أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - فائز الحيدر - من الذاكرة ، أيام صعبة بإتجاه الوطن ، الحلقة الأولى















المزيد.....


من الذاكرة ، أيام صعبة بإتجاه الوطن ، الحلقة الأولى


فائز الحيدر

الحوار المتمدن-العدد: 2477 - 2008 / 11 / 26 - 09:02
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    


هذه فصول من ذكريات لا تنتهي ، كتبت بعد سنوات طويلة من الحدث ، وهي تحمل ذكريات ، ويوميات فيها عنفوان التجربة ونبض الحياة ، وحماس ، وتداعيات تلك الأيام ، وبطولات أولئك الأبطال الذين تقدموا في العطاء الأنساني والجود . وهذه الذكريات لأبطال حقيقيون عايشوا الصعوبات بساعاتها وأيامها وسنينها ، أولائك الذين حلموا بشمس عراقية في أرض الرافدين ، لا في المهاجر والمنافي البعيدة ، ان تجربة الكفاح المسلح في العراق غنية بالدروس والعبر ، وتتطلب الدراسة والتوثيق من الذين عايشوها أو أشتركوا بها ، وما كتب عنها ليس بكاف ، وعبر المراحل التأريخية التي مرت بها.

ان الكتابة عن هذه التجربة ليس عملا" يسيرا" ، اذ لابد من المسؤولية والموضوعية ، والحكم التأريخي ، حيث سقت دماء الشهداء ارض الوطن . لقد استشهد عدد كبير من أبطال هذه الذكريات ، عسى ان تذكر هذه الذكريات لهم شيئا" من الجهد والتضحية والعرق والحلم والأمل الذي دفعهم الى السير في ذلك الطريق وفي تلك الأحداث وفي هذه اليوميات ، فللشهداء جميعا" نهدي هذه الذكريات .

في أواسط تشرين الأول / 1982 غادرنا عدن عاصمة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية متوجهين الى العاصمة السورية دمشق ، ومنها بعد عدة أيام الى مدينة القامشلي الواقعة في الشمال الشرقي لسوريا قرب الحدود السورية التركية . كان المفروض ان نغادرها بأتجاه الوطن خلال أيام ولكن مع الأسف استمر بقائنا في هذه المدينة عدة أشهر أنتظارا" لوقت العبور المناسب . تجمع في هذه المدينة شباب وشابات من مختلف الأعمار ، المهن والتحصيل العلمي . البعض منا دخل دورات تدريب عسكرية مكثفة في جمهورية اليمن الديمقراطية أو في المخيمات الفلسطينية في لبنان ، والبعض الأخر قطع دراسته في اوربا أو ترك عمله أو عائلته وهو لا يعرف كيفية مسك البندقية وأستعمالها ومبادئ القتال الأولية . ولهولاء جرت تدريبات بسيطة لبضعة أيام بضواحي مدينة القامشلي استعدادا" للسفر .

طالت فترة أنتظارنا أكثر من المتوقع بسبب تراكم الثلوج على قمم الجبال شتاء" وحشود القوات العراقية والجحوش (1) على طرق عبور الأنصار والظروف الأمنية على الحدود السورية التركية واحداث بشت آشان الدموية ربيع عام 1983 ، الجميع يعيش في بيت واحد قديم مكون من غرف عدة وتتوفر فيه الخدمات اليومية البسيطة المؤقتة ، لا يسمح لأي شخص بالخروج منه والأختلاط مع الآخرين الا بموافقة خاصة ، تسليتنا الوحيدة في هذا الدار الواقع على أطراف المدينة لا تتعدى عن اداء الخدمات اليومية والطبخ والمطالعة ومتابعة الأفلام والمسلسلات العربية في التلفزيون العربي السوري ولعب الورق وقراءة الصحف على قلتها . انصار يغادرون وآخرين قادمون من ارض الوطن نلتقي بهم في نفس الدار يتحدثون لنا عن تجربتهم وبطولاتهم .

في بداية شهر آب / 1983 الحار وقبل بضعة ايام من السفر وزعت علينا البنادق الرشاشة ، علمنا عندئذ ان موعد تحركنا نحو الوطن قد أصبح قريب مما زاد من فرحنا ، الكل مشغول بالتهيئة للرحلة الطويلة ، أختيار الملابس الكردية المناسبة على المقياس ، تفكيك السلاح وتنظيفه ودهنه بالزيت وملء مخازن العتاد ، ربط النطاق والعتاد على خصر النصير ، كيفية لبس البشتين ( 2 ) على البطن .... الخ . ثم أخذنا نحسب الساعات بأتجاه ساعة الصفر لبدأ الرحلة .

في اليوم الثاني عشر من شهر / آب / 1983 وفي ليلة حالكة الظلام ، والرؤية لا تتجاوزعدة امتار بغياب ضوء القمر وهو الوقت الملائم لعبور الأنصار للحدود ، تحركنا بأتجاه قرية المالكية السورية الحدودية المواجهة لتركيا متجهين نحو الوطن يرافقنا الدليل التركي المعروف من قبل الأنصارالشهيد ( صوفي ) ( 3 ) وأحد رفاقه الأتراك . تحركت مفرزتنا المكونة من الأنصار خيري ، عايد ، ياسين ، أبو مازن ، ابو هلال ، كفاح ، وأنا ابو سوزان والنصيرة الوحيدة زوجتي أم سوزان ورفيق آخر لا تسعفني الذاكرة بتذكر اسمه .

توجيهات مشددة وتعليمات كثيرة ، المسيرة شاقة جدا" ، الطريق يستغرق على الأقل أسبوعين سيرا" على الأقدام وسط طرق جبلية وعرة غير أمينة ، لا يسمح بحمل أكثر من 2 كيلوغرام من معلبات السمك واللحوم ورغيفين من الخبز وهي متاع الطريق والحاجات الشخصية البسيطة في حقيبة الظهر المصنوعة من القماش( عليجة ) ، أضافة للسلاح الشخصي المكون من بندقية كلاشنكوف وخمسة مخازن عتاد وقنبلتين يدويتين والأستغناء عن كل شئ غير مهم ، التوجيهات تشدد على السير بنسق واحد وخطوات مدروسة ، نزع الساعات اليدوية والخواتم الذهبية ، رفع بطاريات الراديو أن وجدت ، عدم التحدث مع أي نصير إلا في الحالات القصوى ، عدم التدخين ، وكل نصير يتبع النصير امامه ويعتبره دليلا" له ، اتباع تعليمات الدليل صوفي بحزم .

طريق مسير الأنصار بأتجاه الوطن يمر في البداية داخل الأراضي التركية وبين أبراج المراقبة الحدودية التركية والموزعة على طول الشريط الحدودي ذو الأسلاك الشائكة والتي لا يبعد أحدها عن الآخر سوى 200 متر في الغالب أو أقل ، وهي أخطر مناطق العبور التي تواجه الأنصار ، وأتذكر هنا أن وفدا" صحفيا" من أحدى الصحف اليسارية الفرنسية جاء الى مدينة القامشلي يود التوجه الى العراق حاملين على ظهورهم أجهزة تصوير ومعدات صحفية كبيرة لتغطية نشاط حركة الأنصار في الوطن ، دعيت من قبل الرفيق ابو محمود ( جلال الدباغ ) لغرض تناول طعام العشاء معهم في احدى الكازينوات والترجمة من الأنكليزية الى العربية وأطلاعهم طريقة وكيفية عبور الحدود والمخاطر المتوقعة خاصة وهم يحملون معدات صحفية ثقيلة ، وعندما أدركوا أن عملية عبور الحدود تحتاج الى المخاطرة بحياتهم خاصة وان عبور الحدود سيتم من بين ابراج المراقبة التركية أدركوا عندئذ مدى خطورة المهمة التي جائوا من أجلها فتخلوا عنها مباشرة .

بدأت حركتنا من قرية المالكية بنسق جيد دون حدوث أي طارئ وألتزم الجميع بالتعليمات ، وفي الخطوات الأولى لتحركنا داخل الحدود التركية عبر الأسلاك الشائكة الحدودية أنهال الرصاص علينا فجأة من ابراج المراقبة التركية على خط سير المفرزة ولتمشيط المنطقة ، الرصاص يئز فوق الرؤوس كأنه معزوفة موسيقية وبعدها بثوان سلطت علينا الأضواء الكاشفة ، أتخذ جميع الأنصار موضع الأنبطاح أرضا"وسط الأدغال ، وألتزم الجميع الهدوء التام وسط الرصاص الذي يمر فوق رؤوسنا وعلى بعد أقدام منا ، واصلنا الهدوء والزحف على الأرض ، الرصاص الكثيف لا زال مستمر من ابراج المراقبة ، أنتظرنا عدة دقائق ونحن على هذا الحال ، لم تصل أي تعزيزات عسكرية ، ومن تجربة الأنصار في العبور لا يبدوا أننا وقعنا في كمين لرجال الحدود الأتراك حيث عادة ما يقوم الجندرمة الأتراك بأطلاق النار على أي مصدر لصوت يسمع وبشكل عشوائي لأنعدام الرؤية في هذه الساعات من الليل بسبب الظلام وتأدية للواجب العسكري المكلفين به دون ان يكون هناك هدف معين أو تحديد لمكان عبور مفارز الأنصار التي عادة ما تعبر الحدود في فترة غياب القمر وأشتداد الظلام ، وسبق وان أستشهد العديد من الأنصار القادمين من الوطن وجرح آخرين في نفس المنطقة بعد وقوعهم في كمائن لرجال الحدود الأتراك عند محاولاتهم دخولهم الأراضي التركية كما وعادت مفارز أخرى ادراجها الى داخل الأراضي السورية مع عدد من الأنصار الجرحى لنفس السبب .

أصاب الجميع الأرتباك ولا نعرف ما هي الخطوة التالية فهي التجربة الأولى لهذه المجموعة من الأنصار !! ننتظر التعليمات من الدليل صوفي المكلف بقيادة المفرزة وحمايتها .....بعد دقائق خفت حدة النيران ، الدليل التركي صوفي يطلب مواصلة السير السريع والأبتعاد عن المنطقة تفاديا" لتحديد موقعنا ، الجميع يندفع نحو الأمام في نسق واحد وليس أمامه غير شبح رفيقه في المقدمة ، وكل واحد منا يسأل نفسه هل تجاوزنا مرحلة الخطر أم لا ؟ ماذا نعمل لو هاجمتنا القوات التركية ونحن في بداية الطريق ؟ ماذا تفعل زوجتي ام سوزان لو استشهدت أو وقعنا في الأسر ، عشرات الأسئلة تدور في البال وتحتاج الى جواب ووسط هذا الأرتباك والتفكير والظلام ، ولسوء الحظ دخلت قدمي اليمنى بين صخرتين كبيرتين نابتتين في الأرض لم أتمكن من رؤيتهما عن بعد بسبب شدة الظلام وأصبحت مشلول الحركة كليا" ولم أستطع من تحرير قدمي رغم المحاولات العديدة ، الموقف حرج للغاية ، رشقات من رصاص الأسلحة الرشاشة لا زالت تمر فوق روؤسنا وعلى خط سير المفرزة بين فترة وأخرى .

يا له من حظ تعيس ونحن في بداية الطريق ، ما العمل الأن ! حاولت بطرق عديدة تحرير قدمي دون جدوى ، لا زالت رشقات الرصاص وأزيزها تمر فوق رؤوسنا ، حملّت نفسي مسؤولية ما حدث ؟ كان عليّ الأنتباه الى هاتين الصخرتين الكبيرتين ؟ كيف دخلت قدمي بهذه السهولة ولا استطيع أخراجها الأن ؟ زوجتي النصيرة أم سوزان بجانبي تساعدني وفي عيونها الحيرة والأرتباك وهي تحاول عمل شئ ما ونحن في هذا المكان الخطر ، ابتعد عنا بعض رفاق المفرزة ، ووصل الخبر الى الدليل صوفي الذي كان يتقدمنا ببضعة امتار وتوجه ألينا .

ـ ما الذي يحدث هنا ؟ هيا اسرعوا قليلا" ؟؟ وهو يهمس في آذاننا .

ـ رفيق صوفي لا أستطيع الحركة ... أحتاج الى المساعدة ، يا له من حظ تعيس هذه الليلة ، عاد صوفي الى الأمام وهو ينظر أليّ محتارا" وطلب من مساعده التركي قيادة المفرزة نيابة عنه ومواصلة السير وعاد ثانية بأتجاهي وسأل :

ـ كيف حدث ذلك يا رفيق أبو سوزان ؟

ـ لا أدري ، لقد علقت قدمي بين الصخرتين ولا أستطيع تحريرها !

ـ بسرعة يا رفاق ليس أمامنا من خيـار أتركـوا أبو سـوزان في مكانه وسوف نعود أليه حالما يتوقف أطلاق النار ونطمأن للوضع ... لا أستطيع تحمل المسؤولية والتضحية بالمفرزة من أجـل نصير واحد فقط ، لنواصل السير اننا في موقع خطر وعلينا تجاوز التلال التي تشاهدونها أمامنا في أقل من ساعتين حتى نصل الى نقطة أستراحتنا الأولى ، وبعد النقاش رفضت النصيرة أم سوزان والنصير عايـد مواصة السير وأصرا على تقديم المساعدة جهد الأمكان.

ـ رفيق صوفي لا نستطيع تركه هنا وبهذا الحال ربما يقتل لنحاول مساعدته .

ـ حسنا" حاولا ما أستطعتم ولكن بصمت وأنتم ملاصقين للأرض ، لا ترفعوا رؤوسكم عاليا" سننتظركم عن بعد على تلك الرابية وسوف نوفر لكم الحماية كونوا حذرين في أي حركة .

ـ نعم يا رفيق صوفي سنحاول .... ولكن أنتظرونا عن قرب .. ربما نفقد أثركم لا تبتعدوا عنا كثيرا" .

وبخطة ذكية وهدوء وبعد عدة محاولات أستطاعت يد النصير عايـد( 4 ) وسط العتمة وبصعوبة أن تفتح قيطان الحذاء الجبلي الذي ألبسه وأخراج قدمي منه ومن ثم أخراج الحذاء من بين الصخرتين لأعاود لبسه من جديد وبسرعة ... وبدت على وجه النصير عايـد علامات الأرتياح والرضا وهو يقول :

ـ الحمد لله نجحت الفكرة لنحاول اللحاق ببقية المفرزة ... وثم بادر بقوله أنها البداية يا رفيق أبو سوزان وأمامنا الكثير من المتاعب في الطريق فعلينا الصبر والتحمل .

ـ شكرا" رفيق عايد على المساعدة بالفعل أنها البداية وأمامنا الكثير وعلينا التحمل والصبر ، هيا بنا نسرع فعلينا الأن الألتحاق برفاق المفرزة بأسرع وقت . كان عائد أصغر نصير في المفرزة ، لم يتجاوز التاسعة عشر من عمره ، رياضي وأكثر نشاطا" وحركة من أي نصير آخر وخاصة نحن الذين تجاوزنا الثلاثين من العمر ، لطيف المعشر ، مرح ، هادئ لدرجة كبيرة ، ذو أخلاق عالية . عارضت عائلته في البداية ألتحاقه بفصائل الأنصار لصغر سنه وقلة تجربته الحياتية وأعدام أثنين من أخوته من قبل النظام الدكتاتوري وفضلت أن يكمل دراسته بعد ان حصل على زمالة دراسية في أحدى الدول الأشتراكية ولكنه أصر أصرار الرجال على مواصلة الرحلة الشاقة وخوض التجربة الجديدة مع رفاقه وأنتقاما" لأخوته الأبطال .

بعد ساعات من السير ليلا" وفي خط مسير المفرزة وعند خطوط انابيب النفط العراقي عبر تركيا والمحروس بشكل جيد من قبل القوات التركية أغرق المزارعون أراضيهم الزراعية أستعدادا" لزراعتها في الموسم الشتوي القادم وتم اغراق طريق سير الأنصار الوحيد المار وسط هذه المزارع بالمياه واصبح الطريق موحلا" والسير فيه مستحيلا" وهذا لم يكن في الحسبان ، نزعنا أحذيتنا الجبلية وجواريبنا ورفعنا الشراويل الى ما فوق الركبة ، حقيبة الظهر تشدنا الى الخلف وكأنها صخرة كبيرة .

بدأنا السير حفاة وسط الأوحال لمسافة تقدر بنصف كليلومتر حاملين أحذيتنا حول رقابنا وسط نباح الكلاب وتحت أنظار المزارعين ، وعادة ما يكون هؤلاء المزارعين من المتعاونين مع المخابرات التركية وهذا الأمر زاد من قلقنا وخطورة طريقنا . تم تجاوز هذه المرحلة بصعوبة وبسلام ، معظم الرفاق قد أنهكهم التعب ، لكن الحماس والإصرار على مواصلة السير منحهم القوة للتغلب على التعب ، خصوصا" وأن المكان الذي سنجتازه بعد قليل هو الشارع الدولي المرتفع والموازي لأنابيب النفط والذي يعتبر من اخطر الأماكن في مسيرة تلك الليلة بعد دخول الحدود وعادة ما تسير عليه دوريات الجيش التركي في اوقات منتظمة ، جلسنا على جانب الطريق وسط العتمة نراقب الشارع لفترة طويلة للتأكد من عدم وجود دوريات عسكرية او كمائن في احد زواياه ، الجميع مشغول بتنظيف اقدامه من الوحل ولبس جواريبه وحذائه وهم يصغون بانتباه وترقب في وضع الانبطاح مع حمولتهم والأنفاس تتسارع والعيون مفتوحة في هذا الظلام ، ليس هناك من ضوء سوى الضوء الباهت الذي كان يأتي من الربيئة البعيدة المشرفة على ذلك الجزء من الشارع الدولي المحاذ لأنابيب النفط .. الكل ينتظر نتيجة الاستطلاع الذي يقوم به صوفي ورفيقه وبدورهم ينتظرون مرور سيارة الدورية للتأكد من خلو الشارع من الكمائن . لم يمض وقت طويل حتى علا في الأفق ضياء سيارة الدورية التي وقفت لفترة وجيزة أمامنا على الطريق وكأنهم يعلمون بوجودنا ثم واصلت طريقها . حينها تبين بعدها للمستطلعين أن الطريق أصبحت آمنة .

جاء الإيعاز من الدليل للمجموعة ببدء الصعود إلى الشارع والعبور بخفة وسرعة وهدوء ، في دقائق تم عبورنا الى الجانب الثاني وواصلنا المسيرة ، وعلينا في هذه المرة عبور الجسر الذي يقع على أحد الأنهار التي لا يبعد كثيرا" عنا وعادة ما تكون هناك ايضا" كمائن للجيش التركي على جانبي هذا الجسر ، بعد اٍستطلاع الجسر لفترة زمنية من كافة الجهات اعطيت الأوامر بعبوره بسرعة واتخاذ مواقع على الضفة الأخرى من النهر ثم واصلنا السير الى الأمام حتى سمعنا عن بعد صوت محرك أحدى السيارات فأخذنا مواقع القتال وكان كل ظننا انها دورية عسكرية للجيش التركي وصلها خبر تواجدنا في المنطقة ولكن عند اقترابها تبين انها تراكتور زراعي يحمل العديد من المزارعين ذاهبين لعملهم ، خرج لهم الدليل صوفي وتكلم معهم بعيدا" عن مواقعنا وأستطلع منهم عن سلامة الطريق القادمين منه وان كانت هناك كمائن للجيش التركي في الطريق ام لا ؟

بعد مسيرة الليل بكامله بطريق وعرة وجبلية ثم الى سهل مفتوح وصلنا قبل شروق الشمس الى نهر الخابور متأخرين عن الموعد المخطط له لعبور النهر بساعتين بسبب المشاكل التي واجهتنا في بداية الطريق وعلينا عبوره على الكلك المصنع محليا" والذي لا يخلوا من الخطورة خاصة وقت ارتفاع مناسيب النهر وسرعة تياره ، لقد تم تأمين مكانا" ملائما" لتهيئة وتركيب الكلك . كان الجميع قد أنهمكوا بنفخ الإطارات بأنفاسهم المتعبة ، ربطت الإطارات إلى بعضها بالحبال بشكل جيد وبسرعة ، أخذ ذلك منا ساعة ونصف من العمل الدؤوب حتى أصبح الكلك جاهزا" لعبور النهر . وكالمعتاد يجب وضع الحمولة على الكلك ويصعد الأنصار تباعا" وعلى وجبات حسب حجم الكلك وتحمله وهم يواصلون الجذف بالأيدي للمساعدة في حركته نحو الطرف الثاني للنهر بأسرع وقت .

تم عبورنا الى الضفة الأخرى من النهر بسرعة وعلى ثلاث وجبات ، الشمس سبق وأشرقت قبل أكثر من ساعة وهذا يضعنا في موقع خطير جدا" ومكشوف أمام دوريات الجيش والسمتيات التركية التي عادة ما تجوب المنطقة بعد شروق الشمس .

بعد مسيرة اكثر من ساعة في طرق جبلية وعرة ومعقدة كان في أنتظارنا رفاق الطريق من الأنصار بموقعهم داخل الأراضي التركية ومهمتهم استقبال الأنصار الجدد القادمين من سوريا وقيادة مفارزهم الى مواقع الأنصار المتقدمة والتي تبعد مسيرة عدة أيام أخرى سيرا" على الأقدام .

هذه هي محطتنا الأولى المسماة محطة ( ابو حربي ) ( 5 ) وهي احدى محطات الطريق التابعة للحزب لأسقبال القادمين الجدد وسبق وان تغير أسم المفرزة من مفرزة النقل إلى مفرزة الطريق بسبب تنوع المهام وأصبح لدى مفرزة الطريق مقر شبه دائم في أحدى ممرات سفح جبل ( ﮔلي كورتك ) التركي ، وهو عبارة عن شكفته ( مغارة ) بسيطة لا تسع لأكثر من عشرة افراد . والكثير من الأنصار يتذكرون تلك المحطة الجميلة التي تقع في سفح الجبل وكيف كان يجري استقبالهم وفي بعض الأحيان تجري حفلات ترفيهية بسيطة لهم . وبعد يوم أو يومين من الاستراحة يتم مرافقتهم من بعض رفاق المحطة نفسها وإرسالهم إلى قواعد الأنصار من خلال المرور بموقع كيشان ومقر الفوج الثالث للأنصار ومن ثم قاطع بهدينان والقواطع الأخرى .

لا يمكن تصور فرحتنا ونحن نلتقي بمن يستطيع أن يتكلم معنا من الرفاق ويجيب على أسئلتنا . سمعنا صوت الرفاق أبو وسن وتبعه صوت أبو أفكار وأبو آذار ، بعدها شاهدنا أبو هدى ورفاق آخرين . لا يمكن وصف مشاعرنا في تلك اللحظات الرائعة ونحن نرى هؤلاء الأبطال وهم يعيشون في هذه المحطة الجبلية النائية الخطرة لأشهر طويلة صيفا" وشتاءا" ، وبسرعة تمت تهيئة بطانيات للجلوس وعملوا لنا الشاي ، ووضعوا أمامنا خبزاً وشوربة عدس وهو طعام الأنصار المفضل والمتوفر في مثل هذه المواقع ... صحيح كنا نشعر بالعطش والجوع والتعب ، لكن وجود رفاق يمكن التفاهم معهم شيء كبير بالنسبة لنا في مثل تلك الظروف . وعرفنا فيما بعد أن المجموعة الموجودة في تلك المحطة تسكن في خيمة نصبت في مكان مموه بشكل جيد .

بعد كل هذا الجهد والأنهاك لليلة الماضية وتناول الخبز والشوربة والشاي صباحا" كان بأنتظارنا لحم البزن ( 6 )المشوي لوجبة الغذاء أعده الأنصار في هذا الموقع الجبلي المعزول والخالي من اي حياة ولا تسكنه غير الحيوانات المتوحشة ، سحب احد الأنصار في الموقع سكينه من حزامه وبدأ يدلكها بلحاء شجرة الجوز وبصخرة قريبة منها ، ساعده آخرين على نحره وعلق على غصن شجرة الجوز بجانب عين الماء ، وبسبب الجوع تم تقطيعه بسرعة وتوزيعه على الرفاق لكل واحد كمية مناسبة من اللحم يشويها بطريقته الخاصة . تحركت مجموعة من الرفاق لجمع الحطب وإشعال النار استعدادا" لشوي اللحم ، لا يوجد حل آخر سوى الشواء على طريقة البيشمرﮔة ، لا وجود لأساليب الحياة المتحظرة وسط هذه الجبال ، تعلمنا كيف نستعمل قطع أغصان اشجار الرمان الغضة وإزالة الأوراق منها لجعلها بمثابة شيش طويل لغرز اللحم ، كانت وجبة دسمة أمدتنا بكثير من الراحة والطاقة تبعها عدة أقداح من الشاي الزنكين وتمدد أثر ذلك عدد من الرفاق ودخل في غفوة الظهيرة بعد تعب الاكل ودسم الغذاء وثقل الهظم .

في هذا الموقع كهوف عديدة منتشرة على جوانب الجبال اضافة الى العديد من ( الكبرات ) المصنوعة من سيقان واغصان الاشجار وهي اماكن نوم واستراحة الأنصار وهم في طريقهم لمواقع الأنصار المتقدمة في العمق العراقي .. وبعد ذلك جاء أحد رفاق الموقع ليقول ....

ـ رفاق امامكم مسيرة طويلة وشاقة وسط طبيعة قاسية وقلة في المياه عليكم أخذ قسطا" كبيرا" من النوم والراحة والتزود بالأكل والماء من الأن وستغادرون في الرابعة عصر يوم غد لتواصلوا المسيرة طول الليل وعلى ضوء القمر وصباح اليوم التالي نرجوا التهيأ لذلك . قضينا طوال اليوم نقوم بالواجبات الأنصارية ، النزول الى النهر وجمع المياه ، خبز الخبز بالتنور لتوفير وجبة اليوم الثاني ، تنظيف السلاح وتزيته والأستعداد لأي طارئ ، تنظيم الحراسات اليومية والليلية ، التأكد ان كل شئ على ما يرام للمشوار القادم .

بعد العشاء دخلنا في نوم عميق حتى صباح اليوم التالي لنواصل رحلتنا الصعبة بأتجاه الوطن .

يتبع في الحلقة الثانية

الهوامش ــــــــــــــــــــــ
1 ـ الجحوش ..... أو قوات الفرسان كما يسميها النظام الدكتاتوري وهي قوات مرتزقة من العشائر الكردية أستغلها النظام لمقاتلة الحركة الكردية .
2 ـ البشتين ....: قماش رقيق ، طوله عدة امتار يلف على البطن وهو ضمن الزي الرجالي الكردي .
3 ـ صوفي ... ( الشهيد يوسف بايرام ) ... من أكراد تركيا ، عضو في حزب العمال الكردستاني التركي ، عمل كدليل لعبور الأنصار في جبال تركيا ، قتل في احدى المعارك مع القوات التركية بعد وقوعه في كمين تركي في 22 آذار / 1987 .
4 ـ عايـد ... هوالفقيد عباس طالب كاظم من مواليد 1964 من عائلة مناضلة ، توفي في كانون الأول / 2004 في مدينة مالمو السويدية جراء سكتة قلبية وهو جالس امام الكمبيوتر يتحدث مع رفاقه الأنصار .
5 ـ أبو حربي الختاري ... هو المناضل الايزيدي ( درمان سلو ) من قدامى الأنصار الأبطال توفي في تموز عام 2008
6 ـ البزن ... المعزة او الصخلة بالعامية وهو الحيوان المتوفر في كردستان بدلا" عن الخروف .

كنــدا

تشرين الثاني / نوفمبر / 2008



#فائز_الحيدر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أحياء بغداد ومقاهيها الشعبية منبع الأدب والثقافة
- الصابئة المندائيون والأرهاب عبر التأريخ
- الصابئة المندائيون ، شعب أم أمة أم طائفة دينية ... الحلقة ال ...
- الصابئة المندائيون بين الهوية والمستقبل المجهول
- من الذاكرة ، طفولة وذكريات عن ثورة 14 تموز / 1958
- هل يتعرض الصابئة المندائيون لخطر الابادة الجماعية
- الصابئة المندائيون ، شعب أم أمة أم طائفة دينية .... من المسؤ ...
- المندائيون والعهد الحاص بحقوق الأقليات
- دماء وشهداء في ساحة السباع
- النخلة المقدسة بين التراث والدين
- شجرة الزيتون رمز السلام والحياة والخصوبة
- الجت غذاء للحيوان ودواء للأنسان
- في الذكرى الثالثة لرحيل قاسم عبد الأمير عجام
- في ذكرى وثبة كانون الثاني / 1948 الوثبة التي قبرت معاهدة بور ...
- المهرجان الدولي التاسع للطلبة والشباب / صوفيا ـ بلغاريا 1968
- 2-من الذاكرة / المهرجان الدولي التاسع للطلبة والشباب بلغاريا ...
- المهرجان الـدولي التـاسع للطلبة والشباب تحت شعار ( تضامن ، س ...
- على ضوء رسالة كفاح أسعد خضير


المزيد.....




- مناضل من مكناس// إما فسادهم والعبودية وإما فسادهم والطرد.
- بلاغ القطاع الطلابي لحزب للتقدم و الاشتراكية
- الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي (الإتحاد المغربي للشغل) تدعو ...
- الرفيق جمال براجع يهنئ الرفيق فهد سليمان أميناً عاماً للجبهة ...
- الجبهة الديمقراطية: تثمن الثورة الطلابية في الجامعات الاميرك ...
- شاهد.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيم ...
- الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا ...
- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - فائز الحيدر - من الذاكرة ، أيام صعبة بإتجاه الوطن ، الحلقة الأولى