|
حيرة - قصة قصيرة
أحمد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 2476 - 2008 / 11 / 25 - 09:06
المحور:
الادب والفن
كان د . فخري الفيومي ينظر لمن يحدثه نظرة شك عميق ، كمن يقلب ببصره ضاعة مريبة ، أحينا نادرة كان يجازف سائلا بصوته المهذب الخفيض : - حضرتك نظام جديد ؟ فيجيبه الآخر بحيرة : - نظام جديد ؟! ماذا تعني ؟ فينكس د. فخري عينيه على نظرة باسمة مريرة كمن يقول " دعك من هذا اللؤم " ويغمغم : - النظام الحالي ؟ في أغلب الحالات كان يتلقى الرد ذاته مصحوبا بدهشة : - ماذا تقصد ؟ لا أفهم؟ فيزووم د . فخري ويصمت طاويا نفسه على حيرته، ويغير موضوع الحديث . وقد بدأت حكاية الشك والحيرة عندما فوجئ د . فخري باستدعائه إلي المباحث العامة منذ نصف السنة ، كان ذلك عقب اجتماع حاشد في الجامعة جرفته الحماسة خلاله فقال كلمتين تجاوز بهما سقف المسموح إلي سماء الممنوع . وقد ندم بعد ذلك أشد الندم ، وقالت له زوجته : يا فخري أنت أستاذ كبير عندك كتبك وأبحاثك مالك ومال كلام الشباب؟! . فأجابها : عندك حق . وفي اليوم المحدد وصل إلي مبنى الداخلية في الموعد المحدد له ، واستقبله ضابط شاب لبق قاده بترحاب إلي حجرة ضيقة ثم قال له بنبرة آسفة : - يا دكتور نحن مضطرون إلي اعتقالك ! تغيرت ملامح د. فخري على الفور ، فالاعتقال آخر شيء خطر له . كان أقصى ما توقعه أن يطرق معه عميد الجامعة موضوعا عاما ويدس في ثنايا حديثه عبارة لوم وتحذير ، أما الاعتقال ؟! فرد ساقيه وجال بعينيه في جو الحجرة وهو يشعر بهبوط . وحدث نفسه " أيعقل أن تهدم كلمتان عابرتان حياة كاملة ؟ " . فكر في زوجته وولديه كمن يودعهم ، في حجرة مكتبه وأبحاثه ، وصعبت عليه نفسه ، وحاول أن يتذكر من الذي جرجره إلي ذلك الاجتماع المشئوم . اعتدل الضابط الشاب ببسمة خفيفة كمن يصحح خطأ: - اطمئن يا دكتور ، لا داعي للقلق . وكمن ألقي إليه بطوق نجاة في خضم الموج دبت الدماء في أوصال د . فخري ولم ساقيه المفرودتين واستجمع قوته للأمل : - كيف ؟ - لأنك ستواصل حياتك كما اعتدتها . وأضاءت وجه الضابط بسمة من يقدم عرضا سحريا يثق بحكم الخبرة أنه سيلقى الإعجاب : - أنت تتجه إلي الجامعة يوميا في التاسعة صباحا ؟ - نعم . بالضبط . - تعود إلي البيت تقريبا في الثانية ظهرا ؟ - تماما . - عصر كل ثلاثاء تلتقي بأصدقائك القدامى في مقهى " سهر الليالي " ؟ - مضبوط يا أفندم . المعلومات كلها سليمة . ضحك الضابط بسعادة . - ولن يتبدل شيء من كل هذا . ستواصل حياتك كما كانت ! تجمد وجه د. فخري عاجزا عن الفهم وطلع صوته كأنما من جب عميق : - أواصل حياتي ؟ و.. و .. ؟ - نعم . كل ما في الأمر أن لدينا الآن نظاما جديدا . - جديد ؟ أي نظام ؟ - ألا تسمع عن سجون في الخارج تسمح لنزلائها بمغادرة السجن وزيارة أهاليهم ليوم أو اثنين ثم العودة بعد ذلك ؟ - أسمع . - هي ذات التجربة . إذا كانت الثقة في المعتقلين أمرا ممكنا بحيث نسمح لهم بقضاء يوم مع عائلاتهم، فما الذي يمنع أن نسمح لهم، ليس بيوم لكن بعدة أيام ؟ بل وبقضاء فترة الاعتقال كلها في الخارج ؟! قطب الدكتور فخري ما بين حاجبيه وتقلقل على الكرسي بقلق ثم سأل بريق جاف : - وكيف يكون اعتقالي إذن؟ أقصد من الناحية الإجرائية ؟ - يكفي أننا قمنا بإبلاغك . العملية كلها ثقة . طرف د. فخري بعينه اليمنى مبحلقا في وجه الضابط الشاب الذي نهض واقفا ، وابتسم بكياسة وهو يهز يد د . فخري مصافحا : - الآن نحن نعتمد على الضمير . وأشار إلي باب الحجرة : شرفت ونورت . تفضل . من هنا .
*** غادر د. فخري مبنى الداخلية ، وسار بخطى هادئة دون أن يلتفت خلفه ، تمنى لو بلعته الأرض كما تبتلع الصحراء قطرة ماء فيختفي بعيدا تماما عن المبنى . كان بحاجة إلي المشي طويلا وحده ليعيد ترتيب رأسه المشوش، فسار حتى ميدان التحرير و في الطريق برقت أمامه الكلمتان اللتان أفلتتا منه في الاجتماع . ألا يحق له أن يقول شيئا للمصلحة العامة ؟ قل ، لكن لا تتسبب في تجويع أولادك فليس ثمة مبادئ بعيدا عن بشر بعينهم. والحقيقة ؟ فرصتك لنشر الحقيقة بالعلم والتنوير أكبر طالما قدرت نعمة الحرية ، لكن ما جدواك وأنت رهين زنزانة؟ ومع ذلك فإنني معتقل الآن . نعم لكنك حر . ساقته قدماه حتى شارع رمسيس فتوقف في الميدان يرقب زحمة السيارات والبشر حائرا أيفرح في وضعه الحالي أم يحزن؟ صباح اليوم التالي راقب د . فخري زوجته وولديه ساعة الإفطار وهم يتناولون الطعام ، تلمس في نظراتهم أو حركاتهم أية إشارة إلي اعتقاله ، لكنهم كانوا يحشون أفواههم بالبيض المسلوق والجبن دون أن يعيروا أي اهتمام للمسألة ، في العمل أيضا لم يتوقف أحد عند الموضوع ولو بنظرة تعاطف أو سؤال عابر. وأثارت تلك اللامبالاة دهشته في البداية ، ثم تذكر أن اعتقاله حسب النظام الجديد يجعل من الصعب تمييزه عن غيره ، فصار يتردد على محاضراته بانتظام ويقول لنفسه وهو في طريقه إلي العمل " ينبغي أن أعيش على أساس أن شيئا لم يحدث مع مراعاة أن شيئا قد حدث ". وخلال عدة شهور اعتاد د . فخري على وضعه ، لكن حيرته كانت تشتد في الشارع أو الباصات أو داخل محلات البقالة وهو يدقق النظر في وجوه الناس ، فلا يجد ما يستدل به على أن الشخص " معتقل نظام جديد " أم لا . فكف عن التحديق في ملامح البشر وأخذ ينصت إلي ما يقولونه ، فوجد معظمهم يقولون الشيء وضده ، ويؤيدون موقفا وعكسه ، يدعمون مواقع خصومهم بحرارة ، ويرحبون بمقترحات أصدقائهم بفتور ، وخلال ذلك كان عقله يثب من ناحية إلي أخرى في تحديد وضعهم : معتقلون نظام جديد ؟ أحرار ؟ معتقلون ؟ أحرار ؟! إلي أن تعب تماما فتوقف عن محاولة تمييز أولئك من أولئك ، واكتفى بالحذر في أحاديثه ، وشاعت في كلامه رصانة تضع القضايا كلها على قدم المساواة ، وقل كلامه في المقهى مع أصدقائه وصار يقضي أغلب وقته معهم وهو ينفخخ دخان النرجيلة مرسلا بصره إلي المارة . لكن الحيرة كانت تسكن أعماقه ، مثل سمكة قرش مختفية ، تثب في لحظة وتنقلب إلي نظرة شك مسددة نحو من يتحدث إليه فيجازف د . فخري سائلا بصوت خفيض: - حضرتك نظام جديد ؟ فيجيبه الآخر بحيرة : - نظام جديد ؟! ماذا تعني ؟ فينكس د. فخري عينيه على بسمة ممرورة كمن يقول " دعك من هذا اللؤم". - النظام الحالي ؟ فلا يتلقى ردا شافيا . لكن تلك الحال لم تدم طويلا ، فبعد نصف العام تقريبا تلقى د. فخري استدعاء جديدا فاتجه إلي مبنى الداخلية ، وسار في ذات الردهة الطويلة الكئيبة إلي الحجرة الموحشة العارية الجدران . هناك نهض الضابط الشاب وصافحه بترحاب شديد قائلا : - تفضل بالجلوس . لن أطيل عليك يا دكتور . أردت فقط أن أزف إليك نبأ سارا .. - خير إنشاء الله ؟ - ألف مبروك . تقرر إطلاق سراحك . - إطلاق سراح من ؟! - سراحك أنت . - سراحي ؟ أنا ؟! - نعم . صدر بالأمس قرار بالإفراج عنك مع خمسة آخرين . جلس فخري حائرا . - إذن .. أنا حر ؟ - نعم . وأرجو بالطبع أن تقدر أن ما حدث كان إجراء للصالح العام . الآن واصل حياتك كما هي ! أنت تتجه إلي الجامعة يوميا في التاسعة صباحا ؟ - نعم . بالضبط . - تعود إلي البيت في الثانية ؟ - تماما . - تلتقي بأصدقائك القدامى في مقهى " سهر الليالي " عصر كل ثلاثاء ؟ - مضبوط يا أفندم . ضحك الضابط . وأشار إلي باب الحجرة : - تفضل من هنا . أكرر التهنئة واعلم أننا نعتمد على ضميرك !
... أحمد الخميسي . كاتب مصري [email protected]
#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
منع النشر علينا !
-
بيرسترويكا أمريكية ؟
-
المدارس المصرية .. عذاب الطفولة
-
نحن والقمر جيران .. فكيف سبقتنا الهند إليه ؟
-
بركة الثقافة الشعبية
-
الأزمة العالمية.. مالية أم سياسية ؟
-
هوليود .. على من تطلق الرصاص ؟
-
نقابتنا والتطبيع
-
نظرة واحدة إلي روسيا
-
مدرسة تولستوي لتعليم الكتابة
-
إسرائيل من غزة لأوسيتيا الجنوبية
-
مارينا تسفيتايفا .. الشعر والموت
-
فالنتين راسبوتين .. بحثا عن الحقيقة
-
المعلمون في مصر يطالبون بحق الحياة
-
محاسبة المطبع مع إسرائيل جورج البهجوري
-
محمود درويش .. والعابرون في كلام عابر
-
رحيل سولجينتسين .. أسطورة المواجهة
-
ثورة يوليو والثقافة
-
الفن والكرامة
-
ماذا كسب جورج البهجوري بزيارته لإسرائيل ؟
المزيد.....
-
أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال
...
-
-كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟
...
-
مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان
...
-
الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل
...
-
فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل
...
-
-سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال
...
-
مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م
...
-
NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
-
لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
-
فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر
...
المزيد.....
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
-
الهجرة إلى الجحيم. رواية
/ محمود شاهين
المزيد.....
|