أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد العبيدي - الفدرالية .. بين المفهوم وعدم إمكانية تطبيقها في العراق















المزيد.....


الفدرالية .. بين المفهوم وعدم إمكانية تطبيقها في العراق


محمد العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 755 - 2004 / 2 / 25 - 08:40
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


في وقت يقول فيه بريمر أن العمل يجري لوضع الدستور المؤقت ، فأكثر الظن هو يعني بأن العراقيين ، ولو من أتباع الإحتلال، هم من كتب هذا الدستور، في حين أن الحقيقة غير ذلك . فقد ذكرنا في مقالة سابقة أن مشروع الدستور هذا الذي يدعي أعضاء مجلس الحكم المعين من قبل الأمريكان ، والذين لا شرعية لهم أساساً، أنهم يناقشوه قد ظهر فعلاً بأنه من صنع وكتابة الأمريكان ومستشاريهم الصهاينة والمتعاونين معهم أمثال الإستربادي وسالم الجلبي إبن أخت أحمد الجلبي وذلك حسبما أكدته صحيفة الواشنطن بوست في مقالة نشرتها يوم السبت 14/2/2004. ورغم تجاوزاته على مجمل السيادة الوطنية العراقية فإن الأكراد في هذا المجلس قد رفضوا العديد من فقرات "مشروع الدستور" هذا ، خصوصاً تلك التي تمنعهم من الإحتفاظ بجيش تحت سيطرتهم وحريتهم برفض القوانين التي قد تصدر عن الحكومة المركزية ، هذا في وقت يهدد فيه الطالباني بالإستقلال التام عن العراق . وعلماً بأن مشروع الدستور المقترح قد أقر للأكراد بعلم وطني ونظام قانوني وضريبي وبرلمان خاص بهم إضافة لسيطرتهم الكاملة على كافة مصادر الثروة الطبيعية في المنطقة الكردية ومن ضمنها كركوك الغنية بالنفط والسماح لهم بتغيير الطبيعة السكانية لهذه المدينة التي يدعون بأن نظام صدام غيرها لصالح العرب.
ولكي يعرف القارئ ماهية الفدرالية وما إذا كان يمكن تطبيقها في العراق وكذلك إذا ما كان هناك حق طبيعي للأكراد بالدعوة إليها ، فإننا بادىء ذي بدء ينبغي الإشارة الى حقيقة لا يختلف عليها إثنان وهي أن الواقع يحدد طبيعة الفكر ويؤطر تجلياته . كما ويعتبر الممارسة الميدان الأمثل لإختيار صحة النظرية ومعياراً لقياس مستوى نجاحها عند التطبيق . وبالرغم من ذلك فإن الحاجة الواقعية المنبثقة على أساس المعطيات الإجتماعية والتأريخية الملموسة غالباً ما تتباطأ عن طموح الوعي وتتخلف عن مجاراته بحيث يبدو وكأن منتجات الفكر (المفاهيم والرموز) هي التي تقود خطى الواقع المعني وترسم ملامح المجتمع المقصود وليس العكس . هذا الامر ألحق فادح الضرر بالعديد من التجارب وتسبب بإخفاق الكثير من المشاريع التي راجت في العديد من بلدان العالم الثالث وبضمنها أقطار الوطن العربي عقب حصولها على الاستقلال السياسي وعندما إعتمدت على غير دراية ، وتبنت دون مراعاة لظروفها الوطنية وخصائصها القومية ، مختلف ضروب النظريات وشتى انواع الافكار . ولهذا كانت الحصيلة فشل ذريع على صعيد بناء الذات ونكوص مريع على صعيد الحوار مع الآخرين ، الأمر الذي تمخض عنه تعاظم حدة الصراعات الإجتماعية ضمن الإطار الوطني وتفاقم شدة النزاعات السياسية والحروب العسكرية على المستويين الإقليمي والدولي (إذ ليس كل مايطرحه الفكر السياسي العالمي من مفاهيم هو بالضرورة ملائم لواقعنا ومطابق لاوضاعنا) .              
ولغرض تأصيل بعض من تلك المفاهيم والطروحات وتوسيع آفاق الوعي بمضامينها وشحذ الإنتباه حيال مقاصدها ، وبغية تجاوز الأخطاء وتخطي السلبيات الفعلية والمفتعلة ، لابد هنا من تقديم عرض مبسط وسريع ، يتناول مفهوم "الفدرالية" بإعتبارها أبرز تلك المفاهيم الرائجة ضمن نطاق بعض القوى السياسية العراقية وخاصة القوى الكردية ، لاسيما وأنها باتت تشكل عندهم إقتناصاً لفرصة الإحتلال الأمريكي للعراق ولغرض الحصول على أكثر المكتسبات من وراء تعاونهم مع المحتلين .
إن مفهوم الفدرالية يشير بإختصار إلى وجود نوع من أنواع الدولة وإستحداث صيغة من صيغ توزيع السلطات ، إلا أنها ليست النموذج أو النمط السائد الوحيد في هذا المجال ، حيث شهدت بعض الدول ، فضلاً عن المنظمات الإقليمية والدولية تجارب سياسية مماثلة حيث أعتبرت بمثابة أنواع أخرى مشابهة لها في المظهر ومختلفة عنها في الجوهر مثل إتحاد الدول أو مايسمى بالكونفدرالية ، والدولة البسيطة أو مايعرف بالدولة الموحدة أو المركزية ، والتي تعتبر من أكثر أنواع الحكم شيوعاً في الوقت الحاضر . ومن دون الدخول بمتاهات اللغة الخطابية ، وحرصاً على التقيد بالمنهجية العلمية وإستخلاص المعاني الأكاديمية عند توصيف الالفاظ الشائعة والمفاهيم المتداولة فإن الضرورة المنطقية تقضي بيان ماهية الفدرالية كمفهوم، وإستعراض خواصها كممارسة ، ومن ثم الشروع بطرح الموقف وتقييم الخيارات أزائها . وعلى أساس ما تقدم يمكن تعريف الفدرالية على أنها (( إتحاد مجموعة من الدول المستقلة بمقتضى دستور في شكل إتحاد دائم تسوده حكومة مركزية تمارس سلطاتها بطريق مباشرعلى حكومات هذه الدول (التي تصبح ولايات) وعلى رعاياها . ويكون الدستور هو المنظم للعلاقات بين الولايات وبعضها البعض ، وبينها وبين الحكومات المركزية ، وتكون للدولة الجديدة شخصية قانونية دولية ، في حين تفقد الدول الداخلة في الإتحاد شخصيتها  القانونية الدولية )) . ومن أمثلة هذا الطراز الولايات المتحدة الامريكية ، والإتحاد السوفيتي (السابق) ، وألمانيا الاتحادية والإتحاد السويسري .
وفيما يتعلق بمفهوم الكونفدرالية فإنه يعني (( الإتحاد الناشىء بموجب إتفاق بين دولتين أو أكثر في معاهدة دولية على الدخول في الإتحاد مع إحتفاظ كل دولة بإستقلالها الخارجي وبقاء نظمها الداخلية دون تغيير )) ، ولكنها تنشىء فيما بينها نوعاً من الإرتباط  والإتحاد بقصد تحقيق أغراض ومبادىء معينة يتم الإتفاق عليها من خلال معاهدة تبرمها هذه الدول وتشرف على تنفيذها هيئة مشتركة تدعى جمعية أو مؤتمر يضم مندوبين عن الدول المتعاقدة .
هذا في حين يرد مفهوم الدولة المركزية الموحدة أو البسيطة بالصيغة التالية (( هي الدولة التي تنفرد سلطة واحدة بإدارة شؤونها الداخلية والخارجية ، ولايؤثر في الدولة كونها تحتوي على رقعة واسعة أو أضيق من الأرض ، أو أنها مكونة من عدة مقاطعات أو أقاليم تخضع للنظام اللامركزي في الادارة )) . وهناك أمثلة كثيرة على هذا النوع كبريطانيا وفرنسا والسويد .
إستنادا إلى ما تم إستخلاصه من الأدبيات السياسية الخاصة بالفدرالية ، وكذلك إستعراض مقومات وشروط قيام التجارب التطبيقية لها في الدول المعنية بها ، نستنتج بأن الحالة العامة والطبيعية لتشكيل أو تكوين الإتحاد الفدرالي تستلزم مسبقا وجود (عدد من الدول المستقلة ) على صعيد سيادتها الوطنية وتتمتع بالشخصية القانونية على مستوى علاقتها الدولية  تفرض عليها الضرورات السياسية والدواعي الأمنية والمصالح الإقتصادية الإنضواء تحت هذا النمط من التكتل لضمان سلامتها الإقليمية وتقوية نفوذها العالمي مقابل بعض التنازلات المحسوبة والمساومات المقبولة التي تترتب على الإندماج في هيكل الاتحاد . إن المعطيات التأريخية في هذا المجال لم يسبق أن شهدت وجود حالة تكون فيها الدولة موحدة أساساً بوقائع التأريخ والجغرافيا منذ عصور سحيقة بحيث لم تكن سوى شعب واحد وكيان إقليمي متكامل من جهة ، وتشرع من جهة أخرى أطراف محسوبة على هذه الدولة إلى إختيار نمط الفدرالية دون مسوغ حقيقي أو مبرر واقعي قد يؤدي مستقبلاً إلى تمزيق كيانها إلى دويلات متناثرة سواء كانت على أساس قومي أو طائفي ، كالأمر الذي يجري حالياً ، حيث يتم طرح وتسويق هذا الشعار كلازمة لغوية في الخطاب السياسي للقيادات الكردية فيما يسمى بمجلس الحكم وبعض التيارات السياسية الأخرى لأي حل يتصدى لأزمة العراق .
ولكون أن العراق لم تكن به مشكلة في يوم ما فيما يتعلق بوجود نقص في موارده أو شحة في ثرواته ، الأمر الذي يؤدي إلى الفتن و الإقتتال كما يحصل في بعض الدول ، بل أن محنته تتمحور بحق في طبيعة أنظمة الحكم التي أساءت إستخدام مصادر السلطة والثروة بعيداً عن كل ما يمت إلى مبادئ العدل والإنصاف بصلة وإفتقاره إلى مؤسسات مدنية رصينة كان آخرها النظام الشمولي السابق والذي حول العراق بشعبه وأرضه وثرواته إلى ممتلكات تعود إلى عائلته وإقطاعات توزع على عشيرته فأساء بالنتيجة إلى نفسه ولكل العراقيين .
لم تكن من أولويات مشاكل المجتمع تلك الفسيفساء المتجانسة من القوميات والأديان كما لم يكن الإنسان العراقي – حينما يكون متحرراً من الإعتبارات الحزبية الضيقة والترسبات العشائرية والنعرات الإنفصالية – حساساً تجاه التنوع العرقي او الطائفي إذ طالما تعايش الجميع لمئات السنين تحت خيمة العراق الواحد وتسنم مقاليد السلطة وتبوء المناصب الرفيعة سواء في الادارة أو في القضاء أفراد من قوميات وأديان مختلفة ولم يكن ذلك مثار جدل أو مدعاة لمشكلة . ومن الحقائق الدالة على هذا السياق أن عدد السكان العراقيين من أبناء القومية الكردية يشكلون نسبة أقل من أبناء جلدتهم في كل من تركيا وإيران على التوالي وهاتان الدولتان لم تدخلا في قاموسهما السياسي مطلقاً الإعتراف أو حتى مناقشة ذلك على المستوى الإعلامي أي الإعتراف بـ (القومية الكردية) ، إلا ان القومية العربية ومن وحي مقوماتها الأساسية الإنسانية وخاصة في العراق قد إعترفت بكافة حقوق الأكراد متقدمة بذلك على دول الجوار بأكثر من 44 عاماً ، وذلك في جميع الدساتير التي صدرت منذ عام 1959 وأهمها قانون الحكم الذاتي رقم 33 لسنة 1974 . وبقراءة سريعة لقانون الحكم الذاتي الذي كان مطلباً طالما حلم به الأكراد في ظل حكومات شوفينية فإننا سنرى أنه قد تضمن كافة الحقوق  القومية والثقافية المشروعة للشعب الكردي ، وإذا كان النظام السابق قد عطل جزءً من بنود ذلك القانون فإنه بالإمكان الآن وأثناء صياغة دستور جديد أن يكفل تفعيل ذلك القانون ويضمن تطبيقه . وهنا لابد من القول أن هذه الحقوق الممنوحة للقومية الكردية هي ليست منحة أو منة من أحد فالكرد مواطنون عراقيون أصلاً لهم حقوقهم وعليهم واجباتهم في هذا الوطن  وهي لاتقل عن حقوق وواجبات العراقيين العرب ولا أحد يستطيع أن ينكر مواقفهم الوطنية في إنجاز إستقلال العراق وما قدموه من تضحيات في إطار الحركة الوطنية ل اتقل شأناً عما قدمته باقي القوميات الأخرى المتآخية دون تمييز أو تفريق فالجميع شركاء في هذا الوطن وأن معيار المفاضلة يكمن في التعبير عن الولاء له والإنتماء اليه .
الجدير بالملاحظة أن خاصية الخطاب السياسي لمن كانوا يسمون أنفسهم مسبقاً بالمعارضة العراقية قد قام على أساس تسويق رجم الحكم المستبد الدكتاتوري وإدانة ممارساته القمعية مما يستوجب الآن أن يعاد تفكيكه وتعاد صياغته لأن ذلك النظام قد أصبح في ذمة التأريخ ، كما وأن الظلم والإضطهاد الذي مارسه النظام السابق قد تم توزيعه بعدالة على جميع أطياف المجتمع العراقي بدون إستثناء حيث لم تكن الحال في الشمال أكثر وطأة عما هي في الجنوب أو الوسط ، وأن الموقف من المعارضين لم يكن في الجنوب أقل منه وحشية عما هو في الشمال أو الوسط . لهذا يجب على القوى الوطنية غير المتعاونة مع الإحتلال الإلتفات إلى مستقبل العراق من منطلق الحفاظ على هويته وبلورة ثوابته وعدم السماح بجني مكاسب يتم الحصول عليها في عراق محتل لأن من شأن ذلك الإضرار بالمصلحة النهائية للعراق الواحد الذي يتطلب الآن ليس فقط مقارعة العصبية القبلية والتطرف الديني والطائفية والعنصرية والنزعات الإنفصالية بكافة أشكالها ومصادرها ومسمياتها وإنما إلغائها من قاموسه .
فالمعادلة العراقية واضحة حيث لايمكن رفع أو تهميش أي عدد فيها مهما صغر أو كبر لأن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى إختلال المعادلة بأكملها وبالتالي لايمكن لأي طرف أن يتوهم تحت ظرف ما أن يغير في أطراف هذه المعادلة لأنها لا تلبث أن تعيد توازنها عاجلاً أم آجلاً . ووفق المقايسس والمعايير الموضوعية نلاحظ أن مطلب الفدرالية كما طرحت مشروعه وتصر عليه القيادات الكردية هو أقرب إلى الكونفدرالية وإتحاد دولتين ذات سيادة مما يثبت عدم ملائمته لظروف وخصائص شعبنا وتطلعاته المستقبلية ، وأن أي محاولة تستهدف إقحامها في غير مكانها وزجها في غير زمانها وترويجها كحلول نهائية وحتمية دون أن تكون مطلباً لجميع العراقيين فإنها لا تعني سوى تقطيع كيان العراق الجغرافي وتمزيق أواصر وحدته الوطنية وإضعاف عوامل هيبته السياسية ، فخطورتها تكمن في أن الدول الفدرالية إذا ما تفككت لأي سبب كان مستقبلاً فإنها ستنقسم إلى كيانات دول جديدة على أساس المقاطعات الفدرالية المكونة لها سابقاً . وقد يتحجج البعض بدعوة (حق تقرير المصير) بعد الحصول على مطلب الفدرالية أو بدونها ليطالب ويؤسس للإنفصال فيما بعد . بيد أن هذا الحق يستدعي مستلزمات حددها القانون الدولي ، فجميع القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة بهذا الشأن أكدت على مبدأ السلامة الإقليمية والوحدة السياسية للدول المستقلة وذات السيادة ، ففي عام 1970 أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة حق تقرير المصير لثلاث فئات من الشعوب وعلى النحو التالي :-
1.  حق الشعب الذي يعيش في منطقة مستعمرة المطالبة بتقرير مصيره .
2. حق الشعب الذي يعيش في إقليم تم إخضاعه بعد إعتماد ميثاق الأمم المتحدة في عام 1945 – للإحتلال الأجنبي أو للضم الذي لم يقره إستفتاء شعبي حر وعادل في تقرير المصير كما هو الحال في إستفتاء شعب أريتريا من السيطرة الأثيوبية عام 1993 .
3. حالة الدولة الإتحادية (الفدرالية) التي تم تشكيلها عن طريق الإنضمام الطوعي من الدول الأعضاء والتي وردت صراحة في دساتير كل منها لها الحق في الإنسحاب من الدول الاتحادية ، وفي مثل هذه الحالة فإن الإنسحاب سيكون مبرراً بإعتباره إستخدام لحق قائم منذ بدء الإندماج بالإتحاد ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك الإتحاد السوفيتي والإتحاد اليوغسلافي . وفيما بعد هذه الحالات الثلاث فإن مسألة الحق المنفرد في تقرير المصير هي موضوع شك بالغ .
مما تقدم فإن التصنيف السابق للأمم المتحدة لم يقصد منه تعميم إعطاء هذا الحق للجماعات الإثنية والقومية لأن من شأن ذلك أن يخلق فوضى عارمة للنظام الدولي حيث يندر أن تجتمع لدولة ما كافة عناصر التجانس ومقوماته (من مجموع 200 دولة تشكل الاسرة الدولية توجد 12 دولة تتصف بوجود حالة تجانس ولاتعاني من مشكلة القوميات والاقليات) . فمبدأ حق تقرير المصير مبدأ أساسي من مبادئ القانون الدولي يقصد به أن لجميع الشعوب التي تخضع للإستعباد الأجنبي وسيطرته وإستغلاله الحق في تقرير مصيرها بنفسها ولا ينطبق ذلك على جزء من شعب الدولة بعد إنشاءها كما في الوضع الحالي للعراق . وهذا ما تم تأكيده عند صياغة إعلان مبادئ القانون الدولي الخاص بعلاقات الصداقة والتعاون بين الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة ، حيث لا ينبغي أن يفسر مبدأ حق تقرير المصير بإعتباره يرخص أو يشجع أي عمل من شأنه أن يمزق أو يضعف بصورة كلية أو جزئية السلامة الإقليمية أو الوحدة السياسية للدول المستقلة وذات السيادة والتي تتصرف على نحو يتماشى مع مبدأ المساومة في الحقوق وتقرير المصير وبالتالي تملك الحكومة تمثيل جميع السكان المنتمين إلى الإقليم دون تمييز من أي نوع .
وعلى هذا الأساس فإن حق تقرير المصير لا ينطبق على الأقليات الإثنية (القومية واللغوية والدينية) المتعايشة مع باقي السكان دون عنصر القهر والإستعمار ، فهذه تنحصر حقوقها الجماعية بالحقوق الثقافية وممارسة الشعائر الدينية المنصوص عليها في المادة 27 من إتفاقية الحقوق المدنية والسياسية .
يتضح مما جاء أعلاه أن الأمم المتحدة وجميع المواثيق الدولية الصادرة وخاصة الإعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر في عام 1948 قد عالجت مشكلة تعايش الأقليات ضمن مبدأ إسمي وهو ضرورة قيام الدول بالمحافظة على حقوق الإنسان وضمان الحريات الأساسية للجميع من دون تمييز بسبب الجنس واللغة أو الدين وعدم التفريق بين الرجال والنساء وإفساح المجال لجميع شركاء الوطن بالمشاركة في حياة المجتمع السياسية ومشاركة كافة أفراد الشعب من خلال سيادة الدولة ووحدتها الإقليمية .
إن دستور العراق المستقبلي الذي يجب أن يكتبه ويناقشه العراقيون وبدون تدخل مباشر أو غير مباشر من أية قوى دولية خارجية ، يجب أن يضمن – وهذا ماينبغي التأكيد عليه – حقوق كافة القوميات والأديان والطوائف وينص على تنظيم الحقوق والواجبات بالتساوي  ويبيح لامركزية إدارة شؤون المحافظات لضمان خصوصيتها ، فضلا عن الإقرار بمبدأ تداول السلطة دون النظر إلى العرق أو الدين أو اللغة . وبهذا يغدو مشروعاً طرح التساؤل التالي : ما الجدوى وراء صيغة الفدرالية التي يتطالب بها القيادات الكردية ؟ وفي إطار وحدة المجتمع ومركزية الدولة العراقية على مر العقود ، ماهي مسوغات طرحها في خطابهم السياسي اليوم إن لم يكن لكي يصار إلى فرضها في ضل الوضع الفوضوي الحالي للعراق ؟ وهل هناك تجربة فدرالية في النظام الدولي قد قامت على أساس قومي ؟ وما هو مدى الموضوعية في طرح حق تقرير المصير ؟
ومما يزيد الطين بلة أن الفدرالية المطروحة من قبل القيادات الكردية والتي تسوق يومياً كخطاب سياسي أضحت غير واضحة المعالم والنوايا ، ففي الوقت الذي تطالب فيه هذه القيادات الكردية بفدرالية تقوم على أساس قومي فإن هناك من بدأ يطالب بفدرالية على أساس طائفي وهذا يقودنا إلى الإستنتاج بأن جميع هذه الإدعاءات والمطالب ستفضي مستقبلاً بالتأكيد إلى وجود حالتين لا أكثر ، إقليمية تقوم على أساس قومي وأخرى على أساس طائفي .
إضافة للفوضى العارمة في العراق الآن في ضل الإحتلال فإن هكذا مطالب سوف تساهم في زيادة هذه الفوضى وتنذر بخلافات عرقية وتشعل الفتن الطائفية وتضع كل قومية أو طائفة وجهاً لوجه أمام القوميات والطوائف الأخرى وتسهم في تأجيج الخلاف الطائفي وديمومة الصراع والإحتراب القومي . كما أنها في ذات الوقت ستحفز وتسعر من أطماع الصهاينة وبعض الدول المجاورة وتساهم في تداول قضايانا الوطنية .
وخلاصة القول فإن أي دستور يكتب ، بشرط أن يكتبه العراقيون أنفسهم وليس مفروضاً عليهم من سلطات الإحتلال والمتعاونين معهم من المستشارين الصهاينة ، يجب بأن يكفل فضلاً عن محكمته الدستورية حقوق جميع القوميات والأديان والطوائف بشكل متساوي وبدون تمييز وهو الأمر الذي ينطبق على ضمانته لمبدأ المساواة بين الموطنين في الحقوق والواجبات وبعيداً عن أي شكل من أشكال التفرقة التي تقوم على أساس القومية أو الدين أو المذهب أو الجنس وبما يضع فرص تولي المناصب والمسؤوليات والوظائف متساوية ، وإن ما يميز  بينهم هو الكفاءة والإختصاص فقط وفي موازاة ذلك يجب التشديد على أن تحقق أحكام الدستور نوعاً صارماً من العدالة في توزيع السلطة والثروة على كل العراقيين بدون إستثناء في ظل نظام سياسي برلماني ديمقراطي يمثل كل أبناء الشعب العراقي بمختلف ألوان طيفهم القومي والديني ويتسم بالكفاءة والنزاهة ويرتكز في جوهره على عدم السماح بتركيز السلطة ومن ثم الاستئثار بها دون وجه حق بيد شخص أو قومية أو دين أو طائفة ، وبالتالي علينا جميعاً أن نترفع ونسمو على جميع المطالبات التي تركز التمايز العرقي أو الديني أو الطائفي وأن نعمل جاهدين على عدم السماح بالترويج لمثل هذه المطالب . فالعراق الواحد خيمة لكل العراقيين وهو بيتهم وهويتهم التي لاتقبل التجزئة أو التشظي طالما سيعيشون جميعاً تحت سقفه بحرية ومساواة وعدالة .
وهكذا يتضح مما سبق أن كل التجارب الفدرالية القائمة حاليا ، رغم قلتها قياساً إلى نمط الدولة المركزية الموحدة ، تعتمد على صيغ متشابهة من حيث الشكل والمضمون . فمن ناحية الشكل فإن النظام الفدرالي يقوم على أساس لامركزية إدارية بالنسبة للولايات أو الأقاليم المكونة للدولة الإتحادية ، وليس على أسس جغرافية قومية أو دينية أو طائفية . أما من ناحية المضمون فإن غالبية التجارب تشير إلى وجود حالة معينة من تقسيم السلطات وتوزيع الصلاحيات فيما بين الدولة الفدرالية الإتحادية وبين الولايات أو الأقاليم المكونة لها بحيث تختص الأولى بأعمال السيادة وكافة الشؤون السياسية الأخرى كإعلان الحرب وعقد الإتفاقيات الخارجية ، في حين ينصب إختصاص الحكومات المحلية على إدارة المجالس المحلية التابعة لها وما يترتب على ذلك من صلاحيات تتعلق بالمجالات الثقافية والتعليمية ، فضلاً عن الأنشطة التجارية بين الحكومات أو الولايات وقضايا الأحوال المدنية كالزواج والطلاق وكافة الأمور التي ليست من إختصاص الحكومة الفدرالية ، وبما لايتعارض مع القانون الأساسي (الدستور) للدولة وفي المحافظة على الوحدة الوطنية أرضاً وشعباً . وفي هذا السياق ، فإن مبدأ الفدرالية الذي يطالب الأكراد بتطبيقه على العراق ، إذا كان  لابد من طرح صيغته وتسويق طروحاته كبديل حتمي أو خيار وحيد ، فإن هذا الموضوع هو من صلاحية الشعب العراقي بكافة قومياته ، فالشعب أولاً وأخيراً هو مصدر أي سلطة وغاية أي تشريع .
_____________________________________________
* أستاذ جامعي عراقي مقيم في بريطانيا

 



#محمد_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- ماذا قالت إسرائيل و-حماس-عن الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين ف ...
- صنع في روسيا.. منتدى تحتضنه دبي
- -الاتحاد الأوروبي وسيادة القانون-.. 7 مرشحين يتنافسون في انت ...
- روسيا: تقديم المساعدات الإنسانية لقطاع غزة مستحيل في ظل استم ...
- -بوليتيكو-: البيت الأبيض يشكك بعد تسلم حزمة المساعدات في قدر ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من رمايات صاروخية ضد أهداف إسرائيلية م ...
- تونس.. سجن نائب سابق وآخر نقابي أمني معزول
- البيت الأبيض يزعم أن روسيا تطور قمرا صناعيا قادرا على حمل رأ ...
- -بلومبرغ-: فرنسا تطلب من الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات جديدة ض ...
- علماء: 25% من المصابين بعدم انتظام ضربات القلب أعمارهم تقل ع ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محمد العبيدي - الفدرالية .. بين المفهوم وعدم إمكانية تطبيقها في العراق