أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - منذر خدام - الديمقراطية بين الصيغة والتجسيد















المزيد.....



الديمقراطية بين الصيغة والتجسيد


منذر خدام

الحوار المتمدن-العدد: 759 - 2004 / 2 / 29 - 11:51
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مالك حسن
تعقيب:د.منذر خدام
1- الرؤية المفهومية والرؤية الواقعية:
  نحن نعيش في مجتمع منزوع التسيس،لا يوجد فيه حياة سياسية، بل أجهزة سياسية، أجهزة لا تستند إلا على شرعية العنف وعلى شرعية التكيف مع متطلبات الهيمنة الخارجية.والمحصلة ، بدون إطالة إما أن يصبح المواطن مسخا أو ((برغيا)) ليختزل في عضوية السلطة ، ولا فرق هنا بين من يؤله السلطة، تحت أي دافع كان، وبين من يمارس التقية. وإما أن يُغيَّب في العوالم السفلية على أنواعها، والخيارات المتاحة أقرب إلى العدم والطريق الوحيد السالك هو طريق التقهقر إلى الوراء، لكن ليس بدون أن يترك أثراً ينقضه بالتأكيد .
          إن الحرية التي تشجعها السلطة هي حرية التقهقر إذن، وهي تمتد هنا من حرية اعتقال المواطن، إلى درجة اليقين أن(( حليب)) تيس أبو كمال وحده دون سائر أطباء الخليقة، هو القادر على براء روحه من داء العقم وبالتالي ما عليه سوى أن يقترض على راتبه، من اقرب مصرف للتسليف الشعبي مبلغا لائقا من المال لتغطية نفقات زيارة التيس ((الكريم)) مع التسهيلات المناسبة بالطبع!.إلى حرية أن يلعن نفسه إلى درجة اخضرار جلده، بعد أن يكون قد لعن السياسة وغيرها بالسر والعلانية، مرورا بحرية تعاطي التخريف وحرية صناعة الزعبرة وحرية أن يصبح بهلولا إلى آخر مدى، وأخيراً حرية أن يرى منامات غير قابلة للتفسير.
          أول ما يتبادر إلى الذهن التساؤل المتأمل..ما هو الباعث لهذا الشكل من القمع؟
وبالتحديد ما هو الموضوع الذي ينصب عليه هذا القمع؟ وما معنى أن تُغتال حرية المواطن، وحرية المجتمع ابتداءً من برودة الأسلاك الشائكة، وانتهاءً بالهجرة الجماعية لمن استطاع إلى ذلك سبيلا.
           تبدو لي الظواهر السابقة الذكر مقروءة ببساطة، السبب واضح وهو أن مفردات الحياة اليومية تدعمها، وتسمح بإعادتها إلى عواملها الأولية.بمعنى إن الظواهر تلك مخصوصة الطابع ومميزة للمجتمع موضوع الكلام.نقول مخصوصة وفي نيتنا تجنب الخلط الاعتباطي بين الخاص والعام،لأنه من جهة، إذا اقتصرنا على العام لوحده فسوف تضيع الطاسة، وإذا بالمقابل، اقتصرنا على الخاص وحده فسوف تستهلكنا التجربة ويستبد بنا التذبذب. ثم أخيراً وليس أخرا يبتلعنا التكور السياسي.أضف إلى ذلك إن بين العام والخاص تنوس وتتأرجح وتتداخل الرؤية المفهومية والرؤية الواقعية، ومن حيث النتيجة بين الاثنين فارق كبير كالفارق بين الإنتاج والاستهلاك.
           إن الانطلاق من المفهوم لا يقود- على الرغم مما للمفهوم من قيمة-إلى التعامل الدقيق مع الواقع بما هو، بقدر ما يقود إلى اشتقاق واقع مواز لنفس المفهوم ومتعال عن الواقع الأصل.وحينما تحدث المنعطفات الحادة والمباغته، ونطالب بتسديد الفاتورة، والأدهى من ذلك إذا كانت متراكمة،فمن الخطورة أن لا يتم استخلاص الدروس بروية وبعد نظر.
           لقد ثبت بالملموس أن مرض الاقتصار على الكتالوكات السياسية والنظرية والمفهومية يقود إلى مضاعفات لا طائل منها.سيما إذا كنا أيضا بمعزل عن المساهمة بإنتاجها.وهذا على أية حال ليس أقل مغالطة من طريقة انخفاض الرؤية، لقوام عملية اجتماعية سياسية طويلة وعريضة ليكون معادلها الفكري شعارات وحسب.
          اسمحوا لي أن أوضح بالمقاربة عبر المثال التالي منطلقا من المفهوم.يجئ شخص ما، وليكن أحد معارفك، وعلائم الأسى بادية على وجهه ويقول لك:لقد دهستها السيارة! وبالطبع أول ما سيتبادر إلى ذهنك هو أن تسال بلهفة، وقلبك يغوص باتجاه ركبتك قل من؟ فيجيبك قائلا إنها أختك الصغرى.
          كم هي فكرة ((دهستها السيارة وماتت)) مشبعة بالواقعية لسبب بسيط هو أنها تجريد تعبيري، أو اختزال مفهومي لأن ألوان الدهس والموت ملموسين. وعندما يتبين لك بعد ثوان إن كل الحكاية عبارة عن نكته فظة وبليدة، تتراجع هذه الفكرة لتصبح كفكرة عامة لا علاقة لها بالواقع ، وفي تلك اللحظات، لا بل لا تمت إليه بصلة، على الرغم من انه تم خلق أو قسر واقع أو حدث غير موجود أصلا إلا على مستوى الإشارة الذهنية.ومع أنها إشارة ذهنية فقد خلقت في نفسك بداية دوافع الحاجة الواقعية لأشياء متعددة كالألم والقلق والتصورات المختلفة، لا بل ربما التخطيط في كيفية معاقبة السائق الأرعن!مبتغى الكلام ما أملاه عليك ذهنك حينئذ لم يكن بدافع واقعي خاص ، له لونه وتفصيلاته وحيثياته الزمانية والمكانية، وإنما بدافع الصورة المجردة العامة والمفهومية له أو لمثيله في الذهن.
            قد يبدو هذا المنحى في الحديث جافا إلى حد بعيد، لكن ما العمل إذا كان واقعنا أعقد من أن يعبر عنه بحالة مزح،ودعابة جمع من الفرنسيين، قام باللهو منذ أيام ،لإدانة الثورة البرجوازية الفرنسية وللمطالبة بإعادة تصويب التاريخ المتعلق بها.والمهم من كل ذلك، المطالبة بإعادة الاعتبار والهيبة كاملين إلى(( لويس السادس عشر))،أو بمرح ودعابة مذهب أمريكي طريف استطال حتى أصبحت له فروع على كامل أرض الولايات المتحدة الأمريكية، وهو مذهب يدعو بحماس ووقار إلى عبادة الفرج!.

2- برجوازية المخدرات تتويج لتطور من نوع خاص.
          لنعد إلى حديثنا ولنقل أن أهم ما يميز التركيبة الكمبرادورية الحاكمة في البلدان العربية هو الكذب والدم، لا لاعتبارات أخلاقية أو لاعتبارات سوء التربية، إنما لموقعها الهش ولضحالتها من حيث المنبت ومن حيث المآل ومن حيث الوظيفة الاقتصادية ومن حيث التمثيل الاجتماعي.
          إن الكمبرادور الحاكم خضع لإملاءات من النمو والتنامي المعقدين وقد مر بمراحل متعددة إلى أن تشكل على النحو القائم وقد كان حقل رأسمالية الدولة في واحد من احتمالات تشكله هو المنطلق لهذا النمو.فمنذ عام 1952 وحتى أواخر الستينات كان الجسد البرجوازي غائبا،لكن مولداته أو مولدات بعثه وتجدده قائمة. ونظرا لافتقاده إلى مقومات النمو والتراكم الخاصين فقد وجد في حاضنة الدولة الغذاء المناسب له. ومع تحول المعادلة ذات الطابع التدرجي من رأسمالية الدولة إلى دولة المترسملين، كرست الدولة أبوتها على المجتمع، بما فيها تلك الشرائح المخصبة في أنابيبها ذات النطف المهداة من فحول بلاد النفط.
            إذن كانت الدولة معادلاً لتعويض هشاشتها وعجزها عن خلق التراكم الاقتصادي.وتاريخ نمو هذه الشرائح وعلى وجه الخصوص، الطفيلية منها يشهد على استمرارية اتصال حبل سرتها بأوردة وشرايين الحاضنة المذكورة.وهذا يفسر تريثها بالإفصاح عن نفسها، بالمعنى البرنامجي السياسي، في لحظات مناسبة طوال هذا الوقت.ولطالما كانت تجذب رويدا رويدا توأمها المتبرجز بفعل موقعه في القرار السياسي للمشاركة في نشاطاتها وتامين مستلزمات ذلك بقوة ماكينة الدولة وسن التشريعات والقوانين.ولطالما وضعت يدها على قوة العمل الداخلية خارج إطار أية عملية إنتاجية، فقد ارتأت أن تتصرف(( وبحصافة )) لا تحسد عليها.وإذا ما سبرنا ما وراء الأكمة فإننا نجد أن رأس المال الدولي وشركات متعددت الجنسية وجدا بالملموس أن قدرة التراكم وازدياد الفائض الاقتصادي هو أضخم بكثير لدى البرجوازي الجماعي والدولة مما لو كان تحت ظل الملكية الخاصة.
          هذا إذا اعتبرنا أن العامل السياسي الناشط وذا الأهمية القصوى من زاوية النظر إلى الوضع الإقليمي، والساحات المجاورة لجغرافيا تتمتع بمزايا كبيرة كالجغرافيا السياسية السعودية،على هذا الأساس ينكشف إلى حد بعيد لماذا تبدو السلطات القائمة ثابتة القدم لا تهزها العواصف، وكان شيئا لم يكن.
           لم تكن سلطتها تستمد القوة من أية قاعدة اجتماعية أو اقتصادية يحسب لها حساب. بيد انه لم يكن يستعصي على الفهم جدل الداخل والخارج، جدل النفط والعضوية الطبقية النامية،جدل العنف والتراجع.وكتتويج لكل ذلك فقد تضافرت عوامل البورصة السياسية على الساحة الإقليمية والفلسطينية منها على وجه الخصوص مع بورصة المخدرات لتسفر عن برجوازية من نوع جديد.
             ألا يدل الصراع مع هذه التركيبة على مستوى معين من الوعي لخصائص هذا الشكل من الأنظمة؟ ألا يعتبر تفتح وعي جزء كبير من المجتمع على الأفق السياسي وعلى أفق الكارثة المحتملة، شكلا معينا من المواجهة؟ألا يدل اختزال صورة العرب الفجائعية التي قدمها ويقدمها أبناء وبنات الشعب رصيداً وأساسا للمرحلة المقبلة؟ وهل هناك أبلغ من أن يشير الوعي إلى مرحلة الاحتكاك بفهم الضرورات؟وهل هناك من مجتمع تجاوز محنة إلا بعد إدراك وتيقن لا انفصال بينهما ألا وهما معرفة مصالحه وتمثل مراحل نهوضه الماضية. سأستبق التحليل لأقول:
           من هنا تبدأ مادة السؤال، ومن قبله الأزمة تتكشف خيوط الحوار، وعلى هذه الأرض ستتحرك مادة الفعل وأدواته. والفعل هنا هو فعل من وقع على رأسه كابوس القمع.. فعل الكتل الاجتماعية وحركتها السياسية. والمعيار المعتمد ليس غير المهام التي يطرحها، ويشير إلى نضجها الواقع الموضوعي.بمعنى آخر إنه برنامج الضرورات..ولا خيار، لأنه بالضرورات سيتم التزاوج بين الاستجابة الذاتية لأوسع قطاعات الناس، وبين الموضوع محط أنظار هذه القطاعات، ولأنه بهذه القطاعات نكون أمام عملية ذات مضمون اجتماعي ، وليس أمام روتوشات نخبوية أو تعاليم وصائية.وباعتقادنا إن المهام التي يرشحها الواقع لا تحل ولا تتقدم فقط في إطار برنامج سياسي تقليدي، ولا بفعل أي اكتتاب فردي مستعجل على كوة الديمقراطية أو على كوة أخرى، إذ لا فائدة من تقوى الشيطان عند اشتداد المعمعة.ولا فائدة من أن نسجل أنفسنا كزبائن مؤقتين أو دائمين لهذه القيمة الإنسانية أو تلك، حتى لو كان يغمرنا شعور بأننا شهداء بررة.
            إن السياسة وكذلك الثقافة الآتية لا تساويان شيئاً إذا كان يطرحان خارج الحقل الاجتماعي، وخارج حقل المصالح الوطنية والقومية،والسياسة أيضاً بمعزل عن الكتلة الاجتماعية لا تساوي قشرة بصلة، وهذا ما سوف يتوضح في سياق الحديث.
3- تلمسات أولية في الأزمة العامة.
          سأعالج هذه التلمسات على محورين: المحور الأول وهو عندما يرتبط وجود السلطة- كتعبير عن طبقة أو مركب طبقي، ولا فرق هنا أن تكون السلطة برجوازية أو عمالية- قلنا عندما يرتبط وجودها في الحكم بالمكاسب.. بالمنفعة العامة، والمنفعة هنا ذات دلالة كبيرة، والدلالة تكمن في أن ممارستها السلطة لا تنبع من وسائل الإكراه السياسي المباشر، أو من القمع المباشر السافر وإنما من قبول واقتناع المجتمع بها. على ضوء ذلك نقول أن هذه السلطة أو هذه الطبقة لا بد من أن تتمتع بدور قيادي معترف به ضمن شرط تحقيق المنافع الاجتماعية على الأقل في حدودها الدنيا ومنها التقدم والسلام الاجتماعيين،الديمقراطية، الدفاع عن الحدود ..الخ.
           على ضوء هذا التوازن تتراجع وتنحسر موضوعياً شروط إنتاج القمع السافر وبالتالي يسفر ذلك عن إمكانية حل التناقضات في المجتمع حلا تدريجياً وسلمياً، حتى ولو كان هذا الدافع مسبوقا بحلول ماضية عنيفة قادت إلى مثل هذا التوازن الذي نحن بصدده وخصوصا إذا ما تكرس حكم المؤسسات وليس ذلك وحسب وإنما مرونتها وحدودها المتحركة.
            في هذه اللحظة من التناقضات وفي حدود المفاعيل الداخلية يصعب خرق هذا التوازن نظراً لانتفاء أو لضآلة قاعدة التحرك المضاد.فلا معنى على سبيل المثال لمغامرة انقلاب عسكري في المجتمع الفرنسي. وحتى لو برزت تناقضات على مستوى التناحر والعنف كما حدث إبان الأزمة التي كادت تعصف وتفجر السيطرة البرجوازية الألمانية أواخر العشرينات، مع كل هذا فقد أجهز هتلر الذي ولدته البرجوازية المأزومة من فمها على حد تعبير أحد المنظرين- على الديمقراطية السياسية بنفس سلاح الديمقراطية السياسية، أي بالانتخابات.ما نبغي قوله أن العلاقات والوعي الاجتماعيين في مجتمع مقترن بمستوى من التطور الإنتاجي والحضاري شيء، ومستوى التطور المنمط في مجتمعات أخرى شيء آخر. وما العمل؟
            لقد كان التطور البرجوازي الأوربي محصلة لحكم التاريخ على الإقطاع وقد تضافرت سياسات البرجوازية الصاعدة مع قوة كل مضطهدي المجتمع.وقد سبقت هذا التحالف الملموس،أحزمة الضوء التنويرية المتمثلة باكتشاف الخلية وبروز عصر التحليل ،عصر العقل والتقدم المعرفي والداروينية وتطور مفهوم الانسان، ثم تطور الوسائل الاقتصادية وسيادة السلعة وقوانين السوق واحتياجات البرجوازية إلى الإنسان الحر غير المرتبط بالدولة ولا بالإقطاع،وقد دفعها كل ذلك إلى أن تعيد للإنسان مرجعه الداخلي، وتحارب اللاهوت، وتؤكد على فاعلية الإنسان عبر العقل الإنساني في التغيير.عقلنت مفهوم التاريخ، وفكت علاقة الأرض بالسماء وانتجت مفهوم السياسة على قاعدة وحسابات الشأن الاقتصادي.
           هذه القاعدة بالذات هي التي مكنت آلية ممارسة الديمقراطية السياسية،وهذه القاعدة نفسها هي التي أنتجت التوازن السياسي والاجتماعي على قاعدة هيمنة الإنتاج الرأسمالي.بالطبع لسنا هنا في معرض تسليط الضوء على تعرجات وانقطاعات مسارات الثورة البرجوازية، وكذلك الحروب الأهلية والخارجية التي تفجرت في سياقها التاريخي متعدد الألوان والصيرورات.
            فيما يتعلق بالخاصية الرئيسية للنسق الأول من البرجوازية أقصد برجوازيتنا التقليدية بعد الاستقلال وحتى أواخر الخمسينات،فسأقتصر على بعض المؤشرات دون الخوض بالتفاصيل.
             من المعروف أن نشأتها الفوقية على حساب، بل على أنقاض الحرفة المرتبطة بالإنتاج الوطني أودت بها إلى نوع من التكلس هو في حقيقته تكلس بنيوي، تكلس ناجم أيضاً عن تحولها الهجين من الإقطاع مما جعلها غير قادرة على الخروج من الإطار الربوي.وهذا ما يلقي الضوء على ظاهرة بقاء الحيز الكبير الذي يحتله الاقتصاد العيني، والطابع الاستثماري الإقطاعي للأرض بدون حل. وهو الذي ساهم أيضاً في وصول برجوازية الخمسينات إلى المأزق المنطقي كانت معادلته حينذاك كالتالي:
           رأسمال دولي بقنواته الاقتصادية والاجتماعية من جهة وبروز قطاعات وشرائح عريضة في المجتمع مهيأة للتفاعل مع متطلبات ذلك التوسع. والشرائح تلك هي ما اصطلح على تسميتها بالبرجوازية الوسطى والصغيرة .كانت سرعة الانجذاب قد ترافقت جنبا إلى جنب مع الحراك الاجتماعي ذاك وقد بدأ يحتل مواقع البرجوازية التقليدية المتراجعة وظهرت برامجها الاقتصادية والسياسية على أثر انكفاء متسارع الخطواط للبرجوازية التقليدية وتحالفاتها، لم يكن بسحر الدسائس السياسية،وإنما من واقع حال الاستغناء الواضح لشروط بقائها على رأس العملية التي بدأت  بعد الاستقلال. تطورت المسألة القومية بالارتكاز على مضمون تلك التحولات التي رافقت الشرائح الوسطى بمنطق نهوض جديد ينشد رسم هوية سياسية جنبا إلى جنب مع رسم هوية اقتصادية، وقد استند هذا النهوض إلى النهج الذي تكرس في الكتلة الاشتراكية ووصل الأمر أحيانا إلى نسخ هذه التجربة.وأفاد أيضا من الفسحة الهامة التي خلقها التوازن الدولي الجديد المترتب على نتائج الحرب العالمية الثانية.
            تنام النموذج الناصري وتفاعل على امتداد الوطن العربي وكانت رافعة هذا النموذج هي ترابط القضية الوطنية بالقضايا الاجتماعية. ولا يخفى أن قوة الجذب تلك دفعت بالوعي السياسي للشارع العربي سنوات عديدة إلى الأمام، لا لسحر شخصية عبد الناصر وإنما لشيء اسمه الهوية والكرامة الوطنية والشروع في بناء مقومات الاستقلال السياسي والاقتصادي بعد التخلص من الاحتلال البريطاني ومن نتائج الهجوم الثلاثي عام 1956،وبالتأكيد كانت الرافعة الأخرى غائبة مما انعكس سلباً على ذلك النهوض.إن غياب الديمقراطية من تلك التجربة لا يجب أن يدعو إلى النظر بعين أخرى إلى المعضلات القائمة،أو أن يكون ثمة فضاء بين الذهن وبين العين فذلك لا يلغي تلك المعضلات ولا يشطب ترابطها ولا يجمع المتناقضات في حوجلة واحدة، ولا يمكنه المماثلة بين ((المأسوف على شبابه طيب الذكر))(سعد حداد) وبين عبد الخالق محجوب على سبيل المثال لا الحصر.
           المحور الثاني؛وهو الشكل الذي يتجلى في الممارسة المفلسة للسلطات العربية، أي ممارسة تسلطها عبر الإكراه المتعدد الجوانب، وعلى رأسه الإكراه السياسي السافر.واقعيا لا يتأتى هذا المنحى من الفراغ،وإنما ينبع بالأساس عن عجز السلطة أو الطبقة عن تلبية مصالح المجتمع.وعندما تخضع مصالحه القريبة والبعيدة إلى مصالحها الضيقة، وطالما كانت مصلحتها هي المرشد الوحيد لممارسة الحكم.يعني أول ما يعني الاحتلال وهو بالمناسبة تعبير أولي عن استنفادها واستنفاد دورها. وعليه فإن مجرد بقاءها ستتخلل وتتراكم الأزمة في ثنايا البنى المجتمعية ،وتبدأ من السلطة نفسها إلى أصغر خلية في المجتمع مروراً بالقيم والتعليم والصحة..الخ وعلى قاعدة استفحال الأزمة وتحولها إلى أزمة عامة.تبرز مؤشرات عديدة على إمكانية تجاوز ولفظ هذه السلطات، وأول ما تبدأ الحركة الاجتماعية والمعارضة السياسية بالانتعاش لا تلبس أن تنتقل إلى مواقع الهجوم.لكن الدولة والسلطة بالمقابل تدفع بكل قواها حتى باتجاه استعصاء الأزمة، كربط للأزمة بمستلزمات مصالح العامل الدولي ووضع المجتمع على كف عفريت.
            إننا لا نشك لحظة بأن تضخم الأجهزة القمعية والأيديولوجية على أساس اعتبار السلطة هي الوحيد الذي يحدد كامل السياسات.. من التفاحة إلى احتكار التعازي بالموتى هو أساس الانحطاط وهو الطاحونة التي تطحن وعي المواطن،وعندما لا تفلح في وقف انحدارها تشرع في تدمير الوعي المدني ونسف كل عمل عقلاني، وتحطيم روح المسؤولية، وتسمم المعرفة وتنشر الرعب واللعب بعوامل الوحدة الوطنية والاجتماعية، وقد تنتقل هذه العدوى عند مستوى معين من الأزمة على شكل هستيريا وهوس تدخل في نسيج العلاقات الاجتماعية العامة.
            إن العنف ..العنف بكل تجلياته وكما هو معروف فهو مؤشر نوعي لمستوى معين من التهدم الذي يحفز الدكتاتورية وحشوتها الطبقية إلى التهام مكونات الدولة نفسها كما هو واضح لنا الآن. فتسود أخلاق المسلخ السياسي، وتتحول أجهزة القوة المباشرة لتصبح الحزب الوحيد للبيوتات المالية وذوي الامتيازات الاقتصادية والسياسية في هرم السلطات. ومع هذا وإذا دعت الضرورة تحت ضغط الظروف الداخلية والخارجية إلى ارتخاء قبضة الدكتاتورية وتراجع أخلاقية المسلخ السياسي فلن يكون  التغيير تحت ظل نفس السلطات،ونفس الكمبرادور ونفس النهج اللصوصي..قلنا لن يتم إلا بالاتجاه تعميم أخلاق العهر السياسي وتعميد كل ذلك بتقييد البلاد بمعاهدات واختراقات مع أولياء النعمة السياسية والاقتصادية.


4- الدولة والسلطة.
           على أية حال، عندما نقول الدولة نعني بذلك جملة النواظم الدستورية والسياسية والقانونية..الخ  في نفس الوقت الذي نعني فيه الممارسة السياسية للقوى الاجتماعية. وعلى الرغم من أن هذه القوى لا تحتكم في كثير من الأحيان- وهذا راجع إلى خصائص كل مجتمع- قلنا لا تحتكم إلى قوانين الدولة ذلك بقدر ما تسمح لها قوانينها الخاصة. فالقوى الاجتماعية تلك بعلاقاتها المتشعبة هي مكونات سياسية اجتماعية واقتصادية وانساق من القيم والثقافة والأعراف والعادات والتقاليد وشبكات المصالح والمعاملات تنظمها قوانين خاصة ذات طابع مرن ومتحرك. وهذا بالضبط ما يطلق عليه اسم المجتمع المدني. وهنا وبقدر ما تتوسع المسافة بين الدولة أو تضيق وبين هذا المجتمع المدني تتكشف أو لا تتكشف حدود الممارسة الديمقراطية.
            إن الكثيرين يقعون في مغالطات لا تفرق بين مفهوم الدولة ومفهوم السلطة، فيخلط بينهما ليتماثل المفهومان. غير أن الأمر لمختلف.فالدولة هي ناتج شروط داخلية موضوعية في التوازن الاجتماعي والسياسي، نتائج تقاطع المصالح المشتركة أو المتشابهة، بما في ذلك القيم الاجتماعية، وناتج حوامل ومرتكزات أدبية ومعنوية. وعندما تختزل السلطة وتقوض هذه الأسس وتلك الحوامل يتراجع مفهوم الدولة ويضيق،وأول ما ينتج عنه هو تفجير وزعزعة مكونات المجتمع المدني وتفجير وزعزعة وعيه لنفسه،ويحل محل التناقضات الموضوعية تناقضات مفتعلة.. كتصوير التناقض انه يقوم على أسس الصراع بين الطوائف. وبالتالي ربط أو السعي إلى ربط مصالح الناس بهذا الشكل من الصراع كما جرى في لبنان كنموذج واضح.كما ينجم عن اختزال الدولة أيضا مسخ المعايير، بما فيها المعايير التي وضعتها الدولة في صورة قانون أو دستور عند مرحلة من مراحلها.ولا تكتفي السلطة الدكتاتورية بذلك وإنما تخضع المعرفة لمعايير اطلاقية، فتكشف بداية ونهاية الكون في زمان ومكان سلطتها. وتنكر مفهوم التاريخ لتستعيد عنه مفهوم الزعيم ما فوق التاريخ.لكنها ولحسن الحظ ومثلما تسعى إلى تهميش الجميع فهي في نفس الوقت تسير نحو حتفها،هذا هو منطق الحياة ومنطق التاريخ. ولا يتناقض ذلك مع حقيقة القدرة على طبعها في ذهن العديد من المواطنين، صورة للوعي المهدم واليائس، وليس ذلك وحسب وإنما في أوساط المعارضة.
           إن الوعي المهدم هو نفسه وعي دكتاتوري، لكنه هذه المرة بالمقلوب. إنه وعي سابح في الهواء، فاقد لأبسط الترابطات السببية يعتمد الإطلاق الإيماني التطهري يبدأ بالفكرة لينتهي بها، وبها يقيس التاريخ والتناقضات والمستقبل. بمعنى آخر يغيبها ويسقط مكانها الرغبات، ينكر كل معرفة سببية، تاريخية، ولربما يصل به الأمر إلى إدانة قوانين الفيزياء والقوانيين الطبيعية، واعتبارها عتيقة، أكل الدهر عليها وشرب، أنها مأساة الوعي المنحل (انظر مداخلة أبي نسرين كنموذج على ذلك).
          إن تهديم إمكانية تكون شروط الممارسة الاجتماعية والسياسية،وبالتالي تكون الناظم الدستوري،والوعي الاجتماعي المطابق يؤسس لانحدار عام.لذا ففي غياب هذه الممارسة يصبح الكلام عن وجود دستور أو سيادة قانون أو انتخابات حرة أو ديمقراطية ما هو إلا عبارة عن حبل زائف إن لم يكن تورماً خبيثاً. ماذا يعني الدستور وعدمه في ظل ظروف كالتي تحكمنا الآن؟ وماذا تعني الانتخابات وإقامة الهيئات التمثيلية في ظروف كالظروف التي نعيشها؟ وهل يساوي الدستور القائم- على الرغم من صيغه الجميلة- هل يساوي ثمن الحبر الذي أُريق من أجله؟ على العكس من ذلك، وللتدليل على العامل الحاسم للمضامين، وهذا الكلام ينطبق على الحاضر وكذلك على المستقبل-فقد لا يوجد دستور بدون دولة ما، ومع هذا تستقيم الحياة السياسية وحياة المجتمع بشكل عام. ففي بريطانيا لا يعرفون الدستور المدون،وإنما ثمة عرف فقط لا غير.
           ليس ثمة ما يفسر هذه الظاهرة، في جوهر الأمر، سوى أن مستوى تطور عالم الضرورة (الاقتصاد) وعالم الحرية( توزيع ناتج الدخل القومي) هو الناظم الحاسم.بمعنى آخر إن الديمقراطية تقوم  في الاقتصاد كما تقوم في الممارسات السياسية والفكرية. نستنتج من كل ذلك أن أية فكرة مهما كانت سامية كالعدالة أو الإخاء أو الديمقراطية..الخ ليس لها من وجود ملموس، ولن يكون لها إلا في الإسناد الواقعي، كقانون وجود قواها ذات المصالح المتقاربة أو المتباعدة نسبياً وإن القيم الفكرية والتحرر العقلي لا تترسخ إلا كمحصلة لمنطق التناقضات الموضوعية المعبرة عن المصالح بأشكالها المختلفة.
5- الديمقراطية والتقدم.
           هل الديمقراطية مقترنة بمرحلة تاريخية معينة؟ وهل هي مقترنة بطبقة محددة؟ بصيغة أوضح هل الديمقراطية مقترنة بالطبقة البرجوازية؟أم أن التاريخ الخاص بالديمقراطية له قوله في هذه القضية؟
           على فرض أن الجواب بنعم، أي أنها مقترنة بالطبقة البرجوازية فيترتب على ذلك الإقرار بأن هذه الطبقة تحوز على عناصر وشحنات داخلية محايثة لها كصفات أبدية، أي أنها بجوهرها تحمل هذه الصفة أو تلك. كان نقول أن العدالة محايثة للطبقة العاملة في كل زمان ومكان أو أن الطبقة العاملة ذات جوهر عادل.أو أن الديمقراطية صفة محايثة أو ملاصقة للبرجوازية في كل مكان وزمان، وإن البرجوازية ذات جوهر ديمقراطي.بالمختصر لا داعي للقول بان هذه النظرة لا تاريخية،ولا تمت إلى المعرفة بأي صلة.فالواضح عبر التاريخ الخاص للديمقراطية  أنها لا تقترن بطبقة مجردة ولا حتى بنمط إنتاج محدد، بل الأكيد أنها ترتبط وتحايث التحولات الاجتماعية الموضوعية، كالتحولات التي أنجزتها الثورة البرجوازية في أوربا. وعلى حد تعبير ( فيصل درّاج ) فإن التحولات تلك لم تكن ترجمة لإرادة ذاتية للطبقة البرجوازية، وإنما كانت ضرورة موضوعية لا يتحقق انتصار البرجوازية إلا بها.والدلالة على ذلك هي أن التحولات الكبيرة تلك لم تكن نابعة فقط من اندفاعات البرجوازية وحسب وإنما من الاشتراك الفعال للطبقات الفلاحية والعمالية،وقد شهد تاريخ تلك التحولات صراعات وآلام وفجائع.لكن من باب الملاحظة السريعة نقيم تمييزا بين آلام التحول وبين البعد الأخلاقي، إذ أن التاريخ أمام هكذا تحولات يبدو أنه غير معني كثيراً بالوقوف عند هذه الآلام ،لأن متطلبات توحيد السوق القومية وتعميم الإنتاج الكبير، والهيمنة الاقتصادية كما في تجربة توحيد ألمانيا أو توحيد إيطاليا أكبر من الحقائق الجزئية.وكما الحرب الأهلية الأمريكية، لم يتوقف التاريخ ليطرح ما إذا كان ثمة تعارض بين مستلزمات الديمقراطية وبين مستلزمات توحيد الشمال والجنوب، أي تحقيق الدمج الاقتصادي،أو تحقيق الدمج الوطني.وعلى ما يبدو أن الضرورات تسوغ وتسوق نفسها عبر النتائج،وعبر ما تكرسه من تقدم ومن وسائل التقدم، ولا يجادل أحد في أن الدمج الوطني وتوحيد السوق الأمريكية، وبلورة الهوية السياسية للولايات المتحدة الأمريكية كان الأساس الصلب الذي نمت وترعرعت فيه الديمقراطية الأمريكية، وعلى ما أعتقد أنه ليس من المهم أن أبراهام لينكولن وطاقمه قد ارتكبوا هذه الفظاعة أو تلك، إنما المهم هو تلك الخلاصة التاريخية المعبر عنها بجدل الديمقراطية والدمج الوطني.. وقد أفصحت عن نفسها بصفة قانون موضوعي وإلا لكان التاريخ قد فتح الطريق لتعديل وقولبة الديمقراطية على أية عشيرة أو أية قبيلة أو أي تكوين اجتماعي من هذا القبيل.ليس ذلك فحسب وإنما يمكن تحويلها إلى وصفة جاهزة يرتدع من خلالها كل القتلة الذين يعاقبون أخواتهم لمجرد انحراف أعينهم نحو الشمال أو اليمين،وقس على ذلك ابتداءً من أحلام الحكام إلى سارقي قوت الناس إلى منظفي قاعات البرلمانات.
          كثيرا ما يقال ومنذ فترات متباعدة أننا نريد الديمقراطية الغربية، وعلى ما أعتقد أنه ليس ثمة غضاضة في ذلك. ولا بأس إذا كانت المسألة تحل على هذا النحو وبحدود هذا الخيار، خيار أن نقول: نريد أو لا نريد. لكن الأمر مع الأسف يتعدى ذلك بدون أية رحمة أو شفقة، الاعتبار عنيد وهو أن الديمقراطية الغربية ليست معطى تكنولوجيا،وليست قيمة تبادلية يمكن مبادلتها ببالات القطن أو البترول الخفيف،إنما الديمقراطية قيم ممارسة في الفعل السياسي وفي الوعي الاجتماعي للبشر المؤطرين في تكوين قائم له خصائصه المحددة، وليست فكرة مطلقة، تحقق نفسها من خلال انفعال البشر بها. ومن الصعوبة بمكان أن تستورد الوعي المترتب والمطابق لعملية اجتماعية تاريخية تحددت فيها المفاهيم والوعي حسب موقع ووظيفة في الصراع السياسي والطبقي، وفي موقع ووظيفة في التقدم. والتاريخ هنا لا يقاس بالزمن بل بشكل ومضمون التحولات التي نقدم في هذا المجتمع أو ذاك.
6- الديمقراطية والوطنية.
          لا يستوي طرح الديمقراطية إلا بالتعرف على موضوعها، وموضوعها هنا هو قضايا وحاجات المجتمع، وعندما نقول قضايا المجتمع يعني أننا بتنا أمام المنظور السياسي. إذن ليس ثمة انفصال بين الديمقراطية وبين السياسة، ولا انفصال بين السياسة وبين المعرفة العلمية للواقع:كيف يبرز الترابط بين الديمقراطية والوطنية؟ سأُجيب عن هذا التساؤل من منطلق المقولة التالية: غلبة العامل الخارجي وفقدان التطور الداخلي.
          من أين ننظر إلى الواقع الراهن؟ هل من خلال النتائج القائمة أمامنا؟ أم من المقدمات؟ أم من النتائج والمقدمات معاً؟باختصار شديد وبالحدود التي سأدلل بها على ذلك الترابط نقول إن عوامل العنف الخارجي المتمثل في تصدير أزمات الإمبريالية، جنبا إلى جنب مع العض الذي مارسه ويمارسه الكيان الصهيوني، وبالتقاطع مع عوامل ضعف وهشاشة القاعدة التي تفاعلت وتتفاعل عليها عناصر الاندماج القومي ترسخت المعضلات التالية: التخلف، التجزئة القومية، الاستيطان الصهيوني وخطره المستقبلي. وأمام تحدي هذه المعضلات انهارت التيارات السياسية والطبقية منذ الاستقلال وحتى الآن،برجوازية كانت أم غير برجوازية، ليبرالية كانت أم غير لبرالية ولا جدوى.لأن هذا التحدي سيظل قائماً وسيكون امتحانا لكل القوى التي ستتصدى للمهام المطروحة أيا كان لونها الأيديولوجي والطبقي.
           إن من يتكلم عن راهنية الدمج يملك الرأسمال الدولي، فهذا أمر نافل والسبب إن الدمج بلغ أوجه، وتجاوز البعد الاقتصادي، ليتجلى ، يتماهى السياسي أيضاً، مع متطلبات الهيمنة الأمريكية عموما أو التنازلات النوعية، أمام الكيان الصهيوني تحديدا، فمنذ عقدين ونيف تضافرت عوامل العنف الخارجي مع دور النفط الخليجي لرسم ملامح وحدة توجه لنظام عربي، حلقته المركزية النظام السعودي، وحلقاته المكملة هي الحلقة المصرية والحلقة المغربية،ولقد تغذى هذا النظام من نزيف الحركة الوطنية العربية وأحزابها ومواقفها.وكلما تقدم هذا النظام في سيطرته على الأوضاع الداخلية،كلما سرع بردم الخندق بين المشروع الصهيوني وبين أشكال المقاومة العربية لهذا المشروع. ومع تملك الهيمنة الخارجية إمكانية صياغة الأوضاع الداخلية، واشتداد عمليات النهب، واستفحال الأوضاع المأزومة وبروز الحل الأمني السافر لدى السلطات العربية الحاكمة، تم قذف وتغييب الشعب عن ساحة الحقل السياسي وتحول المشروع الإمبريالي في التسوية مشروعا نظريا وسياسيا واقتصاديا للطبقات الكمبرادورية، ممثلة بتوجهات أنظمتها.بمعنى أن هذا المشروع راح يرخي ظلاله على الأوضاع الداخلية،إذن فعقدت البرجوازية الكمبرادورية المصرية حلفها بشكل مبكر بينما احتاج الكمبرادور السعودي إلى نوابض مالية وسياسية لترميم الوضع الداخلي المتفجر، ولخلق أرضية لتنامي شرائح قوى في التسوية حياتها الاقتصادية والسياسية مع الكيان الصهيوني وعلى الطريقة المصرية،ضمانة سيطرتها على السوق الداخلية.
           إذن ما بين غلبة العامل الخارجي، وفقدان إمكانية التطور الذاتي، وانضباط المجتمع أو أكثرية المجتمع، بين فكي الأزمة الاقتصادية والقمع السياسي الدموي ونتائجهما المتجسدة بالتحلل والشلل الراهنين، انبجس من منافذ هذا المجتمع تقيؤات وأشياء أخرى.ومن الطبيعي أن لا نحسب ذلك نوعاً من الولادة أو نقضاً للوضع القائم وإنما تعبير عن شدة اعتصار الأزمة للمجتمع.والفرق واضح بين الولادة والنقَض وبين التعبير عن الأزمة.
            سألقي الضوء على المفارقة التالية، وهي أن الإسلام السياسي وكأي أصولية منطلقة من أرضية قومية أو شيوعية أو دينية، لم يأتي من الفراغ، بل لأن أجواء الالتجاء إلى القيم الدينية في ظل مناخ الإرهاب وتقزيم الإنسان، ومناخ التهدم الطبقي والنفسي، قاد إلى التمسك بقوة بالقيم التي يعتقد المواطن أنها ضمان للهوية وللوجود بشكل عام.
             إن الالتجاء إلى الدين في ظل غياب الأيديولوجيات الأخرى، بدافع الحفاظ على الذات وعلى الهوية هو آلية دفاع قد يكون لها في لحظات تاريخية،أهمية قصوى، كآلية حفاظ المجتمع الجزائري على نفسه، إبان الاستعمار الفرنسي بوسائط الانتماء الديني، والذي في مضمونه، هو هو نفسه صورة الانتماء الوطني. أما أمر الإسلام السياسي هنا فمختلف بشكل نوعي، ولا يمكن أن يحمل تلك الصفات الإيجابية لذلك التدين المنوه به.لأنه لا ينطلق من نفس الوظيفة، ولا من نفس الضرورات، وبالتالي ليس في مقدوره أن يشكل مخرجاً، وليس في مقدوره أن يكون نقيضاً للوضع القائم، لأنه بجوهره ليس أكثر من تمظهر عنيف لمستوى الأزمة الراهنة، ودالة من دلالتها وحسب.
            إن أخطر ما فيه هو اختراقه أصلا للسمو الروحي والتعالي الإسلاميين وانتقاص البعد القيمي المتمثل بحدود العبادة وعلاقة الإنسان بربه.وعندما يسعى الإسلام السياسي إلى أسلحة العنف وشهوة السلطة والسيطرة ونجاحه في وعي منه للظروف القائمة ،ويدفع إلى تحويل الإسلام من نسق القيم الروحية إلى نسق  الصراع الاجتماعي، فلا بد له أن يدخل طور الهمجية وتبهيم الصراع، ونسف مرتكزات الوعي الحضاري والإنساني وفي هذه الحالة يمكن أن ندعوه أي شيء سوى أن يكون متمثلا لأي بعد ديني.إنه بهذا المعنى الوجه الآخر لممارسات الكمبرادور القمعي ولا يمكن أن يكون أكثر من حزب نفطي تفوح منه رائحة المازوت السياسي.
           من المؤكد لو أن شروط الحرية والتعبير عن الذات متوفرة لما كان لكل مازوت الدنيا تحريك مشاعر الناس وسوقها كما لو أنها فارغة الرأس.
            إن من يحافظ على التجزئة والتخلف، ونشر الستائر على دم الضحايا، هو نفسه الذي يعادي الديمقراطية. وهو نفسه النظام الدولي الذي حطم تجربة محمد علي ذات الطابع الرأسمالي الصاعد، وهو نفسه الذي أوجد اتفاقية سايكس بيكو وفرق وشتت المنطقة إلى دويلات مجهرية وهو نفسه الذي مهد ويمهد لتحويل الكيان الصهيوني إلى قوة إقليمية مهيمنة، حتى على مخاتير القرى في الدول العربية، من المغرب إلى العراق. والنظام الدولي الجديد القديم هو نفسه الذي يستفيد من منطق استفحال (( حروب الحدود الدنيا)) على حد تعبير سمير أمين والمقصود بذلك هو التأمل الذاتي الناجم عن تعميم البرنامج الصراعي على قاعدة الكفر والإيمان في الصراع السياسي والاجتماعي.
            علينا أن ننتبه إلى المعادلة التالية وهي :أن دواعي إعادة إنتاج الهيمنة الأمريكية تحديدا وفي ظل سقوط القطبية السابقة وتفرد أمريكا بالتأسيس لنهوض اقتصادي مهيمن على نفس صورة الهيمنة السياسية والعسكرية، لا يمكن أن يقدم إلا على جدل الغالب والمغلوب، التابع والمتبوع، وهذا لا يشملنا وحدنا وإنما ينطبق جزئيا أو كليا على شعوب العالم.يخطئ كثيرا من يعتقد أن الرأسمال يسعى لإشادة الديمقراطية، الرأسمال يسعى إلى الفتوحات والفتوحات وحدها،وحتى لو كان على أنقاض شعوب بأكملها، وإننا لا نناقش هنا انزلاقات من نوع أن النظام الدولي يعمل على مبدأ نظرية الأواني المستطرقة، كون الغنى والرفاهية والسعادة في مكان ما لا بد أن يرتفع منسوبها في الأمكنة الأخرى لتعم البهجة في العالم قاطبة.
          إن الديمقراطية الأمريكية بهذا المعنى، ما هي إلا المصالح الأمريكية مسوقة بقيم أيديولوجية فارغة، وفي التحليل الأخير ما هي إلا غرامة الحرب التي يفرضها المنتصر.أما فيما يتعلق في الجانب الآخر من المعادلة فهو: ازدياد تيقظ الشعوب لمصالحها، وتحسسها لمكامن الضعف والقوة بها وربط واقعها المتردي بأسبابه الحقيقية، وتطلعها إلى الأمام باتجاه الحرية والديمقراطية والتقدم.وهذه ميزة إيجابية وحلقة قوية، يجب التمسك بها ودفعها إلى الأمام.
7- مرتسمات ونقاط.
            إن الديمقراطية ليست قضية في التجريد والمواصفات، إنها قضية في واقع الصراع الاجتماعي والوطني، وحركة المجتمع والشرط التاريخي القائم.أنها نظام في المصالح الاجتماعية والوطنية وإدارة حكم لقرار مجتمع يمتلك سيادته، ومقدراته ويستطيع تحديد توجهاتها السياسية والاقتصادية، وهذا يتطلب أن يكون:
          - الشعب مصدر السلطة، أي سيادة الشعب أو ما يعرف بلغة السياسة الاستقلال الوطني، إذ ليس من معنى للديمقراطية، أي لسيادة الشعب، وحكم الشعب نفسه بنفسه،ولذاته ما لم يكن الشعب حرا في ممارسته السياسية داخليا، وما لم يكن حرا في كيانه الجغرافي والثقافي ، فالديمقراطية لا تكون إلا بهوية.
         - بالهوية السياسية وبالتالي الاقتصادية تتصلب الأرضية التي تساهم في عملية تجنيس المجتمع والتخلص من مفاعيل العشائرية والقبلية والطائفية، والتجنيس ببعده الثقافي والنفسي والحضاري لا يقوم إلا في شبكة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسيكولوجية، وهذا ما يدفع ويعزز النقطة الثالثة وهي:
         -  تبلور العقد الاجتماعي ( دستور) في تنظيم الحياة السياسية، وتبادل السلطة.إن في قولنا الديمقراطية نظام في المصالح يعني الإقرار بالتحييد النسبي لشكل الملكية، وكتحصيل حاصل الإقرار بالتعددية السياسية، وكلما كانت مسارات التعبير عن الذات الطبقية والسياسية أي التعبير عن المصالح غير معاقة، وغير ملجومة، بل خاضعة لإيقاع سيادة القانون يعني أن المجتمع بدأ في خط التطور المتوازن.
         - لا شك في أنه ثمة فرق بين ما يجب أن يكون وبين كيف نبدأ بخطوة الألف ميل.. مبدئيا ليس هناك ما يسمى الانطلاق من نقطة الصفر وإنما من الواقع المتحرك بمعطياته الموضوعية. لأن الانقطاع عن الواقع يجعل السياسي يبني برامجه على غياب الشعب بقواه الخاصة، وتصبح السياسة مجرد ألاعيب وسمسرة ثم تعبير عن التجارة بالحد الأدنى، ثم هات يدك والحقني.
          - إننا نرى بالمعايير التالية نقاط  انطلاقية عندما يظفر الشعب بالقدر الأدنى من الحرية، بانتهاء الدكتاتورية:
          1-رسم الممارسة السياسية بخطواتها الأولية بالانطلاق من مدخل واحد وحيد وهو حرية التفكير وحرية النقد ابتداء من الذات إلى الموضوع ، ومن الموضوع إلى الذات مرورا بالأطراف الأخرى، أي الحرية للجميع بما فيها الأقليات القومية وحقها في التعبير عن نفسها.
          2-السعي إلى بناء مشروع ثقافي شامل، يتحول إلى حالة نوعية تنويرية تتجاوز المصالح الطبقية المباشرة، والمعرفة هنا هي معرفة عملية وثورية بقدر ما تساهم في صياغة معالم ومضامين المصالح الاجتماعية العامة، بما فيها قضية المرأة.
          3-العقلانية أساس لإنشاء الحلف السياسي  أو لتطور صيغة المجتمع الوطني الديمقراطي، كصورة مصغرة عن سيرورة الحلف الاجتماعي الذي يضم التيارات المجتمعية.
         4- المشروع السياسي كتتويج لتقدم الجسم السياسي الذي يعتمد الديمقراطية أسلوبا والمنظور الاجتماعي القومي الديمقراطي الذي ينطوي على إطلاق الحركة الاجتماعية ببعدها الديمقراطي التحرري هدفا.
تعقيب
د. منذر خدام
             بين جمال اللغة وعمق التحليل ينوس القارئ ،تارة تسحره اللغة، تحاول إبقاءه على السطح، وتارة أخرى يشده المضمون، يرغمه على التأمل والتبصر، وفي كلتا الحالتين تصحبك متعة كاملة كدليل لك .ليست مهمتنا سهلة ،في مجمل الأحوال، فنحن نريد أن نقبض على الحالين دون أن يفوتنا تصيد ما يكون قد وقع به الأخ مالك من هفوات،أو بدا لنا كذلك.
             -وهكذا في إطار العنوان الفرعي الأول (( الرؤية المفهومية والرؤية الواقعية)) يحذرنا الأخ المحاضر من قضية الانطلاق من العام حتى (( لا تضيع الطاسة))،و يحذرنا أيضا من الاقتصار على الخاص حتى(( لا تستهلكنا التجربة)). الانطلاق من المفهوم على الرغم من أهميته لا يقود إلى التعامل الدقيق مع الواقع ،لذلك يدعونا الأخ مالك  إلى دراسة الواقع واستيعابه في مفاهيم مناسبة في إطار من الوضوح المنهجي حتى لا نقع في التجريبية الفجة.
           - وتحت العنوان الفرعي الثاني((برجوازية المخدرات تتويج لتطور من نوع خاص)) يعالج الأخ مالك المسار الخاص في تطور البرجوازية التابعة في إطار الظروف الخاصة، واثر النفط في تفسخ واغتراب البنية السياسية، دولة ومؤسسات وطبقات متلطية خلفها، عن هموم الوطن والمواطنين، وأهمية الدور الذي قامت به السلطات، سواء في بلورة طابعها، أو في استمرارها ،من خلال علاقات تمفصلها مع الخارج ،الذي هو هنا السياسات الإمبريالية في المنطقة، وخصوصا تلك المتعلقة بالقضية الفلسطينية وبلبنان، وآخرها تلك المتعلقة بحرب الخليج الثانية ،حيث الحساب على الفاتورة النهائية، كما يرى الأخ مالك.وخلال استقصائه سيرورة بروز الدولة العربية يتوصل إلى ما يفيد بأنها كانت المكافئ الموضوعي لهشاشة البرجوازية التابعة المحلية ،وانغماسها في براميل النفط وسرقة الفائض المحلي. بالنسبة للأخ مالك السياسة والثقافة كذلك ،(( لا تساويان شيئا إذا كانا ينطرحان خارج الحقل الاجتماعي وخارج حقل المصالح الوطنية والقومية))، وهذا صحيح تماما منظورا من زاوية اجتماعية وسياسية وأيديولوجية محددة،لكن ذلك لا يصح بصورة عامة.السياسة، غير الثقافة،  لا تكون خارج الحقل الاجتماعي ،فهي تعبير عن المصالح المحددة به، أما الثقافة فهي بناء أكثر تعقيدا يتضمن محمولات عديدة مختلفة ، متداخلة ومتراكبة ،يجمعها تكوين بنيوي خاص، ذو سمات وطنية وقومية.أضف إلى ذلك السياسة منظورة من مواقع طبقية معينة قد لا تهتم فعلا بالمصالح الوطنية والقومية، وهذا ما نلمسه  في سياسات البرجوازيات العربية التابعة . الوطن بالنسبة لها هو موضوع للنهب ،ولتحقيق ذلك عليها أن تقتل في المواطن روح المواطنية ، من خلال إغراقه بدوامة الحياة اليومية واستهلاكه هناك جسديا وفكريا وقيما..الخ.ولقد نجحت الأنظمة العربية كثيرا في هذا المجال،فأوصلت المواطن إلى وضعية لم يعد يهتم بها بقضايا الوطن الكبيرة أو الصغيرة،ويستحيل عليه في مثل هذه الظروف حمل راية الديمقراطية التي تشغلنا في الوقت الراهن كنخب سياسية وفكرية.
           -  وتحت العنوان الفرعي الثالث ((تلمسات أولية في الأزمة العامة)) يعالج الأخ مالك أزمة المنطقة في محورين:
             المحور الأول يتعلق بممارسة السلطة سواء بصيغتها الدكتاتورية أو الديمقراطية ويرى أن ثمة حدين يحكمان المعادلة.من جهة توجد طبقة معينة في السلطة تنتج شكل الحكم المطابق وفي الجهة الأخرى موقف المجتمع منها قبولا أو رفضا، وفي علاقة التوازن بين الحدين يتحدد طابع السلطة ،دكتاتورية كانت أم غير ذلك.ولا ينسى الأخ مالك أن يشير إلى أن علاقة التوازن هذه يحكمها بعد أخر هو بعد الحاضنة التاريخية، أي مستوى التطور الحضاري.وهنا يحصل التفارق بين السيرورة الأوربية حيث تم إنتاج مفهوم (( السياسة )) على قاعدة وحسابات الشأن الاقتصادي وهذه (( القاعدة بالذات هي التي مكنت آلية ممارسة الديمقراطية السياسية)).أما في الظروف المحلية فلا يجد الأخ مالك سوى التكلس والتحول الهجين للبرجوازية نظرا لطابع وخصوصية تطور العلاقات الرأسمالية عندنا.
              في المحور الثاني يحاول الأخ مالك تلمس الأزمة في ((الممارسة المفلسة)) للسلطات وكيف أنها كانت أمام خيار وحيد هو خيار الإكراه السياسي السافر، نظرا لعجز الطبقة التي تقف خلفها عن تلبية مصالح المجتمع،بل وعدم توجهها بالأساس لتلبية هذه المصالح.فمنذ البداية وضعت أهداف أخرى نصب عينيها، وسعت إلى تحقيقها، ولم يكن  بد من القمع، سوى التفارق بين السلطة والمجتمع، وهي بذلك أنتجت موضوعيا إمكانية نفيها بما هي أنظمة دكتاتورية قمعية لا وطنية، وما على الحركة  الاجتماعية والسياسية الوطنية ، سوى أن تقبض على هذه الإمكانية بصورة صحيحة،وتفعيل نشاطها لكسر البناء السلطوي المتكلس الذي شيدته.
           -  تحت العنوان الفرعي الرابع(( الدولة والسلطة)) يحاول الأخ مالك تحديد مفهوم الدولة فيجيء تحديده غير دقيق، بل ويخلط  بين ما  ينتمي إلى دائرة (( المجتمع السياسي)) وبين ما ينتمي إلى دائرة ((المجتمع المدني)). الدولة ليست فقط جملة النواظم الدستورية والقانونية والسياسية ..الخ، بل وكذلك البناء المؤسساتي المطابق، وهذه جميعها تشكل ما يسمى بالمجتمع السياسي.أما أشكال الحياة السياسية والاجتماعية للناس، بما يعنيه ذلك من وجود أحزاب سياسية وتنظيمات نقابية حرة ونوادي ثقافية وفكرية..الخ فهي تشكل ما يسمى بالمجتمع المدني.في حدود التمييز هذا وبقدر (( ما تتوسع المسافة بين الدولة( المجتمع السياسي) والمجتمع المدني تتكشف أو لا تتكشف حدود الممارسة الديمقراطية)).هذا وإن مفهوم المجتمع السياسي ومفهوم المجتمع المدني هما مفهومان تاريخيان، وليس عابرين للتاريخ كما يتصور البعض،وإن قيمتهما المعرفية هي في تاريخيتهما بالضبط.استنادا إلى هذا التدقيق فإننا نختلف مع الأخ مالك في قوله عندما    (( تختزل السلطة، تقوض المجتمع المدني، تختزل الدولة))، بل العكس هو ما يحصل بصورة عامة.من المعروف انه في كل مرحلة من مراحل التاريخ يقوم توازن معين بين مؤسسات السلطة وبين المجتمع باعتباره موضوع السلطة. والتوازن هنا لا يعني التكافؤ أو التعادل ،بل العكس هو الذي ساد عبر التاريخ ولصالح مؤسسات السلطة أو الدولة ، في التاريخ الذي يسمح لنا بالحديث عن دولة.عندما يزداد دور الدولة فمن المنطقي أن يتراجع دور المجتمع في المؤسسات المدنية المؤطرة له، وهذه سمة عامة في المجتمعات الطبقية عموما، رغم المظهر المخادع أحيانا في بعض مراحل تطور الرأسمالية .
          وعندما تنهار الدولة أو تتفكك ،لا يبقى في المجتمع غير الانتماءات الأهلية المختلفة للوجود الاجتماعي ،ويصبح الحديث عن الديمقراطية لغوا فارغا، هذا ما حصل في لبنان وما يحصل في أفغانستان وفي الصومال وفي العديد من البلدان الأخرى في العالم. فالدولة معطى حضاري كبير جدا، وعلامة على درجة عالية من حرية الإنسان، وسوف تعيش زمنها البنيوي كاملا، وفي الوقت الراهن يبدو لي المطلب الرئيس  هو العمل على خلق دولة قوية لكنها ديمقراطية، وليس تهديم الدولة.
           في ظل السلطة الدكتاتورية كما هو واقع الحال في وطننا العربي تلجأ السلطات الحاكمة إلى إغراق المجتمع بكل ألوان الفساد والزيف والتشوهات، بحيث يصبح المواطن مكبلا بكل ما هو مزيف ومريض من وعي طائفي أو مذهبي أو عشائري أو عائلي أو جهوي ومن علاقات اجتماعية مطابقة. وعليه من موقع الدكتاتورية وما تركته من أثار في البنية الاجتماعية تبدو الديمقراطية مستحيلة ، لكن من موقع القوى النقيضة لها وبحدود إمكانيات نقضها تبدو الديمقراطية مطلبا سياسيا مشروعا  وممكنا ، لكنه سوف يكون نخبويا على الأقل خلال فترة انتقالية ليست بالقصيرة. لقد توخينا هذا التدقيق حتى لا يفهم أن النضال الديمقراطي مستحيل في ظل الظروف والشروط التي أوصلتنا إليها الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية. فكما انه لا يمكن تعلم السباحة قبل النزول في الماء، كذلك الأمر لا يمكن تعلم الديمقراطية قبل ممارستها ،مع كل التشوهات المحتملة في هذه الممارسة.
             يطرح الأخ مالك تحت العنوان الفرعي الخامس(( الديمقراطية والتقدم)) جملة من الأسئلة يحاول من خلالها، ظاهريا على الأقل، البحث عن هوية للديمقراطية، من قبيل ((هل الديمقراطية مرتبطة بمرحلة تاريخية معينة؟ وهل هي مرتبطة بطبقة محددة؟ )) وبصورة أكثر تحديدا ((هل الديمقراطية مقترنة بالطبقة البرجوازية؟)).. ولا يخفى أن الانطلاق من الجواب المقرر أن (( نعم )) لينفيه لا حقا فيه براعة وذكاء.
            في الواقع رغم ما توحي به الأسئلة السابقة الذكر فإنها لا تحيل الديمقراطية إلى واقعة في السياسة لها تاريخها الخاص ،بل إلى واقعة ذهنية مثالية عابرة للتاريخ.فالديمقراطية الحديثة كنظام في الحكم أو شكل لضبط علاقات السيطرة وإدارة الصراع ..الخ مولود رأسمالي أمه البرجوازية، كما أن الديمقراطية الإغريقية هي مولود العبودية أمها طبقة الأسياد الأحرار.من الزاوية التاريخية ،أي من زاوية التاريخ الخاص بالديمقراطية، واضح أن الديمقراطية كواقعة سياسية وثيقة الصلة بطبقة الأسياد في النظام العبودي الإغريقي وليس غيره، وبالطبقة البرجوازية الحديثة في النظام الرأسمالي.
            من جهة أخرى الديمقراطية المفهوم ، المبادئ ،فإنها تتحرك في حقل الثقافة ،وبالتالي لها بعدها العابر للتاريخ،ولها حركتها الخاصة ،التي في استقلالها النسبي ،تشير دائما إلى واقع مميز، هي في التجريد صورته المفهومية.ومع تغير هذا الواقع يتغير المفهوم يغتني بعناصر جديدة. فالديمقراطية البرجوازية في القرن التاسع عشر، مرحلة صعود الرأسمالية ،هي غيرها في عصر الرأسمالية الاحتكارية. وإذا كانت الديمقراطية البرجوازية وليدة التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الموضوعية، التي جرت وتجري في سياق تطور الرأسمالية فهل يبقى من معنى للعامل الإرادوي في تكوين الديمقراطية ،إلا بقدر ما هو تعبير واستجابة لهذه التحولات الموضوعية.باختصار يمكن القول إن الديمقراطية الحديثة هي شكل تصير البرجوازية في الحقل السياسي،وهو تصير لم يكن من الممكن تحققه لولا الفصل النسبي بين مختلف مستويات البنية الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية والنظرية وهذا يحصل لأول مرة في النمط الإنتاجي الرأسمالي.
               ثمة جانب آخر مضمر في تساؤلات الأخ مالك وهو: إذا كانت الديمقراطية الحديثة هي الديمقراطية البرجوازية،ألا يمكن بناء ديمقراطية بدون قيادة البرجوازية للمشروع الوطني الديمقراطي الذي هو أصلا مشروعها،أو بدون أي دور حاسم لها كقوة اقتصادية واجتماعية؟،باختصار بدون التقيد بالتحولات الموضوعية التي جرت في أوربا.أقول في الجواب على ذلك أن نعم،ثمة إمكانية حقيقية ،كنا قد كرسنا مداخلتنا للبحث فيها وتأسيسها نظرياً.
             بقي أن نشير إلى أن الديمقراطية البرجوازية  يجب أن تفهم في إحالتها إلى بنية اجتماعية معينة لكل من مكوناتها دور فيها.في هذا الإطار يمكن فهم نضالات الطبقة العاملة وغيرها من الفئات الاجتماعية الأخرى في سبيل الديمقراطية، وهي حاضرة دائما فيها،ولا تكون بدونها.
              في العنوان الفرعي السادس ((الديمقراطية والوطنية)) يرى الأخ مالك وهو محق في ذلك أنه لا يمكن فصل الديمقراطية عن قضايا وحاجات المجتمع. في ظروفنا العربية حيث القضايا الوطنية تملأ الخطاب السياسي مثل قضية الوحدة وقضية فلسطين و قضايا التنمية.. وصولا إلى قضية لقمة الخبز والأمن الشخصي مرورا بالقيم العامة والثقافة والكرامة ..الخ،فلن يكون الخطاب الديمقراطي فاعلا إذا لم تملؤه هذه القضايا.
              في الموقف من الإسلام السياسي، ثمة خلاف بيننا وبين الأخ مالك،فنحن لا نستطيع مجاراته في موقفه السلبي منه ذي الطابع الاطلاقي. نحن نفرق بين دور وآخر يمكن أن يلعبه الدين في السياسة، فقد يكون خطا دفاعيا متينا عن الوطنية والانتماء والهوية، وفي ظروف وحالات أخرى يمكن أن يكون الحارس الأمين للتخلف والانقسام والفرقة..الخ.وفي مجمل الأحوال ذلك لا يتوقف فقط على طبيعة الظروف بل وقبل ذلك على طبيعة القوى الاجتماعية والسياسية المتلطية تحته كإيديولوجيا.فعلى سبيل المثال نحن نفرق بين الدور الوطني بامتياز الذي لعبه الإسلام السياسي في حرب التحرير الجزائرية ولا زال يلعبه في فلسطين وفي جنوب لبنان، وبين ممارساته الهمجية في سوريا ومصر والجزائر ، نفرق بين طروحات حركة النهضة الإسلامية في تونس، وطروحات الجبهة القومية في السودان..الخ.
             في المناخ الديمقراطي يمكن للإسلام السياسي وغيره من القوى القومية أو الشيوعية ،التي مارست العنف ليس أقل منه ،أن تتعلم جميعها كيف تعبر عن مواقفها وتناضل في سبيل أهدافها بصورة  سلمية في إطار الديمقراطية .
             في ((مرتسمات ونقاط)) الأخ مالك يبدو لي أن ما يطالب به من حد للديمقراطية، هو هدف بعيد المنال ، وبالتالي  لا يشكل قضية في السياسة الراهنة،لذلك يمكن إنضاج خيارات ديمقراطية قد لا تراعي السقوف التي وضعها، خصوصا ما يتعلق بامتلاك المقدرات والسيادة، وتحديد التوجهات السياسية والاقتصادية.فهذه السقوف هي أهداف لا يمكن تحقيقها إلا في ظل الديمقراطية ومن خلال حوامل اجتماعية معينة.



#منذر_خدام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المنهج الماركسي واشتراطاته
- شي بحط العقل بالكف....
- منطق الفكر
- نقد الفكر مقدمة لنقد السياسة
- الديمقراطية وبيئتها المفهومية في الوعي السياسي العربي
- الديمقراطية والنخبة
- الديمقراطية والعلمانية والليبرالية
- الديمقراطية والمجتمع المدني
- عندما -تحاول- أمريكا التفكير بعقل -غير- إسرائيلي يظل مثقفونا ...
- الديمقراطية وحقوق الإنسان
- الديمقراطية والحرية
- الديمقراطية الحديثة بين نخبوية لوك ومساواتية روسو
- الديمقراطية: ولادة المصطلح وحدوده الواقع
- هموم التنمية العربية ومشكلاتها
- العولمة وطبيعة العصر
- الديمقراطية الممكنة والمحتملة في سورية
- الديمقراطية في الفكر العربي المعاصر
- وعي الديمقراطية لدى الحركات القومية والليبرالية
- الديمقراطية وطبيعة المرحلة في سورية
- الديمقراطية والأسئلة الصعبة


المزيد.....




- الطلاب الأمريكيون.. مع فلسطين ضد إسرائيل
- لماذا اتشحت مدينة أثينا اليونانية باللون البرتقالي؟
- مسؤول في وزارة الدفاع الإسرائيلية: الجيش الإسرائيلي ينتظر ال ...
- في أول ضربات من نوعها ضد القوات الروسية أوكرانيا تستخدم صوار ...
- الجامعة العربية تعقد اجتماعًا طارئًا بشأن غزة
- وفد من جامعة روسية يزور الجزائر لتعزيز التعاون بين الجامعات ...
- لحظة قنص ضابط إسرائيلي شمال غزة (فيديو)
- البيت الأبيض: نعول على أن تكفي الموارد المخصصة لمساعدة أوكرا ...
- المرصد الأورومتوسطي يطالب بتحرك دولي عاجل بعد كشفه تفاصيل -م ...
- تأكيد إدانة رئيس وزراء فرنسا الأسبق فرانسو فيون بقضية الوظائ ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - منذر خدام - الديمقراطية بين الصيغة والتجسيد