أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - طارق حجي - ضيق الصدر بالنقد














المزيد.....

ضيق الصدر بالنقد


طارق حجي
(Tarek Heggy)


الحوار المتمدن-العدد: 2475 - 2008 / 11 / 24 - 09:34
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لأقل قليلاً من عشرين سنة أتاح إلى العملُ في مؤسسةٍ اقتصاديةٍ من أكبرِ ثلاث مؤسسات صناعية في العالمِ أن أكتشفَ -وبجلاءٍ تامٍ- قدرَ التباين بين ثقافةِ ما يسمى بالعالمِ الغربي وثقافتنا فيما يتعلق بجزئية مُحددة هي "رحابة الصدر للنقدِ". وخلال النصف الثاني لهذه الفترة -غير القصيرة- أتاح لي تبوأُ الموقع القيادي الأول في هذه المؤسسة رؤيةً أَعمق لهذه الجزئيةِ ولحقيقةِ أَن "النقدَ" هو أهمُ أدواتِ الفكرِ التي صنعت المجتمعاتِ الغربيةَ المتقدمةَ، وأَن النقدَ يوجه للكبار بنفس قدر توجيهه لمن هم أقل منهم أهمية وموقعاً على خريطةِ الهرمِ الإجتماعي.

لقد أَثبتت لي تجربةُ السنوات العشرين أَن الهوةَ بين ثقافتِنا وثقافتهم في هذا المجال شاسعةٌ. فالنقدُ للأشياء والظواهرِ والأفكارِ والأشخاصِ والمسلماتِ هو "معلم"ٌ من "معالمِ" الثقافة التي ساهمت في بناءِ المجتمعاتِ الغربية المتقدمة. والنقدُ أداةٌ يتعلمها ويكتسبها الإنسانُ منذ فجرِ وعيه وإدراكِه. فهو يتنفس هواءً يسمحُ بالنقدِ -من البدايةِ- لكل ما حوله. فالصغيرُ يتعلم أن كلَ ما يحيطُ به من "أشياء وأشخاص" قابلٌ للنقدِ، كما يتعلم أَن يُمارس هذا النقد في ظلِ قبولٍ عامٍ له ودرجةٍ عاليةٍ من الهدوءِ وعدم التوتر والغضب الذين يحدثهم النقدُ في أَجواءٍ ثقافيةٍ أُخرى.

وتأَتى برامجُ التعليمِ لترسخ هذا الإهتمام بالنقدِ. كما أن المناخَ العام (بعناصرِه السياسيةِ والاجتماعيةِ والثقافيةِ) يعملون على ترسيخِ نفسِ الاهتمامِ بالنقدِ كأَداةِ بناءٍ بالغةِ الأهميةِ وكأَهمِ وسائلِ الارتقاءِ بكلِ النظمِ والمؤسساتِ والأفكارِ والممارساتِ.

أَما ثقافتُنا، فقد واصلت نظرتَها العاطفية الممزوجة بالغضبِ تجاه النقدِ بوجهٍ عامٍ وتجاه نقدِ المسلماتِ (وما أَكثرها في واقعِنا) والشخصياتِ التي تتبوأ مواقعَ القيادةِ. بل أَننا -في حالاتٍ غير قليلة- ننظر لنقدِ هذه الجهاتِ وكأَنه عملٌ تخريبي وهدّام بل ويصل الشعورُ تجاهه أَحياناً لحدِ اعتباره عملاً يقرب من أعمال الخيانة.

وضيقُ الصدرِ بالنقدِ من المسائلِ التي تتغلغل في عقولِ أبناءِ وبناتِ مجتمعنا منذُ الصغر ويترسخ كأحدِ ملامحِ ثقافتنا ثم تأتى سلبياتٌ أُخرى شاعت في تفكيرِنا المعاصر لتجعل المسألةَ بالغة الحدة: فعندما يجتمع ضيقُ الصدر بالنقدِ مع تقلصِ السماحةِ واتسامِ التفكيرِ بالشخصانيةِ (والبعدِ عن الموضوعيةِ) مع النظرةِ الضيقة للآخرين (بصفتِهم إِما معنا أَو ضدنا) والتعصبِ الشديدِ لأمجادِ ماضينا والميلِ الجارفِ لمدحِ الذاتِ -عندما يجتمع "ضيقُ الصدرِ بالنقدِ" مع هذه المعالم الأخرى الواضحة التي شاعت في جونا الثقافي، فإن حدةَ ودرجةَ الضيقِ بالنقدِ تبلغ أبعدَ مدى وتصبح النظرةُ للنقدِ مشوبةً بالغضبِ والتوترِ والشكِ في النوايا والإحساس بوجود خطر متربص بنا، ولن يكون من العسيرِ علينا إِدماج كل ذلك في الاعتقادِ بوجودِ تآمرٍ كاملٍ ضدنا.

ولا أعتقد أنني بحاجةٍ لضربِ أمثلةٍ على اتسامِ جونا الثقافي العام بالضيقِ الشديدِ من النقدِ، فخلال سني العقود الأخيرة تكررت مئاتُ الحالاتِ النمطيةِ التي جسدت هذه الظاهرة بل وأَكدت أَن هذه الصفة (ضيق الصدر الشديد بالنقد) قد أصبحت من معالمِ الكثيرين بما فيهم قيادات فكرية وثقافية، فأصبح الجدلُ والحوارُ حولَ مسائلَ فكريةٍ تجسيداً جديداً لدرجةِ ضيقنا من النقدِ وتوترنا وغضبنا منه.

ولنأخذ أمثلة قليلة تكررت وقائع مماثلة لها بأَشكالٍ تكاد تكون مضاهية تماماً:
فالذين يدعون للاحتفالِ بمرورِ قرنين على العلاقاتِ المصريةِ الفرنسيةِ يتبادلون مع الذين يستهجنون هذا الاحتفال أنماطاً من التهمِ وأساليبَ من التجريحِ تُجسد عجزنا عن الاختلافِ والنقدِ بتعقلٍ ورويةٍ.
والذين يعتقدون أَن الحوارَ مع العدو التاريخي هو السبيل الوحيد للخروجِ من واقعٍ مترعٍ بالجراحِ، يواجهون بطوفانٍ من الكلماتِ والألفاظِ الحادة التي تجردهم من كلِ ميزةٍ وصفةٍ طيبةٍ بما في ذلك صفة المواطن المحب لوطنِه الحريص على واقعِه ومستقبلِه.
وعشرات . . . بل مئات الأمثلة التي تؤكد أَننا إِما أن نتفقَ تماماً وإما أن ننطلق إلى مرحلةِ التراشقِ بأَشدِ الكلماتِ حدة وتجريحاً. أَما مرحلةُ النقد الهادئ والموضوعي والقائم على أُسسٍ عقلانيةٍ، فمرحلة يندر أن نمر بها، لأن مُعظمنا لم ينشأ ولم يتدرب عليها ولم يكتمل وعيه وإِدراكه في جوٍ ثقافيٍ عام يؤمن بجدوى وإيجابيةِ وفعاليةِ النقد. ولا يدل على أَننا لا نعترف بالنقدِ (إلاِّ عند التشدق بالشعاراتِ) من خلاءِ وسائل إعلامِنا خلال السنوات الثلاثين الأخيرة من مقالٍ أو حديثٍ واحدٍ يتضمن نقداً لرموزِ الحكم السياسي في مجتمعِنا. فإذا كنا نسلم بوجودِ النقدِ في حياتِنا العامة، وإذا كنا نسلم أَن الذين حكمونا خلال السنوات الأخيرة هم بشرٌ غيرُ معصومين، وإذا كنا نؤمن بأَن اختلافَ الرأي لا يفسد للود قضية، فليدلنا من يقدر على مقالٍ أو حديثٍ واحد نشر في مصرَ في وسائلِ إعلامِنا المرئية أو المسموعة أَو المطبوعة ويتضمن نقداً للتوجهات السياسية الأساسية للحكمِ. فإذا لم يوجد كان ذلك أوضحَ دليلٍ على ضيقِ الصدرِ بالنقدِ ضيقاً يجب أن يقلقنا ويجعلنا متحمسين لمعالجةِ هذا الداء من أدواءِ جونا الثقافي العام بكلِ السبلِ التي تسمح بنموِ قبولنا للنقدِ والذي بدونه لا يمكن صنع المستقبلِ المنشودِ.

وهنا فإِنني لا أَجد عبارة أفضل من عبارةِ الفيلسوف العظيم "كانط" والتي أوردتها في مقدمةِ هذا الكتاب والتي تقول "أن النقدَ هو أفضلُ أداةِ بناءٍ عرفها العقلُ البشرى".



#طارق_حجي (هاشتاغ)       Tarek_Heggy#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإقامة في الماضي
- الآخرون: -معنا-...أم -ضدنا-؟
- هامش -الموضوعية- المتآكل
- ثقافة الكلام الكبير
- المغالاة في مدح الذات
- تقلص السماحة في تفكيرنا المعاصر
- تحية لسدنة الحرية في مصر
- دانات...
- قيم التقدم وبناء مجتمع قوي
- قيم التقدم والخصوصيات الثقافية
- قيم التقدم : المنبع والهوية
- أهم قيم التقدّم
- ملاحظات جوهرية حول موضوع: قيم التقدّم
- لماذا أكتب ؟
- اختيار المفكر المصري طارق حجي للفوز جائزة -غرينزين- الدولية
- سجون العقل العربي المعاصر


المزيد.....




- أطلقوا 41 رصاصة.. كاميرا ترصد سيدة تنجو من الموت في غرفتها أ ...
- إسرائيل.. اعتراض -هدف مشبوه- أطلق من جنوب لبنان (صور + فيدي ...
- ستوكهولم تعترف بتجنيد سفارة كييف المرتزقة في السويد
- إسرائيل -تتخذ خطوات فعلية- لشن عملية عسكرية برية في رفح رغم ...
- الثقب الأسود الهائل في درب التبانة مزنّر بمجالات مغناطيسية ق ...
- فرنسا ـ تبني قرار يندد بـ -القمع الدامي والقاتل- لجزائريين ب ...
- الجمعية الوطنية الفرنسية تتبنى قرارا يندد بـ -القمع الدامي و ...
- -نيويورك تايمز-: واشنطن أخفت عن روسيا معلومات عن هجوم -كروكو ...
- الجيش الإسرائيلي: القضاء على 200 مسلح في منطقة مستشفى الشفاء ...
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 680 عسكريا أوكرانيا وإسقاط 11 ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - طارق حجي - ضيق الصدر بالنقد