أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - صبحي جرجس .. حين طية المعدن تقول المكان وتختصر الزمن

















المزيد.....

صبحي جرجس .. حين طية المعدن تقول المكان وتختصر الزمن




يوسف ليمود

الحوار المتمدن-العدد: 2477 - 2008 / 11 / 26 - 08:02
المحور: الادب والفن
    


يواجَه من يقترب من صبحي جرجس، شخصا وعالما إبداعيا، بصورة الفنان في معناها الشامل, إن لم نقل المطلق. فيه تجسّد النحات والمصور والموسيقي والشاعر في آن. الصفتان الأخيرتان لم يُحشرا مجازا بل هما واقع وحيز له توقيته وساعته الداخلية، يدور في مينائها الفنان كعقرب، مالئا برقاص النحت والتصوير زنبرك الوقت وتروسه غير المبالية بالزمن أصلا. وإن قلت إنه يمثل، مع حامد الذي كان صديقه المحب وتوأمه الفني، قطبي كويكب فالت عن المدار، فلن أكون مبالغا، بل سأضيف إن دائرة من جليد ستذوب مكان وقوفهما من الوهج الفني الذي خصتهما به آلهة الحرارة والدفق.


بدأ بدراسة آلة القانون قبل أن يدرس الفن وتستقطبه موسيقى التراكيب عبر مواد التشكيل الملموسة. هنا أذكر أن آلة القانون كانت الغواية الفنية الأولى للعم نجيب محفوظ والتي انتزعه منها الأدب فيما بعد. فسألت، ذات مساء في أتيليه القاهرة، أستاذنا جرجس إذا كان ما يزال يلعب على القانون فرد بصوته الذي يفيض طاقة ودفئا، رافعا عقيرته وإنسان عينه الضاحكة يراوغ بلطف بؤبؤ عيني: "أنا ألعب على الآلات كلها ولا ألعب على أي آلة". وفهمت ما قصد.

في زيارتي الأخيرة لمصر الحبيبة العام المنصرم أردت أن أحقق أمنية طالما خانني الحظ والوقت فيها. أن أزور هذا الفنان في مرسمه. لم أره إلا لماما أيام دراستي قبل عشرين سنة، أو بعدها في زياراتي الشحيحة لبلدي، في الأمسيات التي يجلس فيها في أتيليه القاهرة، متوحدا ضاحكا ناثرا طاقته غير غافل عن دبيب ما يحدث حوله ولو مغلقا عينيه على سراديبه الداخلية الملحومة بالمكان وتاريخه الطويل.

على ناصية شارع طويل في حي شعبي قديم بمنطقة القللي المجاورة لمحطة السكة الحديد في رمسيس، نزلنا من التاكسي، المسطول سائقه، أنا وصديقتي المصرية ش وصديقي السويسري م. من هيئتنا، وبحدس شعبي لا يخطئ، فهم الجالسون على المقهي أننا نبحث عن بيت صبحي جرجس، ومن دون أن نسأل، أشاروا على محل بقالة بجانبه ورشة تصليح سيارات: "بيت الأستاذ صبحي هناك هنا". بيت شعبي بثلاثة أدوار. بعد عتمة المدخل وسلالم الدور الأول، رأينا الفنان في نور النيون الأبيض جالسا وسط غابة من المعادن وأدوات الطرق واللحام. طفل وسط ألعابه، أو إله بين مخلوقاته الصغيرة.



السيجارة في يده تعقبها أخرى. غرف المكان، بأدواره الثلاثة، مفتوحة على بعضها البعض في مساحات أزيلت حوائطها. محاولة المرور بين الأعمال تستدعي الحذر والحركة البطيئة خشية الارتطام بشيء: (قبل أيام من زيارتنا، حين رأيته جالسا في أتيليه القاهرة بقبعة على رأسه قلت: "ما هذا الجمال يا أستاذ صبحي!" ضحك وقال: "دي بطحة، خبطت رأسي وأنا أعمل، وأداريها بالقبعة". قلت: "هذا هو الفن". وضحكنا). الأعمال ملفوفة كالمومياوات في أكفان من بلاستيك. تنتشر على الأرض وفوق الطاولات. منها الواقف والنائم والجانح والمنكمش والمهاجم والمستدير والمستطيل والمربع والمختصر ككلمة والمستفيض كجملة ومنها الكبير ومنها الصغير، وجميعها تتمدد وتشتبك مع الفراغ في جدلية صامتة تنتزع حقها من التاريخ ومن الزمن ومن المكان ومن الموت، حقها في الوجود بقوانين الفن التي تسنها هي لهذا الوجود.



التبسيط الشكلي الذي تنبني عليها منحونات صبحي جرجس أساس جماليته وإن كان يصعب تصنيفها أو إرجاعها إلى اتجاه بعينه كالتقليلية مثلا. ورغم أن كل أعماله تتبنى الهيكل الآدمي وترده، رمزيا، إلى أشكال أولية أقرب إلى البدائية، تجد الطاقة التعبيرية طريقها في الخروج عبر كيفية ترتيبِه التشكيلي والرؤيوي لهذه الأشكال، وليس عبر الصراخ التعبيري الذي يقع فيه كثير من الفنانين الذين يتعاملون مع المفردة الآدمية كأساس ومنطلق.

أفك الأعمال من أكفانها البلاستيك وأحملها، واحدا إثر واحد، إلى مسرح المشاهدة على أرض الورشة. هو جالس يدخن وأنا منبهر. مع نزع الغطاء عن كل عمل تدخلني طاقته. تملؤني غيرة حد رغبتي في الجري لأعمل. روحٌ مؤكسَدة على التفافات صفائح وبساطة تراكيب تختصر حياة ً لتقول حياة. تختصر أزمنة غارت بأظافرها في جلد المكان لتحفر في حيز العمل زمنا جماليا منفصلا عن، ومتصلا، في الوقت ذاته، بالتربة التي منها انبسقت. الانفصال قانونُ الجمالية والروحُ التي تنظر على المجمل من علٍ. والاتصال لجامٌ يشد الفنان إلى التفاصيل في أسطوريتها وابتذالها وعذاباتها ليخرج من طرفيْ الخيط العلوي والسفلي بسن الرؤيا الذهبية مثبتةً ببراعة في الفك العظمي للعمل، معدنا كان أو سطحا من قماش.



أرى ردهة طويلة تسدها لوحات مكدسة في زحمة طوابير. أجيء بها واحدة واحدة إلى المسرح وأنبهر وهو يدخن فأدخن أنا أيضا. ملابسي غير المهندمة اتسخت من التراب المقدس للمكان. كم مرة قلت "الله" في تلك الساعة لست أدري! وكم مرة اقشعر بدني من روح الجمال فيما أرى لست أدري! قلت: "بعض التصاوير تذكرني بحامد ندا". رد فورا وبغبطة: "دا حبيبي".
يكون الفنان نحاتا حين النحت ومصورا وقت التصور، وإن تداخلت الأشكال نفسها في الجبهتين، والموسيقى رابطهما. فما يقال في التصوير عبر الخفة، يقال في النحت عبر الوزن والثقل. لكن أعمال جرجس النحتية مفرغة من الوزن كما هي مفرغة من داخلها. هذا الهواء الحبيس في أنابيب المعدن الملحوم، عزاؤه مقاييس زنزانته وأبعادها.  وعزاؤه أيضا أنه يخدم السطح الخارجي لأصداغ الصفائح التي ما كانت لتهب هذا الحس لو كانت مصمته. أفكر بهذا الهواء المسجون إلى الأبد داخل الاسطوانات الفنية فأتخيل رائحته كرائحة كنيسة تحت الأرض مغلقة من ألف عام. نجح الفنان إذأ في أن يحرر ظاهر عمله حين سَجن باطنه!


انتهت زيارتنا. ونحن نودعه على السلم أمسكت بيده ورفعتها إلى شفتي لأقبلها، ففاجأني بمحاولة فعل الشيء نفسه قائلا بصوته العريض الممتلئ: "اللي يبوس إيدي أبوس إيده". خرجنا إلى الشارع الذي نزل فيه الظلام. وأدركت أن هذه الساعة التي قضيناها معه ستظل بقعة نور في ذاكرتي طوال حياتي.



يوسف ليمود
النهار اللبنانية
رابط لمادة سابقة ذات علاقة:
http://www.doroob.com/?p=4878



#يوسف_ليمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مائة عام على الفنون الجميلة في مصر!
- أتجرد من ماذا لحساب ماذا
- الرحيل عن بيروت
- في رحيل ريك رايت أسطورة بينك فلويد وبينك فلويد الأسطورة
- في رحيل المصور حسن سليمان .. وقفة بين المرئي واللامرئي
- فرنان ليجيه في معرض استعادي .. أيقونة الحديث والمعاصر
- من يوسف ليوسف .. تلويحة غياب متأخرة
- سوق الفن السنوي في بازل وسؤال الوعي
- فن معاصر لثمانية مصريين في العاصمة السويسرية بيرن
- لوحة الأكشن في معرض بمتحف بايلار .. بازل - سويسرا
- نهر .. أتعبره أم يعبرك
- الوصول إلى الأبيض في معرض إستعادي ضخم لآدم حنين بالقاهرة
- نتاج ورشة عمل نيو ميديا على هامش بينالي الإسكندرية
- القيامة في فوتوغرافيا أندرياس جورسكي ومعرضه من جناح طائرة
- حوار مع منظّم معرض الفنانين المسلمين بمتحف الفن بنيو أوليانز ...
- ثنائية
- فن مصري معاصر في متحف الفن بالعاصمة بون
- جاسبر جونز .. رؤيته وإنجازه الفني في عشر سنين
- Face
- بقعة شمس


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - صبحي جرجس .. حين طية المعدن تقول المكان وتختصر الزمن