أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - بعل الغجريّة..رواية(1)















المزيد.....


بعل الغجريّة..رواية(1)


تحسين كرمياني

الحوار المتمدن-العدد: 2468 - 2008 / 11 / 17 - 05:23
المحور: الادب والفن
    


(بقعة ضوء )

عام/ 2037 /..
إكتشف عامل حفر شاب صندوقاً حديدياً صغيراً،أثناء الحملة الشعبية الكبيرة لأزالة طلول وخرائب جانب حيوي من بلدة(جلبلاء).
البلدة..دمرتها حرب اهلية داخلية قاسية دامت ما يربو على الثلاثين عاماً.
***
عندما ازاح ذلك العامل كومة انقاض وجد صندوق حديدياً،فرحاً سحبه ما أن لاح ركناً منه،وجده مقفول بقفل كبير،رغم ركام الطين وقدمه،تمكن من الحفاظ على لونه الحائل،بسبب قوة معدنه.
***
الصندوق الحديدي يعود لزمان قديم،عرفه المهندس المشرف على الحملة العظمى لكنس الخرائب قبل تشيد مدينة حديثة على رقعتها،صندوق محكم لحفظ المسدسات الشخصية للأمراء والضباط ذوي المراتب العليا،يعود لمعسكر البلدة والذي تعرض لـ(فرهود شامل)بعيد سقوط البلاد بأيدي قوات متعددة الأطماع والنيّات غزت بأسم التحالف،تحت هدف غير واضح الملامح،روّجوا لحملتهم العظمى،عبر وسائل أعلام العالم وأجتماعات سرية ومكوكية لرؤساء البلدان العظمى،تحت مانشيت أممي غير قابل النقاش،أنهم(غازون)لكنس البلاد من أسلحة ذات دمار شامل.
***
العامل سلّم الصندوق المقفل إلى المهندس المشرف قبل أن يقوم بدوره تسليمه إلى دائرة بلدية البلدة،قامت دائرة البلدية بدورها تحويل الصندوق إلى دائرة أمن البلدة،تم ترك الصندوق لشهرين على دولاب حديدي في غرفة المدير،قبل أن ينتقل الصندوق إلى بناية الحاكم الجديد للبلدة ما تسلم مهام منصبه،وضعه الحاكم ـ بعد تخمين سريع لمحتوياته الداخلية ـ على دولاب خشبي أمامه،تاركاً أمره لفرصة سانحة،بعدما جربته الأيدي التي تناقلته،وغاصت بأعين ثاقبة تضاريس الحديد السميك،ورسمت في الأذهان فراغاً واقعياً إستناداً لوزنه،الأيدي التي حملته وجدته خفيف الوزن،لا يستحق الإهتمام الزائد بما داخله،مجرد صندوق خيف الوزن ،وجدوه تحت أنقاض بيت طيني في حي الفقراء،الجزء الشمالي للبلدة والمحاذي لنهر(دلبلاء)،بيوت طينية متآكلة لقد بناءاتها،تتداخل البيوت وتتعرج،تتوزع على جهتي ممرات ثعبانية خانقة،ليس مجال لسير مركبة في ممراتها،تم ترك الصندوق وعدم صرف نظر أو جهد لتخمين ما يحتويه،فالحاكم الجديد،ما أن دخل المبنى المخصص له،إنشغل بالمهمة الكبيرة الملقاة على عاتقه،مهمة ترأس لجنة إعادة أعمار البلدة المنكوبة..!!
***
وجد حاكم البلدة نفسه في مؤتمر صحفي إستثناءي،تم إستدعاء وسائل أعلام معروفة إليها،رؤساء تحرير الصحف المحلية والأقليمية وآخرون من دول صديقة،معظم إذاعات البث السمعي،حرصاً لنقل وقائع المؤتمر الصحفي الكبير إلى ارجاء المعمورة،تحت خيمة كبيرة،تراصت بصفوف منتظمة كراسي بلاستيكية،وحضور فريد تم إستدعاءهم ببطاقات دعوة،جلس الحضور بمهابة وخشوع،رافعين أبوازهم ونافخين أوداجهم،أمام الكاميرات الدائرة بينهم،شباب وشابات يشهرون كاميراتهم ويمدون لاقطات صوتية إلى المنصة الخشبية المتحركة،شبان وشابات يجلسون،شبان وشابات يقفون،بيدهم أقلام متحمسة لتدوين الوقائع المنقولة على الهواء مباشرة عبر الفضائيات وشبكة الأنترنت.
***
مسلّحون سباباتهم على زناد رشاشاتهم،ينتظرون بعيون قانصة،وأنفاس محتبسة، متهيئون لمعركة متوقعة،أية مركبة قادمة بإتجاههم،أو أي شخص منفوخ الجسد يأتي صوبهم،تنطلق سيل الرصاص المتحمس إليه،قبل أن يكون القادم سبباً لكارثة جديدة،رجال ينحرون الخراف ورجال يهيأون القدور العملاقة ويؤججون نيران في مواقد حطبية عملاقة،بعدما شح وجود الغاز السائل وتعذر إيجاد الطبّاخات العاملة بالنفط الأبيض ،جموع من الطبّاخين المهرة تثابر لعمل وليمة تاريخية سيسيل لها لعاب العالم الجالس أمام الشاشات والشبكات الناقلة للحدث،مصوّر خاص يتفرغ لنقل أوّلاً بأول الترتيبات المتصاعدة لإعداد الطعام،يتنقل بكاميرته بين أكوام اللحوم المجندلة والقدور الكبيرة والطبّاخين المنهمكين بنشاط غير معهود،كل شيء يجري منقول على الهواء مباشرة،عبر فضائيات دفعت أموال طائلة للحصول على موافقة النقل المباشر للحدث الكبير.
***
تحسباً للطوارئ والمفاجآت في بلدة لم تجد الإستقرار،تم فرض حظر التجوال في ذلك اليوم(أشخاص ومركبات).
***
تم طرح قضية واحدة على طاولة النقاش،قضية بدء الحملة الكبيرة لإعادة أعمار بلدة(جلبلاء)،بعد حرب عرقية كبيرة أحدثت خراباً في الكثير من البيوتات،وجانباً كاملاً يعود للفقراء وذوو الدخول المحدودة أو المعدومة،جراء تحول معركة صغيرة إلى معركة عرقية أستخدمت فيها السبل الأكثر تدميراً،ديناميت من النوعية الناسفة،لا أحد توصل إلى مصادره،تأتي إلى البلدة رغم الرقابة المتشددة والتفتيش الكامل للمركبات والأفراد،وفرض حظر التجوال الليلي،وسد الطرق والمنافذ المؤدية إلى البلدة،ظلت المواد المتفجرة تتصاعد وتتضخم،لم تنفع الكلاب المدربة على إيجاد المتفجرات والأسلحة في تفتيشات روتينية،ولا الجوائز المالية المغرية لمن يدلي بمعلومات عن وجودها،واصلت الأيدي الخفية تفخيخ مركبات حمل كبيرة،محملة بمواد بناء،زلزلت البلدة أوان إنفجاراتها،تطورت الحرب إلى حرب تصفية حسابات قديمة بين الأطراف المتحاربة،خصومات شكلية،تم نفخ النار في أرمدتها،فتشابكت الجموع ،(يدوياً وأسلحوياً)،تعذر على السلطة الحاكمة إحتواء الموقف المتأزم،راحت تنسحب وتتحصن بثكناتها المسورة بالخرسانات الكونكريتية والأسلاك الشائكة المكهربة،مكتوفة الأيدي والحول تراقب الذي يحصل،حرب طالت فتعذر عليهم إيقافها.
***
طرح الكثير من الأسئلة بخصوص تلك الأيام السود،أيام الموت الجماعي ،الموت بالجملة للبشر،وكيفية تمكين الأطراف المتنازعة الجلوس مرة أخرى على طاولة المحبة والوئام الذي ضاع شعاعه لسنوات طوال،ناس فقدت أبناءها،ناس فقدت أموالها،ناس هجرت،ناس أتت،ماهي سبل تعويض العائلات المتضررة،ما هي الضمانات لعدم تكرير ما حدث.
***
شرح الحاكم الجديد مضمون القرارات التي أتخذت في إجتماع سرّي بينه وبين جهات عليا ذات علاقة بحملات التعمير الكبرى،تحت إشراف متخصص أجنبي له باع طويل في تعمير بلدان ما بعد الحروب،بعد نقاش كثير،حصلت المدينة بالإجماع على دعم كبير مفتوح الجناحين،لم يوضح الحاكم الجهات المانحة والداعمة للمشروع،أو الشركات العاملة،والجهات المستثمرة للمشاريع الخدمية،جهل ذكر اسم المشرف الأجنبي القائم بحملة العمران،رغم طرح السؤال لمرات من قبل الصحفيين،إكتفى بالقول ،أن الدعم المرصود في الحملة غير محدود،يكفي لبناء بلدة جديدة،بلدة فيها شروط العيش الرغيد،الصحة الدائمة والأمان المنشود،شقق مؤثثة محمية،شوارع ومدارس حديثة ومنتديات ترفيهية ومنتجعات للأستجمام وكازينوهات لراحة الناس وحدائق عامة للعوائل ومكتبة مركزية لمن يطلب الثقافة ومقاهي للأنترنت،فضائية ناطقة بإسم أهالي البلدة،بلغات حيّة،مسابح للجنسين،غابات للنزهة،سد نهري كبير لخزن مياه الأمطار الزاحفة من الجبال المحيقة بالبلدة،لجذب المصطافين،ذلك كسب مالي آخر للبلدة،سيتم بناء فنادق(خمس نجوم)،فنادق تستوعب رغبات المصطافين القادمين من كافة بلدان العالم..!!
***
تطرق الحضور من على المنبر،تناقشوا فيما بينهم همساً من على كراسيهم الكثير من التفاصيل الشائكة بخصوص سبب نشوب حرب غير رحيمة بين ناس تعرف بعضها البعض،بين عوائل تتداخل فيما بينها حسباً ونسباً،سبب الشرارة الأولى،بعد سلسلة نقاشات والكثير من التحقيقات الصحفية تبين إن لقرار الحكومة قبل أكثر من ثلاثة عهود السبب العلني والمباشر لإندلاع حرب السنوات الثلاثين،قرار صدر لتعويض العائلات المتضررة،اللاجؤون السياسيون،المهجرون،الفارون من جحيم الحكومة القديمة،المبعدون من وظائفهم،ذوو المعدومون،ذوو المؤنفلون،أصحاب الأملاك المصادرة،وجدت الحكومة الجديدة نفسها مرغمة على تنفيذ بنود ذلك القرار المنسي،بعدما تصافت الأطراف المتنازعة على كراسي السلطة،بالتوافق التام،قررت بالإجماع البدء بالتنفيذ الفوري والدعم المفتوح من غير لجان(نزاهة ومتابعة)لبناء أكثر البلدات نكبة..(جلبلاء).
***
قرأ رئيس اللجنة الإعلامية المنتخب للبلدة ورقته:
سيداتي الحاضرات..
سادتي الحضور..
(لا تقام المدن الحديثة إلاّ على أنقاض حوادث تاريخية حاسمة،حوادث تنتجها ملابسات الواقع والظروف والتدخلات السافرة من قبل أطراف لها غايات ودسائس،أطراف إقليمية،وجدت البلدان الجارة لها،البلدان المنكوبة،ساحات لتمرير سياساتها أو تسفير سلعها الإيدولوجية،أو حوادث إبتكرتها الحكومات المتعاقبة من باب التجديد في أساليب حكمها،تلك الحوادث الحاضرة في ذاكراتنا،أمدّت شبكات الموت بالمال لتدمير وتأخير البلدان المحتلة..
في التاريخ البشري،حوادث إستعمرت ذاكرة الناس لأجيال متلاحقة،وما تزال تبسط جناحيها في ذاكرة الأجيال المتعاقبة،حوادث لمّا تزل الألسن تتناقلها بكامل حرارة لحظاتها،تؤثر في الذاكرة الجمعية لكل مرحلة وتحقق فسحات واسعة للتأمل،تدفع تلك الذاكرات للبحث والتقصي عن المزيد من التفاصيل والأسرار المطمورة لتكملة المشاهد الكاملة لمجريات الأحداث التي حدثت في مواقيتها المتفاوتة..!!
سيداتي الحاضرات..
سادتي الحضور..
أنتم تعلمون أن الحروب وقائع كارثية مؤلمة،لا تأتي من فراغات،الحروب آلة يلعب بها حكام صبيان،متهورون يتخذونها منازلاً للعبث والتباهي وإرضاء نفوسهم العليلة،هل تساءلتم يوماً لم تستهوينا قراءة كتب الحروب السالفة،لم نقرأ الروايات الكبيرة التي عالجت موضوعة الحروب ،هل طرحتم على أنفسكم لم ننجذب لقراءة تلك الكتب ولم نرغب البحث عن تفاصيلها المحبوكة في الخفاء،لم نحن نلهث وراء الومضات الساحرة التي تسري في عروق المدونات والتحقيقات الصحفية لتك الأيام التي تناطحت فيها الناس بالقنابل والوسائط الوحشية،ناس تقاتلت من غير سبب،قَتلت وقُتلت دون أن تعرف لماذا هي تتقاتل،طرفان ينساقان تحت لمعان أكاذيب تحشرها أبواق جاهزة ومؤهلة لحقن مصل الحماسة في نفوس أجبرها الحكّام أن تغدو غفلة،في كل حرب أو وراءها كوكبة منحرفة من رجال جاهزون على تعبئة البشر تحت سليفون التمجيد والتعظيم الفارغ لكل راعي رعية بليد..!!
سيداتي الحاضرات..
سادتي الحضور..
نحن ننجر وراء وميض تلك المدن التي تغذت بها الحروب،كونها صارت من بعد رماد مدن تجتذب الناس،صارت مدن ذاكرة تلهب حماس الناس لزيارتها،ناس تبذل الغالي والنفيس،تشد الرحال عابرين البحار والمحيطات إليها،يأتون ربما للتتحق من وجودها،أو من اجل ذرف دمعة حزن ووضع زهرة تعاطف على أضرحة ضحاياها..!!
سيداتي وسادتي..
نحن نجتمع هنا من أجل غاية نبيلة،من أجل دعم هذا التوافق العرقي الحاصل بعد سنوات من النفور وفقدان الغالي والنفيس،من أجل بناء بلدتنا،من أجل إعادة بريقها المذاب بين الطلول،من أجل تاريخانيتها المهملة،يجب قبل كل شيء،وربما هو المطلب العام لكم وللناس المحتشدين في إصقاع العالم أمام شاشات التلفزة،مطلب ليس بالصعب ،لقد مضى زمن الصعوبات والخوف من التعرية للذات،قررنا أن نمد حبلاً كبيراً وننشر عليها الغسيل،غسيل سنوات الألم والتهرب من المسؤوليات الجسيمة،سنفتح سجلاتنا السريّة كي ننقل ما حدث بمصداقية للعالم المتعاطف معنا،نعرف أن عالم اليوم يتعاطى الصدق،عالم اليوم لا يشبه عالم البارحة،من أجل بناء مدينة خالدة،مدينة تتكأ على تاريخ كبير ومهول،يجب أن نفرغ نفوسنا من المتعلقات الطفيلية،من الرماد المتراكم ،من الضغائن المنفثأة،فـ(جلبلاء)تستحق أن تزهو بين مدن التواريخ،هي لا تقل شئناً ولا موقعاً ولا أحداثاً عن مدن العالم،هي عشوائية الجغرافية،ناسها ألوان،لها نهر يجمح كما تجمح الأنهر أوان المطر،لها جبال غير مروّضة،لها مناخات تخالف كيانات الفصول،لها سد حديدي لا يقهر،لها بساتين وحقول الفستق،لها أرياف وقرى مترامية،لها قاطرة ما تزال تصفر في الذهان رغم إلغاءها،لها تواريخ دامية في القرون الغابرة،تناحرت حولها الأقوام الغازية،دارت فيها رحى أشرس المعارك،فيها شعراء وكتّاب،فيها مطربين يمتلكون أصوات نادرة،فيها صعاليك وبهاليل،هي مدينة تستحق الثناء،سنفرش أسرار تلك الأيام،سنفرش ملفات التحقيقات السرية،سنعلن أسماء القتلى،أولئك الذين غدروا،من أجل حشر غبار الماضي في بوتقة الذاكرة والنسيان،ورميها في بحر التاريخ،عندها تغدو(جلبلاء)بقعة ضوء..!!
***
واعد حاكم البلدة الجديد الحضور الصحفي بكل ما يحتاجونه من أسرار كي يكونوا بمستوى الحدث،أكد ما ذهب إليه رئيس اللجنة الاعلامية في البلدة،أن عالم اليوم لا يشبه عالم زمن الحروب،عالم اليوم متحد ويريد أن يعرف ما جرى في تلك الأزمنة القديمة،يريد الملفات المطمورة في الأرض،أو التي تم حرقها،يريد أن يعرف قصص أجدادهم،عالم اليوم والغد يريد حياة مثالية مبنية على الصدق وتبادل التراث..!!
***
طلبت فتاة لا بسة بنطلون قصير وشعر مجذوذ،طلبت(نقطة ضوء)،شرارة البدء بنقل التفاصيل إلى العالم الجالس قبالة أجهزة التلفاز..قالت:
ـ زميلاتي الحاضرات..
ـ الزملاء الحضور..
ليس من اليسر ببدء حملة أعمار كبيرة،أو البدء بعمل إستثناءي لإحتواء ما حدث عبر سنوات غير معقولة،حرب داخلية بلا هوادة أو هوان،وقانا الله شرها وأبعدها عن أجيالنا الجديدة،المهمة ليست يسيرة كما يتصور البعض،ليست مهمة وضع(طوابيق)على(طوابيق)لتغدو مساكن مؤهلة للعيش،نريد أبنية جاذبة للناس،نريدها وسائل سكن ومعيشة،نريدها مدينة إصطياف،المهمة أكبر مما يتصور الناس،مهمة شاقة،يتوجب علينا أن نتعامل بدقة وبذهنية المستقبل،لا نتجرد من واقعية العالم وننجرف للعمل وفق ما تفرضه علينا أمزجتنا العبثية أو رغبات الناس،التاريخ طويل،فيه ملابسات كثيرة،من أصلح سيره أفلح،من قلّد هوى،نحن محاصورون بالزمن،ليس هناك وقت للبحث والنقاش غير المجدي،نحن نحتاج أشياء مفيدة وموجزة،خلاصة معقولة ومقبولة كي نجعل من(جلبلاء)مدينة تاريخ..!!
***
ما أن جلست البنت السفور،قام رجل كهل،رجل وقور،بزي عربي،في السبعين من عمره،تقدم من المنصة،حيّا الجميع..بعد تصفيق طويل..قال:
ـ ًأيها الحضور الكريم،من أجل وقف نزف دماء أهالي بلدتنا العزيزة بادرت لأعلن الصلح الواجب،خسرنا من أبناء عشيرتنا نفوس لا تعد،ترملت نساء،تيتمت أطفال،لكن القلب الكبير الذي نمتلكه فتح أبواب المحبة،وقذف بأوزساخ الماضي في سلة النسيان..!!
قام شيخ آخر،تقدم من الشيخ الواقف وراء المنصة،تعانقا وسط تصفيقا لا ينقطع،وتراشقت البنادق،تزاحمت مواكب المصورين من حولهما،رفعا أيديهما للجميع،قام الحاكم الجديد ووقف وسط الشيخين،ساد هدوء مشوب بأرتياح تام،عادا الشيخان يداً بيد إلى مكانيهما..!!
***
تذكر الحاكم الصندوق المرمي على دولاب في غرفته،قال:
ـ وجدنا صندوقاً حديدياً،وجدناه في المكان الذي بدأت فيها شرارة الحرب التي إمتدت،هذا الصندوق وجدناه تحت أنقاض بيت(كاتب العرائض)الذي إندفع إليه الناس في ذلك الزمن البعيد،تدافعوا كي يدوّن لهم ما جرى لهم سنوات الغليان،الناس زحفت إليه لأنه الكاتب الوحيد للعرائض في البلدة،بعد صدور قرار التعويض ساري المفعول من قبل(حكومة الإختلاف)في حينها،اعتقد إن في الصندوق الكثير من أوراق العرائض التي كتبها للناس،الحوادث التي واجههتم،الظلم الذي وقع عليهم،الخسائر التي تكبدوها،طرق إعتقالاتهم،كيفية تهجيرهم،كيف تم تدمير حقولهم وبساتينهم،لابد إنه كتب كل شيء،قبل أن يقتل(كاتب العرائض)في الحرب العرقية..!!
***
تم تشكيل لجنة ثقافية للنظر في محتويات الصندوق الحديدي،كسروا القفل ،وجدوا جهاز تسجيل صغير ومذياع بحجم الكف،وجدوا إثنتا عشرة كاسيت تسجيل وبند أوراق،قليل منها تحمل كتابات،لم يشتغل آلة التسجيل بسبب تحجر بطارياتها،وتلف(قايشاتها)،تم الإستعانة بآلة تسجيل جديدة،سمعوا صوت رجل خشن،صوت سلس،لا ينقطع،عالم بأصول سرد الحكايات،رجل يحكي،كلامه غريب،يتنقل بسير حكايته من حالة لحالة، إتفقوا على سماع(الكاسيتات)كلها قبل إتخاذ أي قرار جماعي مناسب بشأنها،احداث تحتاج لرجل ماهر توليفها وتجميعها للوقوف على مضامينها،وجدوا أشرطة الكاسيتات غير مرقومة،جربوا الكاسيتات كلها،نفس الرجل يحكي قصته،أحياناً اسطورته،سمعوا جمل كثيرة ومهمة..
..(أكتب مثلما أحكي لك..)
..(هذه أسطورتي،أكتبها ولا تخف..)
..(إن لم تكتبها مثلما أحكيها لك أنت جبان..)
..(الحكومة لاتخاف من الأقلام المشهورة بوجهها،تخاف من البنادق،الأقلام لا تقتل،البنادق تقتل..)
..(الحكومة مشغولة بالإرهاب،لا يعنيها الكباب)..
..(إن لم تنقلها مثلما أنقلها لك أنت خنت..)
..(أسطورتي../ حكايتي../الأغراب../ الملّثم../ الزميل حمار../ منار.. /نوار../عشتار..)
***
**قرأوا الأوراق المكتوبة بخط متشابك،تعذر عليهم الوصول إلى(بقعة ضوء)ينير الطريق أمامهم..
**قلبوا العرائض المكتوبة..
**إستمعوا للأشرطة لمرات..
**تم تدوين جمل طويلة،جمل قصيرة..
تعذر عليهم ربطها،تعذر فك لغز حكاية رجل يحكي بصوت خشن في أشرطة تسجيل،عددها أثنتا عشرة(كاسيت)..!!
***
لجأت اللجنة المنبثقة من المؤتمر الصحفي الكبير لدعم حملة إعمار بلدة (جلبلاء)المنكوبة،إلى الأوراق،وجدوا محاولة جادة وعصية لـ(كاتب العرائض)في كتابة أوراق معتنى بها بشكل مرتب ومرقومة حسب الأصول،محاولة جادة لكتابة(مذكرات أدبية)أو(رواية)،رواية لا تشبه الروايات المنشورة،ثلاثون ورقة مكتوبة بخط دقيق،كمدخل أولي عن حكاية طويلة،حكاية رجل دخل ليحكي حكايته،خاله(كاتب العرائض)باحث عن تعويضات،لكنه أصر انه يبحث خلاف الناس،يبحث عن أسطورته،تفرغ(كاتب العرائض)لكتابتها،بعدما ترك الرجل مذياعاً بحجم الكف،غادره وأختفى كلياً عن البلدة قبل نشوب الإقتتال الداخلي،موجز الأوراق يقول:
(أن رجلاً غريباً جاءه يسرد عليه حكايته،خاله باحث عن تعويض،أشترط عليه فتح جهاز التسجيل لتدوين حكايته،الرجل الغريب يريد أن يفرغ شحنات متراكمة في صدره،طالت حكايته أكثر مما يجب،تطرق لأشياء معروفة وأشياء مسموعة وأشياء غير معقولة،تذمر الناس الواقفين ببابه،ظلّ الرجل يواصل حكايته دون توقف،قبل أن يرتج المكان لإنفجار مفزع..!!
***
قررت اللجنة أن تلجأ إلى أديب يجيد فك الألغاز الحكائية،زمن يضغط وشركات عالمية بدأت تشد الرحال للبدء بحملة تعمير بلدة(جلبلاء)..!!
قال قائل منهم:
ـ وحده(السيد تحسين كرمياني)،المؤرخ الحكائي للبلدة،هو من يستطيع فك لغز هذه الأشرطة والأوراق،هو ابن البلدة البار،الوفي لها،جاع وباع كل شيء ولم يتركها،رفض الهجرة بعدما جاءته دعوات من أحزاب وتجمعات ومن بلدان وجهات خارجية،وحده المؤهل لربط الأمور،وحده المتمكن من صياغة هذا العمل العجيب..!!
***
وجدوه في خريف العمر معتزلاً،يجلس على كرسي صاج بمواجهة الطرف الذي تحول إلى خراب من البلدة،يستعيد طفولته ويحاول ان يتذكر اصدقاءه،فهو متفرغ كلياً للتمعن،وتسطير لمحات من الماضي الأليم لبلدته،لديه الوقت الكافي لكتابة كتاب من الممكن أن يغدو شرارة البدء ببناء مدينة الحلم في ذاكرة العالم..!!
***
أستقبلهم بترحاب،عاتبهم لعدم دعوته للمؤتمر الصحفي العالمي،قال لهم:
ـ قولوا للمسؤلين أن لا يشمل حظر التجوال الأدباء،أنها فرص نادرة وتاريخية لتدوين الزمن وجعل الحياة أكثر حيوية،قولوا لهم،إتركوا الشعراء يتفسحون أثناء حظر التجوال،لأن القصائد تستفيق عندما تتجول البنادق في الشوارع..!!
***
قبل المغامرة ..!!
***



#تحسين_كرمياني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكاية عبّاس
- ثلاث قصص قصيرة
- السكن في البيت الأبيض
- ونثرنا ضمائرنا على الجدران//قصة قصيرة
- بجلطة شعريّة..مات بطل رواية(نافذة العنكبوت)
- الأتفاقية الأمنية بين مطرقة أمريكا وسندان الفوضى
- أنا كاتب تلك الفصة
- شيء ما يحدث
- لحظة فقد ذاكرته
- أنا كاتب تلك القصة
- في حدثين منفصلين
- حفيد العاشق محروس
- مضت ساعات الندم
- براءة اكتشاف..البرلمانيون لا يقرؤون
- صبر العراقي..أيّوبي
- الجنود لا يتحركون ليلاً
- هل قلت شعرا
- ولد روائياً
- ثغرها على منديل//قصة قصيرة//
- يوم أغتالوا الجسر //قصة قصيرة//


المزيد.....




- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - بعل الغجريّة..رواية(1)