أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جميل محسن - والدي المريض يتنفس احفاده















المزيد.....

والدي المريض يتنفس احفاده


جميل محسن

الحوار المتمدن-العدد: 2479 - 2008 / 11 / 28 - 03:21
المحور: الادب والفن
    



منذ استيقاظه قبل سنوات من غفوته , رقدة طويلة تحسبها اغمائة لا نهوض بعدها , غير التمدد داخل مترين من الخشب , بين أنين الرجال وبكاء النساء , وحيرة الأحفاد , زرعنا وسط المشقة والآلام في محلتنا الصغيرة , كنا كل حياته , وقت الشدة , رفض المغادرة والهجرة كاخاه الأكبر , انشق عنه حتى في البيت ولقاء الأهل والزوجات , امتد وعلا جدار فاصل عازل , استوطن النفوس والقلوب , وحدهم الأحفاد يتلاقون في أزقة الحي والمدارس , ليشكلوا فرقا تلعب الكرة وتمارس الشجار مع الآخرين , قاطع أبانا أخاه في حله وترحاله ,ووضع رجليه في مستنقع البلدة هنا وهناك حيث أينعت وكبرت وانتشر ظلها شجيرات باسقات خضر , بقيت اليوم جذوعها حطبا تضرب بالفؤوس والمعاول لتتقطع أغصان صفراء تتهاوى أوراقها وتسقط في خضرة ماء آسن نتن تتقيأه مجاري البلدة ليجمع الذباب والأبناء والمزابل .
ناديته مرة
- أبي اخرج من الوحل نحو الحلم أو التقط خيط سنارة تلاحقه سمكة تصلح لعشاء ,
ولم يجب
استمر بعد يقظته صامتا يراقب , كنت الابن الأكبر العامل العاقل , ثم جار الزمان وأصبحت الجاهل العاطل , ولكني لا أفكر بموته بل أتحسس عجزه , وما يريده لينهض ويعود للحياة , ويخلصنا من هم رقدته وسباته , جئنا له بطبيب واثنان , يتفحصونه يقلبونه ثم يخرجون حيارى هامسين
- انه يشكو العزلة , التوحد , الحنين .
حتى الوالدة لم تفهم ! فلا وصف لداء أو دواء , لا أقراص بعد الفطور ولا حقن قبل النوم .
- مرض نفسي .
- عجايب .
تحامل الإخوة ونسائهم بعضهم على بعض , ضاقت الدار بالأنفس , وحدها غرفة الوالد , تختزن الصمت , الكل في الخارج ينتظر موته , ويدعو له بطول بقاء !!
ويقسم الإرث بعد بيع الدار , حصة جيدة تغطي بعض الحاجة لا كلها , كان شجارنا المتواصل تتصاعد أصدائه , ترتفع نحو السماء , كل يريدها لجانبه ضد الآخرين , ولكن الظلام حينها يزداد عتمة في غرفة الوالد , , يهاب الصغير والكبير , الذكر والأنثى دخولها وكان صمتها سيحرقه أو يجمده وينزع عنه جلده , ولكن الجمع ينتظر وخاصة النساء بداية الشهر الجديد ومجيء اختنا الكبرى مع الوالدة لتدخل الغرفة وتجلس عند رأس أبانا وتصمت وسط نهر دموع وهي ممسكة بيده , البعض منا يقول إن الوالد يفتح عيناه ليشاهدها ثم يبتسم للأم ويعود لذاته , الباقين لايصدقون , لا احد يجرؤ على الدخول وقت الزيارة ! ولذلك قصة أخرى قد تكون طريفة في نظر البعض , وقد تدمي القلوب إن تلقف خبرها أهل البلدة والجيران , كانت اختنا الزائرة تضع تحت الوسادة عند رأس الوالد رزمة من النقود وتخرج , نقود ! نعم نقود , بعدها يسود الصمت وتبدأ , الحياكة ! , الصمت حتى يرتاح الوالد وينام نوما عميقا , لاتوقضه صرخة ولا رد , والحياكة هي همس ماقبل دخول الغرفة ويد من ستمتد لتسحب الكنز , حتى الأطفال يتسرب إليهم الإحساس بالسرور فطلباتهم مستجابة شرط الصمت والهدوء ويستطيعون الخروج متى شاءوا فلا درس ولا تحصيل ولا ضغوط , وتبدأ عروض خدمة الغرفة , الكل يريد جعلها نظيفة مرتبة زاهية , وبعد يوم أو اثنان ينفجر البركان على من تبدو عليه آثار النعمة .
بعضنا – لصوص سراق , حرامية
أهل النعمة – ما الذي سرقناه ؟
لا احد يجيب ! وبماذا يجيب ؟ وما أدراه بوجود النقود ومكانها ؟ ومن اعلمه بفقدانها ؟ , يقل الاقتراب بعدها من الغرفة ويعود سيل التمني للخلاص من الراقد فيها , كرهنا بعضنا , مع اضطرارنا للمكوث من حوله , ولكن هل من بديل ؟ لا يوجد سوى الموت , له أو لنا , وتسيل دمائنا أحيانا حتى على عتبة حمام البيت الصغير في السباق الصباحي على دخوله , نحن الباقين في الدار , والأعجز عن الهرب إلى رحاب دنيا الله الواسعة .
نعود ليقضته , نادانا عصر يوم مغبر مترب , يتساقط فيه حتى الذباب من الإعياء , أسرعنا إليه بين مصدق ومكذب , ازدحمت الغرفة بالرجال والنساء , أكثر الفرحين كالعادة هم الأطفال ذلك السحر الغريب الذي يتملكهم حال اجتيازهم عتبة الغرفة , تتورد منهم الوجوه , وتبتسم الشفاه , ويزداد رعبنا وخوفنا عليهم ! وكأن الوالد الراقد حينها يتحول في عقولنا إلى مارد أو جن , اوحتى شر غريب سيأخذ مانمتلك من أطفال ! , تناسينا انه جدهم , تتغلب أنانيتنا علينا , نتمنى موته والخلاص , ويتضاحكون له حتى في غفوته .
الأب – سيأتي أخي بعد الريح والغبار , ويفتح باب داره مع من كبر من أفراد أسرته , الرأي لكم في المقاطعة أو الحديث .
أخي – هل سيجلبون لنا هدايا ؟ ملابس لنسائنا , العاب لأطفالنا ؟
الأب – لن ---- تأخذوا ---- شيئا----- ليس ---- لكم .
وكأني سمعته يهمس في أذني (حافظوا على ماتملكون ) , وحسبتها مزحة !! .
وعاد للنوم , خرجنا بالتأكيد ليس كما دخلنا , بدأنا نحسب أعدادنا , نسائنا أولادنا , ماسيحدثه فتح النصف الثاني من الدار وكيف سيعمره أبناء العم , وهل سيخرجون من بين جدرانه صمت القبور الذي نسمع أنينه لسنين خلت , ويحرم علينا الوالد كسر الإقفال , واقتحام المهجور , وقتال الجن والأشباح .
الأب – هو نصف أخي .
حدثت نفسي يوما , مالي إنا وما يحصل من العاب الحواة ومربي القردة والثعابين الخارجين من غابات الهند والسند ؟ .
الغريب أن زوجتي لم تسألني يوما المغادرة ! كانت ترى السعادة في وجوه أطفالنا قرب الغرفة , يدخلونها زحفا ويخرجون وقد طالت سيقانهم واشتد ساعدهم وحملتهم أرجلهم مبتسمين مغردين , وتأخذني الحيرة وتنتابني الهواجس , كيف يناجيهم أبي ؟
ذلك الذي ضمني صغيرا , احتضنني وكنت أتسلق جسده يداي وساقاي تتشبثان بجلده ولحمه وعضمه لأصل رقبته ورأسه , واشم رائحة لذيذة وأنا اقبض براحة يدي خصلات شعره الفاحم اللامع الأسود , ثم امتطي كتفه وارتفع يكاد يطلقني عاليا في الفضاء , ويتركني بعدها على الأرض , لان طفلا آخر أصبح قادر على تسلق الجبل الشامخ , .
أخي – هل نستطيع بيع الدار وهو على قيد الحياة .
أنا – لا
أخي – لم لا تكلمه بالأمر ؟ هو يستمع لك .
أنا – لا .
أخي – لم لايشتري عمنا الحصة ؟
أنا – والى أين سنذهب مع الوالد ؟
أخي – سنضرب عصفورين بحجر واحد , نستلم النقود ثم نبقى في الدار , لا يخرج الظفر من اللحم كما يقولون , ولن يتخلى العم عن أخاه .
أنا – هل كنت ستبقيني في الدار لوكان ملكك ؟
أخي – كلا ثم كلا .
حديثنا الصراحة دوما مع بعضنا , ربما ذلك أكثر ماورثناه عن الوالد , مع الفقر والعوز والحاجة , يصاحبهم الإباء والعناد ومضاجعة الهموم ! .
جاء العم الغائب , استوطن نصفه الآخر , حصنه جيدا من كل الجهات , لم يبد اهتماما بالوالد , اظهر مودة ولطفا لأبناء البلدة , وكأنه نسينا أو لايعلم بوجودنا , كانت تصرفاته وأبناءه بعيدة عن أصولنا وما نحن عليه , ربما راقت لبعض الأقرباء البعيدين زاروه فرحين وعادوا مندهشين ! هي الغربة وأفعالها إذن ؟ حتى تحامل بعض إخوتي وادعوا أن عمنا أبدل حتى اسمه ولم اصدق , ذهبت إليهم بلا دعوة , هو عمي بلا شك , استقبلني بعض الأبناء بابتسامة , وعدت نادما مهموما لم أر في وجوههم دم العائلة القاني الأحمر ! , وكأنهم لم يعودوا الفرع الثاني من الشجرة , اتسعت ألهوه , استقبلتني زوجتي بالأحضان وأنا اجتاز العتبة وكأنها تعوضني الحنان المفقود , كان وجهها كالعادة يبتسم وهو يصطدم بوجهي العابس المحلق ناحية السقوف والمطأطأ نحو الأرض , التصق بي صغيري الزاحف , وكأنه يحاول تمثيل دوري مع أبي ليصل كتفي , سلمته لامه , فلن يتسلقني أبنائي ليمتطوا كتفي ويسحبوا بقوة خصلات شعري , لا , لن تعاد الكرة , واجد رجلاي أنا الآخر في مستنقع الكآبة والقذارة الأخضر , ليذهبوا ويلعبوا الدور مع جدهم , لم يفهم ابني مافعلته , ولن يحاول تفهمه كما اعتقد , تطلعت أليه كانت ابتسامته صفراء تكشف عن أسنان صغيرة بيضاء جميلة ناصعة , مد يده نحوي سحبت أظفاره الصغيرة وأمسكت بكفه ووضعته فوق راحة يدي اليسرى تمددت أصابعه والتصقت , أطبقت باليمنى على ضهر كفه وضغطت وكأني أود إيلامه , صرخ بصوت كمواء قطة , أو نشيد ملائكة , وأطلق ضحكة اهتزت لها عظيمات صدره وكتفه .
نهض الوالد بعدها أصبح يضع كرسيا بباب حجرته ويجمع من حوله الأحفاد يتكلم معهم بلغة لانفهمها نحن الأبناء يذهبون بها إلى مدارسهم وأحاديثهم مع أبناء البلدة ’ كثر الغرباء المتجولين قرب شارعنا , وصلوا إلى بابنا وكأنهم يودون الدخول ومحادثة الوالد , بدأنا معهم بالزجر والنهي والمجادلة , أبانا ليس فرجة , وليس تمثال نطق ولا مهزلة ! , ابتعدوا عنا وليعالج كل منكم و منا همومه .
الناس – نريد الوالد
نحن – اذهبوا إلى العم فهو خير لكم .
الناس – نريد الوالد
نحن – هل تريدون شرائه , حددوا الثمن ! , (هكذا نطقنا بعد أن ثارت منا الأعصاب )
التفتنا نحو الوالد الجالس على كرسي قرب باب حجرته , كان الأحفاد قد أحاطوه من كل جانب , لا اثر فيهم لابتسامة أو ضحكة مجاملة مرسومة على الشفاه والوجوه , بل تحدي .
الوالد – سأضع الكرسي عند باب الدار متى أشاء .
جميل محسن



#جميل_محسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مناطحة القرضاوي وفضل الله ... وبراءة الدين الاسلامي
- دائرة الدخان البغدادية
- الرموز الشيوعية لماذا تلاشت؟ وهل يحتاج اليسار الى رموز!؟
- الامارات تقدم حلوى عربية لاطفال العراق... اسقاط الديون
- الاسد والذبابة وديك الجيران
- هل سيرتاح لبنان بعد اتفاقية الدوحة؟
- عاهرة صغيرة
- عشر قصص قصيرة قبل الانفجار
- كتلة تصحيح المسار والاقتصاد العراقي... قراءة اولية
- قصص قصيرة جدا ... من الشارع العراقي
- قصص قصيرة جدا ..... للعراقيين فقط
- لحية كالديرون وضحالة تفكير الراسمالي
- السيادة العراقية .. ! شمالا حيث الجبال
- مغنية وغيفارا ... مثالية او مادية؟
- مباراة العراق والصين ,,,, ملاحظات ادارية
- منتخبا العراق ومصر بكرة القدم ... نحو كأس بطولة القارات 2009
- دعوة لوحدة اليسار العراقي .. ام للبحث عنه ؟
- اتفاقية الجزائر بين العراق وايران ... والمزايدات السياسية
- بلير يتحول للكاثوليكية ! افهم دي ازاي؟
- شافيز 2050


المزيد.....




- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جميل محسن - والدي المريض يتنفس احفاده