أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سمير أمين - الفجوة بين الفقراء والأغنياء















المزيد.....

الفجوة بين الفقراء والأغنياء


سمير أمين

الحوار المتمدن-العدد: 2484 - 2008 / 12 / 3 - 09:54
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


(الإشكاليات - الآليات- المستقبل)

1-أود أولاً أن أتطرق إلى بعض الملاحظات المنهجية التى تحكم وجهة نظرى فيما أسرده بعد.

فيما يتعلق بآليات إنتاج "الفقر" فلا بد من تأكيد أن مفاهيم "الفقر" / "الغنى" / "التفاوت الاجتماعى" / "العدالة الاجتماعية" ليست مفاهيم علمية منضبطة، وإنما وصفية فقط حيث تنطوى على مضمون أخلاقى نسبى بالضرورة، إذ تختلف درجات التفاوت "المقبول" من ظرف لآخر، مع علمنا بوجود وسائل معروفة لقياس درجة التفاوت مثل "منحنى جينى".

ولا شك أن وجود "الفقر"، ومن ثم الفجوة بينه وبين "الغنى"، يثير عدداً من الأسئلة الصعبة، غير أنى أكتفى هنا بتناول ما أعتقد أنهما السؤالان الرئيسيان فى الموضوع.

التساؤل العلمى الأولى هو: ما هى الآليات التى تنتج شكلاً معيناً من توزيع الدخل فى مجتمع ما؟ أو بعبارة أخرى: ترى ما هى آليات "إنتاج الفقر"؟ فهل يمكن -بالأساس- اعتبار ظاهرة "الفقر" نتاج شروط ظرفية، كأخطاء فى رسم السياسات الاقتصادية يمكن إصلاحها فى إطار استمرار نمط التشكيلية الاجتماعية المعتبرة؟ أم هى نتاج عوامل من خارج مجال الاقتصاد مثل زيادة السكان أو الكثافة السكانية أو نقص فى الموارد الطبيعية… الخ؟ أم أن "الفقر " ظاهرة يجب تتبع مصدرها فى آليات إنتاج المجتمع، أى آليات محايثة (Immanent) لنمط إنتاج معين؟

ويقودنا التساؤل السابق إلى التساؤل الثانى الذى يتعلق بمستوى التحليل، أى ما هو المجتمع الذى يجب اعتباره من أجل نقاش تلك الآليات الخاصة بنمط الإنتاج المعتبر الذى ينتج شكلاً معيناً من توزيع الدخل؟

· هل هو المجتمع المحلى (القطرى)؟

· أم هو المجتمع العالمى (باعتبار أن الرأسمالية نظام عالمى واطراد العولمة الرأسمالية)؟

1- إن طرحى الأساسى فى هذه المسألة ينطلق من بعدين:-

أولاً: إن الاستقطاب على صعيد عالمى هو ظاهرة محايثة للتراكم الرأسمالى على هذا الصعيد، وليس نتاج ظروف خاصة بالدول المكونة لهذه المنظومة.

ثانياً: إن أشكال توزيع الدخل فى مختلف المجتمعات المكونة لهذه المنظومة العالمية ترتبط -بدورها- ارتباطاً أساسياً بمنطق التراكم على صعيد عالمى.

فالمنظومة العالمية ليست مجرد "جمع" منظومات وطنية، ولا تتحدد سمات تشكل النظام العالمى وفق مجرد تفاعلات هذه المنظومات الوطنية. وإنما الأمر على العكس من ذلك تماماً، فالواقع العالمى المحدد يتحكم -إلى حد كبير- فى مسارات النظم المحلية ويحدد هامش قدرتها على "التكيف"، وبالتالى تشكيل النظم الاجتماعية القطرية.

إن التوسع الرأسمالى على صعيد عالمى قد أنتج استقطاباً لم يسبق له مثيل منذ آلاف السنين. ففى أوائل القرن التاسع عشر لم يتجاوز مدى التفاوت الأقصى فى توزيع الثروة بين 80% من سكان الكوكب نسبة الواحد إلى اثنين. وبعد قرنين من التوسع الرأسمالى صارت هذه المعادلة نسبة الواحد إلى ستين، بينما انكمشت نسبة سكان المراكز إلى 20% فقط مكن سكان الكوكب.

3-ومن هنا يمكن أن نميز المرحلة الأولى للاستقطاب وتشكيل التفاوت الاجتماعى على الصعيد العالمى والأصعدة القطرية فى الفترة من عام 1800 إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. أما عن آليات الاستقطاب المتحكمة فى هذه المرحلة، ومن ثم أنواع "الفقر" الناجمة عنها فنلحظ أولاً قيام منطق التوسع الرأسمالى على الصعيد العالمى على أساس "سوق مبتورة"، أى الميل إلى تكوين سوق عالمية للمنتجات ورؤوس الأموال دون أن يصاحبه ميل موازِ إلى اندماج أسواق العمل عالمياً.

وتجلى هذا المنطق فى إقامة تقسيم العمل الدولى على أسس غير متكافئة، أهمها انفراد قوى الثالوث فى المركز (الولايات المتحدة، أوربا، واليابان) بالإنتاج الصناعى، وتخصيص دول الأطراف لإنتاج الخامات (الزراعية والمعدنية) للتصدير. وقد صار هذا "التبادل غير المتكافىء" الآلية الرئيسية الفاعلة فى إنتاج الاستقطاب المعنى، أى امتصاص الفائض المنتج فى الأطراف لصالح المراكز.

وكان الشرط السياسى لضمان فعالية هذا التوسع هو التحالف بين رأسمالية المراكز من جانب، ومن الجانب الآخر الطبقات الحاكمة محلياً فى الأطراف -وهى طبقات ذات جذور "اقطاعية" سابقة - وتحويلها إلى "برجوازيات كمبرادورية" أى تابعة.

وقد ترتب على هذا التحالف تفاقم ظواهر الفقر فى ريف الأطراف (وهى الشكل الرئيسى للفقر "القديم") وما تجلى عن ذلك من تضخم حجم طبقة الفلاحين المعزولين وتركز الملكية العقارية.. الخ. وهو الأمر الذى أحدث تفاقماً ملحوظاً فى أشكال توزيع الدخل المحلى.

4-أما المرحلة الثانية للاستقطاب فهى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت مقدماتها فى المرحلة السابقة حيث أنتج الاستقطاب المترتب على التوسع الرأسمالى فى تلك المرحلة انتفاضات ضد النظام السائد تجلت فى ثورات اشتراكية فى روسيا والصين (وهى مناطق طرفية، ولم يكن هذا مجرد صدفة) وفى ثورات التحرر الوطنى فى آسيا وأفريقيا.

وقد كان الانتصار المزدوج للقوى الشعبية والديمقراطية ضد الفاشية والكولونيالية القديمة بمثابة فاتحة لمرحلة جديدة من التراكم الحثيث، فساد رواج (ارتفاع معدلات النمو) فى الأقسام الثلاثة للمنظومة: الغرب والشرق والجنوب.

وتجلى هذا الرواج فى تبلور أشكال اجتماعية خاصة بكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة؛ فكانت دولة الرفاهية Welfare state فى الغرب، وبناء الاشتراكية فى الشرق، وتجارب إنجاز مشروع تنمية وطنية مستقلة فى الجنوب.

وبالرغم من تباين خصوصيات هذه الأشكال الثلاثة، فقد كان بينها قاسم مشترك ألا وهو قيامها على توازنات اجتماعية عملت لصالح الطبقات الشعبية - ولو نسبياً على الأقل-، أى أقيمت على أساس ظروف اجتماعية ملائمة لتعجيل النمو.

إذن، كان الرواج نتاج تكيف التراكم لمقتضيات العلاقات الاجتماعية التى فرضتها القوى الديمقراطية والشعبية، وهو وضع معاكس تماماً "للتكيف" الذى يدعو إليه أصحاب النظام حالياً.

واتخذ تكيف التراكم لهذه المقتضيات الاجتماعية -فى المرحلة السابقة- أشكالاً من "تقنين الأسواق" Regulation خاصة بكل منطقة من المناطق الثلاث المذكورة. فالرواج يأتى دائماً نتيجة لتقنين الأسواق، وليس نتيجة إطلاق الحرية لها كما تدعى الأيديولوجية الليبرالية السائدة حالياً. فالأسواق لا تحقق "توازناً" من تلقاء نفسها، إذ إن الطابع الانفجارى الذى تتسم به لا بد وأن ينتج تصاعد التفاوت، ومن ثم أزمة تراكم، وهو ما نراه حالياً.

لقد نتج عن تقنين التراكم وتعجيل النمو المترتب عليه تحسن ملحوظ فى أشكال توزيع الدخل قطرياً وعالمياً، ومن ثم تخفيف ظواهر الفقر. واتسمت هذه المرحلة بمعدلات مرتفعة فى العمالة، كما ارتفعت مستويات الأجور بموازاة معدلات نمو الإنتاجية فى المراكز، فتقلصت البطالة وأقيمت نظم ضمان اجتماعى فعالة فى المراكز.

أما فى الجنوب فقد قام الرواج على أساس تحقيق إصلاحات على الأصعدة الوطنية، من أهمها الإصلاح الزراعى والتأميمات وإصدار بعض القوانين لصالح العمل. وبفضل هذه الإصلاحات دخلت بلدان الجنوب فى مرحلة التصنيع والتحديث.

ونضيف إلى ذلك أن ارتفاع معدلات النمو قد فتح الباب أمام تضخم الفئات الوسطى، وهى الظاهرة المرتبطة بتقدم التعليم والتحضر والتصنيع، الأمر الذى لعب دوراً أساسياً فى تخفيف ظواهر الاستقطاب الاجتماعى داخل المجتمعات المعنية.

5-ونأتى إلى المرحلة الحالية، وهى مرحلة تفكك عالم ما بعد الحرب العالمية والعودة إلى تصاعد ظواهر الاستقطاب والتفاوت الاجتماعى والفقر.

فالتوازنات الاجتماعية التى قام عليها التراكم الحثيث أخذت فى التآكل التدريجى، الأمر الذى أدى بدوره إلى سقوط النماذج الثلاثة المذكورة: دولة الرفاهية فى الغرب، وبناء الاشتراكية فى الشرق، ومشروع الدولة الوطنية الشعبوية فى الجنوب.

وهو ما أدخل النظام فى أزمة هيكلية عنيفة منذ أوائل السبعينيات. واتخذت هذه الأزمة مظاهر عدة من أهمها انخفاض معدلات النمو والتراكم والعودة إلى مستويات مرتفعة من البطالة فى الغرب، واتجاهات نحو الخلف (أى التكور) فى مناطق عديدة من الشرق الاشتراكى سابقاً ومن الجنوب. وتجلت هذه الأزمة فى أن الأرباح المستخرجة من الاستغلال الرأسمالى أصبحت لا تجد منافذ كافية للاستثمارات المربحة القادرة على إعادة توسيع القدرات الإنتاجية.

وقد حدثت خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية تغيرات ملحوظة فى هرم ترتيب الأمم فى المنظومة العالمية، من بينها انقسام العالم الثالث السابق إلى مجموعتين من التشكيلات الرأسمالية الطرفية: إحداهما حققت بالفعل -من خلال التصنيع- قدرة على مواجهة المنافسة فى الأسواق العالمية فى مجال تصدير المنتجات الصناعية، أما المجموعة الأخرى فلم تتحقق لها هذه القدرة بعد.

ويرجع مصدر التباين بين المجموعتين إلى اختلاف كيفى وليس كمياً فقط. فالمجموعة الأولى قادرة على المساهمة فى تشكيل المنظومة العالمية بصفتها فاعلة، وعلى أن تطور استراتيجياتها الخاصة التى تدخل فى تناقض وتفاعل مع خطط الثالوث المهيمن، ومن ثم تستحق تسميتها "بالعالم الثالث". أما المجموعة الثانية فهى فى موقع المفعول به والعاجز عن تطوير استراتيجيات خاصة به، فالقوى المهيمنة عالمياً هى التى تفرض على بلدان هذه المجموعة "تكيفاً" أحادى الجوانب والخضوع لاحتياجات التوسع الاستعمارى، وهى بهذا المعنى منطقة مهمشة تماماً، ومن ثم يمكن أن نطلق عليها "العالم الرابع".

وتتجلى فى المرحلة الراهنة (مرحلة أزمة التراكم) ظواهر متجددة من التفاوت الاجتماعى والفقر يمكن أن نسميها أشكالاً من "تحديث الفقر". فلا تزال مجتمعات الأطراف تعانى من حجم كبير "لجيش احتياطى" من قوى العمل يستحيل امتصاصها فى إطار سيادة منطق التراكم الرأسمالى، وخاصة فى إطار انفتاح التراكم المحلى على العولمة الليبرالية وإطلاق حرية الأسواق دون تقنين يذكر. فالمنافسة فى هذه الأسواق المفتوحة تفترض تركيز الاستثمارات فى مشروعات تمتص أموالاً هائلة نظراً لاحتياجات التكنولوجيات الحديثة، وبالتالى يتقلص الاهتمام برفع مستويات الإنتاجية فى القطاعات التى تعمل فيها أغلبية قوى العمل.

وإذا كانت ظواهر "تحديث الفقر" قد أخذت فى البروز خلال المرحلة الأخيرة للنظم الاشتراكية والنظم الوطنية الشعبوية (أى مرحلة التآكل والتفكك)، إلا أنها قد تفاقمت بحدة خلال العقدين الأخيرين مع دخول آليات التراكم أزمتها الراهنة.

ويمكن أن نعدد بعض الأشكال المستحدثة من التفاوت والفقر فى الظواهر الآتية:-

· تفاقم التفاوت فى توزيع الدخل على الأصعدة القطرية (فى جميع بلدان العالم) وعلى الصعيد العالمى (بين الغرب من جانب والشرق والجنوب من الجانب الآخر).

· العودة إلى مستويات مرتفعة من البطالة فى الغرب.

· انتقال ظواهر الفقر فى الجنوب من الريف التقليدى إلى المدن والعواصم الكبرى من خلال هجرة المهمشين فى الريف (تكون مجتمع "ريفى" داخل المدن).

· ظهور أشكال جديدة من العمل فى أنشطة قليلة الإنتاجية (القطاع "غير الرسمى").

· توقف آليات توسع حجم الفئات الوسطى ودخول هذه الفئات فى مرحلة انخفاض حاد فى دخولها ("بلترة") الفئات الوسطى.

إن كل تلك التطورات السلبية تتجمع معاً لتشكل ظاهرة إجمالية أطلق عليها "التهميش".

هذا من زاوية "قطب الفقر". أما من زاوية القطب الآخر، "قطب الغنى"، فقد أدت التطورات ذاتها إلى صعود طبقة كمبرادورية جديدة تتركز الثروة فى أيديها.

إذن فإن اختلال التوازنات الاجتماعية لصالح تحكم راس المال تحكماً أحادى الجوانب يمثل السبب الرئيسى فى إعادة إنتاج التفاوت الاجتماعى والفقر، وإن بأشكال "مستحدثة".

وبالتالى فإن مشروعات "التخلص من الفقر" (حسب لغة البنك الدولى) لن تكون فعالة، بل ستظل حبراً على الورق، ما لم يتم التخلى عن اعتناق مبدأ سيادة السوق الحرة، والعودة إلى مبدأ تقنين الأسواق، الأمر الذى يفترض بدوره الشروط الآتية:-

أولاً: على المستوى القطرى، إقامة نظم حكم ديمقراطية جذرية ذات مضمون اجتماعى حقيقى.

ثانياً: على المستوى العالمى، بناء عولمة بديلة متعددة الأقطاب تتيح هامشاً لتحرك الطبقات الشعبية فى مختلف المجتمعات المكونة للمنظومة العالمية بما يمكن من حلول هذه العولمة البديلة محل نمط العولمة الليبرالية السائدة.

6- أخيراً أتحدث عن تحديات المستقبل ممثلة فى الاستقطاب الجديد الآخذ فى التكوين، ألا وهو مشروع العولمة الليبرالية تحت هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية.

وفى البدء لابد من تسجيل أن التطورات التى طرأت على المنظومة العالمية مؤخراً قد أدت إلى تبلور تدريجى لوسائل جديدة لضمان السيطرة على صعيد عالمى لصالح الثالوث المركزى المهمين وهى ما أطلق عليها "الاحتكارات الخمسة الجديدة".

(أ)احتكار التكنولوجيات الحديثة، وهو ما يؤدى إلى تحول صناعات الأطراف إلى نوع من إنتاج الباطن حيث تتحكم احتكارات المركز فى مصير هذه الصناعات وتصادر النصيب الأعظم من أرباحها المحققة.

(ب)احتكار المؤسسات المالية ذات النشاط العالمى، وهو يكمل عمل الاحتكار السابق فى تدعيم هيمنة المركز على التصنيع من الباطن فى الأطراف.

(ج) احتكار القرار فى استخراج واستخدام الموارد الطبيعية على صعيد عالمى، والتحكم فى خطط تنميتها من خلال التلاعب بأسعارها، بل وقد يصل الأمر إلى الاحتلال العسكرى المباشر للمناطق الغنية بهذه الموارد.

(د) احتكار وسائل الإعلام الحديثة على صعيد عالمى كوسيلة فعالة لصياغة والتأثير فى "الرأى العام" بما يدعم الهيمنة وخططها عالمياً وقطرياً.

(هـ) احتكار أسلحة التدمير الشامل والوسائل العسكرية المتطورة التى تتيح التدخل "من بعيد" أو "من فوق" دون خوض عمليات حربية طويلة ومكلفة بشرياً.

إنها احتكارات خمس متضامنة ومتكاملة وتعمل معاً لإعطاء قانون القيمة المعولمة الجديد مضمونه. وليس هذا القانون تعبيراً -بحال من الأحوال- عن ترشيدية اقتصادية "محضة" يمكن فصلها عن السياقات الاجتماعية والسياسية التى يعمل فيها هذا القانون.

بل إن قانون القيمة هو تعبير "مكثف" عن هذه التكيفات الاجتماعية والسياسية. إذ إن التكيفات المذكورة تعمل على إلغاء مغزى تصنيع الأطراف من خلال تخفيض القيمة المضافة المنوطة بهذه الصناعات، بينما ترفع فى المقابل نصيب القيمة المضافة فى الأنشطة المرتبطة بالاحتكارات الخمسة إياها. إذن فهى تكيفات تنتج تراتبية جديدة غير متكافئة تمثل جوهر الشكل الجديد والمستقبلى للاستقطاب على صعيد عالمى.

ذلكم هو منطق آليات الرأسمالية المعاصرة. ولن يؤدى عمل قانون القيمة المعولمة إلى "اللحاق"، حتى بالنسبة لذلك الفريق من بلدان الأطراف (الذى أسميه "العالم الثالث") الأكثر تقدماً ونجاحاً فى التصنيع ومواجهة المنافسة فى الأسواق العالمية، وإنما سوف يؤدى على العكس تماماً إلى مزيد من الاستقطاب، أى تفاقم ظواهر الفقر "الجديدة"، وإن كان ذلك سيأخذ أبعاداً أكثر حدة فى ما أسميه "العالم الرابع".

وجدير بالملاحظة أن نمط الاستقطاب هذا آخذ فى التكون والتبلور فى ظل تفاعلات وتداعيات مشروع يرمى إلى زيادة ضمان هيمنة الولايات المتحدة حتى على مشاركيها فى "الثالوث المركزى"، أى فرض عولمة ليبرالية تحت قيادتها ليصبح القرن الحادى والعشرون هو "القرن الأمريكى" بحق.

بيد أن البحث المدقق والمتعمق فى صميم هيكل المجتمع الأمريكى وعلاقاته بالمنظومة العالمية يوضح أن طاقاته أقل من طموحاته. فالولايات المتحدة تعانى من عجز مزمن فى ميزانها التجارى، أى أنها لا توفر لباقى العالم الأموال اللازمة لدفع التوسع الرأسمالى قدماً وبما يضمن شروط إعادة إنتاج هيمنتها. وهو وضع يختلف عن وضع بريطانيا فى القرن التاسع عشر حيث كانت الأخيرة تصدر أموالاً للعالم كله فى ظل وجود فائض هيكلى للميزان التجارى البريطانى، ومن ثم توفرت لها الشروط الملائمة لإعادة إنتاج موقعها المهمين.

أما الولايات المتحدة فهى أكبر مستورد للأموال، ومن ثم أصبحت مجتمعاً طفيلياً يمتص النصيب الأعظم من الفائض المنتج خارجه. ولا شك أن استمرار هذا الوضع الهش رهين برضوخ بقية بلدان العالم لتفاقم إفقارهم بلا نهاية. ونظراً لإدراك الولايات المتحدة التام لذلك فإنها تسعى بدأب إلى تعويض ضعفها الاقتصادى باستغلال تفوقها العسكرى والنووى، وذلك من خلال إقناع شركائها فى "الثالوث المركزى" بضرورة تسليم زمام إدارة العالم لحلف شمال الأطلنطى، حتى تتحقق عبارة كيسنجر الذائعة: "العولمة ليست إلا مرادفاً للهيمنة الأمريكية".

من كل ما سبق تتجلى أمامنا حقيقة ساطعة لا ضير من تكرارها، ألا وهى أن ردم الفجوة بين الأغنياء والفقراء -عالمياً وقطرياً- يتطلب عملية تحرر مزدوج من العولمة الليبرالية ومن الهيمنة الأمريكية، فهما وجهان لعملة واحدة يستحيل الفصل بينهما.





--------------------------------------------------------------------------------

· رئيس مركز البحوث العربية- القاهرة

· رئيس منتدى العالم الثالث لأفريقيا- داكار



#سمير_أمين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العولمة وقضية مستقبل مجتمعات الفلاحين
- الأسباب الموضوعية لفشل الثورات الإشتراكية الأولى
- الإسلام السياسي في خدمة الإمبريالية
- الإسلام السياسي
- هل تمثل آسيا الصاعدة تحديا للنظام الإمبريالي؟
- حول مفهوم القومية
- في إطار الرؤية التاريخية للتوسع الرأسمالي ألامبريالية الامري ...
- تبدأ بالعنف وتنتهي بالهيمنة الأمريكية د. سمير أمين يحدد 3 مل ...


المزيد.....




- تجاهل محكمة العدل في تدابيرها الاحترازية الاضافية وقف اطلاق ...
- قلق أمريكي من تصاعد الحراك الشعبي الأردني وشعاراته
- حوار مع الرفيق فتحي فضل الناطق الرسمي باسم الحزب الشيوعي الس ...
- أبو شحادة يدعو لمشاركة واسعة في مسير يوم الأرض
- الوقت ينفد في غزة..تح‍ذير أممي من المجاعة، والحراك الشعبي في ...
- في ذكرى 20 و23 مارس: لا نفسٌ جديد للنضال التحرري إلا بانخراط ...
- برسي کردني خ??کي کوردستان و س?رکوتي نا??زاي?تيي?کانيان، ماي? ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 28 مارس 2024
- تهنئة تنسيقيات التيار الديمقراطي العراقي في الخارج بالذكرى 9 ...
- الحرب على الاونروا لا تقل عدوانية عن حرب الابادة التي يتعرض ...


المزيد.....

- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي
- بصدد الفهم الماركسي للدين / مالك ابوعليا
- دفاعا عن بوب أفاكيان و الشيوعيّين الثوريّين / شادي الشماوي
- الولايات المتّحدة تستخدم الفيتو ضد قرار الأمم المتّحدة المطا ... / شادي الشماوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سمير أمين - الفجوة بين الفقراء والأغنياء