أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - سيرة و مكان















المزيد.....



سيرة و مكان


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 2493 - 2008 / 12 / 12 - 05:49
المحور: الادب والفن
    


جلولاء.. سيرة مكان..
(1 - 4)
[القسم الأول]

" مدينة عشت فيها أعواماً قليلة، وعاشت فيّ كلّ أعوامي، تاركة بصماتها على صيرورتي."
علاقتي بالأشياء، تبدأ بعد فقدانها، لأني خلال وجودي معها أو فيها، أكون مدفوعاً بقوة قدرية، مثل القانون الطبيعي للمادة، الذي يمثل انسجامُنا معه ضمانة لحفظ توازناتنا النفسية والوجودية. الحياة تقوم على (التلقائية) والانسجام، أما العلاقة فهي مسألة قصدية (ذهنية) قائمة على التفكير. والتفكير يعني تحويل (مقطع حيوي) إلى شيء، والشيء كائن يعيش في الذهن، مختزل في الواقع. كلما اكتشفت تعلّقي (بشيء)، وحاولت التفكير فيه شعرت بحزن مفاجئ، كآبة كونية تطغى على كل صور الحياة، وتخلق في داخلي ميلاً للانطواء والسكونية والعزلة. ذلك الحزن المقترن بالفقدان والخوف من الفقدان. منذ تلك السنوات المبكرة ارتبط التفكير (كعملية قصدية إرادية) بالشعور بالفقدان والحزن في علاقة جدلية ملغزة. كلما فكرت زدت كآبة وعزلة، في الوجود والمجتمع. كلما أقلعت أو تحررت من التفكير، وجدتني أكثر خفة واندغاماً في الوسط. وكانت أمي تردد كثيراً.. حشر مع الناس عيد.

*

بيت جدرانه سميكة..

في تلك المدينة رأيت العالم لأول مرة. أقول، العالم، لأن تلك الصورة الأولية التي تتفتح عليها مداركنا للمرة الأولى، هي الصورة التي تبقى ترافقنا كل العمر، مهما تغيرت الظروف والمقادير. الاكتشاف الأول، الحبّ الأول، الدفء، الخوف الأول. صورة البيت التي ترافقني اليوم، هي ذلك البيت الطفولي الأول، بحجرتيه المتعامدتين وشجرة الرمان اليتيمة وسط الحوش والممرّ الطويل الموصل للباب الخشبية الخارجية. الباب الحمراء الفاقعة، والتي قمنا، أخي الأكبر وأنا بشراء علبة صبغ أخضر دهني وأعدنا طلاءها. كان طول ذلك الممر خمسة أمتار، تنفتح على باحة واسعة مربعة الشكل، تتوسطها شجرة رمان ضعيفة، في نهاية الباحة قاطع المعيشة الذي يتكون من ثلاثة أقسام، حجرة جلوس مفتوحة على الحوش في الوسط، على يسارها حجرة المطبخ ، وعلى يمينها حجرة النوم. كانت كل واحدة من تلك الحجرات مربعة الشكل. وحجرة النوم أقدم أجزاء البيت، عميقة عن مستوى الحوش بحدود نصف المتر، باردة جداً في الصيف ، ومثلجة في الشتاء، معتمة ومخيفة لنا نحن الأبناء حتى في النهار، في نهاية الحجرة كانت خزانة خشبية صاج قديم تنتظم فوقها الأفرشة والأغطية. ماكنة خياطة يدوية وطاولة مهملة . تلتصق بالمطبخ حجرة ثانية بابها على الحوش من الجهة الأخرى، وهي أحدث أجزاء البيت، كانت تستخدم غرفة للضيوف. على الجهة المقابلة لها والقريبة من الحجرة العميقة كانت حجرة صغيرة للحمام وخلفها (بيت الأدب). من الملاحظات الرئيسية على هذا البيت عدم وجود سطح، أو بالأحرى عدم وجود سلم للصعود إلى السطح، لذلك كنا ننام في الحوش في ليالي الصيف. كانت الباحة (الحوش) مفتوحة نحو الأعلى على سماء زرقاء باهتة، يحيط بنا من الجانبين بيتان مبنيان بالطابوق الأصفر، بيت صالح قصاب على اليمين، وبيت محمد باييز على اليسار. ذات مرة كنا نلعب فوقعت حاجة على السطح، وأردنا إحضارها دون علم الأهل. كان للحجرة العميقة شباك خشبي بأسياخ حديدية متعامدة، صعد أحدنا على كتف الآخر، متشبثاً بأسياخ النافذة وارتقينا إلى السطح. لم أكن ضخم الجثة ولكنني انحنيت بلا وعي مني خشية أن يصطدم رأسي بالسماء، لا أدري.. بقيت منحنياً وأنا أتقدم لالتقاط الحاجة وإلقائها نحو الأسفل، وقلبي يكاد يقع.. قبل أن أفكر في النزول اعتراني الفضول للنظر خلف دارنا. نظرت نحو اليسار واليمين ثم ابتعدت بناظري واستقمت بقامتي.. رأيت عدداً لا نهائياً من بيوت متلاصقة مثل صناديق الشاي، بعضها مفتوح الفوهة ولبعضها سياج أو سطح .. خلف محلتنا يمتد (وادي العوسج) الواسع حتى الشارع الرئيس الذي تبدأ بعده محلات سكنية أخرى، ترتفع على سفوح التلول والجبال الشرقية الموغلة في الافق . تراءت لي مدينة جلولاء يومذاك، مثل نيويورك اليوم بازدحامها وناطحات سحابها. لم أكن قد رأيت من المدينة غير محلتنا، وطريق المدرسة القريبة من المعسكر، والسوق.

باب بيتنا الذي صبغناه بالأخضر الدهني، هي الباب الثالثة من جهة الشرق، الأولى باب بيت الحاج قادر، تليها بيت ولده صالح، بابنا، باب جارنا أبي خالد، باب بيت كبير هو أوسع بيوت المحلة قاطبة، بعده باب بيت صغير يتقدم عن مستوى صف بقية البيوت، ليعلن بدء الضلع المستعرض من جهة السوق، في الضلع المستعرض ثلاثة بيوت، لا أذكر أسماء أصحابها، كان الأول منها يعود لعائلة كردية، لوالدهم (موتورسيكل) عسكري قديم لونه أسود يستخدم لنقل الأشخاص إلى مدينة (كلار) الشمالية. يترك هذا البيت على يمينه ممراّ بعرض المتر (دربونه) لمرور المشاة إلى سوق المدينة. وفي هذه الدربونة الضيقة أبواب بيوت متلاصقة عديدة لا أذكر مرة أنني أحصيتها أو عرفت شيئاً عن ساكنيها. طول تلك الدربونه في حدود العشرة أمتار، تنفتح على فضاء، من الجانب الأيمن بيت موسر يحاذي البيت الكردي من الخلف، وتشتهر أمام هذا البيت بستان (بقجة) كبيرة عامرة بالفاكهة والأشجار المثمرة، وهي منخفضة عن مستوى الطريق بحدود المترين. وعلى الجانب الأيسر يستمر صف من البيوت حتى حافة (وادي العوسج) ثم يستدير الطريق ليبدأ صف من البيوت المرتفعة المطلة على فضاء (الوادي) عائدة نحو الشرق، وهي البيوت المحاذية لنا من الخلف. أما طريق السوق فيبقى ملاصقاً لسياج (البقجة) متجهاً نحو اليمين عبر قنطرة واهية على مجرى الوادي باتجاه بيوت عمال السكك وهضبة المحطة التي يليها (سوق جلولاء). كانت تلك القنطرة تهتز عند المرور عليها وكنت غالباً أعبرها عدواً من بداية السكة حتى (البقجة).

*

ساحة المحلة البيضوية..

وعودة إلى صف البيوت المستعرضة الثلاثة، لم يكن البيتان الثاني والثالث مشغولة على الدوام. بعد البيت الثالث تبان حافة الهضبة أو بداية انحدار الأرض نحو مجرى الوادي المحيط بمحلتنا من جميع الجهات. بعد مسافة واسعة نسبياً تكفي لمرور سيارتين كبيرتين، يبدأ صف من البيوت المقابلة لنا، وهي في حدود سبعة أو ثمانية بيوت، تخترقها بعد البيت الخامس (دربونه) ضيقة متعامدة مع خط المحلة باتجاه حافة الوادي من الجهة الأخرى والمؤدية عبر السكك الحديد باتجاه الحي العسكري ومدرسة جلولاء الأبتدائية الثانية.

بعد الممر الضيّق المقابل ثمة بيتان متجاوران هما آخر بيتين في الصف المقابل، تنتهي بعمود كهرباء ضغط عالي، البيت المستعرض من جهة الشرق واسع ومترف وكثير الحجرات، وهو بيت (ركن)، يستمر معه صف من البيوت نحو الوادي بانخفاض متدرج، بينما يستمر امتداد فضاء محلتنا بجواره لتليه ثلاثة أبواب، آخرها بيت جدي الكبير. يقابلها باب بيت صغير، كانت تسكنه عائلة (مايخان) ويجاوره من الجانب بيتان متجاوران بابهما في دربونه أخرى توازي الدربونة السابقة المتعامدة مع محلتنا وتستمر عبر بيوت السكك نحو طريق المدرسة. كان أحدهما يعمل في صنع الخبز، والثاني بيت أبو هاشم ولهم دكانة صغيرة لبيع السجائر والشوكولاته والمواد البسيطة. أما الصف المقابل لهذين البيتين فالأول وهو ملاصق للبيت الأخير المقابل لنا، لعائلة كردية، يستعرض المحلة أمام بيت جدي، ويجاوره بيت يعمل في صناعة الخبز أيضاً وصاحبه ابن عم البيت المقابل له (الخبازين).

هذه صورة محلتنا (الهضبة) التي كان يطلق عليها محلة (اللوكه) لقربها من (كراج) القاطرات حيث يتم غسلها وتشحيمها وصيانتها قبل عودتها للاستخدام والعمل. وقد استبدل الاسم إلى محلة الجماهير أو العروبة في سياق التعريب في السبعينيات، ولكننا كنا قد انتقلنا إلى مدينة أخرى . واقتصرت مراجعاتنا على مناسبات الأعياد والعطل المدرسية لزيارة بيت جدي.

*

جبال (زاكَروس) .. رهبة الصمت والأسرار

تحدّ المدينة من جهة الشرق سلاسل جبلية وعرة ومتداخلة تأخذ بالارتفاع كلما توغلت شرقاً، كما يتكشف ذلك من التدرج اللوني لقمم الجبال التي تستمرّ كذلك نحو الشمال بينما تبتعد مع الاتجاه نحو الجنوب حيث مدينة خانقين الأكثر توغلاً في الحدود. يفصل المدينة عن سلسلة الجبال الداكنة جادة إسفلتية هي امتداد طريق السيارات الرئيسي من مفرق السعدية – خانقين جهة الجنوب صعوداً إلى مفرق كفري – كلار شمالاً عبر جسر عسكري. غرب الجادة الرئيسية تقع المدينة بين سلسلة الجبال السامقة ومجرى نهر ديالى المنحدر جنوباً. حتى بداية السبعينات كان الجانب الآخر من الجادة أرضاً بكراً غير مستوطنة، ما خلا مفرق بداية المدينة حيث مركز الشرطة العتيد ومديرية الناحية ودائرة النفوس (التسجيل المدني) وإلى الخلف منها بناية معلقة على ربوة هي (دائرة تجنيد جلولاء) تفصلها عن مستوى الشارع ثمانية وعشرين درجة فتبدو للرائي من بعد مثل زقورة سومرية مطلة على جناح المدينة النائمة. جدير بالذكر هنا أن المقبرة كانت علامة بداية المدينة. مقبرة كائنة على هضبة متصاعدة بكبرياء جلي وهي تلقي بنظراتها على تهدجات مياه نهر ديالى الذي يأخذ في الاتساع في نقطة مقابلة حتى يمتدّ للأفق ويبدو كأنه بلا حدود.

في بداية المدينة – قبل تقاطع الكراج والناحية- ينبسط سطح الأرض على جانبي الجادة شرقاً وغرباً، ومع تدرجها في الارتفاع نحو الشرق، تتدرج في الانخفاض نحو الغرب حيث مجري النهر والسهل الرسوبي وهو من أخصب الأراضي الزراعية في المنطقة. ومن الأحداث الرئيسة في تاريخ المدينة هو رفع المقبرة، وحركة الاحتجاجات المتواصلة لأهالي المدينة ومراجعاتهم الجريئة للمراجع العليا، وتغريرها بالمواطنين، حيث تم رفعها بعد تأخير مدة تزيد على سبعة أشهر.

*

جلولاء.. سيرة مكان..
[القسم الثاني]

"اللحود تبتسم بشهية في مدفن جلولاء الحديث" (الشاعر حسن النصار)

كنت يومها طفلاً صغيراً، وبالكاد تتسع مداركي لألاعيب السياسة ومعاني الموت والتقاليد الخاصة، ولكنني كنت أشعر بنفسي، رغم عدم دخولي تلك المقبرة وخوفي (الباطني) من الاقتراب منها، أنني ضد رفع المقبرة. رأيت والدي منهمكاً ومغتماً بشكل غير اعتيادي. ولكنه كان قليل الكلام في أموره ومشاغله. ورغم أسئلتي وفضولي المبكر وزعلي فقد كان قادراً على التملص والتظاهر باللامبالاة، وحتى الترنم بآهات (تركمانية) أمامي ليقنعني بعدم وجود شيء. لكنني كنت أرافقه كثيراً، وكان يحب أن يصطحبني في مشاويره وزياراته وهو ما فتح ذهني على كثير من أمور دنيا ، بدت لمن لا يدقق في ملامحها، على ما يرام وربما جميلة أيضاً لبعض البعض. كنت أرهف سمعي عندما يلتقي أشخاصاً آخرين، وألتقط كلاماً وكلمات تعلمت معانيها ودلالاتها بالتكرار. في تلك الأيام، قام والدي بزيارات متتالية لعدد من الأقارب والمعارف، وكان موضوع الحديث، المقبرة. كان لنا أقارب تحت أرض هذه المدينة، لم يحدثني أحد عنهم. ولم نذهب يوماً في زيارة إليهم. لأن أهلينا لم يكونوا يصطحبوننا إلى القبور. ولم نسمع منهم أشياء مؤلمة حدثت قبل أن نولد. كان عدد موتانا كبيراً، وكان موضوع النقل يدخل في متاهات اجتماعية وفقهية وإنسانية. ولم يُبدِ أي من الأقارب يومها حماساً للمساعدة. فجر ذات يوم وضع والدي (غترة) بيضاء على رأسه وحمل كيساً فيه مواد، وجدتني أنظر إليه، وبدون أن أسأله قلت له بصوت متوسل: أجيء معك!. لم يقل شيئاً، ارتحت نفسياً، بعد قليل قال لي.. هيئ نفسك!. انطلقنا منذ الفجر. لم أسأله عن الوجهة. كنت أتعلق كالعادة بإصبع يده الأصغر، وهو مندفع في مجاهيل صمته. صعدنا القطار.. في منطقة قاحلة نائية توقف القطار فترجلنا. وعدنا نغذ السير ثانية.. الشمس آخذة بالارتفاع، والحرارة من هنا وسرعتنا التي تجعل سيول العرق تنزّ فوق ملابسنا.. كان طريقاً ترابياً.. من الخلف تقدم صوت (موتور سيكل) فوقفنا على جانب الطريق.. كنت أعتقد أن غاية والدي تجنب (العجاجة). أبطأ سائق الدراجة من سرعته وعندما وصل إلينا وضع قدميه على الأرض.. تحدث مع والدي، كان هذا معلماً في تلك القرية، صعدنا خلف المعلم وانطلق كالسهم. بدأت نسمات رياح باردة تلسع أجسادنا المعروقة فتسري البرودة في أعماقنا وأشعر بالانتعاش. ربما كانت تلك المرة الأولى التي أركب دراجة بخارية. صرنا نرى مجرى نهر ديالى الواسع أمامنا ثانية. بيوت طينية واسعة. توقفت الدراجة. ترجلنا . عدنا لمواصلة المسير. نهر ديالى يبتعد نحو الغرب.. ونحن نشق نحو الشرق.. هناك تجلت آثار مقبرة.. في بداية المقبرة بئر ماء مزودة بدولاب ودلو جلد لسحب الماء. ملأ والدي الدلو بالماء ودعاني للاغتسال.. واغتسل هو .. ثم روينا عطشنا من الماء. تقدم والدي من ضريح (امام اسماعيل) المدفون داخل كهف تحت مستوى الأرض، لأداء الزيارة. ثم تجول في أنحاء المقبرة لوهلة، وهو ينقل بصره. في مكان ما، أفرغ محتويات الكيس، أحضر معولاً من مكان قرب الضريح، وراح يحفر في الأرض. أجول بناظري فوق شواهد القبور. والدي يعمل بصمته المعهود. قطرات عرق كبيرة تنزّ من جبينه يمسحها بطرف (غترته) البيضاء. في تلك الساعات المرهقة. كنت أشفق من الكلام . ولا أعرف ماذا أفعل . عندها فقط . نظر إليّ. قال بهدوء. هذا قبر جدك. أبي. سوف تقوم الحكومة بالغاء مقبرة جلولاء، ولا يجوز ترك موتانا تحت رحمة الجرافات والأبنية الجديدة التي ستقام عليها. هذه مقبرة عشيرتنا. كل أجدادنا مدفونون هنا. شعرت بامتنان لهذا التوضيح. أحسست أنه أزاح عن كاهله سراً. قبيل أن تتعامد أشعة الشمس.. جمع والدي (العدّة) ثانية، وضعها في كيس، وتركها جميعاً في سقيفة قرب الامام. عدنا للمسير عائدين تجاه القرية. مرّ على بعض الدور. تناولنا غداءنا لدى أحدهم. ثم اعتذر والدي لانشغاله. في اليوم الثاني اصطحب والدي أحد أصدقائه معه ، أخرجا جدث والده ومضيا به إلى القبر الجديد. بعد إسبوع اصطحبني معه ثانية وعمل على بناء القبر وخطّ شاهدته. تكرر ذهابنا لتلك المقبرة بعدها، تعلمت منه قراءة سورة الفاتحة، والسلام على الموتى. كان قبران متقاربان على كل منهما شاهدة خضراء كتب عليها والدي بخط قيري واضح، إسمي والده (سمين ابراهيم سليمان) ووالدته (أرزي). يجلس أمامهما ويقرأ سورة يس، ثم يقفل راجعاً. ان سوق جلولاء الحديث وكراج جلولاء الحديث ومستشفى المدينة والبيوت الحكومية للموظفين، اليوم، قائمة في مكان المقبرة القديمة، التي فقدت المدينة الكثير من نكهتها وانسجامها بعد رفعها، فقد كانت أرواح الموتى تبعث الأمان والسلام في عروق تلك المدينة، قبل أن تأكلها الجرافات.

*

النهر.. عواء عميق وبعيد..

في نقطة معينة، يقرر كل من الجبل والنهر الافتراق، بعد مسيرة طويلة نسبياً في الجبال المقابلة لسهل شهرزور عبر الحدود إلى دربند خان، نزولاً حتى [قره خان]. تستمرّ السلسلة الجبلية في امتدادها مسافة قليلة قبل أن تنحرف نحو الشرق مبتعدة تاركة هضبة (دشت) واسعة نحو الغرب. بينما ينحرف مجرى النهر مباشرة نحو الغرب ثم ينعقف نحو الجنوب وبعد انحرف بسيط نحو الشرق يعود بقوة نحو الغرب والجنوب تاركاً المدينة وراءه. بينما تستمر الهضبة في انخفاضها المتدرج نحو الغرب ملتحقة بضفة النهر التي تنفتح من الجهة الأخرى في صورة سهول خصبة فسيحة.

يخترق مجرى نهر ديالى سلسلة الجبال في نقطة شمال شرق المدينة، بضفافه الصخرية الناتئة القريبة من بعضها والمنحدرة بعنف صائت لتبتعد ضفتاه بالتدريج ويخفت خريره وتتهادى أنفاسه وأمواجه، مثل وليد يخرج من عنق الرحم إلى فضاء، تتهادى أمواج مياه ديالى بحشرجة مسموعة وقسمات مرئية مثل كائن خرافي بأرداف هائلة، يذكر بوصف امرئ القيس لليل، [فقلت له لما تمادى بصلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكل]. لكن النهر بسيوله الوفيرة لا يتحرر من عقدة ضيق المجرى إلا عندما ينأى بضعة كيلومترات مغادراً الأرض الصخرية البازلتية لتستقبله سهول رسوبية فسيحة فتتخلص ضفتاه من النتوءات والحافات الحادة متعاقبة على الجانبين في لعبة المدّ والجزر اليومية. وتنتشر على الضفة البعيدة من النهر مزارع موسمية خصبة مقابل المستوطنات البشرية، تستمرّ كتقليد ثابت مع انسيابه عبر المدن التالية.

عندما احتل الانجليز العراق اختاروا نقطة افتراق الجبل السامق والنهر العميق موضعاً لبناء حامية (معسكر) في المنطقة لأهميتها الستراتيجية المسيطرة على منافذ الشمال والجنوب. كانت الضفة الشمالية لمجرى النهر مقراً لمنشآت الحامية في شريط منحصر بين سلسلة الجبال من الخلف، ومجرى النهر من الأمام. وفي نقطة على حافة السلسلة نحو الغرب تمّ شق جادة لمرور السابلة العسكرية والمدنية نحو الشمال، يمتدّ هذا الطريق محاطاً بالجبال من جانبيه مسافة قبل أن ينفرج قليلاً، قرب مفرق [كلار- كفري] ثم تعود الجبال من الجانبين مع صعوده إلى مدينة (كلار)، التالية لمدينة جلولاء من الشمال.

ويتبع الحامية النادي العسكري المشهور والملاعب الرياضية وأحياء الدور السكنية لمنتسبي الحامية من ضباط الصف والضباط. وأحد هذه الأحياء في الضفة الشمالية من النهر نحو الشرق بينما الآخر في الجهة الجنوبية منه وإلى الغرب من (جادة) السيارات حيث مدرسة جلولاء الابتدائية الثانية.

لمجرى النهر جمالية ساحرة وهو يمتدّ بين سلاسل الجبال قبل بداية المدينة، وتترقرق مياهه في مناطق معينة حيث يبان الحصى اللماع خلل شفافية الماء. ولجريانه خرير موسيقي لا ينقطع ليل نهار، كأنه أصوات نداءات محملة من عصور أو بلاد بعيدة. حين يرفع المرء حافة بنطاله ويخوض في تلك الشواطئ الضحلة الباردة لا يتبادر للذهن أن هذه المياه، رغم جريانها السريع، سوف تمضي بعد قليل لتشكل مجرى عميقاً، لا يستطيع غير سباحين أقوياء معاركة أمواجه الهادرة. لا توجد صورة جوية للمدينة، لتجسيد التفاف مجرى ديالى الحميم على هذه المدينة الصغيرة. فإذا صوّر لنا الخيال سلسلة الجبال في هيئة (خاصرة) كائن بشري، يشكل نهر ديالى ذراعاً عالية تنكسر في نقطة المرفق نحو الأسفل بموازاة الجسد (سلسلة الجبال). والمنطقة المحصورة بين عقفة الذراع والخاصرة هي مستوطنة مدينة جلولاء.

*














جلولاء.. سيرة مكان..
[القسم الثالث]

هالة كبيرة لمدينة صغيرة..

تتشكل المدينة من ثلاث هضبات تفصل بينها وديان متفاوتة العمق والسعة ، تتجمع فيها مياه الأمطار وتلتحق بمجرى النهر أوقات الفيضان، أكبر تلك الوديان سعة وحجماً وامتداداً هو ما يطلق عليه بوادي (العوسج). يبدأ هذا الوادي من بطن السلسلة الجبلية نحو الغرب وتشكل (جادة) السابلة العالية حافته الشرقية الفاصلة بين بداياته وامتداداته، حيث تتخلل الجادة عدة منافذ وأنابيب لتسريب المياه المنسابة من الجبال إلى الوادي. وله عدة تفرعات داخل المدينة. يستمر امتداده الرئيسي تحت جسر السكك الحديد مخترقاً جانب السوق والشارع الرئيسي للمدينة في جدول يصبّ في النهر جنوب المدينة. بينما يلتف فرع له قبل خط السكك الحديد عائداً نحو الشمال والشرق تاركاً في وسطه هضبة متوسطة الارتفاع، وهنا يلتقي بأحد فروعه العميقة التي اتخذتها منشآت السكك الحديد لالقاء زيوت التشحيم الفاسدة وفيها مياه راكدة طوال العام. في شرق الوادي والهضبة كذلك نهاية خط السكك الحديد (الصيانة والكراج) والممتد عبر الوادي إلى الهضبة الوسطية الأكثر ارتفاعاً من هضبة (اللوكه). أما من الجهة الجنوبية على امتداد (الجادة) الرئيسية فتترامى أبعاد الوادي الرملية الناعمة حيث بقايا خان كبير قضت السكك الحديد من الغرب والجادة من الشرق على جوانب منه وبقيت منه آثار حجرات كانت مركزاً للسوق الشعبي يتم فيه البيع والشراء وتبادل الحاجات والاحتياجات بطريق المقايضة أو التبادل النقدي، حيث يلتقي الفلاحون والتجار وباعة الماشية والحيوانات من الأطراف مع أهالي المدينة أيام الاسبوع وخاصة يوم الجمعة. كما كانت تقام في مكان الخان طقوس الأعياد وألعاب الأطفال واجتماع الناس والعوائل. وقد تم تسوية بقايا الخان وامّحت من الوجود. في نهاية الوادي مبنى مدرسة الشروق أو التطبيقات الابتدائية المقابلة لمبنى دائرة الشرطة والنفوس القديمة.

وينطلق من نقطة المثلث الموصوفة بسوق وكراج جلولاء الحديث شارع يخترق الجادة الرئيسية والسكك الحديدية ممتداً في المنطقة الوسطية بين مجرى ديالى من الغرب ومنشآت محطة القطار من الشرق، مشكلاً سوق جلولاء الرئيسي الذي يستمرّ حتى نهاية المدينة حيث أحياء موظفي السكك وبداية المنشآت العسكرية.

*

أعلى من قرية وأدنى من مدينة..

باستثناء الأحياء الحكومية، التابعة للسكك والحامية وبيوت الادارة المحلية في بداية المدينة، فلا يوجد تنظيم عمراني أو توزيع فني للأحياء والمحلات. وباستثناء البيوت القريبة من السوق فأن الطين (اللبن) هو المادة الرئيسية المبتناة به بيوت الأهلين.

تبدأ عقدة الدور السكنية من المنطقة المحيطة بمدرسة جلولاء الابتدائية المناظرة للحامية تجاه الجنوب والغرب. خلف المدرسة أحياء طينية بسيطة تنتهي في حدود منشآت محطة السكك الحديد. نحو الجنوب صفان من البيوت، تنتهي بصف مستعرض يطل على الوادي في بدايته القريبة من الجادة الرئيسية (قرية جارالله). بالقرب منها دعامة نهاية السكك الحديد و(جمالون) صيانة القطارات، وإلى الجنوب منه امتدادات من دور سكنية تتقدمها صفان من بيوت عمال السكك الصفراء اللون، وصولاً إلى محلة (اللوكه) التي كان سكننا فيها يومئذ. يفصل مجرى وادي (العوسج) محلتنا من الأمام عن محطة مفرق السكك الحديدية القائمة على هضبة مرتفعة عن سواها ومستقلة تقريباً. في وسط المحطة باتجاه الحامية خزان مياه الإسالة، وإلى الخلف منها تبدأ صفوف أحياء موظفي السكك، والمختلفة عن بيوت (عمال) السكك، في الطراز والمساحة والموقع. حي موظفي السكك يشكل من الجهة الغربية بداية شارع السوق الذي تتوزع على جانبيه الأسواق والمحال التجارية ومن خلفها الأحياء السكنية. ولا غرو، أن تشكل بيوت أحياء السكك، النسبة الأعظم، بجانب الأحياء العسكرية من نسبة بيوت الأهلين حتى بداية السبعينات.

*

تنضم مدينة جلولاء لمجموعة المدن التي ظهرت في العراق بين الحربين عقب تأسيس الحامية ومحطة السكك الحديدية التي تربطها بأنحاء البلاد. وكان إسمها (قره خان) أي الخان الأسود نسبة للخان الذي كان في بداية المدينة على حافة (وادي العوسج)، ويلفظها الناس (قره غان) بإبدال الخاء والغين وأحيانا القاف بالكاف فتكون (كره غان). وتسمية جلولاء جاءت ضمن حملة التعريب والتنظيم العمراني عقب الجمهورية، الذي جعل منها مركز (مديرية) ناحية جلولاء.

ورغم وقوعها على نهر ديالى وتوفرها على أراض زراعية خصبة ومياه وفيرة على مدار العام، فهي لا تدخل في عداد المدن (الزراعية). فقد كان سكان القرى القريبة يتولون زراعتها واستثمارها، قبل أن تظهر للوجود كمدينة. ارتبطت نشأتها مع مدّ خطوط السكك الحديدية فيها وإنشاء محطة (مفرق) السكك الحديدية والحامية العسكرية ومرافقها ومنشآتها ، مثل مدينة ألعاب (السكك) والنادي العسكري ونادي موظفي (منتسبي) السكك. وقد تحول كثير من منتسبي هذين القطاعين بعد تقاعدهم للعمل في القطاع التجاري الخاص ، بينما تفرعت عوائلهم وشكل أبناؤهم طبقة جديدة من المتعلمين والكوادر الإدارية والتعليمية في المجتمع. في البدء كان على المتقاعد من الخدمة أو المفصول منها تسليم دار السكك المقيم فيها. وقد ترتب جراء ذلك جملة مشاكل ومعاناة، لأن الراتب المتدني و (إكرامية) التقاعد ما كانت لتكفي تأمين بيت للسكنى أو تحمل نفقات الايجار والمعيشة. ومن بين الحوادث معاناة عائلة فقيرة مات عائلها العامل في السكك، وليس له من الخدمة ما يؤهله للتقاعد، ولم يحتسب موته جراء الخدمة فلم يحصل على تعويض أو تقاعد، وبالمقابل أجبرت عائلته على ترك (البيت الأصفر). في مرحلة تالية سمح للمقيمين في دور السكك من العاملين فيها التقدم بطلب تمليك الدور لهم مقابل مبالغ تستقطع من رواتبهم الشهرية، وكان في ذلك حل لمشكلة عويصة، وقد ألغيت مميزات (السكن الوظيفي) بعد عرض منشآت الدولة للبيع [الخصخصة]، وفقدت تلك الأحياء بهاءها وتمايزها كما فقدت المدينة نكهتها (التنظيمية) والادارية التي ميزتها عن مدن أخرى.

وإزاء النمو السكاني لما بعد السبعينيات وارتفاع معدل زحف الأطراف على المركز، وتملكهم بيوت المدينة، انتقل غير قليل من السكان القدماء إلى مدن أخرى في مقدمتها العاصمة بغداد. وفي مقدمة أولئك منتسبو مصلحة السكك الحديدية الذي حصلوا على دور سكنية أو قطع أراض سكنية مدعومة في العاصمة. وبذلك تغيرت الملامح السكانية لمدينة جلولاء عقب السبعينيات إسوة بالملامح السياسية والاقتصادية. وكانت شرارة التغيير تلك، حادث نقل المقبرة، ففقد البعض تلك الصلة الروحية أو النفسية بالمكان.

*


جلولاء.. سيرة مكان..
[القسم الرابع والأخير]
من ثقوب الذاكرة..

[الفيضان]

امتياز السكن قريباً من مصادر المياه يرافقه ضريبة تحمل (ثورة) النهر في مواسم الفيضان التي كانت تتكرر قبل إنشاء السدود ومنظمات الريّ. ومن أشهر الفيضانات التي عاشتها المدينة هي فيضان [1954 - 1957] التي غمرت المدينة بكاملها وتسببت في خسائر فادحة للأهلين. ويحكى أن (الملك) زار المنطقة في أعقاب ذلك، وأوعز بتعويض السكان وإنشاء قطاعات دور سكنية حكومية من الطابوق وزعت على العوائل التي فقدت منازلها، ومعظمها في جانب السوق . تكرر الفيضان في بداية السبعينيات وامتلأت الوديان بمياه السيول وما تكرفه في طريقها من أشجار الغابات والعوسج والحشائش وقطع الألبسة والأدوات المنزلية للبيوت المنخفضة في حافة الوادي. كانت صورة الفيضان تتكرر كلما زاد معدل هطول الأمطار أو ازداد معدل ذوبان الثلوج في نيسان، فتبدو المدينة مثل بحر جرار تطفو في وسطه بيوت بسيطة يداوم أهلها على المبيت على السطوح خشية صعود مناسيب المياه خلال الليل بفعل المدّ. وكانت الحجرة العميقة في منزلنا جهاز انذار مبكر حيث تنز تربتها بالمياه فنضطر إلى (كرفها) بالأواني والسطول باستمرار خشية امتلاء الحجرة وطوفانها ما يهدد بانهيار البيت أو غرقه. وقد بيع ذلك المنزل أواخر الستينيات لعائلة من نفس المحلة في الصف المقابل، بثمن بخس (مائتان وسبعون ديناراً).

[أعياد نوروز]

من المناسبات الاجتماعية والطقوس الجميلة في حياة المدينة أعياد الربيع. وهو عيد رأس السنة الفارسية الذي يجري الاحتفال به مع مقدم الربيع (21 مارس) تحت مسميات مختلفة. وكلمة [نو- روز] تتكون من مفردتين ومقطعين، (نو) جديد، و(روز) يوم/ فيكون معناها اليوم الجديد أو بداية العام الجديد مصطلحا. منذ الصباح تحرق (إطارات) السيارات المطاطية على سفوح الجبال وتنطلق العوائل بملابسهم المزركشة الجديدة والجميلة وحليهم وأطفالهم وأطعمتهم إلى السفوح الجبلية المعشوشبة، فتحدث اللقاءات وتنعقد الرقصات وتقام الألعاب ووسائل التسلية وتحضر فرق غنائية وموسيقية، وذات عام أقيم مسرح على جانب وادي العوسج الملاصق للبيوت وعرضت مسرحية (كاوه الحداد) ومسرحيات أخرى قصيرة (سكتشات) باللغة الكردية. ويمثل احتفال عيد نوروز أحد الطقوس المميزة في المدينة وتترك على السكان أثراً طيباً وذكريات حميمة.

[المظاهر المسلّحة]

كانت المظاهر المسلّحة جزء من المشهد اليومي لسوق المدينة، حيث يتجول المقاتلون الكرد (بيش مركَه) بكامل أسلحتهم ورشاشاتهم أو بنادقهم (الايرانية). ولم تكن تحدث مشاكل إلا نادراً. بينما أفراد من شرطة الناحية بملابسهم العسكرية أو عنصر من جماعة الأمن المدني المعروفين بعلاقاتهم مع بعض أصحاب المتاجر أو التجهيزات الكهربائية، يجلسون عندهم وبين وقت وآخر يقومون بجولة تفقدية راجلة عائدين لأماكنهم. كان الأمن سائداً ولكن الجوّ الأمني كان على درجة من التوتر تقتضي الحيطة والابتعاد حيث يوجد الآخرون. كانت المشكلة الرئيسة بين المقاتلين الكرد أنفسهم، حيث ينقسم أولئك إلى فصيلين مختلفين، يمكن تمييزهم من مظاهرهم الخارجية، عبر عدة نقاط. طريقة شدّة الرأس (الجراويه) وربما لون اليشماغ (أحمر - أسود). شكل الشنب (الشوارب) وطولها وعقفة النهاية. نمط السروال (الشروال) العريض جدا في الوسط ووجود جيوب خارجية في القميص أو عدم وجودها. كان أحد الفصيلين يرتدي جاكته جلد قصيرة وبدون ردن، تتميز (بكتافية) معلقة من الجانبين. وبعد حصول استفزازات مصحوبة بطلق نار، انقطع نزول الطرفين للمدينة، ثم عادوا النزول ولكن اليوم الذي يظهر فيه أتباع هذا الفصيل لا يظهر أتباع الفصيل الآخر. ولم تتكرر أية أحداث لاحقة حتى ظهور قرار الحكم الذاتي، ومن بعدها اتفاقية الجزائر وسيطرت الحكومة بشكل كامل على المدينة.

[الدراويش]

كان الدراويش أحد الظواهر المميزة في حياة المدينة، بظهور بعض (الدراويش) في السوق بشعورهم الطويلة المجدولة ويحملون في بعض الأحيان معهم السيوف أو النبال أو الرماح. ولم يكن لهم شأن بالمارة رغم أن منظرهم يبعث على الخوف أو المظاهر غير المستساغة بأسلحتهم، سيما لدى الأطفال والنساء وغير المسلمين. ولم يكن يمرّ شهر دون احتفال ديني [يطلق عليه تسمية (مولود) بين الناس، من (عيد المولد النبوي)] إضافة للمناسبات الدينية. وكانت هناك ثلاثة أمكنة تتردد فيها هذه (الطقوس)، منطقة السوق، منطقة (الناحية) في بداية المدينة، منطقة اللوكه. وفي هذه الأخيرة كانت الساحة المقابلة لبيت جدي هي المكان المألوف. يجلس الناس على الأرض في حلقات يتقدمهم صف من الدراويش (المتصوفة) مع شيخهم وضاربي الدفوف والمنشدين. ترتل خلالها الأناشيد والتراتيل الدينية، وتستخدم الأضوية والأنوار والمايكروفونات فتصل أصداؤها نهايات المدينة. بينما يتجمع الرجال والشباب حولهم والنساء والأطفال على سطوح المنازل المجاورة حتى ساعات متأخرة من الليل.

[خلف]

يقال أن إسمه (خلف). رجل في الثلاثين أو الأربعين من عمره. يذرع شارع السوق الوحيد من أوله إلى آخره ثم يعود إدراجه، من الصباح الباكر حتى المساء. لا يعرف عنه شيء، ولا يقول أحد عنه أي شيء. يرتدي دشداشة بيضاء ويشدّ خصره بنطاق، وعلى رأسه يشماغ عربي. الاعتقاد الساري لدى الأهلين أنه من المتصوفة الزهاد، المنقطعين عن الدنيا. لا يكلم أحداً ولا يولي اهتماماً لأحد. أحياناً يتوقف وشفتاه تتمتمان أو تدمدمان بدون صوت، ينظر إليك بعينين صفراوين ولكنه لا يراك، ولا يقصدك، كنت أجلس في دكانة جدي وأراقب حركة المارة، وتعلمت أن لا أنظر لأحد في عينيه، سيما عندما يتوقف نظره قربي كي لا يشعر بالاستفزاز. كانت له مكانات أو مسافات محددة يكرر الوقوف فيها، تشعر أنه يتكلم. أحياناً يسأله بعض كبار السنّ من أهل المتاجر، إذا كان يلزمه شيء، ينظر نحو السماء أو يرفع كفيه نحوها، مرات رأيته يبتسم، علامة الامتنان.

[عدنان القيسي]

من الأحداث الملغزة التي شهدها التلفزيون العراقي غب الحكم (البعثي) في أواخر الستينيات، بطولة العالم بالمصارعة الحرة المقيدة. تابع الجمهور العراقي وقائع البطولة عبر شاشة التلفزيون، ولم يكن التلفزيون يومها كثير الانتشار في البيوت، فكانت المقاهي تغصّ بالمشاهدين وتنقطع الأنفاس والناس يفترشون أرضية المقهى يتحمسون لبطولات (عدنان القيسي) المشهور بـ(العكسية). شارك في تلك البطولة عدد من المصارعين الأجانب وكل منهم من بلد، أمثال (جو فريري) الطويل (داني لانج) ذو اللحية القصيرة والشنب، وآخرين، من بينهم المصارع العراقي المقيم في أمريكا (عدنان القيسي). كنا نحن الأطفال نشتري صور المصارعين أولئك مع مشاهد المصارعة ضمن كارتات الصور الأخرى المتداولة يومذاك لأبطال كرة القديم أمثال عمو بابا وجمولي أو الممثلين والمطربين العرب والأجانب. أما أخبار تلك البطولة وتكرارها فقد انقطع من الذكر كأن لم يكن. ولا أدري لماذا لم يكشف أحد المعنيين بالصحافة الرياضية حقيقة أو (لغز) تلك البطولة العالمية التي كانت أول مناسبة استأثرت بحماس واهتمام الناس قبل ان تتحول البطولات والمهرجانات إلى الثقافة والمربد والغناء.

كانت قرية (الكروية) إلى الشمال من مدينة جلولاء، والتي منها عشيرة (القيسية). وقد أشيع أن (عدنان القيسي) بعد انتهاء البطولة قام بزيارة (عشيرته) ومرّ بالسيارة على الجادة الرئيسية شرق المدينة، وقد اصطف أهل المدينة في صف الجادة لرؤيته. هذه (الحادثة) تحولت في الذاكرة الشعبية إلى شيء من (الأسطورة) مختلطة بخيوط الميثولوجيا التي صورت ضخامة هيئة المصارع بشكل خارق، وأنه لذلك كان يجلس (فوق) السيارة ويلوح للجمهور. ولكن تلك الذكرى ما فتئت انسحقت تحت ركام الأحداث والتغيرات السريعة المتعاقبة بعدئذ.

[الفدائي البطل]..

وفي يوم.. رأيت أهل المدينة يتراكضون من كل صوب، باتجاه المحطة، وبشكل جعل الدنيا تبدو كأنها في يوم القيامة. كنت ماضياً إلى دكانة جدي في السوق وأنا أرى الجميع يتجهون إلى مكان واحد، وبعضهم يقفل متجره، فأعتقدت أن جدي أقفل متجره هو الآخر، وربما هو في الطريق فماذا أفعل والدكانة مغلقة. تذكرت مقولة أمي المأثورة [حشر مع الناس عيد]، وهكذا تبعت فلول الناس بخطى مترددة حتى وجدتني بينهم. على جسر السكك الحديد المعلق فوق (وادي العوسج) كان شاب وسيم في العشرين من عمره يرتدي الزي العسكري المرقط (القوات الخاصة)[ لم نكن رأينا هذه الملابس بعد]، مع كامل عدته العسكرية وصفوف الرصاص والرمانات على خاصرته، ويتقدم على جسر السكك (مثل رامبو الأمريكي). أحاط به الناس ورافقوه مثل (ملاك) مسلح نازل من السماء. كان شكله يستثير اللب والاعجاب، وكنت أحدق إليه وأحدق لأحفظه جيداً أو أشبع منه قبل أن يختفي. لم أكن أعرف الشخص، لكن الناس كانوا يعرفونه ويسلّمون عليه. مشيت في صفوف الناس الذين نزلوا من جانب السكك متجهين نحو محلة اللوكه. كنت أعتقد أن الحشد سيمر عبر محلتنا إلى المحلات الأخرى التي بعدنا. لكن الحشد بدأ يتركز متوقفا عن التقدم، بينما استمرت أواخره في الالتحاق. توقف الجميع في بداية المحلة، ثم دخل (الفدائي) إلى البيت الأول لصاحب الموتور سيكل الأسود في بداية محلتنا، في الأيام التالية رأيته بملابسه العادية. كان شاباً في بداية شبابه، ولكنه بعد أيام عاد واختفى. كان ذلك الشاب هو أول (فدائي) تقع عليه عيني لتكبر صورة (البطل) في مخيلتي التي ستتغذى فيما بعد عبر الأناشيد وشعر محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وعبد الرحيم محمود [سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى- فإما حياة نسرّ الصديق وإما مماة يغيض العدا].

[تسمية جلولاء]

كانت التسمية الشائعة لهذه المدينة كما سبق القول هي (قره خان) أو (قره غان). وفي الكراج حيث تنتظر سيارات الأجرة يتردد النداء (قره خان). وعندما يسألني أحدهم من أين أنت، أو أين تمضي، فالجواب (قره غان). ولم تعرف التسمية الجديدة إلا في الكتب وبعد انتقالنا إلى مدن أخرى. وفي كتاب التاريخ الاسلامي أو العربي يرد ذكر معركة [جلولاء] بقيادة خالد ابن الوليد ضد الفرس. ويوحي ذلك لمن لا يعرف المدينة أنها قديمة قدم التاريخ حتى اكتسبت معركة خالد ابن الوليد أسمها منها. وهو أمر لا جذور له في الواقع. فمعارك [ذيقار - القادسية] جرتا على ضفاف الفرات الجنوبية، وموضع [جلولاء] عبر نهر دجلة على مجرى نهر ديالى، وهي منطقة تضاريسية مغلقة تختلف عن جنوب الفرات الصحراوية المنبسطة. وعلى افتراض وجود رغبة التوغل إلى ايران لملاحقة الفرس، فأن المنطقة الأكثر انسجاماً هي (خانقين) حيث المعبر الدولي الاستراتيجي عبر قصر شيرين. كما أن الحفريات والاستكشافات الأثرية كان لها أن تقدم ما يدعم (نظرية) التسمية. ان كلمة (جلولاء) تتشكل من مقطعين حسب رواية جدّي [جلو - لا] . بمثابة سؤال : هل جلوا؟.. أي تركوا الأرض. والجواب : لا. وبالتالي فالتسمية إسقاط غير مدعوم (لعسكرة) واقع المجتمع العراقي. لقد بعثت تلك التسمية في داخلي أنني ولدت في (خضم) معركة، وأن قدمي أينما تنقلت في تلك المدينة كأنني أتنقل في (أجواء) معارك ومشاهد حرب. تلك الحرب التي ارتهن بها مصيرنا وعمرنا بعد سنوات لتصبح سمة طاغية علينا وعلى ضياع نكهة الحياة (العادية) من أعمارنا بين التشرد والغربة. وفي كل الافتراضات، ما كان لهذه المدينة أن تنوجد كما هي معروفة اليوم، لولا محطة (مفرق) السكك الحديدية الشمالية، وموقع الحامية العسكرية، التي كان اللواء التاسع عشر بقيادة العقيد عبد الكريم قاسم معسكراً فيها يوم تقدم على العاصمة بغداد ملتحقا بلواء العقيد عبد السلام عارف في معسكر سعد في بعقوبة لانهاء الملكية واعلان الجمهورية في العراق.


*

بعقوبا .. سيرة مكان
(1-7)

" مدينة عشت فيها أعواماً قليلة، وعاشت فيّ كلّ أعوامي، تاركة بصماتها على صيرورتي."

باع أهلي البيت في (محلة اللوكه) قره غان (جلولاء) بمائتين وسبعين ديناراً لعائلة من نفس المحلة [أرملة جسّو(جاسم)] في الصف المقابل وانتقلنا إلى مدينة بعقوبا. الفضاء المنفتح من كل الأطراف لا تحده تضاريس طبيعية أو عوامل مانعة سوى نهري خريسان وديالى وعلى كل منهما جسور وقناطر مريحة. كنت في أول عقدي الثاني، وقد حملت معي هواياتي الأولية في القراءة والرسم، لتتبلور وتتعمق وتتأكد في مدينة بعقوبا التي شهدت أول كتاباتي ونشرياتي ومشاركاتي الثقافية وفوزي بأول جائزة أدبية، في منتصف عقد السبعينيات، الذي موضع تحولات جذرية متناقضة هيأت لأبشع دكتاتورية مأجورة في تاريخ بلاد ما بين النهرين، صادرت كل ما هو جميل وحقيقي وجدير.

*

[القسم الأول]

بعقوبا.. الغابة والبستان..

أراضي بعقوبا مثل بقية الأراضي التي يمرّ فيها نهر ديالى ، كانت قبل استيطانها غابة كثيفة عامرة بأنواع الأشجار والثمار المطمئنة إلى وحدتها ، يخترقها مجرى نهر ديالى بخريره الصائت، كأنه يأتي من أعماق التاريخ أو قرارة البئر الذي تحدث عنه بدر شاكر السياب في إنشودة المطر. وربما كان موقع بعقوبا أو ديالى الغابة التي ورد ذكرها في ملحمة جلجامش عندما قدم إليها مع صديقه انكيدو لمصارعة خمبابا والتي يقدرها بعض الدارسين في فارس أو لبنان. من جهة أخرى دلت المكتشفات الأثرية على وجود آثار سحيقة في القدم في المنطقة، يعود قسم منها إلى مملكة [أشنونا] المعاصرة للسومريين أو أنها كانت جزء منهم عند توحيدها على يد سرجون. وهي واحدة من الممالك القديمة التي يعود تاريخها إلى ( فجر السلالات ونظام دويلات المدن وما تبعها، حيث أفرزت لنا شرائع عدّة منها: شريعة أرتمو، وشريعة لبت عشتار، شريعة أيشنونا، وشريعة أوركاجينا.) ويستعرض الأب سهيل قاشا بعض المفاصل التاريخية في كتابه [مقتبسات شريعة موسى من شريعة حمورابي] المتعلقة بهذا الأخير وصراعه مع الملك " شمشي أدد" الذي (كان قد ضيّق الخناق على بلاد بابل، وكان نفوذه في زمن حمورابي يمتدّ حتى شمالي بابل بقليل والتي كان يشرف على إدارتها ابنه " يشمع أدد" ثم مملكة أشنوناك، وبلاد ياموتيل وعيلام، والدول التابعة لها، ثم مملكة لارسا التي كان ملكها آنذاك " ريمسن" القويّ،..) وقد نجح حمورابي في التغلب على أعدائه (وهرب " ريمسن" من عاصمته لارسا التي سقطت بيد حمورابي وبذلك استولى على جنوب العراق وبلاد عيلام وأشنوناك وياموتيل. ثم التفت إلى مملكة ماري وغزاها وقضى على ملكها " زبري لم" وتقدم نحو بلاد آشور واحتل جزء منها وكذلك احتل بلاد سوربارتو الواقعة شمال كركوك الحالية وشرقيها وبذلك أصبح " ملك الجهات الأربع"). ويتضح من هذا أمران رئيسان: أولهما اعتماد نصوص شريعة حمورابي على جملة الشرائع القديمة السابقة لعهده والتي منها شريعة مملكة أشنونا أو أشنوناك المجاورة لمملكة عيلام شرقي النهر [دجلة]. والأمر الثاني الوزن السياسي لمملكة أشنونا ودورها في العلاقات الاقليمية عبر الاحلاف المشاركة فيها. وقد كشفت ندوة عالمية عقدتها دائرة الآثار العامة في التسعينيات عن تفاصيل ومعلومات كثيرة عن التقدم الحضاري والسياسي لمملكة أشنونا وأهميتها في التاريخ القديم.

تشكل بساتين الفاكهة والحمضيات القسم الأعظم المحاذي للأنهار، بينما تتسع غابات الأشجار الجافة والنخيل مع الابتعاد عن ضفاف الأنهار داخل العمق. وحتى أوائل سبعينيات القرن الماضي كانت آثار غابات النخيل واضحة في الجانب الشرقي لطريق بغداد – شهربان الرئيسي، الموقع الذي تشغله اليوم منطقة (مدينة) التحرير خلف محطة القطار. وكان سكننا في بعقوبا في المنطقة المسماة (أم النوه)، و [النُّوَهْ ] هي النواة داخل التمرة، ثمرة النخيل. وكانت مدرسة (ساحة) الأمين هي نهاية (أحد أركان) المدينة يومئذ، وإلى الخلف منها باتجاه (المبزل) طريق مندلي نخلات متناثرة مختلية بنفسها أو كما يقال (أعجاز نخل خاوية) وبداية انشاء بعض دور سكنية خلالها مثل (المستوصف البيطري) يومئذ.

يصف الاستاذ علاوي عبد الرزاق الخشالي في كتابه (لمحات من تاريخ بعقوبا القديم) بعقوبة بأنها ، تحاط بحزام أخضر من البساتين الغنية بأشجار الحمضيات، وأشهرها البرتقال والليمون بنوعيه الحلو والحامض، بالاضافة إلى انتشار أشجار النخيل الباسقة فيها، حيث تقع على الجهة اليسرى من نهر ديالى (ص5). والأشجار المثمرة هي صفة المدينة في كتابات الرحالة الذين مروا بها عير التاريخ ، وأطلق عليها نعت (محافظة الحمضيات) وإقامة مهرجان الحمضيات السنوي في أول عامين له إبان السبعينيات. بيد أن انتشار المستوطنات البشرية وارتفاع درجات الحرارة قضم ملامح غاباتها الطبيعية وأتى على كثير من بساتينها التي التصقت بها المناطق السكنية حتى كادت تحاذي الانهار في بعض النقاط، في دالة على قصور الوعي البيئي للسكان والحكومة على حدّ سواء. ففي البلاد الأوربية التي تبدأ ملامح الطبيعة الخضراء فيها مع عبور البوسفور تجاه بلغاريا حتى شواطئ المتوسط والأطلسي والبلطيق، تحظى الطبيعة والغابات بأهمية ورعاية استثنائية، تقرّه قوانينها ويقع المتجاوز تحت طائلة العقاب القانوني، بما في ذلك الصيد أو قطع الاشجار أو تغيير صفة الأرض دون موافقة السلطات، وتشكل الحدائق والباركات (Park) والبحيرات أجزاء رئيسية من قلب كل مدينة يقضي فيها السكان أوقات فراغهم، وهو أمر مفتقد في تخطيط خريطة المدينة العراقية ما عدا حديقتي الزوراء والأمة في مدينة بغداد والتي كان للصدفة دور في وجودها. والتي تحولت في ظل الاحتلال إلى مواقع كريهة ومجمعات لرمي القاذةرات، شأنها شأن ضفاف الانهار (الكورنيش) والحدائق والمنتجعات الطبيعية في المدن. ولا يستبعد أن يأتي يوم قريب تتحول فيه البساتين مجرد ذكرى عراقية إسوة بأشياء عراقية كثيرة من مسلسل الفقدان، نجهد للاحتفاظ بها في الذاكرة بعد أن اختزلها الواقع اليومي ومنطق اللامعقول. وما يقال هنا ينطبق على بقية مدن ديالى مثل الهويدر وخرنابات وهبهب وكَصيرين وبهرز وشهربان وقزلرباط التي اكتسحت التغيرات السكنية الأخيرة مظاهر الطبيعة الغناء فيها. وربما جاء عنوان [بعقوبا.. ذاكرة البساتين] للروائي سعد محمد رحيم إشارة مبطنة لسيرورة الاخنزال، بينما يبقى عنوان [البصرة جنة البستان] للشاعر مهدي محمد علي صورة ذاكراتية إزاء راهن البصرة الذي قضمته قصوفات الحروب والطيران الأمريتاني المستمر خلال التسعينيات، ورثاء مبكراً لمعطيات عهد الاحتلال الراهن منذ 2003. وهنا لابدّ من دعوة مخلصة للجميع للالتفات لمظاهر أمنا الطبيعة ووقف الاعتداءات الصارخة عليها، فاختزال الطبيعة اختزال للجمال، في زمن لا تنقصه القباحة والبشاعة. وكأن الطبيعة العراقية كتب عليها مشاركة الانسان في تحمل آثار تعملات القدر التدميرية ، فتفقد البلاد نكهتها وخاصتها وتختزل خصائص الطيبة والأريحية والتسامح من الخصائص الاجتماعية والنفسية لأهلها، لتسود بدلاً عنها القسوة والمادية والاحتيال والغدر. فجمال الطبيعة منعكس في جمال النفس الانسانية وجمال البيئة الاجتماعية منعكس في جمال القيم الخلقية والفكرية لأبنائها. فلا غرو أن تنعكس التغيرات المادية السياسية والاقتصادية سلباً على الانسان، وتمنح الماضي وأهله وخصائصه الاجتماعية والقيمية ذلك السحر الذي يمسّ شغافنا ويجعلنا نحلق في سحب من أحلام ماضوية.

وعوداً إلى ذكريات الماضي، يوم كانت النزهات تنطلق في حنايا البساتين أو دروبها الظليلة الدافئة سيما أيام الصيف. وهي نزهات صارت نادرة وغير معروفة للأجيال الجديدة ولا يمكن اسشعار عذوبتها وطلاوتها وطراوتها. نجد من الضرورة أن تستصدر الجهات المختصة قانوناً يلزم يترك مسافة نصف كيلومتر على الأقل عن ضفاف الأنهار وأكثر من ذلك في مناطق الغابات والبساتين والتضاريس الطبيعية بعيداً عن البلدوزرات ويد الانسان لتلطيف المناخ والحياة والطبيعة، واعتبار ذلك جزء رئيسا من المسؤولية الوطنية والقومية لكل فرد ومسؤول. وذلك لوقف التدهور والتخريب والدمار واستعادة ما يمكن استعادته لعودة الحياة في العراق لمناسيبها الطبيعية.

*



بساتين ديالى.. وقف الحكومة

(وقد جذبت خصوبة نهر ديالى وكثرة بساتينه رجالات الحكم والمتنفذين، لاقتطاع مساحات واسعة من الأراضي، بعد أن وضعوا عليها أتباعهم وأذنابهم يستغلونها ويستثمرون غلاتها.) ص25 من كتاب "يوسف عزالدين شعره وتجديده". ويروي أهالينا أن الملك وحاشيته كانوا يمرون خلال المدينة في مواعيد محددة من العام.. ماضين نحو أعالي ديالى.. حيث يقضون أوقاتاً في منتجعاتهم وإقطاعاتهم خلال الصيف.. والمعروف أن حكومة ياسين الهاشمي الأولى في الثلاثينيات هي التي أقرت قانوناً لتمليك أعضاء الحكومة والبلاط والبرلمان اقطاعات من أراضي العراق، وكانت أراضي ديالى الزراعية وبساتينها المحاذية لمجرى النهر تحديداً من حصة البلاط، وقد استمر العمل بهذا القانون طيلة العهد الملكي. وهو من القوانين التي أعاد الحكم البعثي الشوفوني إحياءها وأعيد تسجيل أراضي وبساتين ديالى الملكية بأسماء أعضاء القيادة (مجلس قيادة الثورة والقيادتين القطرية والقومية والحكومة وأعضاء الفروع والمكتب العسكري وكبار الضباط). كانت أجود الأراضي هي التي في أعالي المجرى توزع بالتسلسل حسب المواقع القيادية للمسؤولين. ومن ظلال هذا القانون البيوت أو القصور الرئاسية في كل محافظة والقريبة الشبه بتقليد الدوتشات [Dutch] التي أجره أحد ملوك فرنسا في القرن العاشر الميلادي قبل أن تنفصل أراضي ألمانيا عن فرنسا، وهو أول من اتبع نوعاً من الحكم اللامركزي يتمتع فيه حكام الأقاليم بسلطة كاملة، بينما هو يتفقد الأقاليم وفق جداول شهرية ويراقب سياسات الحكم. ذلك ما لم يكن له أثر في سياسات الدكتاتور المعروفة غير نزعة امتلاك القصور الفارهة تمثلاً بزعيم أوربي آخر هو أدولف هتلر الذي تحولت قصوره (الشخصية) إلى متاحف وآثار. ويذكر في هذا المجال، أن أقدم وأرفه المباني في مدينة السعدية (قزلرباط) المعروف بقصر "علي بيك" عندما أراد ورثته بيعه أوصى صدام بشرائه وترميمه والمحافظة عليه، ولا يعرف مصيره اليوم. وعندما هاجر بعض أهالي خانقين خلال حرب الثمانينيات نتيجة وقوعها تحت مدى المدفعية المضادة استصدر قرار بتمليك دورهم وأراضيهم لأعضاء حزب البعث والمسؤولين في المدينة مما حرم أهاليها من العودة إليها بعد ذلك. ناهيك عن بيوت المهجرين والأملاك المصادرة وتبعات التعريب وغير ذلك.

ان من آثار هذا القانون ليس إضعاف صلة الفرد بأرضه ومدينته ووطنه عندما يرى مسؤولي الدولة يلعبون دور الاقطاع الكريه ويتناوبون بمصادرة أفضل الأراضي التي ليست لهم حاجة بها إضافة لبعدها عن مراكز إقامتهم الدائمية في العاصمة، وما يلحق تلك الأراضي والبساتين من الاهمال والتردي والتسيب . وقد أصيبت بعض البساتين بالجفاف وتحولت إلى أراض جرداء نتيجة الاهمال وعدم مراجعة المسؤول أو متابعة القائمين عليها. ان طبيعة الظروف السياسية والعسكرية خلال الحكم البعثي شغل الكثير من الوزراء عن التفكير في تلك الأراضي والأملاك الملحقة بهم قانوناً أو التجرؤ على مغادرة العاصمة خشية سوء تأويل ذلك. وأضافت امتيازات الحرب (حرب الخليج الأولى) إدخال قوائم الضباط الكبار في الفيالق والفرق إلى جانب المسؤولين في حيازة الأراضي الزراعية الجيدة والبساتين الجميلة، ولم يكن من الغريب أن يرى المواطن الغرباء عن مدينته أباطرة وسادة مستعلين على الأهلين. ومن الطرف في هذا المجال، أن إدارات الضباط والمراتب في ديوان وزارة الدفاع خلال فترة الحرب كانت تطلب بمسوحات دورية للخريجين. وحدث أن جاء قرار بانتداب وتسريح خريجين معاهد فنية معينة في أواسط الثمانينيات، وإلحاقهم بمنشأة معينة (لا أذكر اسمها بالضبط) كانت ملحقة بالقصر الحاكم. وقد تسرح من وحدتنا أحد المشمولين بالقرار. وبعد سنوات التقيت به في بغداد وجرى حديث عن وضعه وطبيعة عمله فإذا به يضحك ويصف ظروف عمله الصعبة، فقلت له كيف؟.. قال المنشأة الفنية التي أعمل فيها هي مزرعة (منشأة) غزلان عزة الدوري، وجميع العاملين والحراس فيها من المصريين وأنا العراقي الوحيد بينهم أحضر ساعات الدوام فقط وأخرج دون أن ألتفت أو أتكلم. والمنطقة كلها حقول ومزارع متواصلة للمسؤولين الكبار. ولا يعرف مصير تلك الاقطاعيات وأسرارها ووثائقها والعاملين فيها أو ملاكيها الجدد بعد سقوط الدكتاتورية.

ان مشكلة الأراضي وتأثر صكوك الحيازة والملكية بالتغيرات السياسية وتدخل مراكز النفوذ واحدة من أكثر المشاكل العويصة في العراق وأبرز العوامل المزعزعة لاستقرار بيئة الاستيطان والتوطن ، سواء في جانب السكنى والاقامة أو الزراعة والرعي أو الصناعة والمسطحات المائية وصولاً إلى اقتسام مياه الأنهار ومناطق الصيد المائي. ويذكر في هذا المجال قانون الاصلاح الزراعي رقم 80 لعام 1958 الذي حدد الحدّ الأعلى المسموح للملكية وما ترتب على محاولات تطبيقاته من آثار دراماتيكية انعكست على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مختلف انحاء البلاد، كان من أبرزها التأسيس لهجرة الرأسمال الوطني [العوائل الرأسمالية والاقطاعية] خارج البلاد من جهة، وعودة الكرد لحمل السلاح ضد الحكومة في أيلول 1961 جراء رفض الاقطاع الكرد لبنود قانون الاصلاح الزراعي. وفي عام 1970 حاول العهد البعثي الأول في حمأة بعض [التطبيقات الاشتراكية] إستصدار قانون الاصلاح الزراعي رقم 117 والذي ساعد على كسر شوكة كبار الاقطاع والحدّ من نفوذهم لصالح تقوية سلطة الحكم الجديد وبما هيّأ له بسط الهيمنة المطلقة واسئصال أية مصادر لسلطة القوى التقليدية والتيارات السياسية في البلاد، مصطنعاً فراغاً سياسياً ظهرت مخاطره عقب الاحتلال الأمريتاني وعدم وجود بدائل مؤهلة لقيادة المجتمع والدولة. ويبدو أن الإدراك المتأخر لهذه الحقيقة، هو ما حداً بزعماء العشائر ورموز الاقطاع للمطالبة بمعالجة آثار تطبيقات فوانين الاصلاح الزراعي السابقة وتعويض المتضررين في محاولة (!!) لتنبيت مراكز نفوذ تقليدية عشائرية إقطاعية من جهة، ورأسمالية برجوازية من جهة مقابلة. ضاربين عرض الحائط مصالح الطبقات الشعبية الكادحة وهي تتنقل بين تنين مصطنع وعفاريت مزيفة.

ان غلبة خصائص المدينة (من التمدن والتحضر) على المستوطنات السكانية في ديالى نجم عنه تحدد في حجم ملكيات الأراضي، رغم كون محافظة ديالى تتمتع بمساحات أراضي واسعة ومعدل دون المتوسط في الكثافة السكانية، فيما تتنوع جغرافيا التضاريس بين الجبال والتلال والهضاب والسهول والوديان والأنهار. وكان من نتيجة كل هاتيك العوامل والخصائص انعكاسها على طبيعة النسيج الاجتماعي والتفكير الفردي. فـ [الملكية الإقطاعية تكرس التعصب الديني و التبعية غير العقلانية لرجال الدين و تحالف الاقطاع مع رجال الدين ، على الضد من الملكية الصغيرة لمالكين أحرار ذوي مستوى حضاري و ثقافي.] ويضيف الاستاذ منير العبيدي في مداخلته في هذا الصدد، قائلاً أنه: [في المدينة و الاطراف امتداداً الى ضفاف نهر ديالى حتى المقدادية نحو الشمال الشرقي و حتى الخالص و زنبور شمالا في الحدود مع محافظة صلاح الدين ـ تكريت و كركوك عند منطقة الدوجمة ، ثم باتجاه بغداد ـ مناطق جديدة الشط ، الكصيرين ، على ضفاف دجلة حتى الراشدية ـ و كذلك منطقة الوجيهية و بعض اطراف المقدادية، كل هذه المناطق تحدّدت ملامحها الاجتماعية و النفسية بالملكية الصغيرة، أي ملكية البساتين التي لا يزيد معدلها في بهرز مثلا عن 1 ـ 2 دونم تزيد قليلا في الهويدر أو تنقص في مكان آخر .

توجد ملكيات بساتين في جلولاء و السعدية و خانقين ، و سابقا طبعا بساتين مندلي المشهورة قبل أن يحول نظام الشاه في إيران مجرى نهر مشهور - لا أتذكر اسمه-، مما أدى إلى خراب البساتين هناك .

وفي بهرز و الهويدر و أطراف بعقوبة المركز أعتقد أن ملكية البساتين الصغيرة كانت موجودة لدى اكثر من 70% من السكان أما الحرف و المهن الأخرى فهي مرتبطة بقدر أو آخر بالمداخيل التي تدرها البساتين . الملمح الآخر المرتبط بسيادة الملكية الصغيرة هو وجود ملكيات اقطاعية أو كبيرة على نطاق ضيق جداً و لا يقارن بما موجود في الجنوب أو كردستان . في بلدروز أو كنعان حتى اطراف مندلي و بعض المناطق الضيقة في الطريق الى المقدادية والتي تسكنها عشائر بني تميم و شيوخهم، ترتب على ذلك عدم وجود فلاحين فقراء معدمين على غرار ما موجود في مناطق الجنوب و بالتالي وجود فلاحين غير أحرار عملياً أو نصف أقنان .]

*




بعقوبا .. سيرة مكان
(القسم الثاني)


بعقوبا.. الخانات..

الصفة الثانية لمناطق ديالى ومنها بعقوبا هي (الخانات). ويمثل (الخان) دالة على مرور طرق مواصلات دولية أو محلية عبر هذه المناطق. ويمكن استنتاج ذلك من أسماء هذه المدن التي ارتبطت بها حتى اليوم مثل خان بني سعد، قره غان (قرة خان)، خان قين، دربندخان. وفي كل واحدة من هذه المدن كانت تنتشر خانات أخرى لأغراض مختلفة كالبيع والشراء والمبيت، والخانات التي تبتاع فيها الماشية غير التي تباع فيها الخضر والفواكه من أهل الأطراف وتجار المدن الجوالين، وخانات مبيت البشر غير خانات مبيت الخيل والعربات وما يتعلق بها من أعمال الصيانة والرعاية. وارتبطت الخانات بوقوع (ديالى) على طريق الممر الدولي من روما إلى الصين المعروف (بطريق الحرير) [Silk Road] حسب نقل الرحالة. ويستنتج المؤرخ البعقوبي المحامي طه الدليمي في تحرياته عن شبكة مواصلات المدينة أنه [في العصر العباسي كان الطريق من بغداد إلى منطقة ديالى يمرّ بمدينة النهروان وهي جنوبي محطة كاسلر يوصف القديمة، وهي شمال الأمام المعروف بأبي العروج بعد مروره بأرض سامي الأورفلي ودير يترما ثم الدسكرة (أسكي بغداد) ثم شهربان وجلولاء وخانقين وكان هذا الطريق على الأرجح لا يمرّ ببهرز وبعقوبا. وتبدل الأمر آخر العهد العثماني]. ثمّ يستطرد الدليمي نقلاً عن (لونكريك) [ كان يتفرع من ضواحي بغداد الشمالية طريقان بزاوية حادة يمرّ الشرقي منهما بخان أسماه الأتراك (أورطه خان) – خان النصّ- ثم يصل إلى معبر ديالى في بهرز ومن ثم يحاذي بساتين قرى بعقوبا وقلعة شهربان ويمر بين تلال منخفضة (تلال حمرين) فيخترقها إلى خانقين". وطريق آخر بمحاذاة نهر ديالى جنوباً من جهة الشرق ماراً ببهرز حتى مصبّ ديالى في دجلة ومن ثم المدائن. وكان هذا الطريق يمرّ عبر صحراء غير آمنة من قطاع الطرق حتى بنى الوزير عمر باشا (خان) محكماً عام 1100 (خان بني سعد) الباقية آثاره لليوم].

أما داخل بعقوبا فكانت تتناثر عدة خانات ، يذكر المؤرخ علاوي عبد الرزاق الخشالي في كتابه (لمحات من تاريخ بعقوبا القديم) عددها (أحد عشر خاناً) في مطلع القرن العشرين، في أماكن متفرقة من موقع مركز المدينة الحالي الكائن خلف دائرة المحافظة نحو العمق ومن موقع السوق خلف مصرف الرافدين تجاه أم النوه والمستشفى القديم. ويشغل أحد الخانات في منطقة السوق ما يسمى كراج النقل الداخلي وكراجات أخرى للنقل أو لغسل وتشحيم السيارات وما أشبه. ويلاحظ من طبيعة استخدامات هذه الخانات للأغراض العامة [كراجات النقل العام أو أبنية دوائر حكومية ومنها مستشفى بعقوبة الجمهوري] أن هذه الخانات تعرضت لمصادرة الحكومة عقب وفاة مالكيها وعدم ظهور ورثة أو صكوك ملكية أو أسباب أخرى. وكان في الجهة المقابلة لأول بيت نزلنا فيه لدى قدومنا المدينة في منتصف شارع النعمان (خان) كبير تبيت فيه العربات (الربل) يجاوره خان كبير متروك أقيم فيه مهرجان سيرك وحفل فني شارك فيه بعض مطربي الاذاعة في بداية السبعينيات ، استمر مدة شهر. وقد تم تهديم هذا الخان لاحقاً وأنشئت مكانه بناية معهد المعلمات الابتدائية. لقد فارقت الصيانة أبنية الخانات القديمة وجدرانها المتهاوية بفعل الزمن والطبيعة والاستهلاك، بينما كان غيرها ضحية لمنشآت حكومية أو أهلية، ولم يعن لأحد الاحتفاظ ببعضها كمتاحف أو أبنية أثرية تقرأ فيها الأجيال المحدثة سطور التاريخ أو سيرة هذه المدينة.

*

بعقوبا. . ذات القرى..

تأخذ بعقوبا صورة القلب الذي تمرّ عبره الأوردة والشرايين إلى بقية الجسد والأطراف. أو صورة الأم التي تتحلق حولها بناتها أو الأخت الكبيرة بين (بنات نعش). فالهويدر وخرنابات ودلي عباس وشفته وبهرز وهبهب والسادة الصغيرة والسادة الكبيرة وكنعان وبلدروز، مستوطنات قريبة من مركز بعقوبة إلى حد الالتصاق والتواصل معها. ولكنها لا تتصل بها ولا تنفصل عنها تماماً. بعقوبة لها نكهتها وطابعها وكل واحدة من تلك الأطراف والأمكنة لها نكهتها وطابعها الذي لا يتشابه مع الآخر ولا يخطئها ابن المنطقة. القرية جاءت إلحاقاً بوجود (الخان) وليس العكس. والطريف أن [الرحالة الانجليزي جيمس بيكنغهام وصف بعقوبا قائلاً.. بعقوبا قرية كبيرة مبعثرة تتألف من مساكن مبنية من الطين وبساتين النخيل وحدائق وما شاكلها]. بينما ذكر [المنشئ البغدادي في العام 1820الذي دخل المدينة مع المستر كلاديوس جيمس ريج .. بعقوبا من قرى خريسان وهي من الجانب الآخر لنهر ديالى. وعلى شطي ديالى وخريسان خمسون قرية معمورة. وفي هذه القرى أنواع الفاكهة والكروم.] فترادفت صفات القرية والبستان والحديقة لاصقة بهذه المنطقة. بيد أن إطلاق صفة قرية بالمفهوم الزراعي المتعارف على مستوطنات ديالى المدينية فيه من التجني الشيء الكثير، وذلك لأن الطابع الفلاحي لأهل ديالى مرتبط بالبساتين المنتجة للفاكهة والحمضيات وليس بالأراضي الزراعية الكبيرة المرتبطة بمحاصيل الحبوب أو الخضر الموسمية التي تقتضي العمل الجماعي الخاضع للاقطاعي أو السركال أو الجمعية الفلاحية (المنشأة الزراعية). فعمل الانسان في بستان تعود له أو لعائلته أقرب للعمل في مشروع فردي خاص، وهو ينتج أنماط سلوكية ونفسية معينة. كما أن تنظيم القرية الزراعية الفلاحية يختلف عن تنظيم القرية المدينية وهو الأمر الذي توقفت لديه دراسة القرية السومرية المدينية في أنماط التعامل والتدرج والتوزيع العمراني، المختلف عن طابع المدينة القروية التي نشأت في مراحل لاحقة في العهد الوسيط أو المستوطنات الملحقة بالمدن العصرية اللاحقة. وينعكس كل ذلك بالنتيجة على الوضع الاقتصادي والمعيشي الجيد لمالكي البساتين (طبقة الملاكين). ان منتجات البساتين الرئيسية هي التمور بمختلف أنواعها والفواكه والحمضيات التي تصدر للمحافظات كافة. وهو من العوامل المنشطة لعمل الخانات (-العلوة- التجارية) واستقطاب التجار والوسطاء من أنحاء المنطقة للشراء والتبادل، والذي ينعكس ايجاباً على الوضع المعيشي للمنطقة. ان مناطق ديالى عموماً من مناطق الاكتفاء الذاتي اقتصاديا ومعيشياً ، بل هي تصدر منتجاتها لتحصل على حاجاتها من المواد الغذائية الجافة كالسكر والشاي أو الألبسة والمعدات من مناطق أخرى. ناهيك عن كثير من الأعمال اليدوية والتجارية المتعلقة بالزراعة والري ما يحقق مستوى لائقاً من التطور الاقتصادي لها. بالمقابل لم تستفد بعقوبا وغيرها من وقوعها على خط المرور والتجارة الدولية لاختصاص الحكومات المركزية (في بغداد) بجباية الضرائب والكمارك دون احتساب حصة المنطقة. وحتى السبعينيات كانت غالبية بيوت بعقوبا مبنية بالطابوق الحديث أو الحجر القديم، وهو ما يمنحها ميزة أخرى عن صفة القري الطينية حسب وصف الرحالة. وهذا يعني أن تحسن المستوى المعيشي كان يدفع باستمرار إلى تحسين أنماط السكن والعمران والتعامل والحياة اليومية.

*

بعقوبا.. الماء والخضراء..

إذا كان وقوعها على طرق مواصلات التجارة الدولية أحد عوامل أهمية المدينة الستراتيجية فأن تطور هذه المدينة وحياتها لم تتأثر بمرور قوافل التجارة فيها قدر تأثرها وتعلقها بالخصائص الزراعية والمائية للموقع الجغرافي. أي أن الجغرافيا الاقتصادية الطبيعية كانت المحرك لمجتمع المدينة وليس اقتصاد المواصلات بالمنظور الاقتصادي. كما أن ما يغفله الرحالة والمؤرخون أن تطور الملاحة البحرية بعد القرن السادس عشر وانتشارها السريع [رأس الرجاء الصالح ثم شركة الملاحة البريطانية عبر دجلة وافتتاح قناة السويس]، قلّل الاعتماد على الطرق البدائية المرتبطة بأيام ماركو بولو وولده. وبالتالي، فأن الاستدلال بطريق الحرير ليس إلا للبيان التاريخي والتحديد الجغرافي لتقريب الصورة في ذهن الأوربي. ومنه أن التقرير الأمريكي الذي يورد أخبار قتلى الجيش الأمريكي في بعقوبا، يورد وقوعها على طريق الحرير (التاريخي) والمشهور في الذاكرة الغربية. وعقب السبعينيات لم تكن ثمة أية تجارة رسمية ناشطة نحو الشرق، ما خلا السياحة الدينية الخاضعة لمد وجزر الظروف المناخية والسياسية. وما في الذاكرة غير قصص تهريب المواد التجارية بين البلدين ما يدعى (تجارة سوداء) باستخدام الحمير والبغال بين أهالي المدن الحدودية في فترات التدهور السياسي للحكومة المركزية. وكانت أبرز مواد التصدير (الأسود) الشاي والسكر والرز وغيرها من المواد الغذائية الجافة، مقابل استيراد الأقمشة والمواد الكهربائية والالكترونية لاحقاً. وما يرد بعقوبا من ذلك فهو نزز نزيز وبأسعار مرتفعة لبعدها عن الحدود. وفي ظل الحصار المزدوج في التسعينيات وما بعدها ظهرت تجارة كارثية سوداء تتمثل ببيع السيارات الحديثة وتفكيك المنشآت الصناعية والالكترونية إلى قطع غيار وتهريبها ضمن مواد مختلفة بينها النفط إلى ايران وما بعدها. وقامت شركات ومآفيات سوداء لها فروع ومراكز منتشرة في بلدان أوربية غربية وشرقية وبلدان الجوار العراقي بتهريب متواصل للسيارات والالكترونيات من الغرب إلى شمال العراق ومنها إلى بغداد أو الحدود الايرانية نحو الشرق. وفي المناطق التي انعدمت فيها سيطرة الحكومة المركزية في بغداد تمّ تفكيك أجهزة ومباني الكثير من المنشآت الاقتصادية الحكومية والقطع والنفائس الأثرية وتهريبها إلى ايران وليس أكثر طرافة من تهريب النفط عبر الحدود على البغال والحمير أو الصهاريج الصغيرة حيث أمكن ذلك.

لم تكن الآبار شائعة في بعقوبا للحصول على احتياجات المنزل من الماء وذلك لقربها من الأنهار وكثرة مصادرها القريبة، وكانت شخصية (السقاء) أكثر وروداً في الحياة اليومية أو اتصال النساء المباشر بالنهر قبل توصيل أنابيب المياه الصالحة للمحلات والأحياء السكنية. ويعتبر تقليد سباحة الأولاد في نهر خريسان في (ظهاري) الصيف من الرياضات اليومية بينما كان الأكبر سناً يذهبون إلى أماكن محددة مشخصة أسفل النهر للسباحة. ومجرى نهر ديالى معروف بعمقه وسرعة جريانه وقوة سحب تياره وفي ذاكرة النهر كثير من حوادث الغرق لعدم قدرة السابح معاركة قوة التيار الذي يسحبه بسرعة وحركة مزدوجة في زاوية قائمة نحو الأمام ونحو الأسفل. ولذلك لا يعتبر ديالى من أنهار السباحة المحبذة، ويتعارف السباحون المناطق المناسبة للسباحة من غيرها وما يقال عن نهر ديالى ينطبق كذلك على نهر مهروت الأضيق والأسرع أيضاً. وكانت (شريعة) خريسان عند قنطرة خليل باشا جهة البستان أفضل مناطق السباحة حيث يقفز بعضهم من سياج القنطرة في الماء.

بعقوبا .. سيرة مكان
(القسم الثالث)


بين النهر والجدول..

لمسافة معينة يتخذ مجرى نهر ديالى وجدول خريسان خطين متوازيين مترافقين تاركين بينهما مسافة متفاوتة بحدود كيلومتر واحد. ويمكن تصور البقعة المحصورة بين النهر والجدول غابة غناء مثمرة حفية برائحة الطبيعة الأولى وبكارة الوجود الأزلية حيث يلقي لديها الانسان عناءه ويتنفس رحيق الحياة المحمل بعبق الأيام والسنين والعصور. ان طبيعة الأرض المحصورة في هذه البقعة متدرجة في الارتفاع من ضفة نهر ديالى صعوداً نحو مجرى خريسان. وقرب نهر (جدول) خريسان من نهر ديالى الكبير يقلل من أهميته الاقتصادية كقناة للارواء الزراعي تمّ إنشاؤها إبان العهد العثماني، والأرجح أنها أنشئت أو روعيَ في إنشائها خزن مياه الفيضانات ووقف اندفاعها في باطن المدينة. ويذكر أن البقعة بين النهرين هذه كانت تغرق بالمياه أثناء الفيضان الذي تصل تمدداته الدور القريبة من خريسان وتطفو المياه في دور الادارة المحلية القديمة سيما القريبة من طريق بغداد الرئيسي ما يقع خلف بناية النشاط المدرسي ومنزل المحافظ أيام السبعينيات . والحديث هنا عن فيضان عام 1976 الذي استمر تهديده للمدينة قرابة اسبوعين. استنفر خلالها الأهالي في بناء حواجز أكياس رملية لوقف زحف الماء. لا شك أن الفيضانات التي تكررت خلال التاريخ كبدت الأهالي كثيراً من الخسائر والدمار، التي كان يمكن تجاوزها لو ابتعد الانسان في تحديد سكناه عن المجرى وبالتالي حقق فائدتين، بدل خسارتين. وتبقى فكرة تحويل ما بين النهرين (ديالى وخريسان) إلى متنزه وبارك للطبيعة أحد المشاريع الحيوية لاحياء بعقوبا ومنحها ميزة عملية لاجتماعها على نعمة النهرين. وقد شهدت شواطئ النهرين تعليات ترابية مستمرة وتم تحويلها إلى متنزهات طولية تربط بينها شوارع متوازية حديثة تتوزعها بعض المنشآت السياحية والخدمية، لكن تلك المشاريع على نهر ديالى تحولت إلى مناطق أشباح مع اندلاع حرب الثمانينيات واختفاء الشباب [18 – 45 عاماً] من حياة المدينة، أما ضفتي خريسان التي رصفت بالحجر والاسمنت وأضيفت لها حدائق مسيجة من الجانبين تحدها شوارع حديثة بالاتجاهين فقد وفرت فرصة لنزهات المدينة في عصاري الصيف والأعطال المدرسية بين قنطرة خليل باشا حتى بداية كراج سيارات بغداد أو ما بعدها نحو بهرز وشفته أو خلل بساتين المدينة وشارع عمر عبد العزيز. ويعتبر قضاء أوقات الفراغ وعدم وجود أماكن للتسلية أو الرياضة أو مكتبات عامة واسعة أو مقاهي ونوادي حديثة تستجيب لتطور الحاجات المتزايدة جانب من معاناة أبناء المدينة، وهو أمر لم يؤخذ بنظر الاعتبار في تخطيط المدن انعكست سلبياته على الجانب الاجتماعي للمدينة. أما الحال اليوم فحدث ولا حرج كما يقال.

*

مدينة بين نهرين..

يمثل اجتماع نهري ديالى وخريسان في مكان واحد أبرز ملامح ومميزات مدينة بعقوبا. وما بين النهرين ولدت المدينة وكبرت وانتشرت، حيث السراي (العثماني) الذي ما زالت آثاره وبقايا أبنيته لليوم. ومنها بناية مصلحة البريد والبرق القديمة ومبنى مصلحة نقل الركاب ودائرة الماء والكهرباء ومدارس ابتدائية وغير ذلك. وإذا كانت ضفتا ديالى عامرتين بالبساتين المنخفضة، فعلى جانبي خريسان (كانت) حدائق منبسطة وشوارع مستقيمة متوازية تربط أطراف المدينة المتفاصية. ينتهي الشارع المحاذي لخريسان عند قنطرة خليل باشا في ركن المدينة بينما يمتد من الجهة المقابلة (عكس مجراه) حتى مدينة بهرز وقرية شفته. وتمثل القنطرة حدود بساتين الفاكهة والحمضيات. وامتداد قنطرة خليل باشا هي ساحة الوثبة ومنها يتفرع شارع تحفه البساتين إلى خرنابات والهويدر. أما امتداده الآخر فهو شارع عمر بن عبد العزيز الذي ينتهي في ساحة الأمين (أم النوه)، أحد أربعة نقاط تشكل جسد المدينة المترامية. ومن الجهة الأخرى عكس مجرى المياه وصولاً إلى جسر السابلة الرئيسي الذي ابتناه الانجليز عام 1920 مع جسر مرور السكك الحديد. ويربط الجسر طرفي طريق المواصلات الرئيس الذي يأتي من بغداد مخترقاً جانب المدينة باتجاه شمال الشرق إلى مدن شهربان والمنصورية والسعدية إلى دربندخان والسليمانية.

قلب مربّع.. وأذرع أخطبوط...

يمثل مركز شباب ديالى (مفترق طريق بهرز وامتداد نهر خريسان) على شارع بغداد الرئيسي (كما يدعى) أحد أركان مربع، تقابله نقطة موقع معسكر سعد (على طريق بغداد - شهربان)- يقابلها في عمق المدينة ساحة (مدرسة الأمين) المربوطة بشارع مستقيم تجاه قنطرة خليل باشا ومدرسة الوثبة. وترتبط النقاط الأربعة بشوارع مستقيمة على محيط المربع وشبكة شوارع داخلية حديثة فيما بينها. وتتميز مراكز بعقوبة والمقدادية (شهربان) والخالص (دلتاوه) بشمولها بالتخطيط العمراني في توزيع أحيائها وتنظيم شوارعها وتمفصلاتها. وعلى غرار الأضلاع الأخرى يمتد شارع من ساحة الأمين يشكل زاوية قائمة مع شارع السوق (النعمان) باتجاه طريق بغداد ويلتقيه مع بدء بيوت الادارة المحلية ومبنى مديرية التربية القديم . وهكذا يتخذ مركز مدينة بعقوبة الذي يمتاز بالعمران والتنظيم والتخطيط، شكل مربع محصور بين مجرى النهرين وطريق بغداد وأم النوه وخط البساتين من جانبيها الآخرين. وقد كانت منطقة (أم النوه) - كما يستدل من إسمها – غابة نخيل كبيرة تستمر حتى طريق بغداد في الجانب المقابل لدوائر المحافظة والاعدادية المركزية. بينما تشكل بساتين الفاكهة والحمضيات جانبيها الآخرين على امتداد طريق (السادة) وشارع عمر عبد العزيز حيث كانت ماكنة ثلج برهان الديري باتجاه مجرى النهرين الحافلة بالبساتين والظلال الباردة في لظى تموز وآب. اطلق على طريق السادة هذا الاسم لمروره بقريتي (السادة) الكبيرة والسادة الصغيرة التي ينحدر منها السياسي المخضرم ورئيس وزراء العهد الملكي رشيد عالي الكيلاني أحد أقطاب حركة 1941 الشهيرة ضد الانجليز. يقابلها على الجهة الأخرى في معسكر موقع سعد مقرات إدارة وميرة ووحدات حماية وأشغال تابعة لقيادة الفيلق الثاني الذي مركزه في موقع (منصورية الجبل). ومن معسكر سعد في بعقوبة تحرك العقيد عبد السلام عارف ولواؤه صبيحة الرابع من تموز 1958 لمحاصرة القصر الملكي واحتلال دار الإذاعة وقراءة بيان الثورة رقم واحد ويلحق به بعد ساعتين اللواء التاسع عشر الزاحف من جلولاء بقيادة عبد الكريم قاسم ليضعا نهاية حقبة سياسية ويضعا حجر الأساس لحقبة تجرى الرياح بها عكس ما أراده لها أصحابها. لقد حملت اربعتعش تموز العراق كل خير وكل شؤم اربعتعش تموز الأولى (1798) منطلق الثورة الفرنسية التي قيل فيها: الثورة يخطط لها الفلاسفة وينفذها الغوغاء ويجني ثمارها الانتهازيون، ومقولة[الثورة تأكل أبناءها] فبعد جملة المحاكمات الصورية لمحكمة (المهداوي) الشهيرة واصدار عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء العفو (عما سلف) دقّ المسمار الأول في نعشه الشخصي عندما جمع (القدر) أي [كارتل شركات النفط بقيادة السي آي أي] رفيقه ونائبه عبد السلام مع زمرة علي صالح السعدي (البعثية) والضباط القوميين والناصريين للاطاحة به في الثامن من شباط 1963 وقتله في دار الإذاعة العراقية في الصالحية وترك جثته معلقة في باب وزارة الدفاع عدة أيام.

*

مداخلة حول تسميات المدن

ويمكن اتخاذ اسم المدينة دالة تاريخية للاستدلال على قدها وزمن تأسيسها أو ازدهارها، فكلمة [بعقوبا] تنتمي للغات القديمة وأقرب إلى الاشورية أو الآرامية ، وثمة سلسلة من أسماء مدن قريبة البنية والايحاء مثل: بابل، باصيدا، باجسره، باعشيقه، برطله، بعبدا. والصحيح في اللفظ هو (باعقوبا)، ولكن الأحرف الهوائية اختزلت وخففت بما يجعلها أقرب للصرف العربي مع بقاء أصلها غير العربي. ويلحظ أن هذا البناء اللغوي استمر في مرحلة تالية مع تغيير بسيط لمواءمة التغاير اللغوي ممثلة في وضوح لفظة (بيت) الارامية القديمة في بداية الكلمة مثل بيت حانون. ويمكن الاستناد إلى هذه الظاهرة ومثارباتها في اللغات والثقافات المختلفة لاستنتاج قاعدة سادت حتى عهد قريب في تسميات المدن في الشرق الغرب. فكلمة (شهر) الساسانية معناها مدينة وقد وردت في عديد تسميات المدن مثل خرمشهر، شهرزور، شهربان. أو ورود لفظة (خان) مثل دربندخان، قره خان، خان بني سعد. أو دخول كلمة (آباد) في أسماء مدن في ايران وباكستان مثل بندر آباد، اسلام آباد، مهاباد. وتقابلها كلمة (غراد) السلافية مثل ليننغراد، أو (بوليس) الاغريقية القديمة في تسميات بعض المدن مثل هليوبوليس ، أكروبوليس، تريبوليس (طرابلس). ان استعراض الأسماء الأصلية القديمة للأماكن والمواقع والمدن والبلدان يكشف كثيراً من الحقائق التاريخية التي تساعد في ترسيم وصياغة ثقافة المكان والسكان، ويدعم عناصر ثبات الشخصية والاستقرار النفسي والفكري للفرد ويوثق صلته بالبيئة. ان الدلالات اللغوية التاريخية والاجتماعية لأسماء المدن وعلاقتها بنشأة المستوطنات وأهميتها من السمات والخصائص الذاتية للمكان الذي يمنحها نكهة خاصة وترددات عميقة في نفوس الأهلين، وما لذلك من تعالقات ومقاربات بنيوية مع مفهوم الاستقرار الروحي والنفسي والهوية الوطنية. أن أكبر أسباب قلق الشخصية العربية وتذبذبها هو عدم استقرار الصلة بالمكان واضطراب عملية الاشباع النفسي والروحي للبيئة بأثر التغيرات السياسية والعسكرية العنيفة المتواصلة وتدخلها في تغيير خصائص المكان الجغرافي والاجتماعي وتحريف صورها وأسمائها، ومن مهازل التاريخ أن غير قليل من الناس ولدوا في أماكن وهمية لا يمكن تحديدها في الخرائط الجغرافية، جراء تغيير أسماء المدن والاستمرار في إطلاق تسميات جديدة متعلقة بالظرف السياسي التي ما يني ظرف سياسي آخر يلغيها ويلقي عليها بصبغته، وهذا من علائم خيانة المكان والانسان على السواء. ومما يقتضي تقليداً أخلاقياً وطنياً أصيلاً وتشريعاً قانونياً يمنع تغيير المعالم التاريخية والآثارية ومعالمها اللغوية والاجتماعية والأثنية. ان هذا السلوك يرتبط غالباً بالحملات الغازية الغريبة عن السكان فتحاول تزوير المعالم وإعادة ترسيم المكان بما يمنحها جذوراً تاريخية هشة (في المكان)، بيد أنها بذلك تزيد من هوة علاقتها بالأهلين وتبقى منبوذة حتى زوالها، وهي ما وسم كثير من الحكومات والحكام المتناوبين على العراق. ولابدّ للأخطاء من نهاية والانحراف والضلال من نقطة عودة للوعي والاخلاق والعقل والحقيقة.

*

تاريخ المدينة..

لا توجد معلومات مؤكدة عن تاريخ مدينة بعقوبا وتطورها عبر القرون. ولكن الثابت أنّ تاريخها يرجع لما قبل التاريخ ، حيث تعاقبت على أرضها مراكز حضارية قديمة أشهرها مملكة (أشنونا) المعاصرة لسومر وبابل وآشور، وكان وقوعها شرق نهر دجلة منحها أهمية استراتيجية وجيبولوليتيكية سياسية في الصراع بين ممالك ما بين النهرين (دجلة والفرات) والممالك الفارسية مثل عيلام وساسان. ناهيك عن مرجعيتها الحضارية والثقافية لحضارات وادي الرافدين القديمة والآثار المتبادلة بينها كما لوحظ (في المبحث الأول) في مجال التشريع.

أن وفرة المياه وتعدد مصادرها ومجاريها وخصوبة أرضها أغرى الأقوام القديمة باستيطانها. كما كشفت أعمال الحفريات والتنقيب الأثرية عن ممالك ومراكز حضرية أخرى على ضفاف نهر ديالى خارج مدينة بعقوبا. ويرى المؤرخون الأجانب أن بعقوبا - أسوة بمناطق العراق الأخرى- استمدت أهميتها من وقوعها على جانب من طريق الحرير الذي كان يمتد من روما إلى الصين. وهو الجزء الذي يربط بين بغداد والنهروان. بينما يرى مؤرخ مدينة بعقوبا المحامي (طه هاشم الدليمي) أن بعقوبا اكتسبت أهميتها بعد خراب طريق النهروان، دون ذكر للتواريخ والأحداث. ان هذه الاشارات تربط أهمية بعقوبا بوجود مدينة بغداد. بيد أن طريق الحرير ومدينة بعقوبا أقدم من العهد العباسي وتأسيس بغداد على يد أبي جعفر المنصور. ولا ينكر أن المدينة شهدت ازدهاراً لا مثيل له في تاريخها أيام العباسيين، مع تحول بغداد إلى أبرز مدينة في العالم وعاصمة الدنيا طيلة (أربعة قرون). فقد توسعت الدولة العباسية إلى أقصى حدودها المحاذية للصين شرقاً وجنوبي أوربا غرباً، وصارت عاصمتها قبلة طلاب العلم والتجارة والطامحين في حياة أفضل. ويورد المؤرخون بعض البيانات عن بغداد أقرب للخرافة منها للتصديق مثل وجود أربعين ألف حمام وعشرين ألف مدرسة فيها. ولكن مهما تكن نسبة المبالغة في ذلك، تبقى دالة على الكثرة، وتؤكد ذلك أخبار غزو المغول للعراق (1258م) وما ألقوه من كتب في دجلة حتى انقلب لون الماء أسود. ويستنتج منه أن حدود بغداد كانت مترامية وبصورة أقرب لحال هذا اليوم حيث تصل امتدادات المدينة الأفقية لتلتصق بالتوسع الأفقي للمدن المجاورة لها مثل بعقوبا والحلة وغيرها. ويورد البعض أن مطابخ الخليفة كانت في بعقوبا. ومن جهة أخرى تفيد هذه الأخبار كعوامل استقطاب سكاني متعددة أيام الازدهار والاستقرار السياسي والعكس بالعكس.

ان قرب مدينة بعقوبا من العاصمة السياسية والتاريخية جعل منها مدينة ظلّ، وحرمها من إمكانيات النمو والازدهار. فطلبتها يدرسون في بغداد وكثير من أبنائها يعملون في العاصمة وهو ما كان يلحظ من ازدحام حركة المواصلات بين المدينتين خلال بدء الدوام الرسمي وانتهائه. بل أن خطوط باصات مصلحة نقل الركاب كانت تربط المدينتين حتى عهد قريب قبل خصخصة المواصلات. وكان الموقف الرئيسي لباصات المصلحة مقابل نادي الضباط بجوار مبنى المحطة أو مقدمة كراج بغداد الحالي على نهر خريسان. ويرى الاستاذ منير العبيدي بهذا الصدد [هناك من يعتبر قرب بعقوبة الى بغداد قد لعب دورا سلبيا في نمو اقتصاديات سوقها ، خصوصا ان المئات من الموظفين كانوا غير مضطرين للمبيت و انما كانوا بدلا من ذلك يغادرون الى مكان اقامتهم في بغداد يوميا، و لكنهم طبعا كانوا تبعا لذلك يصرفون دخولهم في بغداد التي يقيمون فيها ، و قد قام أحد المحافظين في الستينات بمنع موظفي الدولة المقيمين في بغداد من العودة و قامت نقاط السيطرة بالتقصي عن وجودهم في وسائط النقل. و قد أثار هذا الاجراء ضجة مما حدا بالمحافظ الى التراجع عنه.]. وحسب تقديرات الرحالة الذين زاروا المنطقة في القرن التاسع عشر لم يكن عدد سكانها يتجاوز الألفين*. بينما تذكر التقديرات الأمريكية عدد سكانها بمائتين وسبعين ألفاً عام 2003، ومائتين وأربعين ألفاً عام 2005 أي بعد عامين من الاحتلال وسقوط النظام السابق.

بعقوبا.. سيرة مكان
( القسم الرابع )


بعقوبة في ثورة العشرين

عندما اندلعت الثورة العراقية (1920) شرعت القبائل من ألبو هيازع في تخريب السكة الحديدية، فتعطلت المواصلات بين العراق وايران، وهو ما أراده زعماء الثورة وانقطع سير القطار فوراً. وشعر الحاكم السياسي في بعقوبة بالخطر يحيط به فخرج هارباً منها فاحتلها الأهلون وأقاموا السيد محمود المتولي حاكما عليها، واتخذوا دار الحكومة مقراً للحكومة، ورفع الضابط الكركوكي حسين علي العلم العراقي عليها. وأما في دلتاوة، فأن حاكمها الكابتن لويد الذي ناب مناب الميجر - هايس- في حاكمية بعقوبا ، ما كاد يعود إلى مقر عمله حتى قبض عليه الشيخ حبيب الخيزران وعلى مهندس الري – المستر أستراخن- وموظف آخر يدعى –المستر ديكان- وأعتقلهم جميعاً في (دلي عباس) بعد أن وفّر لهم أسباب الراحة والعيش الهنئ، وما لبث أن احتل دلتاوة.

وعلى الضفة الأخرى من نهر ديالى على مسافة (2 كم) من الجسر كانت معسكرات الآشوريين الذي نزحوا من (أورمية/ تركيا) فأنزلهم الانجليز في هذا المحل، فاستخدمهم الجيش البريطاني في مكافحة الثوار في هذا اللواء. وكان الطريق بين بغداد وبعقوبا فدلتاوة تحت سيطرة الانجليز، وقد سخروا النساطرة التياريين - المعروفين اليوم بالآشوريين والأرمن- اللاجئين للحفاظ على الطريق وقطعه على الثوار ومحاربتهم. ولما لم تكن الأسلحة المتيسرة بين أيديهم كافية للاستمرار في القتال بعثت القيادة من بغداد قطاراً خاصاً يحمل العتاد والسلاح والأرزاق فاستطاع الثوار أن ينسفوا هذا القطار على مسافة (6 كم) من بعقوبا. بيد أن الانجليز قد جمعوا جراميزهم وأعوانهم وأعادوا الكرة على بعقوبا فاسترجعوها. حيث تمكنت حامية الجسر من احتلال المدينة في [29 أوغست 1920] وصدر البلاغ التالي (عدنا فاحتللنا بعقوبة بدون صعوبة وقد خرجت قوة للاستطلاع في (تورة) فوصلت قزلرباط). وبعد احتلال مدينة بعقوبا من قبل الانجليز انضم الثوار إلى منطقة دلتاوة فأخذ الانجليز يرسلون عليها وعلى الثوار طيارات ثلاث مرات يومياً تلقي عليهم القنابل وترهب وتخيف الأهلين تمهيداً للهجوم عليها. وفي اليوم العاشر من محرم سنة 1339 هـ الموافق 25 أيلول/ سبتمبر 1920 وكانت الأكثرية من أهل دلتاوة مشغولة بالاحتفال الحسيني احتل الانجليز دلتاوة وقاموا بتصفية الثورة. وقد أحرقت بيوت جميع الذين اشتركوا في الثورة في دلتاوة وصودرت أموالهم ثم انتقل الجيش إلى السندية تسنده الطائرات من الجوّ والمدافع من البرّ، وفي 28 أيلول/ سبتمبر 1920 احتل الجيش قرية قزلرباط دون مقاومة وبذلك انتهت الثورة في لواء ديالى.

لقد نبّهت عمليات ثورة العشرين في (محافظة) ديالى الانجليز إلى الأهمية الستراتيجية لموقع مدينة بعقوبا فسعوا إلى تكثيف الوجود العسكري وتعزيز الحامية فيها وفي جلولاء، تينك المدينتان اللتان أسهمتا فيما بعد إسهاماً مباشراً في الأحداث السياسية والعسكرية في العراق بدء من انقلاب بكر صدقي (1936) وحركة رشيد عالي الكيلاني التحريرية (1941) حتى تنظيمات الضباط الأحرار التي فجرت ثورة (14 تموز 1958) وتأسيس الجمهورية في العراق.

[عن.. المبحث الأول من الفصل الثاني- الباب الأول من كتابنا عن (يوسف عزالدين.. شعره وتجديده) الصادر عام 1993 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.]

ان أحد معطيات القرب الجغرافي من العاصمة السياسية يمنح المدينة دوراً أكبر في التأثير في الحياة السياسية للعاصمة. وهو ما يمكن الركون إليه في الحياة السياسية للعراق الملكي وفجر الجمهورية بشكل أو آخر، عبر المشاركة في أحداث ثورة العشرين في الاحتلال الانجليزي الأول وما ترتب عليها، أو أحداث حركة مايس عام 1941 التحررية بقيادة رشيد عالي الكيلاني ضد الانجليز، والتي تبلورت في 14 تموز 1958 بحركة عسكرية للقوات المتجحفلة في مدينتي جلولاء ومعسكر سعد في بعقوبة واعلان الجمهورية. ويشخص الباحث منير العبيدي عدداً من الملامح والمؤشرات السياسية في المدينة، ومنها:[نوادي ثقافية بدائية مقرها المقاهي، رابطة لمكافحة الصهيونية في بهرز، أول تنظيم للحزب الشيوعي أواخر الثلاثينات، أول مكتبة حزبية تابعة للحزب الشيوعي كانت في بهرز كما سمعت من المرحوم عبد الوهاب الرحبي .

و الأمور على نفس المنوال بهذا القدر أو ذاك في الهويدر مثلاً، فمرشح البرلمان في انتخابات 56 كان د . طلعت الشيباني الذي استوزر بعد ذلك في زمن قاسم. (بينما) الشخصيات السياسية المتحدرة من الجنوب كانت تعتمد على أسس اجتماعية مختلفة.]. ويروي الدكتور قاسم بريسم في كتابه (الشرارة والرماد) عن أحداث انتفاضة مارس 1991 في مدينة البصرة أن بدايتها كانت في منطقة التنومة عندما وقف أحد الجنود أمام دار مسؤول حزبي بعثي وصرخ بعلو صوته معلنا مقتل صدام، فانطلقت رصاصات من البيت المذكور وأردته قتيلاً. وقد تعارف السكان على هوية القتيل وبطاقته بأنّه أحد جنود الجيش العراقي من أهالي ديالى (ص91). بالاضافة إلى بعض الرموز السياسية والعسكرية مثل علي صالح السعدي الأمين القطري الثاني لحزب البعث بعد فؤاد الركابي والذي أبعده عساكر 1963 عن القيادة في تموز من ذلك العام مع غيره من الجناح المدني ليكون بذلك نهاية التيار المدني في حزب البعث الذي اندرج تحت سلطة العسكر أولاً ثم انزاح للتكارتة، حيث (التكارتة غدوا قلب الدائرة، يحيطهم إطار من تكارتة غير بعثيين، وبعثيين غير تكارتة.) ص57- كتاب بعث العراق. ولم تكن مناطق ديالى ضمن [المثلث الذهبي] الذي شكل دعامة القوة الأمنية والعسكرية للدكتاتورية، وهي المتعارفة بتكريت والموصل والرمادي. وعلى غرار ما عرف بقضية الدجيل (1982) التي كانت أولى لوائح اتهام محاكمة أركان النظام السابق بعد سقوطه تعرضت منطقة (جيزاني الشطّ) في قضاء الخالص لعملية استئصال أمني بنفس الظروف والمبررات.

وباجتماع خاصة القرب من الحدود الشرقية، الذي ميّز مملكة أشنوناك، أو القرب الجغرافي من العاصمة السياسية في أحداث القرن العشرين، يمكن فهم سبب اتخاذ هذه المدينة أحد المعاقل الرئيسة لأحداث العنف الأهلي والسياسي منذ اكتوبر 2003 في ظل الاحتلال الثالث لعراق.

صورة مخطط المدينة

فيما سبق توصيف مركز مدينة بعقوبا الأصلي بالشكل المربع أو الرباعي محدداً أركانه بقنطرة خليل باشا (أو مدرسة الوثبة إلى الخلف منها) ومركز شباب بعقوبة على تقاطع طريق بهرز مع طريق بغداد الرئيسي وموقع معسكر سعد على امتداد طريق بغداد قبل تقاطع مندلي، إلى مدرسة الأمين في العمق (أم النوه). وموقعها على الجانب الأيسر من طريق بغداد- شهربان على جانب بناية المحافظة والأعدادية المركزية ونادي الضباط (حسب التوصيف القديم).

لتوصيف أجزاء المدينة نجد أن علامة صليب (+) تقسم المربع الكبير إلى أربعة مربعات أساسية ثم مربعات ومضلعات أصغر. نجد أن شارع النصر الممتد من ضفة خريسان يستمر حتى نهاية المدينة (سابقاً) حيث المستشفى الجمهوري القديم ومبنى السجن عبر الشارع الواصل بين ساحة الأمين وطريق بغداد الرئيسي. بينما يقطعه شارع متعامد معه في ساحة المكتبة العامة وفي الجهة الأخرى منها مدرسة التطبيقات الابتدائية. يمتد هذا الشارع في الجهتين، جهة السوق متقاطعاً مع شارع الحسينية وشارع النعمان وصولاً إلى شارع عمر عبد العزيز. وفي الجهة المقابلة بعد ساحة المكتبة تجاه المحافظة ولكنه ينتهي في الساحة التالية التي يقطعها شارعان أفقيان يصلان خريسان من جهة وفي الاتجاه المعاكس نحو كراج سيارات شهربان وجلولاء الجديد.

لدى الأهلين يعتبر شارع الحسينية هو الشارع الرئيسي في المدينة الذي يقع على جانبيه أسواق المدينة المختلفة بدء من الكهربائيات والألبسة والأحذية والأقمشة والعطور والمصوغات حتى أسواق الخضر والفواكه قرب تقاطعه وبعدها قرب جامع الفاروق. يمثل جانب السوق المحصور بين شارع الحسينية وشارع عمر عبد العزيز من جهة وبين مجرى خريسان والشارع الموازي له داخل السوق بين ساحة المكتبة وشارع عمر، الجانب الرئيس والنواة الأقدم في كيان مدينة بعقوبا وفيها البيوتات الأثرية القديمة، وهي تقابل بيوتات منطقة السراي الصخرية عبر مجرى نهر خريسان. وتتسم محلات هذا السوق بصغر حجمها وضيق درابينها ومسقفاتها لكنها تفتقد الرعاية العامة من البلدية والأهلين. وفي قلب هذا السوق حيث تنتشر الدور السكنية القديمة كانت دارة طبيب يهودي كبير السن، قدمنا إليه ذات ستينياتئذ، لمعالجة نزيف أنف أخي المتكرر، وقد نصح بوضعه على فراش كان على الأرض وأحرق قطعة من القطن ونحن ننظر إليه منتظرين أن يوقف نزيف الدم أو يصف لنا دواء مختبرياً. أطفأ قطعة القطن وهي نصف محترقة وقطعها قسمين ثم لفّ كلا منها في شكل لولب ودسّه في منخري أنف أخي وطلب أن يبقى ساكنا مدة. بعد قليل توقف نزف الدم وبقينا ننتظر، فابتسم وكانت زوجته إلى جانبه، أعطانا كمية من القطن وشرح كيفية العمل إذا تكرر النزيف، والأهم في ذلك أن يستلقي الشخص لتخفيف النزيف. خرجنا من دارة الطبيب ونحن نشعر بامتنان عميق كأننا حصلنا على سرّ الحياة. بعد ذلك لم نعد نتخوف من تكرار النزف في حرارة القيظ أو حدوث طارئ. وبعد سنوات قليلة اختفت الحالة نهائياً. الطريف أن مستوى هذه المنطقة مرتفع بحدود المترين عن مستوى الشارع المحاذي لخريسان، وهذه الواجهة كلها محلات ودور سكنية، وهناك افتتحت الأسواق المركزية (أورزدي باك) في السبعينيات وكان الصعود إليها من جانب خريسان بسلم. ومن المحتمل انها موقع قلعة قديمة شأن القلاع القديمة التي كانت في عديد من مدن العراق القديم مثل قلعة كركوك وقلعة أربل والتي تدور حولها بعض أغنيات المطرب التركماني الراحل أكرم دوزلو. وقد تم تحديث الجانب المحاذي منه لشارع الحسينية بمنظومة أسواق داخلية حديثة مثل أسواق الذهب. وفي الجهة الداخلية منه كان موقع (كراج) نقليات الداخل. ومبنى مدرسة ديالى الابتدائية وثانوية الانتصار. أما القسم المقابل له فهو الواقع أمام مدرسة ديالى / الانتصار والمحصور بين شارعي النعمان وعمر عبد العزيز امتداداً نحو ساحة الأمين في صورة مثلث طويل الساقين. في نهاية المثلث كانت (سكلّه) كبيرة وماكنة ثلج بيت الديري التي كانت تزود المدينة بالثلج قبل انتشار البرادات والمجمدات وازدادت أهميتها أيام حرب الثمانينيات لتزويد القواطع العسكرية القريبة في مندلي والقاطع الأوسط بالثلج.



ينتهي شارع الحسينية بقنطرة فوق نهر خريسان للضفة المقابلة. ولكن قبل القنطرة وفي نقطة الزاوية ثمة مبنى مصرف الرافدين وبجانبه مقهى لانتظار المراجعين. وهذا القسم المحصور بين شارعي الحسينية والنصر له شكل مستطيل وعلى جانبي شارع النصر محلات وأسواق عديدة. ولعل أشهر نقاط الشارع كانت بناية السنما والمكتبة العامة ومحلات التصوير. وفي بداية الشارع من جهة خريسان افتتحت مكتبة الدار الوطنية للكتب والمطبوعات بداية السبعينيات وكانت متميزة بالتنظيم وطريقة عرض الكتب والموظفات العاملات في البيع حسب وصولات رسمية. ومع بيعها للقطاع الخاص فقدت الدار أهميتها وتميزها. ونسبة الدور السكنية أكثر نسبياً من عدد المحلات هنا. وهكذا تستمر صورة مركز المدينة في هيئة مستطيلات أو مضلعات ومثلثات محاطة بشوارع مسفلتة عريضة تتقدم واجهاتها محلات ودوائر وخلفها الدور السكنية.

ويلحظ المتتبع اضطراد توسع مساحة السوق وامتداداته وزحفه على كثير من المناطق السكنية، وبينما كان السوق محصورا بشكل رئيس حتى السبعينيات بين جانبي شارع الحسينية، ازداد عدد الأسواق وتعددت أماكنها خلل الأحياء السكنية وفي كل الاتجاهات.

*

النمو الديمغرافي والتوسع الأفقي في السكن..

كانت أطراف بعقوبا الخارجية شبه خالية حتى بداية السبعينيات. ثم نمت نمواً سريعاً مع الزمن وفي ثلاث اتجاهات أو مناطق رئيسة. أولها منطقة (مدينة) التحرير المقابلة لمبنى المحافظة أو جهة محطة القطار والتي تبدأ من ضفة نهر خريسان أي كراج بغداد الكبير على امتداد جانب طريق بغداد حتى بيوت الادارة المحلية والمعسكر. والمنطقة الثانية هي الضفة الثانية من نهر ديالى المسماة (بعقوبة الجديدة). والتوسع العمراني في كل من هاتين المنطقتين (التحرير وبعقوبة الجديدة) خضع للتنظيم والتخطيط العمراني وحسب تصاميم أساسية تحدد خرائط الشوارع والمنشآت الحكومية والأحياء السكنية، وكانت عرصات الأراضي معروضة للبيع أضافة إلى تحديد تصاميم البيوت ومادة البناء (الطابوق أو البلوك). ويمكن الملاحظة أن أثر التنظيم بقي منسجما مع بقية أجزاء بعقوبا الأقدم. مع الاشارة إلى انتشار النخيل في هاتين المنطقتين وقيام السلطات بتفطيعها لتكون مراكز للسكن. أما المنطقة الثالثة فهي أمتداد (أم النوه) المحصور بين طريق السادة خلف مدرسة الأمين وبين معسكر سعد. ولكن سرعة التوسع فيها لم تكن بمستواها في التحرير وبعقوبا الجديدة.

ان إطار هذا الموضوع لا يتجاوز فترة السبعينيات، بيد أن التوسع الدمغرافي والسكني لم يتوقف عند هذه الحدود بعد السبعينيات، فالانفجار السكني حصل في الثمانينيات وبالشكل الذي استمرت بعقوبا الجديدة تجاه بغداد على الطريقين القديم والجديد بحيث ارتبطت المدينتان من جانب مدينة الشعب أو تل محمد. وفي هذه الحالة يلعب انتشار وسائل النقل وتوسع شبكاتها دوراً في الابتعاد عن مراكز المدن إلى الأطراف، أو بمعنى آخر، إلى مراكز أخرى، فطريق بغداد يتوسط ثلاثة مراكز هي بعقوبا – الخالص – بغداد، حسب التقسيمات البلدية للتوسع السكني بينها.

بعقوبا .. سيرة مكان
( القسم الخامس)


الخصائص الاجتماعية والعلاقات العامة ان قرب مدينة بعقوبا من العاصمة قد وسمها بكثير من الملامح الاجتماعية والحضارية للعاصمة نتيجة عوامل عدة، أولها تعاطيها المباشر معها على مختلف الصعد والميادين أكثر من أي مدينة أخرى. وقد انعكس ذلك على المظاهرالاجتماعية فيها عبر عدة نقاط، هيمنة الطابع الحضري رغم بيئتها وتوسطها منطقة زراعية. وأهلها عرب رغم قربها من الحدود الايرانية شرقاً، ومناطق التعددية الثقافية شمالاً. وتمتاز بالتعددية الدينية وحرية ممارسة الشعائر والطقوس. ويذكر الكاتب منير العبيدي وجود معبد للبهائية في منطقة "العواشق" قبل صدور قرار حكومي منعها وتجريمها. وكانت فسيفساء النسيج الاجتماعي لحواضر ديالى ملونة ومتنوعة في انسجام وتناسق، قبل الحكم العسكري والقومي الشوفوني الذي جعل وتيرة هجرة الطوائف الأخرى نحو الخارج في تصاعد مستمر مع تقادم العهد ، ليبلغ أوجّه خلال التسعينيات ثم في عهد الاحتلال، شاملاً أبناء الأكثرية ضمن رؤية لتفريغ البلاد من غير الموالين للحكم السائد. ان استخدام أو تسويغ مصطلح الأقلية أو الطائفة يستند إلى مرجعية إحصائية علمية، وليس إلى أي خلفية عنصرية أو شوفونية استعلائية، ولا يجوز إغفال ما لهذه الطوائف والأقليات من جذور عريقة وصلات تاريخية بسكان البلاد الأصليين من آلاف السنين كالمندائيين والآراميين والسريان واليهود الذين لم ينص أي دستور عراقي على الاعتراف بوجود غير العرب والكرد وضمان الحماية والرعاية لهم إزاء السياسات العامة وممارسات المجموعات العرقية الأكبر والأكثر نفوذاً في البلاد. وأذكر هنا مقولة غربية - لا يحضرني إسم قائلها-، ترى أن مجرد وجود (أكثرية) في بلد ما يشكل تهديداً (ضمنياً) للأقليات المجاورة، حتى لو لم يصدر من الأكثرية شيء مباشر ضدّها. وهذا يشدّد من ضرورة النص والتحديد القانوني ووضع ضمانات إضافية تحمي الاقليات. وهو ما يبرر بعض المطالب الكردية الاضافية على العهد الجديد رغم نص القانون العراقي منذ فجر الجمهورية على شراكة العرب والكرد في [الوطن العراقي]. بالمقابل واجه وضع القانون الجديد (عام 2005) جملة مطالب واحتجاجات من الأقليات الأخرى للاعتراف النصي بوجودهم وحمايتهم وحقوقهم مما قوبل بأذن صماء، رغم حصول الموافقة البرلمانية على القانون. ولعل المنطق هنا يتساءل عن مدى شرعنة برلمان ما، يخضع لطغيان الأكثريات بينما توجد فئات سكانية لا تؤهلها نسبتها العددية لايصال عضو واحد تحت قبة البرلمان، وماذا يساوي عضو واحد مقابل ما يزيد على مائة عضو أو سبعين عضو للأكثريات. وهو ما يؤكد حقيقة التهديد المباشر وغير المباشر، وفي الاطار الرسمي والبرلماني والأهلي ضدّ الأقليات، ولعل سياسة التطهير العرقي والطائفي المستفحلة منذ سنوات، بغض النظر عن أغطيتها وشعاراتها، تتكشف يوماً بعد يوماً، ليس على صعيد القتل والتهجير القسري، وانما تصفية التوزيع الدمغرافي داخل المستوطنات العراقية على أسس طائفية وعرقية بغيضة. ويذكر الكاتب حازم صاغية أن الطائفة اليهودية [التي تعود إلى ماضٍ يرقى إلى 2700 سنة، شكّل أفرادها، مطالع القرن الماضي، 20 في المائة من مجموع سكان بغداد،.. (ص68) ..، إلى أقلّ من خمسين مسناً اليوم.(ص69)]. بالمقابل ليس من الصحيح واقعياً أو منطقياً فرز بعقوبا أو مناطقها وفق لوائح التشكيل السني - الشيعي أو العربي – الكردي، كما جرى عليه واقع الصراع والتوسع الطائفي والمذهبي في ظلّ الاحتلال. ليس لخصوصية الموقع الجغرافي لمناطق ديالى التي تتماثل أو تعكس خصوصية موقع العراق داخل مثلث قومي طائفي [عرب- ترك- فرس]، بشكل يميزه عن البلاد الأخرى؛ وانما بشكل أدقّ وأكثر موضوعية، هو عدم صلاحية الأسس المتبعة في تقسيم البشر في خانات القومية والدين والطائفة، والتي تخضع لعوامل الجغرافيا والتاريخ ومعادلات النفوذ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المتغيرة تبع الظروف البيئية وحاجات الانسان وطبيعة الأنظمة الشمولية. ففي كتابه الموسوم (الرصافي يروي سيرة حياته) يتحدث عن عشيرة والده قائلاً [وعشيرة الجباريين عشيرة كردية تقع منازلها فيما بين كركوكوبلدة السليمانية، والجباريين قوم سادة برزنجية يلبسون العمائم الخضر شعار الهاشميين، فأنا سيد في الأصل من بني هاشم. وعلى ذكر الجباريين نقول أن هناك عشائر عربية كثيرة في كردستان مستكردة منها:

1- الدراجيين: وهم عرب فمنهم قسم في كردستان يتكلمون الكردية ولا يعرفون العربية، وقسم في سامراء، وفي لواء الدليم ويتكلمون العربية.

2- الخوالد: وهم حمل عشيرة شمّر جربة الآن، ويستوطن كردستان منهم أقوام كثيرة، والشارة العامة عند الطرفين (العركات) وهو الخشب الذي يحمل الدلو وشكله صليب متوازن.

3- البرزنجية: وهم سادة من النعيم يستوطنون كردستان ويتكلمون الكردية.

4- العبيد: الذين يسكنون كركوك الآن، مستكردين مع أنهم من صميم العبيد.] المصدر / ص63- 64 .

وقد أيَّد ذلك الاستاذ الشاعر المعروف مكي عزيز [1911- 1999] صاحب جريدتي العرب والنذير في العهد الملكي في لقاءاتنا المشتركة في مقهى الزهاوي –أواخر الثمانينيات- لدى سؤالي عن سيرته وحياته مؤكداً كونه من مواليد منطقة برزنجة الكردية وعشيرته البرزنجي فرع من النعيم السادة. مع كونه علمانياً ناصراً للهاشميين وقف عليهم معظم شعره المنشور في دواوين. على صعيد مقابل، فأن اتباع طقوس الشيعة للقاطنين في بيئة شيعية ، مثل اتباع طقوس سنية للقاطنين في بيئة سنية، عند انتقال بعض الأشخاص بحكم العمل أو المصاهرة أو الاضطهاد. والذاكرة الاجتماعية الشفاهية غنية بالأمثلة، بينما يورد الباحث اسحق نقاش في كتابه القيم (الشيعة) أن ظروف النزاع العثماني الفارسي كانت تترك آثارها على المجتمع العراقي شدّاً وجذباً إلى هذه الجهة أو تلك. وقد ازدادت ظاهرة (التشيع) بين القرن الثامن عشر والتاسع عشر، للتخلص من دفع الضريبة لولاة العثمانيين ومن الخدمة العسكرية في حروب آل عثمان الكثيرة. وقد وقع قسم من هؤلاء في فخ التبعية (الفارسية) في قوائم النظام البعثي السابق ممن لم يحصلوا على وثائق ثبوتية عثمانية المعتمدة أساساً للحصول على الجنسية العراقية. ومعروف أن التشيع الايراني ارتبط بقيام الدولة الصفوية وخلفيات صراعها مع الدولة العثمانية المتبعة للمذهب السني. وأخيراً.. لا بدّمن الاشارة إلى أثر (التقليد) و(العادات الاجتماعية) أو ما يضاهي الموضة ليس في الأزياء والسلوك واللغة وانما مظاهر التعبّد والقناعات، وهو ما رآه الرازي في تعليله ظاهرة التدين أو انتشار الدين بالتقليد وطول الألفة الذي يحول العادة إلى طبيعة!/ أدونيس- الثابت والمتحول. ومراجعة التاريخ البشري قائمة على تحول الأفراد والجماعات من دين إلى دين ولغة إلى لغة ومن بلد إلى بلد وعصبية إلى عصبية، مما يدعة للتأني والتأمل والتخفف من حمأة العصبيات الدينية والطائفية والعرقية، رحمة بالنفس والحياة والبشر.

وكما سبقت الاشارة كان في المدينة مسجدان قريبان من بعضهما لكل من المذهبين، وكانت طقوس احتفالات عاشوراء تقام في المدينة حتى تاريخ منعها عام 1977. وكان الجميع يشتركون في تلك الطقوس في مودة وانسجام، لا تتناسب مع ما أشيع في ظل الغزو ووصف المصادر الأميركية لها ضمن مصطلح [المثلث أو المربع السني] في خطوة فاشية لتقسيم النسيج الاجتماعي والدمغرافي للبلاد حسب وصفات طائفية عرقية مغرضة، وهو الأمر الذي فشل الانجليز فيه قبل ذلك بقرن. وهذا ما يراه الاستاذ منير العبيدي في مداخلته قائلاً [أثني على كلامك من أن مواكب العزاءات الحسينية كانت أشبه بالكرنفالات و كان يشارك فيها الشيعة و السنة، و يروي لي طيب الذكر كريم حسن علو أن أحد أعمامه و هو من السنة كان يتبرع بتزويدهم بمولدة كهرباء متنقلة تسير مع الموكب.] وقد أوردت مصادر أمريكية أن عدد سكان بعقوبا انخفض من 280 ألفاً عام 2003 (بدء الاحتلال) إلى 240 ألفاً أوائل 2006 أي خلال ثلاث سنوات، بينما تذكر إحصائيات دورية مستمرة لوزارة المهجرين والمهاجرين أن عدد العوائل (وليس الأفراد) وصل إلى 26858 عائلة مطلع شهر يوليو 2006. والملاحظ أن البيانات الأخيرة، تتجنب ذكر أسباب التهجير والخلفيات والمرجعيات الطائفية والعرقية للطارد والمطرود، ليس تعففاً، وانما تفادياً لاحراج مراكز النفوذ، سواء كانت في السلطة أو الشارع. وهذا ما يزيد نسبة خطورة مصير الأقليات غير المسنودة سياسياً ودولياً أو داخلياً كالتركمان والصابئة واليهود والأيزيدية والشبك والمسيحيين والأرمن والبهائية والعلىاللهية والعلوية وغيرهم ممن قد لا تتوفر معلومات وإحصاءات كافية عنهم. بينما يشير وجود مقبرة لليهود في بداية المدينة، كما يذكر الاستاذ منير العبيدي، أزيلت وأقيم على أنقاشها مركز شباب بعقوبة، إلى نسبة السكان من اليهود في المدينة، هذه المقبرة القديمة، لا تبعد سوى خمسمائة متر من مقبرة ثانية على طريق بهرز حيث مقام رجل صالح، في إشارة لمدى الانسجام الاجتماعي والروحي، ومن يدري، ربما كانت مقبرة واحدة كبيرة، تخذ اليهود جانبها الأيمن والمسلمون جانبها الأيسر، وموقعها في الجزرة (من / جزيرة) بين شطّ ديالى وجدول خريسان. كما كانت المدينة ملجأ للجماعات المضطهَدة حسب قول الدكتور مصطفى جواد عن الأرمن المهجرين من بلاد تركيا والذين استغلهم الانجليز لخدمة أغراضهم، وتأسيس قواعد شقّ نسيج التسامح الاجتماعي والأثني في البلاد.

وعلى العموم، يتشكل التكوين الاجتماعي للمدينة من جملة الهجرات التاريخية المتعاقبة منذ آلاف السنين حتى اليوم. ولا بدّ أن الانسان الأول كان مهاجراً قبل أن يجد الظروف المشجعة على الاستيطان والاستقرار والتعلق بالمكان والهوية. وحرية حركة الأفراد والتنقل واختيار المسكن والعمل من النصوص التي ضمنتها التشاريع القديمة وميثاق الأمم المتحدة لحقوق الانسان. طبيعة الهجرات الوافدة إلى ديالى تشي بأن مستهدفيها من المناطق الغربية والشمالية للبلاد هم النسبة الغالبة. ولعشائر العزة والعبيد والدليم والتميم والقيسية والسوامرة أثر بين في المنطقة أكثر من سواهم. دون انعكاس الطابع القروي والعشائري على السمة الحضرية . ويؤيد الباحث منير العبيدي ذلك بقوله [ ما ذكرته كان صحيحا حول ضعف الروابط العشائرية ففي الخمسينات كان الكثيرون في بهرز وبعقوبا لا يعرفون ما هي عشائرهم و لا يهتمون بها ، و لكنها ازدهرت بالمعني السلبي المقيت للكلمة في ايام النظام السابق و اكتسبت قوة اضافية في الظرف الراهن بسبب ضعف الدولة و فوضى ما بعد الاحتلال.] [فالباحث في أصول العوائل سيجد أن بهرز مثلا كان ملاذا للأرمن و اليهود و هنود و أكراد و أتراك و لا تزال هناك محلة في بهرز تحمل اسم محلة الهنود ، و بعض عوائلها لا تزال تحمل ملامح هؤلاء الاقوام و كان هناك جالية يهودية كبيرة نسبياً.]. وعموماً [و ضمن نفس السياق فان التركيبة السكانية للمحافظة تشبه الى حد كبير تركيبة العراق و اعتقد ان الشيعة اغلبية ، و هي تضم اكرادا و تركمان و فرس و عرب شيعة و سنة ، و فيها سابقاً يهود و هناك أيضاً مسيحيين و صابئة و كانت مركزاً لانتشار البهائية حتى صدور قانون بمطارتهم و الحكم عليهم بالموت من قبل السلطة السابقة و بعض هؤلاء كانوا قياديين في حزب البعث فصلوا بسبب الشك في ولائهم . و أنا أعتقد أن هذه الطائفة لا تزال مستمرة في طقوسها بشكل مستتر.] منير العبيدي (م. س)

يتكون مجتمع بعقوبة من ثلاث فئات اقتصادية، أهالي البساتين والأراضي – الحرفيين والتجار – الموظفين في الأجهزة والدوائر الرسمية. واستقرار هذه القطاعات وعدم تعرضها للتغيرات الطارئة أو التأثيرات الخارجية ساعد على إشاعة الاستقرار والسلام والأمن داخل المدينة واستمرار وتيرة الحياة بعيداً عن التغيرات السياسية في العاصمة، أو المظاهر العسكرية في المناطق الشمالية والحدودية، أو الهزات الاقتصادية والكوارث الزراعية ما خلا الفيضانات التي تشدّ النسيج الاجتماعي لمواجهتها ووضع الموانع والتعليات الترابية لتقليل من آثار ها التدميرية. وكانت الملابس المدنية العصرية هي السمة السائدة تليها الملابس العراقية التقليدية [صايه وزبون مع عقال و كوفية] وهي سمة أهل البساتين وبعض الحرفيين بينما الملابس العصرية سمة للعاملين في وظائف رسمية أو طلبة المدارس والجامعات. أما أزياء النساء فكانت متشابهة وهي الثياب العصرية أما العباءة (السوداء) فكانت تمثل دالة على مستوى التعليم. فالطالبة والمعلمة والموظفة في السلك الرسمي لا ترتدي العباءة، بينما معظم ربات البيوت سيما من كبار السن والأقل تعليما يتمسكن بها ولا يخرجن بدونها. ومثلما كان الاستقرار والأمان والتوازن صفة الحياة في المدينة فقد كان الاعتدال واللياقة صفة عامة للمظاهر السلوكية والأزياء الخارجية.

ان العلاقة بالأرض أو العمل والوظيفة كانت قاعدة الارتباطات والعلائق الاجتماعية، أما العلاقات القرابية العائلية أو العشائرية فهي أقل نفوذاً. ولم يعرف تركز أو تمركز فئة عشائرية معينة في زقاق أو محلة كما في مدن أخرى جنوب العراق. فالتركز العشائري أو النفوذ القبلي صفة للقرية والمجتمع القروي. بالمقابل ، قد يشعر الزائر أو الطارئ على المدينة شيئاً من الجفاف في العلاقات الاجتماعية القائمة على أسس العمل والحياة المشتركة وإشباع الحاجات الذي يضمنه النظام الاقتصادي والاداري للمدينة، لكن انعدام (الحميمية) كان بالمقابل ركيزة لمزيد من الاستقرار النفسي والاجتماعي لابتعادها عن التغيرات الانفعالية والانقلابات العاطفية والمزاجية. فمعرفة الشخص والعائلة لحدودها الشخصية والتزامها بها واحترام حدود المقابل وعدم الانجرار في المجاملة والعاطفية سمة من سمات الحياة والوعي المدني الأساسية، أنقذ المدينة من كثير من الخلافات الاجتماعية والاشكالات التي كانت غالباً تتخذ طابعاً مسلحاً وتهديداً مستمراً في المناطق ذات المرجعية العشائرية حتى الوصول إلى وساطة وهدنة (فصلية) بين الطرفين.

كان الاحترام العام رسالة عامة بين قطعات المجتمع. بين كل فئة من الفئات وبينها وبين أبناء الفئات الأخرى. ولم تجد فئة نفسها أفضل من غيرها أو أرقى مرتبة. وكان زوار المدينة من الأطراف لأعراض تجارية أو مراجعات صحية يحظون باحترام ومساعدة، فـ(للغريب) على جو المدينة مكانة ورعاية خاصة باعتباره (صاحب حاجة إنسانية)، وهي صفة عامة في طبيعة المجتمع العراقي. وفي نفس الوقت كانت العشائر والقرى ومنظوماتها القيمية والاجتماعية تحظى باحترام وعدم منابزة لدى أهل المدينة. ان الخصائص والتقاليد الاجتماعية التي لمستها ودرجت عليها في المدن التي عشت فيها، كانت سبباً في اختلافي مع رأي فئة ذات مرجعية جنوبية تحدثت عن نوع من التفاوت والتنابز الاجتماعي والطبقي بين الفئات الاجتماعية حسب اختلافها العشائري أو الطائفي أو مستواها الوظيفي والمادي.

ضمن هذا المنظور كانت بعقوبة بيئة حاضنة آمنة. وهذا أغرى بعض من لديهم (إشكالات) معقدة - سياسية أو عشائرية- في مناطقهم القديمة أو (العاصمة) للالتجاء والانضواء في جو هذه المدينة . ورغم معرفة بعض السكان بقصص هؤلاء (النفر)، لم يكونوا يميزونهم في المعاملة أو يستثيرونهم. فكنت تجد الحرس القومي والشيوعي والكردي والتركماني وعوائل من مناطق سامراء أو الموصل أو الرمادي أو البصرة في نسيج يوميات هذه المدينة بدون أية إشكالات أو منغصات . من جهة أخرى، قرب بعقوبة من العاصمة لم يجعل منها مدينة ظل أو امتصاص واستقطاب أو انعكاس لما يجري هناك من صراعات وصرعات ومظاهر سياسية أو عسكرية أو اجتماعية. ورغم الأحداث المؤسية والانقلابات السياسية الحادة فقد استمرت وتيرة الحياة دون اضطراب واهتزاز رغم أن بعض الهاربين من تلك الأجواء يلتجئ إليها. وفي هذه النقطة، لعبت ظاهرة البساتين نفس الدور الذي مثلته (أهوار) الجنوب. فقد كان بعض (المعارضين) أو (المطلوبين) يختبئون في البساتين. ويستطيعون الانتقال من بستان لأخرى ومن مدينة لأخرى خلالها أو استخدام مجرى نهر ديالى الواقعة على ضفافه إذا تطلب الأمر. وقد عثر على أنفاق وكهوف داخل بعضها، ومن الطريف أن الحكومة (السابقة) لم تفعل مع بساتين ديالى ما فعلته مع (تجفيف) أهوار الجنوب لوضع حدّ للمعارضة المسلحة المتخفية في أحراشها وقصبها. ومن أشهر الحوادث التاريخية المعاصرة القاء القبض على رئيس وزراء العراق في حركة واحد وأربعين التحررية ضد (الانجليز) وهو يحاول عبور الحدود إلى ايران، وبعد خمسين عاماً على ذلك، في خضم الهجوم الأمريكي على العراق في يناير 1991، كان طاقم الحكومة السياسي والاداري مع حاشيتهم يتوزعون مناطق ديالى القريبة من الحدود للافلات إذا سقطت بغداد. وقد تراجعت هذه الأهمية بعد فتح الحدود والعلاقات مع سوريا، وعادت لاكتساب أهمية أكثر خطورة بعد الغزو الأمريتاني (مارس 2003) لاختراق حدود ديالى الشرقية المستمر من قبل المخربين الوافدين من جانب ايران وأفغانستان وبالتواطؤ والاتفاق مع الحكومة والمخابرات الايرانية، فتغيرت صورة المدينة من السلام الآمن إلى واحدة من مدن الجحيم والأشباح، واشتهرت أسماء (بعقوبا) و (بهرز) و (مندلي)، كمدن عالمية أشهر من كثير من دول لا ترد في الأخبار. ولا يتردد التقرير الأمريكي في الاعتراف بانخفاض عدد سكان المدينة قبل الغزو (280000) نسمة في بداية 2003 إلى (240000) نسمة عام 2005 أي بعد عامين من الغزو، جراء سيطرة الأمريكان وأعوانهم من الأرهاب وتدمير مناسيب الحياة في المدينة.

بعقوبا .. سيرة مكان
( القسم السادس)

الحياة الثقافية والاجتماعية في بعقوبة

تدين الحياة الثقافية في بعقوبة لأجيال من الأدباء والمثقفين الرواد والعصاميين الذي نبغوا بين بساتينها ومقاهيها وانتقلوا إلى العاصمة ليكونوا جزء من حياتها ويطبعوا بصماتهم العميقة في ثقافتها. فالعلامة اللغوي المشهور مصطفى جواد صاحب (قلْ ولا تقلْ)، والأساتذة يوسف عزالدين السامرائي ويوسف عبد المسيح ثروت وعبد المجيد حسيب القيسي ومحمد جميل شلش وخضر العزاوي وحسين مردان وعبد الرزاق الخالدي ومحي الدين زنكنه وغيرهم. وفي السبعينيات كان للفنانين المسرحيين سالم الزيدي وموسى الخالصي فرقة بعقوبا للتمثيل، والرسام علي الطائي والموسيقيين خالد العزاوي وكامل متي وعباس الدوري والشعراء حميد الخفاجي وأديب البكري ووديع العبيدي. لقد كانت العاصمة مركز استقطاب الأدباء والطامحين، فلم تتنشط الحياة الثقافية أو تبرز مراكز وتجمعات أو مقاهي أدبية فيها حتى التسعينيات تحديداً، حيث تنامت الحركة الثقافية بشكل مميز مع تأسيس الكلية الجامعة فيها ثم جامعة ديالى وازدياد عدد أدبائها والناشطين الثقافيين فيها وتأسيس اتحاد أدباء ديالى واصدار مجلة وجريدة في المحافظة وبروز الكثير من أسمائها في الصحافة العراقية والعربية والمهجر.

في السبعينيات كانت هناك بناية المكتبة العامة في بعقوبا في شارع النصر، والتي يروي الدكتور يوسف عزالدين قصة إنشائها بعد انتدابه من قبل مديرية التربية أيام عمله معلماً في مدارسها، وتأمين مصادر تزويدها بالكتب والاصدارات الجديدة والتي توقفت أو تعثرت منذ السبعينيات. أما المكتبات الخاصة فكانت اثنتان، احداهما في شارع الحسينية وهي الأكبر والأغنى والأكثر تنوعاً، مقابل مبنى الحسينية تماماً، وكانت تغير اسمها بين مدة وأخرى حسب توجهات قومية أو دينية [الطليعة، الامام الصادق]، ومكتبة أخرى أقل مستوى من الثانية وأكثر تقليدية خاصة بالتجهيزات المدرسية ومستلزماتها. وكان موقعها في بداية السوق على رأس شارع النعمان ثم انتقلت في الثمانينيات إلى شارع النصر. أما المكتبة الأخرى فكانت الدار الوطنية للكتاب من منشآت وزارة الثقافة والاعلام وكانت متميزة بمعروضاتها وطرق عرضها للكتب الذي يتيح التمشي بين ممرات الرفوف والاطلاع على الكتب وتصفحها ولكن هذه الظاهرة الحضارية انقرضت مع موجة (الخصخصة) وبيعها للقطاع الخاص لتفقد رونقها وأهميتها. وبينما لجأت المكتبة الأهلية التقليدية لعرض المزيد من القصص والروايات المصرية واللبنانية الصادرة قبل عقد وعقدين أيام الثمانينيات، فقد مالت المكتبة الأولى لمزيد من التخصص في الكتب والمصادر الدينية بعد أن كنا نبتاع منها الاصدارات الأجنبية والوجودية والدوريات العربية والفلسطينية المختلفة في السبعينيات. بيد أن المهتمين بالثقافة كانوا أكثر اتصالاً بالعاصمة ومكتباتها ومقاهيها الأدبية، وأذكر هنا صديقي وزميلي في الدراسة القاص الراحل مؤيد سامي، الذي كان يتردد على مكتبات العاصمة في الأعطال وجمع مكتبة منزلية عامرة، كانت نواة لمكتبة مؤيد سامي التي افتتحها في بعقوبا عام 1995، وكان لها دور في تنشيط الحركة الأدبية والثقافية واستقطاب الأدباء الشباب حتى مقتله بيد الظلاميين في يناير 2005. وكانت معارض الدار الوطنية ومعرض بغداد الدولي للكتاب من الأعراس الثقافية التي لا يفوت الأديب والمثقف زياراتها تكراراً وحمل أكداس يومية من عينات الكتب والمعروضات التي لا تتيسر في غير ذلك وبأسعار رمزية. وقد بلغت محتويات مكتبة الصديق مؤيد المنزلية الآلاف، مما حدا به في خضم أزمة حصار التسعينيات الخانقة، بدلاً من بيعها وتدمير قيمتها بثمن بخس إلى جعلها نواة مكتبة لبيع الكتب والاستعارة وتقديم خدمات الكتاب والنشر وكان مراسلاً لعدد من صحف العاصمة. وكانت مكتبته الوحيدة التي تتعامل بالاعارة وتتميز بنوعية كتبها الفكرية والفلسفية غير التقليدية مقارنة بالسائد. وقد تحولت هذه المكتبة الأثيرة بعد اغتيال مؤسسها الأديب والناشط الثقافي مؤيد سامي يوم 13 يناير 2005 إلى ممتلكات اتحاد أدباء ديالى. أما المكتبة العامة التابعة لمديرية تربية ديالى التي شكل نواتها الاستاذ يوسف عزالدين أيام كان معلماً في قرى المحافظة، فكانت مشكلتها عدم وجود آلية متحركة ومستمرة للحصول على الاصدارات الجديدة وتجديد رفوفها بالطبعات الحديثة من الكتب القديمة، ففقدت قيمتها وتحولت إلى مشهد أثري بائس بعد أن كنت أقضي فيها أيام الأعطال كاملة. أما دور السينما في بعقوبا فكانت ثمة اثنتان، [دار السينما الاولى في شارع النصر هي سينما النصر و سميت بهذا الاسم بعد ثورة تموز كما اعتقد وأظن ان اسمها السابق كان عبد الأله ، اما دار السينما الثانية و التي تقع على نهر خريسان فقد تأسست عام 1949 و اسمها سينما ديالى و مؤسسها يهودي الاصل و لا زالت الواجهة قائمة حتى مغادرتي و تتميز بريازة جميلة ، و كان مرفقا بها سينما صيفي أنيق.]/ م.ع. وموقع سينما النصر في وسط المدينة قريباً من المكتبة العامة وفي ظهر شارع الحسينية (السوق الرئيسي)، وكانت تعمل بوجبتين صباحية ومسائية وتتعثر أحياناً فتقتصر على وجبة واحدة وتقوم بإدارتها عائلة مسيحية (بيت أدمون)، وثمة سينما ديالى على نهر خريسان باتجاه كراج بغداد حيث مقر نادي الشطرنج، فهي بعيدة عن مركز المدينة، وقد رأيت فيها فيلم العصفور ليوسف شاهين الذي تردد يومها أنه منع عرضه في بلد الانتاج، وهو حول عبد الناصر وحرب 1967. وكانت هذه السينمات أحد ضحايا انحسار الحريات في العهد الجديد ضمن أشياء أخرى كثيرة. ولم يكن في بعقوبة رغم سعتها غير بار واحد صغير على ضفة خريسان قريباً من كراج بغداد الرئيسي وقريب من النادي العسكري وقد أغلق منذئذ وتحول إلى متجر لبيع المشروبات الروحية ثم أغلق نهائياً.

من العلامات المهمة والجديرة في ثقافة المحافظة نشاطها المسرحي ممثلاً في شخصي الفنانين المخرجين موسى الخالصي وسعدي الزيدي وفرقة ديالى للتمثيل. كانت [هناك فرقتان مسرحيتان احداهما فرقة مسرح بعقوبة و الثانية فرقة مسرح ديالى ، واحدة اصبحت موالية للبعث و التيار القومي و الثانية كانت لها سمعة يسارية و أعتقد ان مسؤولها ثامر الزيدي و هو غير سالم الزيدي وكانت تضم الفنانين صباح الانباري و هو مسرحي و كاتب معروف و بارز و مجيد مبارك ...] ، وقد عملت على تقديم مجموعة من الأعمال الجادة التي كان لها صدى طيب في المدينة، تخرج منها نخبة من فنانين استقطبتهم العاصمة والدراسة الأكادمية فانقطعوا عن النشاط المسرحي في بعقوبة، وأذكر من الممثلين حسين عجينة وحسين الأنصاري وسعد خليفة ووليد العبيدي. وكانت هناك فرقة موسيقية مقرها في مركز شباب بعقوبة الكائن على طريق بغداد- تقاطع طريق بهرز، وكان الاستاذ خالد العزاوي والاستاذ كامل متي قائمين عليها يساعدهم عدد من الشباب. ان معظم العاملين في الأنشطة المسرحية والموسيقية والثقافية والرياضية من منتسبي قطاع التعليم والتربية والنشاط المدرسي بالاضافة إلى حياتهم المهنية. ومن الاساتذة الذين أعتز بهم في حياتي الأدبية والخاصة حتى اليوم الاستاذ الرائع البصير عباس الدوري مدرس اللغة العربية في متوسطة ديالى للبنين وكان عازفاً بارعاً على آلة الكمان والاستاذ حسام الوتار مدرس اللغة العربية كذلك في نفس المتوسطة، وكان يعزف على أكثر من آلة موسيقية.

[هامش حرية للمرأة ، ففي بهرز و الهويدر أو بعقوبة هناك سافرات بشكل مبكر و كان من أبرزهن مثلا القاصة " لطفية الدليمي " و التي تزوجت مخرج سينمائي كان أول من أخرج فلماً عراقياً ملوناً هو كامل العزاوي و الفلم هو فلم نبوخذنصر ، و الذي أصبح فيما بعد رئيسا لقسم السينما في معهد الفنون الجميلة ، و لكن هذه الظاهرة ـ أي السفور ـ تلقت دعماً كبيراً بعد ثورة تموز.

أعتقد أنك لم تشر الى ملعب بعقوبة الرياضي الذي كان يشكل أحد أركان مدينة بعقوبة كما أن وصفه إذا أمكن زائداً النشاطات التي كانت تقام عليه مهم لتوضيح الصورة : كانت هناك مثلا ساحات لممارسة لعبة التنس في مدخل الملعب أزيلت لأجل عيون الشارع و مركز الشباب ، كما كانت الحركة الرياضية متطورة جدا قياسا بمثيلاتها في المحافظات ، الرقم القياسي العربي في القفزة الثلاثية كان باسم الستار عبدالرزاق و كذلك الرقم العربي الذي حققه في بيروت ، كذلك القفز بالزانه باسم محمد عبد الله من الفرقة الثالثة و كان مقرها ديالى آنذاك ، و الرقم الآسيوي في دورة مرديكا و كانت أرقام الطفر العالي باسم اثنين من رياضيي بعقوبا هما عبد الوهاب الكرخي و الثاني قد أتذكر اسمه لاحقا .

وفي بعقوبة أيضا شخصيات رياضية بارزة مثل المرحومين محمود عيشه و رشيد مطر، لاعبي كرة سلة كثيرون مثل حسين الناصر الشخصية الظريفة و الذي مثل دوراً في فلم " قطار الساعة السابعة " في الستينات]/ م.ع/ م.س.












بعقوبا .. سيرة مكان
(القسم السابع)

من ثقوب الذاكرة

( أساتذتي المربين)

درسني الاستاذ الدوري في الصف الأول ودرّسني الاستاذ الوتار في الصفين الثاني والثالث. وبينما كان الأول يوليني عناية خاصة سيما في درس الانشاء والنحو كان للثاني دور كبير وصبر عظيم في تصحيح أخطائي العروضية وامتصاص غضبي. وكنت أسلمه محاولاتي الأولى في قرض الشعر وأنا في الثاني متوسط فيأخذها معه ويعيدها في اليوم الثاني مع ملاحظاته. وكنت أراجعه في غرفة الادارة أو أية غرفة من غرف التدريس فيمنحني من وقته وسعة صدره وحلمه وعلمه ما بذر فيّ من القيم الخلقية أكثر من مجرد الأوزان والعروض. وبينا كنت أراجعه مرة وهو يلقي درسه فتأخر عليّ وأنا أنتظره في الممر، فأحسست بالجرح وقلة الاهتمام، وعندما جاء لمح أمارات الغضب في عيوني ونبرة صوتي، فابتسم ذلك الانسان الرائع النادر أمام تلميذ من تلاميذه وراح يردد بصوت موسيقي [هو بالباب واقفُ – والردى منه خائفُ- فاهدأي يا عواصفُ- خجلاً من جرأتِهِ].. ثم أخرج القصيدة من جيبه وراح يرشدني لما فيها من هفوات وملاحظات كان لها أكبر الأثر في حبي للغة الأدب وصنف المعلم المربي الحليم الذي يربي الاجيال ويخلق فيهم حب العلم والابداع. أما علاقتي الحميمة مع الاستاذ الدوري فقد بقيت نادرة هي الأخرى ولم تتكرر. درّسني الاستاذ عباس الدوري سنة دراسية واحدة لمح خلالها ميلي وتفوقي في درس اللغة، وكنت متفوقاً في كل الدروس ولكن رعايته وشخصيته قربتاني أكثر من اللغة والأدب. كان الاستاذ بصيراً، وكنت أشعر بالحرج مع محبتي وتقديري العالي له، من النظر إلى وجهه البهي ونظارته السوداء. وفي داخلي إحساس أنه يستطيع أن يرى بقلبه فأضطر للنظر أرضاً طيلة وقوفي معه حتى يأذن بالانصراف. كان ذلك في بداية السبعينات. في أواخر الثمانينيات كنت مع أخي في زيارة للمدينة، وكان أخي من المشتغلين في فن التمثيل يومها وقمنا بزيارة لدائرة النشاط المدرسي ومكانها على ضفة خريسان من الجهة المقابلة لمركز شباب ديالى. وهناك كان الاستاذ الدوري واقفاً للحديث مع جمهرة من الطلبة في الممر. فوقفنا قربهم وأسررت لأخي بهمسة بالكاد سمعها.. فإذا بصوت جهوري يعلن: [هذا منو وديع.. شلونك!]. لا اعرف ماذا أصابني. بين إحساس بالفرح وشعور بالتقصير وتأنيب الضمير لأنني لم أعد للتحية عليه بعد الانتقال من المدرسة والمحافظة والانخراط في الحرب.. أكثر من خمسة عشر عاماً ومعلمي يحفظ صوتي كأن الزمن لم يتحرك دقيقة. لا زلت وأنا أسجل هذه اللحظة أشعر بسكرة وإغماء.. أشعر بالفخر أمام الناس الذين شكلوا مسيرتي ورسموا محطات حياتي.. وأشعر بالدين لهم.. ان لقاء إنسان كبير واحد مأثرة في الحياة.. فكيف بكل أولئك الذين وقفوا على رعايتي وسقوا بمحبتهم وعطائهم نبتتي.

ومن القطاع الفني لابد أن أذكر الاستاذ الرسام علي الطائي مشرف النشاطات الفنية وكان يقيم دورات في الرسم والخط العربي شاركت في أحدها (خط الرقعة)، وكان أخوه الأصغر (نصير) الذي ما تزال صورته أمامي يميل لكتابة الشعر الحديث وله لقطات جميلة. لاشك أن هذه ليست الصورة الكاملة للحياة الثقافية لمدينة بعقوبة السبعينيات الأثيرة ولكنها جانب مما يحضرني الآن وأتمثله لقربه وتماهيه أو تماهيّ معه.

*

[مدرسة ديالى الابتدائية]

تقع هذه المدرسة في بداية السوق ونهاية شارع النعمان ، على الطريق الأفقي الذي يربط بينه وبين شارع عمر عبد العزيز. وهي المدرسة التي زرت فيها الصف السادس الابتدائي (سنة البكالوريا) . كان مدير المدرسة نحيف البنية قصير القامة (لا يحضرني اسمه) من بيت (مصطفى العنبكي). كان الاستاذ عدنان معلم اللغة العربية والاستاذ حميد معلم اللغة الانجليزية. وقد نسب للمدرسة في تلك السنة معاون مدير مدرسة اسمه (الاستاذ ساجت). قام المعاون الجديد باختيار عشرة من الطلبة المتفوقين من كل المدرسة ومن مراحل مختلفة، كنت أنا واحداً منهم. جمعنا وقال لنا " أنتم قدوة المدرسة". وواجبنا المحافظة على المدرسة والنظام والنظافة وعدم السماح بالفوضى والعبث والاعتداء. كان طلبة المدرسة يتشكلون من مناطق مختلفة في المدينة، ومن طبقات اجتماعية وثقافية مختلفة، وكانت ظاهرات المشاجرات و(العركات) من المظاهر المتكررة في سنوات الدراسة الابتدائية، ولعل الجميع يتذكرون بنتدر تلك الجملة الصبيانية التراثية التي طالما ترددت عهدذاك [آني إلك بالحَلّة!] [أوكَفلي بالطلعة (أو بالحلة)!]. أي عند نهاية الدوام ومغادرة المدرسة. وقد حدثت في باب مدرسة ديالى عدة مشاجرات أبطالها معروفون، قام أحدهم (!!) باستخدام قلم الرصاص وطعن زميله في الخاصرة فسقط مغشياً عليه ونقل للمستشفى عدة أيام بعد أن هرب (الأشقيائية). نفس هذا الشخص ضمن مجموعته المعروفة يومذاك قرب قنطرة خليل باشا، اعتدوا عليّ في مرة تالية وبدون سبب يذكر. ربما لتفوقي أو كوني في (جماعة القدوة)، لخوفهم من تسجيل اعتداءاتهم لإدارة المدرسة. شخصياً لم ابلغ عن حادث أو أحد.. وكنت أحاول انقاذ الضحية أو استخدام اللغة للتأثير على المعتدي واقناعه بالانصراف. لقد أمكن ضبط النظام والنظافة داخل المدرسة. ولم يتكرر الاعتداءان. كان أحدهما في نهاية السنة، والطلبة الفاشلون يقذفون الأساتذة بالحصى والأدوات الجارحة. لكن الطلبة لم ينجحوا، ولم ينجحوا. لقد تركوا الدراسة وانصرفوا إلى طرق أخرى. لقد كانت الفوارق الطبقية والعلمية تتحول إلى عدوان وانتقام، بدل التحول إلى منافسة شريفة وتعاون بناء.

*

[المهرجانات]

تقول الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي في رواية (ذاكرة الجسد) على لسان بطلها "خالد" [كم من ملايين أنفقت وقتها على مهرجان للفرح، ظل الأول والأخير، وكانت أهم منجزاته، التعتيم على محاكمة قائد تاريخي كان أثناء ذلك ، يُستجوَب ويُعذَّب رجاله في الجلسات المغلقة، باسم الثورة نفسها،.... بدأت أعي لعبة السلطة وشراهة الحكم. وأصبحت أحذر الأنظمة التي تكثر من المهرجانات والمؤتمرات.. أنها دائماً تخفي شيئاً ما!. فهل هي مصادفة أن تبدأ مشكلاتي منذ ذلك الحين، ويولد أول مذاق للمرارة في حلقي يومها.] ص181.

، بالاضافة للمباريات الرياضية. وهناك مهرجانات أو احتفالات في المناسبات الرسمية تعدها دوائر أو منظمات شعبية أو حزبية. وهنا تجدر الاشارة إلى ظاهرة، اهتمام الحكومة بالمقاهي الشعبية التي شهدت زيادة ملحوظة في مستهل السبعينيات وحملت أسماء سياسية وحزبية معلنة مثل [مقهى البعث أو مقهى 17 تموز] وما أشبه، وكانت هذه تحتفي بالمناسبات الوطنية والحزبية بوضع الأعلام والصور والشعارات واللافتات لمدة تتجاوز فترة المناسبة وتسبقها تضيع الأغاني الحماسية والوطنية والقومية المتعلقة بالمناسبة لدلال الشمالي وفيروز وغيرهم.

*

[حملات العمل الشعبي]

من الممارسات التي شاعت وانتشرت في النصف الأول من السبعينيات حملات العمل الشعبي لبناء القرى والمدارس والمراكز الصحية في القرى البعيدة، وكان التلفزيون والاذاعة يقدمان برامج يومية وريبورتاجات عنها. كانت تلك الحملات جزء من برنامج كامل مقتبس من تجارب البلدان الشيوعية حول تنمية الوعي الاشتراكي والتعاون الجماعي من جهة وترسيخ الانتماء الأيديويوجي والتربية الحزبية من جهة أخرى. وكان البرنامج يبتدئ من سن الروضة أو بدايات الابتدائية ممثلاً في منظمة الطلائع التابعة للاتحاد العام لشباب العراق. توزع ملابس عسكرية (خاكية) على الأطفال حسب أعمارهم مع معدات ومواد أخرى أثناء التدريب. وكان برنامج التدريب يتكون من قسمين: الأول: التدريب العسكري بدء من المسير النظامي إلى التدريب على الأسلحة والرمي وحمل السلاح والمشاركة في الاستعراضات الرسمية والمدرسية. والقسم الثاني المشاركة في حملات العمل الشعبي في قطاع البناء أو التنظيف أو الزراعة أو تنظيم المرور في الشوارع أيام الاحتفالات والمناسبات العامة. كانت تلك التجربة سائدة في الأنظمة الاشتراكية وحاول الحكم البعثي التزحلق على حبال الاشتراكية لتحقيق مكاسب حزبية اعلامية وشعبية وليس لأغراض وطنية تنموية. ان أتعس ما في هذه الممارسة هو دفع الاطفال لحمل السلاح وتدريبهم على الرمي ببندقية أطول منهم. وكان الطلبة يتأخرون بعد الدوام لساعتين أو يعودون لمنازلهم ثم يذهبون للمدرسة أو الملعب أو اتحاد الشباب بعد الظهر لتلقي التدريب، والغريب أن ذلك كان يلقى هوى لدى الأطفال وربما خوفاً من التهديد لمن لا يحضر. في الظاهر العام تبدو فكرة الطلائع بديلاً لفكرة الكشافة التي كانت سائدة في مدارس العراق في الستينيات بقمصانهم البيض وسراولهم المخططة أو السروال القصير وربطة العنق وطاقية الرأس. ولكن نظام الكشافة (المدرسية) كان يقتصر على المسير العسكري وتعلم النظام و(الطاعة) وروح التعاون والمساعدة والمشاركة في [مخيّمات كشفية]. وكان أولئك يمثلون قدوة حسنة لرجال وبنات المستقبل. وإذا كان برنامج الكشافة و(الجوالة) هو السابق بمنظار مدني. فالأمر مختلف مع نظام الطلائع. يتكون النظام الجديد من عدة مراحل: منظمة الطلائع – منظمة الفتوة – منظمة كتائب الشباب. والفارق بينها هو تقسيمات العمر من سن الروضة والابتدائية الأولى إلى نهاية الابتدائية والمتوسطة، ثم الثانوية حتى الجامعة. وهي تشمل الذكور والاناث وتشترك في القيافة العسكرية والتدريب على السلاح والمشاركة في معسكرات كشفية سنوية لمدة اسبوع بعيداً عن العائلة. وقد تم تطبيق هذا النظام أيام ألمانيا النازية (فتوة هتلر) [Hitler Jugend = HJ] وكان لهم دور حيوي في إدارة المناطق المدنية والدعاية للزعيم أيام الحرب. أما نظام المعسكرات السنوية فلا يزال معمولاً به في مدارس أوربا الغربية ولكن بدون الصبغة العسكرية أو الكشفية، حيث تقوم المدرسة بتنظيم (رحلة) سياحية لمدة اسبوع إلى مقاطعة ثانية أو دولة أجنبية باشراف عدد من المدرسين، يتم خلالها اطلاعهم على المعالم الجغرافية والسياسية والثقافية والأثرية لذلك المكان ، وذلك لقاء مبالغ يدفعها ذوو المشاركين عن تكاليف السفر والمبيت، وتؤشر للبرنامج درجة في شهادة الطالب. ثمة شعار اشتراكي قديم يقول [خذوهم صغاراً!] وقد عمل النظام به جيداً، ولكن لأي غرض. هل يمكن الربط بين ذلك وبين ما حدث من بعد سيما عقب سقوطه ونزيف الفوضى.

*

[الفيضان]

من الذكريات الحميمة التي تعلق بالذهن، استمرار هطول الأمطار في شتاء 1976 مدة تزيد على اسبوع وارتفاع مناسيب مياه نهر ديالى واندلاقها تجاه المدينة، مسافة قاربت البيوت المقابلة لنهر خريسان من جهة المدينة ومثل ذلك من جهة بعقوبا الجديدة. ويضيف البعض سبباً آخر لهذا الفيضان وكونه [ناتجا بالدرجة الاولى عن تفريغ سد دربندخان لأسباب سياسية كما هو معلوم في ذلك الوقت . و قد اشار المزارعون ذوو الخبرة الى ان الماء كان صافيا و ليس فيه اثر للغرين كما هو مألوف بسبب الفيضانات التي تسببها الامطار او ذوبان الجليد في المنابع و كنت انا شخصيا شاهدا على الفيضان حيث كنا نعمل حتى الصباح في اقامة و تقوية السدود]/ (منير العبيدي). في تلك الحادثة تكاتفت جهود السكان وتوافدوا على ضفتي النهر يشاركون في تعبئة أكياس الرمل ورصفها في طريق تقدم المياه . كانت أمواج المياه تندفع مثل التنين وتجرف الضفاف الترابية وأكداس الأكياس.. كانت المدينة قاب قوسين أو أدنى إلى الغرق. ولو أن المياه بلغت مجرى خريسان لاكتسحت أطراف المدينة. ولكن الكابوس تراجع بعد اسبوعين وبدأت مناسيب المياه تسجل تراجعاً.. وتنفس الجميع الصعداء.. ولزمن.. بقيت المياه تراقص أكياس الرمل والسكان يطلعون على آثار الفيضان.. وصور الرطوبة والمياه المنحسرة في مناطق السراي. بعد ذلك أجريت تعليات كثيرة لجانبي النهر.. وتم رفع مستوى الشارع الرئيسي على امتداد الجسر.. وبقيت الذكريات.

(انتهت)











ــــــــــــــــــــ

هوامش ومصادر..

• الأب سهيل قاشا- مقتبسات شريعة موسى من شريعة حمورابي – دار بيسان- بيروت- 2003- ص (7، 13، 14). [ينظر كذلك: أدور كييرا – كتبوا على الطين- ترجمة: د. محمود حسن الأمين – ط2- بغداد 1964].

• أحلام مستغانمي – ذاكرة الجسد- رواية- منشورات أحلام مستغانمي- بيروت- ظ 19.

• أدونيس – الثابت والمتحول- ج2- بحث في الابداع والاتباع عند العرب- دار الساقي – لندن– 2002- ص89.

• حازم صاغية- بعث العراق.. سلطة صدام قياماً وحطاماً- دار الساقي- لندن– ط1/ 2003.

• خضر عباس العزاوي – هذا هو لواء ديالى- مط الجمهورية – 1969- بغداد.

• سعد محمد رحيم – بعقوبة ابتكار البساتين – مجلة الحوار المتمدن- ع1520 تاريخ 14/ 4/ 2006.

• عبد الرزاق الحسني –الثورة العراقية.

• علاوي عبد الرزاق الخشالي – لمحات من تاريخ بعقوبا القديم- مط أسعد – 1980- بغداد.

• د. قاسم بريسم – الشرارة والرماد .. شهادة حيّة عن انتفاضة الشعب العراقي وعذاب المنتفضين في سجون الرضوانية- دار الكنوز الأدبية- بيروت.2004.

• منير العبيدي (كاتب وفنان تشكيلي)مقيم في برلين - رسالة خاصة للمؤلف تضمنت مداخلة حول هذا الموضوع قبل نشره . يوليو 2006. وقد تمت الاشارة حيث ورد بالاسم الصريح أو الموجز (م. ع.) للأمانة مع التقدير والاعتزاز.والمساهمة مدرجة كاملة ضمن باب(ملاحق).

• وديع العبيدي – يوسف عزالدين .. شعره وتجديده- دار الابداع الحديث – القاهرة- 1993.

• د. يوسف عزالدين (تحقيق)- الرصافي يروي سيرة حياته- دار المدى- دمشق- ط1- 2004

• د. يوسف عزالدين (اعداد وتحرير)- شعراء العراق في القرن العشرين– بغداد 1968- أنظر: د. مصطفى جواد – ص162.



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في مجموعة [إمرأة سيئة السمعة]
- الطائر الذي يغني من داخل القفص
- العنف.. ثمرة ثقافة سيئة
- الاشتراكية..تحرير الفكرة من العصبية والدولة
- وأذكر أني عراقيُّ.. فأبكي!..
- العنف الاجتماعي بين الهمجية والمرض النفسي
- (غداً..!)
- أشعياء بن آموص
- (حجيّة غُرْبَتْ)
- إلى وسام هاشم
- الانتخابات العراقية.. أكبر صفعة لآلام العراقيين (لكي لا يُلد ...
- منفيون(14)
- مقامة نَسِيَها الواسطي
- منفيون(12)
- منفيون من جنة الشيطان
- منفيون(11)
- منفيون(10)
- منفيون(9)
- منفيون(8)
- منفيون..(6)


المزيد.....




- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - سيرة و مكان