أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسب الله يحيى - ميلان كونديرا: ثلاثية حول الرواية















المزيد.....


ميلان كونديرا: ثلاثية حول الرواية


حسب الله يحيى

الحوار المتمدن-العدد: 2477 - 2008 / 11 / 26 - 08:02
المحور: الادب والفن
    



1- فن الرواية*
حقيقة بات كل المثقفين العرب بخاصة يعرفونها،كون تشيكوسلوفاكيا أصبحت تعني:ميلان كونديرا..حسب،وليس من أحد سواه.
ولأن كونديرا،كان متمردا حتى على الفكر الذي كان يسود بلاده،فإن هذا التمرد قد أعطى قارئه الحق في وضعه موضع الانتباه أكثر من سواه.
والواقع إن كونديرا يستحق هذا الانتباه فعلاً..ذلك إن رواياته الفذة(الحياة هي في مكان آخر)و(خفة الكائن التي لاتحتمل)و(كتاب الضحك والنسيان)و(البطء)و(المزحة)و(الخلود)ومسرحيته:(أصحاب المفاتيح)؛باتت-روايات وقصص ومسرحيات-تشكل حضورا بارزاً في النص الابداعي،نظراًلإمتلاكها قدرة تعبيرية فاعلة..
وبسبب تأثير هذه الاعمال الادبية المترجمة إلى العربية،صارت الحاجة إلى عمل نتلمس من خلاله المعنى الكامن في حرفية هذا الكاتب لفن الرواية..حاجة ضرورية..
من هنا جاءت أصداء كتاب كونديرا:(فن الرواية)الذي نشرت فصوله في أكثر من ترجمة عربية وفي عناوين عدة،حتى إذا جاءت ترجمته كاملة موحدة في كتاب أعدت له وترجمته:أمل منصور؛بمثابة المرجع الاساس لتجربة كوندبرا وآرائه في كتاب الرواية.
ومع أن للمترجمة ولنا رأي فيما ذهبت إليه عندما تحدثت عن إسرائيل بعد ان منحته جائزة الأدب العالمي؛إلا أن:أمل منصور ومن أفق ثقافي مفتوح يقبل بالحوار مع الآخر،قامت بترجمة كاملة وأمينة للكتاب بهدف تقديم كونديرا كما هو،لا كما تريد هي أو نريد نحن..فهو ليس بديلاً لأحد،ولسنا بدائل عنه..
ومع إننا نؤمن مع فلوبير وكونديرا كون:(الروائي ينشد الاختفاء خلف أعماله)إلا ان كونديرا لايخفي(تعاطفه)مع الصهيونية وما يسميه:(بلادهم الاصلية وإرتقاءهم فوق العواطف القومية)دون ان يكونوا على بصيرة كلية بالحقيقة الوطنية والقومية والانسانية التي يمتلكها الشعب الفلسطيني في أرض فلسطين المحتلة،ويحتاج الامر إلى مرجعية تاريخية ليبين كونديرا من خلالها إن الحقيقة التاريخية أكبر بكثير من الحقيقة الزائفة التي يمكن المثول أمامها..إستجابة لجائزة تمنح له وتدفعه إلى التنكر للحقيقة الموضوعية..فمثله لا يحتاج إلى إغراءات،الغرض منها الوصول إلى تزييف الاشياء والنظر إليها بأفق محدود..مثله..مثل عقله وإبداعه،يحتاج إلى أدلة وبراهين...وهي متسترة وفي متناوله..ولو أنه أرادها فعلا.
وهذه المسألة لا ينبغي علينا سحبها على(فن الرواية)ولا على سواه من كتب كونديرا،فكل فعل وكل إبداع،له منطقه وإستقباله الخاص به..خاصة وأن كونديرا نفسه يعترف(إن معظم أجزاء هذا الكتاب تدين بوجودها لظروف عديدة..)وإنه لم يعتزم تقديم بيان نظري أبداً بل كان يريد أن يقدم إعترافا مهنياً..والتعبير عن فكرة الرواية التي تتضمنها رواياته.
إنه ينظر إلى(دون كيشوت)كونه خرج(للبحث عن مغامرات باختياره)في حين وضعته رواية:(الجندي الطيب شفيك)أمام تساؤل يقول:(ماذا حل بالحرب وأهوالها حتى تصبح موضوع سخرية؟)في حين(كانت الحرب عند هومر وتولستوي ذات معنى ومفهوم واضح:يحارب الناس من أجل هيلين أو من أجل روسيا،في حين يذهب شيفيك ورفاقه إلى الجبهة دون أن يعرفوا لماذا،والمثير أيضاً دون الاهتمام بالمعرفة).
إن كونديرا يرى:(إن روح الرواية هي روح الاستمرارية:فكل عمل روائي هو جواب لسابقه،وكل عمل يحمل خبرة الرواية السابقة،لكن روح عصرنا تركز بشدة على حاضر من الاتساع والوفرة،بحيث يدفع الماضي بعيدا عن أفقنا ويقلص الزمن إلى اللحظة الراهنة فقط).
على وفق ذلك يرى كونديرا(أن الرواية لم تعد عملا وإنما حدثا عرضيا..وإيماءة بلاغة..)دون ان يناقش مسألة لماذا لا يكون هذا الفن عملا له حاضره ومستقبله،مثلما له ماضيه..شأنه شأن أي عمل إنساني لا ينجز من فراغ وإنما عن دراية مسبقة وهي تخاطب عن دراية حاضره ومستقبله.
وفي فصل أخر يناقش كونديرا نفسه عندما يشير الى أن(رواياته ليست سيكولوجية)وأنها:(خارج جماليات الرواية التي توصف بالسيكولوجية)في حين يشير لاحقا إلى ان(كل الروايات تدور في كل الازمنة حول لغز الأنا)فهل يمكن عزل(الأنا)عن ما هو سيكولوجي؟
إنه لا يعد حرب 1914حرباً عالمية كونها شملت أوربا فقط،إلا إنه يرى صفة العالمية كامنة في(الاحساس البالغ بالرعب..)وأن ما يحدث لم يعد قضية محلية وإنما تعد كل الكوارث عالمية وليس بمقدورنا الفرار منها..
من هنا..أصبح كونديرا يعتقد أن:(الرواية ليست إلا إستجواباً طويلاً،وتأملياً..وهو القاعدة التي بنيت عليها رواياتي كلها)ويضرب مثلا روايته:(الحياة هي في مكان آخر)والتي كان عنوانها الاصلي:(العصر الغنائي)الذي وجد فيه أصدقاؤه(مبتذلاً ومفرداً)وانه(كان غبيا في إستسلامه لآرائهم)!.
وإذا ما علمنا ان كونديرا واقع تحت تأثير بلزاك وانه:(لا يمكن للرواية أبداً ان تخلص نفسها من ميراث بلزاك)فإننا ندرك عندئذ وجود سبب وحيد لوجود الرواية وهو:(أن تقول ما يمكن للرواية فقط ان تقوله)و(إنها لا تفحص الواقع بل الوجود،والوجود ليس ما حصل).
الوجود هو عالم الامكانيات الانسانية:كل ما يمكن ان يصيره الانسان،وكل ما هو قادر عليه)وأن هناك إستمرارية لثيمة واحدة هي:(ثيمة إنسان يواجه عملية إنحلال القيم)وإن كل الاعمال العظيمة(تحتوي على شيء لم يتحقق)...حتى إذا عرفنا ان كونديرا يؤمن:(أن فن الايجاز ضروري،إنه يصر على ذهابنا مباشرة،إلى قلب الاشياء)أدركنا تماما توجهاته المتأملة والتي يقدمها دون تفاصيل وخياناته التي تعني:(صراع الانسان ضد السلطة هو صراع الذاكرة ضد النسيان)وأن العدائي عنده:(يشعر بالإذلال لوجود شيء فوق متناوله ولهذا يكرهه..وأن(الانسان في مواجهة الموت يستطيع ان يقول ويفعل ما يشاء..)مثلما هو(قادر على إرسال جاره إلى الموت تحت أي ظرف)ولذلك يدعو الى(تحرير الكوكب من قبضة الانسان)وهو ما تذهب اليه روايته(حفلة الوداع).
إن كونديرا يعتقد(أن الانسان يفكر والحقيقة دائما تهرب منه)وأن(كل رواية تقدم إجابة على سؤال:ماهو الوجود الانساني،وأين يكمن شعره؟).
وأن(الارضاء،هو ان تؤكد كل شيء يريد الأخر سماعه،وأن تضع نفسك في خدمة تلقي الافكار)...وهذا ما فعلنا ونحن نراجع ونتأمل أفكاره..ونتفق معه في جوانب،ونختلف معه في جوانب أخرى...لكنه يبقى حقيقة ماثلة لابد ان نصغي إليها ونحاورها.

2- خيانة الوصايا**
يستوقفنا ميلان كونديرا دائما.
يستوقفنا بهذا الثراء الابداعي،والفكر اليقظ،واللمحة الجديدة المجتهدة..وهذا كتاب جديد له يترجم إلى العربية بعنوان(خيانة الوصايا)ترجمة وتقديم لؤي عبد الاله،فماذا نجد فيه؟
يقول المترجم:((إكتشفت السبب الاساسي الذي جعل دور النشر العربية تتردد في ترجمة(خيانة الوصايا)إنها الموسيقى المنبثة بين ثنايا الكتاب التي أعاقت المترجم العربي من معالجة النص،وما أعنيه بالموسيقى مجموعة من المفاهيم الموسيقية)).
ويضيف انه إكتشف وجود عائق أخر يتعلق بلغة كونديرا(التي تقترب من الحديث الشفهي).
ويبدو لنا إن الاسباب التي يوردها المترجم في عدم ترجمة كتاب كونديرا هذا غير مقنعة،فالمفاهيم تعني الدقة في تحديد المعنى،أما الحديث الشفهي فهو غالبا ما يكون حديثا تتداخل فيه الكثير من زوائد الكلام،ومن الاطناب،ومن الممكن تكثيف مثل هذا الحديث..
كذلك..تصبح ترجمة(خيانة الوصايا)ميسورة ما دامت تعده توسيعا وتعميقا لموضوعات كتاب(فن الرواية)وذلك بعد ان ظهر بأكثر من ترجمة إلى العربية إحدها صدر في عمان والثاني في القاهرة،فضلا عن نشر ما ورد فيه من دراسات مترجمة في عدة مجلات ثقافية عربية..في ترجمات ثالثة ورابعة..ونمضي في(خيانة الوصايا)لنقرأ كونديرا:
(الرواية..علّمت القاريء ان يكون فضولياً حول الآخرين..وان يكون قادرا على إدراك الحقائق المغايرة لحقائقه الخاصة).
وهذه مهمة كل الابداع والفكر،فلو لا أن الآخرين يعنينا أمرهم،بوصفنا نماثلهم في المصير الانساني ونسعى للتأثر فيهم؛ما كان هناك حس إبداعي ولا إبتكار ولا إرادة في المعرفة..ولكان كل منا داخل نفسه يناجيها ويأنس لها دون سواه من البشر!
ويرى كونديرا:(أن التاريخ البشري وتاريخ الرواية شيئان مختلفان تماما.
الاول:لا يتحدد على وفق إرادة الانسان،بل هو يقوم بالاستيلاء على مصيره كقوة أجنبية،لا يستطيع التحكم بها،بينما نجح تاريخ الرواية أو تاريخ الرسم أو الموسيقى ثمنا لحريته،ولإبداعاته الشخصية البحتة،ولإختياراته الشخصية..وتاريخ الفن هو إنتقام الانسان ضد الطبيعة اللاشخصية للتاريخ البشري).
ولكن..من يكتب تاريخ البشرية،سوى البشر أنفسهم،وهم المسؤولون عن تقديم حقيقة أو زيف هذا التاريخ؟
وحتى المبدع،يمكن ان يشوه حقيقة التاريخ،مثلما يمكن ان يتعامل مع هذه الحقائق برؤية فنية لا علاقة لها بدقة الحقيقة وبوثائقيتها.
هناك قلة نادرة من تتعامل مع الحقائق بموضوعية،والاكثر ندرة من يجد في التاريخ خلفية لتعميق وجود الشخصيات والاجواء في العمل الابداعي..وهذه الندرة تمتلك حرية البوح،وتفدي وجودها دفاعا عن هذه الحرية..من هنا كان:(المؤلف الذي يكتب رواية لتصفية حسابات شخصية،سواء كانت شخصية أو إيديولوجية لا يحصد سوى العالم المخرب جماليا).
وفي حديث كونديرا عن تشويه كافكا،نتبين أن ماكس برود الذي نشر أعمال صديقه كافكا بعد موته كشف-أي برود-عن نفسه كونه:(شخص تعشقه النساء ويمقته رجال الادب)وان:(كافكا من وجهة نظر برود،مفكر ديني،على الرغم من حقيقة كونه لم ينشر فلسفته او رؤيته الدينية بشكل منتظم..ولا يمكن فهمه ما لم يتم الفصل بين أقواله المأثورة،وكتاباته السردية).
ويضيف برود:(إن كافكا يطرح عبر الكلمة إيمانا ودعوة متزمتة للفرد كي يغير حياته،أما بالنسبة لرواياته وقصصه فكافكا يشرح العقاب الرهيب الذي ينتظر اولئك الذين لا يرغبون بسماع كلمة الحق،والذين لا يتبعون الطريق القويم).
ولا نعتقد ان ثمة فواصل بين أقوال كافكا وأعماله الابداعية..فما هو مأثور وحكمي لا نستدل عليه بشكل مباشر بالضرورة،بل يمكننا إكتشافه وإستنتاجه من مجال العمل الصادر عن كافكا..ومن خلاله يمكن ان نصطفي المأثور الذي من النادر غيابه في كل عمل فكري وإبداعي.
وينقل كونديرا عن نابوكوف إدانته لرؤية سرفانتس(دون كيشوت)والتي يرى(أنها إكتسبت أكثر مما تستحقه..فهي رواية ساذجة،وأحداثها متكررة ومملوءة بأفعال جد قاسية غير قابلة للتصديق وهذا ما جعلها الرواية الاكثر بربرية وحنقا).
في حين يرى كونديرا إن عمل سرفانتس العظيم:(دون كيشوت)(يظل حيا بفضل طابعه غير الجدي).
وهذه(اللاجدية)هي التي جعلت كل هذا الاهتمام بسرفانتس قائما..
إن(اللاجدية)هنا تفرد،تميز سرفانتس عن سواه..
كما أن السخرية المرة،والكشف عن البطولة الزائفة..هي التي جعلت(دون كيشوت)عملا إبداعياً أثيراً..لا يسير في خطى الرواية التقليدية وموضوعاتها المتكررة..
إنه وصل الى قناعة في تخطيها والبحث عن صياغة إسلوب وعالم روائي جديد ومتفرد..ليس من سلالة غيره وبئر إبتكاره.
وفي فصل آخر،يناقش كونديرا الى ما ذهب اليه الموسيقي سترافنسكي في كتابه(وقائع حياتي)الذي يقول فيه:(الموسيقى عاجزة عن التعبير عن أي شيء سواء كان شعورا أو سلوكا ما،او حالة نفسية معينة).
ويرى كونديرا:(قد تكون القناعة الراسخة المناقضة لرأي سترافنسكي،والتي ترى بأن علة وجود الموسيقى تكمن في كونها تعبير عن المشاعر،وموجودة دائما،لكنها لم تصبح سائدة،ومسلما بصحتها كبديهة الا في القرن الثامن عشر وقد عبر عنها جان جاك روسو ببساطة:مثل كل فن،ذلك أن الموسيقى تقلد العالم الحقيقي ولكن بطريقة معينة،إنها لا تمثل الاشياء مباشرة،بل هي تثير في الروح الانفعالات نفسها التي نشعر بها عند رؤية هذه الاشياء،وهذا يتطلب بنية خاصة للعمل الموسيقي)..ويرى روسو أنه(لا يمكن تأليف الموسيقى إلا من هذه العناصر)اللحن او الاغنية،التوافق).
فهل كان سترافنسكي يريد ان يجرد الموسيقى من أهم صفاتها ومن أبلغ مهماتها؟
إنه الاقرب الى اولئك الذين يريدون للادب ان يكون مجردا من بلاغة حكمته،بحثا قيمة شكلانية أحادية،مما يفقد جدوى الادب والفن في الارتقاء بذاكرة المتلقي!
ويعود كونديرا من جديد الى مناقشة كافكا،مشيرا الى أن كتب روايته(أمريكا)وعمره(29)عاما،إختار قارة لم يزرها قط،وعّد كونديرا هذه المسألة تعود الى سعي كافكا الواضح ل(إقصاء الواقعية عن كتابته،وأكثر من ذلك:الابتعاد عن كتابة عمل جدي).
ولكن...هل كان كافكا ملزما بكتابة رواية واقعية،ولماذا لانعد مكان روايته مكانا متخيلا لا نقرنه بفوتغرافية الواقع،وهل إن إبتكار واقع روائي،يشكل مأخذا بحيث نعد صاحبه في حالة إبتعاد عن الجدية؟.
إن كونديرا لا يقنعنا بصواب آرائه،كما لا يجيب عن اسئلة يمكن أن تكون مثار جدل في واقعية الابداع،وفي جدية أو دعم هذه الجدية في هذا العمل او ذاك.
واذا(لم يستطع أندريه جيد أن يفهم سبب إشمئزاز كونديرا من دوستويفسكي)كما يرى في كتاب كونديرا؛فإننا كذلك لا نعرف لماذا ينظر الى جدية الابداع من خلال تماسه بالواقع..ولماذا ينظر الى قصة همنغواي(هضاب كالفيلة البيضاء)كونها(قصة شاذة)لمجرد(إننا نستطيع تخيل عددا كبيرا من الحكايات وراءها..)
أليس من حق المتلقي ان يتخيل ما يشاء في النص؟
أليس لصاحب النص ان يتخيل واقعا من عندياته؟
وإذا كان أندريه بريتون في(البيان السريالي)قد عد الرواية(جنسا أدبيا دون المستوى،وذا إسلوب يستند على معلومات صافية وبسيطة)-كما يردد كونديرا هذا الرأي-فإن عددا كبيرا من المفكرين قد لجأوا الى إيصال أفكارهم عن طريق كتابة أعمال روائية بينهم:سارتر،ودوبريه،وغارودي،وبرتراند رسل...وغيرهم.
ولولا أهمية الفن الروائي،لما كانت رواية(المزحة)لكونديرا نفسه مثار إشكال بحيث(يرسل البطل..الى وحدة عسكرية تأديبية بسبب حبه للرسم التكعيبي..الثورة إعتبرت إن الفن الحديث عدوها الايديولوجي الاول).
يقول كونديرا:(ولائي للفن الحديث مبني على عاطفة قوية مثلما هو حبي للرواية اللاغنائية،والقيم الشعرية القريبة الى روح بروتون،قريبة الى روح الفن الحديث بشكل عام).كما(التوقد،والكثافة،والمخيلة الجامحة،وإحتقار لحظات الحياة الفارغة،وتجنيد نقلها الى الادب).
ويضيف كونديرا:(مضيت باحثا في الارض غير المخدوعة للرواية،لكن هذا ما جعلها أكثر اهميةبالنسبة لي).
هذا البحث هو شاغل المبدع..وسره الخفي الذي يريد ان يواجه العالم..لا أن ينقل واقعا ماديا،وإن كانت بعض صور هذا الواقع أكثر فنطارية من المتخيل في أحيان كثيرة..
إن الفن الحديث-يقول كونديرا-:(ثورة ضد تقليد الواقع)كذلك فإن(الجوهري في الرواية،هو الشيء الذي لا يمكن ان تقوله إلا الرواية).
ويقف كونديرا على الضد من الفكرة الراسخة بوصفها متوقفة وجامدة ومحددة..ويرى أن:(الفكرة التجريبية لا تسعى إلى الاقناع بل إلى الالهام،والى إلهام فكرة أخرى،لتجعل الفكرة في حال حركة،لذلك على الروائي أن يفكك أفكاره ويبعدها عن أية تشكيلة نظامية،يمكن أن تسقط أي حاجز يكون قد بناه حول افكاره).
إن كونديرا يقف هنا على الضد من العقائدية الجامدة التي لا تكرس نفسها للابتكار والتجدد والانطلاق من السكونية الى الحركة..
ويمضي كونديرا في تقديم عدد من الحالات التي حالت دون القبول بنشر كتاب(أهالي دبلن)لجيمس جويس وإحراق بروفاتها في المطبعة عام1912،وما جرى للموسيقى الجيكوسلوفاكي ياناتشيك في إلحاق الاذى به:(إذ جبر على مشاهدة اول عرض لاوبرا نيوفا-التي رفض مسرح براغ الوطني تقديمها عام1903 وعام1916-بعد إجراء تعديلات كثيرة عليها وبتوزيع قائد اوركسترا ظل يرفض هذا العمل لمدة أربعة عشر عاما،وبعد ذلك أجبر ياناتشيك ان يكون معترفا بالجميل له..وأصبح الكل متسامحا معه في بوهيميا،وما أعنيه بالتسامح هو ان العائلة التي لا تستطيع التخلص من إبنها غير المحبوب تقوم من بعد بإذلاله..).
كذلك نجد المخرج أورسون ويلز كان قد رأى في تأويل(المحاكمة)لكافكا تعبيرا عن البر اءة والانتفاض ضد الاستبداد،بينما وجدها ناشرها تعبيرا عن الذنب واليأس والخلاص..
إن هذا التباين في النظر إلى الجريمة والتنديد بالمتهمين فيها حسب الظروف..مؤشر على الاداة القمعية التي عاشتها اوربا لمدة(70) سنة واجهت فيها العديد من التهم إلى:بونين،واندرييف،وميرهولد،وبليناك،وفيبرك،وماندلستام،وبروك،وسيثنبرغ،ويرفيل،برشت،والأخوان هاينريش وتوماس مان،ووموزيل،وفانكورا،وشولز..كما سلطت المحاكمة على المتعاطفين مع النازية:هامسون،وهايدجر،وشتراوس..ولمؤيدي موسوليني:مالابارت،وماريني،وعزرا باوند..
محاكمات من كان في الثورة،ومن كان ضد الثورة هناك..في بقاع كثيرة من العالم،ولا احد يوقف الدم الانساني المهدور.
كونديرا في(خيانة الوصايا)يخرج من طابع الرواية والقصة والدراسة والسيرة،ليقدم رواية هو جزء من رؤية،وقراءة،وسيرة،وموسيقى،وأدب،ونقد،ومواقف فكرية وإبداعية..
إنه لا يوصي بشيء،لأن كونديرا يخون وصاياه،وكل ما الزم نفسه به،وذلك بإتجاه ان تتنفس الكتابة حريتها،لتكون خارج الاجناس،وخارج نظام كل وصية ملزمة سواء من داخل نفسه او خارجة عن إرادته.
ومن قرأ أعمال كونديرا من قبل،لابد ان يقرأ هذا الكتاب حتى تتشكل عنده نظرة كلية الى مبدع مجتهد ومتمرد يبحث عن أفق جديد..

3-الستار***
ينفرد كونديرا من بين الروائيين العالميين في الكتابة عن حرفية الروائي.
صحيح ان:فرجينيا وولف وفورستر وجرييه وغيرهم..كتبوا عن فن كتابة الرواية،إلا ان معظم الذين كتبوا؛تحدثوا عن تجاربهم وطريقة عملهم ووصف الشخصيات التي تناولوها في أعمالهم،اكثر من كونهم تحدثوا عن الرواية بوصفها فنا له نظامه ورؤاه وأبعاده.
كونديرا..على العكس من ذلك،تحدث عن روايات الآخرين وطرق كتابة الرواية عبر ثلاثية بدأها ب(فن الرواية)ومن ثم(الوصايا المغدورة أو خيانة الوصايا)وصولاً إلى(الستار).
وقد ظهرت الكتب الثلاثة بعدة ترجمات عربية وبشكل منفرد،الى ان توفر الى ترجمتها مجتمعة الناقد السوري:بدر الدين عرودكي،وأصدرها في مجلد واحد بعنوان:(ثلاثية حول الرواية).
وإذا كنا قد تحدثنا عن الكتابين السابقين وبترجمتين مختلفتين،فإننا نحرص هنا على إستكمال مناقشة الكتاب الثالث(الستار)بترجمة:بدر الدين عرودكي.
وبدءاً نجد ان مفردة(الستار)توحي بفن المسرح أكثر من إيحائها الحديث عن الرواية..إلا ان الوقوف عند صفحات(الستار)توضح لنا اهمية ان يتولى كونديرا
إزاحة الستار عن العديد من الروايات والر وائيين،ممن ترجمت أعمالهم إلى العربية،وممن تعذر علينا قراءتهم بلغاتهم المختلفة،بسبب تخلف وفوضى حركة الترجمة الى العربية.
ودراسة(الستار)تقع في سبعة أجزاء هي:
وعي الاستمرارية،والادب العالمي،والخوف من روح الاشياء،ومن هو الروائي؟،وعلم الجمال والوجود،والستار الممزق،والرواية:الذاكرة والنسيان.
ويحدد كونديرا في(الستار)حقيقة ان(الشخصيات الروائية لا تطلب أن نعجب بها لفضائلها؛إنها تطلب أن تفهم).
والفهم هنا ضرورة..ذلك إن الفضائل نفسها تحتاج إلى فهم وهي تتجسد عبر الشخصيات.
كما إن الفضائل موجودة،ولكن كيف نفهم منطوقها وهي تتباين وتتفاعل مع الشخصيات الروائية التي نتبينها في هذه الرواية أو تلك؟
يوضح كونديرا هذه المسألة بقوله:
(إن الحياة الانسانية..هزيمة،والشيء الوحيد الذي يبقى لنا في مواجهة هذه الهزيمة الحتمية التي تسمى الحياة،هو محاولة الفهم،وهنا سبب وجود فن الرواية).
إذن..الرواية ليست سرداً مجرداً من الفهم،ولا فناً عابراً،وإنما هي وسيلة لإستيعاب معنى وتجاوز هزيمة وفهم حالة.
وبهدف تأكيد رأيه؛يتخذ كونديرا من مقولة جوليان جراك أبعاداً اخرى،ترسخ ماذهب إليه.
يقول جراك:(إن تاريخ الأدب،على العكس من تاريخ المعنى المباشر للكلمة،وليس تاريخ أحداث،بل تاريخ القيم).
ويوضح كونديرا:(لأن تاريخ الفن هو تاريخ القيم،أي تاريخ الاشياء التي هي ضرورية لنا،فهو حاضر دوما،وموجود معنا دائما..)
من هنا أصبح:(كل حكم جمالي هو رهان شخصي).
هذا الرهان قائم على معانٍ وقيم وفهم،وليس مجرد معطيات جمالية تخاطب الحواس والوجدان.
الفن..إرث إنساني له تماس فاعل ومؤثر في الاشياء..وليس على قطيعة معها.
وبعد المواجهات السياسية التي واجهتها مدينة براغ التي كان كونديرا مقيما فيها عام1989؛نتبين حقيقة تلك المتغيرات التي يعزيها الى:(سوقية المصابين وحديثي النعمة،لقد حلت الحماقة التجارية محل الحماقة الايديولوجية).
ذلك إننا لانعد الايديولوجية إلا بوصفها فكرا يسعى لخدمة الانسانية،أما إذا تحول الفكر عن هذا الهدف،فإنه سيصبح حماقة مضادة لا تختلف عن أية حماقة تجارية ومصلحية تلحق الضرر بالآخرين..
لذلك يّميز كونديرا الأمم الصغيرة عن الكبرى،ليس ب(المعيار الكمي لعدد سكانها،بل هو شيء ما اكثر عمقا،فوجودها ليس في نظرها يقينا بديهيا،بل هو دائما سؤال،ورهان،ومخاطرة،إنها في موقع الدفاع تجاه التاريخ).
وهذا الدفاع هو الذي يحفظ كيانها ويعزز مكانتها ويرسخ وجودها على الرغم من صغرها امام تلك الإمم المتخندقة في سعتها وحجم إمتدادها.
وعلى وفق هذا الفهم صرنا ندرك:(أنه من اجل الحكم على رواية يمكن الاستغناء عن معرفة لغتها الأصلية).
المهم هو معطيات خطاب هذه الرواية،ومدى رسوخه في قيم إنسانية عبر التاريخ المشترك للبشرية جمعاء.
هكذا يفهم الابداع،وهكذا تتولى معطياته التي تتجاوز الزمان والمكان.
لذلك تصبح الكلمات الواردة ضمن جوقة سميتانا-كتبت عام1864-والقائلة:(تمتع،تمتع أيها الغراب النهم،إنهم يعدون لك وجبة دسمة من خائن للوطن،سوف تلتذ بها).
ويتساءل كونديرا:(كيف إستطاع موسيقي مثله أن يذيع هذه السفاهة الدموية؟).
عندما يعد أي تشكيلي يغادر بلاده بحثا عن الهدوء خائنا للوطن..!؟
هذا الواقع المرّ الذي عاشته براغ،مّرت به شعوب ومدن كثيرة،فهل يمكن ان نعد كل من يبحث عن إنسانيته وتوقها الى السلام خائنا وطعما سائغاً للغربان؟
كان امام هذه الحقيقة:(الاجتهاد دائما في الذهاب الى روح الاشياء)كما يقول فلوبير..
لذلك صح قول هرمان بلوخ:(الاخلاق الوحيدة للرواية هي المعرفة،فالرواية التي لا تكتشف أي جزء مجهول حتى ذلك الحين من الوجود هي لا أخلاقية).
من هنا عّد ياروسلاف هازيك/مؤسس الحداثة الروائية،أن مسألة ان تكون حديثا اولا تكون،مسألة لم يولها هازيك أي إهتمام؛فقد كان كاتبا متشردا،مغامرا،محتقراً للوسط الادبي مثلما هو محتقر منه.
كان مؤلف رواية وحيدة وجدت على الفور جمهوراً واسعاً في كل ارجاء العالم،ومع ذلك يبدو لي أن روايته:(الجندي الشجاع شافيك)-المكتوبة بين1920و1923-تثير من الاعجاب بقدر ما،انها تعكس الاتجاهات الجمالية نفسها التي تعكسها روايات كافكا).
كونديرا..يعنيه من الرواية،رفع الستار عن العالم الخفي،وعن الداخل المستور والمخبأ والسري..لا بهدف فضحه وكشف سلبياته والتنديد به حسب؛وإنما معرفته وفهمه وإكتشاف أبعاده المستقبلية عبر التجارب السابقة والماضي الممتد الى الراهن واللاحق.


*فن الرواية/ميلان كونديرا-ترجمة امل منصور/المؤسسة العربية-بيروت1999
**خيانة الوصايا/ميلان كونديرا-ترجمة وتقديم لؤي عبد الأله/دار نينوى-دمشق ط1/2000
***الستار/ميلان كونديرا-ترجمة:بدر الدين عرودكي/المجلس الاعلى للثقافة-القاهرة2007ضمن كتاب يحمل عنوان(ميلان كونديرا/ثلاثية حول الرواية)للمترجم نفسه.



#حسب_الله_يحيى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خذ ما تريد..وأعطني (حرية) التوقيع على ما تريد! قراءة في نص ا ...
- من هو : جومسكي؟
- مع الروائي العراقي مهدي عيسى الصقر في روايته: رياح شرقية ريا ...
- العراق..من يغلب من؟
- ماريو فارغاس يوسا:(الحرية الموغلة)


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسب الله يحيى - ميلان كونديرا: ثلاثية حول الرواية