أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميرة الوردي - بذور الحنظل















المزيد.....



بذور الحنظل


سميرة الوردي

الحوار المتمدن-العدد: 2461 - 2008 / 11 / 10 - 07:39
المحور: الادب والفن
    



اغتسلي بهذا الماء .. جمعته لك من آخر قطرات مطر نيسان .. خذيه ضعيه قرب عنق رحمك بعد عجن لب فسائل النخل الصغيرة به .. وسيأتي طفلك الموعود .. مطر نيسان بلل الأشجار حتى لانت الأغصان وثقلت فتدلت .. وبدت بعض الثمار غير الناضجة باللمعان بعد أن أفقدها المطر غبرتها .. نظرتُ لخالتي بغضب إنها لا تُريد أن تصدق أن لافائدة تُرجى مما تقوم به .. لكنها مصرة على إتهامي .. غير آبهة بما قالته لنا الطبيبة التي زرناها أخيرا .. وبعد سنوات من الإنتظار والترقب واليأس من الطفل الذي ستجلبه لي فسائل النخيل المعجونة بمطر نيسان نظرتْ بعينيَّ بيأس قائلة
: في الجمعة القادمة عندما تجف الشوارع .. ويجف الطين .. سنذهب عند الغروب الى المقبرة .. كي تقفزي فوق سبعة قبور .. وعند عودتك اغتسلي وسبحي ألف مرة بآية سوف أُحَفِظُها لك .
لم أنم ليلتها .. ولا حتى في ليال كثيرة تلتها .. تحسست جسدي والخوف يملؤني من الذهاب الى المقبرة .. لم تدخل لغة الموت الا حديثا في ذاكرتي بل عندما فاجأتني خالتي بأنها ليست أمي ، وعيت وأنا أناديها ماما .. وإذا بها تخبرني أن أهلي ماتوا وتركوني وحيدة .. تكفلتني .. وعوضها الله بي عن الأبنة التي حُرمت منها .
أأعرض جسدي لما تخططه لي خالتي دون احتجاج ودون أي بادرة رفض .. خالتي مالذي كسبته من حياتها سوى زوجها الذي أنجبت منه وحيدها .. والذي أصيب بعاهة مستديمة نتيجة لحادث سيارة مسرعة صدمته عندما كان طفلا .. زوجها أين هو الآن .. لم يعد من خدمته العسكرية منذ التحاقه بالفرقة التي ذهبت للحرب قبل خمس سنوات .. ولم تعرف عنه منذ ذلك الحين شيئا.
أجبرتني على الزواج من ابنها .. بكيت في تلك الليلة المشؤومة كما لم أبكِ طوال عمري .. لم خُلقت لحياة لم أختارها .. كل ما فيها يؤلمني .. كم من مرات أسأل فيها خالتي عن والدي .. تجيبني جوابا واحداً لن يتغير ( قُتل أبوك في الحرب ولم نستلم جثته ، و أمك جن جنونها ، لم ينقض المأتم حتى خرجت ولم نسمع عنها شيئاً رغم بحثنا المتواصل حتى يأسنا ) .
...................
تحسست جسدي المتفجر أنوثة لم أتجاوز السادسة عشرة عندما تزوجته .. ألقيت نظرة سريعة على المخمود جنبي .. اختلطت الشفقة بالبغض .. منذ سنوات والإندحار يأكل قلبي .. تفاقم غضبي تحت ضوء القمر .. فعرجه ظاهر للعين لا يمكن اخفاءه ومما زاد من بليتي مرور السنوات دون ظهور أي بوادر للحمل .. ما الخطيئة التي ارتكبتها كي لا أنعم بالحياة مع شاب معافى .. لا أستطيع كرهه فهو لا ذنب له ولكن خالتي من أجبرتني على الرضوخ والإستسلام لإرادتها .. الوحيدة التي آوتني وأطعمتني بعد فقداني لوالدي اللذين لم تعد صورتهما في خيالي الا كوهم أو حلم انقضى منذ زمن بعيد .. فلم أعد أتذكر ملامحمها .. أو أي صورة من حياتي معهما .
لم تتركني خالتي أكمل تعليمي .. ما إن تعلمت القراءة والكتابة حتى منعتني من الذهاب الى المدرسة .. وأوكلت لي إدارة البيت والعمل في تنظيفه وإعداد الطبخ لحين عودتها من دكان البقالة الصغير الذي فتحته بعد يأسها من عودة زوجها ..
.......................
هل بنت جيراننا أذكى مني ! لقد كانت معي في نفس الصف ومعدلاتي أعلى من معدلاتها .. وحتى شكلي أجمل منها .
كلما صادفتها تشيح بوجهها عني .. متعالية .. لا تبادلني أي تحية .. غير آبهة بما تثيره لدي من أحاسيس مؤلمة بالدونية .. وكأني باختياري تركت دراستي .. وكلما شاهدتها حاملة كتبها ذهابا وإيابا أتحسر على أيامي التي تنقضي .. وأحسب لها في أي مرحلة هي .. فلو كنت مازلت معها فسنكون في الثانوية العامة وو .. وسرعان ما أتعب من حساب السنين وأخلد مرهقة الى النوم .. أو الى أحلام لم أكن أُفكر فيها أصلا .
...................................
سرت وراءه .. طالبني بالتنزه معه .. أردت الرفض لكني لم أجد المبرر المقنع للإمتناع .. الوقت عصرا وقد خف لهيب الشمس بل طاب هواء ذاك الخريف .. بدأت أوراق الأشجار تتساقط معلنة قدوم الشتاء .. كلما أخرج معه أعجز عن تحمل نظرات الآخرين المشفقة .. فضولهم يدفعهم الى التركيز علينا وكأننا دميتان صالحتان للتفرج .. استاء كثيرا من نظرات العطف التي تلاحقني و وتشلني عن التفكير في تقبل واقعي المرير .. خروجي معه يدفعني لمحاولة التخلص من حياتي المحدودة الآفاق .
تمنيت الموت لأحدنا .. وأنا في دوامة عذابي شاهدته دون توقع .. تصاعد الدم الى وجنتي تسارعت دقات قلبي .. رغبة مجنونة غزتني كعاصفة للحظة .. ماذا يحدث لو انقلبت حياتي وأصبح هو من يرافقني .. منذ عام ألتقيه كلما بعثتني خالتي للتسوق .. تلتقي عينانا .. أحاول التهرب .. تتابعني نظراته .
فجأة انقطع عن التواجد في السوق .. وعندما لم أعد أشاهده أشعر بفراغ عميق يسكنني .. لا يزيله الا رؤيته من جديد .. منذ أشهر انقطع عن مكانه وليس هناك من أسأل عنه وحتى لو وجد مثل هذا الشخص .. فهل سأجرؤ على السؤال عنه أنا المتزوجة من شخص آخر.. لم َ أتعذب ؟! ولم جاء لقائي به بعد هذا الإنقطاع الطويل ومعي زوجي ! ما ان التقت عينانا حتى تحسست ظلال حزن واستياء عميق فيهما ولأول مرة يشيح بنظره عني .. عرق بارد رشح من خلاياي .. قد يكون أكتشف أنني متزوجة .. أو تزوجت خلال فترة غيابه .. فهو لم يحاول حتى الحديث معي .. قد يكون خيالي المتعطش أوهمني أنه كان ينظر الي باعجاب .. حملت خيبتي .. وتركت أمري للقدر .
جلست وزوجي على الشاطئ .. حاول أن يلتصق بي إلا إنني ابتعدت عنه .. قشعريرة انتابتني وكأنه يلمسني لأول مرة .. نفور حاد ورغبة للتقئ .. مرض ينتابني كلما قاربني .. مرت ساعتان ونحن على جلستنا لم ننبس بحرف واحد .
الأيام تمر والفجوة بيننا تتسع .. الماء المترقرق تحت ضوء المساء عساه يغرقنا ونرتاح من كل هذا العذاب .
خريف وشتاء وها هو الربيع سيحل وسيأتي الصيف ولم يثمر شربي لماء مطر نيسان .. و وضعي لعجينة الفسائل وطلح النخيل ولا عبوري المتكرر سبع مرات في مقبرة المدينة .. فوق قبور سبعة شبان قتلوا أثناء الحرب التي دارت قبل عشرة أعوام .
.....................
في تلك الأمسية المظلمة وحدي وخالتي نقطع طرقا امتلأت بالحذر والشك .
أيام كالجمر منذ أن أخذتني ( للفتاح فال ) .. مساء أربع ليال جمع .. نسير في دهاليز لم نرتدها من قبل .. سألت خالتي عمن دلها على مثل هذا المكان .. لا تجيبني بل الصمت هو معظم الحوارات مع هذه الخالة التي ابتلاني الله بها .. لا أستطيع كرهها بالرغم مما سببته وتسببه لي من عذاب .. أتذكرها وهي تطعمني وتحممني وتجلس عند رأسي أو تنام معي عندما أمرض .. وعيت وأنا أناديها أمي .. وعندما كبرت فاجأتني بقولها أنها ليست أمي وأن وحيدها ليس أخي بل يحق له الزواج مني .. وهذا ما حدث بالرغم من معارضتي .. الا أنني رضخت في نهاية الأمر.
.......................................
أدخلتني الى غرفة مظلمة ليس فيها سوى منضدة صغيرة جدا غُطت بشرشف سميك أُجلست على كرسي مرصوف أمامها .. هذا هو مساء الخميس الرابع .. وقف خلفي راصفا جسده بي .. لم يمتنع عداد النجم أو الفتح فال من أن يتحسس بيده كل مناطق جسدي حتى لم يبق شيئا لم يمسسه .. غواية تكسرت بخيال ذلك الرجل المجهول الذي عشقته ، .. تمنيت أن تكون هذه يده .. فاجأتني أنفاسه .. اشمأزت نفسي دفعت الطاولة واندفعت نحو الباب .. حاول صدي لكني كنت أسرع منه في اندفاعي الى الغرفة التي تنتظرني فيها خالتي .. لملمت خالتي عباءتها ونهضت من مكانها .. ناقدة الفتاح فال أو قارئ الطالع أو البخت قطعة ذهبية وكمية من المال المتفق عليه .
غثيان ونوبات تقيؤ ما إن تنفستُ نسائم الطريق .. أهي من جراء ماتناولته من الأدوية التي كتبتها لي الطبيبة ولزوجي لتساعدنا على الإنجاب .. أم من جراء تلك اللمسات التي قرفت منها .. ولكنها أشعلت أنوثتي المجروحة .
ـــــــــــــــــ
كم من الوجوه تبدلت في هذا السوق .. وكم من الشباب اختفوا وتعوقوا .. كلما رأيتهم آمنت بقدري ونصيبي أكثر .. لم يعد زوجي المعوق الوحيد .. هناك الكثيرون من الشباب المقعدون على كراسي يأتون للتسوق أو للعمل .. كثيرون أًصيبوا بعاهات دائمة نتائج الحروب الثلاث
منذ أن توليتُ دكانة الخضرة الصغيرة التي أورثتها خالتي ومعها البيت لوحيدها بعد أن أصابها المرض وأقعدها ، توليت العمل فيه واضطررت أن يجلس زوجي فيه لحراسته عندما أغيب لإحضار الخضرة اليه من علوة الخضار .. وكأن المثل الشعبي انطبق علي ( الرجل رحمه حتى لو كان فحمة ) حتى اعتدت على مساعدته لي .. أترك وحيدي مع خالتي في الدار ولكن بعد وفاتها أصطحبه معي الى السوق .. حتى أصبح في السادسة أدخلته في أقرب مدرسة من السوق .. كل آمالي وأحلامي أن أراه حاصلا على الشهادة التي حرمت منها .
..................
سآخذ ما أوصتني به الدكتورة من خضار الى دارها عند عودتها من عملها .. كم تغيرت علاقتها بي منذ ذلك المساء الذي تمرض فيه وحيدي وهو ابن السنتين وإكتشافها وجود فتحة بقلبه وإجراء عملية له وتوصيتها لمن شاركها من الأطباء بمساعدتي ولم يبخلوا بالمساعدة .. وبالرغم من ازدحام المستشفى بالجنود الجرحى وفرت العناية التامة لوحيدي .. لولا رعايتها له لكان لا سامح الله قد فقدته .. منذ خروجي من المستشفى معافى .. كان دينا علي لا أستطيع سداده طوال حياتي ومهما فعلت كي أوفيها فضلها هذا ما أشعره في كل حين .. نسيت ما كان يداخلني من غيرة مكبوتة عندما كنا صبيتين .. هي الأقدار التي لايمكن ردها ..أصبحت أنا بائعة في سوق المحلة .. وجارتي طبيبة فتحت عيادتها لأهالي الحي وقد تعالج بالمجان من ليس له القدرة على الدفع .
منذ عملي في السوق تعرفت على الكثير من النسوة .. وبعد أن استطعت أن أشتري التلفاز تغيرت كثيرا .
لم تعد في أعماقي تلك النفرة التي رافقتني سنوات طوال لزوجي سعيد .. آمنت بقدري .. وأصبح نجاحي في تربية ابني هدفي في الحياة .
السنين ترسم خطوطها .. كلما نظرت في المرآة ظهرت سنوات العمر فالشيب المبكر غزا شعري .. تناسيت اللحظات النادرة التي التقيت بها بمن هفا له قلبي وصارحني بحبه بعد انقضاء سنوات على لقائي وزوجي به .. كان لقاء صدفة .. طالبني بالإنفصال كي يقترن بي بعد أن صارحني أنه زوج وأب لولدين ولكنه أحبني .. حاول الإبتعاد إلا إنه لم يستطع .. كنت رفيقة خياله خلف السواتر إبان الحرب .. نظرت اليه بحزن عميق تركته عائدة الى بيتي .. والندم يتقاذفني وكأني ارتكبت إثما لا أغفره لنفسي ومنذ ذلك اليوم لم أره .
...........
لم يكن من عادة سعيد أن ينظر الى نفسه ولكنه منذ فترة تغير كثيرا .. أخذ يهتم كثيرا بأناقة ملابسه .. يطالبني أن أهتم أكثر بكيها وتجهيزها ..
يحرص على أن يضع عطره الذي اشتراه بثمن باهض كلما ذهب الى دكانتا .. لم تعد تلك النظرة المنكسرة في عينيه إزدادت رجولته تألقا وكأنني ألتقي إنسانا آخر .. تعززت ثقتي به أكثر من السابق .. لم تعد مشاعر النفور تنتابني .. أقلق عليه إذا ما طال غيابه .. ولكني افتقدت من عينيه تلك النظرة الحنونة التي اعتدتها بل نظرته اليَّ أبعد ما تكون عن الحب .
عشرون عام مرت على زواجنا .. عكست مرآة الدولاب ـ الذي اشتريته من بائعي الأثاث المستعمل صورتي .. أعجبني عندما كان مركونا في الدكان المغلق الذي يقع في بداية السوق .. وكلما ذهبت لأشتريه لا أجد أحدا حتى سألت صاحب الدكان الذي يقع جنبه عن صاحبه .. فأجابني .. إنه قتل في الجبهة عندما سيق مع القاطع الشعبي وهو رجل كبير السن وقد يفتحه ورثته عندما تسوى تركته .. حزنت على الرجل ونمت عني عبارات الترحم وسألت نفسي عن ضرورة قيام هذه الحروب وجدواها .. وشكرت ربي أن ليس لي شباب في الجبهة .
بعد سنوات فُتح المكان .. وبيعت محتوياته فاشتريت الدولاب ذو المرآة الكبيرة من امرأة متوسطة العمر وصبيا لم يتجاوز الرابعة عشر عاما حضرا تلك البيعة .
.................
نظر الى نفسه بذهول وكأنه يرى وجهه لأول مرة .. أمن الممكن أن يكون عاشقا وهو بهذا العمر .. وأنا التي قاسمته المر والحلو وساندته في أحلك ظروفه .. بالرغم من احساسه بأني لم أكن له نفس الود والرغبة عندما كنا صغيرين .. أحبني ولم يكن من جانبي الا حب الأخت لأخيها .. لم ينفصل عني عندما كنت في عنفوان شبابي .. وبالرغم مما كان بيننا من جفوة حينها الا أنني أخلصت له .. و الآن يمتلك القدرة على التنازل عن كل ما عاشه من أجل أن ينتزع حريته مني ويحيا مع من يُحب .. لم تتجاوز العشرين .. تأتي للشراء بين يوم وآخر .. يرتبك وتتصاعد الدماء حارة لرأسه .. تنتفض رغباته كلما شم عطرها .. تسعده عندما تتقبل منه الحاجات دون مقابل .. بل في الأيام الماضية أصبحت تتقبل عطاياه النقدية وفي أحايين أصبح يعطيها الكثير مما ندخره دون علمي .. وخاصة في الأيام التي لا أحضر معه الى الدكان.. لم يعد يهتم لعلامات الإستفسار في عيني بل يهمل الإجابة عن أسئلتي المليئة بالشكوك والريبة . . لا يعير لمشاعري أي اهتمام بل بدأ يظهر وده لتلك الوافدة على دكانه حتى بحضوري .. طغت رغباته على كل قدرة لديه على التكتم .
سأتزوجها .
: من ؟ ! قلتها مجفلةً .. متناسية شكوكي التي أصبحت شبه يقين .. مكذبة مشاعري الأنثوية المغدور بها .
: وكيف وأنت زوج وأب ؟
: لست أول الرجال ولا آخرهم وديننا يبيح لنا الزواج بأربعة . نظرتُ بعينه التي أنطفأ الحب فيها .. لا فائدة ترجى من نقاشه فقد تلبسه شخص آخر.
اتخذت من مكان آخر في الدار ملاذا لي .. لا أريد أن ألتقيه .. ولم أعد قادرة حتى على العيش معه تحت سقف واحد .
كل يوم يمر تزداد استعداداته لإقامة عرسه فقد استولى على كل ما إدخرناه .. حتى ولده لم يعد يسأل عنه وعندما كان يسألني عن أبيه وعدم تواجده معنا في الدار ومجيئه المتأخر أبرره بانشغاله بأمور الدكان والبيع والشراء . لم أكن أتوقع أنه سيأتي بعروسه الى الدار الا عندما شاهدتُ العمال ينزولون أثاث غرفة نوم جديدة .
كيف تتزوج ابنة العشرين بمن يكبرها بثلاثين عام وكيف وافق أهلها على تزويجها منه وهو المعوق .. قد تكون هذه واحده من نتائج الحروب وما سببته من قلة رجال ومال .. حاولت أن أتحمل وجود ضرة معي لكن الأمر كان فاق طاقتي .
................
كان صباحا نديا عندما حملت ملابسي وأقنعت ابني بالإنتقال لمكان آخر .. لم يكن قد تجاوز التاسعة .. الا أنه سرعان ما أصبح شابا وسيما أحسب له ألف حساب وقريبا سيكمل دراسته .. أصبح لحوحا في استفساره عن أبيه .. وعدم اقتناعه بهذه القطيعة .. ومهما يكن ما حدث فانه لا يستوجب هذه القطيعة من وجهة نظره .. لم أعد قادرة على كبح رغبته في لقائه لأبيه .
فسكنانا في الخان أصبح عذابا إضافيا له .. ولم يعد عملي في خدمة الآخرين وعملي عند الدكتورة أحلام يرضيه ..
كم كان يتطلع الى يوم تخرجه واستلامه أي وظيفة تعينه على إعفائي من هذا العمل .
تطلعٌ مشروعٌ لحياة أفضل ستوفره له شهادته التي سينالها بعد سنة ونصف .. كلما اصطدمت عيناه بأبواب الخان العشرين والتي لم يستطع التآلف معها منذ أن حللنا به قبل عشرة أعوام .. كان طفلا سلم قيادته لي .. أما اليوم فقد أصبح شابا يفكر كثيرا في الإستقلال بحياته ورؤية ابيه .
قد يكون لذلك الرجل الذي ظهر فجأة في الخان تأثيره في مطالبته لي بترك الخان والرجوع الى حينا القديم .
نظرتُ بتوجس تجاه باب الغرفة .. أيمكن لوحيدي أن يحس بمشاعري الخفية .. كم من العمر مضى وأنا أتنكَّر لرغباتي وأقمعها .. أكبرت كثيرا كي أحيا شيخوخة مبكرة .. هناك الكثير ممن يبدأن حياتهن الزوجية في مثل عمري .. وكم من الوقت أستطيع مواصلة نكراني لذاتي .. مالذي ستعكسه لي هذه المرآة الصغيرة التي علقتها خلف الباب من أجله .. كم يعجبني أن أرى مظهري كاملا في المراة إلا أنها لا تكفي الا لرؤية وجهي .. إنني بحاجة لمرآة كبيرة لأرى ما طرأ علي من تغير .. ولأألفه .. حملت المراة لتعكس لي تفاصيل جسدي الا أن صغرها أعجزني عن الرؤية .. أعدتُ المرآة لموضعها وحسرة تنطلق من أعماق صدري .
جلسنا نحتسي الشاي عصر ذلك اليوم .. حول المدفئة .. أضع الشاي عليها كما اعتدت أن أفعل كل مساء .. شتاء قاسِ مرّ علينا لا يقل قسوة عن الشتاءات التي انقضت فأسعار النفط عالية وشحيحة .. كنا نخرج فجراعندما تنتهي قنينتي الغاز .. لم يهن علي تركه وحده يعاني في الحصول على قناني مملوءة .. أما النفط فحصوله لا يقل مأساوية عن الغاز وقد يتفوق عليه في التأخيرأو في تجاهل بائع النفط لندءاتنا كي يُصَعِدَ ثمنه .. لم يثننا المطر المتساقط بغزارة منذ يومين من الإستمرار في عملي فهو المورد الوحيد لسد أبسط احتيجاتنا .. نظربوجهي ملياً وكأنه يراني لأول مرة .
: أمي لقد زرت أبي .
:فاجأني ولكني أخفيت اضطرابي .
: لم أستطع الإستمرار بتجاهله رغم ماحدث .
: صَََمَتُ ولكني استدركتُ صمتي قائلة : وما ذا تريدني أن أفعل ؟ !
صمت طويل استغرقه ليجيبني
: لا لاشئ .
هل أحس بما يداخلني من مشاعر أم أني استطعت بقوة إرادتي وحجبي لعاطفتي أن أصرف هواجسه.
....كان يوما عاديا كغيره ولكن ضجيجا ملأ ذاك الفجر المبكر من حياة الخان فقد سقطت إحدى نزيلات الخان مغشيا عليها في الباحة الأمامية .. عندما خرجت لتجلب ماءً من حنفية الخان الوحيدة والموضوعة قرب بابه .. لم يكن الربيع قد حل والشتاء اشتدت قساوته .. نُقلت المرأة الى مستشفى المدينة .. رافقتها كعادتي عندما أشعر أن هناك من يحتاج لي تاركة أولادها الثلاث مع وحيدي .. فأكبرهم لم يتجاوز العاشرة .. لم أكن قد تعرفت عليها الا من خلال لقاءاتنا الصباحية على حنفية الماء .. أو لغسل الملابس أمام تلك الحنفية عندما يخلو الخان من نزلائه الرجال .. فأكثرهم يتركون الخان فجرا خارجين للبحث عن أرزاقهم الا ذلك الرجل الغريب في ملامحه .. فقد ظهر فجأة في أحد الصباحات حاملا لوحاته وبعض الملابس باحثا عن مكان رخيص يأويه .. فشغل غرفة الخان الوحيده المتبقية دون نزيل .. تجاوز الخمسين قليلا .. وبحكم مساعدتي لسكان الخان فقد تعرفت عليه .
إجور غرف الخان رخيصة قياسا للإرتفاع الحاد في كل الأسعار ..
بناه مالكه كي يساعد به الناس .. ثوابا لوحيده الذي استشهد في بداية الحرب الأولى .. وما يجمعه من مال يعمر به الخان ويخرجه ثوابات لولده يوزعه على المحتاجين من سكان الخان .. كان البعض يسخرون منه ويتندرون عليه .. وآخرون يتعاطفون معه ويطلبون له الأجر والثواب والسلوان .. ولذا لا يُسَكِن في الخان الا من يستحق مساعدته .
..................
الغريب يعمل في غرفته التي امتلأت بلوحات كثيرة رُسم قسم منها وبقي القسم الآخر ينتظر النهاية .. وما أن يكمل إحداهن حتى يخرج بها ملفوفة الى السوق وفي أحايين كثيرة يعود حزينا واضعها تحت أبطه ليجدد مسعاه في اليوم التالي .
في هذا اليوم التقى كل سكان الخان حول المرأة المغشي عليها طالبين من أحد الفتيان الحصول على أقرب تلفون وطلب سيارة الإسعاف لنقلها .. نظر من شباك غرفته الى الموجودين في باحة الدار ثم خرج اليهم طالبا منهم التنحي كي لاتختنق المرأة نتيجة الإزدحام .. مرت أكثر من ساعة حتى وصلت سيارة الإسعاف .. أصعدوا المرأة فيها ولما لم يجدوا أحدا من أولادها مؤهلا لمرافقتها صعدتُ معها .. نظر الي مليا وكأنه يشكرني على مبادرتي .. ظلت نظراته عالقة بي غير شاعرة بالمسافة التي قطعناها حتى وصلنا المستشفى
هل ماخالجني من مشاعر هو الحب ! وهل مباح لي ولأمثالي أن أحب ؟ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غمامات تطوف أمامي ولا أرى سوى لفائف بيضاء ضُبر به أجزاء من وجهي ومن جسدي وتربيت من يد حنون تشعرني برفيف الحياة يطوف جسدي .
أين أنا ...؟
تذكرت المرأة المحمولة بالإسعاف
أين جارتي ؟
نظرت الي بحنان محاولة تهدأتي .. من ملابسها عرفت أنني راقدة في مستشفى .
كنت في غيبوبة لم أصحَ منها الا بعد ساعات طوال إثر حادث ألم بسيارة الإسعاف .. لقد تعرضتْ لهجوم فانقلبت في الطريق .. كتب لي وللسائق النجاة أما جارتي فلم يتحمل قلبها العليل ماحدث فماتت في الحال .
منذ متى وأنا هنا ؟
منذ خمسة أيام ؟ حاولنا معرفة عنوانك والإتصال بأهلك ولكنا عجزنا .
لا أهل لي سوى ولد وحيد ومعه أيتام المرأة .
انحدرت دموعي رغما عني ماذا سيفعل ولدي ومعه الأطفال . . ما إن رأت الممرضه حالتي النفسية والألم الذي بدأت أشعره في جسدي حتى زرقتني أبرة لم أصح منها الا في اليوم التالي .
اختلطت أيام الأسبوع وتواريخها ولم أدركها الا عندما رخصني الطبيب للخروج .
: أيام مضنية مضت عليك ولكن ارادة الحياة أقوى من وسائل التدمير .. قالها بفرح .
لم أعي ما حصل لي الا بعد بضعة أيام ..عندما أخبرني الدكتور بما جرى لجارتي فقد توفيت اثر الإنفجار الذي حطم عربة الإسعاف ولم تفق من نوبتها القلبية .. صرخت بوجهه وأطفالها الثلاث .
لم يكن معكما أي طفل !
...........
لم يدر ما قصدته فهو لاعلم له بحالنا بكيت عليها .. وحيرة تشل تفكيري ما ذا سأفعل ومعي هؤلاء الصغار .. فهي لا زوج لها فقد قتل زوجها وتركها وأطفالها يواجهون الحياة وحدهم وهي لا تجيد أي مهنة ، مما اضطرها للبحث عن أي عمل تسد به رمق أطفالها . لقد كانت تداري المرضى من كبار السن وتقوم بكل الأعمال الخدمية .
والآن ما ذا سأفعل معهم .. ربت الطبيب على كتفي مواسيا ثم تركني عابرا للجرحى الآخرين .. لم أصب بعاهة ولكن الجروح والمسؤولية التي حملتها كانت كافية .
............
تفاجأت به وأدهشتني نظرته لي .. خفق قلبي وكأنني صبية على عتبة الأنوثة تعشق لأول مرة .. مالذي جاء به .. لم يترك نظراتي المستفهمة طويلا
- منذ أن حدث الإنفجار وعرفت أنك مصابة وأنا أبحث عنك ..
لم يكن بيني وبينه سوى نظرات عابرة غلفها الفضول .. ليس مابيننا مشتركات فهو من عالم لا أمت له سوى انبهاري بما يرسمه في غرفته والتي لم أدخلها الا في غيابه كي أنظفها مقابل دنانير قليلة تساعدني على كسب عيشي .. لم أفكر في أي يوم من حياتي أني سأحضى بمثل هذا الإهتمام .
حتى اسمك لا أعرفه كي أستدل به ولكني أخيرا تجاوزت حيرتي وارتباكي وسألت ابنك عادل فدلني عليك .
لا أُريد فقدانك منذ أن رأيتك .. وملامحك تظهر جلية في ناظري .. لا يهمني ما فات بل أُريد أن نبدأ حياتنا من جديد ..لقد خسرت كل شئ عندما كنت الغربة .. في البلد الذي أجبرتني الظروف على الهجرة اليه .. هجرتني زوجتي وضيعت ابنتي في المنافي ولم أستطع لملمة نفسي .. حدثني ببساطة عن حياته وكأنه يعرفني منذ زمن طويل .. كم ودت أن أحيا بهذه السهولة .. ولكن المجتمع يرفض هذا السلوك فما دمت منفصلة عن زوجي ومعي ابني فارتباطي بآخر من المستحيلات .. كثيرات يطلقن ويتزوجن .. أصبح ابني حائلا بيني وبين التفكير بالحب والزواج .
......................
ما إن وصلت للخان حتى وجدتهم في حال مزرية فماء الحنفية انقطع والناس تجلب الماء من مناطق بعيدة تذكرت بما يشبه الحلم أنني عشت مثل هذى المحنة فيما مضى ولكن أين ومتى لا أدري .. تراءى لي من وراء شباكه ينظر الي .. هل سأستطيع الغاء مشاعري بعد هذا الشعور الدافئ الذي تخلل كل خلاياي .. كم سأقاوم ؟ أليس من حقي أن أعشق وأتمتع كما يفعل الأسوياء .. أم سأجبر من جديد على وأد مشاعري وأحاسيسي .. أردت إغلاق نافذتي ولكن رغبة الحب منعتني .. لم أود أن أسد المنافذة بوجهه
.......................
طافت سنوات عمري بناظري وأسئلة كثار لا يُجاب عليها تطاحنني .. أيحق لي أن أعشق وقريبا سأكمل عقدي الرابع .. وهل سيعوضني الغريب عن سني الحالكات التي أيبسها الظمأ . .. وعادل هل سيعدل ويدعني أحيا مع الغريب .. قررت أن أستجيب سأخرج معه .. ولكن الى أين .. فأجواء المدينة لم يعد فيها مكانٌ للحب بعد كل ماجرى لها من حروب .. خلال أعوام طوال جللها الخوف والجوع حتى لا فسحة لعاطفة كي تنمو .. حتى عواطفنا حجرها الخوف والرعب .
سألتقيك بداية الكورنيش لابد من أن نتحدث قليلا .. قالها بإذني في غفلة من الآخرين .. أرجوك لابد من اللقاء فلا تتأخري في السادسة عند الغروب .. أستعددت فالرغبة في أن أحيا ألغت كل المحاذير .. نظرت لوجهي مازلت كما خيل لي أبدو أصغر سنا .. لأول مرة أضع مكياجا على وجهي ما أن لبست ملابسي حتى تفاجأت بدخول عادل على غير موعده ، منذ أن استطاع أن يجد عملا في مكتب محاماة .. يخرج لكليته صباحا ومن هناك يذهب لعمله ولا يعود الا في التاسعة ... استغرب من التغيير الذي أحدثته على وجهي وملابسي .. صمتُ وذهول .. لم أنبس بأي كلمة بل سرعان ما أندحرت وأزلت مكياجي وغيرت ملابسي ووضعت ابريق الشاي على المدفأة كالعادة .. وكأن ليس هناك أمر آخر يعنيني .. .
..............
مازالت غرفة الغريب مغلقة .. ولم أره من حينها وها مر شهر ولم يتغير شئ سوى شعوري بأن الغريب رحل دون وداع .. عدت لنفسي وسؤال أغربُ يراودني
:: مالفرق بين حياتي وحياة الأموات .



#سميرة_الوردي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سميرة الوردي تهنئ وتقول الأسود في البيت الأبيض
- أنا وولدي والوطن بين ... سيغموند فرويد ... وعلي الوردي
- الفن والحرية ... شعب في الإغتراب و شعب تحت التراب
- جواب
- القرضاوي وميكي ماوس
- ليلى والذئب وحكايات أُخرى
- جدلية الموت والحياة وغبارالحق الإلهي
- أحاديث منتصف النهار
- لماذا البكاء
- عينان خضراوان
- بين أوباما وماكين
- مسرح اليوم أو مسرح الستين كرسيا
- ! لماذا التشظي ؟
- التربية والتعليم والعقل
- أنموت بصمت !
- العراقيون يتوسلون
- الألغام والحياة
- أي مخترَع أو مكتشَف أفاد البشرية وغَيَّرَها ؟ !
- المرأة والإنتخاب
- المرأة والحرية


المزيد.....




- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميرة الوردي - بذور الحنظل