أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عقاب يحيى - المعارضة، وبعض من قصتها مع الديمقراطية















المزيد.....



المعارضة، وبعض من قصتها مع الديمقراطية


عقاب يحيى

الحوار المتمدن-العدد: 2446 - 2008 / 10 / 26 - 01:47
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


( 1 /2)

في مقال للأستاذ سلامة كيلة، مكتوب بتاريخ /8/10/، ومنشور بتاريخ /11/10/2008 في موقع الحوار المتمدن , بعنوان : المعارضة السورية على ضوء المتغيرات الراهنة ..

يتناول جملة من ( عوامل أزمتها)، مبتدئاً بتوصيف عام لحالتها، فيقول : (( كانت تعيش تشوشاً عميقاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث بدا أن كل ما كانت تقوله بات لا معنى له أو كان خاطئاً، أو كان صيغة من صيغ الأوهام . وبدلاً من أن تتريث، وتميل إلى التفكير العميق في أفكارها ورؤاها، سارعت قطاعات كبيرة منها إلى تبني" الموجة " التي أطلقتها القوى الليبرالية العالمية، والقائمة على حتمية اللبرلة والديمقراطية.. وهنا جرى الانتقال لدى قطاع كبير من ماركسية " متشددة " ونصيّة إلى حد كبير إلى ليبرالية متشددة ونصّية إلى حد كبير، فأصبح الهدف هو الانتقال من " الاستبداد إلى الديمقراطية " وتقلّص النضال إلى نضال " حقوقي " ...))..
وقبل مناقشة جوهر الفكرة التي تناولها هنا، يجدر تسجيل بعض الملاحظات السريعة :

1 ـ رغم أهمية المقال، ومحاولته التعرّض إلى جوهر أزمة المعارضة( وهي أزمة تفتح الشهية للخوض فيها) فلم أعرف حقيقة من هي هذه المعارضة التي يقصدها الكاتب، وتخيّل لي أنها معارضة مفترضة، أو مرسومة في رأسه، وربما قصد بها مجازاً الحزب الشيوعي السوري قبل انشقاقه إلى أحزاب، أو بعض أحزابه، إلى جانب " حزب العمل الشيوعي" مثلاً..
ذلك أن المعارضة السورية ليست طيفاً، أو اتجاهاً واحداً، ولم تكن جميعها، ولا حتى أغلبيتها ماركسية، أو " متشددة"، أو " نصّية " ففيها الماركسي بتلوّن متعدد، والقومي بأنواع، واليساري، وفيها الإسلامي، على اختلاف المشارب، وشخصيات مستقلة من منابت واتجاهات شتى .

2 ـ هذه المعارضة التي أنجز عدد هام منها( نهاية السبعينات) توقيع ميثاق الجبهة الوطنية الديمقراطية التي عرفت لاحقاً ب(( التجمع الوطني الديمقراطي)، لم تكن كل أطرافها ماركسية أولاً، ناهيك عن محاولات تميّزها الماركسي( عند بعضها) ثانياً، والأهم من ذلك، ثالثاً ، وتوضيحاً مخالفاً لما جاء في المقال المذكور لم تعش " تشوشاً عميقاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.." لسبب بسيط : أنها كانت قد طرحت الخيار الديمقراطي طريقاً، ونمط حياة وحكم، قبل ذلك الانهيار بمدة طويلة، ولم تكن على علاقة مباشرة معه، وكان بعضها يوجّه انتقادات عميقة لتلك التجربة، ولعل تلك الملاحظات تقع في أساس الخلاف داخل الحزب الشيوعي السوري الذي قاد إلى الانشقاق الكبير، وبلورة" المكتب السياسي" حالة خاصة حاولت التميّز في مسائل رئيسة .

3 ـ الأطراف المعارضة الأخرى التي لم تشارك في ( التجمع) ليست جميعها ماركسية، بل ولا حتى أغلبها، فعدا ( رابطة، ومن ثم حزب العمل الشيوعي) وبعض الفصائل الكردية، فإن الحركة الدينية ظلّت تمثل ثقلاً معتبراً في المعارضة، وبالتأكيد ليست ماركسية، ومثلها حزب البعث( القيادة القومية)، وعدد من التواجدات الناصرية، والقومية، والمستقلة . ونعرف أن تلك الأطراف انضوت لسنوات فيما يعرف ب" التحالف الوطني لتحرير سورية "، الذي تحوّل إلى " الجبهة الوطنية لإنقاذ سورية " ، والذي لم يقترب من قريب أو بعيد من الماركسية .

4 ـ لا شك أن الموجة الديمقراطية القوية تسحب وتجرّ معها الكثير من التلاوين والأصناف . المؤمن بها والمقتنع عن وعي وتمثّل، وذلك الهارب من أزماته، وحالة الانسداد، وجموع المتأثرين بأمواجها ورياحها ، بما في ذلك ردود الفعل على تركيبة النظام الفئوية، التوليتارية، الشعبوية التي تغلق كافة المنافذ( حتى بحجم خرم إبرة)، وتسدّ الأفق بفيض من الشعارات القومية والاشتراكية والمقاومة، والمناطحة للإمبريالية، والصهيونية، مما يجعل من ردود الفعل تلك حالة مشروعة لإيجاد منفذ يخرق جدار الاستبداد، ومملكة الرعب المعمم .
لكن الحقيقة لم تقتصر على موجة غازية بقوة ( اللبرلة الغربية) بقدر ما كانت مخرجاً استراتيجياً وصلت إليه عديد القوى بعد تجربة طويلة من المعاناة، والتعامل مع تلك الأنماط التي أعدمتها، وتبيّن أن غيابها يمثل كلمة السر في ذلك الفوات المريع، وفي جملة التراجعات المولّدة لأنماط اختلاطية من استبداد شرقي مكين معجون بآخر منتجات النظم الفاشية، التوليتارية ، الأقلوية، وأيضاً وعي أسباب إخفاق تلك التجارب ، وتهاوي المشروع النهضوي أنقاضاً تنبت على أشلائه نظم الارتداد .
وإذا ما تأثر الجميع بتلك الموجة، فإن وعي موقع الديمقراطية، واسترجاع الحياة النيابية التي تعتبر الفترة الذهبية في حراك الشعب السوري وقواه السياسية، وبحث إمكانية العودة إليها( بما يتوافق والمتغيّرات) سابقة لتلك الموجة ، وما شهدته بلدان المنظومة الاشتراكية بأعوام مديدة، سنأتي عليها .

5 ـ ليس عيباً أن تتعلم القوى السياسية الديمقراطية، وأن تحوّلها إلى نمط حياة في علاقاتها الداخلية، والاعتراف بالأخر، وفي التداول السلمي على السلطة، ومنح الشعب حق المشاركة، باعتباره السيّد، والمرجع، والغاية، وتقرير البرامج، والاتجاهات في انتخابات نيابية متوازنة، تكون المدخل لبناء مجتمع مدني ديمقراطي يتساوى فيه جميع المواطنين( بغض النظر عن الجنس، والدين، والمذهب، والقومية) أمام القانون . أما الغوص في الماهيات، وتحديد أي ديمقراطية نريد : توافقية، أو غيرها، فالأمر متروك لعديد التفاعلات والتطورات، كما أنه متنوّع وفقاً لرؤى كل فصيل، أو تيار، أو اتجاه .
عودة إلى الوراء ..

تمهيد عام :

كتب الكثير عن ( نمط الإنتاج الآسيوي) المختلف عن غيره، وعمّا عرفته أوربا، وعمّا أدّاه ذلك النمط من ركود، وتخثر وسائل وعلاقات الإنتاج بما لم يسمح بنهوض طبقة برجوازية تنجز ثورتها : القومية، الديمقراطية، وبالتالي : تراجع الشرق عن وتيرة التطور البشري .

وكتب أكثر عن (الإمبريالية) التي قطعت طريق التطور الطبيعي على تلك الأمم والمجتمعات التي غزتها بقوة السلاح والسلع وتطور الأفكار، وفرضت عليها منظوماتها الإنتاجية، الفكرية، الثقافية، مثلما فرضت التجزئة، واللعب بالنسيج الاجتماعي والمكونات، وتوليد قوى اجتماعية من رحم الإقطاع ومجتمعات القبيلة والنظام الريعي، الزراعي المختلط، بما يلائم الوظائف التي أنيطت بها من ( المتروبول)، ونظم الاحتلال، وبما أدى إلى ذلك التشوّه، والعجز، والتداخل .

وطوال عقود كانت البرجوازيات المحلية الناشئة محط نقد عميق من قبل القوى البديلة، ومركزاً لإطلاق شتى أنواع التهم( التبعية، العمالة، العجز، الفشل..)، خاصة وأنها لم تستطع لجم الاندفاعات الانقلابية( بخلفياتها المتعددة)، أو إرساء نظام ديمقراطي مستقر، ومتوازن( رغم تقدمها الكبير في مجال الحريات الديمقراطية، والحياة النيابية) ، وكان لعجزها عن النهوض بالثورة القومية( إنجاز الوحدة)، والفشل في صدّ الغزوة الصهيونية الاستيطانية، وتحرير بقية الأراضي العربية المحتلة، الدور، أو الأثر المباشر في صعود قوى اجتماعية أخرى تنتمي أغلبيتها للطبقة الوسطى والصغيرة ، وعبر العسكر، على الأغلب، لوأد تلك المرحلة القصيرة والبدء بمرحلة أخرى أعدمت فيها الديمقراطية الاقتصادية والسياسية، وحتى الاجتماعية لحساب فلسفة جديدة، مستنسخة( وإن بشكل ممسوخ، وكاريكاتوري) من التجربة الاشتراكية وطليعتها الاتحاد السوفييتي، المرتكزة أساساً : على الشمولية، والحزب الواحد ـ القائد، وإلا على الزعيم الأوحد، والعسكر، والأجهزة الأمنية، وفق تلك الفلسفة الاختلاطية، والترقيعية أحياناً، عن حرق المراحل، وقسر الظرف الموضوعي، ودور الوعي، والعامل الذاتي، ومركزية الدولة القابضة على كل شيء، وإقامة ما يشبه رأسمالية الدولة، بنكهة استبدادية شرقية ، ثم تحولها إلى نظم عائلية، مافيوزية، نهّابة، مفسدة وفاسدة، قمعية حتى العظم، ودموية حدود إقامة المجازر الجماعية، ومرتدّة مستوى رهن وبيع ثروات وقضايا الوطن والأمة، والمقايضة بكل شيء في سبيل بقائها وتحقيق مصالحها الخاصة .

وكما تحوّلت الإمبريالية إلى شماعة ( بالحق، والمبالغة، وقصور الوعي، والفوات) لوضع مسؤوليات القصور، والهزائم، والإخفاق عليها، صارت البرجوازيات المحلية دريئة التصويب عليها من كل جانب، لملئها بثقوب الانتقاد، وتبرير نشوء، وفرض البدائل.. التي حملت مشروعاً نهضوياً، تحديثياً، أقرب إلى العلمانية، والحداثة( عاماً، وشعارياً، ورغبوياً) .
لكنها وقد وصلت السلطة، عن طريق العسكر، غالباً، لم تستطع فعل الكثير في ذلك المشروع الذي ارتمى تحت أقدام الواقع، فداست قواه الجديدة عليه ومرّغته ببساطيرها القاسية، وأجهزتها الدموية مطلقة العنان، وكان الشعب هو الضحية الأولى، وكانت القضايا الوطنية والقومية هي المتضرر الأكبر، ومثلها الوحدة الوطنية، والنسيج الاجتماعي، وألف باء الحقوق الديمقراطية، وحق العمل، والحق في العيش بكرامة، وطمأنينة لا ترى كوابيس الهم والاعتقال الكيفي، والترعيب المنهج، وتدجين الشعب ليخرج عن مألوفه ويصبح خارج الزمان والمكان، وحتى الجغرافيا، شبه قطيع، شبه بشر .
******
إذاً : التوصّل إلى الديمقراطية : مخرجاً وحلاً لمجتمعاتنا المخنوقة بنظم الاستبداد الأقلوية، الفئوية لم يكن وليد انهيار الاتحاد السوفييتي، ووقوف البعض أمام الجدار . على العكس من ذلك فإن الطروحات الديمقراطية كانت تشقّ طريقها إلى الوعي، ورؤوس القوى السياسية، وبرامج عملها منذ مطلع السبعينات، حين كشّر النظام الأسدي عن جوهره : الاستبدادي، الدكتاتوري، الفئوي الأقلوي، الدموي، وقد ( خيّب) آمال بعض الذين راهنوا عليه فشاركوه جبهته الصورية، التصفيقية ، ثم اكتشفوا أنهم كانوا على خطأ فاتخذوا موقع المعارضة، وفي ذهنهم أن الديمقراطية هي المحتوى لأي نظام قادم يتم الوصول إليه عبر التغيير الجذري للأوضاع القائمة .
ويمكن القول أن جنينات هذا الوعي سابقة على السبعينيات عند بعض القوى والفعاليات المثقفة، إذ راحت تجوب عقول الكثيرين بعد هزيمة حزيران ونتائجها الكبيرة، حين تأكد للبعض أن غياب الديمقراطية، والمشاركة الشعبية في مقدمة أسباب تلك الهزيمة، وحين راحت بعض الفصائل والتيارات اليسارية( الماركسية والشيوعية) تحاول الإجابة على سؤال كبير : ألا يمكن أن تكون هناك اشتراكية بمحتوى ديمقراطي ؟؟..وهل الأوان عندنا، نحن البلدان النامية التي لا توجد فيها طبقة عاملة متطورة، وقوية، مناسباً لديكتاتورية البروليتاريا؟، أو حتى تلك الصيغة الاستبدالية : ديكتاتورية الديمقراطية الثورية ؟؟..

ومما لا شكّ فيه أن الموجة الماركسية كانت جد قوية، ومتصاعدة بعد هزيمة حزيران بالتحديد، وأن معظم القوى والحالات التي اقتربت منها( إلى هذه المسافة أو تلك)، وطرحت تبنيها، أو أنجزت تلك الخطوة كانت مغالية في تشددها، ونصيّتها، وكانت تسابق الزمن والظروف والشروط الموضوعية لقسرها وتليينها بغية الدخول في متن الالتزام بها، ومحاولة تقليد أو استنساخ التجربة السوفييتية، دون أن ننسى تلك التكوينات الماركسية الأخرى المتأثرة بالغيفارية، والماوية، والمجالسية، والتروتسكية، وبتطورات وطروحات بعض الأحزاب الشيوعية، والاشتراكية الأوربية، وبعض المنظرين( المنشقين)، وغيرهم .
مع التأكيد، في الوقت ذاته، أن تلك المرحلة كانت تعرف مخاضات كبرى داخل عدد من الأحزاب الشيوعية التقليدية العربية باتجاه آخر : التصحيح، والتقويم، والتغيير .. وكانت الديمقراطية، والحياة الداخلية، ومفهوم الأممية وتجسيداتها، والمسألة القومية، وفلسطين، والوحدة العربية، والعلاقة مع الشعب في صلب عوامل ذلك المخاض الذي دشنه بقوة الحزب الشيوعي اللبناني، والذي وجد صداه في الحزب الشيوعي السوري، وأدى إلى ذلك الانشقاق الكبير .
******
علينا الاعتراف ، هنا، أن المسالة الديمقراطية كانت في أولويات الحوارات بين القوى المعارضة منذ بداية السبعينات( قبل الدخول السوري إلى لبنان)، وأن الطرفين الحليفين اللذين كنا نحاورهما : ( الحزب الشيوعي ـ المكتب السياسي، والاتحاد الاشتراكي الديمقراطي العربي ) كانا يطرحان الديمقراطية شرطاً، وأساساً في أي تحالف، وميثاق جبهوي، ويؤكدان على أنها جوهر أي تغيير قادم، خاصة بعد أن أبانت التوقعات والمراهنات بعد الدخول السوري إلى لبنان، أنها خلّبية، وأن الجيش ممسكوك من خناقه بحزمة قوية من أبناء العائلة، والطائفة، وأجهزة الأمن، وشبكة المصالح الكبرى التي تغوي كبار الضباط والقادة فيه، وأنه ما خيار للتغيير سوى الطريق الديمقراطي، التراكمي .
وبغض النظر عن محتوى الديمقراطية، وعن التطور الذي عرفته تلك القوى في مفاهيمها ومداليلها( ولا زالت المسألة الديمقراطية بحاجة إلى التعلم، والتطور، والتطوير، وإلى تحديد ماهياتها) إلا أنهما لعبا دوراً مهماً في تفصيح وبلورة وتأسيس ذلك الشعار الذي بات صنواً، أو محتوى لأي عمل جبهوي قادم، حيث لم يخل منه أي ميثاق مقترح، مثلما كان جوهر الاتفاق الذي تمّ التوقيع عليه عند قيام الجبهة( التجمع) .
دون أن نغفل هنا، أيضاً، موقف كل من ( حزب العمال الثوري)، و( حزب الاشتراكيين العرب) من هذه المسألة، واللذان كانا في صلبها، وكان البعض( كالاشتراكيين العرب) يذهبون إلى مدى أبعد في تطبيقاتها، وفي عودة الحياة النيابية، واشتراطها أساس أي تغيير قادم ، ناهيك عن بعض التجمعات الصغيرة( كجماعة البيطار)، والشخصيات المستقلة التي لم تكن ترى بديلاً عن الديمقراطية. وللمناسبة : كان ذلك قبل زمن طويل من ذكر، وإنبات اللبرلة القديمة والجديدة، أو أية مراهنات على الخارج ، حين كان النظام موقع تقاطع المعسكرين، فيلعب على حبال التوازنات، ويستغل أهمية وموقع سورية، وما يحوشه من أوراق في مناقلاته، ومقايضاته .

وسنرى في الصيغ، أو المصطلحات المطروحة تلك الفترة هذا الجانب بوضوح. ففي ميثاق( التجمع) ارتكاز رئيس على الديمقراطية، وفي شعارات : التغيير الوطني الديمقراطي، والتغيير الجذري للأوضاع القائمة، وإقامة النظام الوطني الديمقراطي، ثم ( النظام الديمقراطي) ما كان يعكس حركية التطور، ومستوى الوعي بموقع الديمقراطية . أما التطورات اللاحقة، وصعود الموجة الديمقراطية وكأنها القدر الحتمي، والمخرج الوحيد، وركوبها من قبل الجميع( حتى أعتى أنظمة الاستبداد) ، فيجب فهمها في سياق التطورات الكونية من جهة، وعمق الأزمة في النظام العربي، والمعارضات العربية من جهة ثانية، واحتياج الغرب الإمبريالي إليها كجواز مرور، أو غطاء، أو وسيلة ضغط من جهة ثالثة .
ـ إن أزمة المعارضة والديمقراطية حديث يطول، لكن الجلي أن القوى الرئيسة فيها لم ترهن نفسها للخارج، ولم تراهن عليه، وإن تمنى بعضها مزيداً من الضغط الخارجي الذي قد يسهّل عملها، أو يفتح منافذ لعبور رياح الحرية والتغيير، طالما أنه يأبى الاستجابة لكل العروض( الطيّبة) التي قدّمتها المعارضة بعد حكاية التوريث، وذلك ( التمسّك) بما جاء في ( خطاب القسم)، وصولاً إلى الاصطدام بحائط الحقيقة . حقيقة تركيبة النظام وقوى استناده الداخلي، وحقيقة الضغوط الخارجية وسقفها، ومراميها، وبما يعزز، من جديد، وجديد، الاعتماد على الذات أولاً، وأساساً في معركة طويلة مليئة بالمصاعب والمتاعب .

*****















( 2/2)

على صعيد حزب البعث( 23 شباط)
والبعث الديمقراطي الاشتراكي العربي، لاحقاً :


كثيرون يتهمون البعث( كله، وفي جميع مراحله) بأنه أحادي، شمولي، استبدادي، قمعي، لا ديمقراطي، وأنه من جاء بالنظام الذي ألغى الحياة الديمقراطية، وغيّب الشعب، وأقام المجازر، وموضع الطائفية، وانهزم في الحرب، وإلى آخر التوصيفات التي نقرأها هنا وهناك، دون تفريق في المراحل، أو فحص الظروف والخلفيات، فتاتي التهم بالجملة، ويختلط عبّاس بدبّاس .
وإذا كان ذلك التوصيف صحيحاً في بعض جوانبه، وضمن ظروفه، ووعي تلك المرحلة وما كان سائداً فيها من أنماط يعتقد أصحابها أنها الطريق الأقصر، والأفضل لتحقيق الأهداف، وردم الهوّة بين التخلف والتقدّم للحاق بالعصر( بكل النوايا الطيبة، والقصور، والأخطاء، والعصبوية أيضاً، والعسكرة ودورها، والتخلف وموقعه، وبنى المجتمع وقابلياتها، ومدى فهمها من داخلها ..) .
فإن الكثيرين لا يعرفون : ـ ذلك الحراك الداخلي في الحزب والسلطة حول فكرة مشاركة الآخر، والانفتاح عليه .
ـ أو جملة التطورات التي حدثت بعد عام 1970 في التنظيم، أو في القيادة المعتقلة، وبشكل عام .
* ـ ولأن الموضوع طويل، سأكتفي بعرض بعض النقاط :
1 ـ فكرة مشاركة الشعب والقوى السياسية قديمة، وسابقة لهزيمة حزيران، حيث أن الحراك داخل الحزب كان يتمحور حول عدة قضايا، ومنها المسالة الديمقراطية بصيغة( الديمقراطية الشعبية) الرائجة أسهمها تلك المرحلة، والتي وجّه لها عديد الحزبيين انتقادات حادّة باتجاه تطويرها، وتفعيلها .
ولئن كانت /حركة 23 شباط/ أول حالة عربية تشرك شيوعيين وناصريين ووحدويين في الوزارة، فإن تلك الخطوة لم تكن كافية بنظر حزبيين كثر، الذين طالبوا علانية في مؤتمرات الحزب، بتطويرها نحو الاعتراف رسمياً بالأحزاب التقدمية، وإنهاض جبهة فعلية معها .
في المؤتمر القومي التاسع الاستثنائي الذي عقد عقب هزيمة حزيران لمناقشتها، طالب أعضاء بارزون في القيادتين القومية والقطرية، الرفاق بتوسيع نطاق المشاركة مع القوى السياسية إلى مستوى جبهة ، والانفتاح على الشعب وفق صيّغ متطورة للديمقراطية الشعبية ، وتكريس أن المرحلة هي مرحلة تحرر وطني بكل ما تعنيه من توسيع أطر المشاركة في صتع القرار لجميع الذين تشملهم، وفي المقدمة منهم : الشعب. وكانت هذه القضية، إلى جانب غيرها( فيما يخصّ مجريات الحرب ونتائجها)، في أسباب استقالة بعضهم من القيادة .
في المؤتمر القطري الرابع/1968/ طالب عدد من الرفاق بإقرار صيغة الجبهة وترجمتها فوراً، وكان عديد الرفاق في القيادة، ومن أعضاء المؤتمر متحمسون، لكنهم لم ينجحوا في إقرارها. وتكرر الأمر في المؤتمر القطري الرابع الاستثنائي الذي عقد بعد الأزمة المتفاقمة مع( التكتل العسكري بقيادة الأسد)، واستشهاد، أو مقتل الرفيق عبد الكريم الجندي، وكاد الاقتراح بإقرار صيغة الجبهة الوطنية التقدمية أن ينجح، لولا تلك الإضافات التي جوّفت القرار . ونجد ما يشبهه، مع تطور كمي ملحوظ في قرارات المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي، الذي انتهى بانقلاب الأسد عليه .
وكان عدد من أعضاء القيادة القطرية، والقومية، السوريين والعرب، مقتنعين تماماً بموقع العمل الجبهوي في مواجهة الأحادية، وفكرة الحزب الواحد القائد، وإشكالية العصبوية، والصيغ السائدة التي أثبتت صوريتها، وفوقيتها، وغشها في تمثيل الشعب والتعبير عن قضاياه ومصالحه ومطالبه .

2 ـ بعد الانقلاب، وعبر عملية التقويم والنقد التي قادتها قيادة التنظيم في سورية( اللجنة المركزية) تمّ إسقاط مقولة ( الحزب الواحد ـ القائد) بوقت مبكر، وطرحت العمل الجبهوي بديلاً، وقضية استراتيجية تفتح الآفاق لتوسيع المشاركة السياسية والشعبية، وفتحت، وفقاً لهذه الرؤية، حواراً مع بعض القوى السياسية منذ العام 1974 .
هنا يجب أن نسجل الملاحظات التالية :

آ ـ كانت آثار الحكم، وفكرة الجبهة التقدمية، والحزب القائد ما تزال واضحة في بنيان ووعي تلك القيادة، والتي انعكست في طروحاتها الأولى، قبل إسقاط فكرة الحزب القائد، ثم تمسكها بالمضمون التقدمي وفقاً لمنسوب الوعي السائد أيامها، وتعميماً لفكرة إمكانية تطوير صيغة ( الديمقراطية الشعبية) كبديل عن الديمقراطية السياسية التي كانت تقترن ( عندها) بالغرب والبرجوازية، المرفوضتين .

ب ـ في إطار التوجّه نحو النظرية الثورية بهدف تحضير الحزب للالتزام بها، عبر ما يعرف ب" التحوّل" ، وما اتسمت به تلك المرحلة من حماس واندفاع باتجاهها، ومن سجالات وتنظيرات حول طبيعة المرحلة، والثورة القادمة، والقوى، والقيادة، والخط الفاصل بين ( الشغيلة) و(البرجوازية)، بما فيها الصغيرة، وما نالته الأخيرة من نقد صارخ، وحملات محمومة لتحميلها ثقل الأزمة والهزائم والتجويف والنكبات، خاصة أجنحتها العليا، والمؤسسة العسكرية على وجه الخصوص ..
لم يكن للديمقراطية ، بمعنى الحريات العامة، الليبرالية، المفتوحة، التنافسية، النيابية...أثر بيننا إلا في شعارات عامة خالية من ذلك المضمون الليبرالي، المتهم، والمصنّف مسبقاً في خانة قوى الأعداء .
على العكس، كان التشدد في الموقف النظري، والنصّي هو السمة البارزة في ذلك التنظيم وقيادته . وكان هذا مثار حوار متواصل مع حلفائنا، خاصة ( المكتب السياسي) باتجاه التخفيف من تلك الغلوائية، والالتفات إلى عوامل الأزمة التي تنخر في مجمل القوى، والنظم المنتمية إلى حركة التحرر العربية( إلى هذه المسافة أو تلك). أي استبدال ( رأسمالية الدولة) ، ومصطلحات ( التطور اللارأسمالي) بالعدالة الاجتماعية المشبعة بمشاركة الشعب، والحريات الديمقراطية ، وتلك حقيقة .

ج ـ ومع تطور الأوضاع في سورية، بدءاً من الدخول السوري إلى لبنان( وهو المنعطف في رؤى وواقع ومواقف المعارضة)، ثم مع انفجار الساحة ، إثر الصراع الدامي بين " الحركة الدينية " والنظام، وما عرفته تلك المرحلة من متغيّرات، كان طبيعياً أن تتطور وتتفاعل قيادة التنظيم مع تلك المعطيات باتجاه انفتاحي يلزمها معاينة الواقع، ورؤية ما يجري فيه، وبالأخص : التعرّف على" الحركة الدينية " من داخلها، وليس عبر تلك التصنيفات السلبية الأبدية، المعلّبة، فأقرّت دراسة تلك الحركة بشكل موضوعي، آخذة بالاعتبار ذلك الاستقطاب الشعبي الذي كسبته نتيجة المواجهات الجريئة( في البدايات) وكسر هيبة النظام، وما سيضيفه إليها من أبعاد، وتطورات .( وإن لم يرتق الموقف إلى قبول أي نوع من الحوار معها، ناهيك عن مواقف تلك الحركة الأحادية، الشرسة من قوى المعارضة وما أطلقته من تهديدات لها، وفتاوى تحريم أي لقاء بقوى قومية وماركسية، والتحذير بالثبور وعظائم الأمور لكل من يحاول قطف ثمار التضحيات ـ ناهيك عن برنامجها المشوش، الغامض، وممارساتها الطائفية التي خدمت النظام، خاصة في الفترات الأولى من الاغتيالات ذات الطابع الطائفي البحت ) .

د ـ لم يتطور الموقف بهذا المستوى وحسب، بل ارتقى إلى استبدال صيغة ( الجبهة التقدمية، أو الوطنية التقدمية)، ب(الجبهة الوطنية الديمقراطية)، وأحياناً ب( الجبهة الديمقراطية) للقناعة بأنها لن تكون إلا وطنية البرنامج والتكوين والمسار . ثم إمكانية ( جسّ) نبض بعض المقربين من ( الحركة الدينية)، بينما كان بعض الحلفاء ينادون صراحة بوجوب اللقاء مع ( الحركة الدينية)، أو أطرافها المعتدلة، السياسية، القابلة بالحوار، والاعتراف بالآخر، ولم نكن قد وصلنا إلى تلك القناعات، التي طوتها، على كل حال، تطورات الأوضاع بعد ( انتصار النظام) عليها، وعلى الشعب، وقوى المعارضة، والتي كانت مجزرة حماة تتويجها ومنعطفها .
في هذه الفترة، فإن أسئلة بدت مشروعة راحت تجوب عقول معظم العاملين في حقل المعارضة السورية، حول إمكانية المزاوجة بين العدالة الاجتماعية( التي هي غاية الاشتراكية )، وبين الديمقراطية، ومدخلها : في إشراك الشعب بصناعة القرار، واختيار ما يناسبه، وما يعبّر عن مصالحه ، وجرت حوارات في هذا المنحى، منطلقها ذلك الهمّ والشاغل الباحث عن حلول ناجعة، خصوصاً وأن النظام يحارب المعارضة( على يسارها)، وبأطنان من الشعارات الشعبوية، القومجية، ويمتلك قاعدة شعبية( وإن كان فتيلها الأمني، التوظيفي، الانتهازي، الطائفي قوياً) راح يجيّشها، وأكوام من ( شهادات حسن السلوك) التي كان يطلبها من قوى حركة التحرر العربية التي انهالت عليه تغمره بالمزاودة، والتبريك في حربه ( ضد الظلامية السوداء) وذلك قبل أن تصبح( مقاومة الإرهاب هي النغمة السائدة في الخطاب الرسمي) .
ضمن تلك الأسئلة التي كانت تشغل بالنا : سؤال مهم عن سرّ أسباب العداء بين الاشتراكية والديمقراطية، وهل هو عداء بنيوي، أو مفتعل نتيجة مسار الثورة البلشفية، ثم سيادة الستالينية؟؟. ونحن نعي أن الاشتراكية تعني أساساً حرية البشر، وانعتاقهم، وإيقاف استغلالهم وسلبهم !!، وقد تمثلنا مقولة ( أنجلس) التي يلخص فيها الشيوعية بأنها(( الانتقال من مجتمع الضرورة إلى مجتمع الحرية)، محاولين المزاوجة، أو الترقيع بين الفكرتين، مع الاعتراف بأن قوة الموجة الديمقراطية تسحبنا نحوها، وباتجاه تكييف ثقافتنا، ووعينا مع مقتضياتها، وضرورة تعلمها، ونشرها فينا، وتعميم أسسها داخل حياتنا الحزبية، وفي تعاملنا مع الآخر، واعترافنا به، بغض النظر عن الاتفاق ومساحة ونوعية الخلاف، وكان هذا تقدماً بيّناً، يعترف بحق جميع مكونات المجتمع السوري السياسية بالحياة، وممارسة حرياته الكاملة ، في إطار المعارضة( المتفقة، أو الموّزعة)، وفي النظام الديمقراطي المنشود .

ه ـ وعلى قاعدة نقد التجربة، وصيغ" الديمقراطية الشعبية "، والأحادية، وعبر المواجهات العنيفة مع النظام الاستبدادي الشمولي وارتكازاته الفعلية، والواجهية، كان وعي هذا الفصيل يتقدّم بخطوات ثابتة نحو الديمقراطية، بغض النظر عن رؤاه الخاصة، غير المكتملة، وعن فهمه لجوهرها النافي لليبرالية، التي ظلّ التوجس منها قوياً، وكأنها المرادف للرأسمالية العالمية بطبعتها الإمبريالية الاحتلالية، وللصهيونية وكيانها . وصار المطلوب تطوير الوعي بامتلاك رؤية واضحة عن معنى الديمقراطية التي نريد، وعن موقعها في حياتنا الذاتية، والحزبية، ومع الآخر : الحليف، والمختلف .
ولذلك تحققت بعض التطورات الملحوظة في استبدال صيغة ( الجبهة الوطنية الديمقراطية) ب( الجبهة العريضة) التي لا تستثني أحداً من القوى السياسية المتفقة حول برنامج المرحلة، ومرتكزات العمل الجبهوي .

3 ـ هذا التطور الإيجابي في النظرة والوعي، لم يكن قصراً على قيادات العمل الحزبي( في الداخل والخارج وحسب) ، وإنما برز جلياً بين رفاقنا المعتقلين ( القيادة، والإطارات المتقدمة) الذين أمضى معظمهم قرابة الربع قرن في المزة دون محاكمة .
ففي إطار التفاعل المتاح، عبّر عديدهم عن رؤيته المتقدمة في شكل التحالفات، وطبيعة النظام المنشود كإدانة عديدهم، بشدّة لفكرة الحزب الواحد ـ القائد، والاعتراف صراحة بأخطاء المرحلة، خاصة في موقفها من الديمقراطية والحريات العامة، والدعوة إلى تجاوز تلك المقولات، والتشبث بالحريات العامة، وبالعمل المشترك مع القوى السياسية .
كما أن الأطروحات تناولت قطب الرحى : الجيش، فكتب بعضهم وجهة نظره، بوقت مبكر، التي تتلخص بأن إعادة بناء الجيش يجب أن تقوم على واحد من أساسين : إما أن يقبل فيه جميع الانتماءات السياسية ليكون المصهر واللاحم، وإما أن تمنع الحزبية فيه لأية جهة، مهما كانت، بحيث يكون جيش الوطن، المدافع عن حدوده وترابه، وقضايا الأمة، الملتزم بالقيادة السياسية ودستور البلاد .
ـ بعض الرفاق القياديين ، رواد فكرة الجبهة، ذهبوا بعيداً في تصوراتهم وطروحاتهم الديمقراطية، ولم يجدوا أي غضاضة في توجيه سهام النقد الجاد للمرحل التي كانوا فيها مسؤولين، بأخطائها، وقصور الوعي فيها، وبإغلاق الحيّز الديمقراطي، وتشوّه وفوات تلك الصيغ التي مورست فيها الديمقراطية ..

4 ـ ورغم الاعتقالات الفادحة التي شملت التنظيم أعوام : 1980، 1982، 1983، وانعكاسها على وضعية الحزب، والصراع داخله، والذي انتهى بانقسام ملموس فيه( وهذا موضوع طويل).. فإن تطور الفكر الديمقراطي لم يتوقف عند تلك الحدود النظرية، وإنما عرف نقلات مهمة عبر الطرح العلني لصيغة ( الجبهة العريضة) الطامحة إلى تجميع كافة أطياف المعارضة في إطار موحّد، وتجسيد ذلك في أول لقاء حواري مع حزب البعث( القيادة القومية)، والإخوان المسلمين( بشقيهم آنذاك)، ومكونات ( التحالف الوطني لتحرير سورية) في جنيف/ مطلع 1989/، والاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة لبحث مقومات الجبهة المنشودة .

5 ـ وكشهادة يجب تسجيلها، فعبر الحوارات الطويلة التي شهدتها تونس، ثم بغداد، كان الاتفاق عاماً على الأسس التالية :
آ ـ المساواة والتكافؤ بين القوى، بغض النظر عن حجم التمثيل، والعدد .
ب ـ استقلالية الجبهة عن أية جهة رسمية، ويعود لقيادتها أمر تحديد علاقاتها بالأنظمة العربية، والخارج، على ضوء ميثاقها، ومصالح الشعب السوري .
ج ـ إقامة نظام ديمقراطي تعددي تكون فيه كافة السلطات للشعب، عبر انتخابات نيابية حرة، لاختيار مجلس شعب سيد يقر دستور البلاد الذي يضمن الحريات العامة لجميع المواطنين، واستقلالية القضاء، والصحافة، وحرية التعبير والأحزاب، والعمل، وغير ذلك من المفردات المعروفة .
د ـ إن اختيار طبيعة النظام القادم لا يمكن تقريرها مسبقاً، لأن أمرها يعود للشعب وحده : الحر، السيد، الذي من شأنه أن يختار شكل وطبيعة النظام الديمقراطي، ومحتواه الاجتماعي ..
كانت تلك أهم البنود، إضافة إلى نقاط أخرى عكست ذلك التقدّم الواسع في تبني الخيار الديمقراطي من قبل الجميع . والحق أن ( حركة الإخوان المسلمين، بشقيها، يومذاك) كانت في مقدمة الداعين إلى الديمقراطية، والاعتراف الكامل بجميع مكونات الشعب السوري : السياسية وغيرها ، ولم يكن هناك خلاف على أيّ من الأسس المفصّحة لطبيعة النظام القادم .
ـ وجدير بالتنويه، ورغم تندّرنا، ونقدنا اللاذع، أحياناً، لصورة ( البعث القومي) عبر النظام الأحادي ـ الشمولي في العراق، ومستوى انعكاسه على تنظيمهم في سورية، فقد كان ممثلو هذا التنظيم( بمستوى الأمين العام المساعد، والأمين القطري، وعدد من القيادات السورية ) موافقون تماماً على إقامة النظام الديمقراطي النافي للأحادية، وفكرة الحزب الواحد، أو أية جهة ( قائدة)، ورغم شعورهم بالحرج من إعلان تلك المبادئ الأساسية ، وما قد تثيره لدى النظام العراقي، و( المسؤول عن المكتب السوري)، إلا أن خيار الديمقراطية كان الخيار الوحيد المقبول، على الأقل نظرياً، عند البعض، وممراً للخلاص .

6 ـ لا شكّ أن الموجة الديمقراطية العارمة التي اجتاحت العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وتلاشي المنظومة الاشتراكية، والمدعّمة بقوة النفوذ الأمريكي، والأوربي الغربي.. كانت كالحقيقة التي لا يمكن لأحد أن يتجاهلها، أو يطويها ويهرب منها، لأنها واقعاً يفقأ العيون، ويفرض على الجميع التعاطي معها، بما في ذلك نظم الاستبداد التي راحت تنحني لها ببعض الأقوال والوعود والإجراءات الشكلية، التمريرية .
وكان طبيعياً أن يكون أكبر المرحبين بها، والمسقبلين لها قوى المعارضة الديمقراطية، وطبيعياً أكثر أن تتأثر بها، وتبني عليها آمالاً تتراكب مع تطور وعيها وأدواتها وحضورها في ساحاتها . دون أن ننفي مراهنات البعض على هذا الموج الخارجي المتناوب، خاصة في مرحلة صخبه المطنطن، ووعوده بتغيير صورة الوضع في المنطقة، بل وأن يذهب البعض إلى مديات أبعد لولوج تلك الأمواج والسباحة فيها حتى الغرق والاختناق .
لذلك لا عجب أن تصبح الديمقراطية( بغض النظر عن الاختلاف حول مضامينها، وماهيتها) القاسم المشترك الأعظم بين جميع أطياف المعارضة السورية، وأن تدفع حركية العمل إلى تجاوز الصعاب، والعنعنات السابقة بالانفتاح على جميع القوى، وتوليد صيغة جامعة( كان إعلان دمشق) بما له( وهو كثير)، وعليه( وهو كثير ايضاً) نتاجاً طبيعياً لتلك التطورات، وإن سرّعت فيه ، وقادت إلى صياغة ميثاقه ذاك ، عوامل إضافية( سبق وتناولناها في عدد من المقالات ) .

7 ـ هذا القاسم المشترك العريض، هو عريض فعلاً يسمح باحتواء رؤى واتجاهات مختلفة داخله، هي طبيعية بقدر ما يتطور وعي المشاركين فيه، ويتعلمون بالتجربة، والممارسة الاعتراف بالآخر المختلف، واحترام خياراته، أيّاً كانت : على قاعدة : الحوار، والتنافس السلمي، وحق كل اتجاه بالحياة، والتعبير .
لذلك فإن وجود ( الليبرالية) وحتى ( الليبراليون الجدد، إن صحّت التسمية)، إلى جانب اتجاهات يسارية، وإسلامية، وقومية هو طبيعي، وأكثر : إنه الامتحان الجدي لمدى وعي واستيعاب الديمقراطية، والكاشف الواقعي للمسافة التي قطعت على طريق ذلك الوعي، وتجسيداته في التمثل، والممارسة . وعلى أن يكون الشعب هو الحكم والمقرر، إن كان ذلك في ميادين العمل المعارض ومراكماته، أو في أي انتخابات نيابية حرّة تنتهي بإقامة سلطة تشريعية سيدة، مؤهلة لمراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية، وصيانة حقوق الأفراد والمجموعات والأحزاب على قدم المساواة، ووفق ما ينص عليه قانون مستمد من دستور يشارك الشعب في وضعه، وقضاء مستقل .

8 ـ ومع كل هذا الكم من التطورات، وانتقاله إلى وعي نوعي، على العموم، فليس عيباً ، أو نقصاً، وانتقاصاً، وجود تباينات، أو قصور حول مضامين الديمقراطية، وموقعها، ودورها، وأوجهها المختلفة، والذي سيبقى قائماً ما دام التنوّع ضرورة موضوعية، ومادامت التعددية إفرازاً طبيعياً للبنى والتشكلات والوعي وشبكة المصالح المختلفة، والأديولوجيات المتعددة ..
لذلك فإن التماوجات التي نشهدها داخل ( إعلان دمشق)، أو على جوانبه، وفي غيره من أشكال المعارضة، ووجود تلك الفجوات، والمسافات في الرؤى والمواقف هي تعبير، بالأساس، عن ذلك المدى الذي تتميز به الديمقراطية، والتي تفسح في المجال لفهمها ووعيها بطرق مغايرة لدى كل طرف .

9 ـ إن هذا الذي يعتبر تشوشاً هو جزء من هذا الحراك، إن أردنا الدخول إلى متن فلسفة الديمقراطية، لأنه يستحيل لهذه القوى المتنوعة أن تكون موحّدة الرؤى والمواقف إزاء نمط حياة ، بكل ما في الحياة من غنى وتنوع ، وأسلوب يختلف على مدياته .
ولعل الشيء المهم هنا : هو الانطلاق من أرض الواقع، بعيداً عن الأمواج الخارجية وتناوباتها، والمراهنة عليها، وقد أوضحت السنوات أن تلك الأمواج لها أصحابها ومقاصدها، ومصالحها المختلفة عن المصالح الرئيسة للمعارضة السورية .
ولا نريد التذكير بأن الاتكاء على الخارج قد انكسر بفعل وضوح نوايا الخارج، وما كان يريده من دفق، وصخب تلك الأمواج، وهو اليوم يعلن صراحة ، كما يعرف الجميع، أن مصالحه هي الأساس : بدءاً ومنتهى، وأن الشعوب وقضاياها، وحقوق الإنسان، وحرياته الديمقراطية ليست أكثر من جواز مرور، أو يافطة لتحقيق أهدافه، وعندها يدوس أرضاً على كل الشعارات، والقيم، والحقوق .

10 ـ بالمقابل، أيضاً، فإن تلك الأعوام أكدت، بما لا يقبل دفن الرأس في الرمال، أن هذا النظام، بتركيبته : الأقلوية ( ولا نقصد بها الجانب الفئوي، أو العائلي فقط، بل مجمل ارتكازاته)، الاستبدادية، النهبية، المقايضة.. لا يمكن المراهنة على ( تنازلاته) في مجال الحقوق الديمقراطية، لأنها تشكل، بنظره، مقتله، ولأنه سرعان ما ينقلب عليها عندما يمرر وضعاً، أو يهضم ويتجاوز ضغطاً خارجياً . وأن الخيار الوحيد أمام المعارضة إنما يكمن في تناغم تنوعها في إطار عريض مشترك، يسمح بتفاعلها، واختلافها الواضح، وحتى تنافسها، وفي حرصها على وحدتها العامة، والتوجه إلى الشعب بخطاب القواسم المشتركة القاطع للمراهنات على الخارج، أو على ما قد يجود به النظام، مع فتح الذهن والعقول على اللوحة العالمية وتطوراتها، وسيروراتها، وخاصة الرأي العام العالمي ومؤسساته الديمقراطية التي تعمل صادقة من أجل حرية وكرامة وتطور الإنسان .


كاتب وباحث / الجزائر




#عقاب_يحيى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- أحدها ملطخ بدماء.. خيول عسكرية تعدو طليقة بدون فرسان في وسط ...
- -أمل جديد- لعلاج آثار التعرض للصدمات النفسية في الصغر
- شويغو يزور قاعدة فضائية ويعلن عزم موسكو إجراء 3 عمليات إطلاق ...
- الولايات المتحدة تدعو العراق إلى حماية القوات الأمريكية بعد ...
- ملك مصر السابق يعود لقصره في الإسكندرية!
- إعلام عبري: استقالة هاليفا قد تؤدي إلى استقالة رئيس الأركان ...
- السفير الروسي لدى واشنطن: الولايات المتحدة تبارك السرقة وتدو ...
- دعم عسكري أمريكي لأوكرانيا وإسرائيل.. تأجيج للحروب في العالم ...
- لم شمل 33 طفلا مع عائلاتهم في روسيا وأوكرانيا بوساطة قطرية
- الجيش الإسرائيلي ينشر مقطع فيديو يوثق غارات عنيفة على جنوب ل ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عقاب يحيى - المعارضة، وبعض من قصتها مع الديمقراطية