها نحوي لكنها هوت إلى الأسفل. أفقت من ذهولي فوجدتني منحنيا على السياج وأنا أحملق في جسدها المتكوم على بلاط الدار!


الخاتم الماسي

لمحة من البريق الخاطف سلّطها على عيني ثم سار في طريقه مسرعا وهو يتلفت نحوي في حذر. وتثاقلت خطاي كأنها تستحثني على الأوبة إليه. ولم لا أعود إليه لم؟ خاتم من الماس.. فرصة العمر.. إنها فرصة العمر. متى يذوق إصبع زوجتي طعم الألماس ؟
استدرت على أعقابي أخطو في تمهل وتردد. أفلسنا بشرا؟! أفلا يحقّ لنا أن نحلم بما ينعم به المترفون من زخرف الحياة ا؟ وزوجتي 00زوجتي ما ذنبها ؟ شاء لها سوء الطالع أن تقترن برجل لا يمتلك من متاع الدنيا سوى مرتب ضئيل 0أحقا00 أحقا أن في وسعي إهداءه إلى زوجتي الحبيبة ؟ يا للمصادفات ! غدا يمضي عامان كاملان على زواجنا00 " أغمضي عينيك يا أمينة00 والآن افتحيهما " 0 لن تصدق في اللحظة الأولى بالطبع أنه خاتم من الماس الثمين 0
ومررت بجواره.. هذا الشعر الكث المتجمع على رأسه الكبير كأنه كوم من الوحل.. هذان الحاجبان الكثيفان كأنهما صوف منفوش .. هذه العيون البراقة كعيون القطط.. ليس في وجهه ما يثير العاطفة الودود! إن قدمي لا تقويان على الوقوف أمامه. وإن عيني لتدوران في محجريهما بسرعة عظيمة ، "وشارع فؤاد" خال إلا من بضعة أنفار مسرعين في سيرهم. أيها الرجل لماذا لا تدعني وشأني؟ مشى إلى جانبي مضطرب الخطا وقلب الخاتم في باطن كفه فخطف بريقه أبصاري.
قال وهو يرمقني بنظرات محترسة ويتلفت حواليه في تخوف: إنه خاتم عظيم يا سعادة البك.. هو من الماس الأصيل النادر.
وأضاف وهو يبتسم ويغمز بعينيه: لن تجده غاليا يا سعادة البك.
قلت فى لامبالاة: من أين سرقته؟
اضطرب الرجل وغمغم وهو يتلفت في خوف: لا ترفع صوتك يا سيدي.. أنا لست لصا. أقسم لك بالله العظيم أنني لست لصا. عثرت عليه في إحدى سيارات الأجرة التي أعمل في تنظيفها.
إن لهجة الرجل تبدو صادقة، فربما عثر عليه في سيارة أجرة حقا. ولم لا؟ لعل إحدى السيدات الثريات شاءت في ذلك اليوم أن تعرض زينتها على عابري الشارع فمنحت سيارتها إجازة. ولكنها لم تكد تسير مسافة قصيرة حتى دب الألم في قدميها فاستقلت سيارة أجرة. وكان أن انزلق أحد خواتمها الماسية من أصبعها واختفى في قاع السيارة. وقد عثر هذا الرجل عليه حينما استؤجر لتنظيف السيارة. هذا جائز، فما الذي يدعوني للشك في قوله؟! ومع ذلك.. ومع ذلك فهو مجرم بحكم القانون! قلت بلهجة باردة دون أن أنظر إليه: يجب عليّ أن أقودك إلى مركز البوليس، فالقانون يعاقب من يحتفظ لنفسه بالأشياء المفقودة التي يعثر عليها.
غمغم الرجل بلهجة فزعة: حرام عليك يا سعادة البك.. أنا لا أعرف هذه القوانين، أفمن العدل أن تسوقني إلى السجن بلا ذنب؟
طافت على شفتي بسمة ساخرة. حقا، أفمن العدل أن أسوقه إلى السجن؟ أعدل هو؟! لعل صاحبة هذا الخاتم في غير حاجة إليه. فلماذا تهمها عودة الخاتم إليها وهي موفورة الثراء؟ بل إنها ترى فيه معدنا للزينة لا أكثر. أما هذا الرجل فلا يرى فيه معدنا فحسب، بل خبزاً وكسوة . ثوبه هذا.. وتفحصت جلبابه الطويل الحائل اللون.. لعله ينوي استبدال ثوب جديد به. وإذا كان زوجا لامرأة يحبها فلعله يعتزم أن يهديها رداء جميلا.. شأني تماما وأنا آمل أن أهدي هذا الخاتم إلى زوجتي. ثم تلقيه المقادير في طريقي.. شخص يحترم القانون من أجل العدالة.. وأقوده إلى السجن كما تقاد الشاة إلى الذبح.. ويدور في أروقه السجن.. ويطارده الحارس بعصاه الغليظة ليلقنه مبادئ العدالة.. ويتضور أطفاله جوعا في انتظار رحمة السماء.. لماذا؟! أجننت لأقدم على هذه الحماقة؟تفرست في وجهه ثم قلت: بكم تبيعه؟
أجاب وهو يتلفت وجلا: بخمسة جنيهات يا سعادة البك.
خمسة جنيهات مبلغ كبير! سيؤدي بي شراؤه إلى عجز يلازم ميزانيتي الشهرية. ولكن هذا الخاتم.. يجب أن أشتريه. إنها فرصة العمر. وظللت أفكر صامتا. ثم لمعت في ذهني خاطرة. التفت إليه وعلى ثغري بسمة ماكرة. رميته بنظرات متخابثة من دون أن أنطق حرفا. وتعلقت عيناه بشفتي متلهفا للجواب. انعطفت في "شارع شريف باشا" وأنا صامت فانعطف معي هو غارق في الحيرة. وتناهى إليّ صوته الحائر وهو يهمس: بكم تشتريه يا سعادة البك؟
أجبت ببطء دون أن أحول عنه عيني: لست أدري. يخيل إليّ أنني سأبلغ البوليس. فأنت لص ولا بد أن تنال عقابك.
فتجاهل جوابي واستأنف همسه: هات أربعة جنيهات.
مددت إليه يدي قائلا: دعني أفحصه أولا.
ناولني الخاتم مترددا00 يا لبريقه الخاطف! لكأن هذه الماسة المتألقة في وسطه إحدى النجوم المتوهجة في ليلة صفت سماؤها! دسست يدي في جيب بنطلوني وأنا أرمق الرجل بنظرات الغالب المنتصر. إنه حصل على الخاتم بلا ثمن، فلماذا أدفع له مقابله ثمنا؟! هو في حاجة إلى ثمنه وأنا في حاجة إلى ثمنه أيضا. قلت في تهكم: بكم تبيعه؟
أجابني مترددا: بثلاثة جنيهات.. ثلاثة جنيهات فقط. ألا يناسبك هذا الثمن يا سعادة البك؟
قلت وأنا أطالعه بنظرات ساخرة: ولكنني لا أنوي أن أدفع لك شيئا.
فعبس قائلا : حرام عليك.. أنا رجل مسكين وحرام عليك أن تظلمني.
فاشتد ضغط أصابعي على الخاتم. ولبثت أسير متمهلا وأنا غارق في جمودي. الظلم.. الظلم! ماذا يهم المجتمع إن زاد عدد الظالمين فردا آخر ما دام المتحكمين بمصيره من الظالمين؟! وماذا بوسع فرد واحد أن يبدد من هذا الظلم ؟
قال الرجل في احتجاج: إلى متى تبقى سائرا؟! قد يرتاب البوليس فأي أمرنا ونحن نمشي جنبا إلى جنب .0 ولعله يراقبنا الآن0
توقفنا أمام متجر لبيع الأدوات الموسيقية. وطوّفت عيناي في معروضاته. على الجهة اليسرى من الواجهة علقت صورة لتشوبان وهو منحن على البيانو يعزف في قاعة غاصة بالمستمعين. وترامى إليّ صوت الرجل ذليلا وكأنه آت من بعيد: كيف تظلم مسكينا مثلي يا سعادة البك؟
ودوت كلمة الظلم في أذني دويا صاخبا، وتعالى دويها واستحال إلى أنغام ثائرة. ورنوت إلى صورة شوبان ساهما وأنا أهمس: "هذا الفرد انتصر على الظلم". التفت إلى الرجل وسألته: بكم تبيعه؟! آخر كلام؟
فقال: أيناسبك أن تدفع جنيهين؟ جنيهين فقط!
فقلت: اسمع. لا يمكننى شراءه بما يزيد عن جنيه واحد، فما رأيك؟ فصمت الرجل لحظة ثم قال: قبلت والعوض على الله. يبدو عليك أنك ابن حلال، ولن يضيع الخير في وجه ابن الحلال.
وفي حذر اللص دسست الجنيه في يده. وابتعد عني في خطوات سريعة. فراغ!.. ليس ثمة سوى فراغ! لم أكن أنظر إلى شيء معين. فراغ هائل ابتلع وجودي. وجمدت أمام واجهة المتجر كجندي بوليس يؤدي واجب الحراسة. ثم حركت قدميّ بعد دقائق لأسير..الى اين؟ لست أدري. كنت أريد أن اسير لكن قدماي لم تطاوعاني على السير. لكأن أطنانا من الحديد ربطت بهما. قبل دقائق فقط كانت الطمأنينة تملأ نفسي.ثم اتسعت خطواتي. خطوات واسعة لم أكن قد عرفتها من قبل. خطوات واسعة ولكنها بطيئة. ليس في قدرتي أن أسرع في سيري. لأول مرة في حياتي أحس أن جسمي ثقيل الوزن وان قدمي تنوآن بثقله ! ولكن الخاتم.. ماذا دهاه؟! كلما خطوت خطوة ثقل وزنه! وخيل إليّ أنني أحمل في جيبي صخرة كبيرة!
بلغت ميدانا تتقاطع فيه الشوارع فاخترقته دون أن أعبأ بإشارة المرور الحمراء. وظللت أسير وأسير ثم توقفت في وسط الميدان. إشارة من شرطي المرور شلت قدمي. تسللت يدي إلى جيبي تضغط على الخاتم في عنف. وتمنيت لو كان خاتما سحريا ليتلاشى من بين أصابعي كالدخان. كان يلوح على الشرطي أنه يتأهب لترك إشارة المرور والتقدم نحوي. لكن سيل السيارات لم ينقطع.. لم ينقطع أبدا. وفي غفلة منه تحولت إلى شارع آخر. ودار رأسي.. رأسي، أركب على لولب دائر؟!.. قليل من الشجاعة يا رجل.. ماذا أصابك؟ ماذا أصابني؟! يقبض علي بتهمة السرقة0 وأمينة كيف ستتلقى النبأ؟ "أيشارك زوجي سارقا؟"00هذه الأقدام التي تضرب ورائي.. قضي علي. انتهت حياتي. وسبح جسدي بعرق بارد. التفت ورائي .. كان الشارع خاليا؟! كيف اتفق هذا؟ كيف اتفق أن يخلو الشارع من المارة وأسمع خفق حذاء ثقيل ورائي؟
واصلت سيري وقد خدرت أعصاب قدمي. أنا خائف.. لم يفكر أي شخص في مطاردتي. إنه الخوف.. الخوف وحده يطاردني. لا أحد يمشي ورائي. وارتفع صوت الأقدام خلفي من جديد. طق. طق. طق.كيف أكذب أذني وأزعم أن صوت هذه الأقدام وهمي؟! إنها لتشتد وتقوى. إنها تقترب مني. إنها تدانيني.
جربت أن ألتفت ورائي فعجزت. كان صوت الأقدام هذه المرة عاليا واضحا لا سبيل إلى الشك فيه. والتهب جسدي. واستحال قلبي إلى "موتور" ضخم. ورأيت الشخص الذي يتعقبني.. رأيته بعينين نبتتا في الجانب الخلفي من رأسي. رأيته يمد يده ويربت على كتفي والابتسامة الساخرة تتلاعب على شفتيه. كان وجهه جامدا، قاسيا، فظيعا0 أيها الرجل، لماذا تحطم حياتي؟ لكأن قلبه آلة معدنية، ماكنة من حديد! هذه الطائفة من البشر لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلا. إنهم ينفذون نصوص القانون.. نصوص القانون!‍ أفيمكن أن أقنع نصوص القانون أنني لم أسرق الخاتم؟ كيف أقنعها؟‍ انها كلمات على الورق تحليها آلات بشرية بعصيها القضائية إلى قيود وأصفاد.. كلمات خرس لو كان بإمكانها أن تنطق لوقفت مع الإنسان وقدرت ظروفه.
وغمرتني موجة من اليأس أثارت فيّ اللامبالاة فحطمت مخاوفي والتفت. كان هناك رجل يسير على مقربة مني متمهلا وعيناه مثبتتان في مجلة مصورة.. يجب أن أخفي الدليل عنه.. يجب. ولكن أين؟ أين؟
وومضت في ذهني خاطرة. أجل، أجل، هناك موضع لن يهتدي إليه. وتحسست ياقة القميص. لكم خامرتني الثورة على هذا القميص، ولكم شكوت من ضيق ياقته. عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.. حقا، وعسى أن تكرهوا.. أكنت في حاجة إلى شراء هذا الخاتم؟‍ رفعت يدي إلى الياقة متظاهرا بزحزحتها إلى الأعلى ودسست الخاتم بينها وبين عنقي. الآن.. والآن فقط يحق لي أن أطمئن. ودبت في جسدي قوة جديدة. انتصبت قامتي وقصرت خطواتي واتزن سيري.تحركت قدماي وانعطفت في "شارع قصر النيل". لم يكن هناك من يتبعني هذا الحين. وفجأة شعرت بألم في عنقي. تحسست موضع الألم فاصطدمت أصابعي بالخاتم الماسي. كانت الألماسة مغروزة في اللحم والدم يسح من جرح بسيط. انتزعت الخاتم وتأملته لحظة. كانت الألماسة قد اصطبغت بالدم. افكان حتما على الإنسان أن يضحي من أجل امتلاك هذه الأشياء بأرواح الملايين؟
ونازعتني رغبة قوية بتحطيم الخاتم. وقفت مترددا بضع لحظات. وأخيرا حزمت رأيي فالقيته على الأرض ورفعت قدمي لأهوي بها عليه ثم.. التقطته ودسسته في جيبي. إنني بشر.. بشر، وقد تسممت بالطبيعة البشرية‍.
وسرت.. سرت ولكن لا كما يسير الآخرون. إن وجوه الناس تترقرق بالغبطة وتطفح بالسرور. إن الابتسامة ترفرف بإشراقتها الحلوة على وجوه الجميع. أنا وحدي العابس. ما أجمل أن يتحرر الإنسان من الخوف.
ظللت أسير متنقلا من شارع إلى آخر دون أن أسلك طريق المنزل. كانت هناك رغبة مبهمة لا قبل لي بقهرها تدفعني إلى الأمام.. وإلى الأمام، حتى وجدتني أخيرا أمام مركز بوليس باب اللوق . قلت لضابط البوليس وأنا أناوله الخاتم: ابتعت هذا الخاتم الماسي من لص اعترض سبيلي، وحاولت استدراجه إلى مركز البوليس لكنه أفلت منى .
تناول ضابط البوليس الخاتم باهتمام وألقى عليه نظرة سريعة ثم رفع رأسه وتساءل بتهكم: بكم اشتريته؟
فقلت: كان اللص مستعدا لبيعه بأي ثمن، فدفعت له فيه جنيها واحدا فقط.
فلوّح الضابط بالخاتم مغضبا وقال: هذه هي المرة الخامسة التي نلتقي فيها بضحايا هذا المحتال.


صديقي عبد علي

عرفت عبد علي التتنجيّ يوم هجرت محلة "الكراد" وانتقلت مع أسرتي إلى دار جديدة في "محلة المهدية ". وكان دكانه لبيع السجائر والتبغ يعترض طريقي إلى المنزل، لكنني لم أتحدث إليه قط. حتى التحية المألوفة ضننت بها عليه، مع أنه كان يستقبلني بأنظاره ويودعني بها كلما اقتنصتني عيناه. وكنت أراه متربعا دوما أمام صينية كبيرة قد تكوم فيها التبغ الخام وهو عاكف على سحقه بساطور ذي مقبضين خشبيين. لم يكن يغير جلسته هذه أبدا. لكنه نهض قائما حينما ألقيت التحية عليه عصر ذلك اليوم إمعانا في الاحترام. وكنت قد لمحت "سجائر غازي" تطل من واجهة دكانه الزجاجية فاتجهت إليه وحييته ثم ابتعت لي علبة. وهكذا بدأت صلتي به، لكنها لم تتعد التحية المألوفة وشراء سجائر غازي.
كانت سجائر غازي من ضروريات حياتي. وكان باستطاعتي، أو باستطاعة أي مدخن، أن أشتريها بعشرين فلسا. حتى الباعة المتجولون كانوا يبيعونها بهذا الثمن. ثم جاء يوم دفعت فيه لعبد علي عشرين فلسا ثمنا للعلبة. لكنه نظر إليّ مترددا ثم قال: ارتفع ثمنها يا أستاذ أحمد وأصبحت باربعة وعشرين فلسا.
فقلت في دهشة: أربعة وعشرون فلسا‍ لماذا؟ ما الذي جرى؟ الألمان لم يحتلوا البلاد بعد.
تلفت عبد علي حواليه في حذر وغمز بعينه اليسرى غمزته اللاإدارية وهمس: سيفعلون عما قريب إن شاء الله يا أحمد أفندي.
قلت بلهجة شبه متهكمة وأنا أبتسم: وهل أنباك قادتهم بذلك يا أسطى عبد علي؟
قال بلهجة حماسية: إنهم سيفعلون ذلك بالتأكيد يا أستاذ أحمد ، وحينئذ تختفي عن عيوننا وجوه الإنجليز إلى الأبد.
ثم أضاف وعيناه تشعان: لن تمر الأيام حتى نحتفل باستقبال أبو جاسم في بلادنا.. أفديك بالروح يا هتلر‍‍‍!
وأردت أن أرد عليه فتوقف أمام الدكان رجل في الأربعين وألقى علينا التحية. صاح به عبد علي مرحبا: أهلا يا أبو فلاح.. تفضل.. استرح.
قال الرجل متهلل الوجه: زاد فضلك. أحببت وأنا في طريقي إلى الدكان أن أبشرك بآخر انتصارات أبو جاسم. أسمعت أنباء الصباح؟
غمز عبد علي بعينه وقال: طبعا. الروس يفرون من الميدان كما تفر الخرفان من الذئاب. ولندن اندكت على رؤوس أصحابها حتى لم يبق فيها سقف سليم.
قاطعه الرجل: هذه أخبار قديمة. أدريت أن الألمان احتلوا مدنا جديدة من مدن المسقوف؟ سيصلون إلى موسكو بعد أيام.
فصاح عبد علي في طرب: صحيح؟! هنيئا أبو جاسم.. الفاتحة على روح أبو ناجي.. اقتربت نهايتكم أيها الإنجليز.
انصرف الرجل وهو يضحك مغتبطا، فقلت لعبد علي: لا يغرنك انتصارات الألمان يا اسطى عبد علي فما زال الحلفاء أقوياء وسيوقفون تقدمهم عاجلا أم آجلا.
فقال في ازدراء: لن يقف في وجوه أولئك الأبطال هؤلاء الجبناء.
ولم أشأ أن يحتدم النقاش بيننا. كان الجو مكهربا بالأحكام العرفية، والناس لا يدرون متى يساقون إلى المعتقلات بتهمة النازية، فحييته وانصرفت.
كان ذلك اليوم فاتحة لعلاقة جديدة بيننا. لم تعد الصلة بيني وبين عبد علي مقتصرة على التحية المألوفة وشراء سجائر غازي. توطدّت بيننا صداقة متينة. واعتدت عصر كل يوم أن أمضي حوالي الساعة على مقعد بجوار دكانه أقرأ على سمعه جريدة المساء. وكان يعكف على سحق التبغ الخام المتجمع أمامه في الصينية الكبيرة وهو يصغي إلى الأخبار في انتباه شديد. وكلما ورد على سمعه انتصار ألماني هز رأسه في ارتياح وتمتم: "أفديك بالروح يا أبو جاسم". فإذا ورد بين أنباء الانتصارات نبأ مغاير أزّ الساطور بين يديه في سخط وردد في استهزاء: "ضراط.. ضراط!".
لم يكن عبد علي وحده معنيا بأخبار الحرب. كان يشاركه في ذلك عدد كبير من معارفه. كانوا يحتلون واجهة الدكان ويلتفون حوالي في اهتمام ويلقون إليّ بأسماعهم في انتباه عظيم. وكانت الانفعالات التي تنتابهم متشابهة كأنما يجمعهم هدف واحد! ورغم أن اجتماعهم على ذلك النحو كان يعرقل سير العمل في الدكان فإن عبد علي كان يغتبط لها. كانت أسعد أوقاته هي تلك التي يسمع فيها أخبار انتصارات الألمان. وما زلت أذكر كيف تلقى خبر "الإنزال" الذي قام به الألمان في جزيرة كريت. فقد عدت ظهيرة ذلك اليوم من عملي فى المدرسة متعبا. وكانت أقصى أمنياتي أن أبلغ المنزل سريعا لأتحرر من ملابسي. وكنت أخمن أن عبد علي لن يفوّت عليّ هذه الأمنية في مثل مناسبة اليوم العظيمة. وكدت أجتاز منعطف الطريق دون أن يبصرني، وإذا بصوته الأجش يتدحرج إلى أذني: أستاذ أحمد .. أستاذ أحمد.. البشارة.
توقفت بضيق، واستدرت نحوه وإذا به منحن فوق مقعده وهو يلوّح لي بيده. قلت بعجلة: نعم.. نعم، ولكن دع الحديث عنها إلى العصر يا أسطى عبد علي. فأنت مشغول.
صاح محتجا: مشغول؟! مشغول بماذا؟ تعال يا مولانا فأنا في انتظارك منذ ثلاث ساعات.
واستدار إلى الزبائن يجيب طلباتهم في عجلة، فانصرفوا جميعا. قلت: يبدو أنك سمعت آخر الأنباء.
قال بفرح: سمعت طرفا منها.
وأضاف يسألني في لهفة: أصحيح أن الألمان قاموا بإنزال في كريت؟
فقلت: صحيح، وقد احتلوا الجزء الأكبر منها.
فغمز بعينه غمزته اللاإرادية وصاح: هنيئا لك أبو جاسم.. الفاتحة على روح أبو ناجي.
وداخلتني رغبة في تكدير سروره فقلت: لكن المعلقين الحربيين يقولون ان مصير هذا الإنزال إلى فشل لأن للحلفاء قوة كبيرة في المنطقة. وقد ينتصر الإنجليز في هذه المعركة في النهاية.
فعبس وجهه وهتف: ينتصرون؟! ضراط.. ضراط.. هذه نهاية الإنجليز وأتباعهم يا أستاذ أحمد .
وسكت وتاهت نظراته . وقال كالحالم: بعد أن يحتلوا كريت سيتجهون إلى سوريا ولبنان ومنها يدخلون بلادنا.
فقلت غاضبا: أفهمتك ألف مرة يا عبد علي أن ذلك لن يجلب لبلادنا سوى الدمار والبلاء.
فالتفت إليّ وعلى وجهه تعبير قاس وتساءل: وهل هناك بلاء أعظم مما ذقناه على أيدي الانجليز وخدمهم؟
فقلت: ثق يا عبد علي أن الألمان كغيرهم من المعتدين. إذا احتلوا بلادنا نهبوا ثرواتها. إنهم لن ينقذوها من بؤسها بل سيزيدونها بؤسا.. وحاكمهم هتلر ليس سوى دكتاتور جبار وطاغية.
فانطلق يغمز بعينه غمزات سريعة وهو مقطب وقال بانزعاج: لا تقل ذلك يا أستاذ أحمد . فالألمان طيبون وهتلر رجل رحيم وهو يحب العرب والمسلمين . ويقال إنه ينوى أن يحج بيت الله الحرام بعد الحرب.
قلت غاضبا: عبثا أناقش هذا السخف. أنت لا تريد أن تفهم، وأنا متعب وجائع.
وحييته بجفاف وانصرفت. حينما حان وقت خروجي عصرا حننت إلى مجلس عبد علي وندمت على ما بدر مني ساعة الظهيرة من خشونة.
ارتديت ملابسي وقصدت إلى دكانه. وما أن لمحني من بعيد حتى صاح مرحبا: أهلا.. أهلا أستاذ أحمد .
قلت له: أرجو ألا تكون انزعجت مني يا اسطى عبد علي.. كنت متعبا وجائعا.
قاطعني في حماس: أرجوك.. أرجوك.. متى كنت أغضب من صديق عزيز مثلك؟ على كل حال لدينا شغل أهم.. هذه جريدة المساء فمتّعنا بسماع آخر انتصارات أبو جاسم.
تناولت الجريدة وما كدت اتصفحها حتى قال في لهفة وهو يغمز بعينه: يا ليتك تبدأ بقراءة هذه العناوين الكبيرة يا أستاذ أحمد .
ثم فرك يديه في سرور وابتسم ابتسامة عريضة حتى بانت نواجذه الصفر وقال: لا بد أنها تصف خراب بيت الإنجليز في كريت.. أفديك بالروح يا أبو جاسم.
شرعت أقرأ له الأنباء وهو يصغي مبتسما ويهز رأسه في رضى. كان الزبائن يفدون على الدكان لكنه لم يحفل بهم. وكان يخطئ في حساب هذا، ويهمل طلب ذاك ، ويتغاضى عن رغبة الثالث. وكان يقاطع تلاوتي بين حين وآخر ليكمل النبأ الذي شرعت في قراءته. واعترتني الدهشة لإطلاعه الواسع.. أهو قارئ للغيب أم معلق حربي بارع؟! التفت إليه أخيرا وهو يحاول أن يكمل خبرا بدأت في تلاوته وسألته: كيف عرفت هذه الأخبار يا عبد علي؟
فضحك مزهوا ثم همس في أذني وهو يغمز بعينه: من راديو برلين تستقي النبأ الصحيح يا أستاذ أحمد .
حين تهيأت للانصراف وقع بصري على خريطة مثبتة في ركن من أركان الدكان. وسألته عنها فقال مستدركا: لعنة الله على الشيطان الرجيم.. نسيت أمرها. أرجوك يا أحمد أفندي أن تعلم لي بالقلم على جزيرة كريت، وترسم خطا يمتد من كريت ويعبر سوريا ولبنان وفلسطين إلى بلادنا.
دار الزمن دورته، وتوارت أنباء انتصارات الألمان من صدور الجرائد وأفسحت المكان لأخبار هزائمهم المتوالية. وكنت دائبا على عادتي خلال تلك الشهور.. أمضي ساعة العصر بجوار دكان عبد علي أقرأ على أسماعه جريدة الصباح، ثم أتلوها بجريدة المساء. أين ولّى عبد علي الفرح المستبشر؟ لم يعد له وجود! غاض البشر من وجهه وكساه الوجوم ولم يبق للابتسامة موضع على ثغره، فإذا لاحت بدت شاحبة كاسفة. وصمتت صيحته التقليدية "هنيئا أبو جاسم.. الفاتحة على روح أو ناجي" واحتلت مكانها دمدمته الساخطة "ضراط.. ضراط". وصار يستمع إلى الجرائد وهو يهز رأسه في استهزاء ينطوي على أسى عميق. وكثيراً ما أطلق ضحكة ساخرة لسماع خبر عن فشل الألمان توحي بالأسى أكثر مما توحى بالسخرية. ومع ذلك ظل موقنا بأن النصر سيكون من نصيب الألمان في النهاية.
وأخذ عبد علي يغير جريدته المسائية باستمرار. كان يستقبلني عصر كل يوم في شوق ويناولني الصحيفة الجديدة وهو يهتف: أظن أن هذه الجريدة لا تميل مع الريح يا أستاذ أحمد. خذ، ألا ترى فيها أخبار انتصارات الألمان؟
فأتناول الجريدة وألقي على عناوينها نظرة سريعة، ثم أرفع إليه أنظاري ليقرأ فيها خيبة أمله. فيقرض أسنانه ويبصق على الأرض وهو يدمدم: كذابون.. كذابون.. كلّهم كذابون.. الله يلعنهم ويلعن والديهم.
ويصمت لحظة ثم يلتفت إليّ صائحا: كذابون.. والله العظيم كذابون.. ليس فيهم من يخلص لضميره وينقل الأخبار الصحيحة. أفتنتظر أن يكون لدى أصحاب الجرائد ضمير؟!
وذات عصر كنت أقرأ في الجريدة المسائية وصف معارك الحلفاء في برلين والشائعات التي تتردد عن تخلي هتلر عن الحكم. وكان عبد علي يشغل يديه بساطور التبغ وهو مطرق عابس الوجه. وبينما كنت منصرفا إلى القراءة بوغت به يختطف مني الجريدة وينهال عليها تمزيقا، ثم يكورها ويقذف بها إلى الطريق. ودمدم وعينه اليسرى تغمز غمزات سريعة: ملاعين الوالدين.. الكذب عندهم كشرب الماء.. عديمو الضمير.
وحدست أنه لم يعد في إمكان عبد علي الاستماع إلى أنباء الحرب. وصدق حدسي إذ استقبلني عصر اليوم التالي في فتور. أخذت أروي له كعادتي أنباء الصباح، وانتظرت أن يناولني جريدة المساء لكنه لم يحرك ساكنا. تشاغل بسحق التبغ وهو مكفهر الوجه مقطب صارم النظرات. مرت بضع دقائق صمت ثم سألته: ألم تشتر اليوم جريدة المساء يا عبد علي؟
أجاب بحدة دون أن يلتفت إليّ: لا، لن اشتري بعد اليوم أي جريدة.حرام عليّ أن أنفعهم. أولئك الكذابون الخداعون. كل فلس يدفع لهم مال حرام.
فسألته مترفقا: أما تزال تعتقد أن هزائم الألمان كاذبة يا عبد علي؟ أجاب في ثقة: أيمكن أن أصدق الجرائد إذا قالت أن تتن صمصون تتن رديء؟
فقلت ضاحكا: ليس من المعقول يا عبد علي أن تتفق الصحف جميعها على رواية أنباء لا أساس لها من الصحة.وهناك مثل إنجليزي يقول: "لا دخان بلا نار".
فقاطعني محتدا: ما لنا وأمثال الإنجليز؟ فلينزل الله صواعقه على رؤوسهم.
وسكت لحظة وهو محمر الوجه وشعر شاربه المنفوش يهتز في عنف وعينه اليسرى تغمز في سرعة عظيمة. ثم أضاف دون أن ينظر إليّ: ولكن كيف أنتظر منك أن تقتنع بقولي وأمنيتك أن يكسب الحلفاء النصر إن لم يكن من أجل الإنجليز فمن أجل الروس؟
فتطلعت إليه مغضبا ثم غادرت الدكان.
لم تمض على ذلك اليوم سوى أيام قليلة حتى أعلنت ألمانيا هزيمتها.
وكنت قد قطعت صلتي بعبد علي، لكن ذلك النبأ أثار إشفاقي فعزمت على مواساته في ذلك المصاب. وحين عدت من عملي ساعة الظهيرة رأيت الدكان مغلقا. تملكني القلق فقد كان هذا أول يوم يقفل فيه الدكان منذ عرفته. وازددت قلقا حين وجدت الدكان في اليوم التالي مغلقا أيضا.في اليوم الثالث لمحت عبد علي من بعيد وأنا عائد من عملي فهرعت إليه وحييته في شوق. لكنه رد عليّ تحيتي في فتور. وراعني أن أطالع في وجهه الشاحب خطوطا عميقة. سألته: لماذا أغلقت الدكان يا عبد علي؟ عسى أن يكون المانع خيرا.
أجابني : كنت متوعكا.
أردت أن أمضي في الحديث فلم يشجعني مظهره. كان منحنيا على صينية التبغ يعمل فيها الساطور بتخاذل وعينه اليسرى تغمز ببطء. وخيم علينا الصمت كأننا في مجلس عزاء. فتملكني الضيق وقمت أخيرا متأهبا للانصراف. قال عبد علي في صوت خافت دون أن يرفع إليّ عينيه : لم العجلة يا أستاذ أحمد ؟
فرمقته في إشفاق وقلت: عبد علي.. إنني أقدر عواطفك حق قدرها. فالحلم الذي يعمر قلوبنا واحد. ولا بد أن يتحقق في يوم من الأيام. وإذا كان الأمل بعون ألمانيا قد ضاع..
فقاطعني مغضبا: من قال لك هذا؟! إن ما تقرأه في الجرائد وتسمعه في الإذاعات ضراط في ضراط. وإذا كان أبو جاسم اختفى اليوم فسيظهر قريبا ويسحق الإنجليز وأتباعهم.
غمرني فيض من الإشفاق وأنا أتفرس في وجهه الحزين ومظهره المنكسر، وامتدت يدي إلى كتفه تربت عليه في حنان.


أعوام الرعب
الله يرحم أيام زمان. كنا نعيش في أمن وسلام. لم يكن لنا علاقة بالحكومة. وكان كل منا راضيا بحاله. ثم بدأ الزمن يتغير وأخذت الحكومة تتدخل في شؤون الناس والناس يتدخلون في شؤون الحكومة. وكـانت بداية المتاعب تلك البدعة التي أذاعتها الحكومة باسم "الانتخاب". وزعمت للناس أن في وسعهم أن يختاروا ممثليهم بأنفسهم. وقد استطعت بفضل الله أن أتجنب "الجندرمة" طوال الأعوام الماضية. واعتدت أن أطيع من يمرّ على دكاني منهم يوم الانتخاب ويأمرني أن أنتخب اسما معينا. وهكذا أنقذت نفسي من المتاعب. غير أنني لم أفهم حتى اليوم لماذا لا تعيّن الحكومة بنفسها أولئك الأشخاص وتكفينا شر هذه الطريقة الملتوية! لكن الناس لم يكونوا جميعا مسالمين مثلي وانتهزوا الفرصة ليتدخلوا في أمور الحكومة. مجانين! أية رغبة، بحق الحسين، تدفعهم إلى شراء المتاعب؟! وقد اشتروا المتاعب فعلا لأنفسهم ولنا. فقد أخذت الحكومة تذكّرنا بوجودها دوما بعد أن كنا بعيدين عنها. ومع ذلك لم يكن الأمر قد ساء إلى هذا الحد، ولعل السبب أن أبناء الزمن السالف كانوا أرجح عقلا من أبناء هذا الزمن. فالحال هذه الأيام لم تعد تطاق. الحكومة تتدخل في أمور الناس صغيرها وكبيرها، والناس يتمردون على هذا التدخل ويقابلونه بمثله فيساقون إلى السجن بالجملة! أفليس هذا بالأمر المبكي؟ لم يكن أحد من الناس يزج في السجن قبلا إلا إذا كان قاتلا أو سارقا أو معتديا. أما اليوم فالسجون تفتح أبوابها لشبان لا ذنب لهم إلا التدخل في شؤون الحكومة. وأعترف أنني لا اعلم شيئا عن أسرار الحكومة فقد قضيت عمري منصرفا إلى عملي لا أتدخل فيما لا يعنيني. لكن المتاعب تأتي الإنسان من حيث لا يدري كما يقول المثل. ورغم عمري الطويل فإن لي ابناً واحداً هو الوحيد الذي لم يختطفه الموت في طفولته.وقد أرسلته إلى المدرسة ليصير شخصية مهيبة.ويمتاز وحيد بخلق حميد أطلق ألسنة معلميه بالثناء عليه. لكنه يتصف بخلة سيئة هي رغبته في التدخل في شؤون الحكومة. وكثيرا ما نصحته ليتعظ. "أنا لا أبغي سوى مصلحتك يا ولدي وحيد فاستمع إليّ. التدخل في شؤون الحكومة جنون لا يقدم عليه العقلاء. فالحكومة تتصرف بحياة الناس على هواها ولا حق لأحد في محاسبتها وإلا لما سميت حكومة. وها أنت ذا ترى يا ولدي وحيد الناس الذين يقدمون على هذه الحماقة يساقون إلى السجن بدون شفقة ولا رحمة. بحق الحسين يا ولدي وحيد، ما الذي يدعو الشخص العاقل إلى أن يزج بنفسه في هذه البلاوي؟ ما لنا والحكومة؟ وأنت ما تزال صغيرا على السياسة وما تزال تلميذا فى الثانوية"0 لكنه كان يرد علي: "لا يا أبي. من حق الناس أن يتدخلوا في شؤون الحكومة لأن الحكومة خادمة الشعب".
الحقيقة أنني كنت أهجس في أعماقي بالمصير الذي ينتظر ولدي وحيد. فماذا يتوقع لشخص يجرؤ على إهانة الحكومة صاحبة السيادة واصفا إياها بخادمة الشعب؟! وقد فقدت الطمأنينة منذ جثمت على ذهني فكرة ذلك المصير الأسود الذي يتهدد ولدي. ومع أنه كان يقول لي كلما أفصحت له عن مخاوفي: "لا تخش عليّ مكروها يا أبي فأنا محتاط لنفسي" فإن عبارته هذه لم تصمد أمام مخاوفي أبدأ. كيف أطمئن وأنا أرى أبناء جيراني يتتابعون واحدا بعد الآخر إلى السجن وكأنهم على ميعاد؟! كنت أتوقع أن يلحق إبني برفاقه في أية لحظة، كما كان معظم جيراني يتوقعون هذا المصير لأبنائهم. لم نكن ندري ماذا يدبر أبناؤنا في الخفاء وماذا تدبر لهم الحكومة. ثم أقبل ذلك اليوم المشؤوم الذي لم تشهد له "الحلة" مثيلا إلا في "يوم عاكف" و"السفر بر" والذي تقرر فيه مصير وحيد التعس. وكنت عاكفا على عملي أعيد تصفيف الخضر و الفواكه فى أماكنها . وكان الصبي الذي يساعدني غائبا عن عيني.وفجأة ظهر أمامي وهو يلهث مكدودا، وصاح مبهور الأنفاس: استادي.. استادي. التلاميذ والناس متجمهرون في ساحة الشرطة والدنيا مقلوبة!
فتسارعت ضربات قلبي وصحت ملهوفا: وهل رأيت وحيد بينهم؟
أجاب مترددا: لم أر وحيد بينهم يا استادي.. كانوا متجمعين مثل النمل. سرت معهم حتى وصلوا إلى ميدان الشرطة فتركتهم وأتيت.
فشبت النار بين ضلوعى . وعصفت المخاوف برأسي وظللت حائرا بين الذهاب للبحث عن وحيد وبين البقاء في الدكان معتمداً على رحمة الله. ولا أدري كم انقضى عليّ من الوقت وأنا أتخبط في حيرتي فقد كنت أحس بالدقائق كما لو كانت ساعات. وفجأة امتلأ الفضاء بصرخات مفزوعة وضجيج مريع. وفي لحظة واحدة ازدحمت السوق بجموع من التلاميذ والناس وهم يتراكضون وصرخاتهم المدوية تهز الكون. وكان "الجندرمة" يطاردونهم على ظهور الخيل ويشبعونهم ضربا بكعوب بنادقهم وعصيهم. وبينما كنت مع بقية أصحاب الدكاكين حائرين مذعورين إذا بطائفة من "الجندرمة" يتحولون إلينا وينهالون علينا ضربا بعصيهم وهم يصرخون: "أقفلوا دكاكينكم يا كلاب". وبعثروا الخضر والفواكه على الأرض فامتلأ بها الشارع .
لو مت وبعثت مئة مرة لما غاب عن ذاكرتي ذلك المنظر. كانت ضربات "الجندرمة" تتساقط علينا كالمطر. وكنا ذاهلين جزعين لا ندري كيف نتقي تلك الضربات ولا كيف نغلق الدكاكين! بحق الحسين، كيف تجرأ أولئك القساة على أن يضربوا كهولا وشيوخا لم يقترفوا ذنبا؟! لقد بقيت طيلة عمري أتجنب الجندرمة وكنت بذلك أشتري كرامتي لأنني أعلم أن هذا الصنف من الناس لا يرعى لعهود الله ذمة. ومع ذلك أذاقوني المهانة والألم مع بقية جيراني ومن دون سبب. ولا شك أن الله ونبيّه لا يرضيان أن يهان رجل كبير ويضرب بالعصى. ولن يغفل الله ذلك المنظر يوم الحساب.. منظرنا ونحن نتسابق في غلق دكاكيننا وعصي الجندرمة تتنقل بخفة فوق رؤوسنا وأجسادنا غير راحمة ضعف الكبار منا وعجز الشيوخ. والويل لمن تلكأ في إغلاق دكانه ووقف حائرا مذهولا لا يدري ماذا يصنع فإنه صار هدفا لركلات الجندرمة وعصيهم وكعوب بنادقهم.
أقفلت دكاني تحت وابل عصي الجندرمة واندفعت بين جموع الناس وعيناي تبحثان بلهفة عن وحيد. لكنني لم أستطع أن أميز وجهه بين مئات الوجوه المتشابهة في رعبها وسخطها وجزعها. فركضت إلى الدار آملا أن أجده هناك. وكانت الأرض تدور بي والطريق يستحيل أمام عيني إلى نهر يطفح بالدماء. وكانت أشباح الناس تخوض في ذلك النهر. ودوت صيحات الكبار والصغار والنساء والرجال في أذني كأن القيامة قد قامت. وكان منظر الناس ورعبهم يوحي بأن يوم الحشر قد حان!
ولما وصلت إلى منزلناوعلى لمحت أم وحيد واقفة أمام الباب تتأود ورأسها يتمايل يميناً وشمالاً كالمجانين. وما أن أبصرتني حتى قفزت إلى الطريق في خبال وصرخت: ولدي وحيد.. ألم تره؟
فأمسكتها بقوة من ذراعها وجررتها إلى داخل الدار وأنا أقول: أجننت يا امرأة؟ تخرجين بدون عباءة والطريق يموج بالرجال؟! أنت فضحتنا.
قاطعتني صارخة: ولدي وحيد.. ألم تره؟ أقتله الجندرمة؟ أقبضوا عليه؟ أين هو؟ أين هو؟
فتظاهرت بالاطمئنان وقلت: على مهلك.. هو بخير وسيعود بعد قليل.
فصرخت باكية: إذن أمسكوه! إذن قتلوه! آه يا ربي، لم تشأ حكمتك إلا أن تهبني ولدا واحدا فهل عدلت عن هذه الهبة؟
فنهرتها جزعا وقلت: إستغفري الله يا حرمة.. إستغفري الله.. إستغفري ربك. أتريدين أن تقلبي بنا الأرض؟ ما حدث للناس اليوم من مصيبة جزء من سخط الله على عباده الجاحدين.. امتلأت الأرض كفرا.. ربي اغفر لها فهي لا تفقه ما تقول.. بحق جدي رسول الله.
انطلقت أم وحيد تدور في فناء المنزل كالحيوان الحبيس وهي تدق صدرها وتولول. وتراميت على الحصير مشدوها. لم أكن أدري ماذا أفعل. كانت نيران القلق والخوف تتأجج بين ضلوعي. وتوجهت إلى الله أرفع إليه الدعوات ضارعا ليعيد إلينا وحيد سالما. وفجأة إنصفق باب الدار واندفع وحيد وهو منفوش الشعر متورم الوجه. وأقفل الباب في عجلة وهتف وهو يلهث: يجب أن أختبئ في الحال.. الشرطة تتعقبني.
فارتمت عليه أمه وأخذت تقبله في وجهه ورأسه وهي تهتف: ماذا فعل الظلمة بولدي؟ كبدي وحودي.. ما الذي فعله بك أولئك الوحوش؟ هرعت إليه جزعا وقلت وأنا أتفحص وجهه ورأسه بإصبع يدي المرتعشة: هل جرحت يا وحيد؟
قال وهو يحاول التملص من أيدينا: يجب أن أختبئ.. يجب أن أختبئ في الحال فالشرطة في أعقابي.
أسرع نحو البئر المنزوية في ركن من أركان المنزل وأخذ يعالج زحزحة غطائها الخشبي. قال وهو يدلي جسده في فوهة البئر:"سأختبئ في فجوتها وإذا أردتم ألاّ تهتدي الشرطة إلى مكاني فلا تضطربوا أمامها.. وخاصة أنت يا أمي.
أعدت الغطاء إلى موضعه وتراميت على الحصيرة وأنا أحس كأن ساقي أصبحتا خرقا بالية. وظلت أم وحيد تدور في فناء الدار وهي تهمهم.
استفقت من لجة أفكاري على طرق عنيف على الباب. التفت إلى أم وحيد فإذا بوجهها قد اصفر حتى حاكى وجوه الموتى.. واشتد وجيب قلبي وحاصرتني رغبة ملحة في قضاء الحاجة. لكنني سيطرت على أعصابي ونهضت متحاملاً على نفسي وأنا أهمس لأم وحيد: تذكري وصية وحيد.
وكانت قد كفت عن الدوران وجمدت في موضعها، فأومأت برأسها وقد عقد الجزع لسانها. وما أن فتحت الباب حتى وجدتني وجها لوجه أمام ثلاثة من الجندرمة بصحبة مأمور المركز. وبادرني المأمور: هل ابنك وحيد في المنزل يا سيد عبد العباس؟
فقلت متلعثما: لا يا مولاي.. عبدك وحيد لم يعد حتى الآن. ولا ندري أين ذهب.
فقال بغلظة: يجب أن نفتش المنزل.
ثم دخل وفي أعقابه الجندرمة. ولم يعد باستطاعتي أن أقاوم رغبتي الملحة في قضاء الحاجة، فقلت: أتسمح لي يا مولاي بالذهاب إلى المرحاض؟
فرمقني بنظرات مرتابة ثم التفت إلى أحد الجندرمة قائلا: اصحبه إلى المرحاض يا رفش وفتشه لعل الولد مختبئ هناك.
فصحبني الشرطي، ولما استوثق من خلو المرحاض سمح لي بالاختلاء بنفسي. وكانت أصوات الجندرمة تتناهى إليّ وهم يتصايحون ويبعثرون الأثاث، وكلما علت صيحاتهم استعرت الآلام في أحشائي.
حين غادرت المرحاض كان الجندرمة قد فرغوا من تفتيشهم. قال لي مأمور المركز: ابنك مطلوب في دائرة الشرطة وعليه أن يسلم نفسه يا سيد عبد العباس.
فسألته: ماذا عمل يا مولاي؟
فقال: كان يخطب على رأس مظاهرة من الأوباش ضد الحكومة. المهم أن يسلم نفسه سريعا وإلا فعاقبته وخيمة.
ثم غادر الجندرمة إلى المنزل المجاور. وأغلقت الباب في عجلة وأسرعت إلى البئر أرفع عن فوهتها الغطاء الخشبي وأنا أهمس: أأنت بخير يا وحيد؟
فأطل برأسه من الفجوة وقال: أنا بخير.. هل ذهب المجرمون؟
وتسلق الحائط ثم وثب إلى الأرض. وكانت أمه في استقباله على حافة البئر وهي تتمتم: يا ويلي على قلب أمك يا وحيد.. يا ويلي على المسكينة.
وما كادت قدما وحيد تمسان الأرض حتى استقبلته أمه بالعناق والبكاء، فنحاها عنه بلطف وهو يقول: كفى.. كفى يا أمي.. كفى بكاء. ماذا جرى؟ أنا بكامل صحتي ولم أصب بأي أذى.. أرجو أن تحضري لي ملابس نظيفة لأغيّر ملابسي هذه.
قلت وأنا أربت على كتف وحيد : أرأيت يا ولدي وحيد؟ هذه نتيجة التدخل في شؤون الحكومة.
فقال محتدا: سألتك بالله يا أبي أن توفر على نفسك مؤونة نصحي فلن تصرفني بذلك عن واجبي.
فارتمت عليه أمه تغمره بالقبلات وهي تقول: لا تغضب يا ولدي وحيد.. أبوك لا يبغي سوى صالحك.
ثم التفتت إليّ وقالت: أهذا وقت النصائح؟ أمن الضروري أن تعكر دمه في مثل هذه الساعة؟
فقلت في استسلام: حسنا. حسنا. كما تشاؤون. أنا أبرأت ذمتي أمام الله وليشهد على ذلك جدي رسول الله.
اغتسل وحيد وغيّر لباسه وانطرح على الفراش منهوكا ثم استغرق في نوم عميق. وعادت أم وحيد إلى تجوالها في فناء الدار كالقطة الحبيسة. تقدم الليل ونحن غارقون في أحزاننا، وهوّم النعاس على جفوني. وقلت لأم وحيد أخيرا: يبدو أنهم لن يعودوا مرة أخرى، أفلا تنامين لتستريحي يا أم وحيد؟
فرمتني بنظرة غريبة وهتفت: أنام؟! أستريح؟! وهل في هذه الدنيا راحة؟!
فاستعذت بالله وحدقت قى وجهها مرعوبا خشية أن تكون قد فقدت عقلها! وكان النعاس قد أثقل جفوني فاستسلمت للنوم على الحصير. ولا أدري كم انقضى من الوقت وأنا غاط في نومي عندما قرعت أذني أصوات مزعجة. هببت من نومي فزعا فسمعت أصوات الجندرمة تتعالى وراء الباب. فعاجلتني الرغبة الملحة في قضاء الحاجة، لكنني هرعت إلى غرفة وحيد فوجدته قد استيقظ وأمه إلى جانبه والرعب يكاد يذهب بعقلها. وأسرعنا إلى البئر، واختفى وحيد في الفوهة بعجلة وأعدت الغطاء الخشبي إلى موضعه وتقدمت نحو الباب. وما أن فتحته حتى بادرني المأمور مهددا: الأحسن لكم أن تسلموا لنا الولد يا سيد عبد العباس.
فقلت: لم نره حتى الآن يا مولاي.
فدفعني بعيدا ودخل والجندرمة وراءه وهو يقول: فتشوا كل موضع جيدا.
وكانت رغبتي في قضاء الحاجة قد بلغت غايتها فقلت للمأمور: أتسمح لي يا مولاي بالذهاب إلى المرحاض؟
فرماني بنظرات حادة وقال: ما هذه اللعبة؟ اصحبه يا رفش وانظر ماذا هناك.
حينما خلوت إلى نفسي في المرحاض أخذت أبكي وأبتهل إلى الله أن ينقذ ولدي. وبعد دقائق صاح رفش: يا الله اختمها..
خرجت إلى الفناء فوجدت الجندرمة واقفين في صف واحد. وبادرني المأمور قائلا: أخبرنا بمكان ابنك يا سيد عبد العباس.
فقلت : لست أعرفه يا مولاي.
فقال : للمرة الأخيرة آمرك بأن تدلنا على مكان ابنك وإلا ندمت.
فقلت: إني أجهل مكانه يا مولاي.
فغمز يعينه إلى أحد الجندرمة فرفع عصاه وانهال بها على ظهري.
وتلويت تحت ضربات العصا. وعلا نواح أم وحيد صارخة: حرام عليكم أيها الناس أن تضربوا شيخا كبيرا.. سيعاقبكم الله. سينتقم منكم جده رسول الله.
فصرخ بها المأمور: هس وإلا كسرنا عظامك أنت أيضا.
ثم التفت إليّ وقال: ألا زلت مصراً على عدم الاعتراف بمكان ابنك؟!
فقلت: لست أعرف مكانه يا مولاي.
فصاح بالجندرمة: اسحبوه معكم إلى مركز الشرطة فسنعلمه هناك كيف يصر على الإنكار.
وهجم علي الجندرمة ودفعوني أمامهم. فقلت للمأمور: أتسمح لي يا مولاي أن أرتدي عباءتي وحذائي؟
فالتفت إلى أم وحيد وقال لها: هاتي حذاءه وعباءته فسنأخذه رهينة عندنا حتى يسلم ابنه نفسه.
وفجأة انزاح غطاء البئر عن الفوهة ووثب وحيد إلى الأرض. فاندفع نحوه الجندرمة وقبضوا عليه. صاح وهو يحاول التملص من أيديهم: اتركوا أبي يا مجرمين.
فصفعه المأمور وصرخ: أخرس يا كلب.
وأحاط به الجندرمة وهم يدفعونه بعنف خارج الدار. وتابعته بنظراتي والدموع تنهل من عيني وتبلل لحيتي. واندفعت أمه وراءه وهي تولول:" دعوا لي ابني يحفظ الله لكم أبناءكم.. إنه ولدي الوحيد.. سأموت لو أصيب بمكروه.." 0 لكن الجندرمة دفعوها بعيدا فتدحرجت على الأرض0
بحق الحسين، لماذا فعلوا بنا ذلك؟ إن لنا ربّا في السماء وسينتقم لنا . فلا بد أن يلقى الظالمون جزاء ما صنعت أيديهم.

















#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السؤال؟!!
- الشيء مسرحية من ثلاث فصول
- تساؤلات وخواطر فلسفية
- حكايات من بلدتنا
- دكتور القرية
- بداية النهاية
- حياة قاسية
- صراع


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - عهد جديد....مجموعة قصصية