|
السّهلة ، المُمتنع 3
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2457 - 2008 / 11 / 6 - 04:03
المحور:
الادب والفن
كان الزمنُ قد أضافَ ، مُتكرّماً ، عاماً واحداً على دزينة الأعوام ، المُحتفية بغضاضة عمري ، الطريّ ، حينما شاءَتْ المُصادفة ، في يوم خريفيّ ، رخيّ ، أن تضافرَ إهتمامي بالحُسن المُتناهض ، العاصف ، للجارَة الصغيرة ، " مليكة " . إذ ذاك ، كنتُ صحبَة َ إبن أختها ، " غسان " ؛ الولد الحلو ، المماثل لي في السنّ ، والمحكوم بقدَر الصمّ والبكم ، الظالم . منزل أسرته الصغيرة ، الضيّق جداً ، ما كان يتسع لحمّام مناسب ؛ مما كان يضطرهم إلى الإغتسال كلّ مرة في بيت الجدّ ، الفاره نوعاً . ثمة إذاً كنتُ وإياه ، عند الحافة الحجرية لبهو الدار ، لمّا فجأنا دويّ ما ، متأتٍ من جهة الحمّام ، المُحاذي مجلسنا ، أعقبه صرخة حادّة . ثانية اخرى حسب ، وإندفعتْ من هناك على الأثر ، " سوزيْ " ، شقيقة صديقي ، التي تصغرنا بسنواتٍ ثلاث ، وكانت مروّعَة ، مذعورَة ، والماءُ ما فتأ يتقاطرُ من بدَنها العاري . خلل صفق باب الحمّام ، المُشرَع ، رأيتُ " مليكة " أقلّ إضطراباً ، وكانت مُنحنية على سَخان الماء ، الذي طفقَ يتصاعد منه دخانُ وسخامُ الإحتقان ذاك ، الهيّن ، في موقده . عندئذٍ تبدّتْ عجيزتها الناصعة العُريّ ، والوافرة الغضارة ، متكوّرة بشكل غاية في الإثارة ؛ بشكل جليّ ، جعلَ الصبيّ ، البالغ توّاً ( والذي كنتهُ أنا ) ، يَشهَقُ من أعماق جَمرَته ، المُتوَفزة بالرغبة ، مع خفق أليم لدقات قلبه ، الرهيف .
حُسن جارتنا الصغيرة ، " مليكة " ، اُجيزَ لرَميَته أن تصيبَ حتى قلوب عجائز الزقاق ، الذاوية . عاينتُ بنفسي مبلغَ تلك الرمية ، في عصر يوم حارّ ، من صيف أعوامي المُراهقة ، حينما كانت الحسناءُ بضيافة عتبة منزل قريبتها " زينو حُوْطِش " . جسدُ " مليكة " ، المُمتليء ، فاقمَ فداحة فتنته بما كان من إنفلاته مُتمرّداً من أطراف فستانها الشفيف ، القصير ، الزهريّ اللون . وباللون نفسه ، تبدّى سروالها لبصري ، التائه هناك ؛ السروال السّحاب ، المتفجّر بروقه خلل المضيق المُشكل جَذرَيْ فخذيْها ، الخمرييْن . برهة اخرى ، وظهرَتْ بدورها " عربيّة " ؛ العجوز الهَرمة ، التي تقيم بمقابل ذلك المنزل ، المنذورة الآن عتبَتهُ للفتنة المُثيرة ، المُنفلِتة من أيّ أسْر أو عائق . عينا العجوز ، الباهتتا الزرقة ، المُجوّفتان في محجرَيْهما بفعل أخاديد الزمن ، سرعان ما دبّ فيهما بريقُ الصِبا المُفتقد ، الغابر . إذ ذاك ، كانت البنتُ الحلوة قد إستجابتْ لإغراء إبن " حوطش " البكر ، فأردَفتْ نفسها خلف ظهره ، مُنطلقة معه من ثمّ على متنّ الدراجة الناريّة . ثلاث أو أربع جولات لذلك الموتورسيكل ، المُرْعِد المُزبد ، كان عليها المرور بمحاذاة عينيّ ؛ وفي كلّ جولةٍ كانت صيحات " مليكة " ، الماجنة ، المُتأثرَة خوفاً مُتصَنِعاً ، تترافقُ مع تطاير فستانها في كلّ مهبّ ، والكاشف كنوزَها ، الكامنة .
*** ـ " يسلمْ لي الكـ ... ! " أنشأتْ الجارَة ، العجوز ، تقول بنبرةٍ شبقة . جملة " عربيّة " هذه ، الفالتة العقال بدورها ، ترددتْ عندئذٍ غيرَ مُبالية بحضوري ، المُذكّر ، بل بالجسَد الأنثويّ ، الشهيّ ، المُمتطي ذلك الحصان ، الناريّ . من جهتي ، فإنني كنتُ ومذ أعوام طفولتي متآلفاً واللهجة الصريحة ، المكشوفة ، للنساء الغريبات ، المُقترنات برجال من الحارَة ، والمُتحدّر غالبيتهنّ من حيّ " الصالحيّة " ، المُجاور . ففي حريّة تجوالنا صغاراً في مَجمَع الحريم ، المُكتظ بوجوده هذا العرس أو ذاك ، إعتدنا سماعَ صيحاتٍ مُستنكرة من بعض هاته النسوة ، الغريبات ، هاتفة بنا الكفّ عن الضوضاء والصَخب : " أخرجوا من هنا ! ماذا تفعلون بين الفروج !؟ " . أمّ " مليكة " ، أيضاً ، أصلها من حيّ " الشيخ محي الدين " ؛ الحيّ العريق ، المُكتنف بغموض مقاماته وقبابه وأوليائه . بيْدَ أنّ هذه المرأة ، غيرَ المحظوظة بنصيب من الجمال ، كانت على حظ وافر من الحِشمَة والتعفف ، لفظاً ومَسلكاً . إبتلاؤها بزوج عصبيّ ، مزاجيّ ، ضافرَ ربما من صفة الدِعَة والهدوء في خلقها . سبعة أعوام كاملة ، تفصل " مليكة " ، بكرُ هذه المرأة المسكينة ، عن الإبن التالي ؛ وهيَ الأعوام نفسها ، التي قضاها إبن " حج عبده " في السجن المدنيّ ، الذي كان قائماً زمناً ضمن أسوار القلعة الدمشقية ، جزاءَ جريمته بحقّ الشقيق الأصغر . أمّ " مليكة " ، ولا غرو ، كانت تعيشُ في كابوس مُقيم ، مصدَره خشيتها من تكرار التجربة تلك ، المريرة . حينما إقترَنَ بها الرجلُ الأنيق ، الوسيم كنجوم السينما الكلاسيكية ، كان لديه خمسة أولاد من زوجته الأولى ، الراحلة . " ليال " ، ذات السنوات الأربع وقتئذٍ ، كانت صغرى البنات ، اليتيمات . هذه الطفلة الفاتنة ، التي ستعرَفُ مستقبلاً ـ كحسناء الحارَة ، يُروى أنها دأبتْ على الإعتقاد بأنّ إمرأة الأبّ هيَ والدتها الحقيقية ؛ بما كانت تلقاه وأخوتها من حنان ورعاية . الحاشية تلك ، كانت دوماً بمثابة مدخل ، مناسب ، للحكاية المُحزنة ، التي إعتدنا بدورنا على سماعها مُستعادة على لسان الأكبر منا سناً .
*** ـ " ماما ! قلتُ للأولاد ، الأشقياء : " سأشكوكم لوالدتي " .. فزعموا أنكِ لستِ ماما ؟ " راحَتْ طفلة السنوات التسع المَصدومة تتساءلُ ، مُروَّعَة مُستعبرة . صدمَة اخرى ، أشدّ وقعاً وتأثيراً ، كانَ على " ليال " أن تتلقاها في سنها تلك ، الحدَثة . عليها كان ، إذاً ، أن تشهدَ بنفسها كيفَ إنهال والدها يوماً على شقيقه بطعنة مطواه ، القاتلة ، إثرَ مشادة بين طفليهما ؛ بينها هيَ و " راضي " ، الذي أضحى فيما بعد حبّ صباها ، الأول . وإذ إحتدمتْ منذئذٍ عداوة ٌ مُستعرّة ، ضاريَة ، بينَ بيتيْ الأخوَيْن اللدودَيْن ، المُتجاورَيْن جداراً جداراً ، فبالمقابل ، ما وجدَتْ والدتنا سبباً يدعوها لقطيعةٍْ مع أمّ " مليكة " . صداقة عُمْر ، وطيدَة ، عُقِدَتْ بين المرأتيْن ، الجارَتيْن ، وثقها فيما بعد صداقة مماثلة بين الأولاد . طبْعُ أمّي البسيط ، الحيي ، فضلاً عن عقلية رجلها ، المتنوّر ، كانا محط إحتفاء جيراننا أولئك ، المُتحررين ، وكذلك مصدر ثقتهم وإطمئنانهم . ففي ذلك العصر المُبكر ، المُداهِم طفولتنا المُتأخرة ، كان حيّنا مُتأثلاً بعد عزلته وإنطوائه ، علاوة على عادات وتقاليد موطن الأسلاف الأول ، الجبليّ ، المُتسِمَة عموماً بالقبلية والبداوة . جوّ المدينة ، المؤرَّجُ بعبق الياسمين ، كان فوق ذلك مُختنقاً بالتزمّت والمُحافظة والجمود : بين هاتيْن الناحيتيْن الخِصْلتيْن ، إحتارَتْ خطى خلق الكرديّ الشاميّ ، أو بأحسن الأحوال ، راوحَتْ على مسافة واحدة منهما . ولكن يبدو أن تحرّر آل " حج عبده " ، وخصوصاً نسائهم وبناتهم ، كان على رأي البعض له سببٌ خاص ، خفيّ ؛ كما أفصحَتْ عنه أحياناً الأقاويلُ ، المُغرضة .
ـ " إنهم رافضيّة ! ألم يقترن جدّهم بإمرأة إيرانية ، من ملّة البهائية ، وكذلك أحد أولاده ؟ ـ " نعم . وربما أنتَ لا تعرف حقيقة اخرى ؛ وهيَ أنهم كانوا يحجّون للقدس بدلاً عن الحجاز ، الشريف ؟ " ، كان هؤلاءُ المشنعون يتساءلون فيما بينهم . وما أجّجَ من سعير الأقاويل هذه ، أنّ خال " مليكة " الأكبر ، الراحل ، كان في أواخر حياته قد فجأ الخلقَ بتأسيسه مدرسة ، خاصّة ، لتعليم الرقص الغربيّ ، الذي كان آنذاك مهوى أفئدة الكثيرين من جيله ، الشابّ . هذا المُدرّب ، العتيد ( المتزوّج بدوره إمرأة من الحارَة ؛ من بيت " عرَب " ، في جوارنا ) ، سرعانَ ما حانَ أجله كمداً وقهراً ، بعدما أفاقَ على حلم عمره وقد أضحى رماداً : فمقرّ العلم ذاك ، الإفرنجيّ ، الكائن في مدخل الحيّ من ناحية " سوق الجمعة " ، سيتداعى طوبة طوبة بفعل حريق ، مُدبّر ولا ريب ؛ لما قيل عن فتوى ، شرعيّة ، من أحد رجال الدين ، المعروفين ، المهتاج غيرة ً على الأخلاق الحميدة ، الحنيفة . ولكن لسَعد نجم جيلنا ، الساطع رويداً في فضاء نهايات القرن ، فإنّ تغيّراً مَلحوظاً ، تقدّمياً نوعاً ، راحَ يشملُ نواحي حياتنا جميعاً . هذا التغيير ، أرخى سجوفاً مُبتردَة ، عذبَة ، على مُراهقتنا المُشتعلة بحرارة الإنتماء الفكريّ ، كما وبقيظ الرغبَة الجسَدية .
*** ـ " حركاتُ " مليكة " معكَ ، خبرتها بنفسي أيضاً ؛ وهيَ دليلٌ على مَحْنِها .. " ـ " كيف يعني ؟ " ـ " يا بني آدم ، إنها تدعوكَ لكي تركبها ! " ـ " ولكنك بنفسكَ ، كما سبق وأخبرتني ، حاولتَ معها دونما جدوى ؟ " ـ " ما شأنَ هذا بذاك ؟ كلّ فرس ولها خيّال ! " ـ " ربما تخبر أختي ، فيما لو حاولتُ بدوري معها ؟ " ـ " حقاً ، صدقَ القائلُ : " يُعطى اللحمُ لمن كانَ بلا أسنان " .. ! " حقّ لي عندئذٍ أن أستاءَ ، أيضاً ، طالما أنّ " بشر " كان يقللُ من شأن أسناني . على أنني ، من ناحية اخرى ، لم أندَم لبوحي أمامه بما كان من أمري مع جارتنا تلك ، الجميلة ، المُتواتر الإثارة يوماً بعدَ يوم . إبنُ " الشاميّة " هذا ، كان من جيل شقيقي الكبير ، ولكنه إعتادَ صحبَة من يصغرونه عمراً . سرّ عادته تلك ، أجيزَ لي تأويله في سنّ متأخرة : فكلّ واحد من أولاد الغرباء ، المُقيمين في جوارنا ، كان يجدُ نفسه مُنتبذاً من لدن لداته من أولاد الحارَة ، " الأصيلين " . أحد هؤلاء الأخيرين ، كان شقيقي ، العتيّ ؛ الذي دأبَ على محض إحتقاره وشرّه لأولئك الأغراب ، المساكين . حادثة عابرة ، من زمن الطفولة ، عززتْ بالمقابل علاقتي مع " بشر " . كان هذا قد شرعَ مرّة بدفع إبن عمّنا " جوامير " ، الصبيّ الشقيّ ، حينما إنتصبَتْ ثمة ، وعلى حين غرة ، قامَة " جينكو " المتينة ، العاتيَة . حينما حضرَتْ " الشاميّة " إلى بيتنا بعيدَ ساعة أو نحوها ، لتشكو تطاولَ أخي بالضرب المُبرح على إبنها ، فإنني كنتُ هناك أسندُ روايتها بقوّة ، غيرَ آبه بنظرات ذلك المُعتدي ، المتوعّدة . أمّا تلك المُحَاورة مع " بشر " ، التي كان مِحْوَرَها الجارة ُ اللعوب ، المُتنامية الحُسن ، فإنّ مُناسبتها كانت واقعة أكثر جدّة ، ترامَتْ على عتبة أعوام المراهقة .
للسيرة بقية ..
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السّهلة ، المُمتنع 2
-
ثمرَة الشرّ : السَّهلة ، المُمتنع
-
جَمرة المتعَة والألم 5
-
جَمرة المتعَة والألم 4
-
جَمرة المتعَة والألم 3
-
جَمرة المتعَة والألم 2
-
ثمرَة الشرّ : جَمرة المتعَة والألم
-
جادّة الدِعَة والدّم 4
-
جادّة الدِعَة والدّم 3
-
مَراكش ؛ واحَة المسرّة
-
جادّة الدِعَة والدّم 2
-
مَراكش ؛ ساحَة الحُبّ
-
نزار قباني ؛ نموذج لزيف الدراما الرمضانية
-
لن تطأ روكسانا
-
مَراكش ؛ مَلكوت المُنشدين والمُتسكعين
-
فلتسلُ أبَداً أوغاريتَ
-
ثمرَة الشرّ : جادّة الدِعَة والدّم
-
برجُ الحلول وتواريخُ اخرى : الخاتمة
-
العَذراء والبرج 4
-
العَذراء والبرج 3
المزيد.....
-
وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما
...
-
تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
-
انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
-
الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح
...
-
في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
-
وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز
...
-
موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
-
فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
-
بنتُ السراب
-
مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|