أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أبو الحسن سلام - المسرح وفكرة المخلص المستبد العادل















المزيد.....



المسرح وفكرة المخلص المستبد العادل


أبو الحسن سلام

الحوار المتمدن-العدد: 2446 - 2008 / 10 / 26 - 00:38
المحور: الادب والفن
    


فكرة المخلص (المستبد العادل) :
لم تفارق فكرة المخلص (المستبد العادل) رأس أحد من مفكري الإسلام – لا في التاريخ القديم ولا في التاريخ المعاصر - .
" الحلاج : لا أملك إلاّ أن أتحدث
ولتنقل كلماتي الريح السواحه
ولأثبتها في الأوراق شهادة إنسان من أهل الرؤية
فلعل فؤاداً ظمآناً من أفئدة وجوه الأمة
يستعذب هذي الكلمات
فيخوض بها في الطرقات
يرعاها إن ولي الأمر
ويزاوج بين القدرة والفكرة
ويزاوج بين الحكمة والفعل "
هكذا كان جهد الحلاج جهد المصلح الديني – لا أكثر – وهكذا صوره صلاح عبد الصبور ، تفكيكاً لخطاب المصلح الديني الذي حفظ عن ظهر قلب (نظرية الكل في واحد – نظرية المستبد العادل) .



التعبير الدرامي الشعري ومستويات السرد والتشخيص
بين التسلط والإذعان التاريخي

لا يخلو بناء مسرحي من تقنية السرد سواء أكان سرداً حوارياً على ألسنة الشخصيات الدرامية أم على لسان مجموعة الكورس أو على لسان الراوية . أو كان سرداً تشكيلياً أو سينوجرافياً أو بلغة الجسد أو سرداً تمثيلياً . وهنا يتشكل السرد في مستويات متنوعة ما بين سارد أول وسارد ضمني وسارد ثالث
وفي مسرحية (مسافر ليل) يلجأ الشاعر في التقديمة الدرامية إلى (السارد الضمني) – من خارج الحدث – ليحلل رحلة الإنسان عبر التاريخ تحليلاً إطارياً مكثفاً وتجريدياً ، على متن قطار الزمن ؛ وبذلك الخروج على مبعدة من الحدث نفسه ، يحقق الهدف التنويري من خارج الحدث ، بوصفه مثقفاً طليعياً يعمل على خلق توعية طبقية لدى الغالبية التي ترمز إليها شخصية الراكب باعتبارها المحكومة بعامل التذاكر بوصفه رمزاً للحاكم فالشاعر يستعرض عبر مستويات ثلاثة المسيرة التاريخية للحاكم المتسلط بالحكي – التصويري- على لسان (السارد الضمني) : الراوي مرة وعلى لسان عامل التذاكر (السارد الثالث) - تشخيصاً - يعيد فيه فعل التسلط ومتداعياته أو يحكي بعضه منتحلاً صفة السارد الثاني في مرة أخرى وعلى لسان الراكب تشخيصاً – نفسياًَ- يعيد فيه فعل الإذعان مرة أو يحكي بعضه منتحلاً صفة السارد الضمني في مرة أخرى :
"الراوي : هاهو ذا يتململ سأمانا
إذ لا تستهويه اللعبة
فيجرب أن يلعب في ذاكرته
يستخرج منها تذكارات مطفأة ، ويحاول أن يجلوها
أسفا ، لا تلمع تذكاراته
يدرك عندئذ أن حياته
كانت لا لون لها
يسقط من عينيه أيامه
تتبدد دواماتٍ فوق حديد الأرضية
لا تتكسّر قطعاً وشظايا
إذ ليس هنالك شيء صلب
تراك .. تراك .. تراك
يتذكر مسبحته
يستخرج من جيب السروال الأيمن
تهوي من يده ، يتفقدها بأصابعه ،
فتروغ لترقد بين الكرسيين
يجهد أن ينقذها ، فتغوص .. تغوص .. تغوص ..
ويظل يفتش حتى تتناثر سبحته حبات
تتساقط فوق حديد الأرضية
تراك .. تراك .. تراك "
لأن السارد يمثل ما تراه الشخصية فحسب كما لو كان ينظر عبر عينيها أو كما لو كان "شاهداً غير منظور" يقف إلى جانبها السرد بوساطة المؤلف أو بوساطة الشخص الأول " ولأن السارد الضمني الراوي يقوم مقام الشاعر لذا يتكشف الدور التنويري تلميحاً ، لا ينفصل عن طبيعة التصوير الشعري ؛ على اعتبار أن الشعر "لمحٌ تكفي إشارته" – حسبما قال البحتري-، وحيث يستشف ما وراء الصورة من معانٍ أو دلالات. هنا – يمكننا أن نلمح بمنظور نظرية الانعكاس وعلى ضوء مصباح سيميولوجي خصوصية الشاعر نفسه .
من وراء غيم المعاني في عرض السارد الضمني (الراوي) فاللعب في الذاكرة ، لا يفيد من خوت حصّالة ذاكرته من تسجيل مادي لأفعال مجسدة لهويته . فعندما لا يكون للإنسان تاريخ مادي ملموس هو موضع تأثير إيجابي في واقع الآخرين ؛ قبل أن يكون مؤثراً في واقعه الذاتي ؛ فإنه يلوذ بمظاهر شكلية ، يتمسح بها . وهكذا يلوذ الراكب بمظهر تديّني .. بعد أن أدرك (أن حياته كانت لا لون لها) وهو يسترجع شريط ذكرياته عبر رحلة إذعانه التاريخية التي سيّرها الحكام المتسلطون باعتباره رمزاً لعامة الناس (المحكومين) على مر التاريخ ؛ ذلك أن الذاكرة هي القدرة على التمثل الانتقائي Selectively represent وفي واحدة أو أكثر من منظومات الذاكرة للمعلومات التي تميز بشكل فريد خبرة معينة ، الاحتفاظ بتلك المعلومات بطريقة منظمة في بنية الذاكرة الحالية وإعادة إنتاج بعض أو كل هذه المعلومات في زمن معين بالمستقبل وذلك تحت ظروف أو شروط محددة "
فعندما يكون التدين شكلياً وسطحياً (ظاهرياً) ؛ فإن ما وراء المظهر نفسه يروغ منه وينفلت . ولنلحظ لفظة (جيب سروال الأيمن) فمظهر تدينه في جيب سرواله ، وهو يخرجه عند الحاجة أو عند الفراغ في محاولة تبريره لخواء حياته من فعل مادي إيجابي له في حياته الإنسانية ، بالانتساب إلى مفردة من مفردات الاتباعية الدينية – باعتبار فكرة "اليمين" فكرة تدينية – وباعتبار " المسبحة " وسيلة ضبط إحصائي لطقس التسبيح والحمد – الذي ينسب فاعله إلى اليمين (الفكر الاتباعي) .
فاستخدام المسبحة أداة قياس وإحصاء عددي لأقوال الحمد وآلية ترديداتها ، وهنا يحل ظل التعبد محل العبادة مثلما تحل خصلة من شعر الحبيبة محل الحبيبة نفسها – وفق الفشتية – على أن خصوصية ما كامنة في آلية استدعاء الشخصية للحظة ، حيث يمد السارد الضمني الصورة المستعادة بخيوط الطقس التراثي ؛ لخلق لحظة لم تكن قائمة من قبل ، مع إنها الابن الشرعي لماضي شخصية الراكب – بتعبير صلاح عبد الصبور نفسه - إلى جانب كونها بمثابة الابن الشرعي للمستقبل .. فاستدعاء الراكب التجريبي لمذخور ذاكرته ، وليد حالة السأم التي انتابته – حسبما أشار السارد الأول - :
"هاهو ذا يتململ سأمانا
إذ تستهويه اللعبة
فيجرب أن يلعب في ذاكرته
يستخرج منها تذكارات مطفأة ، ويحاول أن يجلوها "

المسكوت عنه في اللحظة الدرامية المختزلة :
وعندما يتكشف خواء تلك الذاكرة وبهتان ما حوته يمده (السارد الضمني الراوي / الشاعر نفسه) بلحظة مختزلة ، إذ تمتد يد الراكب إلى الجيب الأمن لسرواله – الأيمن تحديداً – ليخرج منه شيئاً لا يخرج إلاّ من الجيب الأيمن – المسكوت عنه - وهنا يوظف التداعي التلقائي المدرب للاثنين : (السارد الضمني/ الراوي / الشاعر) و( السارد الثاني / الراكب) الذي يعاد تصوير فعله بالسرد التشكيلي عبر ذهن السارد الضمني وعبر ذهن المتلقي فور تلقيه للصورة على لسان (السارد الضمني) فيكفينا أن نلحظ ما وراء ذلك التداعي التلقائي المدرب حيث تمتد يمين الراكب إلى الجيب الأيمن في سرواله ليخرج لا إرادياً مسبحته . وما وراء فعله – المسكوت عنه- يشكل نواياه المستقبلية وهي الهجوع إلى الإذعان والتسليم : فالسأم إذاً سلمه للعب في ذاكرته ؛ وخواء ذاكرته من أي شيء إيجابي يعتز هو نفسه به ، يسلمه إلى مخزون طقسي تراثي هو ظل من فعل العبادة.
ولأن الصورة الفنية (الدرامية الشعرية) تتدعم بتداعيات صور أخرى سريعاً ما تتوالد عبر اللحظة المختزلة ؛ لإعادة إنتاج الفعل وصور توالده وتداعياته التي يحكم الشاعر الإمساك بزمامها حتى لا تسقط المغزى التنويري الذي حمّلها به ، بغية الإشارة إلى مظهرية فعله التديّني:
" تهوي من يده ، يتفقدها بأصابعه ،
فتروغ لترقد بين الكرسيين
يجهد أن ينقذها ، فتغوص ، تغوص ، تغوص
ويظل يفتش حتى تتناثر سبحته حبات
تتساقط فوق حديد الأرضية
تراك .. تراك .. تراك "
هكذا تحل آلية المقطع الصوتي لسقوط حبات المسبحة على حديد الأرضية بديلاً عن وحدة صوته المتكررة فيما لو كان قد تمكن من استعمال مسبحته في آلية تكرار جملة التكبير أو الحمد ، لتأكيد مظهرية تدينه ، أو شكليته ، لأنه ما لجأ إلى طقس التسبيح ، وإنما إلى مجرد التلهي بآلية تفض عزلته وتوتره ، وتشعره بالصحبة ، حيث أراد باتخاذ المسبحة رفيق ظل في رحلته . ولكن الشاعر – هنا – يحرمه من تلك النغمة ، مع إنها مجرد ظل رفقة .
وهنا تعمل التداعيات مع التفاصيل (منمنمات الصورة) على منح الصورة لوناً خاصاً بها يمنحها هويتها .. فالشغل على تفاصيل الصورة هو الذي يقودنا إلى سر الصنعة في الشعر والمسرح بتعبير صلاح عبد الصبور
يعتمد صلاح عبد الصبور هنا على حدث يقوم على ثلاثة محاور : (محور معرفي ومحور ثقافي اجتماعي ومحور تشكيلي) ولأن الموقف هنا تأسس على التجريد وإلقاء عبء تجميع مفردات أو جزئيات الصورة ، بهدف خلق حالة مشاركة إدراكية فحسب ، لذلك ألقى بعبء حمل خطاب الحكي على عاتق (السارد الضمني/ الراوي) نائباً عنه ومن ثم لم يصبح هنا مجال للمحور الوجداني.
يقول د.ماهر شفيق فريد في زجره لناقدي إبداع إليوت في تجريده لشخصياته المسرحية : "إن الفن إعادة خلق وليس عملية تسجيل والشخصية الحية في الفن ليست هي التي تتصرف وفق المنطق الحياتي ، وإنما هي التي تتصرف وفق المنطق الفني وحسب قوانين الحتمية الفنية "
يقول د. مصطفى سويف : " إن الشاعر لا يغير ذكرياته ؛ ولكنها تعود إليه متغيرة – وهو لا يقصد إلى وصف الوقائع من حوله بأوصاف جديدة ، لكنها هي التي تأتي حاملة هذه الأوصاف "
وإذا كانت شخصيات مسرحيات صلاح عبد الصبور الشعرية – فيما عدا (ليلى والمجنون) تبدو على مبعدة من أمور الحياة اليومية ومن الرسالة الاجتماعية الواضحة . مع ميل إلى أناقة الفكر والتعبير ، فذلك لكونه صاحب رؤيا خاصة للوجود ، رؤيا شعرية اختارت لنفسها قالباً درامياً . هو كما كان إليوت معنياً بقالب درامي شعري " تتحالف فيه الاهتمامات الإنسانية مع براعة الصنعة ، كي تنتج – في نهاية المطاف – أثراً كلياً لا يختلف ، من حيث الجوهر ، عن الأثر الكلي الذي تخلقه القصيدة أو القصة في نفس متلقيها "
فشخصية الراوي – بوصفه سارداً ضمنياً - تبني اهتمامات الشاعر الإنسانية بخلق حالة تحالف بين ما ينتجه ذهن الراكب من تهويمات ذاكرة البشرية عبر تاريخها الممتد من بذرة الفكر الفلسفي الأرسطي إلى آلة الحرب والدمار بداية من تلميذه الإسكندر حتى الواقع البشري المعاصر فمع أن الراوي وهو السارد الضمني التاريخي ، يحذر الراكب من استدعاء عظيم من العظماء عبر ذاكرته ، حتى لا يسيطر بعظمته من جديد على البسطاء ، بعد أن رآه وقد توقف عند أسماء محاربين طغاة ومحاربين وقادة عظماء وهو يقرأ أسماءهم على صفحة من جلد الغزال أخرجها من معطفه ، بعد أن انفرطت حبات مسبحة تسليته وتبعثرت ؛ غير أن الراكب لم يأبه لتحذير الراوي الضمني - رب العبرة التاريخية - :
" الراكب : الاسكندر
" تك .. تك .. تك "
هانيبال
" تك .. تك .. تك "
تيمور لنك
" تك .. تك .. تك "
هتلر .. متلر .. جونسون .. مونسون
" تك .. تك .. تك "
الاسكندر .. الاسكندر .. الاسكندر
الراوي : معذرة .. لا ينفصل الإنسان عن اسمه
فالعظماء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرة التاريخ
لتسيطر عظمتهم فوق البسطاء
والبسطاء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرتك
ليكونوا متنزه أقدام العظماء
ولذلك خير أن ننسى الماضي
حتى لا يحيا في المستقبل
حتى لا يخدعنا التاريخ
ويكرر نفسه
الراكب : الاسكندر .. تك .. تك .. تك
الاسكندر .. تك .. تك .. تك
إن مناداة الراكب للإسكندر هي مناداة استدعاء غير المحكوم لمن يحكمه ولأنه نادى الإسكندر على وجه الخصوص وهو من هو الغازي الذي يغزو الممالك والأمم مستخدماً الفكرة سلاحاً يقتل به كل من وقف في طريق طموحاته غير المحدودة . لذلك يتشكل الإسكندر أمام عينيه من أي عابر سبيل ، في درب من دروب أي عصر في أي مكان له طموحات سكندرية :
" عامل التذاكر : من يصرخ باسمي ، من يدعوني
من أزعج نومي في راوية العربة
أنت .. ؟
الراكب : معذرة .. من أنت ؟
عامل التذاكر : أنا الإسكندر
في صغري روضت المهر الجامح
في ميعة عمري روضت أرسطاليس
حين بلغت شبابي روضت العالم. "
هذا التصريح صوغ من عقل الشاعر نفسه ، إذ قلب المعلومة التاريخية رأساً على عقب لما رأى الدعوة الأرسطية نحو عولمة ثقافية تحت راية الفكر اليوناني وهي أول عولمة ثقافية في التاريخ وقد حولها الإسكندر إلى عولمة عسكرية اقتصادية ، إذ استبدل الغزو الفكري والثقافي بالغزو العسكري وسيادة العقل بسيادة السيف . وهي سيادة لم تكن لتتحقق لمغامر مستعمر ومتسلط ، دون خنوع جعل من خده مداساً لقدمه ؛ أو مظهر متراخ يأخذ الأمر باستهتار وتهكم ؛ فكلاهما مدخل للتسلط :
" الراكب : مرحى يا اسكندر .. هل أكثرت من الشرب "
هذا العبث غير المسؤول للتسلية أو لاصطناع رفقة مع مسبحة لا تستجيب له ، سريعاً ما يتحول عنها إلى لون آخر من العبث الحقيقي ، مع كائن وظيفي أي صاحب سلطة ؛ فإذا بالعبث يتحول إلى حقيقة :
"عامل التذاكر: لا تعرف قدري .. يا جاهل
قسماً ، سأروضك كما روضت المهر الجامح "
إن فصل البناء الدرامي في هذه المسرحية بين الفعل القولي أو المسموع (حوار الراكب وحوار عامل التذاكر) والفعل المرئي (الوصف السردي للفعل التطبيقي المرئي المادي في حكي الراوي وهو الدال على تحقيق الأقوال) هو بمثابة فصل بين الشعار وتطبيقاته ؛ فما أن يطلق (عامل التذاكر) تهديده ، حتى يصف لنا الراوي منظومة أفعاله تحقيقاًَ لقوله :
" الراوي : تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيمن
يستخرج سوطاً ملفوفاً
تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيسر
يستخرج خنجر
تمتد يد الإسكندر في ثنية سرواله
يستخرج غدارة
تمتد يد الإسكندر في حلقه
يستخرج أنبوبة سم
تمتد يد الإسكندر في جيب خلفي
يخرج حبلاً ..
يتحسسه خجلاناً ، ويقول :
عامل التذاكر : هفواً .. هذا مات به أغلى أصحابي
أعطيت صديقي الحبل ليلعب به
فأساء استعماله "
حكي يستعيد صور إرهاب الحاكم الفردي المتسلط ، الغازي ، فكل الغزاة والعسكريون الحكام مختزلون في هذه المسرحية في شخص الإسكندر. ذلك الغازي الأول باسم العولمة الثقافية ، متشحاً براية الفكر تحت شعار توحيد العالم تحت راية الفكر اليوناني ، تتويجاً لفكر أرسطو ، سلباً لهويات ثقافات الأمم الأخرى ، فسرعان ما ينزع قناع الفكر ويتدرع بقناع القهر المسلح؛ في مواجهة الآخر غير الخانع ، حتى إذا كان تابعه وأداة تحقيق إرادته وأقرب المقربين إليه؛ وهو يصفيه تصفية جسدية ثم يعلن على الملأ عبر وسائله الإعلامية بأن الرجل قد انتحر – بعد انتهاء مهمته- :
"هل تدري ؟
كلماتي في معناه صارت من مذخور التاريخ الأدبي
لم أكتبها ، لكني شاهدت وزيري يكتبها
وصرفت له خبزاً ونبيذاً ، حتى أنهاها
حتى علمني أن ألقيها إلقاء مأساوياً
يخضع لأصول النحو
فأنا أخطئ دوماً في الفاعل والمفعول "
هكذا يمسك الشاعر بطرف حبل التداعيات ، يرخى للصورة بالقدر الذي لا يسمح لمفردات التكوين في التعبير الدرامي الشعري بالانفلات أو التشتت الذهني للمتلقي . وتلك خاصية من خصائص سر الصنعة عند صلاح عبد الصبور تشير إلى بعد من أهم أبعاد العملية الإبداعية وهو السيطرة على السياق والإمساك بالجزئيات والتحليق فوق أسوار الكل بما يسمح بالتنقل بين الكل والأجزاء بشكل ديالكتيكي وبما يسمح بالنمو المتصاعد للعمل الإبداعي وللمبدع أيضاً، فالمبدع ينمو مع عمله ويكتسب خصائص هذا العمل "
لذلك لا نتشتت ذهنياً عندما ينتقل في تخلص درامي وجمالي من وصفه لحال صديقه الذي أعطاه المسؤولية (الحبل) فشنق بها نفسه ، إلى استعراضه الموجز لتاريخ حبل السلطة ودور وزيره في تمجيدها وتدريبه على إلقائها . والتأريخ لها في مقابل خبزه ونبيذه (ببطنه) وصولاً إلى طمع ذلك الوزير في ولاية ثمناً لأداء وظيفته :
" حتى علمني أن ألقيها إلقاء مأساوياً
يخضع لأصول النحو
فأنا أخطئ دوماً في الفاعل والمفعول
كان وزيري طماعاً ، إذ طالبني بولاية
ثمناً لدخول التاريخ ككاتب
فوهبت وزيري الأرض بأكملها كي يرقد فيها "

ليس الفاعل والمفعول هنا سوى الجاني والمجني عليه . إن الاستعارة والكناية وألوان التورية المجازية تصنع المسكوت عنه في التعبير الدرامي الشعري والنثري ، لذلك لا جب فهم الصورة الإبداعية من ظاهر القول . يقول الشاعر الأمريكي إدجار ألن بو : " يوجد في كل التعليقات المكتوبة عن شكسبير خطأ جذري لم يفطن إليه أحد . إنه يتمثل في محاولة شرح شخصياته لا على أساس أنها من صوغ العقل الإنساني ، وإنما على أساس أنها موجودات فعلية على وجه الأرض "
لا يستغرق فهم طبيعة فعل الحاكم الفرد المتسلط الكثير من التفكير مع اختزال الشاعر لأبعاد الشخصية ، حيث لا نكاد نرى ملمحاً واحداً من ملامح بعده الجسمي أو الاجتماعي أو النفسي، وإذا كان رسم الشخصية النمطية رسماً تجريدياً وفق ما جرى عليه مخططات الاتجاه الحداثي في إبداعاته التفكيكية ، وهنا يتبين لنا دور المؤلف الشاعر في تمليك شخصياته خبراته هو نفسه ، ومعارفه ، بحقنها في دماء تلك الشخصيات ، بوصفها من خلقه وصلاح عبد الصبور هنا ، إذ يتستر خلف (الراوي) ويجعله خليفته على كون خليقته إذ يقعده على عرش المستوى السردي الأول ، فإنه يملكه أمر كشف تاريخ حاضر شخصياته الرمزية (الراكب) و(عامل التذاكر) بوصفهما شخصيتين رمزيتين ، وكشف مبكر لفعلها المستقبلي ، فيما هو أقرب إلى مخطط أو دراسة جدوى تشخيصية لفعلها القادم قبل أن يقوم أحدها بإعادة إنتاجه امامنا . فالراكب وعامل التذاكر كلاهما لا يمتلك أي منهما تاريخاً ، سابقاً ، لذلك رأينا " "أنا " : الراوي " لما رغبت في التقاء الآخرين سعت إلى الالتجاء تحت رعاية الـ "هو" (المؤلف) أي تحت رعاية نظام رموز ممتلئ ، حيث الوجود ، لا يتداخل والعلامة وبالمقابل فإن ظلاً من الماضي يتخلل حُبسة الناقد إزاء الـ (أنا) "
هكذا التقت (أنا) : (الراكب) السارد الثالث – تشخيصاً تشكيلياً سردياً – بـ(هو) : (الراوي / السارد الأول) وكذلك فعلت (الأنا) عامل التذاكر المتوالدة أو المتشظية في أنوات متعددة ومتباينة – تشخيصاً سردياً تشكيلياً – وبذلك أصبحت للراكب طبيعته الخانعة تبعاً لجموده في درجته على السلم الاجتماعي ، بينما تملك شخصية (عامل التذاكر) صوراً متعددة للحاكم الفرد المتسلط المستعبد لتلك (الأنا) الخانعة الرابضة في موقعها الطبقي الساكن .
يجرنا هذا التأويل إلى القول مع رولان بارت أن : " الناقد هو من سعى إلى الكتابة ، والذي يملي انتظار عمل أدبي إضافي ، يصاغ خلال البحث عن ذاته . وتكمن مهمته في إكمال مشروع الكتابة ، ومتجنباً إيّاه في الآن ذاته . الناقد كاتب إنما حتى إشعار آخر "
ولأن " الناقد كما الكاتب ، يتمنى من القراء أن يثقوا ويوقنوا أكثر بقراره الذي اتخذه بالكتابة ، ولا يسعه أن يوقّع هذا التمني ، عكس الكاتب ، لذا يبقى محكوماً بالخطأ – وبالحقيقة "
لذا أثنّي على ما سبق لي قوله حول تأثر شخصيات صلاح عبد الصبور بالظواهرية الهيجيلية، حيث " تبدو الظواهرية الهيجيلية في محاولات شخصيات صلاح عبد الصبور لصنع هويتها ، حيث يسطع فكرها سطوعاً جدلياً على الواقع ، ومن ثم يرتد إلى الشخصية كما هو ، لأنه لا يجد في الواقع إلاّ صوراً ذهنية . وهو في رحلة سطوعه على ذلك الواقع لا يطور فيع فعلاً ولكنه ينمي الفكر فحسب ، ويطور العقل . من ثم فإن تحقيق الهوية لا يتمثل عندها إلاّ تمثلاً ذهنياً ، ومن ثم يكون التغيير الذي يمكن حدوثه تغيراً فكرياً فحسب ، وبدا تحقيق محاولاتها للهوية الفكرية المتمثلة في ذهن الكاتب "
هكذا كان (الحلاج) في محاولاته التفاعل المادي للثائر مع العامة ، فالوعي الذي ينقله إلى العامة وعي ذهني . وهكذا كان (الملك) حتى موته غير قادر على المستوى الواقعي على التفاعل المادي للمغازل ؛ فالشاعر يلقنه الغزليات تلقيناً ؛ كما يلقن جواريه :
" الشاعر : معذرة يا مولاي
لكني لقنت الأخرى كلمات مبتكرة
قد ترضي رغبتك الملكية "
"الشاعر : (ملقناً الملك في صوت خفيض)
يتنزل صوتك مثل رنين الجرس الفضي المتفرد ،
يتقطر من برج متشح بمروج الغيم الزرقاء "
" ليس للملك من فعل الغزل إلاّ ظله ، فهو ليس مغازلاً على مستوى قدراته الذاتية الواقعية ، إنما يكرر صورة المغازل التي لم تكن سوى صورة متخيلة في ذهن شخصية الشاعر "
وكذلك الأمر مع جواري الملك :
" الشاعر : لا .. لا .. قد ضاع المشهد . نسيت هذه المرأة أجمل ما فيه
سامحني يا مولاي
(للمرأة) مازال هناك حديث عن قيثارة حنجرتك
والأوتار تناشد مولانا أن يلمسها بأصابعه النورانية
مازال هناك حديث عن إغماضة عينيك
وأنت تغنين لمولانا عندئذٍ
إنك تحترقين شوقاً أن يرقد مولانا
في دفء الأمواج العسلية
وأخيراً كان جلالته سيقول :
خطواتك كالموسيقى إذ تتوافق في ذهن الفنان
عندئذ ستقولين :
بعثر هذي الأنغام على سلم رغبتك الملكية
وبصوت يتقطع آهات في حلقك
الملك : آه .. ما اتعس حظي
راقت لي الألفاظ كثيراً هذه المرة
لكن نسيتها . "
" الملك لا يؤدي بأحاسيسه هو ، ولا المرأة الثانية تفعل ذلك "
ليس للملك ولا لجواريه من الغزلية غير اللفظ ، فالـ(أنا) الشاعرة تمنحه صورة بالخطاب الغزلي ومضمونه دون أحاسيسها ، ولأنه ظل مغازل ، لذلك غابت عن اللفظ الأحاسيس ؛ ومن ثم غابت المصداقية وافتقدت الخصوصية .
والأمر نفسه عند الأميرة ووصيفاتها ؛ إذ ليس لها ، ولا لوصيفاتها غير ظل الفعل ، باجترار ذكريات فعل مضى وانقضى ، بإعادة إنتاجه ، ليخرج تشخيصاً لظل حبيبها الذي هجرها ، وظل أبيها المغدور من ذلك الحبيب الغادر (السمندل) حتى الشاعر الذي جاء مخلصاً (القرندل) هو أيضاً ثائر ظليّ لأنه أتى من حيث المجهول ، ومضى في غياهب المجهول ، كما لو كانت الأرض قد انشقت عنه فجأة أو هبط من السماوات العلى فبدا كمخلص وهمي ، أو غيبي .
لذلك يمكن القول إن صلاح عبد الصبور ، قد صنع شخصياته المسرحية ظلالاً لواقع سحري، واقع لا يشبه الواقع الحياتي . ذلك أن "الشعر عندما ينأى بعيداً عن إيقاع لغة الحياة ومصطلحاتها الجارية ، يفقد حيويته ، لذا فهو يميل إلى تقطير لعنته الخاصة من لغة الكلام العام المعتاد "
يقول إليوت : " إن كاتب الدراما الشعرية ، ليس مجرد إنسان ماهر ، في فنين اثنين ، وحاذق في أن ينسجها معاًَ . وهو ليس الكاتب الذي يستطيع أن يزخرف مسرحيته باللغة الشعرية والأوزان وإنما عمله يختلف عن عمل (الكاب المسرحي وعمل الشاعر) لأن نموذجه أكثر تعقيداً ، وأكثر أبعاداً .. بكل قواعد الدراما البسيطة الصريحة ، ولكنها تغزلها غزلاً عضوياً في تصميم خاص ، أكثر ثراء . "

كان الشعر ومازال مرتبطاً بمواقف رومنسية ، كما كان المسرح ومازال مرتبطاً بمواقف رومنسية ، ولئن جسد المسرح الشعري مواقف الحياة اليومية وفق تقنيات الواقعية أو وفق تقنيات التعبيرية والملحمية ؛ فقد جسد مسرح صلاح عبد الصبور الشعري شخصيات عبثية في مواقف عبثية وفق تقنيات مسرح العبث ، فكان ذلك فتحاً في مجال المسرح الشعري. فالتداعيات وعدم الترابط الفكري واللغوي والمقاربات أو المجاورات المعرفية المتواثبة وتجريد الشخصيات والمواقف والآلية والتكرار وسمات الحكي الناقص والتناقض فيما بين القول والفعل واستهداف الدهشة ، ماثلة في (مسافر ليل) ، وفي (الأميرة تنتظر) وفي (بعد أن يموت الملك) وهي حداثية تفكيكية ، تفكك النسق الاجتماعي والسياسي في واقع أنظمتنا السياسية ويفكك خطابها الديماجوجي وظاهرة تسلطها التاريخية على شعوبها ، كما يفكك خطاب استكانة الإنسان العربي وإذعانه المهين ، ويفكك دوره في صناعة حكامه المتسلطين على مدار تاريخه الطويل .

الهوامش :
التعبير المسرحي الشعري
بين التأمل الذاتي والانفتاح على المعنى
د.أبو الحسن سلاّم
 مهاد تأملي :
لعل من أهم خصائص الفكر في بنية الصورة الشعرية هو تقنع فكر الشاعر في خطابه الشعري بين طيات تعبيره بما ينطوي على نوع من البوح الذاتي المتأمل الذي ينفلت محمولاً على جناح وعي الشاعر أحياناً فيبدو مغلفاً بالمباشرة أو ينسرب من تحت جناح وعيه ليشف عن المسكوت عنه في سكتته الموضوعية في محراب الذاتية المتأملة – بما يشبه النقطة العمياء في مسار القصيد الشعري – وتلك مزية التفرد الشعري الذي يضيف إلى التجربة الشعرية مزية جديدة تشكل علامة فارقة بين شاعر وشاعر. غير أن تلك السكتة الموضوعية أمام الذاتية المتأملة التي تشف عن البوح الذاتي المتأمل وإن تناسبت مع شعر القصيدة فهي لا تتناسب على طول الخط مع الصياغة الدرامية بشعر المسرح ؛ إلاّ إذا ارتبط البوح التأملي الذاتي بشخصية مسرحية بعينها بما يتناسب مع أبعادها الاجتماعية والثقافية والنفسية وفي الحدود التي لا تستغرق من المتلقي للعرض المسرحي الشعري إلاّ زمن ترجمتها ترجمة معنوية فورية. والواقع يكشف عن استحالة ذلك في تلقي الصورة الشعرية حالة تبتلها التأملي الذاتي إذ أنها عندئذ تحتاج إلى زمنين أحدهما لفك شفرة الغلاف الذهني للصورة الشعرية في حوار الممثل (أولاً) تمهيداًَ للترجمة المعنوية لتلك الصورة من جملة تعبيرات الشخصية على لسان ممثلها (ثانياً) .. على اعتبار أن الأصل في عملية الإرسال والاستقبال في العرض المسرحي هو حالة الحضور الآني الذي يفترض ترجمة المتلقي الفورية لخطاب الشخصية المسرحية المحمول وجدانياً على لسان الممثل. وهو أمر يبدو متعذراً أمام الصورة الشعرية الدرامية المصطبغة بالتأملات الذاتية التي يشكل بوح الشخصية القناع الذي ينسرب من ورائه بوح الشاعر نفسه محمولاً على لسان فكر الشخصية . وهو أمر يلزم التلقي بكل مستوياته وطاقاته باستغراق زمنين وصولاً إلى معنى الخطاب الجزئي. أولهما: لفك شفرة الصورة المركبة من الصورة الذهنية إلى الصورة المعنوية ، وثانيهما: اكتشاف الدلالة طبقاً للمتوسطات القرائية (متوسطات التلقي) . وبذلك تفوّت عملية فك الشفرة الذهنية للصورة الشعرية الدرامية على المتلقي إمكان تحصيل حديث الممثل المتواصل الذي لا ينتظر الجمهور حتى يفك شفرة صورة شعرية صوتية انتهى من أدائها .
هذا البحث إذن معني بالوقوف عند إشكالية التعبير الشعري الدرامي عند تجسيده مسرحياً بحيث كان مفترضاً أن يكون تعبيراً درامياً شعرياً ، تبعاً لمقتضيات أسبقية الدراما على الشعر في النص المسرحي الشعري بحيث تصبح الدراما صاحبة العصمة على الشعر في الكتابة المسرحية الشعرية ، باعتبار الدراما تصويراً للفعل وليس تكريساً للصورة الشعرية على حساب الفعل – تبعاً للنظرية الأرسطية ولمتتابعاتها تحت مظلة المحاكاة أو مناقضاتها الإيجابية في حكي الدهشة التغريبية أو في حكي الدهشة العبثية السلبي.
على أن أسبقية الفعل في الدراما الشعرية على لغة الحوار الشعري لا يجب أن تطفيء وهج الطاقة الانفعالية لصالح الطاقة التأملية الفكرية ، وإنما توازن بينهما ، بما يتيح للفعل الدرامي المتجانس مع طبيعة الشخصية المسرحية فكراً وبيئة وثقافة متفردة أن يتحقق درامياً عبر سياق شاعري يتخذ من الشعر لغته ومن البواعث والعلاقات وعناصر التصوير الدرامي للحدث شاعريتها ليجسد هوية كل شخصية في النسيج الدرامي.

 البوح الذاتي المتأمل وإشكالية تلقي الصورة الذهنية :
تزخر مسرحيات صلاح عبد الصبور بوقفات البوح التي تقف عندها شخصياته وقفة اضطرارية لتنفث شحنة معاناة هنا وهناك مع تباين أسبابها . فإذا نظرنا في مسرحية (مأساة الحلاج) فلسوف نلحظ ذلك التباين ما بين بوح الشعور بالذنب ، وبوح التأسي وبوح المواساة، وبوح التأمل وبوح الإدانة وبوح الحض والتحريض ؛ ففي وقفة الحرفيين الدامعة حول الحلاج مصلوباً على شجرة في ميدان الكرخ ببغداد يتكشف البوح عن شعور بفداحة ما اقترفوه من ذنب في شهادة الزور التي قدموها ضده في مقابل دينار لكل منهم ، تلك الشهادة التي سلمته للجلاد :
"المجموعة : صفونا . صفاً .. صفاً
الأجهر صوتاً والأطول
وضعوه في الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتواني
وضعوه في الصف الثاني
أعطوا كلا منّا دينارا من ذهب قاني
برّاقاً لم تلمسه كفُ من قبل
قالوا : صيحوا .. زنديق كافر
صحنا زنديقُ .. كافر
قالوا : صيحوا فليقتل إنّا نحمل دمه في رقبتنا
فليقتلْ إنّا نحمل دمه في رقبتنا
قالوا : امضوا فمضينا
الأجهر صوتا والأطول
يمضي في الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتواني
يمضي في الصف الثاني "
لم يمض استرسال فقراء الحرفيين في بوحهم اعترافاً بالذنب مدفوعاً بتيار الشعور بفداحة الفعل ، وإنما انسرب من خلف جنحه المظلم بصيصاً من الوعي الفكري للتعبير الدرامي الذي تدثر ببردة التعبير الشعري. وهو أمر يحتم على الشاعر أن يبني التعبير على نحو يحرّف الصورة عمّا هو مألوف في النسق الحياتي وفق العادة والمألوف ليبدو الفعل الدرامي مشوهاً من حيث النسق النظمي البنائي ليحقق ضرورة براجماتية نفعية.

بوح الندم بين الضرورة الحياتية والضرورة الدرامية والجمالية:
في الحياة تختلف ضرورة النسق الوظيفي في صورة الفعل ورد الفعل عن ضرورته في التعبير أو التصوير والتشكيل الأدبي والفني. اصطفاف مجموعة من الناس اصطفافاً عفوياً تلقائياً ، أمام حدث ما أو حوله ، غير مقيد بنسق صناعي فيه إعمال عقلي أو تدبير منظم لذلك التجمع ، من هنا يبدو النسق من حيث مظهره عشوائياً ، بحيث يلبي الموضع الذي يقف فيه كل فرد من أفراد التجمع ، حاجته إلى الرؤية والسمع الحاضر لما هو حاصل مما اجتذبه إلى ذلك التجمع ، وهو أمر قد يستدعي تغييرات في مواضع الأفراد ، تبعاًَ لضرورة كل منهم إلى التعرف على كنه ما يجري. وهو أمر طبيعي ، لا يستهدف منه المتابع الحصول على معلومة حول ما يجري ، وليس الوصول إلى جمالية ما ، ولئن تحققت ؛ فذلك يكون بمحض الصدفة . وهذا غير ماثل في الصورة التي نسقها الشاعر هنا على النحو المألوف . أما اصطفاف مجموعة من الناس على نحو يلبي الضرورة الحياتية وفق نسق وظيفي مصنوع ، كاصطفاف الجند في طابور أو تدريب عسكري ، فيستلزم أن يقف الأقصر من الأفراد في الصف الأول ، ويقف الأطول فيهم في الصف الثاني ، يتبعه الأكثر طولاً في صف ثالث . وهكذا تتشكل منظومة الفصيلة أو الكتيبة نسقاً وظيفياً يمكّن الجميع من المواجهة بالنظر إلى الأمام وفق الوجهة أو المسيرة المحددة تحديداًَ مركزياً وحاسماً. وهذا غير ماثل في نسق الصورة الجماعية – المحكي عنها – في هذا المنظر الحزين فالنسق في اصطفاف فقراء الحرفيين -هنا – تفرضه الضرورة الفنية الدرامية الوظيفية في نسق جمالي مشوّه ، إذ وضع الأطول قامة والأجهر صوتاً في الصف الأول وهو أمر غير مألوف وفق الصورة الوظيفية التقليدية ؛ فجهارة الصوت وطول القامة هما أساس ترتيب نسق الصف في هذه الصورة ، وذلك لأن هدف المنظمين لتلك التظاهرة هو فضح الحلاج والتشهير به من ناحية وإعلان أصحابه من الحرفيين – من ناحية أخرى – وهم الذين وهبهم كلماته الحاضة لهم ليصلحوا أحوالهم المعيشية في اتجاه حثهم على عدم السكوت على حقوقهم المهضومة من قبل الأغنيء والحكام – لإدانته بتهمة الزندقة والكفر . فالأطول أكثر إيصالاً للصوت لمسافة أبعد ، خاصة مع جهوريّة الصوت. ومن الناحية الجمالية ؛ فإن في النسق تشويهاً مقصوداً لصالح الدلالة الدرامية ، فهذا التشويه قصد به خلق حالة من حالات الدهشة المتأملة للنسق المعكوس بما يغاير الصورة الاعتيادية ، والدهشة حالة من الحالات التي تستدعي التساؤل والتفكر اللحظي ، في محاولة اكتشاف سببية – بناء النسق على النحو الذي تعيد المجموعة تصويره بالحكي السردي. كذلك ما يستشفه المتأمل المؤول لدلالة لفظة (الأطول) حيث يجوز فهمها على أنه الأطول في فرض رأيه أو صوته على الآخرين وفهم لفظة (الأقصر) بضعيف القدرات ؛ إذ أنهم بحكم وضعهم في الصفوف الخلفية هم تابعون للأطول باعاً. وبذلك تكون الجمالية نابعة من لذة الشعور – المتأمل المؤول- بالتفوق لإدراكه كنه تشويه البنية الدرامية في الصورة الشعرية .

البوح التبريري ودرامية الاسترجاع:
من ألوان البوح في شعر الصورة الدرامية ذلك البوح الذي ينحو منحى التبرير لإبراء الذمة ونفضاً لتبعات الصمت وعدم المبالاة . وهو بوح استرجاعي ، إبراء للذمة ؛ وهو ماثل في تظاهرة جماعة الصوفية أمام مشهد الحلاج مصلوباً في الميدان ؛ ذلك أن الشعار عندهم أهم من صاحبه ، هو عندهم كما النحلة الملكة ؛ تموت فور إنجاز مهمتها :
"الفلاح : فلنسأل هذا الجمع
من أنتم ..؟
المجموعة: نحن القتلة
أحببناه فقتلناه "
الواعظ : لا نلقى في هذا اليوم سوى القتلة
ولعلكم أيضاً حين قتلتم هذا الشيخ المصلوب
المجموعة : ... قتلناه بالكلمات
الفلاح : زاد الأمر غرابه !
المجموعة : أحببنا كلماته
أكثر مما أحببناه
فتركناه يموت لكي تبقى الكلمات
التاجر : من أنتم ؟!
المجموعة : أصحاب طريق مثله
الواعظ : هل خفتم لما صاح الفقراء
فنكرتم أمره ؟
المجموعة : خفنا .. لا .. لا ..
لا يخشى الموت سوى الموتى
أنفذنا ما أوصانا به
الواعظ : أوصاكم به ..؟
المجموعة : كنّا نلقاه بظهر السوق عطاشا فيروينا ..
من ماء الكلمات
جوعى ، فيطاعمنا من أثمار الحكمة
وينادمنا بكئوس الشوق إلى العرس النوراني "
هنا نقف أمام غرابة الصورة وغرابة الفعل .. فالمحب لا يقتل حبيبه . غير أن للقتل في عرف المحبين أداة وحيدة هي عدم مبالاة المحب بحبيبه ، وحبهم له لأنه من صنع لهم شعاراً يستظلون بظله فلما انتهى من صنعه أحبوا الشعار وهاهم يرددونه ملقين تبعة قتله على ذلك الشعار فقوله كان قاتله :
" مقدم المجموعة : كان يقول :
إذا غسلت بالدماء هامتي وأغصني
فقد توضأت وضوء الأنبياء
كان يريد أن يموت ، كي يعود للسماء
كأنه طفل سماوي شريد
قد ضل عن أبيه في متاهة المساء
كان يقول :
كأن من يقتلني محقق مشيئتي
ومنفذ إرادة الرحمن
لأنه يصوغ من تراب رجل فان
أسطورة وحكمة وفكرة
كان يقول :
إن من يقتلني سيدخل الجنان
لأنه بسيفه أتم الدورة
لأنه أغاث بالدما إذ نخس الوريد
شجيرة جديبة زرعتها بلفظي العقيم
فدبّت الحياة فيها ، طالت الأغصان
مثمرة تكون في مجاعة الزمان
خضراء تعطي دون موعد ، بلا أوان
وحينما أسلمه السلطان للقضاة
وردّه القضاة للسلطان
ورده السلطان للسجان
ووشيت أعضاؤه بثمر الدماء
تم له ما شاء
هل نحرم العالم من شهيد ؟
هل نحرم العالم من شهيد ؟
الواعظ : أو لم يحزنكم فقده ..؟
المجموعة : أبكانا أنا فارقناه
وفرحنا حين ذكرنا أنا علّقناه في كلماته
ورفعناه بها فوق الشجرة "
لم تكن تلك التعبيرات التأملية سوى تمثل لتعابير الصوفية سكنت شاعرنا كما سكنت الحلاج نفسه.
تضمن هذا البوح الكثير من المفردات والمفاهيم الصوفية ، التي يغيب مغزاها عن المتلقي ربما على اختلاف مستوياته الثقافية وهو أمر يحول بين المعنى الجلي والمفهوم وبينه، وهو أمر لو شغل به فكر المتلقي المشاهد للعرض لبرهة قصيرة لضاع منه تحصيل معان حملها أداء حوار تال للمجموعة نفسها في إطار النسق الأدائي لبوحها في تظاهرة إبراء الذمة، وإعلاء الشعار على صاحبه . وهو إعلاء لا يتحقق إلاّ بمساعدته على نوال الشهادة . وهو أمر قريب من فكرة الخلاص في الديانات الأوزيرية ثم المسيحية بعد ذلك ، وفي فكرة الخلاص في الاستشهاد الحسيني عند الشيعة . فما أشبه هذه التظاهرة التطهيرية بتظاهرة الشيعة السنوية عبر مسيرة جلد الذات الجماعية ، التي تنقلها لنا الفضائيات في ظل الاحتلال والممارسات البهيمية المجهولة الانتساب والأسباب. وفي هذا الإعلاء إحياء للفكرة التي زرعها الحلاج بكلماته . والإحياء لا يتحقق إلا بري تلك الشجيرة (الشعار) بدمائه . فالخلاص في نهاية المطاف لا يتحقق بالكلمات وإنما بالدماء.. فلكي تحيا الفكرة وتتوهج ، لابد من التضحية بصاحبها . وبديلاً عن أن تكون الفكرة سبباً في حياة أفضل لمعتنقها تصبح سبباً في الموت.
البوح الإسقاطي (بوح القناع):
من البوح ما كان بوحاًَ إسقاطياً متمرداً ذا خلفية أيديولوجية ، وهو بوح مواجهة فكرية . ومثاله في مواجهة السجين الثاني للحلاج في الزنزانة ؛ وهو بوح يتقنع خلفه الشاعر ؛ إذ يحمل كلماته على لسان السجين الثاني ؛ هو بوح متعارضين أحدهما سلبي ، وتواكلي ، والآخر إيجابي :
" السجين الثاني : وبماذا تحيي الأرواح ؟!
الحلاج : بالكلمات
السجين الثاني : أتراك تقول ..
صلوا .. صوموا .. خلوا الدنيا واسعوا
في أمر الآخرة الموعودة
وأطيعوا الحكام وإن سلبوا أعينكم يتنزى منها الدم
رصوها ياقوتاً أحمر في التيجان
بشراكم ، إذ ترثون الملكوت
عفوا ، هذا لفظ من ألفاظ شبيهك "
مع أن الحلاج قد أدرك أن محاوره الناقض لخطابه يشبّهه (بابن الإنسان) الأمر الذي استدعى شكره له ، فمال قليلاً نحو النقد الذاتي ، إلاّ أن إدراك التلقي لذلك المعنى بعيد إلاّ على قلة من المثقفين :
"الحلاج : شكراً ، تعطيني أعلى من قدري
لكن في قولك بعض الحق
فأنا أحياناً أصرخ فيهم : خلوا الدنيا الفاسدة المهترئة
ودعوا أحلامكم تنسج دنيا أخرى "
ومع ذلك فإن بوح نقده الذاتي – هذا – يواجه ببوح ناقض له ، مفكك لمضمونه السلبي :
" السجين الثاني : دنيا أخرى من صنع الأحلام ؟
الحلاج : الحلم جنين الواقع "
ولأن البوح في الحوارية الوجاهية بين الرأي والرأي الآخر هو بوح إدراك متبادل في حالة من التعارض المحمول أحدهما على تيار وعي متبن لتجربة عملية في مواجهة وعي استلابي متبن لفكرة نظرية أو مجرد شعار .
ومثاله من (الحلاج) أيضاً المواجهة التي تمت بين القاضي أبي عمر والحلاج في مشهد المحاكمة :
"أبو عمر : يا حلاج .. أتدري لم جئت هنا ؟
الحلاج : ليتم الله مشيئته يا سيد
أبو عمر : هذا حق ..
والله تبارك وتعالى
قد ثبت في كف خليفتنا الصالح
أبقاه الله
ميزان العدل وسيفه
الحلاج : لا يجتمعان بكف واحدة يا سيد
أبو عمر : هذا قول من فتّان القول
لا يدركه أمثالك من أهل الفتنة
ابن سليمان : حلو .. حلو .. "
بوح النوايا في دراميات التنفيس والتنفيث :
من البوح ما كان إعلاناً عن النوايا .. فهنا يتطور البوح ليصبح بوحاً للنوايا . وهو لون من ألوان التنفيث عن ضغينة. وهو بوح تهديد ووعيد ؛ عندما يكون البوح كله إسقاطي ؛ فمنه التنفيث، وهو بوح مرضي ومن التنفيس تفريجاً عن كرب أو معاناة *. ومن بوح النوايا ما ينفثه القاضي أبو عمر حيث يصرح بما ينتويه من شر ضد الحلاج بما يخرج عن حيدة القضاء :
"الحلاج : لم يفتنّي قولك يا سيد
أبو عمر : سيروعك قولي فيما بعد
فاسمع وارتع
مولانا لا يدفع عبداً ممن وُلِّى
فيهم للسيّاف
إلاّ إن أحصى ما فرّط من أمره
في ميزان الإنصاف
مولانا يدري من زمن . أنك تبغي
في الأرض فسادا
تلقي بذر الفتنة
في أفئدة العامة
وعقول الدهماء
تتستر خلف الذقن الشهباء
أو أثواب المجذوبين الفقراء
والأقوال الغامضة المشتبهات القصد
إذ تسبكها وتقفيها كهذاء الشعراء
قل .. ماذا تبغي بهذائك؟
هل تبغي أن يضع المسلم ..
في عنق المسلم سيف الحقد ؟
الحلاج : لا .. يا سيد
بل أبغي لو مد المسلم للمسلم
كف الرحمة والود
أبو عمر : ولهذا تعرض للحكام
من أهل الرأي وأصحاب النعمة "
بوح الفضفضة (الديماجوجي) ودرامية المسكوت عنه :
حيث يطلق القاضي افتراضات مطلقة لا دليل على صحتها . إذ يتحول البوح التنفيثي إلى بوح مسلح بالوعي الطبقي المتقنع بالنص القرآني ليخرس أي قول مخالف لقوله من أن المحاكمة هي لقضية سياسية ، قضية رأي واعتقاد ؛ بخاصة والقاضي أبو عمر الحمادي هو قاض من قضاة المالكية المعروفين بتقربهم من الخلفاء والأمراء :
"أبو عمر : ماذا تبغي ؟
أن يختل الناموس ويصبح أمرُ العامة
أعلى من أمر الخاصة
أن يحكم فينا الحمقى والجهلة
أن يُعطى الأمر لمن ليس بأهل له
ابن سليمان : فتقوم الساعة
أبو عمر : يا حلاج
الجرم الثابت لا ينفيه أن تتباله وتتمتم
ابن سريج : يا مولانا . هلاّ أعطيت الرجل المهلة يتكلم
فلقد حققت وأحكمت التهمة ، ثم أدنت
أبو عمر : ما حاجتنا أن نسمع في هذا المجلس
فيضاً من لغو القول المبهم ؟
فليعلُ حديث العدل إذا خرس الجُرم
قال تعالى :
" إنما جزاء الذين يفسدون في الأرض "
دراميات البوح المراوغ :
هو بوح يعتمد على التورية التشخيصية. وهي ليست تورية لفظية ، حيث للفظ معنيان أحدهما ظاهر ، والآخر باطن ، وهو المقصود ، بل تعتمد على موقف حقيقي مقصود ، يتخفى خلف موقف زائف وخادع وهو ماثل في مراوغات القاضي ابن سليمان (وهو حنفي المذهب)** :
"ابن سليمان : لا أخشى أن يلزم دمه عنقي
باسم الشرع
لكني لا أرضى أن يلزمني باسم السلطة
فأنا لم أشهده يبغي إفساداً في الأرض
أبو عمر : الشرطة قد شهدته
ابن سليمان : لكني لم أتحقق من قول الشرطة
أبو عمر : يا ابن سليمان
لسنا أهل التحقيق
بل أهل الفتوى . أعلم هذا الجيل
بأحكام الشرع ؟
فالشرطة والوالي والسلطان يسوسون
.. أمور الدولة
ويميزون الجاني .. ويقيسون الجرم
بإمعان وتثبت
فإذا صح الجرم لديهم وقفوا
الجاني بين يدينا
لنرى فيه الرأي الشرعي الصائب
ابن سليمان : يا مولانا
رأي من رأيك ..
لكنك قد وضحته
ببيان مثلي لا يدرك حسنة
فلتسمح لي أن أعرض رأيي
بعباراتي الجرداء من الفطنة
إني قد أسأل نفسي الآن
من نحن .. وما علة هذا الجمع ؟
نحن رجال العلم . وأهل الشرع
والوالي يستفتينا في أمر
وعلينا إتقان الفتوى
أنا لا يعنيني ما اسم المتهم ..
الماثل بين يدينا
والحلاج لدينا حالُ . لا شخص ماثل
وكأن الوالي يسألنا
ما حكم الشرع العادل
في من يبغي في الأرض فساداً . يبذر
فيها بذر الفتنة
وهنا نتملى في الأحكام . وننثرها
نتخير منها
ونقول :
للوالي . لا للحلاج
هذا حكم الشرع
في من يبغي في الأرض فساداً
أن تقطع أرجله .. أيديه .. ويصلب
في جذع الشجرة
ويفض المجلس
هل فتوانا ملزمة للوالي ؟
لا .. فله أن ينفذها
أو أن يسترجع أمره
وهنا لا نحمل وزر دم مسفوك
في ظلم أو عدل
ابن سريج : لا ، لا ، يابن سليمان "
لا يفلح التهرب من المسؤولية عن طريق المراوغة واللف والدوران على الحقائق ، وجود وعي نقدي مسلح بالشجاعة والاستقامة والعلم والفهم التام بأبعاد موضوع اختلفت حوله الآراء ضروري خاصة إذا كان موضوعاً يتعلق بالأرواح والأنفس ، من هنا تتطور المواجهة إلى اصطدام ، بين ممثلي المذاهب الثلاثة ، بين حزب الموالاة وممثل المعارضة. مع خطأ ذلك الأمر وخطورته في مجال القضاء
"ابن سريج : ما تنسجه من محبوك القول
أحبولة شيطان
إن الكلمات إذا رفعت سيفاً
فهي السيف
والقاضي لا يفتي . بل ينصب
ميزان العدل
لا يحكم في أشباح . بل في أرواح
أغلاها الله
إلاّ أن تزهق في حق . أو في إنصاف
الوالي والقاضي رمزان جليلان
للقدرة والحق
لا تدنو من مرماها أفراس القدرة
لا تبلغ غايتها
إلاّ إن أمسك فرسان الحق
بزمام أعنتها
فإذا شئتم أن ينقلب الحال
أن تلقوا فرسان الحق
صرعى تحت حوافر فرس القدرة
فأنا استعفي من مجلسكم
أبو عمر : يا ابن سريج هذا مجلس حكم مخصوص
وله تقدير مخصوص
ينظر في أمر مخصوص
وكما قال القائل
ابن سريج : (مقاطعا) مخصوص .. مخصوص .. مخصوص
هل خصّوا هذا المجلس بالظلم "
لأن ابن سريج قاضي الشافعية يعلم أن القوانين لا تفصّل خصيصاً لشخص بعينه عند محاكمته في تهمة نسبت إليه ، لذلك انتفض انتفاضة حادة في وجه التدليس في أمور قياس العدالة وإجراءاتها التي لا تخالف كل شرع وتنافي كل منطق *** لذلك انفجر ابن سريج في وجه القاضي المالكي ؛ ولم تثنه تلميحات أبي عمر – هذا – في محاولة توريطه بدفعه دفعاً إلى اتهام السلطان بالظلم مما دعاه إلى إعطائه درساً في مفهوم العدل :
" قل لي في لفظ واضح
هل نحن قضاة باسم الله
أم باسم السلطان ؟
أبو عمر : بل قل أنت
أوتنكر أن السلطان خليفة رب الأكوان
على الأكوان ؟
ابن سريج : هذا السلطان العادل ..
أبو عمر : أو تبغي أن تدفع عن مولانا
صفة العدل ؟
ابن سريج : بل أرجو أن أثبتها له
ليس العدل تراثاً يتلقاه الأحياء ..
عن الموتى
أو شارة حكم تلحق باسم السلطان
إذا ولي الأمر
كعمامته أو سيفه
مات الملك العادل
عاش الملك العادل
العدل مواقف
العدل سؤال أبدي يطرح نفسه كل هنيهة
فإذا ألهمت الرد تشكل في كلمات
أخرى
وتولد عنه سؤال آخر يبغي ردا
العدل حوار لا يتوقف
بين السلطان وسلطانه
أبو عمر : العدل .. العدل
ماذا تبغي حتى يجري العدل
ابن سريج : أن نسمع صوت المتهم الماثل
بين يدينا
ونسائل أنفسنا وضمائرنا
أبو عمر : هه ..
هو لا يبغي أن يتكلم "
البوح الحلولي الصوفي بين المقولة والدفاع عنها :
للصوفيه الحلولية مقولتها أو خطابها الذي تمثل في شعر الحلاج (حسين بن منصور) نفسه:
"أنا أنت وأنت أنا نحن روحان حللنا بدنا "

"فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا "
كما تمثل في خطبة الحلاج الدرامية الاحتفالية في ساحة بغداد التي دعا فيها الناس – خاصة الفقراء - إليه صائحاً ؛ حاضاً على التمرد والثورة :
"الحلاج : إلي إلي يا غرباء .. يا فقراء .. يا مرضى
كسيري القلب والأعضاء ، قد أنزلت مائدتي
إلي إلي
لنطعم كسرة من خبز مولانا وسيدنا
إلي إلي أهديكم إلى ربي
وما يرضى به ربي "
فما أن يتجمع الناس حوله حتى يكشف عن جوهر مقولته الحلولية ، غير منتصح بنصح رفيقه الشبلي ، وغير ملتفت إلى الحديث : "خاطبوا الناس على قدر عقولهم " بل يمض في كشف سريرة نفسه ، وإسقاط ما في ضميره :
" أراد الله أن تجلى محاسنه ، وتستعلن أنواره
فأبدع من أثير القدرة العليا مثالاً ، صاغه طيناً
وألقى بين جنبيه ببعض الفيض من ذاته
وجلاّه . وزيّنه ، فكان صنيعه الإنسان
فنحن له كمرآة ، يطالع فوق صفحتها
جمال الذات مجلّوا ، ويشهد حسنه فينا
فإن تصفُ قلوب الناس ، تأنس نظرة الرحمن
إلى مرآتنا ، ويديم نظرته ، فتحيينا
وإن تكدر قلوب الناس يصرف وجهه عنّا
ويهجرنا ، ويجفونا ..
وماذا يفعل الإنسان إن جافاه مولاه ؟
يضيق الكون في عينيه ، يفقد ألفة الأشياء
تصير الشمس في عينيه أذرعة من النيران
يلقى ثقلها المشّاء
على وجه السما والأرض . ألواناً من اللهب
ويضحي البدر دائرة مهمشة رمادية
من القصدير ميتة وملقاة على بيداء
فقد جفت عيون الناس ، أضحت نقطة سوداء
وتذوي أذرع الأشجار تلقي حملها للأرض
وتدفئه كمجهضة تكفن عارها في الطين "
إن بوح الحلاج حتى الآن لم يزد عن كونه بوحاً ذاتياً ، مجرداً يحوّم حول ما أودع الله من ضيائه في الإنسان. حتى ما اتصل بأحوال المجتمع ومعاناة الناس ، لم يجر مجرى التشخيص والتحديد بل ظل يدور في إطار التجريد لذلك كانت خطبة بوحه الحلولية تلك خير مثال على بوح التوق إلى الاستشهاد ؛ في لغة استعارية فوق طاقة فهم العامة الذين استهدف الحلاج مخاطبتهم .
" ويمشي القحط في الأسواق ، يجبي جزية الأنفاس
من الأطفال والمرضى
حقيبته بلا قاع ، فلا تملأ إذ تعطي
ورغبته بلا ري ، فلا تسكت أن تسأل
وخلف القحط يمشي تحت ظل البيرق المرسل
جنود القحط ، جيش الشر والنقمة
خلائقهم مشوهة ، كأن الذيل فوق الرأس
يقود خطاهمو إبليس ، وهو وزير ملك القحط
وليس القتل والتدجيل والسرق
وليس خيانة الأصحاب والملق
وليس البطش والعدوان والخرق
سوى بعض رعايا القحط ، جند وزيره إبليس "

بهذا الوعي الغيبي يطيش سهم الحلاج بعيداً عن قناعة تحرك العامة ، فهو يلقي تبعة الانحراف والفساد الاجتماعي على إبليس الذي يستغل فقر الفقراء فيحضهم على الجرائم. وهو بذلك لم يزد عن كونه خطاب وعظ ديني ، سأم العامة من سماعه من على المنابر في المساجد المنتشرة في كل موقع .
وربما وضح ذلك بتأمل الدور السلبي لتلقي العامة لخطاب بوحه التجريدي إذ لم يتعامل مع الخطاب سوى العسس ورجال الشرطة :
" تعالى الله ، قد يأنف أن ينظر في مرآتنا ذاته
فيصرف وجهه عنّا
فكيف إذن نصفي قلبنا المعتم ؟
ليستقبل وجه الله ، يستجلي جمالاته
نصلي .. نقرأ القرآن
نقصد بيته ، ونصوم في رمضان
نعم ، لكنّ هذي أول الخطوات نحو الله
خطى تصنعها الأبدان
وربي قصده للقلب ولا يرضى بغير الحب
تأمل ، إن عشقت ألست تبغي أن تكون شبيه محبوبك
فهذا حبنا لله
أليس الله نور الكون
فكن نورا كمثل الله
ليستجلي على مرآتنا ذاته "
لم يتحرك الناس بسبب خطاب الحلاج التحريضي المغلف بروح الرومانتيكية ، فالشرط الذاتي لم يزد عن كونه وعياً ذاتياً سلبياً ، والشرط الموضوعي غائب تماماً عن الوسط الاجتماعي المتلقي لخطاب الحض ، وإنما كانت حركتهم لاستنقاذ الحلاج من أيدي الشرطة ، يسبب كراهية الناس للشرطة.

والمحلل لخطاب الحلاج – هنا – يجده يصف فعل الله فينا : ( " أراد الله – فأبدع – صاغه – وألقى – وجلاه – وزينه – يطالع – ويشهد – تأنس نظرة الرحمن – يديم نظرته " ) وكل هذه الأفعال الإلهية من أجل أمر وحيد هو أن يصبح الإنسان مرآة لذات الله ليشهد حسنه فينا . وذلك شريطة أن تصفو قلوبنا . والمقابل هو استمرار حياتنا فإذا لم تصف قلوبنا ففعل الله يتغير : ( " يصرف وجهه عنا – يهجرنا – يجفونا " ) عندها : (يضيق الكون في عين الإنسان – يفقد الألفة – يفقد القدرة على الرؤية الحقيقية – يستشري الفقر بين الناس – يتفشى المرض – تنتشر الجرائم) وخلاصة القول : إن الحض على زوال البلاء وصلاح أحوال الناس وإقامة العدل قرين بحسن علاقة الناس بالله .
لكن ما الذي أثار الشرطة من ذلك القول ، خاصة وأن الخطاب لم يحرك حماسة واحد ممن تحلقوا حول صاحبه ، هل لأنه نعتهم بأنهم جند إبليس وزير الفقر ، وأنهم شريرون شائهة خلائقهم وأنهم أداة البطش . لذلك استدرجوه ؛ وهو الذي أعد نفسه وهيأها لمواجهة (دون كيخوتية) :
"الشرطي : ولكن شيخنا الطيب ، هل ربي له عينان
لكي ينظر في المرآة ؟ "
وعبثاً يحصل الشرطي على إجابة من جنس سؤاله ؛ بل يواجه بتساؤل استنكاري فيه ازدراء:
"الحلاج : ولكن ولدي الطيب ، هل قفل على قلبك
حتى ينطق القرآن
أم على قلوب أقفالها "
وعبثاً يحصل العامة أيضاً على المطلوب منهم من جملة خطاب الحلاج . وهكذا يلقى الحلاج بمقولته الحلولية ، دون أن يدعمها ، حتى عندما تتناوشه الأسئلة الاستدراجية لا يجيب بل يتهم السائل المغرض بانغلاق الفهم ، وكأن عملية التواصل أو الاتصال مرهونة بطرف التلقي ، دون أن يلتزم المرسل بتهيئة رسالته بما يتناسب ومستويات الوسط أو التلقي ؛ إلاّ إذا كان هدف الإرسال تحقيق المجرد غير المنظور إلاّ من صاحبه :

بوح التوق إلى الشهادة :
" (ضجة وتلويح بالأيدي توشك أن تصبح مقتلة )
الحلاج : لا ، يا أصحابي
لا تلقوا بالاً لي
استودعكم كلماتي
عودوا .. عودوا ..
ودعوني حتى تنفذ في بدني
لتؤدبني
ألفاظ عتاب المحبوب النارية "
"الشرطي : يا قوم
الشيخ أقر بجرمه
فدعوه يمضي ليؤدب
يا شيخ ..
هل أقررت بجرمك ؟
الحلاج : هذا حق يا ولدي ..
فلقد أجرمت بحقه
إذ أفشيت السر
الشرطي : أسمعتم !
الحلاج : عاقبني يا محبوبي أني بحت وخنت العهد
لا تغفر لي ، فلقد ضاق القلب عن الوجد
لكن عاقبني كعقاب الخصم خصيمه
لا كعقاب المحبوب حبيبه
لا تهجرني ، لا تصرف عني وجهك
لا تقتل روحي بدلالك
اجعل بدني الناحل أو جلدي المتغضن
أدوات عقابك "
إن موقف الحلاج هنا مناظر لموقف سقراط ، الذي التزم بكلمته باحترام القانون حتى ولو كان الثمن هو فقدانه لحياته ، وقد فعل ، ورفض محاولات تلاميذه وحوارييه المدفوعين بحض غير مباشر من الحكام . كذلك التزم الحلاج بكلمته التي تسلم لله الأمر كله ، وتدعو الناس إلى تسليم الأمر كله لله ، حتى تنصلح أحوال البشر ، حتى وهو يساق إلى حتفه :
" أبو عمر : هه ..
هو لا يبغي أن يتكلم
وعلى كل ، مازالت جلستنا ممدودة
فليسمعنا شيئاً من لغوه
يا هذا الشيخ المنفوش اللحية
بم تدفع عن نفسك ..؟
الحلاج : لستم بقضاتي ،
ولذا لن أدفع عن نفسي "
إن دفع الحلاج هنا ليس دفعاً لشخص القاضي أو هيئة هذه المحكمة على وجه الخصوص ، بل هو دفع لكل هيئة قضائية ، لأنه لا يؤمن إلاّ بقضاء الله ، لذلك تحايل قاضي الشافعية ابن سريج حتى يحثه على التعامل مع الهيئة القضائية دفاعاً عن نفسه ؛ ومن الغريب أن الحلاج يستدرج بحسن نية من ابن سريج :
"ابن سريج : يا حلاج ..
لا تدفع عن نفسك
بل حدثنا عما فيها
إن كان هو الحق ، عرفناه معك
وإذا كان الباطل ..
نبهناك إليه
وأخذناك بجرمه ..
الحلاج : أوعدتم إن كان الحق ..
تمضوا فيه معي ؟ "
مثل هذه النية الحسنة ، أو سذاجة التوكل والافتراض العاطفي لحسن نوايا الآخرين تقابل بواقع صادم ، واقع وعي طبقي :
"أبو عمر : نمضي فيه معك ..؟
أما إنك رجل ساذج
أو إنك أذكى مما تتصور
ولهذا أفسدت صعاليك العامة "
ومع وضوح موقف القاضي الساخر التهكمي من طرح الحلاج ، فإن الحلاج ينصاع للقاضي ويصدقه وينبري في بوح طويل استرسالاً خلف تيار الشعور :
" أبو عمر : قد نصبح من أتباعك ( ساخراً )
من أنت ، وما خطبك .. ؟ "
الحلاج : أنا رجل من غمار الموالي ، فقير الأرومة والمنبت
فلا حسبي ينتمي للسماء ، ولا رفعتني لها ثروتي
ولدت كآلاف من يولدون ، بآلاف أيام هذا الوجود
لأن فقيراً – بذات مساء – سعى نحو حضن فقيرة
وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية
نموت كآلاف من يكبرون ، حين يقاتون خبز الشموس
ويسقون ماء المطر
وتلقاهم صبية يافعين حزانى على الطرقات الحزينة
فتعجب كيف نموا واستطالوا وشبّت خطاهم ..
وهذي الحياة ضنينة "
ومن الغريب أن الحلاج في مواجهته للمحكمة لا يفعّل تيار الوعي ، وهو الأدعى للتفعيل واليقظة والحذر ، مثله مثل كل من أوقف أمام قضاته . غير أن الحلاج وقد صرّح بأن القضاة ليسوا قضاته ، وهو في الوقت ذاته ، ينبري في بوح إدانته لنفسه – قاصداً – لأنه يتمنى الشهادة ويسعى لها :
"الحلاج : تسكعت في طرقات الحياة ، دخلت سراديبها الموحشات
حجبت بكفي لهيب الظهيرة في الفلوات
وأشعلت عيني ، دليلي ، أنيسي في الظلمات
وذوّبت عقلي ، وزيت المصابيح ، شمس
النهار على صفحات الكتب
لهثت وراء العلوم سنين ، ككلب يشم روائح صيد
فيتبعها ، ثم يحتال حتى ينال سبيلاً إليها فيركض
ينقض
فلم يسعد العلم قلبي ، بل زادني حيرة واجفه
بكيت لها وارتجفت "
في هذا الجزء من بوح الإدانة يكشف الحلاج أمام قضاته أنه غير اتباعي ، لأنه وظف حواسه الخشنة (البصر) طلباً للبصيرة التجريبية ، تفعيلاً لتحصيله العقلي ، بعيداً عن التحصيل الاتباعي النقلي :
" وأحسست أني ضئيل كقطرة طل
كحبة رمل
ومنكسر تعس ، خائف مرتعد
فعلمي ما قادني قط للمعرفة "
غير أنه يراجع نفسه حول ما أفادت من العلوم الطبيعية والتاريخية قديماً وحديثاً ؛ فيجد في نفسه قصوراً نحو معرفة سر الوجود من حيث البداية والنهاية :
" وهبني عرفت تضاريس هذا الوجود ..
فكيف بعرفان سر الوجود ، ومقصدي
مبتدا أمره ، منتهاه "
ليس هذا هو بوح الحلاج محمولاً على أثير التاريخ موصولاً بنبرات شخصية مسرحية معاصرة مستلهمة من تاريخ (الحسين بن منصور الحلاج ) المتصوف العراقي من المرتبة الرابعة - وفق تصنيف الجنيد لمراتب المتصوفة - ، ولكنه بوح المثقف المعاصر المسكون بتاريخ ثقافة التمرد العربي ، الذي هو صلاح عبد الصبور نفسه والذي هو أحمد عبد المعطي حجازي ، ومحمد عفيفي مطر ، وأمل دنقل ، بل كل مثقف عربي حقيقي ، فما من مثقف حقيقي ، إلاّ وانغرزت جذوره في طين المعرفة التراثية المظنونة وامتدت فروعه عبر أثير المعارف اليقينية المتجددة ، وما من مثقف حقيقي ، إلاّ وتأرجح ما بين الشك واليقين ؛ وما من أحد إلاّ وطالته حيرة المثقف ، مثلما طالت الحلاج :
" الحلاج : سألت الشيوخ ، فقيل
تقرب إلى الله ، صل ليرفع عنك الضلال ..
صل لتسعد
وكنت نسيت الصلاة ، فصليت لله رب المنون
ورب الحياة ورب القدر
وكان هواء المخافة يصفر في أعظمي ويئز
كريح الفلا .. وأنا ساجد راكع أتعبد
فأدركت أني أعبد خوفي ، لا الله ..
كنت به مشركاً لا موحد
وكان إلهي خوفي
وصليت أطمع في جنته
ليختال في مقلتي خيال القصور ذوات القباب
واسمع وسوسة الحلي ، همس خرير الثياب
أني أبيع صلاتي إلى الله
فلو أتقنت صنعة الصلوات لزاد الثمن
وكنت به مشركاً ، لا موحد
وكان إلهي الطمع "
يجد خدم السلطة الحاكمة في أي مكان وزمان ، مثل هذا البوح الأمين والصادق مع النفس ، دليل اعتراف يؤخذ به صاحبه ، لذلك أخذ به من أخذ من المفكرين ومن المثقفين والمبدعين عبر تاريخنا المحكوم بالسلطة الفردية التي تزيّت أحياناً بأزياء التدين وبأزياء الديمقراطية واحترام الرأي الآخر، كما أخذ به الحلاج وعشرات المفكرين والمثقفين والمبدعين الشعراء على مر عصور الحكم الإسلامي العربي ؛ لمجرد أن وقع أحدهم في حيرة المثقف ؛ كما وقع الحلاج :
"الحلاج : وحير قلبي سؤال :
ترى قُدّر الشرك للكائنات
وإلاّ ، فكيف أصلي له وحده
وأخلى فؤادي مما عداه
لكي إنزع الخوف عن خاطري
لكي أطمئن .. "
ولكي يفض المثقف حيرته ؛ فهو يلقى بنفسه مختاراً في قارب فكري ما يسبح به مع راكبيه ضد تيار الثقافة التقليدية المألوفة ، هكذا فعل الحلاج ؛ إذ اتخذ الحلولية قارب نجاة في بحر الحيرة الثقافي :
" الحلاج : كما يلتقي الشوق شوق الصحارى العظام
بشوق السحاب السخي
كذلك كان لقائي بشيخي
أبي العاص عمرو بن أحمد ، قدس تربته ربه
يحب النوال
ويعطي ، فيبتل صخر الفؤاد
ويعطي ، فتندى العروق ويلمع فيها اليقين
ويعطي ، فيخضر غصني
ويعطي ، فيزهر نطقي وظني
ويخلع عني ثيابي ، ويلبسني خرقة العارفين
يقول هو الحب ، سر النجاة ، تعشّق تفز
وتفنى بذات حبيبك ، تصبح أنت المصلي ،
وأنت الصلاه
وأنت الديانة والرب والمسجد
تعشقت حتى عشقت ، تخيلت حتى رأيت
رأيت حبيبي ، وأتحفني بكمال الجمال ،
جمال الكمال
فأتحفته بكمال المحبة
وأفنيت نفسي فيه
أبو عمر : صمتاً : هذا كفر بيّن "
وكما لا يفلت الحلاج من الإدانة ، لم يفلت مفكر طليعي أو مبدع أو شاعر من إدانة ما ، لابد وأن تصمه بها السلطة الفردية بكل مستوياتها . ولئن وجد مفكر متهم من قبل نظام الحكم الفردي ؛ منصفاً ؛ يضع القول في سياقه ويفهمه في إطار سياقه النصي والفكري ، دون أن يأخذ صاحبه بظاهر القول ؛ فإن ذلك لا يحول دون تصفيته تصفية جسدية باسم الشرع ، أو باسم القانون ، أو حبسه به – على أقل تقدير - ؛ فالمبدع متهم بإبداعه ، بوصفه ضلالة :
" ابن سريج : بل هذا حال من أحوال الصوفية
لا يدخل في تقدير محاكمنا
أمر بين العبد وربه
لا يقضي فيه إلاّ الله
لنسأله عن تهمة تحريض العامة
فلهذا أوقفه السلطان هنا
هل أفسدت العامة يا حلاج ؟ "
لا يستطيع صاحب اعتقاد صادق ، أن يخلي بين إجاباته عما يطرحه عليه قاض ما ، حالة توقيفه أمام محكمة ما ومعتقداته لذلك ينطق الحلاج بما هو ضروري ، إعلاناً لمعتقده وإعلاء لفكره :
"الحلاج : لا يفسد أمر العامة إلاّ السلطان الفاسد
يستعبدهم ويجوعهم "
هذا اتهام للسلطان ، أي سلطان . وهنا يسرع القاضي بتضييق الخناق عليه للحصول على اعتراف محدد ، لذلك يصوغ سؤال اتهام محدد ، يستلزم إجابة محددة :
" ابن سليمان : يعني هل كنت تحض على عصيان الحكام ؟ "
لو كان العامة في مصر ، في ظل نظام الستينيات مستعبدين وجوعى ، لصودرت هذه المسرحية ، ولكن لحسن حظ المثقف العربي بشكل خاص والمسرحيين بخاصة ، أن ثورة يوليو 1952 لم تكن تضيق اقتصادياً واجتماعياًَ على الفئات الدنيا من الطبقات الشعبية ، ولن يشفع للشاعر صلاح عبد الصبور – عندئذٍ- أن يراوغ بلسان الحلاج في إجابته عن السؤال المصيدة الذي طرحه عليه (ابن سليمان) ؛ ليتمكن الحلاج من الدوران الإطاري حول السؤال؛ المصيدة :
" الحلاج : بل كنت أحض على طاعة رب الحكام
برأ الله الدنيا أحكاماً ونظاماً
فلماذا اضطربت ، واختل الإحكام ؟
خلق الإنسان على صورته في أحسن تقويم
فلماذا رُدّ إلى درك الأنعام ؟ "
لا يستطيع مفكر متمرد على منظومة الحكم الاستبدادي أن يفلت من قبضة زبانية الحكم وخدّامه الشرعيين من ناحية والقانونيين من ناحية أخرى مهما حاول المراوغة ، أو المناورة . والحلاج هنا وإن راغ فإن مراوغته ليست تراجعاً منه عن عزمه على نيل الشهادة على أيدي جلاديه :
" أبو عمر : ماذا يعني هذا الشيخ ؟
هل هذا أيضاً من أحوال الصوفية ؟
أم يستخفي خلف الألفاظ المشتبهة
كي يخفي وجه جريمته الشنعاء ؟ "
ليس غريباً أن يظهر القاضي ظهوراً غير حيادي في ظل الأنظمة الفردية الاستبدادية متشحة بأوشحة الشرع أو الشرعية (الدين أو القانون الوضعي) ، مع أن الدين والدين الإسلامي بخاصة ، لم ينص في القرآن على عقوبة دنيوية سوى في مواجهة إتهام ثابت لجريمة من الجرائم الخمس الآتية : (القتل – السرقة - الزنا – قذف المحصنات – الحرابة "قطع الطريق على الآمنين" ) ، إلاّ أن حكم قضاة المحكمة الإسلامية الشرعية في بغداد ، حكمت بقرار من قاضيين اثنين أحدهما مالكي والثاني حنفي بعد أن انسحب القاضي الثالث وهو شافعي معترضاً على سير المحاكمة في اتجاه إدانة الحلاج بكل سبيل . ومن خبيث فعل أذناب أي نظام استبدادي لهم وظائف شرعية تقوم على تطبيق الحدود الشرعية في قضائهم بين من حكموا في أمر من أمورهم وفق النص القرآني ، ما نجده عند ذلك القاضي الفاسد ، الذي وظف نفسه باسم الشرع قاضياً بما قضى ، واضعاً منطوق حكمه على ألسنة مجموعة من فقراء الحرف المتدنية فور انتهائه من استخلاص إدانة الحلاج من مجمل ما قال به الشبلي في شهادته :
" (يلتفت أبو عمر إلى جمع الفقراء)
أبو عمر : ما رأيكمو يا أهل الإسلام
فيمن يتحدث أن الله تجلىّ له
أم أن الله يحلّ بجسده ؟
المجموعة : كافر .. كافر
أبو عمر : بم تجزونه ؟
المجموعة : يقتل ، يقتل
أبو عمر : دمه في رقبتكم ..؟
المجموعة : دمه في رقبتنا
أبو عمر : والآن .. امضوا ، وامشوا في الأسواق
طوفوا بالساحات وبالخانات
وقفوا في منعطفات الطرقات
لتقولوا ما شهدت أعينكم
قد كان حديث الحلاج عن الفقر قناعاً ،
يخفي كفره
لكن "الشبلي" صاحبه قد كشّف سره
فغضبتم لله ، وانفذتم أمره
وحملتم دمه في الأعناق
وأمرتم أن يقتل
ويصلّب في جذع الشجرة
الدولة لم تحكم
بل نحن قضاة الدولة لم نحكم
أنتم ..
حُكمتم ، فحكمتم
فامضوا ، قولوا للعامة
العامة قد حاكمت الحلاج امضوا ..
امضوا .. امضوا "
هكذا ينفذ القاضي املاء رأس النظام الاستبدادي الذي نص عليه في رسالته للمحكمة في أثناء سير جلستها **** :
" أبو عمر : (وهو ينظر في الخطاب)
إن الدولة قد سامحت الحلاج
فيما نسب إليه ، وتثبت منه السلطان
من تحريض العامة والغوغاء على الإفساد
وعفت عنه عفواً كلياً لا رجعة فيه "
" لكن وزير القصر يضيف :
"هبنا أغفلنا حق السلطان ..
ما نصنع في حق الله
فلقد أنبئنا أن الحلاج
يروي أن الله يحل به ، أو ما شاء له الشيطان
من أوهام وضلالات
ولهذا أرجو لو يسأل في دعواه الزنديقية
فالوالي قد يعفو عمن يجرم في حقه
لكن لا يعفو عمن يجرم في حق الله "
ابن سليمان : هذا أيضاً حق
ابن سريج : بل هذا مكر خادع
فلقد أحكمتم حبل الموت
لكن خفتم أن تحيا ذكراه
فأردتم أن تمحوها
بل خفتم سخط العامة ممن أسمع أصواتهم
من هذا المجلس
فأردتم أن تعطوه لهم مسفوك الدم
مسفوك السمعة والاسم
يا حلاج ...
هل تؤمن بالله ؟
الحلاج : هو خالقنا وإليه نعود
ابن سريج : هذا يكفي كي يثبت إيمانه
أبو عمر : يا بن سريج
إني لا أبحث في إيمانه
بل في كيفية إيمانه
ابن سريج : كيفية إيمانه ..؟
هل تبغي أن تنبش في قلبه
هل هذا من حق الوالي
أم من حق الله ؟
أبو عمر : هذا من حق قضاة الشرع
ابن سريج : لا ، بل هذا من حق الله
فأنا لا أجرؤ أن أسأل رجلاً عن إيمانه
فإذا شئتم أن تمضوا في هذا الإثم ..
أبو عمر : سنمضي يا ابن سريج
ابن سريج : فأنا استعفي من مجلسكم *****
أبو عمر : هذا لك يابن سريج "

فكرة المخلص (المستبد العادل) :
لم تفارق فكرة المخلص (المستبد العادل) رأس أحد من مفكري الإسلام – لا في التاريخ القديم ولا في التاريخ المعاصر - .
" الحلاج : لا أملك إلاّ أن أتحدث
ولتنقل كلماتي الريح السواحه
ولأثبتها في الأوراق شهادة إنسان من أهل الرؤية
فلعل فؤاداً ظمآناً من أفئدة وجوه الأمة
يستعذب هذي الكلمات
فيخوض بها في الطرقات
يرعاها إن ولي الأمر
ويزاوج بين القدرة والفكرة
ويزاوج بين الحكمة والفعل "
هكذا كان جهد الحلاج جهد المصلح الديني – لا أكثر – وهكذا صوره صلاح عبد الصبور ، تفكيكاً لخطاب المصلح الديني الذي حفظ عن ظهر قلب (نظرية الكل في واحد – نظرية المستبد العادل) .



التعبير الدرامي الشعري ومستويات السرد والتشخيص
بين التسلط والإذعان التاريخي

لا يخلو بناء مسرحي من تقنية السرد سواء أكان سرداً حوارياً على ألسنة الشخصيات الدرامية أم على لسان مجموعة الكورس أو على لسان الراوية . أو كان سرداً تشكيلياً أو سينوجرافياً أو بلغة الجسد أو سرداً تمثيلياً . وهنا يتشكل السرد في مستويات متنوعة ما بين سارد أول وسارد ضمني وسارد ثالث
وفي مسرحية (مسافر ليل) يلجأ الشاعر في التقديمة الدرامية إلى (السارد الضمني) – من خارج الحدث – ليحلل رحلة الإنسان عبر التاريخ تحليلاً إطارياً مكثفاً وتجريدياً ، على متن قطار الزمن ؛ وبذلك الخروج على مبعدة من الحدث نفسه ، يحقق الهدف التنويري من خارج الحدث ، بوصفه مثقفاً طليعياً يعمل على خلق توعية طبقية لدى الغالبية التي ترمز إليها شخصية الراكب باعتبارها المحكومة بعامل التذاكر بوصفه رمزاً للحاكم فالشاعر يستعرض عبر مستويات ثلاثة المسيرة التاريخية للحاكم المتسلط بالحكي – التصويري- على لسان (السارد الضمني) : الراوي مرة وعلى لسان عامل التذاكر (السارد الثالث) - تشخيصاً - يعيد فيه فعل التسلط ومتداعياته أو يحكي بعضه منتحلاً صفة السارد الثاني في مرة أخرى وعلى لسان الراكب تشخيصاً – نفسياًَ- يعيد فيه فعل الإذعان مرة أو يحكي بعضه منتحلاً صفة السارد الضمني في مرة أخرى :
"الراوي : هاهو ذا يتململ سأمانا
إذ لا تستهويه اللعبة
فيجرب أن يلعب في ذاكرته
يستخرج منها تذكارات مطفأة ، ويحاول أن يجلوها
أسفا ، لا تلمع تذكاراته
يدرك عندئذ أن حياته
كانت لا لون لها
يسقط من عينيه أيامه
تتبدد دواماتٍ فوق حديد الأرضية
لا تتكسّر قطعاً وشظايا
إذ ليس هنالك شيء صلب
تراك .. تراك .. تراك
يتذكر مسبحته
يستخرج من جيب السروال الأيمن
تهوي من يده ، يتفقدها بأصابعه ،
فتروغ لترقد بين الكرسيين
يجهد أن ينقذها ، فتغوص .. تغوص .. تغوص ..
ويظل يفتش حتى تتناثر سبحته حبات
تتساقط فوق حديد الأرضية
تراك .. تراك .. تراك "
لأن السارد يمثل ما تراه الشخصية فحسب كما لو كان ينظر عبر عينيها أو كما لو كان "شاهداً غير منظور" يقف إلى جانبها السرد بوساطة المؤلف أو بوساطة الشخص الأول " ولأن السارد الضمني الراوي يقوم مقام الشاعر لذا يتكشف الدور التنويري تلميحاً ، لا ينفصل عن طبيعة التصوير الشعري ؛ على اعتبار أن الشعر "لمحٌ تكفي إشارته" – حسبما قال البحتري-، وحيث يستشف ما وراء الصورة من معانٍ أو دلالات. هنا – يمكننا أن نلمح بمنظور نظرية الانعكاس وعلى ضوء مصباح سيميولوجي خصوصية الشاعر نفسه .
من وراء غيم المعاني في عرض السارد الضمني (الراوي) فاللعب في الذاكرة ، لا يفيد من خوت حصّالة ذاكرته من تسجيل مادي لأفعال مجسدة لهويته . فعندما لا يكون للإنسان تاريخ مادي ملموس هو موضع تأثير إيجابي في واقع الآخرين ؛ قبل أن يكون مؤثراً في واقعه الذاتي ؛ فإنه يلوذ بمظاهر شكلية ، يتمسح بها . وهكذا يلوذ الراكب بمظهر تديّني .. بعد أن أدرك (أن حياته كانت لا لون لها) وهو يسترجع شريط ذكرياته عبر رحلة إذعانه التاريخية التي سيّرها الحكام المتسلطون باعتباره رمزاً لعامة الناس (المحكومين) على مر التاريخ ؛ ذلك أن الذاكرة هي القدرة على التمثل الانتقائي Selectively represent وفي واحدة أو أكثر من منظومات الذاكرة للمعلومات التي تميز بشكل فريد خبرة معينة ، الاحتفاظ بتلك المعلومات بطريقة منظمة في بنية الذاكرة الحالية وإعادة إنتاج بعض أو كل هذه المعلومات في زمن معين بالمستقبل وذلك تحت ظروف أو شروط محددة "
فعندما يكون التدين شكلياً وسطحياً (ظاهرياً) ؛ فإن ما وراء المظهر نفسه يروغ منه وينفلت . ولنلحظ لفظة (جيب سروال الأيمن) فمظهر تدينه في جيب سرواله ، وهو يخرجه عند الحاجة أو عند الفراغ في محاولة تبريره لخواء حياته من فعل مادي إيجابي له في حياته الإنسانية ، بالانتساب إلى مفردة من مفردات الاتباعية الدينية – باعتبار فكرة "اليمين" فكرة تدينية – وباعتبار " المسبحة " وسيلة ضبط إحصائي لطقس التسبيح والحمد – الذي ينسب فاعله إلى اليمين (الفكر الاتباعي) .
فاستخدام المسبحة أداة قياس وإحصاء عددي لأقوال الحمد وآلية ترديداتها ، وهنا يحل ظل التعبد محل العبادة مثلما تحل خصلة من شعر الحبيبة محل الحبيبة نفسها – وفق الفشتية – على أن خصوصية ما كامنة في آلية استدعاء الشخصية للحظة ، حيث يمد السارد الضمني الصورة المستعادة بخيوط الطقس التراثي ؛ لخلق لحظة لم تكن قائمة من قبل ، مع إنها الابن الشرعي لماضي شخصية الراكب – بتعبير صلاح عبد الصبور نفسه - إلى جانب كونها بمثابة الابن الشرعي للمستقبل .. فاستدعاء الراكب التجريبي لمذخور ذاكرته ، وليد حالة السأم التي انتابته – حسبما أشار السارد الأول - :
"هاهو ذا يتململ سأمانا
إذ تستهويه اللعبة
فيجرب أن يلعب في ذاكرته
يستخرج منها تذكارات مطفأة ، ويحاول أن يجلوها "

المسكوت عنه في اللحظة الدرامية المختزلة :
وعندما يتكشف خواء تلك الذاكرة وبهتان ما حوته يمده (السارد الضمني الراوي / الشاعر نفسه) بلحظة مختزلة ، إذ تمتد يد الراكب إلى الجيب الأمن لسرواله – الأيمن تحديداً – ليخرج منه شيئاً لا يخرج إلاّ من الجيب الأيمن – المسكوت عنه - وهنا يوظف التداعي التلقائي المدرب للاثنين : (السارد الضمني/ الراوي / الشاعر) و( السارد الثاني / الراكب) الذي يعاد تصوير فعله بالسرد التشكيلي عبر ذهن السارد الضمني وعبر ذهن المتلقي فور تلقيه للصورة على لسان (السارد الضمني) فيكفينا أن نلحظ ما وراء ذلك التداعي التلقائي المدرب حيث تمتد يمين الراكب إلى الجيب الأيمن في سرواله ليخرج لا إرادياً مسبحته . وما وراء فعله – المسكوت عنه- يشكل نواياه المستقبلية وهي الهجوع إلى الإذعان والتسليم : فالسأم إذاً سلمه للعب في ذاكرته ؛ وخواء ذاكرته من أي شيء إيجابي يعتز هو نفسه به ، يسلمه إلى مخزون طقسي تراثي هو ظل من فعل العبادة.
ولأن الصورة الفنية (الدرامية الشعرية) تتدعم بتداعيات صور أخرى سريعاً ما تتوالد عبر اللحظة المختزلة ؛ لإعادة إنتاج الفعل وصور توالده وتداعياته التي يحكم الشاعر الإمساك بزمامها حتى لا تسقط المغزى التنويري الذي حمّلها به ، بغية الإشارة إلى مظهرية فعله التديّني:
" تهوي من يده ، يتفقدها بأصابعه ،
فتروغ لترقد بين الكرسيين
يجهد أن ينقذها ، فتغوص ، تغوص ، تغوص
ويظل يفتش حتى تتناثر سبحته حبات
تتساقط فوق حديد الأرضية
تراك .. تراك .. تراك "
هكذا تحل آلية المقطع الصوتي لسقوط حبات المسبحة على حديد الأرضية بديلاً عن وحدة صوته المتكررة فيما لو كان قد تمكن من استعمال مسبحته في آلية تكرار جملة التكبير أو الحمد ، لتأكيد مظهرية تدينه ، أو شكليته ، لأنه ما لجأ إلى طقس التسبيح ، وإنما إلى مجرد التلهي بآلية تفض عزلته وتوتره ، وتشعره بالصحبة ، حيث أراد باتخاذ المسبحة رفيق ظل في رحلته . ولكن الشاعر – هنا – يحرمه من تلك النغمة ، مع إنها مجرد ظل رفقة .
وهنا تعمل التداعيات مع التفاصيل (منمنمات الصورة) على منح الصورة لوناً خاصاً بها يمنحها هويتها .. فالشغل على تفاصيل الصورة هو الذي يقودنا إلى سر الصنعة في الشعر والمسرح بتعبير صلاح عبد الصبور
يعتمد صلاح عبد الصبور هنا على حدث يقوم على ثلاثة محاور : (محور معرفي ومحور ثقافي اجتماعي ومحور تشكيلي) ولأن الموقف هنا تأسس على التجريد وإلقاء عبء تجميع مفردات أو جزئيات الصورة ، بهدف خلق حالة مشاركة إدراكية فحسب ، لذلك ألقى بعبء حمل خطاب الحكي على عاتق (السارد الضمني/ الراوي) نائباً عنه ومن ثم لم يصبح هنا مجال للمحور الوجداني.
يقول د.ماهر شفيق فريد في زجره لناقدي إبداع إليوت في تجريده لشخصياته المسرحية : "إن الفن إعادة خلق وليس عملية تسجيل والشخصية الحية في الفن ليست هي التي تتصرف وفق المنطق الحياتي ، وإنما هي التي تتصرف وفق المنطق الفني وحسب قوانين الحتمية الفنية "
يقول د. مصطفى سويف : " إن الشاعر لا يغير ذكرياته ؛ ولكنها تعود إليه متغيرة – وهو لا يقصد إلى وصف الوقائع من حوله بأوصاف جديدة ، لكنها هي التي تأتي حاملة هذه الأوصاف "
وإذا كانت شخصيات مسرحيات صلاح عبد الصبور الشعرية – فيما عدا (ليلى والمجنون) تبدو على مبعدة من أمور الحياة اليومية ومن الرسالة الاجتماعية الواضحة . مع ميل إلى أناقة الفكر والتعبير ، فذلك لكونه صاحب رؤيا خاصة للوجود ، رؤيا شعرية اختارت لنفسها قالباً درامياً . هو كما كان إليوت معنياً بقالب درامي شعري " تتحالف فيه الاهتمامات الإنسانية مع براعة الصنعة ، كي تنتج – في نهاية المطاف – أثراً كلياً لا يختلف ، من حيث الجوهر ، عن الأثر الكلي الذي تخلقه القصيدة أو القصة في نفس متلقيها "
فشخصية الراوي – بوصفه سارداً ضمنياً - تبني اهتمامات الشاعر الإنسانية بخلق حالة تحالف بين ما ينتجه ذهن الراكب من تهويمات ذاكرة البشرية عبر تاريخها الممتد من بذرة الفكر الفلسفي الأرسطي إلى آلة الحرب والدمار بداية من تلميذه الإسكندر حتى الواقع البشري المعاصر فمع أن الراوي وهو السارد الضمني التاريخي ، يحذر الراكب من استدعاء عظيم من العظماء عبر ذاكرته ، حتى لا يسيطر بعظمته من جديد على البسطاء ، بعد أن رآه وقد توقف عند أسماء محاربين طغاة ومحاربين وقادة عظماء وهو يقرأ أسماءهم على صفحة من جلد الغزال أخرجها من معطفه ، بعد أن انفرطت حبات مسبحة تسليته وتبعثرت ؛ غير أن الراكب لم يأبه لتحذير الراوي الضمني - رب العبرة التاريخية - :
" الراكب : الاسكندر
" تك .. تك .. تك "
هانيبال
" تك .. تك .. تك "
تيمور لنك
" تك .. تك .. تك "
هتلر .. متلر .. جونسون .. مونسون
" تك .. تك .. تك "
الاسكندر .. الاسكندر .. الاسكندر
الراوي : معذرة .. لا ينفصل الإنسان عن اسمه
فالعظماء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرة التاريخ
لتسيطر عظمتهم فوق البسطاء
والبسطاء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرتك
ليكونوا متنزه أقدام العظماء
ولذلك خير أن ننسى الماضي
حتى لا يحيا في المستقبل
حتى لا يخدعنا التاريخ
ويكرر نفسه
الراكب : الاسكندر .. تك .. تك .. تك
الاسكندر .. تك .. تك .. تك
إن مناداة الراكب للإسكندر هي مناداة استدعاء غير المحكوم لمن يحكمه ولأنه نادى الإسكندر على وجه الخصوص وهو من هو الغازي الذي يغزو الممالك والأمم مستخدماً الفكرة سلاحاً يقتل به كل من وقف في طريق طموحاته غير المحدودة . لذلك يتشكل الإسكندر أمام عينيه من أي عابر سبيل ، في درب من دروب أي عصر في أي مكان له طموحات سكندرية :
" عامل التذاكر : من يصرخ باسمي ، من يدعوني
من أزعج نومي في راوية العربة
أنت .. ؟
الراكب : معذرة .. من أنت ؟
عامل التذاكر : أنا الإسكندر
في صغري روضت المهر الجامح
في ميعة عمري روضت أرسطاليس
حين بلغت شبابي روضت العالم. "
هذا التصريح صوغ من عقل الشاعر نفسه ، إذ قلب المعلومة التاريخية رأساً على عقب لما رأى الدعوة الأرسطية نحو عولمة ثقافية تحت راية الفكر اليوناني وهي أول عولمة ثقافية في التاريخ وقد حولها الإسكندر إلى عولمة عسكرية اقتصادية ، إذ استبدل الغزو الفكري والثقافي بالغزو العسكري وسيادة العقل بسيادة السيف . وهي سيادة لم تكن لتتحقق لمغامر مستعمر ومتسلط ، دون خنوع جعل من خده مداساً لقدمه ؛ أو مظهر متراخ يأخذ الأمر باستهتار وتهكم ؛ فكلاهما مدخل للتسلط :
" الراكب : مرحى يا اسكندر .. هل أكثرت من الشرب "
هذا العبث غير المسؤول للتسلية أو لاصطناع رفقة مع مسبحة لا تستجيب له ، سريعاً ما يتحول عنها إلى لون آخر من العبث الحقيقي ، مع كائن وظيفي أي صاحب سلطة ؛ فإذا بالعبث يتحول إلى حقيقة :
"عامل التذاكر: لا تعرف قدري .. يا جاهل
قسماً ، سأروضك كما روضت المهر الجامح "
إن فصل البناء الدرامي في هذه المسرحية بين الفعل القولي أو المسموع (حوار الراكب وحوار عامل التذاكر) والفعل المرئي (الوصف السردي للفعل التطبيقي المرئي المادي في حكي الراوي وهو الدال على تحقيق الأقوال) هو بمثابة فصل بين الشعار وتطبيقاته ؛ فما أن يطلق (عامل التذاكر) تهديده ، حتى يصف لنا الراوي منظومة أفعاله تحقيقاًَ لقوله :
" الراوي : تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيمن
يستخرج سوطاً ملفوفاً
تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيسر
يستخرج خنجر
تمتد يد الإسكندر في ثنية سرواله
يستخرج غدارة
تمتد يد الإسكندر في حلقه
يستخرج أنبوبة سم
تمتد يد الإسكندر في جيب خلفي
يخرج حبلاً ..
يتحسسه خجلاناً ، ويقول :
عامل التذاكر : هفواً .. هذا مات به أغلى أصحابي
أعطيت صديقي الحبل ليلعب به
فأساء استعماله "
حكي يستعيد صور إرهاب الحاكم الفردي المتسلط ، الغازي ، فكل الغزاة والعسكريون الحكام مختزلون في هذه المسرحية في شخص الإسكندر. ذلك الغازي الأول باسم العولمة الثقافية ، متشحاً براية الفكر تحت شعار توحيد العالم تحت راية الفكر اليوناني ، تتويجاً لفكر أرسطو ، سلباً لهويات ثقافات الأمم الأخرى ، فسرعان ما ينزع قناع الفكر ويتدرع بقناع القهر المسلح؛ في مواجهة الآخر غير الخانع ، حتى إذا كان تابعه وأداة تحقيق إرادته وأقرب المقربين إليه؛ وهو يصفيه تصفية جسدية ثم يعلن على الملأ عبر وسائله الإعلامية بأن الرجل قد انتحر – بعد انتهاء مهمته- :
"هل تدري ؟
كلماتي في معناه صارت من مذخور التاريخ الأدبي
لم أكتبها ، لكني شاهدت وزيري يكتبها
وصرفت له خبزاً ونبيذاً ، حتى أنهاها
حتى علمني أن ألقيها إلقاء مأساوياً
يخضع لأصول النحو
فأنا أخطئ دوماً في الفاعل والمفعول "
هكذا يمسك الشاعر بطرف حبل التداعيات ، يرخى للصورة بالقدر الذي لا يسمح لمفردات التكوين في التعبير الدرامي الشعري بالانفلات أو التشتت الذهني للمتلقي . وتلك خاصية من خصائص سر الصنعة عند صلاح عبد الصبور تشير إلى بعد من أهم أبعاد العملية الإبداعية وهو السيطرة على السياق والإمساك بالجزئيات والتحليق فوق أسوار الكل بما يسمح بالتنقل بين الكل والأجزاء بشكل ديالكتيكي وبما يسمح بالنمو المتصاعد للعمل الإبداعي وللمبدع أيضاً، فالمبدع ينمو مع عمله ويكتسب خصائص هذا العمل "
لذلك لا نتشتت ذهنياً عندما ينتقل في تخلص درامي وجمالي من وصفه لحال صديقه الذي أعطاه المسؤولية (الحبل) فشنق بها نفسه ، إلى استعراضه الموجز لتاريخ حبل السلطة ودور وزيره في تمجيدها وتدريبه على إلقائها . والتأريخ لها في مقابل خبزه ونبيذه (ببطنه) وصولاً إلى طمع ذلك الوزير في ولاية ثمناً لأداء وظيفته :
" حتى علمني أن ألقيها إلقاء مأساوياً
يخضع لأصول النحو
فأنا أخطئ دوماً في الفاعل والمفعول
كان وزيري طماعاً ، إذ طالبني بولاية
ثمناً لدخول التاريخ ككاتب
فوهبت وزيري الأرض بأكملها كي يرقد فيها "

ليس الفاعل والمفعول هنا سوى الجاني والمجني عليه . إن الاستعارة والكناية وألوان التورية المجازية تصنع المسكوت عنه في التعبير الدرامي الشعري والنثري ، لذلك لا جب فهم الصورة الإبداعية من ظاهر القول . يقول الشاعر الأمريكي إدجار ألن بو : " يوجد في كل التعليقات المكتوبة عن شكسبير خطأ جذري لم يفطن إليه أحد . إنه يتمثل في محاولة شرح شخصياته لا على أساس أنها من صوغ العقل الإنساني ، وإنما على أساس أنها موجودات فعلية على وجه الأرض "
لا يستغرق فهم طبيعة فعل الحاكم الفرد المتسلط الكثير من التفكير مع اختزال الشاعر لأبعاد الشخصية ، حيث لا نكاد نرى ملمحاً واحداً من ملامح بعده الجسمي أو الاجتماعي أو النفسي، وإذا كان رسم الشخصية النمطية رسماً تجريدياً وفق ما جرى عليه مخططات الاتجاه الحداثي في إبداعاته التفكيكية ، وهنا يتبين لنا دور المؤلف الشاعر في تمليك شخصياته خبراته هو نفسه ، ومعارفه ، بحقنها في دماء تلك الشخصيات ، بوصفها من خلقه وصلاح عبد الصبور هنا ، إذ يتستر خلف (الراوي) ويجعله خليفته على كون خليقته إذ يقعده على عرش المستوى السردي الأول ، فإنه يملكه أمر كشف تاريخ حاضر شخصياته الرمزية (الراكب) و(عامل التذاكر) بوصفهما شخصيتين رمزيتين ، وكشف مبكر لفعلها المستقبلي ، فيما هو أقرب إلى مخطط أو دراسة جدوى تشخيصية لفعلها القادم قبل أن يقوم أحدها بإعادة إنتاجه امامنا . فالراكب وعامل التذاكر كلاهما لا يمتلك أي منهما تاريخاً ، سابقاً ، لذلك رأينا " "أنا " : الراوي " لما رغبت في التقاء الآخرين سعت إلى الالتجاء تحت رعاية الـ "هو" (المؤلف) أي تحت رعاية نظام رموز ممتلئ ، حيث الوجود ، لا يتداخل والعلامة وبالمقابل فإن ظلاً من الماضي يتخلل حُبسة الناقد إزاء الـ (أنا) "
هكذا التقت (أنا) : (الراكب) السارد الثالث – تشخيصاً تشكيلياً سردياً – بـ(هو) : (الراوي / السارد الأول) وكذلك فعلت (الأنا) عامل التذاكر المتوالدة أو المتشظية في أنوات متعددة ومتباينة – تشخيصاً سردياً تشكيلياً – وبذلك أصبحت للراكب طبيعته الخانعة تبعاً لجموده في درجته على السلم الاجتماعي ، بينما تملك شخصية (عامل التذاكر) صوراً متعددة للحاكم الفرد المتسلط المستعبد لتلك (الأنا) الخانعة الرابضة في موقعها الطبقي الساكن .
يجرنا هذا التأويل إلى القول مع رولان بارت أن : " الناقد هو من سعى إلى الكتابة ، والذي يملي انتظار عمل أدبي إضافي ، يصاغ خلال البحث عن ذاته . وتكمن مهمته في إكمال مشروع الكتابة ، ومتجنباً إيّاه في الآن ذاته . الناقد كاتب إنما حتى إشعار آخر "
ولأن " الناقد كما الكاتب ، يتمنى من القراء أن يثقوا ويوقنوا أكثر بقراره الذي اتخذه بالكتابة ، ولا يسعه أن يوقّع هذا التمني ، عكس الكاتب ، لذا يبقى محكوماً بالخطأ – وبالحقيقة "
لذا أثنّي على ما سبق لي قوله حول تأثر شخصيات صلاح عبد الصبور بالظواهرية الهيجيلية، حيث " تبدو الظواهرية الهيجيلية في محاولات شخصيات صلاح عبد الصبور لصنع هويتها ، حيث يسطع فكرها سطوعاً جدلياً على الواقع ، ومن ثم يرتد إلى الشخصية كما هو ، لأنه لا يجد في الواقع إلاّ صوراً ذهنية . وهو في رحلة سطوعه على ذلك الواقع لا يطور فيع فعلاً ولكنه ينمي الفكر فحسب ، ويطور العقل . من ثم فإن تحقيق الهوية لا يتمثل عندها إلاّ تمثلاً ذهنياً ، ومن ثم يكون التغيير الذي يمكن حدوثه تغيراً فكرياً فحسب ، وبدا تحقيق محاولاتها للهوية الفكرية المتمثلة في ذهن الكاتب "
هكذا كان (الحلاج) في محاولاته التفاعل المادي للثائر مع العامة ، فالوعي الذي ينقله إلى العامة وعي ذهني . وهكذا كان (الملك) حتى موته غير قادر على المستوى الواقعي على التفاعل المادي للمغازل ؛ فالشاعر يلقنه الغزليات تلقيناً ؛ كما يلقن جواريه :
" الشاعر : معذرة يا مولاي
لكني لقنت الأخرى كلمات مبتكرة
قد ترضي رغبتك الملكية "
"الشاعر : (ملقناً الملك في صوت خفيض)
يتنزل صوتك مثل رنين الجرس الفضي المتفرد ،
يتقطر من برج متشح بمروج الغيم الزرقاء "
" ليس للملك من فعل الغزل إلاّ ظله ، فهو ليس مغازلاً على مستوى قدراته الذاتية الواقعية ، إنما يكرر صورة المغازل التي لم تكن سوى صورة متخيلة في ذهن شخصية الشاعر "
وكذلك الأمر مع جواري الملك :
" الشاعر : لا .. لا .. قد ضاع المشهد . نسيت هذه المرأة أجمل ما فيه
سامحني يا مولاي
(للمرأة) مازال هناك حديث عن قيثارة حنجرتك
والأوتار تناشد مولانا أن يلمسها بأصابعه النورانية
مازال هناك حديث عن إغماضة عينيك
وأنت تغنين لمولانا عندئذٍ
إنك تحترقين شوقاً أن يرقد مولانا
في دفء الأمواج العسلية
وأخيراً كان جلالته سيقول :
خطواتك كالموسيقى إذ تتوافق في ذهن الفنان
عندئذ ستقولين :
بعثر هذي الأنغام على سلم رغبتك الملكية
وبصوت يتقطع آهات في حلقك
الملك : آه .. ما اتعس حظي
راقت لي الألفاظ كثيراً هذه المرة
لكن نسيتها . "
" الملك لا يؤدي بأحاسيسه هو ، ولا المرأة الثانية تفعل ذلك "
ليس للملك ولا لجواريه من الغزلية غير اللفظ ، فالـ(أنا) الشاعرة تمنحه صورة بالخطاب الغزلي ومضمونه دون أحاسيسها ، ولأنه ظل مغازل ، لذلك غابت عن اللفظ الأحاسيس ؛ ومن ثم غابت المصداقية وافتقدت الخصوصية .
والأمر نفسه عند الأميرة ووصيفاتها ؛ إذ ليس لها ، ولا لوصيفاتها غير ظل الفعل ، باجترار ذكريات فعل مضى وانقضى ، بإعادة إنتاجه ، ليخرج تشخيصاً لظل حبيبها الذي هجرها ، وظل أبيها المغدور من ذلك الحبيب الغادر (السمندل) حتى الشاعر الذي جاء مخلصاً (القرندل) هو أيضاً ثائر ظليّ لأنه أتى من حيث المجهول ، ومضى في غياهب المجهول ، كما لو كانت الأرض قد انشقت عنه فجأة أو هبط من السماوات العلى فبدا كمخلص وهمي ، أو غيبي .
لذلك يمكن القول إن صلاح عبد الصبور ، قد صنع شخصياته المسرحية ظلالاً لواقع سحري، واقع لا يشبه الواقع الحياتي . ذلك أن "الشعر عندما ينأى بعيداً عن إيقاع لغة الحياة ومصطلحاتها الجارية ، يفقد حيويته ، لذا فهو يميل إلى تقطير لعنته الخاصة من لغة الكلام العام المعتاد "
يقول إليوت : " إن كاتب الدراما الشعرية ، ليس مجرد إنسان ماهر ، في فنين اثنين ، وحاذق في أن ينسجها معاًَ . وهو ليس الكاتب الذي يستطيع أن يزخرف مسرحيته باللغة الشعرية والأوزان وإنما عمله يختلف عن عمل (الكاب المسرحي وعمل الشاعر) لأن نموذجه أكثر تعقيداً ، وأكثر أبعاداً .. بكل قواعد الدراما البسيطة الصريحة ، ولكنها تغزلها غزلاً عضوياً في تصميم خاص ، أكثر ثراء . "

كان الشعر ومازال مرتبطاً بمواقف رومنسية ، كما كان المسرح ومازال مرتبطاً بمواقف رومنسية ، ولئن جسد المسرح الشعري مواقف الحياة اليومية وفق تقنيات الواقعية أو وفق تقنيات التعبيرية والملحمية ؛ فقد جسد مسرح صلاح عبد الصبور الشعري شخصيات عبثية في مواقف عبثية وفق تقنيات مسرح العبث ، فكان ذلك فتحاً في مجال المسرح الشعري. فالتداعيات وعدم الترابط الفكري واللغوي والمقاربات أو المجاورات المعرفية المتواثبة وتجريد الشخصيات والمواقف والآلية والتكرار وسمات الحكي الناقص والتناقض فيما بين القول والفعل واستهداف الدهشة ، ماثلة في (مسافر ليل) ، وفي (الأميرة تنتظر) وفي (بعد أن يموت الملك) وهي حداثية تفكيكية ، تفكك النسق الاجتماعي والسياسي في واقع أنظمتنا السياسية ويفكك خطابها الديماجوجي وظاهرة تسلطها التاريخية على شعوبها ، كما يفكك خطاب استكانة الإنسان العربي وإذعانه المهين ، ويفكك دوره في صناعة حكامه المتسلطين على مدار تاريخه الطويل .

الهوامش :
التعبير المسرحي الشعري
بين التأمل الذاتي والانفتاح على المعنى
د.أبو الحسن سلاّم
 مهاد تأملي :
لعل من أهم خصائص الفكر في بنية الصورة الشعرية هو تقنع فكر الشاعر في خطابه الشعري بين طيات تعبيره بما ينطوي على نوع من البوح الذاتي المتأمل الذي ينفلت محمولاً على جناح وعي الشاعر أحياناً فيبدو مغلفاً بالمباشرة أو ينسرب من تحت جناح وعيه ليشف عن المسكوت عنه في سكتته الموضوعية في محراب الذاتية المتأملة – بما يشبه النقطة العمياء في مسار القصيد الشعري – وتلك مزية التفرد الشعري الذي يضيف إلى التجربة الشعرية مزية جديدة تشكل علامة فارقة بين شاعر وشاعر. غير أن تلك السكتة الموضوعية أمام الذاتية المتأملة التي تشف عن البوح الذاتي المتأمل وإن تناسبت مع شعر القصيدة فهي لا تتناسب على طول الخط مع الصياغة الدرامية بشعر المسرح ؛ إلاّ إذا ارتبط البوح التأملي الذاتي بشخصية مسرحية بعينها بما يتناسب مع أبعادها الاجتماعية والثقافية والنفسية وفي الحدود التي لا تستغرق من المتلقي للعرض المسرحي الشعري إلاّ زمن ترجمتها ترجمة معنوية فورية. والواقع يكشف عن استحالة ذلك في تلقي الصورة الشعرية حالة تبتلها التأملي الذاتي إذ أنها عندئذ تحتاج إلى زمنين أحدهما لفك شفرة الغلاف الذهني للصورة الشعرية في حوار الممثل (أولاً) تمهيداًَ للترجمة المعنوية لتلك الصورة من جملة تعبيرات الشخصية على لسان ممثلها (ثانياً) .. على اعتبار أن الأصل في عملية الإرسال والاستقبال في العرض المسرحي هو حالة الحضور الآني الذي يفترض ترجمة المتلقي الفورية لخطاب الشخصية المسرحية المحمول وجدانياً على لسان الممثل. وهو أمر يبدو متعذراً أمام الصورة الشعرية الدرامية المصطبغة بالتأملات الذاتية التي يشكل بوح الشخصية القناع الذي ينسرب من ورائه بوح الشاعر نفسه محمولاً على لسان فكر الشخصية . وهو أمر يلزم التلقي بكل مستوياته وطاقاته باستغراق زمنين وصولاً إلى معنى الخطاب الجزئي. أولهما: لفك شفرة الصورة المركبة من الصورة الذهنية إلى الصورة المعنوية ، وثانيهما: اكتشاف الدلالة طبقاً للمتوسطات القرائية (متوسطات التلقي) . وبذلك تفوّت عملية فك الشفرة الذهنية للصورة الشعرية الدرامية على المتلقي إمكان تحصيل حديث الممثل المتواصل الذي لا ينتظر الجمهور حتى يفك شفرة صورة شعرية صوتية انتهى من أدائها .
هذا البحث إذن معني بالوقوف عند إشكالية التعبير الشعري الدرامي عند تجسيده مسرحياً بحيث كان مفترضاً أن يكون تعبيراً درامياً شعرياً ، تبعاً لمقتضيات أسبقية الدراما على الشعر في النص المسرحي الشعري بحيث تصبح الدراما صاحبة العصمة على الشعر في الكتابة المسرحية الشعرية ، باعتبار الدراما تصويراً للفعل وليس تكريساً للصورة الشعرية على حساب الفعل – تبعاً للنظرية الأرسطية ولمتتابعاتها تحت مظلة المحاكاة أو مناقضاتها الإيجابية في حكي الدهشة التغريبية أو في حكي الدهشة العبثية السلبي.
على أن أسبقية الفعل في الدراما الشعرية على لغة الحوار الشعري لا يجب أن تطفيء وهج الطاقة الانفعالية لصالح الطاقة التأملية الفكرية ، وإنما توازن بينهما ، بما يتيح للفعل الدرامي المتجانس مع طبيعة الشخصية المسرحية فكراً وبيئة وثقافة متفردة أن يتحقق درامياً عبر سياق شاعري يتخذ من الشعر لغته ومن البواعث والعلاقات وعناصر التصوير الدرامي للحدث شاعريتها ليجسد هوية كل شخصية في النسيج الدرامي.

 البوح الذاتي المتأمل وإشكالية تلقي الصورة الذهنية :
تزخر مسرحيات صلاح عبد الصبور بوقفات البوح التي تقف عندها شخصياته وقفة اضطرارية لتنفث شحنة معاناة هنا وهناك مع تباين أسبابها . فإذا نظرنا في مسرحية (مأساة الحلاج) فلسوف نلحظ ذلك التباين ما بين بوح الشعور بالذنب ، وبوح التأسي وبوح المواساة، وبوح التأمل وبوح الإدانة وبوح الحض والتحريض ؛ ففي وقفة الحرفيين الدامعة حول الحلاج مصلوباً على شجرة في ميدان الكرخ ببغداد يتكشف البوح عن شعور بفداحة ما اقترفوه من ذنب في شهادة الزور التي قدموها ضده في مقابل دينار لكل منهم ، تلك الشهادة التي سلمته للجلاد :
"المجموعة : صفونا . صفاً .. صفاً
الأجهر صوتاً والأطول
وضعوه في الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتواني
وضعوه في الصف الثاني
أعطوا كلا منّا دينارا من ذهب قاني
برّاقاً لم تلمسه كفُ من قبل
قالوا : صيحوا .. زنديق كافر
صحنا زنديقُ .. كافر
قالوا : صيحوا فليقتل إنّا نحمل دمه في رقبتنا
فليقتلْ إنّا نحمل دمه في رقبتنا
قالوا : امضوا فمضينا
الأجهر صوتا والأطول
يمضي في الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتواني
يمضي في الصف الثاني "
لم يمض استرسال فقراء الحرفيين في بوحهم اعترافاً بالذنب مدفوعاً بتيار الشعور بفداحة الفعل ، وإنما انسرب من خلف جنحه المظلم بصيصاً من الوعي الفكري للتعبير الدرامي الذي تدثر ببردة التعبير الشعري. وهو أمر يحتم على الشاعر أن يبني التعبير على نحو يحرّف الصورة عمّا هو مألوف في النسق الحياتي وفق العادة والمألوف ليبدو الفعل الدرامي مشوهاً من حيث النسق النظمي البنائي ليحقق ضرورة براجماتية نفعية.

بوح الندم بين الضرورة الحياتية والضرورة الدرامية والجمالية:
في الحياة تختلف ضرورة النسق الوظيفي في صورة الفعل ورد الفعل عن ضرورته في التعبير أو التصوير والتشكيل الأدبي والفني. اصطفاف مجموعة من الناس اصطفافاً عفوياً تلقائياً ، أمام حدث ما أو حوله ، غير مقيد بنسق صناعي فيه إعمال عقلي أو تدبير منظم لذلك التجمع ، من هنا يبدو النسق من حيث مظهره عشوائياً ، بحيث يلبي الموضع الذي يقف فيه كل فرد من أفراد التجمع ، حاجته إلى الرؤية والسمع الحاضر لما هو حاصل مما اجتذبه إلى ذلك التجمع ، وهو أمر قد يستدعي تغييرات في مواضع الأفراد ، تبعاًَ لضرورة كل منهم إلى التعرف على كنه ما يجري. وهو أمر طبيعي ، لا يستهدف منه المتابع الحصول على معلومة حول ما يجري ، وليس الوصول إلى جمالية ما ، ولئن تحققت ؛ فذلك يكون بمحض الصدفة . وهذا غير ماثل في الصورة التي نسقها الشاعر هنا على النحو المألوف . أما اصطفاف مجموعة من الناس على نحو يلبي الضرورة الحياتية وفق نسق وظيفي مصنوع ، كاصطفاف الجند في طابور أو تدريب عسكري ، فيستلزم أن يقف الأقصر من الأفراد في الصف الأول ، ويقف الأطول فيهم في الصف الثاني ، يتبعه الأكثر طولاً في صف ثالث . وهكذا تتشكل منظومة الفصيلة أو الكتيبة نسقاً وظيفياً يمكّن الجميع من المواجهة بالنظر إلى الأمام وفق الوجهة أو المسيرة المحددة تحديداًَ مركزياً وحاسماً. وهذا غير ماثل في نسق الصورة الجماعية – المحكي عنها – في هذا المنظر الحزين فالنسق في اصطفاف فقراء الحرفيين -هنا – تفرضه الضرورة الفنية الدرامية الوظيفية في نسق جمالي مشوّه ، إذ وضع الأطول قامة والأجهر صوتاً في الصف الأول وهو أمر غير مألوف وفق الصورة الوظيفية التقليدية ؛ فجهارة الصوت وطول القامة هما أساس ترتيب نسق الصف في هذه الصورة ، وذلك لأن هدف المنظمين لتلك التظاهرة هو فضح الحلاج والتشهير به من ناحية وإعلان أصحابه من الحرفيين – من ناحية أخرى – وهم الذين وهبهم كلماته الحاضة لهم ليصلحوا أحوالهم المعيشية في اتجاه حثهم على عدم السكوت على حقوقهم المهضومة من قبل الأغنيء والحكام – لإدانته بتهمة الزندقة والكفر . فالأطول أكثر إيصالاً للصوت لمسافة أبعد ، خاصة مع جهوريّة الصوت. ومن الناحية الجمالية ؛ فإن في النسق تشويهاً مقصوداً لصالح الدلالة الدرامية ، فهذا التشويه قصد به خلق حالة من حالات الدهشة المتأملة للنسق المعكوس بما يغاير الصورة الاعتيادية ، والدهشة حالة من الحالات التي تستدعي التساؤل والتفكر اللحظي ، في محاولة اكتشاف سببية – بناء النسق على النحو الذي تعيد المجموعة تصويره بالحكي السردي. كذلك ما يستشفه المتأمل المؤول لدلالة لفظة (الأطول) حيث يجوز فهمها على أنه الأطول في فرض رأيه أو صوته على الآخرين وفهم لفظة (الأقصر) بضعيف القدرات ؛ إذ أنهم بحكم وضعهم في الصفوف الخلفية هم تابعون للأطول باعاً. وبذلك تكون الجمالية نابعة من لذة الشعور – المتأمل المؤول- بالتفوق لإدراكه كنه تشويه البنية الدرامية في الصورة الشعرية .

البوح التبريري ودرامية الاسترجاع:
من ألوان البوح في شعر الصورة الدرامية ذلك البوح الذي ينحو منحى التبرير لإبراء الذمة ونفضاً لتبعات الصمت وعدم المبالاة . وهو بوح استرجاعي ، إبراء للذمة ؛ وهو ماثل في تظاهرة جماعة الصوفية أمام مشهد الحلاج مصلوباً في الميدان ؛ ذلك أن الشعار عندهم أهم من صاحبه ، هو عندهم كما النحلة الملكة ؛ تموت فور إنجاز مهمتها :
"الفلاح : فلنسأل هذا الجمع
من أنتم ..؟
المجموعة: نحن القتلة
أحببناه فقتلناه "
الواعظ : لا نلقى في هذا اليوم سوى القتلة
ولعلكم أيضاً حين قتلتم هذا الشيخ المصلوب
المجموعة : ... قتلناه بالكلمات
الفلاح : زاد الأمر غرابه !
المجموعة : أحببنا كلماته
أكثر مما أحببناه
فتركناه يموت لكي تبقى الكلمات
التاجر : من أنتم ؟!
المجموعة : أصحاب طريق مثله
الواعظ : هل خفتم لما صاح الفقراء
فنكرتم أمره ؟
المجموعة : خفنا .. لا .. لا ..
لا يخشى الموت سوى الموتى
أنفذنا ما أوصانا به
الواعظ : أوصاكم به ..؟
المجموعة : كنّا نلقاه بظهر السوق عطاشا فيروينا ..
من ماء الكلمات
جوعى ، فيطاعمنا من أثمار الحكمة
وينادمنا بكئوس الشوق إلى العرس النوراني "
هنا نقف أمام غرابة الصورة وغرابة الفعل .. فالمحب لا يقتل حبيبه . غير أن للقتل في عرف المحبين أداة وحيدة هي عدم مبالاة المحب بحبيبه ، وحبهم له لأنه من صنع لهم شعاراً يستظلون بظله فلما انتهى من صنعه أحبوا الشعار وهاهم يرددونه ملقين تبعة قتله على ذلك الشعار فقوله كان قاتله :
" مقدم المجموعة : كان يقول :
إذا غسلت بالدماء هامتي وأغصني
فقد توضأت وضوء الأنبياء
كان يريد أن يموت ، كي يعود للسماء
كأنه طفل سماوي شريد
قد ضل عن أبيه في متاهة المساء
كان يقول :
كأن من يقتلني محقق مشيئتي
ومنفذ إرادة الرحمن
لأنه يصوغ من تراب رجل فان
أسطورة وحكمة وفكرة
كان يقول :
إن من يقتلني سيدخل الجنان
لأنه بسيفه أتم الدورة
لأنه أغاث بالدما إذ نخس الوريد
شجيرة جديبة زرعتها بلفظي العقيم
فدبّت الحياة فيها ، طالت الأغصان
مثمرة تكون في مجاعة الزمان
خضراء تعطي دون موعد ، بلا أوان
وحينما أسلمه السلطان للقضاة
وردّه القضاة للسلطان
ورده السلطان للسجان
ووشيت أعضاؤه بثمر الدماء
تم له ما شاء
هل نحرم العالم من شهيد ؟
هل نحرم العالم من شهيد ؟
الواعظ : أو لم يحزنكم فقده ..؟
المجموعة : أبكانا أنا فارقناه
وفرحنا حين ذكرنا أنا علّقناه في كلماته
ورفعناه بها فوق الشجرة "
لم تكن تلك التعبيرات التأملية سوى تمثل لتعابير الصوفية سكنت شاعرنا كما سكنت الحلاج نفسه.
تضمن هذا البوح الكثير من المفردات والمفاهيم الصوفية ، التي يغيب مغزاها عن المتلقي ربما على اختلاف مستوياته الثقافية وهو أمر يحول بين المعنى الجلي والمفهوم وبينه، وهو أمر لو شغل به فكر المتلقي المشاهد للعرض لبرهة قصيرة لضاع منه تحصيل معان حملها أداء حوار تال للمجموعة نفسها في إطار النسق الأدائي لبوحها في تظاهرة إبراء الذمة، وإعلاء الشعار على صاحبه . وهو إعلاء لا يتحقق إلاّ بمساعدته على نوال الشهادة . وهو أمر قريب من فكرة الخلاص في الديانات الأوزيرية ثم المسيحية بعد ذلك ، وفي فكرة الخلاص في الاستشهاد الحسيني عند الشيعة . فما أشبه هذه التظاهرة التطهيرية بتظاهرة الشيعة السنوية عبر مسيرة جلد الذات الجماعية ، التي تنقلها لنا الفضائيات في ظل الاحتلال والممارسات البهيمية المجهولة الانتساب والأسباب. وفي هذا الإعلاء إحياء للفكرة التي زرعها الحلاج بكلماته . والإحياء لا يتحقق إلا بري تلك الشجيرة (الشعار) بدمائه . فالخلاص في نهاية المطاف لا يتحقق بالكلمات وإنما بالدماء.. فلكي تحيا الفكرة وتتوهج ، لابد من التضحية بصاحبها . وبديلاً عن أن تكون الفكرة سبباً في حياة أفضل لمعتنقها تصبح سبباً في الموت.
البوح الإسقاطي (بوح القناع):
من البوح ما كان بوحاًَ إسقاطياً متمرداً ذا خلفية أيديولوجية ، وهو بوح مواجهة فكرية . ومثاله في مواجهة السجين الثاني للحلاج في الزنزانة ؛ وهو بوح يتقنع خلفه الشاعر ؛ إذ يحمل كلماته على لسان السجين الثاني ؛ هو بوح متعارضين أحدهما سلبي ، وتواكلي ، والآخر إيجابي :
" السجين الثاني : وبماذا تحيي الأرواح ؟!
الحلاج : بالكلمات
السجين الثاني : أتراك تقول ..
صلوا .. صوموا .. خلوا الدنيا واسعوا
في أمر الآخرة الموعودة
وأطيعوا الحكام وإن سلبوا أعينكم يتنزى منها الدم
رصوها ياقوتاً أحمر في التيجان
بشراكم ، إذ ترثون الملكوت
عفوا ، هذا لفظ من ألفاظ شبيهك "
مع أن الحلاج قد أدرك أن محاوره الناقض لخطابه يشبّهه (بابن الإنسان) الأمر الذي استدعى شكره له ، فمال قليلاً نحو النقد الذاتي ، إلاّ أن إدراك التلقي لذلك المعنى بعيد إلاّ على قلة من المثقفين :
"الحلاج : شكراً ، تعطيني أعلى من قدري
لكن في قولك بعض الحق
فأنا أحياناً أصرخ فيهم : خلوا الدنيا الفاسدة المهترئة
ودعوا أحلامكم تنسج دنيا أخرى "
ومع ذلك فإن بوح نقده الذاتي – هذا – يواجه ببوح ناقض له ، مفكك لمضمونه السلبي :
" السجين الثاني : دنيا أخرى من صنع الأحلام ؟
الحلاج : الحلم جنين الواقع "
ولأن البوح في الحوارية الوجاهية بين الرأي والرأي الآخر هو بوح إدراك متبادل في حالة من التعارض المحمول أحدهما على تيار وعي متبن لتجربة عملية في مواجهة وعي استلابي متبن لفكرة نظرية أو مجرد شعار .
ومثاله من (الحلاج) أيضاً المواجهة التي تمت بين القاضي أبي عمر والحلاج في مشهد المحاكمة :
"أبو عمر : يا حلاج .. أتدري لم جئت هنا ؟
الحلاج : ليتم الله مشيئته يا سيد
أبو عمر : هذا حق ..
والله تبارك وتعالى
قد ثبت في كف خليفتنا الصالح
أبقاه الله
ميزان العدل وسيفه
الحلاج : لا يجتمعان بكف واحدة يا سيد
أبو عمر : هذا قول من فتّان القول
لا يدركه أمثالك من أهل الفتنة
ابن سليمان : حلو .. حلو .. "
بوح النوايا في دراميات التنفيس والتنفيث :
من البوح ما كان إعلاناً عن النوايا .. فهنا يتطور البوح ليصبح بوحاً للنوايا . وهو لون من ألوان التنفيث عن ضغينة. وهو بوح تهديد ووعيد ؛ عندما يكون البوح كله إسقاطي ؛ فمنه التنفيث، وهو بوح مرضي ومن التنفيس تفريجاً عن كرب أو معاناة *. ومن بوح النوايا ما ينفثه القاضي أبو عمر حيث يصرح بما ينتويه من شر ضد الحلاج بما يخرج عن حيدة القضاء :
"الحلاج : لم يفتنّي قولك يا سيد
أبو عمر : سيروعك قولي فيما بعد
فاسمع وارتع
مولانا لا يدفع عبداً ممن وُلِّى
فيهم للسيّاف
إلاّ إن أحصى ما فرّط من أمره
في ميزان الإنصاف
مولانا يدري من زمن . أنك تبغي
في الأرض فسادا
تلقي بذر الفتنة
في أفئدة العامة
وعقول الدهماء
تتستر خلف الذقن الشهباء
أو أثواب المجذوبين الفقراء
والأقوال الغامضة المشتبهات القصد
إذ تسبكها وتقفيها كهذاء الشعراء
قل .. ماذا تبغي بهذائك؟
هل تبغي أن يضع المسلم ..
في عنق المسلم سيف الحقد ؟
الحلاج : لا .. يا سيد
بل أبغي لو مد المسلم للمسلم
كف الرحمة والود
أبو عمر : ولهذا تعرض للحكام
من أهل الرأي وأصحاب النعمة "
بوح الفضفضة (الديماجوجي) ودرامية المسكوت عنه :
حيث يطلق القاضي افتراضات مطلقة لا دليل على صحتها . إذ يتحول البوح التنفيثي إلى بوح مسلح بالوعي الطبقي المتقنع بالنص القرآني ليخرس أي قول مخالف لقوله من أن المحاكمة هي لقضية سياسية ، قضية رأي واعتقاد ؛ بخاصة والقاضي أبو عمر الحمادي هو قاض من قضاة المالكية المعروفين بتقربهم من الخلفاء والأمراء :
"أبو عمر : ماذا تبغي ؟
أن يختل الناموس ويصبح أمرُ العامة
أعلى من أمر الخاصة
أن يحكم فينا الحمقى والجهلة
أن يُعطى الأمر لمن ليس بأهل له
ابن سليمان : فتقوم الساعة
أبو عمر : يا حلاج
الجرم الثابت لا ينفيه أن تتباله وتتمتم
ابن سريج : يا مولانا . هلاّ أعطيت الرجل المهلة يتكلم
فلقد حققت وأحكمت التهمة ، ثم أدنت
أبو عمر : ما حاجتنا أن نسمع في هذا المجلس
فيضاً من لغو القول المبهم ؟
فليعلُ حديث العدل إذا خرس الجُرم
قال تعالى :
" إنما جزاء الذين يفسدون في الأرض "
دراميات البوح المراوغ :
هو بوح يعتمد على التورية التشخيصية. وهي ليست تورية لفظية ، حيث للفظ معنيان أحدهما ظاهر ، والآخر باطن ، وهو المقصود ، بل تعتمد على موقف حقيقي مقصود ، يتخفى خلف موقف زائف وخادع وهو ماثل في مراوغات القاضي ابن سليمان (وهو حنفي المذهب)** :
"ابن سليمان : لا أخشى أن يلزم دمه عنقي
باسم الشرع
لكني لا أرضى أن يلزمني باسم السلطة
فأنا لم أشهده يبغي إفساداً في الأرض
أبو عمر : الشرطة قد شهدته
ابن سليمان : لكني لم أتحقق من قول الشرطة
أبو عمر : يا ابن سليمان
لسنا أهل التحقيق
بل أهل الفتوى . أعلم هذا الجيل
بأحكام الشرع ؟
فالشرطة والوالي والسلطان يسوسون
.. أمور الدولة
ويميزون الجاني .. ويقيسون الجرم
بإمعان وتثبت
فإذا صح الجرم لديهم وقفوا
الجاني بين يدينا
لنرى فيه الرأي الشرعي الصائب
ابن سليمان : يا مولانا
رأي من رأيك ..
لكنك قد وضحته
ببيان مثلي لا يدرك حسنة
فلتسمح لي أن أعرض رأيي
بعباراتي الجرداء من الفطنة
إني قد أسأل نفسي الآن
من نحن .. وما علة هذا الجمع ؟
نحن رجال العلم . وأهل الشرع
والوالي يستفتينا في أمر
وعلينا إتقان الفتوى
أنا لا يعنيني ما اسم المتهم ..
الماثل بين يدينا
والحلاج لدينا حالُ . لا شخص ماثل
وكأن الوالي يسألنا
ما حكم الشرع العادل
في من يبغي في الأرض فساداً . يبذر
فيها بذر الفتنة
وهنا نتملى في الأحكام . وننثرها
نتخير منها
ونقول :
للوالي . لا للحلاج
هذا حكم الشرع
في من يبغي في الأرض فساداً
أن تقطع أرجله .. أيديه .. ويصلب
في جذع الشجرة
ويفض المجلس
هل فتوانا ملزمة للوالي ؟
لا .. فله أن ينفذها
أو أن يسترجع أمره
وهنا لا نحمل وزر دم مسفوك
في ظلم أو عدل
ابن سريج : لا ، لا ، يابن سليمان "
لا يفلح التهرب من المسؤولية عن طريق المراوغة واللف والدوران على الحقائق ، وجود وعي نقدي مسلح بالشجاعة والاستقامة والعلم والفهم التام بأبعاد موضوع اختلفت حوله الآراء ضروري خاصة إذا كان موضوعاً يتعلق بالأرواح والأنفس ، من هنا تتطور المواجهة إلى اصطدام ، بين ممثلي المذاهب الثلاثة ، بين حزب الموالاة وممثل المعارضة. مع خطأ ذلك الأمر وخطورته في مجال القضاء
"ابن سريج : ما تنسجه من محبوك القول
أحبولة شيطان
إن الكلمات إذا رفعت سيفاً
فهي السيف
والقاضي لا يفتي . بل ينصب
ميزان العدل
لا يحكم في أشباح . بل في أرواح
أغلاها الله
إلاّ أن تزهق في حق . أو في إنصاف
الوالي والقاضي رمزان جليلان
للقدرة والحق
لا تدنو من مرماها أفراس القدرة
لا تبلغ غايتها
إلاّ إن أمسك فرسان الحق
بزمام أعنتها
فإذا شئتم أن ينقلب الحال
أن تلقوا فرسان الحق
صرعى تحت حوافر فرس القدرة
فأنا استعفي من مجلسكم
أبو عمر : يا ابن سريج هذا مجلس حكم مخصوص
وله تقدير مخصوص
ينظر في أمر مخصوص
وكما قال القائل
ابن سريج : (مقاطعا) مخصوص .. مخصوص .. مخصوص
هل خصّوا هذا المجلس بالظلم "
لأن ابن سريج قاضي الشافعية يعلم أن القوانين لا تفصّل خصيصاً لشخص بعينه عند محاكمته في تهمة نسبت إليه ، لذلك انتفض انتفاضة حادة في وجه التدليس في أمور قياس العدالة وإجراءاتها التي لا تخالف كل شرع وتنافي كل منطق *** لذلك انفجر ابن سريج في وجه القاضي المالكي ؛ ولم تثنه تلميحات أبي عمر – هذا – في محاولة توريطه بدفعه دفعاً إلى اتهام السلطان بالظلم مما دعاه إلى إعطائه درساً في مفهوم العدل :
" قل لي في لفظ واضح
هل نحن قضاة باسم الله
أم باسم السلطان ؟
أبو عمر : بل قل أنت
أوتنكر أن السلطان خليفة رب الأكوان
على الأكوان ؟
ابن سريج : هذا السلطان العادل ..
أبو عمر : أو تبغي أن تدفع عن مولانا
صفة العدل ؟
ابن سريج : بل أرجو أن أثبتها له
ليس العدل تراثاً يتلقاه الأحياء ..
عن الموتى
أو شارة حكم تلحق باسم السلطان
إذا ولي الأمر
كعمامته أو سيفه
مات الملك العادل
عاش الملك العادل
العدل مواقف
العدل سؤال أبدي يطرح نفسه كل هنيهة
فإذا ألهمت الرد تشكل في كلمات
أخرى
وتولد عنه سؤال آخر يبغي ردا
العدل حوار لا يتوقف
بين السلطان وسلطانه
أبو عمر : العدل .. العدل
ماذا تبغي حتى يجري العدل
ابن سريج : أن نسمع صوت المتهم الماثل
بين يدينا
ونسائل أنفسنا وضمائرنا
أبو عمر : هه ..
هو لا يبغي أن يتكلم "
البوح الحلولي الصوفي بين المقولة والدفاع عنها :
للصوفيه الحلولية مقولتها أو خطابها الذي تمثل في شعر الحلاج (حسين بن منصور) نفسه:
"أنا أنت وأنت أنا نحن روحان حللنا بدنا "

"فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا "
كما تمثل في خطبة الحلاج الدرامية الاحتفالية في ساحة بغداد التي دعا فيها الناس – خاصة الفقراء - إليه صائحاً ؛ حاضاً على التمرد والثورة :
"الحلاج : إلي إلي يا غرباء .. يا فقراء .. يا مرضى
كسيري القلب والأعضاء ، قد أنزلت مائدتي
إلي إلي
لنطعم كسرة من خبز مولانا وسيدنا
إلي إلي أهديكم إلى ربي
وما يرضى به ربي "
فما أن يتجمع الناس حوله حتى يكشف عن جوهر مقولته الحلولية ، غير منتصح بنصح رفيقه الشبلي ، وغير ملتفت إلى الحديث : "خاطبوا الناس على قدر عقولهم " بل يمض في كشف سريرة نفسه ، وإسقاط ما في ضميره :
" أراد الله أن تجلى محاسنه ، وتستعلن أنواره
فأبدع من أثير القدرة العليا مثالاً ، صاغه طيناً
وألقى بين جنبيه ببعض الفيض من ذاته
وجلاّه . وزيّنه ، فكان صنيعه الإنسان
فنحن له كمرآة ، يطالع فوق صفحتها
جمال الذات مجلّوا ، ويشهد حسنه فينا
فإن تصفُ قلوب الناس ، تأنس نظرة الرحمن
إلى مرآتنا ، ويديم نظرته ، فتحيينا
وإن تكدر قلوب الناس يصرف وجهه عنّا
ويهجرنا ، ويجفونا ..
وماذا يفعل الإنسان إن جافاه مولاه ؟
يضيق الكون في عينيه ، يفقد ألفة الأشياء
تصير الشمس في عينيه أذرعة من النيران
يلقى ثقلها المشّاء
على وجه السما والأرض . ألواناً من اللهب
ويضحي البدر دائرة مهمشة رمادية
من القصدير ميتة وملقاة على بيداء
فقد جفت عيون الناس ، أضحت نقطة سوداء
وتذوي أذرع الأشجار تلقي حملها للأرض
وتدفئه كمجهضة تكفن عارها في الطين "
إن بوح الحلاج حتى الآن لم يزد عن كونه بوحاً ذاتياً ، مجرداً يحوّم حول ما أودع الله من ضيائه في الإنسان. حتى ما اتصل بأحوال المجتمع ومعاناة الناس ، لم يجر مجرى التشخيص والتحديد بل ظل يدور في إطار التجريد لذلك كانت خطبة بوحه الحلولية تلك خير مثال على بوح التوق إلى الاستشهاد ؛ في لغة استعارية فوق طاقة فهم العامة الذين استهدف الحلاج مخاطبتهم .
" ويمشي القحط في الأسواق ، يجبي جزية الأنفاس
من الأطفال والمرضى
حقيبته بلا قاع ، فلا تملأ إذ تعطي
ورغبته بلا ري ، فلا تسكت أن تسأل
وخلف القحط يمشي تحت ظل البيرق المرسل
جنود القحط ، جيش الشر والنقمة
خلائقهم مشوهة ، كأن الذيل فوق الرأس
يقود خطاهمو إبليس ، وهو وزير ملك القحط
وليس القتل والتدجيل والسرق
وليس خيانة الأصحاب والملق
وليس البطش والعدوان والخرق
سوى بعض رعايا القحط ، جند وزيره إبليس "

بهذا الوعي الغيبي يطيش سهم الحلاج بعيداً عن قناعة تحرك العامة ، فهو يلقي تبعة الانحراف والفساد الاجتماعي على إبليس الذي يستغل فقر الفقراء فيحضهم على الجرائم. وهو بذلك لم يزد عن كونه خطاب وعظ ديني ، سأم العامة من سماعه من على المنابر في المساجد المنتشرة في كل موقع .
وربما وضح ذلك بتأمل الدور السلبي لتلقي العامة لخطاب بوحه التجريدي إذ لم يتعامل مع الخطاب سوى العسس ورجال الشرطة :
" تعالى الله ، قد يأنف أن ينظر في مرآتنا ذاته
فيصرف وجهه عنّا
فكيف إذن نصفي قلبنا المعتم ؟
ليستقبل وجه الله ، يستجلي جمالاته
نصلي .. نقرأ القرآن
نقصد بيته ، ونصوم في رمضان
نعم ، لكنّ هذي أول الخطوات نحو الله
خطى تصنعها الأبدان
وربي قصده للقلب ولا يرضى بغير الحب
تأمل ، إن عشقت ألست تبغي أن تكون شبيه محبوبك
فهذا حبنا لله
أليس الله نور الكون
فكن نورا كمثل الله
ليستجلي على مرآتنا ذاته "
لم يتحرك الناس بسبب خطاب الحلاج التحريضي المغلف بروح الرومانتيكية ، فالشرط الذاتي لم يزد عن كونه وعياً ذاتياً سلبياً ، والشرط الموضوعي غائب تماماً عن الوسط الاجتماعي المتلقي لخطاب الحض ، وإنما كانت حركتهم لاستنقاذ الحلاج من أيدي الشرطة ، يسبب كراهية الناس للشرطة.

والمحلل لخطاب الحلاج – هنا – يجده يصف فعل الله فينا : ( " أراد الله – فأبدع – صاغه – وألقى – وجلاه – وزينه – يطالع – ويشهد – تأنس نظرة الرحمن – يديم نظرته " ) وكل هذه الأفعال الإلهية من أجل أمر وحيد هو أن يصبح الإنسان مرآة لذات الله ليشهد حسنه فينا . وذلك شريطة أن تصفو قلوبنا . والمقابل هو استمرار حياتنا فإذا لم تصف قلوبنا ففعل الله يتغير : ( " يصرف وجهه عنا – يهجرنا – يجفونا " ) عندها : (يضيق الكون في عين الإنسان – يفقد الألفة – يفقد القدرة على الرؤية الحقيقية – يستشري الفقر بين الناس – يتفشى المرض – تنتشر الجرائم) وخلاصة القول : إن الحض على زوال البلاء وصلاح أحوال الناس وإقامة العدل قرين بحسن علاقة الناس بالله .
لكن ما الذي أثار الشرطة من ذلك القول ، خاصة وأن الخطاب لم يحرك حماسة واحد ممن تحلقوا حول صاحبه ، هل لأنه نعتهم بأنهم جند إبليس وزير الفقر ، وأنهم شريرون شائهة خلائقهم وأنهم أداة البطش . لذلك استدرجوه ؛ وهو الذي أعد نفسه وهيأها لمواجهة (دون كيخوتية) :
"الشرطي : ولكن شيخنا الطيب ، هل ربي له عينان
لكي ينظر في المرآة ؟ "
وعبثاً يحصل الشرطي على إجابة من جنس سؤاله ؛ بل يواجه بتساؤل استنكاري فيه ازدراء:
"الحلاج : ولكن ولدي الطيب ، هل قفل على قلبك
حتى ينطق القرآن
أم على قلوب أقفالها "
وعبثاً يحصل العامة أيضاً على المطلوب منهم من جملة خطاب الحلاج . وهكذا يلقى الحلاج بمقولته الحلولية ، دون أن يدعمها ، حتى عندما تتناوشه الأسئلة الاستدراجية لا يجيب بل يتهم السائل المغرض بانغلاق الفهم ، وكأن عملية التواصل أو الاتصال مرهونة بطرف التلقي ، دون أن يلتزم المرسل بتهيئة رسالته بما يتناسب ومستويات الوسط أو التلقي ؛ إلاّ إذا كان هدف الإرسال تحقيق المجرد غير المنظور إلاّ من صاحبه :

بوح التوق إلى الشهادة :
" (ضجة وتلويح بالأيدي توشك أن تصبح مقتلة )
الحلاج : لا ، يا أصحابي
لا تلقوا بالاً لي
استودعكم كلماتي
عودوا .. عودوا ..
ودعوني حتى تنفذ في بدني
لتؤدبني
ألفاظ عتاب المحبوب النارية "
"الشرطي : يا قوم
الشيخ أقر بجرمه
فدعوه يمضي ليؤدب
يا شيخ ..
هل أقررت بجرمك ؟
الحلاج : هذا حق يا ولدي ..
فلقد أجرمت بحقه
إذ أفشيت السر
الشرطي : أسمعتم !
الحلاج : عاقبني يا محبوبي أني بحت وخنت العهد
لا تغفر لي ، فلقد ضاق القلب عن الوجد
لكن عاقبني كعقاب الخصم خصيمه
لا كعقاب المحبوب حبيبه
لا تهجرني ، لا تصرف عني وجهك
لا تقتل روحي بدلالك
اجعل بدني الناحل أو جلدي المتغضن
أدوات عقابك "
إن موقف الحلاج هنا مناظر لموقف سقراط ، الذي التزم بكلمته باحترام القانون حتى ولو كان الثمن هو فقدانه لحياته ، وقد فعل ، ورفض محاولات تلاميذه وحوارييه المدفوعين بحض غير مباشر من الحكام . كذلك التزم الحلاج بكلمته التي تسلم لله الأمر كله ، وتدعو الناس إلى تسليم الأمر كله لله ، حتى تنصلح أحوال البشر ، حتى وهو يساق إلى حتفه :
" أبو عمر : هه ..
هو لا يبغي أن يتكلم
وعلى كل ، مازالت جلستنا ممدودة
فليسمعنا شيئاً من لغوه
يا هذا الشيخ المنفوش اللحية
بم تدفع عن نفسك ..؟
الحلاج : لستم بقضاتي ،
ولذا لن أدفع عن نفسي "
إن دفع الحلاج هنا ليس دفعاً لشخص القاضي أو هيئة هذه المحكمة على وجه الخصوص ، بل هو دفع لكل هيئة قضائية ، لأنه لا يؤمن إلاّ بقضاء الله ، لذلك تحايل قاضي الشافعية ابن سريج حتى يحثه على التعامل مع الهيئة القضائية دفاعاً عن نفسه ؛ ومن الغريب أن الحلاج يستدرج بحسن نية من ابن سريج :
"ابن سريج : يا حلاج ..
لا تدفع عن نفسك
بل حدثنا عما فيها
إن كان هو الحق ، عرفناه معك
وإذا كان الباطل ..
نبهناك إليه
وأخذناك بجرمه ..
الحلاج : أوعدتم إن كان الحق ..
تمضوا فيه معي ؟ "
مثل هذه النية الحسنة ، أو سذاجة التوكل والافتراض العاطفي لحسن نوايا الآخرين تقابل بواقع صادم ، واقع وعي طبقي :
"أبو عمر : نمضي فيه معك ..؟
أما إنك رجل ساذج
أو إنك أذكى مما تتصور
ولهذا أفسدت صعاليك العامة "
ومع وضوح موقف القاضي الساخر التهكمي من طرح الحلاج ، فإن الحلاج ينصاع للقاضي ويصدقه وينبري في بوح طويل استرسالاً خلف تيار الشعور :
" أبو عمر : قد نصبح من أتباعك ( ساخراً )
من أنت ، وما خطبك .. ؟ "
الحلاج : أنا رجل من غمار الموالي ، فقير الأرومة والمنبت
فلا حسبي ينتمي للسماء ، ولا رفعتني لها ثروتي
ولدت كآلاف من يولدون ، بآلاف أيام هذا الوجود
لأن فقيراً – بذات مساء – سعى نحو حضن فقيرة
وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية
نموت كآلاف من يكبرون ، حين يقاتون خبز الشموس
ويسقون ماء المطر
وتلقاهم صبية يافعين حزانى على الطرقات الحزينة
فتعجب كيف نموا واستطالوا وشبّت خطاهم ..
وهذي الحياة ضنينة "
ومن الغريب أن الحلاج في مواجهته للمحكمة لا يفعّل تيار الوعي ، وهو الأدعى للتفعيل واليقظة والحذر ، مثله مثل كل من أوقف أمام قضاته . غير أن الحلاج وقد صرّح بأن القضاة ليسوا قضاته ، وهو في الوقت ذاته ، ينبري في بوح إدانته لنفسه – قاصداً – لأنه يتمنى الشهادة ويسعى لها :
"الحلاج : تسكعت في طرقات الحياة ، دخلت سراديبها الموحشات
حجبت بكفي لهيب الظهيرة في الفلوات
وأشعلت عيني ، دليلي ، أنيسي في الظلمات
وذوّبت عقلي ، وزيت المصابيح ، شمس
النهار على صفحات الكتب
لهثت وراء العلوم سنين ، ككلب يشم روائح صيد
فيتبعها ، ثم يحتال حتى ينال سبيلاً إليها فيركض
ينقض
فلم يسعد العلم قلبي ، بل زادني حيرة واجفه
بكيت لها وارتجفت "
في هذا الجزء من بوح الإدانة يكشف الحلاج أمام قضاته أنه غير اتباعي ، لأنه وظف حواسه الخشنة (البصر) طلباً للبصيرة التجريبية ، تفعيلاً لتحصيله العقلي ، بعيداً عن التحصيل الاتباعي النقلي :
" وأحسست أني ضئيل كقطرة طل
كحبة رمل
ومنكسر تعس ، خائف مرتعد
فعلمي ما قادني قط للمعرفة "
غير أنه يراجع نفسه حول ما أفادت من العلوم الطبيعية والتاريخية قديماً وحديثاً ؛ فيجد في نفسه قصوراً نحو معرفة سر الوجود من حيث البداية والنهاية :
" وهبني عرفت تضاريس هذا الوجود ..
فكيف بعرفان سر الوجود ، ومقصدي
مبتدا أمره ، منتهاه "
ليس هذا هو بوح الحلاج محمولاً على أثير التاريخ موصولاً بنبرات شخصية مسرحية معاصرة مستلهمة من تاريخ (الحسين بن منصور الحلاج ) المتصوف العراقي من المرتبة الرابعة - وفق تصنيف الجنيد لمراتب المتصوفة - ، ولكنه بوح المثقف المعاصر المسكون بتاريخ ثقافة التمرد العربي ، الذي هو صلاح عبد الصبور نفسه والذي هو أحمد عبد المعطي حجازي ، ومحمد عفيفي مطر ، وأمل دنقل ، بل كل مثقف عربي حقيقي ، فما من مثقف حقيقي ، إلاّ وانغرزت جذوره في طين المعرفة التراثية المظنونة وامتدت فروعه عبر أثير المعارف اليقينية المتجددة ، وما من مثقف حقيقي ، إلاّ وتأرجح ما بين الشك واليقين ؛ وما من أحد إلاّ وطالته حيرة المثقف ، مثلما طالت الحلاج :
" الحلاج : سألت الشيوخ ، فقيل
تقرب إلى الله ، صل ليرفع عنك الضلال ..
صل لتسعد
وكنت نسيت الصلاة ، فصليت لله رب المنون
ورب الحياة ورب القدر
وكان هواء المخافة يصفر في أعظمي ويئز
كريح الفلا .. وأنا ساجد راكع أتعبد
فأدركت أني أعبد خوفي ، لا الله ..
كنت به مشركاً لا موحد
وكان إلهي خوفي
وصليت أطمع في جنته
ليختال في مقلتي خيال القصور ذوات القباب
واسمع وسوسة الحلي ، همس خرير الثياب
أني أبيع صلاتي إلى الله
فلو أتقنت صنعة الصلوات لزاد الثمن
وكنت به مشركاً ، لا موحد
وكان إلهي الطمع "
يجد خدم السلطة الحاكمة في أي مكان وزمان ، مثل هذا البوح الأمين والصادق مع النفس ، دليل اعتراف يؤخذ به صاحبه ، لذلك أخذ به من أخذ من المفكرين ومن المثقفين والمبدعين عبر تاريخنا المحكوم بالسلطة الفردية التي تزيّت أحياناً بأزياء التدين وبأزياء الديمقراطية واحترام الرأي الآخر، كما أخذ به الحلاج وعشرات المفكرين والمثقفين والمبدعين الشعراء على مر عصور الحكم الإسلامي العربي ؛ لمجرد أن وقع أحدهم في حيرة المثقف ؛ كما وقع الحلاج :
"الحلاج : وحير قلبي سؤال :
ترى قُدّر الشرك للكائنات
وإلاّ ، فكيف أصلي له وحده
وأخلى فؤادي مما عداه
لكي إنزع الخوف عن خاطري
لكي أطمئن .. "
ولكي يفض المثقف حيرته ؛ فهو يلقى بنفسه مختاراً في قارب فكري ما يسبح به مع راكبيه ضد تيار الثقافة التقليدية المألوفة ، هكذا فعل الحلاج ؛ إذ اتخذ الحلولية قارب نجاة في بحر الحيرة الثقافي :
" الحلاج : كما يلتقي الشوق شوق الصحارى العظام
بشوق السحاب السخي
كذلك كان لقائي بشيخي
أبي العاص عمرو بن أحمد ، قدس تربته ربه
يحب النوال
ويعطي ، فيبتل صخر الفؤاد
ويعطي ، فتندى العروق ويلمع فيها اليقين
ويعطي ، فيخضر غصني
ويعطي ، فيزهر نطقي وظني
ويخلع عني ثيابي ، ويلبسني خرقة العارفين
يقول هو الحب ، سر النجاة ، تعشّق تفز
وتفنى بذات حبيبك ، تصبح أنت المصلي ،
وأنت الصلاه
وأنت الديانة والرب والمسجد
تعشقت حتى عشقت ، تخيلت حتى رأيت
رأيت حبيبي ، وأتحفني بكمال الجمال ،
جمال الكمال
فأتحفته بكمال المحبة
وأفنيت نفسي فيه
أبو عمر : صمتاً : هذا كفر بيّن "
وكما لا يفلت الحلاج من الإدانة ، لم يفلت مفكر طليعي أو مبدع أو شاعر من إدانة ما ، لابد وأن تصمه بها السلطة الفردية بكل مستوياتها . ولئن وجد مفكر متهم من قبل نظام الحكم الفردي ؛ منصفاً ؛ يضع القول في سياقه ويفهمه في إطار سياقه النصي والفكري ، دون أن يأخذ صاحبه بظاهر القول ؛ فإن ذلك لا يحول دون تصفيته تصفية جسدية باسم الشرع ، أو باسم القانون ، أو حبسه به – على أقل تقدير - ؛ فالمبدع متهم بإبداعه ، بوصفه ضلالة :
" ابن سريج : بل هذا حال من أحوال الصوفية
لا يدخل في تقدير محاكمنا
أمر بين العبد وربه
لا يقضي فيه إلاّ الله
لنسأله عن تهمة تحريض العامة
فلهذا أوقفه السلطان هنا
هل أفسدت العامة يا حلاج ؟ "
لا يستطيع صاحب اعتقاد صادق ، أن يخلي بين إجاباته عما يطرحه عليه قاض ما ، حالة توقيفه أمام محكمة ما ومعتقداته لذلك ينطق الحلاج بما هو ضروري ، إعلاناً لمعتقده وإعلاء لفكره :
"الحلاج : لا يفسد أمر العامة إلاّ السلطان الفاسد
يستعبدهم ويجوعهم "
هذا اتهام للسلطان ، أي سلطان . وهنا يسرع القاضي بتضييق الخناق عليه للحصول على اعتراف محدد ، لذلك يصوغ سؤال اتهام محدد ، يستلزم إجابة محددة :
" ابن سليمان : يعني هل كنت تحض على عصيان الحكام ؟ "
لو كان العامة في مصر ، في ظل نظام الستينيات مستعبدين وجوعى ، لصودرت هذه المسرحية ، ولكن لحسن حظ المثقف العربي بشكل خاص والمسرحيين بخاصة ، أن ثورة يوليو 1952 لم تكن تضيق اقتصادياً واجتماعياًَ على الفئات الدنيا من الطبقات الشعبية ، ولن يشفع للشاعر صلاح عبد الصبور – عندئذٍ- أن يراوغ بلسان الحلاج في إجابته عن السؤال المصيدة الذي طرحه عليه (ابن سليمان) ؛ ليتمكن الحلاج من الدوران الإطاري حول السؤال؛ المصيدة :
" الحلاج : بل كنت أحض على طاعة رب الحكام
برأ الله الدنيا أحكاماً ونظاماً
فلماذا اضطربت ، واختل الإحكام ؟
خلق الإنسان على صورته في أحسن تقويم
فلماذا رُدّ إلى درك الأنعام ؟ "
لا يستطيع مفكر متمرد على منظومة الحكم الاستبدادي أن يفلت من قبضة زبانية الحكم وخدّامه الشرعيين من ناحية والقانونيين من ناحية أخرى مهما حاول المراوغة ، أو المناورة . والحلاج هنا وإن راغ فإن مراوغته ليست تراجعاً منه عن عزمه على نيل الشهادة على أيدي جلاديه :
" أبو عمر : ماذا يعني هذا الشيخ ؟
هل هذا أيضاً من أحوال الصوفية ؟
أم يستخفي خلف الألفاظ المشتبهة
كي يخفي وجه جريمته الشنعاء ؟ "
ليس غريباً أن يظهر القاضي ظهوراً غير حيادي في ظل الأنظمة الفردية الاستبدادية متشحة بأوشحة الشرع أو الشرعية (الدين أو القانون الوضعي) ، مع أن الدين والدين الإسلامي بخاصة ، لم ينص في القرآن على عقوبة دنيوية سوى في مواجهة إتهام ثابت لجريمة من الجرائم الخمس الآتية : (القتل – السرقة - الزنا – قذف المحصنات – الحرابة "قطع الطريق على الآمنين" ) ، إلاّ أن حكم قضاة المحكمة الإسلامية الشرعية في بغداد ، حكمت بقرار من قاضيين اثنين أحدهما مالكي والثاني حنفي بعد أن انسحب القاضي الثالث وهو شافعي معترضاً على سير المحاكمة في اتجاه إدانة الحلاج بكل سبيل . ومن خبيث فعل أذناب أي نظام استبدادي لهم وظائف شرعية تقوم على تطبيق الحدود الشرعية في قضائهم بين من حكموا في أمر من أمورهم وفق النص القرآني ، ما نجده عند ذلك القاضي الفاسد ، الذي وظف نفسه باسم الشرع قاضياً بما قضى ، واضعاً منطوق حكمه على ألسنة مجموعة من فقراء الحرف المتدنية فور انتهائه من استخلاص إدانة الحلاج من مجمل ما قال به الشبلي في شهادته :
" (يلتفت أبو عمر إلى جمع الفقراء)
أبو عمر : ما رأيكمو يا أهل الإسلام
فيمن يتحدث أن الله تجلىّ له
أم أن الله يحلّ بجسده ؟
المجموعة : كافر .. كافر
أبو عمر : بم تجزونه ؟
المجموعة : يقتل ، يقتل
أبو عمر : دمه في رقبتكم ..؟
المجموعة : دمه في رقبتنا
أبو عمر : والآن .. امضوا ، وامشوا في الأسواق
طوفوا بالساحات وبالخانات
وقفوا في منعطفات الطرقات
لتقولوا ما شهدت أعينكم
قد كان حديث الحلاج عن الفقر قناعاً ،
يخفي كفره
لكن "الشبلي" صاحبه قد كشّف سره
فغضبتم لله ، وانفذتم أمره
وحملتم دمه في الأعناق
وأمرتم أن يقتل
ويصلّب في جذع الشجرة
الدولة لم تحكم
بل نحن قضاة الدولة لم نحكم
أنتم ..
حُكمتم ، فحكمتم
فامضوا ، قولوا للعامة
العامة قد حاكمت الحلاج امضوا ..
امضوا .. امضوا "
هكذا ينفذ القاضي املاء رأس النظام الاستبدادي الذي نص عليه في رسالته للمحكمة في أثناء سير جلستها **** :
" أبو عمر : (وهو ينظر في الخطاب)
إن الدولة قد سامحت الحلاج
فيما نسب إليه ، وتثبت منه السلطان
من تحريض العامة والغوغاء على الإفساد
وعفت عنه عفواً كلياً لا رجعة فيه "
" لكن وزير القصر يضيف :
"هبنا أغفلنا حق السلطان ..
ما نصنع في حق الله
فلقد أنبئنا أن الحلاج
يروي أن الله يحل به ، أو ما شاء له الشيطان
من أوهام وضلالات
ولهذا أرجو لو يسأل في دعواه الزنديقية
فالوالي قد يعفو عمن يجرم في حقه
لكن لا يعفو عمن يجرم في حق الله "
ابن سليمان : هذا أيضاً حق
ابن سريج : بل هذا مكر خادع
فلقد أحكمتم حبل الموت
لكن خفتم أن تحيا ذكراه
فأردتم أن تمحوها
بل خفتم سخط العامة ممن أسمع أصواتهم
من هذا المجلس
فأردتم أن تعطوه لهم مسفوك الدم
مسفوك السمعة والاسم
يا حلاج ...
هل تؤمن بالله ؟
الحلاج : هو خالقنا وإليه نعود
ابن سريج : هذا يكفي كي يثبت إيمانه
أبو عمر : يا بن سريج
إني لا أبحث في إيمانه
بل في كيفية إيمانه
ابن سريج : كيفية إيمانه ..؟
هل تبغي أن تنبش في قلبه
هل هذا من حق الوالي
أم من حق الله ؟
أبو عمر : هذا من حق قضاة الشرع
ابن سريج : لا ، بل هذا من حق الله
فأنا لا أجرؤ أن أسأل رجلاً عن إيمانه
فإذا شئتم أن تمضوا في هذا الإثم ..
أبو عمر : سنمضي يا ابن سريج
ابن سريج : فأنا استعفي من مجلسكم *****
أبو عمر : هذا لك يابن سريج "

فكرة المخلص (المستبد العادل) :
لم تفارق فكرة المخلص (المستبد العادل) رأس أحد من مفكري الإسلام – لا في التاريخ القديم ولا في التاريخ المعاصر - .
" الحلاج : لا أملك إلاّ أن أتحدث
ولتنقل كلماتي الريح السواحه
ولأثبتها في الأوراق شهادة إنسان من أهل الرؤية
فلعل فؤاداً ظمآناً من أفئدة وجوه الأمة
يستعذب هذي الكلمات
فيخوض بها في الطرقات
يرعاها إن ولي الأمر
ويزاوج بين القدرة والفكرة
ويزاوج بين الحكمة والفعل "
هكذا كان جهد الحلاج جهد المصلح الديني – لا أكثر – وهكذا صوره صلاح عبد الصبور ، تفكيكاً لخطاب المصلح الديني الذي حفظ عن ظهر قلب (نظرية الكل في واحد – نظرية المستبد العادل) .



التعبير الدرامي الشعري ومستويات السرد والتشخيص
بين التسلط والإذعان التاريخي

لا يخلو بناء مسرحي من تقنية السرد سواء أكان سرداً حوارياً على ألسنة الشخصيات الدرامية أم على لسان مجموعة الكورس أو على لسان الراوية . أو كان سرداً تشكيلياً أو سينوجرافياً أو بلغة الجسد أو سرداً تمثيلياً . وهنا يتشكل السرد في مستويات متنوعة ما بين سارد أول وسارد ضمني وسارد ثالث
وفي مسرحية (مسافر ليل) يلجأ الشاعر في التقديمة الدرامية إلى (السارد الضمني) – من خارج الحدث – ليحلل رحلة الإنسان عبر التاريخ تحليلاً إطارياً مكثفاً وتجريدياً ، على متن قطار الزمن ؛ وبذلك الخروج على مبعدة من الحدث نفسه ، يحقق الهدف التنويري من خارج الحدث ، بوصفه مثقفاً طليعياً يعمل على خلق توعية طبقية لدى الغالبية التي ترمز إليها شخصية الراكب باعتبارها المحكومة بعامل التذاكر بوصفه رمزاً للحاكم فالشاعر يستعرض عبر مستويات ثلاثة المسيرة التاريخية للحاكم المتسلط بالحكي – التصويري- على لسان (السارد الضمني) : الراوي مرة وعلى لسان عامل التذاكر (السارد الثالث) - تشخيصاً - يعيد فيه فعل التسلط ومتداعياته أو يحكي بعضه منتحلاً صفة السارد الثاني في مرة أخرى وعلى لسان الراكب تشخيصاً – نفسياًَ- يعيد فيه فعل الإذعان مرة أو يحكي بعضه منتحلاً صفة السارد الضمني في مرة أخرى :
"الراوي : هاهو ذا يتململ سأمانا
إذ لا تستهويه اللعبة
فيجرب أن يلعب في ذاكرته
يستخرج منها تذكارات مطفأة ، ويحاول أن يجلوها
أسفا ، لا تلمع تذكاراته
يدرك عندئذ أن حياته
كانت لا لون لها
يسقط من عينيه أيامه
تتبدد دواماتٍ فوق حديد الأرضية
لا تتكسّر قطعاً وشظايا
إذ ليس هنالك شيء صلب
تراك .. تراك .. تراك
يتذكر مسبحته
يستخرج من جيب السروال الأيمن
تهوي من يده ، يتفقدها بأصابعه ،
فتروغ لترقد بين الكرسيين
يجهد أن ينقذها ، فتغوص .. تغوص .. تغوص ..
ويظل يفتش حتى تتناثر سبحته حبات
تتساقط فوق حديد الأرضية
تراك .. تراك .. تراك "
لأن السارد يمثل ما تراه الشخصية فحسب كما لو كان ينظر عبر عينيها أو كما لو كان "شاهداً غير منظور" يقف إلى جانبها السرد بوساطة المؤلف أو بوساطة الشخص الأول " ولأن السارد الضمني الراوي يقوم مقام الشاعر لذا يتكشف الدور التنويري تلميحاً ، لا ينفصل عن طبيعة التصوير الشعري ؛ على اعتبار أن الشعر "لمحٌ تكفي إشارته" – حسبما قال البحتري-، وحيث يستشف ما وراء الصورة من معانٍ أو دلالات. هنا – يمكننا أن نلمح بمنظور نظرية الانعكاس وعلى ضوء مصباح سيميولوجي خصوصية الشاعر نفسه .
من وراء غيم المعاني في عرض السارد الضمني (الراوي) فاللعب في الذاكرة ، لا يفيد من خوت حصّالة ذاكرته من تسجيل مادي لأفعال مجسدة لهويته . فعندما لا يكون للإنسان تاريخ مادي ملموس هو موضع تأثير إيجابي في واقع الآخرين ؛ قبل أن يكون مؤثراً في واقعه الذاتي ؛ فإنه يلوذ بمظاهر شكلية ، يتمسح بها . وهكذا يلوذ الراكب بمظهر تديّني .. بعد أن أدرك (أن حياته كانت لا لون لها) وهو يسترجع شريط ذكرياته عبر رحلة إذعانه التاريخية التي سيّرها الحكام المتسلطون باعتباره رمزاً لعامة الناس (المحكومين) على مر التاريخ ؛ ذلك أن الذاكرة هي القدرة على التمثل الانتقائي Selectively represent وفي واحدة أو أكثر من منظومات الذاكرة للمعلومات التي تميز بشكل فريد خبرة معينة ، الاحتفاظ بتلك المعلومات بطريقة منظمة في بنية الذاكرة الحالية وإعادة إنتاج بعض أو كل هذه المعلومات في زمن معين بالمستقبل وذلك تحت ظروف أو شروط محددة "
فعندما يكون التدين شكلياً وسطحياً (ظاهرياً) ؛ فإن ما وراء المظهر نفسه يروغ منه وينفلت . ولنلحظ لفظة (جيب سروال الأيمن) فمظهر تدينه في جيب سرواله ، وهو يخرجه عند الحاجة أو عند الفراغ في محاولة تبريره لخواء حياته من فعل مادي إيجابي له في حياته الإنسانية ، بالانتساب إلى مفردة من مفردات الاتباعية الدينية – باعتبار فكرة "اليمين" فكرة تدينية – وباعتبار " المسبحة " وسيلة ضبط إحصائي لطقس التسبيح والحمد – الذي ينسب فاعله إلى اليمين (الفكر الاتباعي) .
فاستخدام المسبحة أداة قياس وإحصاء عددي لأقوال الحمد وآلية ترديداتها ، وهنا يحل ظل التعبد محل العبادة مثلما تحل خصلة من شعر الحبيبة محل الحبيبة نفسها – وفق الفشتية – على أن خصوصية ما كامنة في آلية استدعاء الشخصية للحظة ، حيث يمد السارد الضمني الصورة المستعادة بخيوط الطقس التراثي ؛ لخلق لحظة لم تكن قائمة من قبل ، مع إنها الابن الشرعي لماضي شخصية الراكب – بتعبير صلاح عبد الصبور نفسه - إلى جانب كونها بمثابة الابن الشرعي للمستقبل .. فاستدعاء الراكب التجريبي لمذخور ذاكرته ، وليد حالة السأم التي انتابته – حسبما أشار السارد الأول - :
"هاهو ذا يتململ سأمانا
إذ تستهويه اللعبة
فيجرب أن يلعب في ذاكرته
يستخرج منها تذكارات مطفأة ، ويحاول أن يجلوها "

المسكوت عنه في اللحظة الدرامية المختزلة :
وعندما يتكشف خواء تلك الذاكرة وبهتان ما حوته يمده (السارد الضمني الراوي / الشاعر نفسه) بلحظة مختزلة ، إذ تمتد يد الراكب إلى الجيب الأمن لسرواله – الأيمن تحديداً – ليخرج منه شيئاً لا يخرج إلاّ من الجيب الأيمن – المسكوت عنه - وهنا يوظف التداعي التلقائي المدرب للاثنين : (السارد الضمني/ الراوي / الشاعر) و( السارد الثاني / الراكب) الذي يعاد تصوير فعله بالسرد التشكيلي عبر ذهن السارد الضمني وعبر ذهن المتلقي فور تلقيه للصورة على لسان (السارد الضمني) فيكفينا أن نلحظ ما وراء ذلك التداعي التلقائي المدرب حيث تمتد يمين الراكب إلى الجيب الأيمن في سرواله ليخرج لا إرادياً مسبحته . وما وراء فعله – المسكوت عنه- يشكل نواياه المستقبلية وهي الهجوع إلى الإذعان والتسليم : فالسأم إذاً سلمه للعب في ذاكرته ؛ وخواء ذاكرته من أي شيء إيجابي يعتز هو نفسه به ، يسلمه إلى مخزون طقسي تراثي هو ظل من فعل العبادة.
ولأن الصورة الفنية (الدرامية الشعرية) تتدعم بتداعيات صور أخرى سريعاً ما تتوالد عبر اللحظة المختزلة ؛ لإعادة إنتاج الفعل وصور توالده وتداعياته التي يحكم الشاعر الإمساك بزمامها حتى لا تسقط المغزى التنويري الذي حمّلها به ، بغية الإشارة إلى مظهرية فعله التديّني:
" تهوي من يده ، يتفقدها بأصابعه ،
فتروغ لترقد بين الكرسيين
يجهد أن ينقذها ، فتغوص ، تغوص ، تغوص
ويظل يفتش حتى تتناثر سبحته حبات
تتساقط فوق حديد الأرضية
تراك .. تراك .. تراك "
هكذا تحل آلية المقطع الصوتي لسقوط حبات المسبحة على حديد الأرضية بديلاً عن وحدة صوته المتكررة فيما لو كان قد تمكن من استعمال مسبحته في آلية تكرار جملة التكبير أو الحمد ، لتأكيد مظهرية تدينه ، أو شكليته ، لأنه ما لجأ إلى طقس التسبيح ، وإنما إلى مجرد التلهي بآلية تفض عزلته وتوتره ، وتشعره بالصحبة ، حيث أراد باتخاذ المسبحة رفيق ظل في رحلته . ولكن الشاعر – هنا – يحرمه من تلك النغمة ، مع إنها مجرد ظل رفقة .
وهنا تعمل التداعيات مع التفاصيل (منمنمات الصورة) على منح الصورة لوناً خاصاً بها يمنحها هويتها .. فالشغل على تفاصيل الصورة هو الذي يقودنا إلى سر الصنعة في الشعر والمسرح بتعبير صلاح عبد الصبور
يعتمد صلاح عبد الصبور هنا على حدث يقوم على ثلاثة محاور : (محور معرفي ومحور ثقافي اجتماعي ومحور تشكيلي) ولأن الموقف هنا تأسس على التجريد وإلقاء عبء تجميع مفردات أو جزئيات الصورة ، بهدف خلق حالة مشاركة إدراكية فحسب ، لذلك ألقى بعبء حمل خطاب الحكي على عاتق (السارد الضمني/ الراوي) نائباً عنه ومن ثم لم يصبح هنا مجال للمحور الوجداني.
يقول د.ماهر شفيق فريد في زجره لناقدي إبداع إليوت في تجريده لشخصياته المسرحية : "إن الفن إعادة خلق وليس عملية تسجيل والشخصية الحية في الفن ليست هي التي تتصرف وفق المنطق الحياتي ، وإنما هي التي تتصرف وفق المنطق الفني وحسب قوانين الحتمية الفنية "
يقول د. مصطفى سويف : " إن الشاعر لا يغير ذكرياته ؛ ولكنها تعود إليه متغيرة – وهو لا يقصد إلى وصف الوقائع من حوله بأوصاف جديدة ، لكنها هي التي تأتي حاملة هذه الأوصاف "
وإذا كانت شخصيات مسرحيات صلاح عبد الصبور الشعرية – فيما عدا (ليلى والمجنون) تبدو على مبعدة من أمور الحياة اليومية ومن الرسالة الاجتماعية الواضحة . مع ميل إلى أناقة الفكر والتعبير ، فذلك لكونه صاحب رؤيا خاصة للوجود ، رؤيا شعرية اختارت لنفسها قالباً درامياً . هو كما كان إليوت معنياً بقالب درامي شعري " تتحالف فيه الاهتمامات الإنسانية مع براعة الصنعة ، كي تنتج – في نهاية المطاف – أثراً كلياً لا يختلف ، من حيث الجوهر ، عن الأثر الكلي الذي تخلقه القصيدة أو القصة في نفس متلقيها "
فشخصية الراوي – بوصفه سارداً ضمنياً - تبني اهتمامات الشاعر الإنسانية بخلق حالة تحالف بين ما ينتجه ذهن الراكب من تهويمات ذاكرة البشرية عبر تاريخها الممتد من بذرة الفكر الفلسفي الأرسطي إلى آلة الحرب والدمار بداية من تلميذه الإسكندر حتى الواقع البشري المعاصر فمع أن الراوي وهو السارد الضمني التاريخي ، يحذر الراكب من استدعاء عظيم من العظماء عبر ذاكرته ، حتى لا يسيطر بعظمته من جديد على البسطاء ، بعد أن رآه وقد توقف عند أسماء محاربين طغاة ومحاربين وقادة عظماء وهو يقرأ أسماءهم على صفحة من جلد الغزال أخرجها من معطفه ، بعد أن انفرطت حبات مسبحة تسليته وتبعثرت ؛ غير أن الراكب لم يأبه لتحذير الراوي الضمني - رب العبرة التاريخية - :
" الراكب : الاسكندر
" تك .. تك .. تك "
هانيبال
" تك .. تك .. تك "
تيمور لنك
" تك .. تك .. تك "
هتلر .. متلر .. جونسون .. مونسون
" تك .. تك .. تك "
الاسكندر .. الاسكندر .. الاسكندر
الراوي : معذرة .. لا ينفصل الإنسان عن اسمه
فالعظماء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرة التاريخ
لتسيطر عظمتهم فوق البسطاء
والبسطاء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرتك
ليكونوا متنزه أقدام العظماء
ولذلك خير أن ننسى الماضي
حتى لا يحيا في المستقبل
حتى لا يخدعنا التاريخ
ويكرر نفسه
الراكب : الاسكندر .. تك .. تك .. تك
الاسكندر .. تك .. تك .. تك
إن مناداة الراكب للإسكندر هي مناداة استدعاء غير المحكوم لمن يحكمه ولأنه نادى الإسكندر على وجه الخصوص وهو من هو الغازي الذي يغزو الممالك والأمم مستخدماً الفكرة سلاحاً يقتل به كل من وقف في طريق طموحاته غير المحدودة . لذلك يتشكل الإسكندر أمام عينيه من أي عابر سبيل ، في درب من دروب أي عصر في أي مكان له طموحات سكندرية :
" عامل التذاكر : من يصرخ باسمي ، من يدعوني
من أزعج نومي في راوية العربة
أنت .. ؟
الراكب : معذرة .. من أنت ؟
عامل التذاكر : أنا الإسكندر
في صغري روضت المهر الجامح
في ميعة عمري روضت أرسطاليس
حين بلغت شبابي روضت العالم. "
هذا التصريح صوغ من عقل الشاعر نفسه ، إذ قلب المعلومة التاريخية رأساً على عقب لما رأى الدعوة الأرسطية نحو عولمة ثقافية تحت راية الفكر اليوناني وهي أول عولمة ثقافية في التاريخ وقد حولها الإسكندر إلى عولمة عسكرية اقتصادية ، إذ استبدل الغزو الفكري والثقافي بالغزو العسكري وسيادة العقل بسيادة السيف . وهي سيادة لم تكن لتتحقق لمغامر مستعمر ومتسلط ، دون خنوع جعل من خده مداساً لقدمه ؛ أو مظهر متراخ يأخذ الأمر باستهتار وتهكم ؛ فكلاهما مدخل للتسلط :
" الراكب : مرحى يا اسكندر .. هل أكثرت من الشرب "
هذا العبث غير المسؤول للتسلية أو لاصطناع رفقة مع مسبحة لا تستجيب له ، سريعاً ما يتحول عنها إلى لون آخر من العبث الحقيقي ، مع كائن وظيفي أي صاحب سلطة ؛ فإذا بالعبث يتحول إلى حقيقة :
"عامل التذاكر: لا تعرف قدري .. يا جاهل
قسماً ، سأروضك كما روضت المهر الجامح "
إن فصل البناء الدرامي في هذه المسرحية بين الفعل القولي أو المسموع (حوار الراكب وحوار عامل التذاكر) والفعل المرئي (الوصف السردي للفعل التطبيقي المرئي المادي في حكي الراوي وهو الدال على تحقيق الأقوال) هو بمثابة فصل بين الشعار وتطبيقاته ؛ فما أن يطلق (عامل التذاكر) تهديده ، حتى يصف لنا الراوي منظومة أفعاله تحقيقاًَ لقوله :
" الراوي : تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيمن
يستخرج سوطاً ملفوفاً
تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيسر
يستخرج خنجر
تمتد يد الإسكندر في ثنية سرواله
يستخرج غدارة
تمتد يد الإسكندر في حلقه
يستخرج أنبوبة سم
تمتد يد الإسكندر في جيب خلفي
يخرج حبلاً ..
يتحسسه خجلاناً ، ويقول :
عامل التذاكر : هفواً .. هذا مات به أغلى أصحابي
أعطيت صديقي الحبل ليلعب به
فأساء استعماله "
حكي يستعيد صور إرهاب الحاكم الفردي المتسلط ، الغازي ، فكل الغزاة والعسكريون الحكام مختزلون في هذه المسرحية في شخص الإسكندر. ذلك الغازي الأول باسم العولمة الثقافية ، متشحاً براية الفكر تحت شعار توحيد العالم تحت راية الفكر اليوناني ، تتويجاً لفكر أرسطو ، سلباً لهويات ثقافات الأمم الأخرى ، فسرعان ما ينزع قناع الفكر ويتدرع بقناع القهر المسلح؛ في مواجهة الآخر غير الخانع ، حتى إذا كان تابعه وأداة تحقيق إرادته وأقرب المقربين إليه؛ وهو يصفيه تصفية جسدية ثم يعلن على الملأ عبر وسائله الإعلامية بأن الرجل قد انتحر – بعد انتهاء مهمته- :
"هل تدري ؟
كلماتي في معناه صارت من مذخور التاريخ الأدبي
لم أكتبها ، لكني شاهدت وزيري يكتبها
وصرفت له خبزاً ونبيذاً ، حتى أنهاها
حتى علمني أن ألقيها إلقاء مأساوياً
يخضع لأصول النحو
فأنا أخطئ دوماً في الفاعل والمفعول "
هكذا يمسك الشاعر بطرف حبل التداعيات ، يرخى للصورة بالقدر الذي لا يسمح لمفردات التكوين في التعبير الدرامي الشعري بالانفلات أو التشتت الذهني للمتلقي . وتلك خاصية من خصائص سر الصنعة عند صلاح عبد الصبور تشير إلى بعد من أهم أبعاد العملية الإبداعية وهو السيطرة على السياق والإمساك بالجزئيات والتحليق فوق أسوار الكل بما يسمح بالتنقل بين الكل والأجزاء بشكل ديالكتيكي وبما يسمح بالنمو المتصاعد للعمل الإبداعي وللمبدع أيضاً، فالمبدع ينمو مع عمله ويكتسب خصائص هذا العمل "
لذلك لا نتشتت ذهنياً عندما ينتقل في تخلص درامي وجمالي من وصفه لحال صديقه الذي أعطاه المسؤولية (الحبل) فشنق بها نفسه ، إلى استعراضه الموجز لتاريخ حبل السلطة ودور وزيره في تمجيدها وتدريبه على إلقائها . والتأريخ لها في مقابل خبزه ونبيذه (ببطنه) وصولاً إلى طمع ذلك الوزير في ولاية ثمناً لأداء وظيفته :
" حتى علمني أن ألقيها إلقاء مأساوياً
يخضع لأصول النحو
فأنا أخطئ دوماً في الفاعل والمفعول
كان وزيري طماعاً ، إذ طالبني بولاية
ثمناً لدخول التاريخ ككاتب
فوهبت وزيري الأرض بأكملها كي يرقد فيها "

ليس الفاعل والمفعول هنا سوى الجاني والمجني عليه . إن الاستعارة والكناية وألوان التورية المجازية تصنع المسكوت عنه في التعبير الدرامي الشعري والنثري ، لذلك لا جب فهم الصورة الإبداعية من ظاهر القول . يقول الشاعر الأمريكي إدجار ألن بو : " يوجد في كل التعليقات المكتوبة عن شكسبير خطأ جذري لم يفطن إليه أحد . إنه يتمثل في محاولة شرح شخصياته لا على أساس أنها من صوغ العقل الإنساني ، وإنما على أساس أنها موجودات فعلية على وجه الأرض "
لا يستغرق فهم طبيعة فعل الحاكم الفرد المتسلط الكثير من التفكير مع اختزال الشاعر لأبعاد الشخصية ، حيث لا نكاد نرى ملمحاً واحداً من ملامح بعده الجسمي أو الاجتماعي أو النفسي، وإذا كان رسم الشخصية النمطية رسماً تجريدياً وفق ما جرى عليه مخططات الاتجاه الحداثي في إبداعاته التفكيكية ، وهنا يتبين لنا دور المؤلف الشاعر في تمليك شخصياته خبراته هو نفسه ، ومعارفه ، بحقنها في دماء تلك الشخصيات ، بوصفها من خلقه وصلاح عبد الصبور هنا ، إذ يتستر خلف (الراوي) ويجعله خليفته على كون خليقته إذ يقعده على عرش المستوى السردي الأول ، فإنه يملكه أمر كشف تاريخ حاضر شخصياته الرمزية (الراكب) و(عامل التذاكر) بوصفهما شخصيتين رمزيتين ، وكشف مبكر لفعلها المستقبلي ، فيما هو أقرب إلى مخطط أو دراسة جدوى تشخيصية لفعلها القادم قبل أن يقوم أحدها بإعادة إنتاجه امامنا . فالراكب وعامل التذاكر كلاهما لا يمتلك أي منهما تاريخاً ، سابقاً ، لذلك رأينا " "أنا " : الراوي " لما رغبت في التقاء الآخرين سعت إلى الالتجاء تحت رعاية الـ "هو" (المؤلف) أي تحت رعاية نظام رموز ممتلئ ، حيث الوجود ، لا يتداخل والعلامة وبالمقابل فإن ظلاً من الماضي يتخلل حُبسة الناقد إزاء الـ (أنا) "
هكذا التقت (أنا) : (الراكب) السارد الثالث – تشخيصاً تشكيلياً سردياً – بـ(هو) : (الراوي / السارد الأول) وكذلك فعلت (الأنا) عامل التذاكر المتوالدة أو المتشظية في أنوات متعددة ومتباينة – تشخيصاً سردياً تشكيلياً – وبذلك أصبحت للراكب طبيعته الخانعة تبعاً لجموده في درجته على السلم الاجتماعي ، بينما تملك شخصية (عامل التذاكر) صوراً متعددة للحاكم الفرد المتسلط المستعبد لتلك (الأنا) الخانعة الرابضة في موقعها الطبقي الساكن .
يجرنا هذا التأويل إلى القول مع رولان بارت أن : " الناقد هو من سعى إلى الكتابة ، والذي يملي انتظار عمل أدبي إضافي ، يصاغ خلال البحث عن ذاته . وتكمن مهمته في إكمال مشروع الكتابة ، ومتجنباً إيّاه في الآن ذاته . الناقد كاتب إنما حتى إشعار آخر "
ولأن " الناقد كما الكاتب ، يتمنى من القراء أن يثقوا ويوقنوا أكثر بقراره الذي اتخذه بالكتابة ، ولا يسعه أن يوقّع هذا التمني ، عكس الكاتب ، لذا يبقى محكوماً بالخطأ – وبالحقيقة "
لذا أثنّي على ما سبق لي قوله حول تأثر شخصيات صلاح عبد الصبور بالظواهرية الهيجيلية، حيث " تبدو الظواهرية الهيجيلية في محاولات شخصيات صلاح عبد الصبور لصنع هويتها ، حيث يسطع فكرها سطوعاً جدلياً على الواقع ، ومن ثم يرتد إلى الشخصية كما هو ، لأنه لا يجد في الواقع إلاّ صوراً ذهنية . وهو في رحلة سطوعه على ذلك الواقع لا يطور فيع فعلاً ولكنه ينمي الفكر فحسب ، ويطور العقل . من ثم فإن تحقيق الهوية لا يتمثل عندها إلاّ تمثلاً ذهنياً ، ومن ثم يكون التغيير الذي يمكن حدوثه تغيراً فكرياً فحسب ، وبدا تحقيق محاولاتها للهوية الفكرية المتمثلة في ذهن الكاتب "
هكذا كان (الحلاج) في محاولاته التفاعل المادي للثائر مع العامة ، فالوعي الذي ينقله إلى العامة وعي ذهني . وهكذا كان (الملك) حتى موته غير قادر على المستوى الواقعي على التفاعل المادي للمغازل ؛ فالشاعر يلقنه الغزليات تلقيناً ؛ كما يلقن جواريه :
" الشاعر : معذرة يا مولاي
لكني لقنت الأخرى كلمات مبتكرة
قد ترضي رغبتك الملكية "
"الشاعر : (ملقناً الملك في صوت خفيض)
يتنزل صوتك مثل رنين الجرس الفضي المتفرد ،
يتقطر من برج متشح بمروج الغيم الزرقاء "
" ليس للملك من فعل الغزل إلاّ ظله ، فهو ليس مغازلاً على مستوى قدراته الذاتية الواقعية ، إنما يكرر صورة المغازل التي لم تكن سوى صورة متخيلة في ذهن شخصية الشاعر "
وكذلك الأمر مع جواري الملك :
" الشاعر : لا .. لا .. قد ضاع المشهد . نسيت هذه المرأة أجمل ما فيه
سامحني يا مولاي
(للمرأة) مازال هناك حديث عن قيثارة حنجرتك
والأوتار تناشد مولانا أن يلمسها بأصابعه النورانية
مازال هناك حديث عن إغماضة عينيك
وأنت تغنين لمولانا عندئذٍ
إنك تحترقين شوقاً أن يرقد مولانا
في دفء الأمواج العسلية
وأخيراً كان جلالته سيقول :
خطواتك كالموسيقى إذ تتوافق في ذهن الفنان
عندئذ ستقولين :
بعثر هذي الأنغام على سلم رغبتك الملكية
وبصوت يتقطع آهات في حلقك
الملك : آه .. ما اتعس حظي
راقت لي الألفاظ كثيراً هذه المرة
لكن نسيتها . "
" الملك لا يؤدي بأحاسيسه هو ، ولا المرأة الثانية تفعل ذلك "
ليس للملك ولا لجواريه من الغزلية غير اللفظ ، فالـ(أنا) الشاعرة تمنحه صورة بالخطاب الغزلي ومضمونه دون أحاسيسها ، ولأنه ظل مغازل ، لذلك غابت عن اللفظ الأحاسيس ؛ ومن ثم غابت المصداقية وافتقدت الخصوصية .
والأمر نفسه عند الأميرة ووصيفاتها ؛ إذ ليس لها ، ولا لوصيفاتها غير ظل الفعل ، باجترار ذكريات فعل مضى وانقضى ، بإعادة إنتاجه ، ليخرج تشخيصاً لظل حبيبها الذي هجرها ، وظل أبيها المغدور من ذلك الحبيب الغادر (السمندل) حتى الشاعر الذي جاء مخلصاً (القرندل) هو أيضاً ثائر ظليّ لأنه أتى من حيث المجهول ، ومضى في غياهب المجهول ، كما لو كانت الأرض قد انشقت عنه فجأة أو هبط من السماوات العلى فبدا كمخلص وهمي ، أو غيبي .
لذلك يمكن القول إن صلاح عبد الصبور ، قد صنع شخصياته المسرحية ظلالاً لواقع سحري، واقع لا يشبه الواقع الحياتي . ذلك أن "الشعر عندما ينأى بعيداً عن إيقاع لغة الحياة ومصطلحاتها الجارية ، يفقد حيويته ، لذا فهو يميل إلى تقطير لعنته الخاصة من لغة الكلام العام المعتاد "
يقول إليوت : " إن كاتب الدراما الشعرية ، ليس مجرد إنسان ماهر ، في فنين اثنين ، وحاذق في أن ينسجها معاًَ . وهو ليس الكاتب الذي يستطيع أن يزخرف مسرحيته باللغة الشعرية والأوزان وإنما عمله يختلف عن عمل (الكاب المسرحي وعمل الشاعر) لأن نموذجه أكثر تعقيداً ، وأكثر أبعاداً .. بكل قواعد الدراما البسيطة الصريحة ، ولكنها تغزلها غزلاً عضوياً في تصميم خاص ، أكثر ثراء . "

كان الشعر ومازال مرتبطاً بمواقف رومنسية ، كما كان المسرح ومازال مرتبطاً بمواقف رومنسية ، ولئن جسد المسرح الشعري مواقف الحياة اليومية وفق تقنيات الواقعية أو وفق تقنيات التعبيرية والملحمية ؛ فقد جسد مسرح صلاح عبد الصبور الشعري شخصيات عبثية في مواقف عبثية وفق تقنيات مسرح العبث ، فكان ذلك فتحاً في مجال المسرح الشعري. فالتداعيات وعدم الترابط الفكري واللغوي والمقاربات أو المجاورات المعرفية المتواثبة وتجريد الشخصيات والمواقف والآلية والتكرار وسمات الحكي الناقص والتناقض فيما بين القول والفعل واستهداف الدهشة ، ماثلة في (مسافر ليل) ، وفي (الأميرة تنتظر) وفي (بعد أن يموت الملك) وهي حداثية تفكيكية ، تفكك النسق الاجتماعي والسياسي في واقع أنظمتنا السياسية ويفكك خطابها الديماجوجي وظاهرة تسلطها التاريخية على شعوبها ، كما يفكك خطاب استكانة الإنسان العربي وإذعانه المهين ، ويفكك دوره في صناعة حكامه المتسلطين على مدار تاريخه الطويل .

الهوامش :
التعبير المسرحي الشعري
بين التأمل الذاتي والانفتاح على المعنى
د.أبو الحسن سلاّم
 مهاد تأملي :
لعل من أهم خصائص الفكر في بنية الصورة الشعرية هو تقنع فكر الشاعر في خطابه الشعري بين طيات تعبيره بما ينطوي على نوع من البوح الذاتي المتأمل الذي ينفلت محمولاً على جناح وعي الشاعر أحياناً فيبدو مغلفاً بالمباشرة أو ينسرب من تحت جناح وعيه ليشف عن المسكوت عنه في سكتته الموضوعية في محراب الذاتية المتأملة – بما يشبه النقطة العمياء في مسار القصيد الشعري – وتلك مزية التفرد الشعري الذي يضيف إلى التجربة الشعرية مزية جديدة تشكل علامة فارقة بين شاعر وشاعر. غير أن تلك السكتة الموضوعية أمام الذاتية المتأملة التي تشف عن البوح الذاتي المتأمل وإن تناسبت مع شعر القصيدة فهي لا تتناسب على طول الخط مع الصياغة الدرامية بشعر المسرح ؛ إلاّ إذا ارتبط البوح التأملي الذاتي بشخصية مسرحية بعينها بما يتناسب مع أبعادها الاجتماعية والثقافية والنفسية وفي الحدود التي لا تستغرق من المتلقي للعرض المسرحي الشعري إلاّ زمن ترجمتها ترجمة معنوية فورية. والواقع يكشف عن استحالة ذلك في تلقي الصورة الشعرية حالة تبتلها التأملي الذاتي إذ أنها عندئذ تحتاج إلى زمنين أحدهما لفك شفرة الغلاف الذهني للصورة الشعرية في حوار الممثل (أولاً) تمهيداًَ للترجمة المعنوية لتلك الصورة من جملة تعبيرات الشخصية على لسان ممثلها (ثانياً) .. على اعتبار أن الأصل في عملية الإرسال والاستقبال في العرض المسرحي هو حالة الحضور الآني الذي يفترض ترجمة المتلقي الفورية لخطاب الشخصية المسرحية المحمول وجدانياً على لسان الممثل. وهو أمر يبدو متعذراً أمام الصورة الشعرية الدرامية المصطبغة بالتأملات الذاتية التي يشكل بوح الشخصية القناع الذي ينسرب من ورائه بوح الشاعر نفسه محمولاً على لسان فكر الشخصية . وهو أمر يلزم التلقي بكل مستوياته وطاقاته باستغراق زمنين وصولاً إلى معنى الخطاب الجزئي. أولهما: لفك شفرة الصورة المركبة من الصورة الذهنية إلى الصورة المعنوية ، وثانيهما: اكتشاف الدلالة طبقاً للمتوسطات القرائية (متوسطات التلقي) . وبذلك تفوّت عملية فك الشفرة الذهنية للصورة الشعرية الدرامية على المتلقي إمكان تحصيل حديث الممثل المتواصل الذي لا ينتظر الجمهور حتى يفك شفرة صورة شعرية صوتية انتهى من أدائها .
هذا البحث إذن معني بالوقوف عند إشكالية التعبير الشعري الدرامي عند تجسيده مسرحياً بحيث كان مفترضاً أن يكون تعبيراً درامياً شعرياً ، تبعاً لمقتضيات أسبقية الدراما على الشعر في النص المسرحي الشعري بحيث تصبح الدراما صاحبة العصمة على الشعر في الكتابة المسرحية الشعرية ، باعتبار الدراما تصويراً للفعل وليس تكريساً للصورة الشعرية على حساب الفعل – تبعاً للنظرية الأرسطية ولمتتابعاتها تحت مظلة المحاكاة أو مناقضاتها الإيجابية في حكي الدهشة التغريبية أو في حكي الدهشة العبثية السلبي.
على أن أسبقية الفعل في الدراما الشعرية على لغة الحوار الشعري لا يجب أن تطفيء وهج الطاقة الانفعالية لصالح الطاقة التأملية الفكرية ، وإنما توازن بينهما ، بما يتيح للفعل الدرامي المتجانس مع طبيعة الشخصية المسرحية فكراً وبيئة وثقافة متفردة أن يتحقق درامياً عبر سياق شاعري يتخذ من الشعر لغته ومن البواعث والعلاقات وعناصر التصوير الدرامي للحدث شاعريتها ليجسد هوية كل شخصية في النسيج الدرامي.

 البوح الذاتي المتأمل وإشكالية تلقي الصورة الذهنية :
تزخر مسرحيات صلاح عبد الصبور بوقفات البوح التي تقف عندها شخصياته وقفة اضطرارية لتنفث شحنة معاناة هنا وهناك مع تباين أسبابها . فإذا نظرنا في مسرحية (مأساة الحلاج) فلسوف نلحظ ذلك التباين ما بين بوح الشعور بالذنب ، وبوح التأسي وبوح المواساة، وبوح التأمل وبوح الإدانة وبوح الحض والتحريض ؛ ففي وقفة الحرفيين الدامعة حول الحلاج مصلوباً على شجرة في ميدان الكرخ ببغداد يتكشف البوح عن شعور بفداحة ما اقترفوه من ذنب في شهادة الزور التي قدموها ضده في مقابل دينار لكل منهم ، تلك الشهادة التي سلمته للجلاد :
"المجموعة : صفونا . صفاً .. صفاً
الأجهر صوتاً والأطول
وضعوه في الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتواني
وضعوه في الصف الثاني
أعطوا كلا منّا دينارا من ذهب قاني
برّاقاً لم تلمسه كفُ من قبل
قالوا : صيحوا .. زنديق كافر
صحنا زنديقُ .. كافر
قالوا : صيحوا فليقتل إنّا نحمل دمه في رقبتنا
فليقتلْ إنّا نحمل دمه في رقبتنا
قالوا : امضوا فمضينا
الأجهر صوتا والأطول
يمضي في الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتواني
يمضي في الصف الثاني "
لم يمض استرسال فقراء الحرفيين في بوحهم اعترافاً بالذنب مدفوعاً بتيار الشعور بفداحة الفعل ، وإنما انسرب من خلف جنحه المظلم بصيصاً من الوعي الفكري للتعبير الدرامي الذي تدثر ببردة التعبير الشعري. وهو أمر يحتم على الشاعر أن يبني التعبير على نحو يحرّف الصورة عمّا هو مألوف في النسق الحياتي وفق العادة والمألوف ليبدو الفعل الدرامي مشوهاً من حيث النسق النظمي البنائي ليحقق ضرورة براجماتية نفعية.

بوح الندم بين الضرورة الحياتية والضرورة الدرامية والجمالية:
في الحياة تختلف ضرورة النسق الوظيفي في صورة الفعل ورد الفعل عن ضرورته في التعبير أو التصوير والتشكيل الأدبي والفني. اصطفاف مجموعة من الناس اصطفافاً عفوياً تلقائياً ، أمام حدث ما أو حوله ، غير مقيد بنسق صناعي فيه إعمال عقلي أو تدبير منظم لذلك التجمع ، من هنا يبدو النسق من حيث مظهره عشوائياً ، بحيث يلبي الموضع الذي يقف فيه كل فرد من أفراد التجمع ، حاجته إلى الرؤية والسمع الحاضر لما هو حاصل مما اجتذبه إلى ذلك التجمع ، وهو أمر قد يستدعي تغييرات في مواضع الأفراد ، تبعاًَ لضرورة كل منهم إلى التعرف على كنه ما يجري. وهو أمر طبيعي ، لا يستهدف منه المتابع الحصول على معلومة حول ما يجري ، وليس الوصول إلى جمالية ما ، ولئن تحققت ؛ فذلك يكون بمحض الصدفة . وهذا غير ماثل في الصورة التي نسقها الشاعر هنا على النحو المألوف . أما اصطفاف مجموعة من الناس على نحو يلبي الضرورة الحياتية وفق نسق وظيفي مصنوع ، كاصطفاف الجند في طابور أو تدريب عسكري ، فيستلزم أن يقف الأقصر من الأفراد في الصف الأول ، ويقف الأطول فيهم في الصف الثاني ، يتبعه الأكثر طولاً في صف ثالث . وهكذا تتشكل منظومة الفصيلة أو الكتيبة نسقاً وظيفياً يمكّن الجميع من المواجهة بالنظر إلى الأمام وفق الوجهة أو المسيرة المحددة تحديداًَ مركزياً وحاسماً. وهذا غير ماثل في نسق الصورة الجماعية – المحكي عنها – في هذا المنظر الحزين فالنسق في اصطفاف فقراء الحرفيين -هنا – تفرضه الضرورة الفنية الدرامية الوظيفية في نسق جمالي مشوّه ، إذ وضع الأطول قامة والأجهر صوتاً في الصف الأول وهو أمر غير مألوف وفق الصورة الوظيفية التقليدية ؛ فجهارة الصوت وطول القامة هما أساس ترتيب نسق الصف في هذه الصورة ، وذلك لأن هدف المنظمين لتلك التظاهرة هو فضح الحلاج والتشهير به من ناحية وإعلان أصحابه من الحرفيين – من ناحية أخرى – وهم الذين وهبهم كلماته الحاضة لهم ليصلحوا أحوالهم المعيشية في اتجاه حثهم على عدم السكوت على حقوقهم المهضومة من قبل الأغنيء والحكام – لإدانته بتهمة الزندقة والكفر . فالأطول أكثر إيصالاً للصوت لمسافة أبعد ، خاصة مع جهوريّة الصوت. ومن الناحية الجمالية ؛ فإن في النسق تشويهاً مقصوداً لصالح الدلالة الدرامية ، فهذا التشويه قصد به خلق حالة من حالات الدهشة المتأملة للنسق المعكوس بما يغاير الصورة الاعتيادية ، والدهشة حالة من الحالات التي تستدعي التساؤل والتفكر اللحظي ، في محاولة اكتشاف سببية – بناء النسق على النحو الذي تعيد المجموعة تصويره بالحكي السردي. كذلك ما يستشفه المتأمل المؤول لدلالة لفظة (الأطول) حيث يجوز فهمها على أنه الأطول في فرض رأيه أو صوته على الآخرين وفهم لفظة (الأقصر) بضعيف القدرات ؛ إذ أنهم بحكم وضعهم في الصفوف الخلفية هم تابعون للأطول باعاً. وبذلك تكون الجمالية نابعة من لذة الشعور – المتأمل المؤول- بالتفوق لإدراكه كنه تشويه البنية الدرامية في الصورة الشعرية .

البوح التبريري ودرامية الاسترجاع:
من ألوان البوح في شعر الصورة الدرامية ذلك البوح الذي ينحو منحى التبرير لإبراء الذمة ونفضاً لتبعات الصمت وعدم المبالاة . وهو بوح استرجاعي ، إبراء للذمة ؛ وهو ماثل في تظاهرة جماعة الصوفية أمام مشهد الحلاج مصلوباً في الميدان ؛ ذلك أن الشعار عندهم أهم من صاحبه ، هو عندهم كما النحلة الملكة ؛ تموت فور إنجاز مهمتها :
"الفلاح : فلنسأل هذا الجمع
من أنتم ..؟
المجموعة: نحن القتلة
أحببناه فقتلناه "
الواعظ : لا نلقى في هذا اليوم سوى القتلة
ولعلكم أيضاً حين قتلتم هذا الشيخ المصلوب
المجموعة : ... قتلناه بالكلمات
الفلاح : زاد الأمر غرابه !
المجموعة : أحببنا كلماته
أكثر مما أحببناه
فتركناه يموت لكي تبقى الكلمات
التاجر : من أنتم ؟!
المجموعة : أصحاب طريق مثله
الواعظ : هل خفتم لما صاح الفقراء
فنكرتم أمره ؟
المجموعة : خفنا .. لا .. لا ..
لا يخشى الموت سوى الموتى
أنفذنا ما أوصانا به
الواعظ : أوصاكم به ..؟
المجموعة : كنّا نلقاه بظهر السوق عطاشا فيروينا ..
من ماء الكلمات
جوعى ، فيطاعمنا من أثمار الحكمة
وينادمنا بكئوس الشوق إلى العرس النوراني "
هنا نقف أمام غرابة الصورة وغرابة الفعل .. فالمحب لا يقتل حبيبه . غير أن للقتل في عرف المحبين أداة وحيدة هي عدم مبالاة المحب بحبيبه ، وحبهم له لأنه من صنع لهم شعاراً يستظلون بظله فلما انتهى من صنعه أحبوا الشعار وهاهم يرددونه ملقين تبعة قتله على ذلك الشعار فقوله كان قاتله :
" مقدم المجموعة : كان يقول :
إذا غسلت بالدماء هامتي وأغصني
فقد توضأت وضوء الأنبياء
كان يريد أن يموت ، كي يعود للسماء
كأنه طفل سماوي شريد
قد ضل عن أبيه في متاهة المساء
كان يقول :
كأن من يقتلني محقق مشيئتي
ومنفذ إرادة الرحمن
لأنه يصوغ من تراب رجل فان
أسطورة وحكمة وفكرة
كان يقول :
إن من يقتلني سيدخل الجنان
لأنه بسيفه أتم الدورة
لأنه أغاث بالدما إذ نخس الوريد
شجيرة جديبة زرعتها بلفظي العقيم
فدبّت الحياة فيها ، طالت الأغصان
مثمرة تكون في مجاعة الزمان
خضراء تعطي دون موعد ، بلا أوان
وحينما أسلمه السلطان للقضاة
وردّه القضاة للسلطان
ورده السلطان للسجان
ووشيت أعضاؤه بثمر الدماء
تم له ما شاء
هل نحرم العالم من شهيد ؟
هل نحرم العالم من شهيد ؟
الواعظ : أو لم يحزنكم فقده ..؟
المجموعة : أبكانا أنا فارقناه
وفرحنا حين ذكرنا أنا علّقناه في كلماته
ورفعناه بها فوق الشجرة "
لم تكن تلك التعبيرات التأملية سوى تمثل لتعابير الصوفية سكنت شاعرنا كما سكنت الحلاج نفسه.
تضمن هذا البوح الكثير من المفردات والمفاهيم الصوفية ، التي يغيب مغزاها عن المتلقي ربما على اختلاف مستوياته الثقافية وهو أمر يحول بين المعنى الجلي والمفهوم وبينه، وهو أمر لو شغل به فكر المتلقي المشاهد للعرض لبرهة قصيرة لضاع منه تحصيل معان حملها أداء حوار تال للمجموعة نفسها في إطار النسق الأدائي لبوحها في تظاهرة إبراء الذمة، وإعلاء الشعار على صاحبه . وهو إعلاء لا يتحقق إلاّ بمساعدته على نوال الشهادة . وهو أمر قريب من فكرة الخلاص في الديانات الأوزيرية ثم المسيحية بعد ذلك ، وفي فكرة الخلاص في الاستشهاد الحسيني عند الشيعة . فما أشبه هذه التظاهرة التطهيرية بتظاهرة الشيعة السنوية عبر مسيرة جلد الذات الجماعية ، التي تنقلها لنا الفضائيات في ظل الاحتلال والممارسات البهيمية المجهولة الانتساب والأسباب. وفي هذا الإعلاء إحياء للفكرة التي زرعها الحلاج بكلماته . والإحياء لا يتحقق إلا بري تلك الشجيرة (الشعار) بدمائه . فالخلاص في نهاية المطاف لا يتحقق بالكلمات وإنما بالدماء.. فلكي تحيا الفكرة وتتوهج ، لابد من التضحية بصاحبها . وبديلاً عن أن تكون الفكرة سبباً في حياة أفضل لمعتنقها تصبح سبباً في الموت.
البوح الإسقاطي (بوح القناع):
من البوح ما كان بوحاًَ إسقاطياً متمرداً ذا خلفية أيديولوجية ، وهو بوح مواجهة فكرية . ومثاله في مواجهة السجين الثاني للحلاج في الزنزانة ؛ وهو بوح يتقنع خلفه الشاعر ؛ إذ يحمل كلماته على لسان السجين الثاني ؛ هو بوح متعارضين أحدهما سلبي ، وتواكلي ، والآخر إيجابي :
" السجين الثاني : وبماذا تحيي الأرواح ؟!
الحلاج : بالكلمات
السجين الثاني : أتراك تقول ..
صلوا .. صوموا .. خلوا الدنيا واسعوا
في أمر الآخرة الموعودة
وأطيعوا الحكام وإن سلبوا أعينكم يتنزى منها الدم
رصوها ياقوتاً أحمر في التيجان
بشراكم ، إذ ترثون الملكوت
عفوا ، هذا لفظ من ألفاظ شبيهك "
مع أن الحلاج قد أدرك أن محاوره الناقض لخطابه يشبّهه (بابن الإنسان) الأمر الذي استدعى شكره له ، فمال قليلاً نحو النقد الذاتي ، إلاّ أن إدراك التلقي لذلك المعنى بعيد إلاّ على قلة من المثقفين :
"الحلاج : شكراً ، تعطيني أعلى من قدري
لكن في قولك بعض الحق
فأنا أحياناً أصرخ فيهم : خلوا الدنيا الفاسدة المهترئة
ودعوا أحلامكم تنسج دنيا أخرى "
ومع ذلك فإن بوح نقده الذاتي – هذا – يواجه ببوح ناقض له ، مفكك لمضمونه السلبي :
" السجين الثاني : دنيا أخرى من صنع الأحلام ؟
الحلاج : الحلم جنين الواقع "
ولأن البوح في الحوارية الوجاهية بين الرأي والرأي الآخر هو بوح إدراك متبادل في حالة من التعارض المحمول أحدهما على تيار وعي متبن لتجربة عملية في مواجهة وعي استلابي متبن لفكرة نظرية أو مجرد شعار .
ومثاله من (الحلاج) أيضاً المواجهة التي تمت بين القاضي أبي عمر والحلاج في مشهد المحاكمة :
"أبو عمر : يا حلاج .. أتدري لم جئت هنا ؟
الحلاج : ليتم الله مشيئته يا سيد
أبو عمر : هذا حق ..
والله تبارك وتعالى
قد ثبت في كف خليفتنا الصالح
أبقاه الله
ميزان العدل وسيفه
الحلاج : لا يجتمعان بكف واحدة يا سيد
أبو عمر : هذا قول من فتّان القول
لا يدركه أمثالك من أهل الفتنة
ابن سليمان : حلو .. حلو .. "
بوح النوايا في دراميات التنفيس والتنفيث :
من البوح ما كان إعلاناً عن النوايا .. فهنا يتطور البوح ليصبح بوحاً للنوايا . وهو لون من ألوان التنفيث عن ضغينة. وهو بوح تهديد ووعيد ؛ عندما يكون البوح كله إسقاطي ؛ فمنه التنفيث، وهو بوح مرضي ومن التنفيس تفريجاً عن كرب أو معاناة *. ومن بوح النوايا ما ينفثه القاضي أبو عمر حيث يصرح بما ينتويه من شر ضد الحلاج بما يخرج عن حيدة القضاء :
"الحلاج : لم يفتنّي قولك يا سيد
أبو عمر : سيروعك قولي فيما بعد
فاسمع وارتع
مولانا لا يدفع عبداً ممن وُلِّى
فيهم للسيّاف
إلاّ إن أحصى ما فرّط من أمره
في ميزان الإنصاف
مولانا يدري من زمن . أنك تبغي
في الأرض فسادا
تلقي بذر الفتنة
في أفئدة العامة
وعقول الدهماء
تتستر خلف الذقن الشهباء
أو أثواب المجذوبين الفقراء
والأقوال الغامضة المشتبهات القصد
إذ تسبكها وتقفيها كهذاء الشعراء
قل .. ماذا تبغي بهذائك؟
هل تبغي أن يضع المسلم ..
في عنق المسلم سيف الحقد ؟
الحلاج : لا .. يا سيد
بل أبغي لو مد المسلم للمسلم
كف الرحمة والود
أبو عمر : ولهذا تعرض للحكام
من أهل الرأي وأصحاب النعمة "
بوح الفضفضة (الديماجوجي) ودرامية المسكوت عنه :
حيث يطلق القاضي افتراضات مطلقة لا دليل على صحتها . إذ يتحول البوح التنفيثي إلى بوح مسلح بالوعي الطبقي المتقنع بالنص القرآني ليخرس أي قول مخالف لقوله من أن المحاكمة هي لقضية سياسية ، قضية رأي واعتقاد ؛ بخاصة والقاضي أبو عمر الحمادي هو قاض من قضاة المالكية المعروفين بتقربهم من الخلفاء والأمراء :
"أبو عمر : ماذا تبغي ؟
أن يختل الناموس ويصبح أمرُ العامة
أعلى من أمر الخاصة
أن يحكم فينا الحمقى والجهلة
أن يُعطى الأمر لمن ليس بأهل له
ابن سليمان : فتقوم الساعة
أبو عمر : يا حلاج
الجرم الثابت لا ينفيه أن تتباله وتتمتم
ابن سريج : يا مولانا . هلاّ أعطيت الرجل المهلة يتكلم
فلقد حققت وأحكمت التهمة ، ثم أدنت
أبو عمر : ما حاجتنا أن نسمع في هذا المجلس
فيضاً من لغو القول المبهم ؟
فليعلُ حديث العدل إذا خرس الجُرم
قال تعالى :
" إنما جزاء الذين يفسدون في الأرض "
دراميات البوح المراوغ :
هو بوح يعتمد على التورية التشخيصية. وهي ليست تورية لفظية ، حيث للفظ معنيان أحدهما ظاهر ، والآخر باطن ، وهو المقصود ، بل تعتمد على موقف حقيقي مقصود ، يتخفى خلف موقف زائف وخادع وهو ماثل في مراوغات القاضي ابن سليمان (وهو حنفي المذهب)** :
"ابن سليمان : لا أخشى أن يلزم دمه عنقي
باسم الشرع
لكني لا أرضى أن يلزمني باسم السلطة
فأنا لم أشهده يبغي إفساداً في الأرض
أبو عمر : الشرطة قد شهدته
ابن سليمان : لكني لم أتحقق من قول الشرطة
أبو عمر : يا ابن سليمان
لسنا أهل التحقيق
بل أهل الفتوى . أعلم هذا الجيل
بأحكام الشرع ؟
فالشرطة والوالي والسلطان يسوسون
.. أمور الدولة
ويميزون الجاني .. ويقيسون الجرم
بإمعان وتثبت
فإذا صح الجرم لديهم وقفوا
الجاني بين يدينا
لنرى فيه الرأي الشرعي الصائب
ابن سليمان : يا مولانا
رأي من رأيك ..
لكنك قد وضحته
ببيان مثلي لا يدرك حسنة
فلتسمح لي أن أعرض رأيي
بعباراتي الجرداء من الفطنة
إني قد أسأل نفسي الآن
من نحن .. وما علة هذا الجمع ؟
نحن رجال العلم . وأهل الشرع
والوالي يستفتينا في أمر
وعلينا إتقان الفتوى
أنا لا يعنيني ما اسم المتهم ..
الماثل بين يدينا
والحلاج لدينا حالُ . لا شخص ماثل
وكأن الوالي يسألنا
ما حكم الشرع العادل
في من يبغي في الأرض فساداً . يبذر
فيها بذر الفتنة
وهنا نتملى في الأحكام . وننثرها
نتخير منها
ونقول :
للوالي . لا للحلاج
هذا حكم الشرع
في من يبغي في الأرض فساداً
أن تقطع أرجله .. أيديه .. ويصلب
في جذع الشجرة
ويفض المجلس
هل فتوانا ملزمة للوالي ؟
لا .. فله أن ينفذها
أو أن يسترجع أمره
وهنا لا نحمل وزر دم مسفوك
في ظلم أو عدل
ابن سريج : لا ، لا ، يابن سليمان "
لا يفلح التهرب من المسؤولية عن طريق المراوغة واللف والدوران على الحقائق ، وجود وعي نقدي مسلح بالشجاعة والاستقامة والعلم والفهم التام بأبعاد موضوع اختلفت حوله الآراء ضروري خاصة إذا كان موضوعاً يتعلق بالأرواح والأنفس ، من هنا تتطور المواجهة إلى اصطدام ، بين ممثلي المذاهب الثلاثة ، بين حزب الموالاة وممثل المعارضة. مع خطأ ذلك الأمر وخطورته في مجال القضاء
"ابن سريج : ما تنسجه من محبوك القول
أحبولة شيطان
إن الكلمات إذا رفعت سيفاً
فهي السيف
والقاضي لا يفتي . بل ينصب
ميزان العدل
لا يحكم في أشباح . بل في أرواح
أغلاها الله
إلاّ أن تزهق في حق . أو في إنصاف
الوالي والقاضي رمزان جليلان
للقدرة والحق
لا تدنو من مرماها أفراس القدرة
لا تبلغ غايتها
إلاّ إن أمسك فرسان الحق
بزمام أعنتها
فإذا شئتم أن ينقلب الحال
أن تلقوا فرسان الحق
صرعى تحت حوافر فرس القدرة
فأنا استعفي من مجلسكم
أبو عمر : يا ابن سريج هذا مجلس حكم مخصوص
وله تقدير مخصوص
ينظر في أمر مخصوص
وكما قال القائل
ابن سريج : (مقاطعا) مخصوص .. مخصوص .. مخصوص
هل خصّوا هذا المجلس بالظلم "
لأن ابن سريج قاضي الشافعية يعلم أن القوانين لا تفصّل خصيصاً لشخص بعينه عند محاكمته في تهمة نسبت إليه ، لذلك انتفض انتفاضة حادة في وجه التدليس في أمور قياس العدالة وإجراءاتها التي لا تخالف كل شرع وتنافي كل منطق *** لذلك انفجر ابن سريج في وجه القاضي المالكي ؛ ولم تثنه تلميحات أبي عمر – هذا – في محاولة توريطه بدفعه دفعاً إلى اتهام السلطان بالظلم مما دعاه إلى إعطائه درساً في مفهوم العدل :
" قل لي في لفظ واضح
هل نحن قضاة باسم الله
أم باسم السلطان ؟
أبو عمر : بل قل أنت
أوتنكر أن السلطان خليفة رب الأكوان
على الأكوان ؟
ابن سريج : هذا السلطان العادل ..
أبو عمر : أو تبغي أن تدفع عن مولانا
صفة العدل ؟
ابن سريج : بل أرجو أن أثبتها له
ليس العدل تراثاً يتلقاه الأحياء ..
عن الموتى
أو شارة حكم تلحق باسم السلطان
إذا ولي الأمر
كعمامته أو سيفه
مات الملك العادل
عاش الملك العادل
العدل مواقف
العدل سؤال أبدي يطرح نفسه كل هنيهة
فإذا ألهمت الرد تشكل في كلمات
أخرى
وتولد عنه سؤال آخر يبغي ردا
العدل حوار لا يتوقف
بين السلطان وسلطانه
أبو عمر : العدل .. العدل
ماذا تبغي حتى يجري العدل
ابن سريج : أن نسمع صوت المتهم الماثل
بين يدينا
ونسائل أنفسنا وضمائرنا
أبو عمر : هه ..
هو لا يبغي أن يتكلم "
البوح الحلولي الصوفي بين المقولة والدفاع عنها :
للصوفيه الحلولية مقولتها أو خطابها الذي تمثل في شعر الحلاج (حسين بن منصور) نفسه:
"أنا أنت وأنت أنا نحن روحان حللنا بدنا "

"فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا "
كما تمثل في خطبة الحلاج الدرامية الاحتفالية في ساحة بغداد التي دعا فيها الناس – خاصة الفقراء - إليه صائحاً ؛ حاضاً على التمرد والثورة :
"الحلاج : إلي إلي يا غرباء .. يا فقراء .. يا مرضى
كسيري القلب والأعضاء ، قد أنزلت مائدتي
إلي إلي
لنطعم كسرة من خبز مولانا وسيدنا
إلي إلي أهديكم إلى ربي
وما يرضى به ربي "
فما أن يتجمع الناس حوله حتى يكشف عن جوهر مقولته الحلولية ، غير منتصح بنصح رفيقه الشبلي ، وغير ملتفت إلى الحديث : "خاطبوا الناس على قدر عقولهم " بل يمض في كشف سريرة نفسه ، وإسقاط ما في ضميره :
" أراد الله أن تجلى محاسنه ، وتستعلن أنواره
فأبدع من أثير القدرة العليا مثالاً ، صاغه طيناً
وألقى بين جنبيه ببعض الفيض من ذاته
وجلاّه . وزيّنه ، فكان صنيعه الإنسان
فنحن له كمرآة ، يطالع فوق صفحتها
جمال الذات مجلّوا ، ويشهد حسنه فينا
فإن تصفُ قلوب الناس ، تأنس نظرة الرحمن
إلى مرآتنا ، ويديم نظرته ، فتحيينا
وإن تكدر قلوب الناس يصرف وجهه عنّا
ويهجرنا ، ويجفونا ..
وماذا يفعل الإنسان إن جافاه مولاه ؟
يضيق الكون في عينيه ، يفقد ألفة الأشياء
تصير الشمس في عينيه أذرعة من النيران
يلقى ثقلها المشّاء
على وجه السما والأرض . ألواناً من اللهب
ويضحي البدر دائرة مهمشة رمادية
من القصدير ميتة وملقاة على بيداء
فقد جفت عيون الناس ، أضحت نقطة سوداء
وتذوي أذرع الأشجار تلقي حملها للأرض
وتدفئه كمجهضة تكفن عارها في الطين "
إن بوح الحلاج حتى الآن لم يزد عن كونه بوحاً ذاتياً ، مجرداً يحوّم حول ما أودع الله من ضيائه في الإنسان. حتى ما اتصل بأحوال المجتمع ومعاناة الناس ، لم يجر مجرى التشخيص والتحديد بل ظل يدور في إطار التجريد لذلك كانت خطبة بوحه الحلولية تلك خير مثال على بوح التوق إلى الاستشهاد ؛ في لغة استعارية فوق طاقة فهم العامة الذين استهدف الحلاج مخاطبتهم .
" ويمشي القحط في الأسواق ، يجبي جزية الأنفاس
من الأطفال والمرضى
حقيبته بلا قاع ، فلا تملأ إذ تعطي
ورغبته بلا ري ، فلا تسكت أن تسأل
وخلف القحط يمشي تحت ظل البيرق المرسل
جنود القحط ، جيش الشر والنقمة
خلائقهم مشوهة ، كأن الذيل فوق الرأس
يقود خطاهمو إبليس ، وهو وزير ملك القحط
وليس القتل والتدجيل والسرق
وليس خيانة الأصحاب والملق
وليس البطش والعدوان والخرق
سوى بعض رعايا القحط ، جند وزيره إبليس "

بهذا الوعي الغيبي يطيش سهم الحلاج بعيداً عن قناعة تحرك العامة ، فهو يلقي تبعة الانحراف والفساد الاجتماعي على إبليس الذي يستغل فقر الفقراء فيحضهم على الجرائم. وهو بذلك لم يزد عن كونه خطاب وعظ ديني ، سأم العامة من سماعه من على المنابر في المساجد المنتشرة في كل موقع .
وربما وضح ذلك بتأمل الدور السلبي لتلقي العامة لخطاب بوحه التجريدي إذ لم يتعامل مع الخطاب سوى العسس ورجال الشرطة :
" تعالى الله ، قد يأنف أن ينظر في مرآتنا ذاته
فيصرف وجهه عنّا
فكيف إذن نصفي قلبنا المعتم ؟
ليستقبل وجه الله ، يستجلي جمالاته
نصلي .. نقرأ القرآن
نقصد بيته ، ونصوم في رمضان
نعم ، لكنّ هذي أول الخطوات نحو الله
خطى تصنعها الأبدان
وربي قصده للقلب ولا يرضى بغير الحب
تأمل ، إن عشقت ألست تبغي أن تكون شبيه محبوبك
فهذا حبنا لله
أليس الله نور الكون
فكن نورا كمثل الله
ليستجلي على مرآتنا ذاته "
لم يتحرك الناس بسبب خطاب الحلاج التحريضي المغلف بروح الرومانتيكية ، فالشرط الذاتي لم يزد عن كونه وعياً ذاتياً سلبياً ، والشرط الموضوعي غائب تماماً عن الوسط الاجتماعي المتلقي لخطاب الحض ، وإنما كانت حركتهم لاستنقاذ الحلاج من أيدي الشرطة ، يسبب كراهية الناس للشرطة.

والمحلل لخطاب الحلاج – هنا – يجده يصف فعل الله فينا : ( " أراد الله – فأبدع – صاغه – وألقى – وجلاه – وزينه – يطالع – ويشهد – تأنس نظرة الرحمن – يديم نظرته " ) وكل هذه الأفعال الإلهية من أجل أمر وحيد هو أن يصبح الإنسان مرآة لذات الله ليشهد حسنه فينا . وذلك شريطة أن تصفو قلوبنا . والمقابل هو استمرار حياتنا فإذا لم تصف قلوبنا ففعل الله يتغير : ( " يصرف وجهه عنا – يهجرنا – يجفونا " ) عندها : (يضيق الكون في عين الإنسان – يفقد الألفة – يفقد القدرة على الرؤية الحقيقية – يستشري الفقر بين الناس – يتفشى المرض – تنتشر الجرائم) وخلاصة القول : إن الحض على زوال البلاء وصلاح أحوال الناس وإقامة العدل قرين بحسن علاقة الناس بالله .
لكن ما الذي أثار الشرطة من ذلك القول ، خاصة وأن الخطاب لم يحرك حماسة واحد ممن تحلقوا حول صاحبه ، هل لأنه نعتهم بأنهم جند إبليس وزير الفقر ، وأنهم شريرون شائهة خلائقهم وأنهم أداة البطش . لذلك استدرجوه ؛ وهو الذي أعد نفسه وهيأها لمواجهة (دون كيخوتية) :
"الشرطي : ولكن شيخنا الطيب ، هل ربي له عينان
لكي ينظر في المرآة ؟ "
وعبثاً يحصل الشرطي على إجابة من جنس سؤاله ؛ بل يواجه بتساؤل استنكاري فيه ازدراء:
"الحلاج : ولكن ولدي الطيب ، هل قفل على قلبك
حتى ينطق القرآن
أم على قلوب أقفالها "
وعبثاً يحصل العامة أيضاً على المطلوب منهم من جملة خطاب الحلاج . وهكذا يلقى الحلاج بمقولته الحلولية ، دون أن يدعمها ، حتى عندما تتناوشه الأسئلة الاستدراجية لا يجيب بل يتهم السائل المغرض بانغلاق الفهم ، وكأن عملية التواصل أو الاتصال مرهونة بطرف التلقي ، دون أن يلتزم المرسل بتهيئة رسالته بما يتناسب ومستويات الوسط أو التلقي ؛ إلاّ إذا كان هدف الإرسال تحقيق المجرد غير المنظور إلاّ من صاحبه :

بوح التوق إلى الشهادة :
" (ضجة وتلويح بالأيدي توشك أن تصبح مقتلة )
الحلاج : لا ، يا أصحابي
لا تلقوا بالاً لي
استودعكم كلماتي
عودوا .. عودوا ..
ودعوني حتى تنفذ في بدني
لتؤدبني
ألفاظ عتاب المحبوب النارية "
"الشرطي : يا قوم
الشيخ أقر بجرمه
فدعوه يمضي ليؤدب
يا شيخ ..
هل أقررت بجرمك ؟
الحلاج : هذا حق يا ولدي ..
فلقد أجرمت بحقه
إذ أفشيت السر
الشرطي : أسمعتم !
الحلاج : عاقبني يا محبوبي أني بحت وخنت العهد
لا تغفر لي ، فلقد ضاق القلب عن الوجد
لكن عاقبني كعقاب الخصم خصيمه
لا كعقاب المحبوب حبيبه
لا تهجرني ، لا تصرف عني وجهك
لا تقتل روحي بدلالك
اجعل بدني الناحل أو جلدي المتغضن
أدوات عقابك "
إن موقف الحلاج هنا مناظر لموقف سقراط ، الذي التزم بكلمته باحترام القانون حتى ولو كان الثمن هو فقدانه لحياته ، وقد فعل ، ورفض محاولات تلاميذه وحوارييه المدفوعين بحض غير مباشر من الحكام . كذلك التزم الحلاج بكلمته التي تسلم لله الأمر كله ، وتدعو الناس إلى تسليم الأمر كله لله ، حتى تنصلح أحوال البشر ، حتى وهو يساق إلى حتفه :
" أبو عمر : هه ..
هو لا يبغي أن يتكلم
وعلى كل ، مازالت جلستنا ممدودة
فليسمعنا شيئاً من لغوه
يا هذا الشيخ المنفوش اللحية
بم تدفع عن نفسك ..؟
الحلاج : لستم بقضاتي ،
ولذا لن أدفع عن نفسي "
إن دفع الحلاج هنا ليس دفعاً لشخص القاضي أو هيئة هذه المحكمة على وجه الخصوص ، بل هو دفع لكل هيئة قضائية ، لأنه لا يؤمن إلاّ بقضاء الله ، لذلك تحايل قاضي الشافعية ابن سريج حتى يحثه على التعامل مع الهيئة القضائية دفاعاً عن نفسه ؛ ومن الغريب أن الحلاج يستدرج بحسن نية من ابن سريج :
"ابن سريج : يا حلاج ..
لا تدفع عن نفسك
بل حدثنا عما فيها
إن كان هو الحق ، عرفناه معك
وإذا كان الباطل ..
نبهناك إليه
وأخذناك بجرمه ..
الحلاج : أوعدتم إن كان الحق ..
تمضوا فيه معي ؟ "
مثل هذه النية الحسنة ، أو سذاجة التوكل والافتراض العاطفي لحسن نوايا الآخرين تقابل بواقع صادم ، واقع وعي طبقي :
"أبو عمر : نمضي فيه معك ..؟
أما إنك رجل ساذج
أو إنك أذكى مما تتصور
ولهذا أفسدت صعاليك العامة "
ومع وضوح موقف القاضي الساخر التهكمي من طرح الحلاج ، فإن الحلاج ينصاع للقاضي ويصدقه وينبري في بوح طويل استرسالاً خلف تيار الشعور :
" أبو عمر : قد نصبح من أتباعك ( ساخراً )
من أنت ، وما خطبك .. ؟ "
الحلاج : أنا رجل من غمار الموالي ، فقير الأرومة والمنبت
فلا حسبي ينتمي للسماء ، ولا رفعتني لها ثروتي
ولدت كآلاف من يولدون ، بآلاف أيام هذا الوجود
لأن فقيراً – بذات مساء – سعى نحو حضن فقيرة
وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية
نموت كآلاف من يكبرون ، حين يقاتون خبز الشموس
ويسقون ماء المطر
وتلقاهم صبية يافعين حزانى على الطرقات الحزينة
فتعجب كيف نموا واستطالوا وشبّت خطاهم ..
وهذي الحياة ضنينة "
ومن الغريب أن الحلاج في مواجهته للمحكمة لا يفعّل تيار الوعي ، وهو الأدعى للتفعيل واليقظة والحذر ، مثله مثل كل من أوقف أمام قضاته . غير أن الحلاج وقد صرّح بأن القضاة ليسوا قضاته ، وهو في الوقت ذاته ، ينبري في بوح إدانته لنفسه – قاصداً – لأنه يتمنى الشهادة ويسعى لها :
"الحلاج : تسكعت في طرقات الحياة ، دخلت سراديبها الموحشات
حجبت بكفي لهيب الظهيرة في الفلوات
وأشعلت عيني ، دليلي ، أنيسي في الظلمات
وذوّبت عقلي ، وزيت المصابيح ، شمس
النهار على صفحات الكتب
لهثت وراء العلوم سنين ، ككلب يشم روائح صيد
فيتبعها ، ثم يحتال حتى ينال سبيلاً إليها فيركض
ينقض
فلم يسعد العلم قلبي ، بل زادني حيرة واجفه
بكيت لها وارتجفت "
في هذا الجزء من بوح الإدانة يكشف الحلاج أمام قضاته أنه غير اتباعي ، لأنه وظف حواسه الخشنة (البصر) طلباً للبصيرة التجريبية ، تفعيلاً لتحصيله العقلي ، بعيداً عن التحصيل الاتباعي النقلي :
" وأحسست أني ضئيل كقطرة طل
كحبة رمل
ومنكسر تعس ، خائف مرتعد
فعلمي ما قادني قط للمعرفة "
غير أنه يراجع نفسه حول ما أفادت من العلوم الطبيعية والتاريخية قديماً وحديثاً ؛ فيجد في نفسه قصوراً نحو معرفة سر الوجود من حيث البداية والنهاية :
" وهبني عرفت تضاريس هذا الوجود ..
فكيف بعرفان سر الوجود ، ومقصدي
مبتدا أمره ، منتهاه "
ليس هذا هو بوح الحلاج محمولاً على أثير التاريخ موصولاً بنبرات شخصية مسرحية معاصرة مستلهمة من تاريخ (الحسين بن منصور الحلاج ) المتصوف العراقي من المرتبة الرابعة - وفق تصنيف الجنيد لمراتب المتصوفة - ، ولكنه بوح المثقف المعاصر المسكون بتاريخ ثقافة التمرد العربي ، الذي هو صلاح عبد الصبور نفسه والذي هو أحمد عبد المعطي حجازي ، ومحمد عفيفي مطر ، وأمل دنقل ، بل كل مثقف عربي حقيقي ، فما من مثقف حقيقي ، إلاّ وانغرزت جذوره في طين المعرفة التراثية المظنونة وامتدت فروعه عبر أثير المعارف اليقينية المتجددة ، وما من مثقف حقيقي ، إلاّ وتأرجح ما بين الشك واليقين ؛ وما من أحد إلاّ وطالته حيرة المثقف ، مثلما طالت الحلاج :
" الحلاج : سألت الشيوخ ، فقيل
تقرب إلى الله ، صل ليرفع عنك الضلال ..
صل لتسعد
وكنت نسيت الصلاة ، فصليت لله رب المنون
ورب الحياة ورب القدر
وكان هواء المخافة يصفر في أعظمي ويئز
كريح الفلا .. وأنا ساجد راكع أتعبد
فأدركت أني أعبد خوفي ، لا الله ..
كنت به مشركاً لا موحد
وكان إلهي خوفي
وصليت أطمع في جنته
ليختال في مقلتي خيال القصور ذوات القباب
واسمع وسوسة الحلي ، همس خرير الثياب
أني أبيع صلاتي إلى الله
فلو أتقنت صنعة الصلوات لزاد الثمن
وكنت به مشركاً ، لا موحد
وكان إلهي الطمع "
يجد خدم السلطة الحاكمة في أي مكان وزمان ، مثل هذا البوح الأمين والصادق مع النفس ، دليل اعتراف يؤخذ به صاحبه ، لذلك أخذ به من أخذ من المفكرين ومن المثقفين والمبدعين عبر تاريخنا المحكوم بالسلطة الفردية التي تزيّت أحياناً بأزياء التدين وبأزياء الديمقراطية واحترام الرأي الآخر، كما أخذ به الحلاج وعشرات المفكرين والمثقفين والمبدعين الشعراء على مر عصور الحكم الإسلامي العربي ؛ لمجرد أن وقع أحدهم في حيرة المثقف ؛ كما وقع الحلاج :
"الحلاج : وحير قلبي سؤال :
ترى قُدّر الشرك للكائنات
وإلاّ ، فكيف أصلي له وحده
وأخلى فؤادي مما عداه
لكي إنزع الخوف عن خاطري
لكي أطمئن .. "
ولكي يفض المثقف حيرته ؛ فهو يلقى بنفسه مختاراً في قارب فكري ما يسبح به مع راكبيه ضد تيار الثقافة التقليدية المألوفة ، هكذا فعل الحلاج ؛ إذ اتخذ الحلولية قارب نجاة في بحر الحيرة الثقافي :
" الحلاج : كما يلتقي الشوق شوق الصحارى العظام
بشوق السحاب السخي
كذلك كان لقائي بشيخي
أبي العاص عمرو بن أحمد ، قدس تربته ربه
يحب النوال
ويعطي ، فيبتل صخر الفؤاد
ويعطي ، فتندى العروق ويلمع فيها اليقين
ويعطي ، فيخضر غصني
ويعطي ، فيزهر نطقي وظني
ويخلع عني ثيابي ، ويلبسني خرقة العارفين
يقول هو الحب ، سر النجاة ، تعشّق تفز
وتفنى بذات حبيبك ، تصبح أنت المصلي ،
وأنت الصلاه
وأنت الديانة والرب والمسجد
تعشقت حتى عشقت ، تخيلت حتى رأيت
رأيت حبيبي ، وأتحفني بكمال الجمال ،
جمال الكمال
فأتحفته بكمال المحبة
وأفنيت نفسي فيه
أبو عمر : صمتاً : هذا كفر بيّن "
وكما لا يفلت الحلاج من الإدانة ، لم يفلت مفكر طليعي أو مبدع أو شاعر من إدانة ما ، لابد وأن تصمه بها السلطة الفردية بكل مستوياتها . ولئن وجد مفكر متهم من قبل نظام الحكم الفردي ؛ منصفاً ؛ يضع القول في سياقه ويفهمه في إطار سياقه النصي والفكري ، دون أن يأخذ صاحبه بظاهر القول ؛ فإن ذلك لا يحول دون تصفيته تصفية جسدية باسم الشرع ، أو باسم القانون ، أو حبسه به – على أقل تقدير - ؛ فالمبدع متهم بإبداعه ، بوصفه ضلالة :
" ابن سريج : بل هذا حال من أحوال الصوفية
لا يدخل في تقدير محاكمنا
أمر بين العبد وربه
لا يقضي فيه إلاّ الله
لنسأله عن تهمة تحريض العامة
فلهذا أوقفه السلطان هنا
هل أفسدت العامة يا حلاج ؟ "
لا يستطيع صاحب اعتقاد صادق ، أن يخلي بين إجاباته عما يطرحه عليه قاض ما ، حالة توقيفه أمام محكمة ما ومعتقداته لذلك ينطق الحلاج بما هو ضروري ، إعلاناً لمعتقده وإعلاء لفكره :
"الحلاج : لا يفسد أمر العامة إلاّ السلطان الفاسد
يستعبدهم ويجوعهم "
هذا اتهام للسلطان ، أي سلطان . وهنا يسرع القاضي بتضييق الخناق عليه للحصول على اعتراف محدد ، لذلك يصوغ سؤال اتهام محدد ، يستلزم إجابة محددة :
" ابن سليمان : يعني هل كنت تحض على عصيان الحكام ؟ "
لو كان العامة في مصر ، في ظل نظام الستينيات مستعبدين وجوعى ، لصودرت هذه المسرحية ، ولكن لحسن حظ المثقف العربي بشكل خاص والمسرحيين بخاصة ، أن ثورة يوليو 1952 لم تكن تضيق اقتصادياً واجتماعياًَ على الفئات الدنيا من الطبقات الشعبية ، ولن يشفع للشاعر صلاح عبد الصبور – عندئذٍ- أن يراوغ بلسان الحلاج في إجابته عن السؤال المصيدة الذي طرحه عليه (ابن سليمان) ؛ ليتمكن الحلاج من الدوران الإطاري حول السؤال؛ المصيدة :
" الحلاج : بل كنت أحض على طاعة رب الحكام
برأ الله الدنيا أحكاماً ونظاماً
فلماذا اضطربت ، واختل الإحكام ؟
خلق الإنسان على صورته في أحسن تقويم
فلماذا رُدّ إلى درك الأنعام ؟ "
لا يستطيع مفكر متمرد على منظومة الحكم الاستبدادي أن يفلت من قبضة زبانية الحكم وخدّامه الشرعيين من ناحية والقانونيين من ناحية أخرى مهما حاول المراوغة ، أو المناورة . والحلاج هنا وإن راغ فإن مراوغته ليست تراجعاً منه عن عزمه على نيل الشهادة على أيدي جلاديه :
" أبو عمر : ماذا يعني هذا الشيخ ؟
هل هذا أيضاً من أحوال الصوفية ؟
أم يستخفي خلف الألفاظ المشتبهة
كي يخفي وجه جريمته الشنعاء ؟ "
ليس غريباً أن يظهر القاضي ظهوراً غير حيادي في ظل الأنظمة الفردية الاستبدادية متشحة بأوشحة الشرع أو الشرعية (الدين أو القانون الوضعي) ، مع أن الدين والدين الإسلامي بخاصة ، لم ينص في القرآن على عقوبة دنيوية سوى في مواجهة إتهام ثابت لجريمة من الجرائم الخمس الآتية : (القتل – السرقة - الزنا – قذف المحصنات – الحرابة "قطع الطريق على الآمنين" ) ، إلاّ أن حكم قضاة المحكمة الإسلامية الشرعية في بغداد ، حكمت بقرار من قاضيين اثنين أحدهما مالكي والثاني حنفي بعد أن انسحب القاضي الثالث وهو شافعي معترضاً على سير المحاكمة في اتجاه إدانة الحلاج بكل سبيل . ومن خبيث فعل أذناب أي نظام استبدادي لهم وظائف شرعية تقوم على تطبيق الحدود الشرعية في قضائهم بين من حكموا في أمر من أمورهم وفق النص القرآني ، ما نجده عند ذلك القاضي الفاسد ، الذي وظف نفسه باسم الشرع قاضياً بما قضى ، واضعاً منطوق حكمه على ألسنة مجموعة من فقراء الحرف المتدنية فور انتهائه من استخلاص إدانة الحلاج من مجمل ما قال به الشبلي في شهادته :
" (يلتفت أبو عمر إلى جمع الفقراء)
أبو عمر : ما رأيكمو يا أهل الإسلام
فيمن يتحدث أن الله تجلىّ له
أم أن الله يحلّ بجسده ؟
المجموعة : كافر .. كافر
أبو عمر : بم تجزونه ؟
المجموعة : يقتل ، يقتل
أبو عمر : دمه في رقبتكم ..؟
المجموعة : دمه في رقبتنا
أبو عمر : والآن .. امضوا ، وامشوا في الأسواق
طوفوا بالساحات وبالخانات
وقفوا في منعطفات الطرقات
لتقولوا ما شهدت أعينكم
قد كان حديث الحلاج عن الفقر قناعاً ،
يخفي كفره
لكن "الشبلي" صاحبه قد كشّف سره
فغضبتم لله ، وانفذتم أمره
وحملتم دمه في الأعناق
وأمرتم أن يقتل
ويصلّب في جذع الشجرة
الدولة لم تحكم
بل نحن قضاة الدولة لم نحكم
أنتم ..
حُكمتم ، فحكمتم
فامضوا ، قولوا للعامة
العامة قد حاكمت الحلاج امضوا ..
امضوا .. امضوا "
هكذا ينفذ القاضي املاء رأس النظام الاستبدادي الذي نص عليه في رسالته للمحكمة في أثناء سير جلستها **** :
" أبو عمر : (وهو ينظر في الخطاب)
إن الدولة قد سامحت الحلاج
فيما نسب إليه ، وتثبت منه السلطان
من تحريض العامة والغوغاء على الإفساد
وعفت عنه عفواً كلياً لا رجعة فيه "
" لكن وزير القصر يضيف :
"هبنا أغفلنا حق السلطان ..
ما نصنع في حق الله
فلقد أنبئنا أن الحلاج
يروي أن الله يحل به ، أو ما شاء له الشيطان
من أوهام وضلالات
ولهذا أرجو لو يسأل في دعواه الزنديقية
فالوالي قد يعفو عمن يجرم في حقه
لكن لا يعفو عمن يجرم في حق الله "
ابن سليمان : هذا أيضاً حق
ابن سريج : بل هذا مكر خادع
فلقد أحكمتم حبل الموت
لكن خفتم أن تحيا ذكراه
فأردتم أن تمحوها
بل خفتم سخط العامة ممن أسمع أصواتهم
من هذا المجلس
فأردتم أن تعطوه لهم مسفوك الدم
مسفوك السمعة والاسم
يا حلاج ...
هل تؤمن بالله ؟
الحلاج : هو خالقنا وإليه نعود
ابن سريج : هذا يكفي كي يثبت إيمانه
أبو عمر : يا بن سريج
إني لا أبحث في إيمانه
بل في كيفية إيمانه
ابن سريج : كيفية إيمانه ..؟
هل تبغي أن تنبش في قلبه
هل هذا من حق الوالي
أم من حق الله ؟
أبو عمر : هذا من حق قضاة الشرع
ابن سريج : لا ، بل هذا من حق الله
فأنا لا أجرؤ أن أسأل رجلاً عن إيمانه
فإذا شئتم أن تمضوا في هذا الإثم ..
أبو عمر : سنمضي يا ابن سريج
ابن سريج : فأنا استعفي من مجلسكم *****
أبو عمر : هذا لك يابن سريج "

فكرة المخلص (المستبد العادل) :
لم تفارق فكرة المخلص (المستبد العادل) رأس أحد من مفكري الإسلام – لا في التاريخ القديم ولا في التاريخ المعاصر - .
" الحلاج : لا أملك إلاّ أن أتحدث
ولتنقل كلماتي الريح السواحه
ولأثبتها في الأوراق شهادة إنسان من أهل الرؤية
فلعل فؤاداً ظمآناً من أفئدة وجوه الأمة
يستعذب هذي الكلمات
فيخوض بها في الطرقات
يرعاها إن ولي الأمر
ويزاوج بين القدرة والفكرة
ويزاوج بين الحكمة والفعل "
هكذا كان جهد الحلاج جهد المصلح الديني – لا أكثر – وهكذا صوره صلاح عبد الصبور ، تفكيكاً لخطاب المصلح الديني الذي حفظ عن ظهر قلب (نظرية الكل في واحد – نظرية المستبد العادل) .



التعبير الدرامي الشعري ومستويات السرد والتشخيص
بين التسلط والإذعان التاريخي

لا يخلو بناء مسرحي من تقنية السرد سواء أكان سرداً حوارياً على ألسنة الشخصيات الدرامية أم على لسان مجموعة الكورس أو على لسان الراوية . أو كان سرداً تشكيلياً أو سينوجرافياً أو بلغة الجسد أو سرداً تمثيلياً . وهنا يتشكل السرد في مستويات متنوعة ما بين سارد أول وسارد ضمني وسارد ثالث
وفي مسرحية (مسافر ليل) يلجأ الشاعر في التقديمة الدرامية إلى (السارد الضمني) – من خارج الحدث – ليحلل رحلة الإنسان عبر التاريخ تحليلاً إطارياً مكثفاً وتجريدياً ، على متن قطار الزمن ؛ وبذلك الخروج على مبعدة من الحدث نفسه ، يحقق الهدف التنويري من خارج الحدث ، بوصفه مثقفاً طليعياً يعمل على خلق توعية طبقية لدى الغالبية التي ترمز إليها شخصية الراكب باعتبارها المحكومة بعامل التذاكر بوصفه رمزاً للحاكم فالشاعر يستعرض عبر مستويات ثلاثة المسيرة التاريخية للحاكم المتسلط بالحكي – التصويري- على لسان (السارد الضمني) : الراوي مرة وعلى لسان عامل التذاكر (السارد الثالث) - تشخيصاً - يعيد فيه فعل التسلط ومتداعياته أو يحكي بعضه منتحلاً صفة السارد الثاني في مرة أخرى وعلى لسان الراكب تشخيصاً – نفسياًَ- يعيد فيه فعل الإذعان مرة أو يحكي بعضه منتحلاً صفة السارد الضمني في مرة أخرى :
"الراوي : هاهو ذا يتململ سأمانا
إذ لا تستهويه اللعبة
فيجرب أن يلعب في ذاكرته
يستخرج منها تذكارات مطفأة ، ويحاول أن يجلوها
أسفا ، لا تلمع تذكاراته
يدرك عندئذ أن حياته
كانت لا لون لها
يسقط من عينيه أيامه
تتبدد دواماتٍ فوق حديد الأرضية
لا تتكسّر قطعاً وشظايا
إذ ليس هنالك شيء صلب
تراك .. تراك .. تراك
يتذكر مسبحته
يستخرج من جيب السروال الأيمن
تهوي من يده ، يتفقدها بأصابعه ،
فتروغ لترقد بين الكرسيين
يجهد أن ينقذها ، فتغوص .. تغوص .. تغوص ..
ويظل يفتش حتى تتناثر سبحته حبات
تتساقط فوق حديد الأرضية
تراك .. تراك .. تراك "
لأن السارد يمثل ما تراه الشخصية فحسب كما لو كان ينظر عبر عينيها أو كما لو كان "شاهداً غير منظور" يقف إلى جانبها السرد بوساطة المؤلف أو بوساطة الشخص الأول " ولأن السارد الضمني الراوي يقوم مقام الشاعر لذا يتكشف الدور التنويري تلميحاً ، لا ينفصل عن طبيعة التصوير الشعري ؛ على اعتبار أن الشعر "لمحٌ تكفي إشارته" – حسبما قال البحتري-، وحيث يستشف ما وراء الصورة من معانٍ أو دلالات. هنا – يمكننا أن نلمح بمنظور نظرية الانعكاس وعلى ضوء مصباح سيميولوجي خصوصية الشاعر نفسه .
من وراء غيم المعاني في عرض السارد الضمني (الراوي) فاللعب في الذاكرة ، لا يفيد من خوت حصّالة ذاكرته من تسجيل مادي لأفعال مجسدة لهويته . فعندما لا يكون للإنسان تاريخ مادي ملموس هو موضع تأثير إيجابي في واقع الآخرين ؛ قبل أن يكون مؤثراً في واقعه الذاتي ؛ فإنه يلوذ بمظاهر شكلية ، يتمسح بها . وهكذا يلوذ الراكب بمظهر تديّني .. بعد أن أدرك (أن حياته كانت لا لون لها) وهو يسترجع شريط ذكرياته عبر رحلة إذعانه التاريخية التي سيّرها الحكام المتسلطون باعتباره رمزاً لعامة الناس (المحكومين) على مر التاريخ ؛ ذلك أن الذاكرة هي القدرة على التمثل الانتقائي Selectively represent وفي واحدة أو أكثر من منظومات الذاكرة للمعلومات التي تميز بشكل فريد خبرة معينة ، الاحتفاظ بتلك المعلومات بطريقة منظمة في بنية الذاكرة الحالية وإعادة إنتاج بعض أو كل هذه المعلومات في زمن معين بالمستقبل وذلك تحت ظروف أو شروط محددة "
فعندما يكون التدين شكلياً وسطحياً (ظاهرياً) ؛ فإن ما وراء المظهر نفسه يروغ منه وينفلت . ولنلحظ لفظة (جيب سروال الأيمن) فمظهر تدينه في جيب سرواله ، وهو يخرجه عند الحاجة أو عند الفراغ في محاولة تبريره لخواء حياته من فعل مادي إيجابي له في حياته الإنسانية ، بالانتساب إلى مفردة من مفردات الاتباعية الدينية – باعتبار فكرة "اليمين" فكرة تدينية – وباعتبار " المسبحة " وسيلة ضبط إحصائي لطقس التسبيح والحمد – الذي ينسب فاعله إلى اليمين (الفكر الاتباعي) .
فاستخدام المسبحة أداة قياس وإحصاء عددي لأقوال الحمد وآلية ترديداتها ، وهنا يحل ظل التعبد محل العبادة مثلما تحل خصلة من شعر الحبيبة محل الحبيبة نفسها – وفق الفشتية – على أن خصوصية ما كامنة في آلية استدعاء الشخصية للحظة ، حيث يمد السارد الضمني الصورة المستعادة بخيوط الطقس التراثي ؛ لخلق لحظة لم تكن قائمة من قبل ، مع إنها الابن الشرعي لماضي شخصية الراكب – بتعبير صلاح عبد الصبور نفسه - إلى جانب كونها بمثابة الابن الشرعي للمستقبل .. فاستدعاء الراكب التجريبي لمذخور ذاكرته ، وليد حالة السأم التي انتابته – حسبما أشار السارد الأول - :
"هاهو ذا يتململ سأمانا
إذ تستهويه اللعبة
فيجرب أن يلعب في ذاكرته
يستخرج منها تذكارات مطفأة ، ويحاول أن يجلوها "

المسكوت عنه في اللحظة الدرامية المختزلة :
وعندما يتكشف خواء تلك الذاكرة وبهتان ما حوته يمده (السارد الضمني الراوي / الشاعر نفسه) بلحظة مختزلة ، إذ تمتد يد الراكب إلى الجيب الأمن لسرواله – الأيمن تحديداً – ليخرج منه شيئاً لا يخرج إلاّ من الجيب الأيمن – المسكوت عنه - وهنا يوظف التداعي التلقائي المدرب للاثنين : (السارد الضمني/ الراوي / الشاعر) و( السارد الثاني / الراكب) الذي يعاد تصوير فعله بالسرد التشكيلي عبر ذهن السارد الضمني وعبر ذهن المتلقي فور تلقيه للصورة على لسان (السارد الضمني) فيكفينا أن نلحظ ما وراء ذلك التداعي التلقائي المدرب حيث تمتد يمين الراكب إلى الجيب الأيمن في سرواله ليخرج لا إرادياً مسبحته . وما وراء فعله – المسكوت عنه- يشكل نواياه المستقبلية وهي الهجوع إلى الإذعان والتسليم : فالسأم إذاً سلمه للعب في ذاكرته ؛ وخواء ذاكرته من أي شيء إيجابي يعتز هو نفسه به ، يسلمه إلى مخزون طقسي تراثي هو ظل من فعل العبادة.
ولأن الصورة الفنية (الدرامية الشعرية) تتدعم بتداعيات صور أخرى سريعاً ما تتوالد عبر اللحظة المختزلة ؛ لإعادة إنتاج الفعل وصور توالده وتداعياته التي يحكم الشاعر الإمساك بزمامها حتى لا تسقط المغزى التنويري الذي حمّلها به ، بغية الإشارة إلى مظهرية فعله التديّني:
" تهوي من يده ، يتفقدها بأصابعه ،
فتروغ لترقد بين الكرسيين
يجهد أن ينقذها ، فتغوص ، تغوص ، تغوص
ويظل يفتش حتى تتناثر سبحته حبات
تتساقط فوق حديد الأرضية
تراك .. تراك .. تراك "
هكذا تحل آلية المقطع الصوتي لسقوط حبات المسبحة على حديد الأرضية بديلاً عن وحدة صوته المتكررة فيما لو كان قد تمكن من استعمال مسبحته في آلية تكرار جملة التكبير أو الحمد ، لتأكيد مظهرية تدينه ، أو شكليته ، لأنه ما لجأ إلى طقس التسبيح ، وإنما إلى مجرد التلهي بآلية تفض عزلته وتوتره ، وتشعره بالصحبة ، حيث أراد باتخاذ المسبحة رفيق ظل في رحلته . ولكن الشاعر – هنا – يحرمه من تلك النغمة ، مع إنها مجرد ظل رفقة .
وهنا تعمل التداعيات مع التفاصيل (منمنمات الصورة) على منح الصورة لوناً خاصاً بها يمنحها هويتها .. فالشغل على تفاصيل الصورة هو الذي يقودنا إلى سر الصنعة في الشعر والمسرح بتعبير صلاح عبد الصبور
يعتمد صلاح عبد الصبور هنا على حدث يقوم على ثلاثة محاور : (محور معرفي ومحور ثقافي اجتماعي ومحور تشكيلي) ولأن الموقف هنا تأسس على التجريد وإلقاء عبء تجميع مفردات أو جزئيات الصورة ، بهدف خلق حالة مشاركة إدراكية فحسب ، لذلك ألقى بعبء حمل خطاب الحكي على عاتق (السارد الضمني/ الراوي) نائباً عنه ومن ثم لم يصبح هنا مجال للمحور الوجداني.
يقول د.ماهر شفيق فريد في زجره لناقدي إبداع إليوت في تجريده لشخصياته المسرحية : "إن الفن إعادة خلق وليس عملية تسجيل والشخصية الحية في الفن ليست هي التي تتصرف وفق المنطق الحياتي ، وإنما هي التي تتصرف وفق المنطق الفني وحسب قوانين الحتمية الفنية "
يقول د. مصطفى سويف : " إن الشاعر لا يغير ذكرياته ؛ ولكنها تعود إليه متغيرة – وهو لا يقصد إلى وصف الوقائع من حوله بأوصاف جديدة ، لكنها هي التي تأتي حاملة هذه الأوصاف "
وإذا كانت شخصيات مسرحيات صلاح عبد الصبور الشعرية – فيما عدا (ليلى والمجنون) تبدو على مبعدة من أمور الحياة اليومية ومن الرسالة الاجتماعية الواضحة . مع ميل إلى أناقة الفكر والتعبير ، فذلك لكونه صاحب رؤيا خاصة للوجود ، رؤيا شعرية اختارت لنفسها قالباً درامياً . هو كما كان إليوت معنياً بقالب درامي شعري " تتحالف فيه الاهتمامات الإنسانية مع براعة الصنعة ، كي تنتج – في نهاية المطاف – أثراً كلياً لا يختلف ، من حيث الجوهر ، عن الأثر الكلي الذي تخلقه القصيدة أو القصة في نفس متلقيها "
فشخصية الراوي – بوصفه سارداً ضمنياً - تبني اهتمامات الشاعر الإنسانية بخلق حالة تحالف بين ما ينتجه ذهن الراكب من تهويمات ذاكرة البشرية عبر تاريخها الممتد من بذرة الفكر الفلسفي الأرسطي إلى آلة الحرب والدمار بداية من تلميذه الإسكندر حتى الواقع البشري المعاصر فمع أن الراوي وهو السارد الضمني التاريخي ، يحذر الراكب من استدعاء عظيم من العظماء عبر ذاكرته ، حتى لا يسيطر بعظمته من جديد على البسطاء ، بعد أن رآه وقد توقف عند أسماء محاربين طغاة ومحاربين وقادة عظماء وهو يقرأ أسماءهم على صفحة من جلد الغزال أخرجها من معطفه ، بعد أن انفرطت حبات مسبحة تسليته وتبعثرت ؛ غير أن الراكب لم يأبه لتحذير الراوي الضمني - رب العبرة التاريخية - :
" الراكب : الاسكندر
" تك .. تك .. تك "
هانيبال
" تك .. تك .. تك "
تيمور لنك
" تك .. تك .. تك "
هتلر .. متلر .. جونسون .. مونسون
" تك .. تك .. تك "
الاسكندر .. الاسكندر .. الاسكندر
الراوي : معذرة .. لا ينفصل الإنسان عن اسمه
فالعظماء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرة التاريخ
لتسيطر عظمتهم فوق البسطاء
والبسطاء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرتك
ليكونوا متنزه أقدام العظماء
ولذلك خير أن ننسى الماضي
حتى لا يحيا في المستقبل
حتى لا يخدعنا التاريخ
ويكرر نفسه
الراكب : الاسكندر .. تك .. تك .. تك
الاسكندر .. تك .. تك .. تك
إن مناداة الراكب للإسكندر هي مناداة استدعاء غير المحكوم لمن يحكمه ولأنه نادى الإسكندر على وجه الخصوص وهو من هو الغازي الذي يغزو الممالك والأمم مستخدماً الفكرة سلاحاً يقتل به كل من وقف في طريق طموحاته غير المحدودة . لذلك يتشكل الإسكندر أمام عينيه من أي عابر سبيل ، في درب من دروب أي عصر في أي مكان له طموحات سكندرية :
" عامل التذاكر : من يصرخ باسمي ، من يدعوني
من أزعج نومي في راوية العربة
أنت .. ؟
الراكب : معذرة .. من أنت ؟
عامل التذاكر : أنا الإسكندر
في صغري روضت المهر الجامح
في ميعة عمري روضت أرسطاليس
حين بلغت شبابي روضت العالم. "
هذا التصريح صوغ من عقل الشاعر نفسه ، إذ قلب المعلومة التاريخية رأساً على عقب لما رأى الدعوة الأرسطية نحو عولمة ثقافية تحت راية الفكر اليوناني وهي أول عولمة ثقافية في التاريخ وقد حولها الإسكندر إلى عولمة عسكرية اقتصادية ، إذ استبدل الغزو الفكري والثقافي بالغزو العسكري وسيادة العقل بسيادة السيف . وهي سيادة لم تكن لتتحقق لمغامر مستعمر ومتسلط ، دون خنوع جعل من خده مداساً لقدمه ؛ أو مظهر متراخ يأخذ الأمر باستهتار وتهكم ؛ فكلاهما مدخل للتسلط :
" الراكب : مرحى يا اسكندر .. هل أكثرت من الشرب "
هذا العبث غير المسؤول للتسلية أو لاصطناع رفقة مع مسبحة لا تستجيب له ، سريعاً ما يتحول عنها إلى لون آخر من العبث الحقيقي ، مع كائن وظيفي أي صاحب سلطة ؛ فإذا بالعبث يتحول إلى حقيقة :
"عامل التذاكر: لا تعرف قدري .. يا جاهل
قسماً ، سأروضك كما روضت المهر الجامح "
إن فصل البناء الدرامي في هذه المسرحية بين الفعل القولي أو المسموع (حوار الراكب وحوار عامل التذاكر) والفعل المرئي (الوصف السردي للفعل التطبيقي المرئي المادي في حكي الراوي وهو الدال على تحقيق الأقوال) هو بمثابة فصل بين الشعار وتطبيقاته ؛ فما أن يطلق (عامل التذاكر) تهديده ، حتى يصف لنا الراوي منظومة أفعاله تحقيقاًَ لقوله :
" الراوي : تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيمن
يستخرج سوطاً ملفوفاً
تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيسر
يستخرج خنجر
تمتد يد الإسكندر في ثنية سرواله
يستخرج غدارة
تمتد يد الإسكندر في حلقه
يستخرج أنبوبة سم
تمتد يد الإسكندر في جيب خلفي
يخرج حبلاً ..
يتحسسه خجلاناً ، ويقول :
عامل التذاكر : هفواً .. هذا مات به أغلى أصحابي
أعطيت صديقي الحبل ليلعب به
فأساء استعماله "
حكي يستعيد صور إرهاب الحاكم الفردي المتسلط ، الغازي ، فكل الغزاة والعسكريون الحكام مختزلون في هذه المسرحية في شخص الإسكندر. ذلك الغازي الأول باسم العولمة الثقافية ، متشحاً براية الفكر تحت شعار توحيد العالم تحت راية الفكر اليوناني ، تتويجاً لفكر أرسطو ، سلباً لهويات ثقافات الأمم الأخرى ، فسرعان ما ينزع قناع الفكر ويتدرع بقناع القهر المسلح؛ في مواجهة الآخر غير الخانع ، حتى إذا كان تابعه وأداة تحقيق إرادته وأقرب المقربين إليه؛ وهو يصفيه تصفية جسدية ثم يعلن على الملأ عبر وسائله الإعلامية بأن الرجل قد انتحر – بعد انتهاء مهمته- :
"هل تدري ؟
كلماتي في معناه صارت من مذخور التاريخ الأدبي
لم أكتبها ، لكني شاهدت وزيري يكتبها
وصرفت له خبزاً ونبيذاً ، حتى أنهاها
حتى علمني أن ألقيها إلقاء مأساوياً
يخضع لأصول النحو
فأنا أخطئ دوماً في الفاعل والمفعول "
هكذا يمسك الشاعر بطرف حبل التداعيات ، يرخى للصورة بالقدر الذي لا يسمح لمفردات التكوين في التعبير الدرامي الشعري بالانفلات أو التشتت الذهني للمتلقي . وتلك خاصية من خصائص سر الصنعة عند صلاح عبد الصبور تشير إلى بعد من أهم أبعاد العملية الإبداعية وهو السيطرة على السياق والإمساك بالجزئيات والتحليق فوق أسوار الكل بما يسمح بالتنقل بين الكل والأجزاء بشكل ديالكتيكي وبما يسمح بالنمو المتصاعد للعمل الإبداعي وللمبدع أيضاً، فالمبدع ينمو مع عمله ويكتسب خصائص هذا العمل "
لذلك لا نتشتت ذهنياً عندما ينتقل في تخلص درامي وجمالي من وصفه لحال صديقه الذي أعطاه المسؤولية (الحبل) فشنق بها نفسه ، إلى استعراضه الموجز لتاريخ حبل السلطة ودور وزيره في تمجيدها وتدريبه على إلقائها . والتأريخ لها في مقابل خبزه ونبيذه (ببطنه) وصولاً إلى طمع ذلك الوزير في ولاية ثمناً لأداء وظيفته :
" حتى علمني أن ألقيها إلقاء مأساوياً
يخضع لأصول النحو
فأنا أخطئ دوماً في الفاعل والمفعول
كان وزيري طماعاً ، إذ طالبني بولاية
ثمناً لدخول التاريخ ككاتب
فوهبت وزيري الأرض بأكملها كي يرقد فيها "

ليس الفاعل والمفعول هنا سوى الجاني والمجني عليه . إن الاستعارة والكناية وألوان التورية المجازية تصنع المسكوت عنه في التعبير الدرامي الشعري والنثري ، لذلك لا جب فهم الصورة الإبداعية من ظاهر القول . يقول الشاعر الأمريكي إدجار ألن بو : " يوجد في كل التعليقات المكتوبة عن شكسبير خطأ جذري لم يفطن إليه أحد . إنه يتمثل في محاولة شرح شخصياته لا على أساس أنها من صوغ العقل الإنساني ، وإنما على أساس أنها موجودات فعلية على وجه الأرض "
لا يستغرق فهم طبيعة فعل الحاكم الفرد المتسلط الكثير من التفكير مع اختزال الشاعر لأبعاد الشخصية ، حيث لا نكاد نرى ملمحاً واحداً من ملامح بعده الجسمي أو الاجتماعي أو النفسي، وإذا كان رسم الشخصية النمطية رسماً تجريدياً وفق ما جرى عليه مخططات الاتجاه الحداثي في إبداعاته التفكيكية ، وهنا يتبين لنا دور المؤلف الشاعر في تمليك شخصياته خبراته هو نفسه ، ومعارفه ، بحقنها في دماء تلك الشخصيات ، بوصفها من خلقه وصلاح عبد الصبور هنا ، إذ يتستر خلف (الراوي) ويجعله خليفته على كون خليقته إذ يقعده على عرش المستوى السردي الأول ، فإنه يملكه أمر كشف تاريخ حاضر شخصياته الرمزية (الراكب) و(عامل التذاكر) بوصفهما شخصيتين رمزيتين ، وكشف مبكر لفعلها المستقبلي ، فيما هو أقرب إلى مخطط أو دراسة جدوى تشخيصية لفعلها القادم قبل أن يقوم أحدها بإعادة إنتاجه امامنا . فالراكب وعامل التذاكر كلاهما لا يمتلك أي منهما تاريخاً ، سابقاً ، لذلك رأينا " "أنا " : الراوي " لما رغبت في التقاء الآخرين سعت إلى الالتجاء تحت رعاية الـ "هو" (المؤلف) أي تحت رعاية نظام رموز ممتلئ ، حيث الوجود ، لا يتداخل والعلامة وبالمقابل فإن ظلاً من الماضي يتخلل حُبسة الناقد إزاء الـ (أنا) "
هكذا التقت (أنا) : (الراكب) السارد الثالث – تشخيصاً تشكيلياً سردياً – بـ(هو) : (الراوي / السارد الأول) وكذلك فعلت (الأنا) عامل التذاكر المتوالدة أو المتشظية في أنوات متعددة ومتباينة – تشخيصاً سردياً تشكيلياً – وبذلك أصبحت للراكب طبيعته الخانعة تبعاً لجموده في درجته على السلم الاجتماعي ، بينما تملك شخصية (عامل التذاكر) صوراً متعددة للحاكم الفرد المتسلط المستعبد لتلك (الأنا) الخانعة الرابضة في موقعها الطبقي الساكن .
يجرنا هذا التأويل إلى القول مع رولان بارت أن : " الناقد هو من سعى إلى الكتابة ، والذي يملي انتظار عمل أدبي إضافي ، يصاغ خلال البحث عن ذاته . وتكمن مهمته في إكمال مشروع الكتابة ، ومتجنباً إيّاه في الآن ذاته . الناقد كاتب إنما حتى إشعار آخر "
ولأن " الناقد كما الكاتب ، يتمنى من القراء أن يثقوا ويوقنوا أكثر بقراره الذي اتخذه بالكتابة ، ولا يسعه أن يوقّع هذا التمني ، عكس الكاتب ، لذا يبقى محكوماً بالخطأ – وبالحقيقة "
لذا أثنّي على ما سبق لي قوله حول تأثر شخصيات صلاح عبد الصبور بالظواهرية الهيجيلية، حيث " تبدو الظواهرية الهيجيلية في محاولات شخصيات صلاح عبد الصبور لصنع هويتها ، حيث يسطع فكرها سطوعاً جدلياً على الواقع ، ومن ثم يرتد إلى الشخصية كما هو ، لأنه لا يجد في الواقع إلاّ صوراً ذهنية . وهو في رحلة سطوعه على ذلك الواقع لا يطور فيع فعلاً ولكنه ينمي الفكر فحسب ، ويطور العقل . من ثم فإن تحقيق الهوية لا يتمثل عندها إلاّ تمثلاً ذهنياً ، ومن ثم يكون التغيير الذي يمكن حدوثه تغيراً فكرياً فحسب ، وبدا تحقيق محاولاتها للهوية الفكرية المتمثلة في ذهن الكاتب "
هكذا كان (الحلاج) في محاولاته التفاعل المادي للثائر مع العامة ، فالوعي الذي ينقله إلى العامة وعي ذهني . وهكذا كان (الملك) حتى موته غير قادر على المستوى الواقعي على التفاعل المادي للمغازل ؛ فالشاعر يلقنه الغزليات تلقيناً ؛ كما يلقن جواريه :
" الشاعر : معذرة يا مولاي
لكني لقنت الأخرى كلمات مبتكرة
قد ترضي رغبتك الملكية "
"الشاعر : (ملقناً الملك في صوت خفيض)
يتنزل صوتك مثل رنين الجرس الفضي المتفرد ،
يتقطر من برج متشح بمروج الغيم الزرقاء "
" ليس للملك من فعل الغزل إلاّ ظله ، فهو ليس مغازلاً على مستوى قدراته الذاتية الواقعية ، إنما يكرر صورة المغازل التي لم تكن سوى صورة متخيلة في ذهن شخصية الشاعر "
وكذلك الأمر مع جواري الملك :
" الشاعر : لا .. لا .. قد ضاع المشهد . نسيت هذه المرأة أجمل ما فيه
سامحني يا مولاي
(للمرأة) مازال هناك حديث عن قيثارة حنجرتك
والأوتار تناشد مولانا أن يلمسها بأصابعه النورانية
مازال هناك حديث عن إغماضة عينيك
وأنت تغنين لمولانا عندئذٍ
إنك تحترقين شوقاً أن يرقد مولانا
في دفء الأمواج العسلية
وأخيراً كان جلالته سيقول :
خطواتك كالموسيقى إذ تتوافق في ذهن الفنان
عندئذ ستقولين :
بعثر هذي الأنغام على سلم رغبتك الملكية
وبصوت يتقطع آهات في حلقك
الملك : آه .. ما اتعس حظي
راقت لي الألفاظ كثيراً هذه المرة
لكن نسيتها . "
" الملك لا يؤدي بأحاسيسه هو ، ولا المرأة الثانية تفعل ذلك "
ليس للملك ولا لجواريه من الغزلية غير اللفظ ، فالـ(أنا) الشاعرة تمنحه صورة بالخطاب الغزلي ومضمونه دون أحاسيسها ، ولأنه ظل مغازل ، لذلك غابت عن اللفظ الأحاسيس ؛ ومن ثم غابت المصداقية وافتقدت الخصوصية .
والأمر نفسه عند الأميرة ووصيفاتها ؛ إذ ليس لها ، ولا لوصيفاتها غير ظل الفعل ، باجترار ذكريات فعل مضى وانقضى ، بإعادة إنتاجه ، ليخرج تشخيصاً لظل حبيبها الذي هجرها ، وظل أبيها المغدور من ذلك الحبيب الغادر (السمندل) حتى الشاعر الذي جاء مخلصاً (القرندل) هو أيضاً ثائر ظليّ لأنه أتى من حيث المجهول ، ومضى في غياهب المجهول ، كما لو كانت الأرض قد انشقت عنه فجأة أو هبط من السماوات العلى فبدا كمخلص وهمي ، أو غيبي .
لذلك يمكن القول إن صلاح عبد الصبور ، قد صنع شخصياته المسرحية ظلالاً لواقع سحري، واقع لا يشبه الواقع الحياتي . ذلك أن "الشعر عندما ينأى بعيداً عن إيقاع لغة الحياة ومصطلحاتها الجارية ، يفقد حيويته ، لذا فهو يميل إلى تقطير لعنته الخاصة من لغة الكلام العام المعتاد "
يقول إليوت : " إن كاتب الدراما الشعرية ، ليس مجرد إنسان ماهر ، في فنين اثنين ، وحاذق في أن ينسجها معاًَ . وهو ليس الكاتب الذي يستطيع أن يزخرف مسرحيته باللغة الشعرية والأوزان وإنما عمله يختلف عن عمل (الكاب المسرحي وعمل الشاعر) لأن نموذجه أكثر تعقيداً ، وأكثر أبعاداً .. بكل قواعد الدراما البسيطة الصريحة ، ولكنها تغزلها غزلاً عضوياً في تصميم خاص ، أكثر ثراء . "

كان الشعر ومازال مرتبطاً بمواقف رومنسية ، كما كان المسرح ومازال مرتبطاً بمواقف رومنسية ، ولئن جسد المسرح الشعري مواقف الحياة اليومية وفق تقنيات الواقعية أو وفق تقنيات التعبيرية والملحمية ؛ فقد جسد مسرح صلاح عبد الصبور الشعري شخصيات عبثية في مواقف عبثية وفق تقنيات مسرح العبث ، فكان ذلك فتحاً في مجال المسرح الشعري. فالتداعيات وعدم الترابط الفكري واللغوي والمقاربات أو المجاورات المعرفية المتواثبة وتجريد الشخصيات والمواقف والآلية والتكرار وسمات الحكي الناقص والتناقض فيما بين القول والفعل واستهداف الدهشة ، ماثلة في (مسافر ليل) ، وفي (الأميرة تنتظر) وفي (بعد أن يموت الملك) وهي حداثية تفكيكية ، تفكك النسق الاجتماعي والسياسي في واقع أنظمتنا السياسية ويفكك خطابها الديماجوجي وظاهرة تسلطها التاريخية على شعوبها ، كما يفكك خطاب استكانة الإنسان العربي وإذعانه المهين ، ويفكك دوره في صناعة حكامه المتسلطين على مدار تاريخه الطويل .

الهوامش :
التعبير المسرحي الشعري
بين التأمل الذاتي والانفتاح على المعنى
د.أبو الحسن سلاّم
 مهاد تأملي :
لعل من أهم خصائص الفكر في بنية الصورة الشعرية هو تقنع فكر الشاعر في خطابه الشعري بين طيات تعبيره بما ينطوي على نوع من البوح الذاتي المتأمل الذي ينفلت محمولاً على جناح وعي الشاعر أحياناً فيبدو مغلفاً بالمباشرة أو ينسرب من تحت جناح وعيه ليشف عن المسكوت عنه في سكتته الموضوعية في محراب الذاتية المتأملة – بما يشبه النقطة العمياء في مسار القصيد الشعري – وتلك مزية التفرد الشعري الذي يضيف إلى التجربة الشعرية مزية جديدة تشكل علامة فارقة بين شاعر وشاعر. غير أن تلك السكتة الموضوعية أمام الذاتية المتأملة التي تشف عن البوح الذاتي المتأمل وإن تناسبت مع شعر القصيدة فهي لا تتناسب على طول الخط مع الصياغة الدرامية بشعر المسرح ؛ إلاّ إذا ارتبط البوح التأملي الذاتي بشخصية مسرحية بعينها بما يتناسب مع أبعادها الاجتماعية والثقافية والنفسية وفي الحدود التي لا تستغرق من المتلقي للعرض المسرحي الشعري إلاّ زمن ترجمتها ترجمة معنوية فورية. والواقع يكشف عن استحالة ذلك في تلقي الصورة الشعرية حالة تبتلها التأملي الذاتي إذ أنها عندئذ تحتاج إلى زمنين أحدهما لفك شفرة الغلاف الذهني للصورة الشعرية في حوار الممثل (أولاً) تمهيداًَ للترجمة المعنوية لتلك الصورة من جملة تعبيرات الشخصية على لسان ممثلها (ثانياً) .. على اعتبار أن الأصل في عملية الإرسال والاستقبال في العرض المسرحي هو حالة الحضور الآني الذي يفترض ترجمة المتلقي الفورية لخطاب الشخصية المسرحية المحمول وجدانياً على لسان الممثل. وهو أمر يبدو متعذراً أمام الصورة الشعرية الدرامية المصطبغة بالتأملات الذاتية التي يشكل بوح الشخصية القناع الذي ينسرب من ورائه بوح الشاعر نفسه محمولاً على لسان فكر الشخصية . وهو أمر يلزم التلقي بكل مستوياته وطاقاته باستغراق زمنين وصولاً إلى معنى الخطاب الجزئي. أولهما: لفك شفرة الصورة المركبة من الصورة الذهنية إلى الصورة المعنوية ، وثانيهما: اكتشاف الدلالة طبقاً للمتوسطات القرائية (متوسطات التلقي) . وبذلك تفوّت عملية فك الشفرة الذهنية للصورة الشعرية الدرامية على المتلقي إمكان تحصيل حديث الممثل المتواصل الذي لا ينتظر الجمهور حتى يفك شفرة صورة شعرية صوتية انتهى من أدائها .
هذا البحث إذن معني بالوقوف عند إشكالية التعبير الشعري الدرامي عند تجسيده مسرحياً بحيث كان مفترضاً أن يكون تعبيراً درامياً شعرياً ، تبعاً لمقتضيات أسبقية الدراما على الشعر في النص المسرحي الشعري بحيث تصبح الدراما صاحبة العصمة على الشعر في الكتابة المسرحية الشعرية ، باعتبار الدراما تصويراً للفعل وليس تكريساً للصورة الشعرية على حساب الفعل – تبعاً للنظرية الأرسطية ولمتتابعاتها تحت مظلة المحاكاة أو مناقضاتها الإيجابية في حكي الدهشة التغريبية أو في حكي الدهشة العبثية السلبي.
على أن أسبقية الفعل في الدراما الشعرية على لغة الحوار الشعري لا يجب أن تطفيء وهج الطاقة الانفعالية لصالح الطاقة التأملية الفكرية ، وإنما توازن بينهما ، بما يتيح للفعل الدرامي المتجانس مع طبيعة الشخصية المسرحية فكراً وبيئة وثقافة متفردة أن يتحقق درامياً عبر سياق شاعري يتخذ من الشعر لغته ومن البواعث والعلاقات وعناصر التصوير الدرامي للحدث شاعريتها ليجسد هوية كل شخصية في النسيج الدرامي.

 البوح الذاتي المتأمل وإشكالية تلقي الصورة الذهنية :
تزخر مسرحيات صلاح عبد الصبور بوقفات البوح التي تقف عندها شخصياته وقفة اضطرارية لتنفث شحنة معاناة هنا وهناك مع تباين أسبابها . فإذا نظرنا في مسرحية (مأساة الحلاج) فلسوف نلحظ ذلك التباين ما بين بوح الشعور بالذنب ، وبوح التأسي وبوح المواساة، وبوح التأمل وبوح الإدانة وبوح الحض والتحريض ؛ ففي وقفة الحرفيين الدامعة حول الحلاج مصلوباً على شجرة في ميدان الكرخ ببغداد يتكشف البوح عن شعور بفداحة ما اقترفوه من ذنب في شهادة الزور التي قدموها ضده في مقابل دينار لكل منهم ، تلك الشهادة التي سلمته للجلاد :
"المجموعة : صفونا . صفاً .. صفاً
الأجهر صوتاً والأطول
وضعوه في الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتواني
وضعوه في الصف الثاني
أعطوا كلا منّا دينارا من ذهب قاني
برّاقاً لم تلمسه كفُ من قبل
قالوا : صيحوا .. زنديق كافر
صحنا زنديقُ .. كافر
قالوا : صيحوا فليقتل إنّا نحمل دمه في رقبتنا
فليقتلْ إنّا نحمل دمه في رقبتنا
قالوا : امضوا فمضينا
الأجهر صوتا والأطول
يمضي في الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتواني
يمضي في الصف الثاني "
لم يمض استرسال فقراء الحرفيين في بوحهم اعترافاً بالذنب مدفوعاً بتيار الشعور بفداحة الفعل ، وإنما انسرب من خلف جنحه المظلم بصيصاً من الوعي الفكري للتعبير الدرامي الذي تدثر ببردة التعبير الشعري. وهو أمر يحتم على الشاعر أن يبني التعبير على نحو يحرّف الصورة عمّا هو مألوف في النسق الحياتي وفق العادة والمألوف ليبدو الفعل الدرامي مشوهاً من حيث النسق النظمي البنائي ليحقق ضرورة براجماتية نفعية.

بوح الندم بين الضرورة الحياتية والضرورة الدرامية والجمالية:
في الحياة تختلف ضرورة النسق الوظيفي في صورة الفعل ورد الفعل عن ضرورته في التعبير أو التصوير والتشكيل الأدبي والفني. اصطفاف مجموعة من الناس اصطفافاً عفوياً تلقائياً ، أمام حدث ما أو حوله ، غير مقيد بنسق صناعي فيه إعمال عقلي أو تدبير منظم لذلك التجمع ، من هنا يبدو النسق من حيث مظهره عشوائياً ، بحيث يلبي الموضع الذي يقف فيه كل فرد من أفراد التجمع ، حاجته إلى الرؤية والسمع الحاضر لما هو حاصل مما اجتذبه إلى ذلك التجمع ، وهو أمر قد يستدعي تغييرات في مواضع الأفراد ، تبعاًَ لضرورة كل منهم إلى التعرف على كنه ما يجري. وهو أمر طبيعي ، لا يستهدف منه المتابع الحصول على معلومة حول ما يجري ، وليس الوصول إلى جمالية ما ، ولئن تحققت ؛ فذلك يكون بمحض الصدفة . وهذا غير ماثل في الصورة التي نسقها الشاعر هنا على النحو المألوف . أما اصطفاف مجموعة من الناس على نحو يلبي الضرورة الحياتية وفق نسق وظيفي مصنوع ، كاصطفاف الجند في طابور أو تدريب عسكري ، فيستلزم أن يقف الأقصر من الأفراد في الصف الأول ، ويقف الأطول فيهم في الصف الثاني ، يتبعه الأكثر طولاً في صف ثالث . وهكذا تتشكل منظومة الفصيلة أو الكتيبة نسقاً وظيفياً يمكّن الجميع من المواجهة بالنظر إلى الأمام وفق الوجهة أو المسيرة المحددة تحديداًَ مركزياً وحاسماً. وهذا غير ماثل في نسق الصورة الجماعية – المحكي عنها – في هذا المنظر الحزين فالنسق في اصطفاف فقراء الحرفيين -هنا – تفرضه الضرورة الفنية الدرامية الوظيفية في نسق جمالي مشوّه ، إذ وضع الأطول قامة والأجهر صوتاً في الصف الأول وهو أمر غير مألوف وفق الصورة الوظيفية التقليدية ؛ فجهارة الصوت وطول القامة هما أساس ترتيب نسق الصف في هذه الصورة ، وذلك لأن هدف المنظمين لتلك التظاهرة هو فضح الحلاج والتشهير به من ناحية وإعلان أصحابه من الحرفيين – من ناحية أخرى – وهم الذين وهبهم كلماته الحاضة لهم ليصلحوا أحوالهم المعيشية في اتجاه حثهم على عدم السكوت على حقوقهم المهضومة من قبل الأغنيء والحكام – لإدانته بتهمة الزندقة والكفر . فالأطول أكثر إيصالاً للصوت لمسافة أبعد ، خاصة مع جهوريّة الصوت. ومن الناحية الجمالية ؛ فإن في النسق تشويهاً مقصوداً لصالح الدلالة الدرامية ، فهذا التشويه قصد به خلق حالة من حالات الدهشة المتأملة للنسق المعكوس بما يغاير الصورة الاعتيادية ، والدهشة حالة من الحالات التي تستدعي التساؤل والتفكر اللحظي ، في محاولة اكتشاف سببية – بناء النسق على النحو الذي تعيد المجموعة تصويره بالحكي السردي. كذلك ما يستشفه المتأمل المؤول لدلالة لفظة (الأطول) حيث يجوز فهمها على أنه الأطول في فرض رأيه أو صوته على الآخرين وفهم لفظة (الأقصر) بضعيف القدرات ؛ إذ أنهم بحكم وضعهم في الصفوف الخلفية هم تابعون للأطول باعاً. وبذلك تكون الجمالية نابعة من لذة الشعور – المتأمل المؤول- بالتفوق لإدراكه كنه تشويه البنية الدرامية في الصورة الشعرية .

البوح التبريري ودرامية الاسترجاع:
من ألوان البوح في شعر الصورة الدرامية ذلك البوح الذي ينحو منحى التبرير لإبراء الذمة ونفضاً لتبعات الصمت وعدم المبالاة . وهو بوح استرجاعي ، إبراء للذمة ؛ وهو ماثل في تظاهرة جماعة الصوفية أمام مشهد الحلاج مصلوباً في الميدان ؛ ذلك أن الشعار عندهم أهم من صاحبه ، هو عندهم كما النحلة الملكة ؛ تموت فور إنجاز مهمتها :
"الفلاح : فلنسأل هذا الجمع
من أنتم ..؟
المجموعة: نحن القتلة
أحببناه فقتلناه "
الواعظ : لا نلقى في هذا اليوم سوى القتلة
ولعلكم أيضاً حين قتلتم هذا الشيخ المصلوب
المجموعة : ... قتلناه بالكلمات
الفلاح : زاد الأمر غرابه !
المجموعة : أحببنا كلماته
أكثر مما أحببناه
فتركناه يموت لكي تبقى الكلمات
التاجر : من أنتم ؟!
المجموعة : أصحاب طريق مثله
الواعظ : هل خفتم لما صاح الفقراء
فنكرتم أمره ؟
المجموعة : خفنا .. لا .. لا ..
لا يخشى الموت سوى الموتى
أنفذنا ما أوصانا به
الواعظ : أوصاكم به ..؟
المجموعة : كنّا نلقاه بظهر السوق عطاشا فيروينا ..
من ماء الكلمات
جوعى ، فيطاعمنا من أثمار الحكمة
وينادمنا بكئوس الشوق إلى العرس النوراني "
هنا نقف أمام غرابة الصورة وغرابة الفعل .. فالمحب لا يقتل حبيبه . غير أن للقتل في عرف المحبين أداة وحيدة هي عدم مبالاة المحب بحبيبه ، وحبهم له لأنه من صنع لهم شعاراً يستظلون بظله فلما انتهى من صنعه أحبوا الشعار وهاهم يرددونه ملقين تبعة قتله على ذلك الشعار فقوله كان قاتله :
" مقدم المجموعة : كان يقول :
إذا غسلت بالدماء هامتي وأغصني
فقد توضأت وضوء الأنبياء
كان يريد أن يموت ، كي يعود للسماء
كأنه طفل سماوي شريد
قد ضل عن أبيه في متاهة المساء
كان يقول :
كأن من يقتلني محقق مشيئتي
ومنفذ إرادة الرحمن
لأنه يصوغ من تراب رجل فان
أسطورة وحكمة وفكرة
كان يقول :
إن من يقتلني سيدخل الجنان
لأنه بسيفه أتم الدورة
لأنه أغاث بالدما إذ نخس الوريد
شجيرة جديبة زرعتها بلفظي العقيم
فدبّت الحياة فيها ، طالت الأغصان
مثمرة تكون في مجاعة الزمان
خضراء تعطي دون موعد ، بلا أوان
وحينما أسلمه السلطان للقضاة
وردّه القضاة للسلطان
ورده السلطان للسجان
ووشيت أعضاؤه بثمر الدماء
تم له ما شاء
هل نحرم العالم من شهيد ؟
هل نحرم العالم من شهيد ؟
الواعظ : أو لم يحزنكم فقده ..؟
المجموعة : أبكانا أنا فارقناه
وفرحنا حين ذكرنا أنا علّقناه في كلماته
ورفعناه بها فوق الشجرة "
لم تكن تلك التعبيرات التأملية سوى تمثل لتعابير الصوفية سكنت شاعرنا كما سكنت الحلاج نفسه.
تضمن هذا البوح الكثير من المفردات والمفاهيم الصوفية ، التي يغيب مغزاها عن المتلقي ربما على اختلاف مستوياته الثقافية وهو أمر يحول بين المعنى الجلي والمفهوم وبينه، وهو أمر لو شغل به فكر المتلقي المشاهد للعرض لبرهة قصيرة لضاع منه تحصيل معان حملها أداء حوار تال للمجموعة نفسها في إطار النسق الأدائي لبوحها في تظاهرة إبراء الذمة، وإعلاء الشعار على صاحبه . وهو إعلاء لا يتحقق إلاّ بمساعدته على نوال الشهادة . وهو أمر قريب من فكرة الخلاص في الديانات الأوزيرية ثم المسيحية بعد ذلك ، وفي فكرة الخلاص في الاستشهاد الحسيني عند الشيعة . فما أشبه هذه التظاهرة التطهيرية بتظاهرة الشيعة السنوية عبر مسيرة جلد الذات الجماعية ، التي تنقلها لنا الفضائيات في ظل الاحتلال والممارسات البهيمية المجهولة الانتساب والأسباب. وفي هذا الإعلاء إحياء للفكرة التي زرعها الحلاج بكلماته . والإحياء لا يتحقق إلا بري تلك الشجيرة (الشعار) بدمائه . فالخلاص في نهاية المطاف لا يتحقق بالكلمات وإنما بالدماء.. فلكي تحيا الفكرة وتتوهج ، لابد من التضحية بصاحبها . وبديلاً عن أن تكون الفكرة سبباً في حياة أفضل لمعتنقها تصبح سبباً في الموت.
البوح الإسقاطي (بوح القناع):
من البوح ما كان بوحاًَ إسقاطياً متمرداً ذا خلفية أيديولوجية ، وهو بوح مواجهة فكرية . ومثاله في مواجهة السجين الثاني للحلاج في الزنزانة ؛ وهو بوح يتقنع خلفه الشاعر ؛ إذ يحمل كلماته على لسان السجين الثاني ؛ هو بوح متعارضين أحدهما سلبي ، وتواكلي ، والآخر إيجابي :
" السجين الثاني : وبماذا تحيي الأرواح ؟!
الحلاج : بالكلمات
السجين الثاني : أتراك تقول ..
صلوا .. صوموا .. خلوا الدنيا واسعوا
في أمر الآخرة الموعودة
وأطيعوا الحكام وإن سلبوا أعينكم يتنزى منها الدم
رصوها ياقوتاً أحمر في التيجان
بشراكم ، إذ ترثون الملكوت
عفوا ، هذا لفظ من ألفاظ شبيهك "
مع أن الحلاج قد أدرك أن محاوره الناقض لخطابه يشبّهه (بابن الإنسان) الأمر الذي استدعى شكره له ، فمال قليلاً نحو النقد الذاتي ، إلاّ أن إدراك التلقي لذلك المعنى بعيد إلاّ على قلة من المثقفين :
"الحلاج : شكراً ، تعطيني أعلى من قدري
لكن في قولك بعض الحق
فأنا أحياناً أصرخ فيهم : خلوا الدنيا الفاسدة المهترئة
ودعوا أحلامكم تنسج دنيا أخرى "
ومع ذلك فإن بوح نقده الذاتي – هذا – يواجه ببوح ناقض له ، مفكك لمضمونه السلبي :
" السجين الثاني : دنيا أخرى من صنع الأحلام ؟
الحلاج : الحلم جنين الواقع "
ولأن البوح في الحوارية الوجاهية بين الرأي والرأي الآخر هو بوح إدراك متبادل في حالة من التعارض المحمول أحدهما على تيار وعي متبن لتجربة عملية في مواجهة وعي استلابي متبن لفكرة نظرية أو مجرد شعار .
ومثاله من (الحلاج) أيضاً المواجهة التي تمت بين القاضي أبي عمر والحلاج في مشهد المحاكمة :
"أبو عمر : يا حلاج .. أتدري لم جئت هنا ؟
الحلاج : ليتم الله مشيئته يا سيد
أبو عمر : هذا حق ..
والله تبارك وتعالى
قد ثبت في كف خليفتنا الصالح
أبقاه الله
ميزان العدل وسيفه
الحلاج : لا يجتمعان بكف واحدة يا سيد
أبو عمر : هذا قول من فتّان القول
لا يدركه أمثالك من أهل الفتنة
ابن سليمان : حلو .. حلو .. "
بوح النوايا في دراميات التنفيس والتنفيث :
من البوح ما كان إعلاناً عن النوايا .. فهنا يتطور البوح ليصبح بوحاً للنوايا . وهو لون من ألوان التنفيث عن ضغينة. وهو بوح تهديد ووعيد ؛ عندما يكون البوح كله إسقاطي ؛ فمنه التنفيث، وهو بوح مرضي ومن التنفيس تفريجاً عن كرب أو معاناة *. ومن بوح النوايا ما ينفثه القاضي أبو عمر حيث يصرح بما ينتويه من شر ضد الحلاج بما يخرج عن حيدة القضاء :
"الحلاج : لم يفتنّي قولك يا سيد
أبو عمر : سيروعك قولي فيما بعد
فاسمع وارتع
مولانا لا يدفع عبداً ممن وُلِّى
فيهم للسيّاف
إلاّ إن أحصى ما فرّط من أمره
في ميزان الإنصاف
مولانا يدري من زمن . أنك تبغي
في الأرض فسادا
تلقي بذر الفتنة
في أفئدة العامة
وعقول الدهماء
تتستر خلف الذقن الشهباء
أو أثواب المجذوبين الفقراء
والأقوال الغامضة المشتبهات القصد
إذ تسبكها وتقفيها كهذاء الشعراء
قل .. ماذا تبغي بهذائك؟
هل تبغي أن يضع المسلم ..
في عنق المسلم سيف الحقد ؟
الحلاج : لا .. يا سيد
بل أبغي لو مد المسلم للمسلم
كف الرحمة والود
أبو عمر : ولهذا تعرض للحكام
من أهل الرأي وأصحاب النعمة "
بوح الفضفضة (الديماجوجي) ودرامية المسكوت عنه :
حيث يطلق القاضي افتراضات مطلقة لا دليل على صحتها . إذ يتحول البوح التنفيثي إلى بوح مسلح بالوعي الطبقي المتقنع بالنص القرآني ليخرس أي قول مخالف لقوله من أن المحاكمة هي لقضية سياسية ، قضية رأي واعتقاد ؛ بخاصة والقاضي أبو عمر الحمادي هو قاض من قضاة المالكية المعروفين بتقربهم من الخلفاء والأمراء :
"أبو عمر : ماذا تبغي ؟
أن يختل الناموس ويصبح أمرُ العامة
أعلى من أمر الخاصة
أن يحكم فينا الحمقى والجهلة
أن يُعطى الأمر لمن ليس بأهل له
ابن سليمان : فتقوم الساعة
أبو عمر : يا حلاج
الجرم الثابت لا ينفيه أن تتباله وتتمتم
ابن سريج : يا مولانا . هلاّ أعطيت الرجل المهلة يتكلم
فلقد حققت وأحكمت التهمة ، ثم أدنت
أبو عمر : ما حاجتنا أن نسمع في هذا المجلس
فيضاً من لغو القول المبهم ؟
فليعلُ حديث العدل إذا خرس الجُرم
قال تعالى :
" إنما جزاء الذين يفسدون في الأرض "
دراميات البوح المراوغ :
هو بوح يعتمد على التورية التشخيصية. وهي ليست تورية لفظية ، حيث للفظ معنيان أحدهما ظاهر ، والآخر باطن ، وهو المقصود ، بل تعتمد على موقف حقيقي مقصود ، يتخفى خلف موقف زائف وخادع وهو ماثل في مراوغات القاضي ابن سليمان (وهو حنفي المذهب)** :
"ابن سليمان : لا أخشى أن يلزم دمه عنقي
باسم الشرع
لكني لا أرضى أن يلزمني باسم السلطة
فأنا لم أشهده يبغي إفساداً في الأرض
أبو عمر : الشرطة قد شهدته
ابن سليمان : لكني لم أتحقق من قول الشرطة
أبو عمر : يا ابن سليمان
لسنا أهل التحقيق
بل أهل الفتوى . أعلم هذا الجيل
بأحكام الشرع ؟
فالشرطة والوالي والسلطان يسوسون
.. أمور الدولة
ويميزون الجاني .. ويقيسون الجرم
بإمعان وتثبت
فإذا صح الجرم لديهم وقفوا
الجاني بين يدينا
لنرى فيه الرأي الشرعي الصائب
ابن سليمان : يا مولانا
رأي من رأيك ..
لكنك قد وضحته
ببيان مثلي لا يدرك حسنة
فلتسمح لي أن أعرض رأيي
بعباراتي الجرداء من الفطنة
إني قد أسأل نفسي الآن
من نحن .. وما علة هذا الجمع ؟
نحن رجال العلم . وأهل الشرع
والوالي يستفتينا في أمر
وعلينا إتقان الفتوى
أنا لا يعنيني ما اسم المتهم ..
الماثل بين يدينا
والحلاج لدينا حالُ . لا شخص ماثل
وكأن الوالي يسألنا
ما حكم الشرع العادل
في من يبغي في الأرض فساداً . يبذر
فيها بذر الفتنة
وهنا نتملى في الأحكام . وننثرها
نتخير منها
ونقول :
للوالي . لا للحلاج
هذا حكم الشرع
في من يبغي في الأرض فساداً
أن تقطع أرجله .. أيديه .. ويصلب
في جذع الشجرة
ويفض المجلس
هل فتوانا ملزمة للوالي ؟
لا .. فله أن ينفذها
أو أن يسترجع أمره
وهنا لا نحمل وزر دم مسفوك
في ظلم أو عدل
ابن سريج : لا ، لا ، يابن سليمان "
لا يفلح التهرب من المسؤولية عن طريق المراوغة واللف والدوران على الحقائق ، وجود وعي نقدي مسلح بالشجاعة والاستقامة والعلم والفهم التام بأبعاد موضوع اختلفت حوله الآراء ضروري خاصة إذا كان موضوعاً يتعلق بالأرواح والأنفس ، من هنا تتطور المواجهة إلى اصطدام ، بين ممثلي المذاهب الثلاثة ، بين حزب الموالاة وممثل المعارضة. مع خطأ ذلك الأمر وخطورته في مجال القضاء
"ابن سريج : ما تنسجه من محبوك القول
أحبولة شيطان
إن الكلمات إذا رفعت سيفاً
فهي السيف
والقاضي لا يفتي . بل ينصب
ميزان العدل
لا يحكم في أشباح . بل في أرواح
أغلاها الله
إلاّ أن تزهق في حق . أو في إنصاف
الوالي والقاضي رمزان جليلان
للقدرة والحق
لا تدنو من مرماها أفراس القدرة
لا تبلغ غايتها
إلاّ إن أمسك فرسان الحق
بزمام أعنتها
فإذا شئتم أن ينقلب الحال
أن تلقوا فرسان الحق
صرعى تحت حوافر فرس القدرة
فأنا استعفي من مجلسكم
أبو عمر : يا ابن سريج هذا مجلس حكم مخصوص
وله تقدير مخصوص
ينظر في أمر مخصوص
وكما قال القائل
ابن سريج : (مقاطعا) مخصوص .. مخصوص .. مخصوص
هل خصّوا هذا المجلس بالظلم "
لأن ابن سريج قاضي الشافعية يعلم أن القوانين لا تفصّل خصيصاً لشخص بعينه عند محاكمته في تهمة نسبت إليه ، لذلك انتفض انتفاضة حادة في وجه التدليس في أمور قياس العدالة وإجراءاتها التي لا تخالف كل شرع وتنافي كل منطق *** لذلك انفجر ابن سريج في وجه القاضي المالكي ؛ ولم تثنه تلميحات أبي عمر – هذا – في محاولة توريطه بدفعه دفعاً إلى اتهام السلطان بالظلم مما دعاه إلى إعطائه درساً في مفهوم العدل :
" قل لي في لفظ واضح
هل نحن قضاة باسم الله
أم باسم السلطان ؟
أبو عمر : بل قل أنت
أوتنكر أن السلطان خليفة رب الأكوان
على الأكوان ؟
ابن سريج : هذا السلطان العادل ..
أبو عمر : أو تبغي أن تدفع عن مولانا
صفة العدل ؟
ابن سريج : بل أرجو أن أثبتها له
ليس العدل تراثاً يتلقاه الأحياء ..
عن الموتى
أو شارة حكم تلحق باسم السلطان
إذا ولي الأمر
كعمامته أو سيفه
مات الملك العادل
عاش الملك العادل
العدل مواقف
العدل سؤال أبدي يطرح نفسه كل هنيهة
فإذا ألهمت الرد تشكل في كلمات
أخرى
وتولد عنه سؤال آخر يبغي ردا
العدل حوار لا يتوقف
بين السلطان وسلطانه
أبو عمر : العدل .. العدل
ماذا تبغي حتى يجري العدل
ابن سريج : أن نسمع صوت المتهم الماثل
بين يدينا
ونسائل أنفسنا وضمائرنا
أبو عمر : هه ..
هو لا يبغي أن يتكلم "
البوح الحلولي الصوفي بين المقولة والدفاع عنها :
للصوفيه الحلولية مقولتها أو خطابها الذي تمثل في شعر الحلاج (حسين بن منصور) نفسه:
"أنا أنت وأنت أنا نحن روحان حللنا بدنا "

"فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا "
كما تمثل في خطبة الحلاج الدرامية الاحتفالية في ساحة بغداد التي دعا فيها الناس – خاصة الفقراء - إليه صائحاً ؛ حاضاً على التمرد والثورة :
"الحلاج : إلي إلي يا غرباء .. يا فقراء .. يا مرضى
كسيري القلب والأعضاء ، قد أنزلت مائدتي
إلي إلي
لنطعم كسرة من خبز مولانا وسيدنا
إلي إلي أهديكم إلى ربي
وما يرضى به ربي "
فما أن يتجمع الناس حوله حتى يكشف عن جوهر مقولته الحلولية ، غير منتصح بنصح رفيقه الشبلي ، وغير ملتفت إلى الحديث : "خاطبوا الناس على قدر عقولهم " بل يمض في كشف سريرة نفسه ، وإسقاط ما في ضميره :
" أراد الله أن تجلى محاسنه ، وتستعلن أنواره
فأبدع من أثير القدرة العليا مثالاً ، صاغه طيناً
وألقى بين جنبيه ببعض الفيض من ذاته
وجلاّه . وزيّنه ، فكان صنيعه الإنسان
فنحن له كمرآة ، يطالع فوق صفحتها
جمال الذات مجلّوا ، ويشهد حسنه فينا
فإن تصفُ قلوب الناس ، تأنس نظرة الرحمن
إلى مرآتنا ، ويديم نظرته ، فتحيينا
وإن تكدر قلوب الناس يصرف وجهه عنّا
ويهجرنا ، ويجفونا ..
وماذا يفعل الإنسان إن جافاه مولاه ؟
يضيق الكون في عينيه ، يفقد ألفة الأشياء
تصير الشمس في عينيه أذرعة من النيران
يلقى ثقلها المشّاء
على وجه السما والأرض . ألواناً من اللهب
ويضحي البدر دائرة مهمشة رمادية
من القصدير ميتة وملقاة على بيداء
فقد جفت عيون الناس ، أضحت نقطة سوداء
وتذوي أذرع الأشجار تلقي حملها للأرض
وتدفئه كمجهضة تكفن عارها في الطين "
إن بوح الحلاج حتى الآن لم يزد عن كونه بوحاً ذاتياً ، مجرداً يحوّم حول ما أودع الله من ضيائه في الإنسان. حتى ما اتصل بأحوال المجتمع ومعاناة الناس ، لم يجر مجرى التشخيص والتحديد بل ظل يدور في إطار التجريد لذلك كانت خطبة بوحه الحلولية تلك خير مثال على بوح التوق إلى الاستشهاد ؛ في لغة استعارية فوق طاقة فهم العامة الذين استهدف الحلاج مخاطبتهم .
" ويمشي القحط في الأسواق ، يجبي جزية الأنفاس
من الأطفال والمرضى
حقيبته بلا قاع ، فلا تملأ إذ تعطي
ورغبته بلا ري ، فلا تسكت أن تسأل
وخلف القحط يمشي تحت ظل البيرق المرسل
جنود القحط ، جيش الشر والنقمة
خلائقهم مشوهة ، كأن الذيل فوق الرأس
يقود خطاهمو إبليس ، وهو وزير ملك القحط
وليس القتل والتدجيل والسرق
وليس خيانة الأصحاب والملق
وليس البطش والعدوان والخرق
سوى بعض رعايا القحط ، جند وزيره إبليس "

بهذا الوعي الغيبي يطيش سهم الحلاج بعيداً عن قناعة تحرك العامة ، فهو يلقي تبعة الانحراف والفساد الاجتماعي على إبليس الذي يستغل فقر الفقراء فيحضهم على الجرائم. وهو بذلك لم يزد عن كونه خطاب وعظ ديني ، سأم العامة من سماعه من على المنابر في المساجد المنتشرة في كل موقع .
وربما وضح ذلك بتأمل الدور السلبي لتلقي العامة لخطاب بوحه التجريدي إذ لم يتعامل مع الخطاب سوى العسس ورجال الشرطة :
" تعالى الله ، قد يأنف أن ينظر في مرآتنا ذاته
فيصرف وجهه عنّا
فكيف إذن نصفي قلبنا المعتم ؟
ليستقبل وجه الله ، يستجلي جمالاته
نصلي .. نقرأ القرآن
نقصد بيته ، ونصوم في رمضان
نعم ، لكنّ هذي أول الخطوات نحو الله
خطى تصنعها الأبدان
وربي قصده للقلب ولا يرضى بغير الحب
تأمل ، إن عشقت ألست تبغي أن تكون شبيه محبوبك
فهذا حبنا لله
أليس الله نور الكون
فكن نورا كمثل الله
ليستجلي على مرآتنا ذاته "
لم يتحرك الناس بسبب خطاب الحلاج التحريضي المغلف بروح الرومانتيكية ، فالشرط الذاتي لم يزد عن كونه وعياً ذاتياً سلبياً ، والشرط الموضوعي غائب تماماً عن الوسط الاجتماعي المتلقي لخطاب الحض ، وإنما كانت حركتهم لاستنقاذ الحلاج من أيدي الشرطة ، يسبب كراهية الناس للشرطة.

والمحلل لخطاب الحلاج – هنا – يجده يصف فعل الله فينا : ( " أراد الله – فأبدع – صاغه – وألقى – وجلاه – وزينه – يطالع – ويشهد – تأنس نظرة الرحمن – يديم نظرته " ) وكل هذه الأفعال الإلهية من أجل أمر وحيد هو أن يصبح الإنسان مرآة لذات الله ليشهد حسنه فينا . وذلك شريطة أن تصفو قلوبنا . والمقابل هو استمرار حياتنا فإذا لم تصف قلوبنا ففعل الله يتغير : ( " يصرف وجهه عنا – يهجرنا – يجفونا " ) عندها : (يضيق الكون في عين الإنسان – يفقد الألفة – يفقد القدرة على الرؤية الحقيقية – يستشري الفقر بين الناس – يتفشى المرض – تنتشر الجرائم) وخلاصة القول : إن الحض على زوال البلاء وصلاح أحوال الناس وإقامة العدل قرين بحسن علاقة الناس بالله .
لكن ما الذي أثار الشرطة من ذلك القول ، خاصة وأن الخطاب لم يحرك حماسة واحد ممن تحلقوا حول صاحبه ، هل لأنه نعتهم بأنهم جند إبليس وزير الفقر ، وأنهم شريرون شائهة خلائقهم وأنهم أداة البطش . لذلك استدرجوه ؛ وهو الذي أعد نفسه وهيأها لمواجهة (دون كيخوتية) :
"الشرطي : ولكن شيخنا الطيب ، هل ربي له عينان
لكي ينظر في المرآة ؟ "
وعبثاً يحصل الشرطي على إجابة من جنس سؤاله ؛ بل يواجه بتساؤل استنكاري فيه ازدراء:
"الحلاج : ولكن ولدي الطيب ، هل قفل على قلبك
حتى ينطق القرآن
أم على قلوب أقفالها "
وعبثاً يحصل العامة أيضاً على المطلوب منهم من جملة خطاب الحلاج . وهكذا يلقى الحلاج بمقولته الحلولية ، دون أن يدعمها ، حتى عندما تتناوشه الأسئلة الاستدراجية لا يجيب بل يتهم السائل المغرض بانغلاق الفهم ، وكأن عملية التواصل أو الاتصال مرهونة بطرف التلقي ، دون أن يلتزم المرسل بتهيئة رسالته بما يتناسب ومستويات الوسط أو التلقي ؛ إلاّ إذا كان هدف الإرسال تحقيق المجرد غير المنظور إلاّ من صاحبه :

بوح التوق إلى الشهادة :
" (ضجة وتلويح بالأيدي توشك أن تصبح مقتلة )
الحلاج : لا ، يا أصحابي
لا تلقوا بالاً لي
استودعكم كلماتي
عودوا .. عودوا ..
ودعوني حتى تنفذ في بدني
لتؤدبني
ألفاظ عتاب المحبوب النارية "
"الشرطي : يا قوم
الشيخ أقر بجرمه
فدعوه يمضي ليؤدب
يا شيخ ..
هل أقررت بجرمك ؟
الحلاج : هذا حق يا ولدي ..
فلقد أجرمت بحقه
إذ أفشيت السر
الشرطي : أسمعتم !
الحلاج : عاقبني يا محبوبي أني بحت وخنت العهد
لا تغفر لي ، فلقد ضاق القلب عن الوجد
لكن عاقبني كعقاب الخصم خصيمه
لا كعقاب المحبوب حبيبه
لا تهجرني ، لا تصرف عني وجهك
لا تقتل روحي بدلالك
اجعل بدني الناحل أو جلدي المتغضن
أدوات عقابك "
إن موقف الحلاج هنا مناظر لموقف سقراط ، الذي التزم بكلمته باحترام القانون حتى ولو كان الثمن هو فقدانه لحياته ، وقد فعل ، ورفض محاولات تلاميذه وحوارييه المدفوعين بحض غير مباشر من الحكام . كذلك التزم الحلاج بكلمته التي تسلم لله الأمر كله ، وتدعو الناس إلى تسليم الأمر كله لله ، حتى تنصلح أحوال البشر ، حتى وهو يساق إلى حتفه :
" أبو عمر : هه ..
هو لا يبغي أن يتكلم
وعلى كل ، مازالت جلستنا ممدودة
فليسمعنا شيئاً من لغوه
يا هذا الشيخ المنفوش اللحية
بم تدفع عن نفسك ..؟
الحلاج : لستم بقضاتي ،
ولذا لن أدفع عن نفسي "
إن دفع الحلاج هنا ليس دفعاً لشخص القاضي أو هيئة هذه المحكمة على وجه الخصوص ، بل هو دفع لكل هيئة قضائية ، لأنه لا يؤمن إلاّ بقضاء الله ، لذلك تحايل قاضي الشافعية ابن سريج حتى يحثه على التعامل مع الهيئة القضائية دفاعاً عن نفسه ؛ ومن الغريب أن الحلاج يستدرج بحسن نية من ابن سريج :
"ابن سريج : يا حلاج ..
لا تدفع عن نفسك
بل حدثنا عما فيها
إن كان هو الحق ، عرفناه معك
وإذا كان الباطل ..
نبهناك إليه
وأخذناك بجرمه ..
الحلاج : أوعدتم إن كان الحق ..
تمضوا فيه معي ؟ "
مثل هذه النية الحسنة ، أو سذاجة التوكل والافتراض العاطفي لحسن نوايا الآخرين تقابل بواقع صادم ، واقع وعي طبقي :
"أبو عمر : نمضي فيه معك ..؟
أما إنك رجل ساذج
أو إنك أذكى مما تتصور
ولهذا أفسدت صعاليك العامة "
ومع وضوح موقف القاضي الساخر التهكمي من طرح الحلاج ، فإن الحلاج ينصاع للقاضي ويصدقه وينبري في بوح طويل استرسالاً خلف تيار الشعور :
" أبو عمر : قد نصبح من أتباعك ( ساخراً )
من أنت ، وما خطبك .. ؟ "
الحلاج : أنا رجل من غمار الموالي ، فقير الأرومة والمنبت
فلا حسبي ينتمي للسماء ، ولا رفعتني لها ثروتي
ولدت كآلاف من يولدون ، بآلاف أيام هذا الوجود
لأن فقيراً – بذات مساء – سعى نحو حضن فقيرة
وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية
نموت كآلاف من يكبرون ، حين يقاتون خبز الشموس
ويسقون ماء المطر
وتلقاهم صبية يافعين حزانى على الطرقات الحزينة
فتعجب كيف نموا واستطالوا وشبّت خطاهم ..
وهذي الحياة ضنينة "
ومن الغريب أن الحلاج في مواجهته للمحكمة لا يفعّل تيار الوعي ، وهو الأدعى للتفعيل واليقظة والحذر ، مثله مثل كل من أوقف أمام قضاته . غير أن الحلاج وقد صرّح بأن القضاة ليسوا قضاته ، وهو في الوقت ذاته ، ينبري في بوح إدانته لنفسه – قاصداً – لأنه يتمنى الشهادة ويسعى لها :
"الحلاج : تسكعت في طرقات الحياة ، دخلت سراديبها الموحشات
حجبت بكفي لهيب الظهيرة في الفلوات
وأشعلت عيني ، دليلي ، أنيسي في الظلمات
وذوّبت عقلي ، وزيت المصابيح ، شمس
النهار على صفحات الكتب
لهثت وراء العلوم سنين ، ككلب يشم روائح صيد
فيتبعها ، ثم يحتال حتى ينال سبيلاً إليها فيركض
ينقض
فلم يسعد العلم قلبي ، بل زادني حيرة واجفه
بكيت لها وارتجفت "
في هذا الجزء من بوح الإدانة يكشف الحلاج أمام قضاته أنه غير اتباعي ، لأنه وظف حواسه الخشنة (البصر) طلباً للبصيرة التجريبية ، تفعيلاً لتحصيله العقلي ، بعيداً عن التحصيل الاتباعي النقلي :
" وأحسست أني ضئيل كقطرة طل
كحبة رمل
ومنكسر تعس ، خائف مرتعد
فعلمي ما قادني قط للمعرفة "
غير أنه يراجع نفسه حول ما أفادت من العلوم الطبيعية والتاريخية قديماً وحديثاً ؛ فيجد في نفسه قصوراً نحو معرفة سر الوجود من حيث البداية والنهاية :
" وهبني عرفت تضاريس هذا الوجود ..
فكيف بعرفان سر الوجود ، ومقصدي
مبتدا أمره ، منتهاه "
ليس هذا هو بوح الحلاج محمولاً على أثير التاريخ موصولاً بنبرات شخصية مسرحية معاصرة مستلهمة من تاريخ (الحسين بن منصور الحلاج ) المتصوف العراقي من المرتبة الرابعة - وفق تصنيف الجنيد لمراتب المتصوفة - ، ولكنه بوح المثقف المعاصر المسكون بتاريخ ثقافة التمرد العربي ، الذي هو صلاح عبد الصبور نفسه والذي هو أحمد عبد المعطي حجازي ، ومحمد عفيفي مطر ، وأمل دنقل ، بل كل مثقف عربي حقيقي ، فما من مثقف حقيقي ، إلاّ وانغرزت جذوره في طين المعرفة التراثية المظنونة وامتدت فروعه عبر أثير المعارف اليقينية المتجددة ، وما من مثقف حقيقي ، إلاّ وتأرجح ما بين الشك واليقين ؛ وما من أحد إلاّ وطالته حيرة المثقف ، مثلما طالت الحلاج :
" الحلاج : سألت الشيوخ ، فقيل
تقرب إلى الله ، صل ليرفع عنك الضلال ..
صل لتسعد
وكنت نسيت الصلاة ، فصليت لله رب المنون
ورب الحياة ورب القدر
وكان هواء المخافة يصفر في أعظمي ويئز
كريح الفلا .. وأنا ساجد راكع أتعبد
فأدركت أني أعبد خوفي ، لا الله ..
كنت به مشركاً لا موحد
وكان إلهي خوفي
وصليت أطمع في جنته
ليختال في مقلتي خيال القصور ذوات القباب
واسمع وسوسة الحلي ، همس خرير الثياب
أني أبيع صلاتي إلى الله
فلو أتقنت صنعة الصلوات لزاد الثمن
وكنت به مشركاً ، لا موحد
وكان إلهي الطمع "
يجد خدم السلطة الحاكمة في أي مكان وزمان ، مثل هذا البوح الأمين والصادق مع النفس ، دليل اعتراف يؤخذ به صاحبه ، لذلك أخذ به من أخذ من المفكرين ومن المثقفين والمبدعين عبر تاريخنا المحكوم بالسلطة الفردية التي تزيّت أحياناً بأزياء التدين وبأزياء الديمقراطية واحترام الرأي الآخر، كما أخذ به الحلاج وعشرات المفكرين والمثقفين والمبدعين الشعراء على مر عصور الحكم الإسلامي العربي ؛ لمجرد أن وقع أحدهم في حيرة المثقف ؛ كما وقع الحلاج :
"الحلاج : وحير قلبي سؤال :
ترى قُدّر الشرك للكائنات
وإلاّ ، فكيف أصلي له وحده
وأخلى فؤادي مما عداه
لكي إنزع الخوف عن خاطري
لكي أطمئن .. "
ولكي يفض المثقف حيرته ؛ فهو يلقى بنفسه مختاراً في قارب فكري ما يسبح به مع راكبيه ضد تيار الثقافة التقليدية المألوفة ، هكذا فعل الحلاج ؛ إذ اتخذ الحلولية قارب نجاة في بحر الحيرة الثقافي :
" الحلاج : كما يلتقي الشوق شوق الصحارى العظام
بشوق السحاب السخي
كذلك كان لقائي بشيخي
أبي العاص عمرو بن أحمد ، قدس تربته ربه
يحب النوال
ويعطي ، فيبتل صخر الفؤاد
ويعطي ، فتندى العروق ويلمع فيها اليقين
ويعطي ، فيخضر غصني
ويعطي ، فيزهر نطقي وظني
ويخلع عني ثيابي ، ويلبسني خرقة العارفين
يقول هو الحب ، سر النجاة ، تعشّق تفز
وتفنى بذات حبيبك ، تصبح أنت المصلي ،
وأنت الصلاه
وأنت الديانة والرب والمسجد
تعشقت حتى عشقت ، تخيلت حتى رأيت
رأيت حبيبي ، وأتحفني بكمال الجمال ،
جمال الكمال
فأتحفته بكمال المحبة
وأفنيت نفسي فيه
أبو عمر : صمتاً : هذا كفر بيّن "
وكما لا يفلت الحلاج من الإدانة ، لم يفلت مفكر طليعي أو مبدع أو شاعر من إدانة ما ، لابد وأن تصمه بها السلطة الفردية بكل مستوياتها . ولئن وجد مفكر متهم من قبل نظام الحكم الفردي ؛ منصفاً ؛ يضع القول في سياقه ويفهمه في إطار سياقه النصي والفكري ، دون أن يأخذ صاحبه بظاهر القول ؛ فإن ذلك لا يحول دون تصفيته تصفية جسدية باسم الشرع ، أو باسم القانون ، أو حبسه به – على أقل تقدير - ؛ فالمبدع متهم بإبداعه ، بوصفه ضلالة :
" ابن سريج : بل هذا حال من أحوال الصوفية
لا يدخل في تقدير محاكمنا
أمر بين العبد وربه
لا يقضي فيه إلاّ الله
لنسأله عن تهمة تحريض العامة
فلهذا أوقفه السلطان هنا
هل أفسدت العامة يا حلاج ؟ "
لا يستطيع صاحب اعتقاد صادق ، أن يخلي بين إجاباته عما يطرحه عليه قاض ما ، حالة توقيفه أمام محكمة ما ومعتقداته لذلك ينطق الحلاج بما هو ضروري ، إعلاناً لمعتقده وإعلاء لفكره :
"الحلاج : لا يفسد أمر العامة إلاّ السلطان الفاسد
يستعبدهم ويجوعهم "
هذا اتهام للسلطان ، أي سلطان . وهنا يسرع القاضي بتضييق الخناق عليه للحصول على اعتراف محدد ، لذلك يصوغ سؤال اتهام محدد ، يستلزم إجابة محددة :
" ابن سليمان : يعني هل كنت تحض على عصيان الحكام ؟ "
لو كان العامة في مصر ، في ظل نظام الستينيات مستعبدين وجوعى ، لصودرت هذه المسرحية ، ولكن لحسن حظ المثقف العربي بشكل خاص والمسرحيين بخاصة ، أن ثورة يوليو 1952 لم تكن تضيق اقتصادياً واجتماعياًَ على الفئات الدنيا من الطبقات الشعبية ، ولن يشفع للشاعر صلاح عبد الصبور – عندئذٍ- أن يراوغ بلسان الحلاج في إجابته عن السؤال المصيدة الذي طرحه عليه (ابن سليمان) ؛ ليتمكن الحلاج من الدوران الإطاري حول السؤال؛ المصيدة :
" الحلاج : بل كنت أحض على طاعة رب الحكام
برأ الله الدنيا أحكاماً ونظاماً
فلماذا اضطربت ، واختل الإحكام ؟
خلق الإنسان على صورته في أحسن تقويم
فلماذا رُدّ إلى درك الأنعام ؟ "
لا يستطيع مفكر متمرد على منظومة الحكم الاستبدادي أن يفلت من قبضة زبانية الحكم وخدّامه الشرعيين من ناحية والقانونيين من ناحية أخرى مهما حاول المراوغة ، أو المناورة . والحلاج هنا وإن راغ فإن مراوغته ليست تراجعاً منه عن عزمه على نيل الشهادة على أيدي جلاديه :
" أبو عمر : ماذا يعني هذا الشيخ ؟
هل هذا أيضاً من أحوال الصوفية ؟
أم يستخفي خلف الألفاظ المشتبهة
كي يخفي وجه جريمته الشنعاء ؟ "
ليس غريباً أن يظهر القاضي ظهوراً غير حيادي في ظل الأنظمة الفردية الاستبدادية متشحة بأوشحة الشرع أو الشرعية (الدين أو القانون الوضعي) ، مع أن الدين والدين الإسلامي بخاصة ، لم ينص في القرآن على عقوبة دنيوية سوى في مواجهة إتهام ثابت لجريمة من الجرائم الخمس الآتية : (القتل – السرقة - الزنا – قذف المحصنات – الحرابة "قطع الطريق على الآمنين" ) ، إلاّ أن حكم قضاة المحكمة الإسلامية الشرعية في بغداد ، حكمت بقرار من قاضيين اثنين أحدهما مالكي والثاني حنفي بعد أن انسحب القاضي الثالث وهو شافعي معترضاً على سير المحاكمة في اتجاه إدانة الحلاج بكل سبيل . ومن خبيث فعل أذناب أي نظام استبدادي لهم وظائف شرعية تقوم على تطبيق الحدود الشرعية في قضائهم بين من حكموا في أمر من أمورهم وفق النص القرآني ، ما نجده عند ذلك القاضي الفاسد ، الذي وظف نفسه باسم الشرع قاضياً بما قضى ، واضعاً منطوق حكمه على ألسنة مجموعة من فقراء الحرف المتدنية فور انتهائه من استخلاص إدانة الحلاج من مجمل ما قال به الشبلي في شهادته :
" (يلتفت أبو عمر إلى جمع الفقراء)
أبو عمر : ما رأيكمو يا أهل الإسلام
فيمن يتحدث أن الله تجلىّ له
أم أن الله يحلّ بجسده ؟
المجموعة : كافر .. كافر
أبو عمر : بم تجزونه ؟
المجموعة : يقتل ، يقتل
أبو عمر : دمه في رقبتكم ..؟
المجموعة : دمه في رقبتنا
أبو عمر : والآن .. امضوا ، وامشوا في الأسواق
طوفوا بالساحات وبالخانات
وقفوا في منعطفات الطرقات
لتقولوا ما شهدت أعينكم
قد كان حديث الحلاج عن الفقر قناعاً ،
يخفي كفره
لكن "الشبلي" صاحبه قد كشّف سره
فغضبتم لله ، وانفذتم أمره
وحملتم دمه في الأعناق
وأمرتم أن يقتل
ويصلّب في جذع الشجرة
الدولة لم تحكم
بل نحن قضاة الدولة لم نحكم
أنتم ..
حُكمتم ، فحكمتم
فامضوا ، قولوا للعامة
العامة قد حاكمت الحلاج امضوا ..
امضوا .. امضوا "
هكذا ينفذ القاضي املاء رأس النظام الاستبدادي الذي نص عليه في رسالته للمحكمة في أثناء سير جلستها **** :
" أبو عمر : (وهو ينظر في الخطاب)
إن الدولة قد سامحت الحلاج
فيما نسب إليه ، وتثبت منه السلطان
من تحريض العامة والغوغاء على الإفساد
وعفت عنه عفواً كلياً لا رجعة فيه "
" لكن وزير القصر يضيف :
"هبنا أغفلنا حق السلطان ..
ما نصنع في حق الله
فلقد أنبئنا أن الحلاج
يروي أن الله يحل به ، أو ما شاء له الشيطان
من أوهام وضلالات
ولهذا أرجو لو يسأل في دعواه الزنديقية
فالوالي قد يعفو عمن يجرم في حقه
لكن لا يعفو عمن يجرم في حق الله "
ابن سليمان : هذا أيضاً حق
ابن سريج : بل هذا مكر خادع
فلقد أحكمتم حبل الموت
لكن خفتم أن تحيا ذكراه
فأردتم أن تمحوها
بل خفتم سخط العامة ممن أسمع أصواتهم
من هذا المجلس
فأردتم أن تعطوه لهم مسفوك الدم
مسفوك السمعة والاسم
يا حلاج ...
هل تؤمن بالله ؟
الحلاج : هو خالقنا وإليه نعود
ابن سريج : هذا يكفي كي يثبت إيمانه
أبو عمر : يا بن سريج
إني لا أبحث في إيمانه
بل في كيفية إيمانه
ابن سريج : كيفية إيمانه ..؟
هل تبغي أن تنبش في قلبه
هل هذا من حق الوالي
أم من حق الله ؟
أبو عمر : هذا من حق قضاة الشرع
ابن سريج : لا ، بل هذا من حق الله
فأنا لا أجرؤ أن أسأل رجلاً عن إيمانه
فإذا شئتم أن تمضوا في هذا الإثم ..
أبو عمر : سنمضي يا ابن سريج
ابن سريج : فأنا استعفي من مجلسكم *****
أبو عمر : هذا لك يابن سريج "

فكرة المخلص (المستبد العادل) :
لم تفارق فكرة المخلص (المستبد العادل) رأس أحد من مفكري الإسلام – لا في التاريخ القديم ولا في التاريخ المعاصر - .
" الحلاج : لا أملك إلاّ أن أتحدث
ولتنقل كلماتي الريح السواحه
ولأثبتها في الأوراق شهادة إنسان من أهل الرؤية
فلعل فؤاداً ظمآناً من أفئدة وجوه الأمة
يستعذب هذي الكلمات
فيخوض بها في الطرقات
يرعاها إن ولي الأمر
ويزاوج بين القدرة والفكرة
ويزاوج بين الحكمة والفعل "
هكذا كان جهد الحلاج جهد المصلح الديني – لا أكثر – وهكذا صوره صلاح عبد الصبور ، تفكيكاً لخطاب المصلح الديني الذي حفظ عن ظهر قلب (نظرية الكل في واحد – نظرية المستبد العادل) .



التعبير الدرامي الشعري ومستويات السرد والتشخيص
بين التسلط والإذعان التاريخي

لا يخلو بناء مسرحي من تقنية السرد سواء أكان سرداً حوارياً على ألسنة الشخصيات الدرامية أم على لسان مجموعة الكورس أو على لسان الراوية . أو كان سرداً تشكيلياً أو سينوجرافياً أو بلغة الجسد أو سرداً تمثيلياً . وهنا يتشكل السرد في مستويات متنوعة ما بين سارد أول وسارد ضمني وسارد ثالث
وفي مسرحية (مسافر ليل) يلجأ الشاعر في التقديمة الدرامية إلى (السارد الضمني) – من خارج الحدث – ليحلل رحلة الإنسان عبر التاريخ تحليلاً إطارياً مكثفاً وتجريدياً ، على متن قطار الزمن ؛ وبذلك الخروج على مبعدة من الحدث نفسه ، يحقق الهدف التنويري من خارج الحدث ، بوصفه مثقفاً طليعياً يعمل على خلق توعية طبقية لدى الغالبية التي ترمز إليها شخصية الراكب باعتبارها المحكومة بعامل التذاكر بوصفه رمزاً للحاكم فالشاعر يستعرض عبر مستويات ثلاثة المسيرة التاريخية للحاكم المتسلط بالحكي – التصويري- على لسان (السارد الضمني) : الراوي مرة وعلى لسان عامل التذاكر (السارد الثالث) - تشخيصاً - يعيد فيه فعل التسلط ومتداعياته أو يحكي بعضه منتحلاً صفة السارد الثاني في مرة أخرى وعلى لسان الراكب تشخيصاً – نفسياًَ- يعيد فيه فعل الإذعان مرة أو يحكي بعضه منتحلاً صفة السارد الضمني في مرة أخرى :
"الراوي : هاهو ذا يتململ سأمانا
إذ لا تستهويه اللعبة
فيجرب أن يلعب في ذاكرته
يستخرج منها تذكارات مطفأة ، ويحاول أن يجلوها
أسفا ، لا تلمع تذكاراته
يدرك عندئذ أن حياته
كانت لا لون لها
يسقط من عينيه أيامه
تتبدد دواماتٍ فوق حديد الأرضية
لا تتكسّر قطعاً وشظايا
إذ ليس هنالك شيء صلب
تراك .. تراك .. تراك
يتذكر مسبحته
يستخرج من جيب السروال الأيمن
تهوي من يده ، يتفقدها بأصابعه ،
فتروغ لترقد بين الكرسيين
يجهد أن ينقذها ، فتغوص .. تغوص .. تغوص ..
ويظل يفتش حتى تتناثر سبحته حبات
تتساقط فوق حديد الأرضية
تراك .. تراك .. تراك "
لأن السارد يمثل ما تراه الشخصية فحسب كما لو كان ينظر عبر عينيها أو كما لو كان "شاهداً غير منظور" يقف إلى جانبها السرد بوساطة المؤلف أو بوساطة الشخص الأول " ولأن السارد الضمني الراوي يقوم مقام الشاعر لذا يتكشف الدور التنويري تلميحاً ، لا ينفصل عن طبيعة التصوير الشعري ؛ على اعتبار أن الشعر "لمحٌ تكفي إشارته" – حسبما قال البحتري-، وحيث يستشف ما وراء الصورة من معانٍ أو دلالات. هنا – يمكننا أن نلمح بمنظور نظرية الانعكاس وعلى ضوء مصباح سيميولوجي خصوصية الشاعر نفسه .
من وراء غيم المعاني في عرض السارد الضمني (الراوي) فاللعب في الذاكرة ، لا يفيد من خوت حصّالة ذاكرته من تسجيل مادي لأفعال مجسدة لهويته . فعندما لا يكون للإنسان تاريخ مادي ملموس هو موضع تأثير إيجابي في واقع الآخرين ؛ قبل أن يكون مؤثراً في واقعه الذاتي ؛ فإنه يلوذ بمظاهر شكلية ، يتمسح بها . وهكذا يلوذ الراكب بمظهر تديّني .. بعد أن أدرك (أن حياته كانت لا لون لها) وهو يسترجع شريط ذكرياته عبر رحلة إذعانه التاريخية التي سيّرها الحكام المتسلطون باعتباره رمزاً لعامة الناس (المحكومين) على مر التاريخ ؛ ذلك أن الذاكرة هي القدرة على التمثل الانتقائي Selectively represent وفي واحدة أو أكثر من منظومات الذاكرة للمعلومات التي تميز بشكل فريد خبرة معينة ، الاحتفاظ بتلك المعلومات بطريقة منظمة في بنية الذاكرة الحالية وإعادة إنتاج بعض أو كل هذه المعلومات في زمن معين بالمستقبل وذلك تحت ظروف أو شروط محددة "
فعندما يكون التدين شكلياً وسطحياً (ظاهرياً) ؛ فإن ما وراء المظهر نفسه يروغ منه وينفلت . ولنلحظ لفظة (جيب سروال الأيمن) فمظهر تدينه في جيب سرواله ، وهو يخرجه عند الحاجة أو عند الفراغ في محاولة تبريره لخواء حياته من فعل مادي إيجابي له في حياته الإنسانية ، بالانتساب إلى مفردة من مفردات الاتباعية الدينية – باعتبار فكرة "اليمين" فكرة تدينية – وباعتبار " المسبحة " وسيلة ضبط إحصائي لطقس التسبيح والحمد – الذي ينسب فاعله إلى اليمين (الفكر الاتباعي) .
فاستخدام المسبحة أداة قياس وإحصاء عددي لأقوال الحمد وآلية ترديداتها ، وهنا يحل ظل التعبد محل العبادة مثلما تحل خصلة من شعر الحبيبة محل الحبيبة نفسها – وفق الفشتية – على أن خصوصية ما كامنة في آلية استدعاء الشخصية للحظة ، حيث يمد السارد الضمني الصورة المستعادة بخيوط الطقس التراثي ؛ لخلق لحظة لم تكن قائمة من قبل ، مع إنها الابن الشرعي لماضي شخصية الراكب – بتعبير صلاح عبد الصبور نفسه - إلى جانب كونها بمثابة الابن الشرعي للمستقبل .. فاستدعاء الراكب التجريبي لمذخور ذاكرته ، وليد حالة السأم التي انتابته – حسبما أشار السارد الأول - :
"هاهو ذا يتململ سأمانا
إذ تستهويه اللعبة
فيجرب أن يلعب في ذاكرته
يستخرج منها تذكارات مطفأة ، ويحاول أن يجلوها "

المسكوت عنه في اللحظة الدرامية المختزلة :
وعندما يتكشف خواء تلك الذاكرة وبهتان ما حوته يمده (السارد الضمني الراوي / الشاعر نفسه) بلحظة مختزلة ، إذ تمتد يد الراكب إلى الجيب الأمن لسرواله – الأيمن تحديداً – ليخرج منه شيئاً لا يخرج إلاّ من الجيب الأيمن – المسكوت عنه - وهنا يوظف التداعي التلقائي المدرب للاثنين : (السارد الضمني/ الراوي / الشاعر) و( السارد الثاني / الراكب) الذي يعاد تصوير فعله بالسرد التشكيلي عبر ذهن السارد الضمني وعبر ذهن المتلقي فور تلقيه للصورة على لسان (السارد الضمني) فيكفينا أن نلحظ ما وراء ذلك التداعي التلقائي المدرب حيث تمتد يمين الراكب إلى الجيب الأيمن في سرواله ليخرج لا إرادياً مسبحته . وما وراء فعله – المسكوت عنه- يشكل نواياه المستقبلية وهي الهجوع إلى الإذعان والتسليم : فالسأم إذاً سلمه للعب في ذاكرته ؛ وخواء ذاكرته من أي شيء إيجابي يعتز هو نفسه به ، يسلمه إلى مخزون طقسي تراثي هو ظل من فعل العبادة.
ولأن الصورة الفنية (الدرامية الشعرية) تتدعم بتداعيات صور أخرى سريعاً ما تتوالد عبر اللحظة المختزلة ؛ لإعادة إنتاج الفعل وصور توالده وتداعياته التي يحكم الشاعر الإمساك بزمامها حتى لا تسقط المغزى التنويري الذي حمّلها به ، بغية الإشارة إلى مظهرية فعله التديّني:
" تهوي من يده ، يتفقدها بأصابعه ،
فتروغ لترقد بين الكرسيين
يجهد أن ينقذها ، فتغوص ، تغوص ، تغوص
ويظل يفتش حتى تتناثر سبحته حبات
تتساقط فوق حديد الأرضية
تراك .. تراك .. تراك "
هكذا تحل آلية المقطع الصوتي لسقوط حبات المسبحة على حديد الأرضية بديلاً عن وحدة صوته المتكررة فيما لو كان قد تمكن من استعمال مسبحته في آلية تكرار جملة التكبير أو الحمد ، لتأكيد مظهرية تدينه ، أو شكليته ، لأنه ما لجأ إلى طقس التسبيح ، وإنما إلى مجرد التلهي بآلية تفض عزلته وتوتره ، وتشعره بالصحبة ، حيث أراد باتخاذ المسبحة رفيق ظل في رحلته . ولكن الشاعر – هنا – يحرمه من تلك النغمة ، مع إنها مجرد ظل رفقة .
وهنا تعمل التداعيات مع التفاصيل (منمنمات الصورة) على منح الصورة لوناً خاصاً بها يمنحها هويتها .. فالشغل على تفاصيل الصورة هو الذي يقودنا إلى سر الصنعة في الشعر والمسرح بتعبير صلاح عبد الصبور
يعتمد صلاح عبد الصبور هنا على حدث يقوم على ثلاثة محاور : (محور معرفي ومحور ثقافي اجتماعي ومحور تشكيلي) ولأن الموقف هنا تأسس على التجريد وإلقاء عبء تجميع مفردات أو جزئيات الصورة ، بهدف خلق حالة مشاركة إدراكية فحسب ، لذلك ألقى بعبء حمل خطاب الحكي على عاتق (السارد الضمني/ الراوي) نائباً عنه ومن ثم لم يصبح هنا مجال للمحور الوجداني.
يقول د.ماهر شفيق فريد في زجره لناقدي إبداع إليوت في تجريده لشخصياته المسرحية : "إن الفن إعادة خلق وليس عملية تسجيل والشخصية الحية في الفن ليست هي التي تتصرف وفق المنطق الحياتي ، وإنما هي التي تتصرف وفق المنطق الفني وحسب قوانين الحتمية الفنية "
يقول د. مصطفى سويف : " إن الشاعر لا يغير ذكرياته ؛ ولكنها تعود إليه متغيرة – وهو لا يقصد إلى وصف الوقائع من حوله بأوصاف جديدة ، لكنها هي التي تأتي حاملة هذه الأوصاف "
وإذا كانت شخصيات مسرحيات صلاح عبد الصبور الشعرية – فيما عدا (ليلى والمجنون) تبدو على مبعدة من أمور الحياة اليومية ومن الرسالة الاجتماعية الواضحة . مع ميل إلى أناقة الفكر والتعبير ، فذلك لكونه صاحب رؤيا خاصة للوجود ، رؤيا شعرية اختارت لنفسها قالباً درامياً . هو كما كان إليوت معنياً بقالب درامي شعري " تتحالف فيه الاهتمامات الإنسانية مع براعة الصنعة ، كي تنتج – في نهاية المطاف – أثراً كلياً لا يختلف ، من حيث الجوهر ، عن الأثر الكلي الذي تخلقه القصيدة أو القصة في نفس متلقيها "
فشخصية الراوي – بوصفه سارداً ضمنياً - تبني اهتمامات الشاعر الإنسانية بخلق حالة تحالف بين ما ينتجه ذهن الراكب من تهويمات ذاكرة البشرية عبر تاريخها الممتد من بذرة الفكر الفلسفي الأرسطي إلى آلة الحرب والدمار بداية من تلميذه الإسكندر حتى الواقع البشري المعاصر فمع أن الراوي وهو السارد الضمني التاريخي ، يحذر الراكب من استدعاء عظيم من العظماء عبر ذاكرته ، حتى لا يسيطر بعظمته من جديد على البسطاء ، بعد أن رآه وقد توقف عند أسماء محاربين طغاة ومحاربين وقادة عظماء وهو يقرأ أسماءهم على صفحة من جلد الغزال أخرجها من معطفه ، بعد أن انفرطت حبات مسبحة تسليته وتبعثرت ؛ غير أن الراكب لم يأبه لتحذير الراوي الضمني - رب العبرة التاريخية - :
" الراكب : الاسكندر
" تك .. تك .. تك "
هانيبال
" تك .. تك .. تك "
تيمور لنك
" تك .. تك .. تك "
هتلر .. متلر .. جونسون .. مونسون
" تك .. تك .. تك "
الاسكندر .. الاسكندر .. الاسكندر
الراوي : معذرة .. لا ينفصل الإنسان عن اسمه
فالعظماء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرة التاريخ
لتسيطر عظمتهم فوق البسطاء
والبسطاء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرتك
ليكونوا متنزه أقدام العظماء
ولذلك خير أن ننسى الماضي
حتى لا يحيا في المستقبل
حتى لا يخدعنا التاريخ
ويكرر نفسه
الراكب : الاسكندر .. تك .. تك .. تك
الاسكندر .. تك .. تك .. تك
إن مناداة الراكب للإسكندر هي مناداة استدعاء غير المحكوم لمن يحكمه ولأنه نادى الإسكندر على وجه الخصوص وهو من هو الغازي الذي يغزو الممالك والأمم مستخدماً الفكرة سلاحاً يقتل به كل من وقف في طريق طموحاته غير المحدودة . لذلك يتشكل الإسكندر أمام عينيه من أي عابر سبيل ، في درب من دروب أي عصر في أي مكان له طموحات سكندرية :
" عامل التذاكر : من يصرخ باسمي ، من يدعوني
من أزعج نومي في راوية العربة
أنت .. ؟
الراكب : معذرة .. من أنت ؟
عامل التذاكر : أنا الإسكندر
في صغري روضت المهر الجامح
في ميعة عمري روضت أرسطاليس
حين بلغت شبابي روضت العالم. "
هذا التصريح صوغ من عقل الشاعر نفسه ، إذ قلب المعلومة التاريخية رأساً على عقب لما رأى الدعوة الأرسطية نحو عولمة ثقافية تحت راية الفكر اليوناني وهي أول عولمة ثقافية في التاريخ وقد حولها الإسكندر إلى عولمة عسكرية اقتصادية ، إذ استبدل الغزو الفكري والثقافي بالغزو العسكري وسيادة العقل بسيادة السيف . وهي سيادة لم تكن لتتحقق لمغامر مستعمر ومتسلط ، دون خنوع جعل من خده مداساً لقدمه ؛ أو مظهر متراخ يأخذ الأمر باستهتار وتهكم ؛ فكلاهما مدخل للتسلط :
" الراكب : مرحى يا اسكندر .. هل أكثرت من الشرب "
هذا العبث غير المسؤول للتسلية أو لاصطناع رفقة مع مسبحة لا تستجيب له ، سريعاً ما يتحول عنها إلى لون آخر من العبث الحقيقي ، مع كائن وظيفي أي صاحب سلطة ؛ فإذا بالعبث يتحول إلى حقيقة :
"عامل التذاكر: لا تعرف قدري .. يا جاهل
قسماً ، سأروضك كما روضت المهر الجامح "
إن فصل البناء الدرامي في هذه المسرحية بين الفعل القولي أو المسموع (حوار الراكب وحوار عامل التذاكر) والفعل المرئي (الوصف السردي للفعل التطبيقي المرئي المادي في حكي الراوي وهو الدال على تحقيق الأقوال) هو بمثابة فصل بين الشعار وتطبيقاته ؛ فما أن يطلق (عامل التذاكر) تهديده ، حتى يصف لنا الراوي منظومة أفعاله تحقيقاًَ لقوله :
" الراوي : تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيمن
يستخرج سوطاً ملفوفاً
تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيسر
يستخرج خنجر
تمتد يد الإسكندر في ثنية سرواله
يستخرج غدارة
تمتد يد الإسكندر في حلقه
يستخرج أنبوبة سم
تمتد يد الإسكندر في جيب خلفي
يخرج حبلاً ..
يتحسسه خجلاناً ، ويقول :
عامل التذاكر : هفواً .. هذا مات به أغلى أصحابي
أعطيت صديقي الحبل ليلعب به
فأساء استعماله "
حكي يستعيد صور إرهاب الحاكم الفردي المتسلط ، الغازي ، فكل الغزاة والعسكريون الحكام مختزلون في هذه المسرحية في شخص الإسكندر. ذلك الغازي الأول باسم العولمة الثقافية ، متشحاً براية الفكر تحت شعار توحيد العالم تحت راية الفكر اليوناني ، تتويجاً لفكر أرسطو ، سلباً لهويات ثقافات الأمم الأخرى ، فسرعان ما ينزع قناع الفكر ويتدرع بقناع القهر المسلح؛ في مواجهة الآخر غير الخانع ، حتى إذا كان تابعه وأداة تحقيق إرادته وأقرب المقربين إليه؛ وهو يصفيه تصفية جسدية ثم يعلن على الملأ عبر وسائله الإعلامية بأن الرجل قد انتحر – بعد انتهاء مهمته- :
"هل تدري ؟
كلماتي في معناه صارت من مذخور التاريخ الأدبي
لم أكتبها ، لكني شاهدت وزيري يكتبها
وصرفت له خبزاً ونبيذاً ، حتى أنهاها
حتى علمني أن ألقيها إلقاء مأساوياً
يخضع لأصول النحو
فأنا أخطئ دوماً في الفاعل والمفعول "
هكذا يمسك الشاعر بطرف حبل التداعيات ، يرخى للصورة بالقدر الذي لا يسمح لمفردات التكوين في التعبير الدرامي الشعري بالانفلات أو التشتت الذهني للمتلقي . وتلك خاصية من خصائص سر الصنعة عند صلاح عبد الصبور تشير إلى بعد من أهم أبعاد العملية الإبداعية وهو السيطرة على السياق والإمساك بالجزئيات والتحليق فوق أسوار الكل بما يسمح بالتنقل بين الكل والأجزاء بشكل ديالكتيكي وبما يسمح بالنمو المتصاعد للعمل الإبداعي وللمبدع أيضاً، فالمبدع ينمو مع عمله ويكتسب خصائص هذا العمل "
لذلك لا نتشتت ذهنياً عندما ينتقل في تخلص درامي وجمالي من وصفه لحال صديقه الذي أعطاه المسؤولية (الحبل) فشنق بها نفسه ، إلى استعراضه الموجز لتاريخ حبل السلطة ودور وزيره في تمجيدها وتدريبه على إلقائها . والتأريخ لها في مقابل خبزه ونبيذه (ببطنه) وصولاً إلى طمع ذلك الوزير في ولاية ثمناً لأداء وظيفته :
" حتى علمني أن ألقيها إلقاء مأساوياً
يخضع لأصول النحو
فأنا أخطئ دوماً في الفاعل والمفعول
كان وزيري طماعاً ، إذ طالبني بولاية
ثمناً لدخول التاريخ ككاتب
فوهبت وزيري الأرض بأكملها كي يرقد فيها "

ليس الفاعل والمفعول هنا سوى الجاني والمجني عليه . إن الاستعارة والكناية وألوان التورية المجازية تصنع المسكوت عنه في التعبير الدرامي الشعري والنثري ، لذلك لا جب فهم الصورة الإبداعية من ظاهر القول . يقول الشاعر الأمريكي إدجار ألن بو : " يوجد في كل التعليقات المكتوبة عن شكسبير خطأ جذري لم يفطن إليه أحد . إنه يتمثل في محاولة شرح شخصياته لا على أساس أنها من صوغ العقل الإنساني ، وإنما على أساس أنها موجودات فعلية على وجه الأرض "
لا يستغرق فهم طبيعة فعل الحاكم الفرد المتسلط الكثير من التفكير مع اختزال الشاعر لأبعاد الشخصية ، حيث لا نكاد نرى ملمحاً واحداً من ملامح بعده الجسمي أو الاجتماعي أو النفسي، وإذا كان رسم الشخصية النمطية رسماً تجريدياً وفق ما جرى عليه مخططات الاتجاه الحداثي في إبداعاته التفكيكية ، وهنا يتبين لنا دور المؤلف الشاعر في تمليك شخصياته خبراته هو نفسه ، ومعارفه ، بحقنها في دماء تلك الشخصيات ، بوصفها من خلقه وصلاح عبد الصبور هنا ، إذ يتستر خلف (الراوي) ويجعله خليفته على كون خليقته إذ يقعده على عرش المستوى السردي الأول ، فإنه يملكه أمر كشف تاريخ حاضر شخصياته الرمزية (الراكب) و(عامل التذاكر) بوصفهما شخصيتين رمزيتين ، وكشف مبكر لفعلها المستقبلي ، فيما هو أقرب إلى مخطط أو دراسة جدوى تشخيصية لفعلها القادم قبل أن يقوم أحدها بإعادة إنتاجه امامنا . فالراكب وعامل التذاكر كلاهما لا يمتلك أي منهما تاريخاً ، سابقاً ، لذلك رأينا " "أنا " : الراوي " لما رغبت في التقاء الآخرين سعت إلى الالتجاء تحت رعاية الـ "هو" (المؤلف) أي تحت رعاية نظام رموز ممتلئ ، حيث الوجود ، لا يتداخل والعلامة وبالمقابل فإن ظلاً من الماضي يتخلل حُبسة الناقد إزاء الـ (أنا) "
هكذا التقت (أنا) : (الراكب) السارد الثالث – تشخيصاً تشكيلياً سردياً – بـ(هو) : (الراوي / السارد الأول) وكذلك فعلت (الأنا) عامل التذاكر المتوالدة أو المتشظية في أنوات متعددة ومتباينة – تشخيصاً سردياً تشكيلياً – وبذلك أصبحت للراكب طبيعته الخانعة تبعاً لجموده في درجته على السلم الاجتماعي ، بينما تملك شخصية (عامل التذاكر) صوراً متعددة للحاكم الفرد المتسلط المستعبد لتلك (الأنا) الخانعة الرابضة في موقعها الطبقي الساكن .
يجرنا هذا التأويل إلى القول مع رولان بارت أن : " الناقد هو من سعى إلى الكتابة ، والذي يملي انتظار عمل أدبي إضافي ، يصاغ خلال البحث عن ذاته . وتكمن مهمته في إكمال مشروع الكتابة ، ومتجنباً إيّاه في الآن ذاته . الناقد كاتب إنما حتى إشعار آخر "
ولأن " الناقد كما الكاتب ، يتمنى من القراء أن يثقوا ويوقنوا أكثر بقراره الذي اتخذه بالكتابة ، ولا يسعه أن يوقّع هذا التمني ، عكس الكاتب ، لذا يبقى محكوماً بالخطأ – وبالحقيقة "
لذا أثنّي على ما سبق لي قوله حول تأثر شخصيات صلاح عبد الصبور بالظواهرية الهيجيلية، حيث " تبدو الظواهرية الهيجيلية في محاولات شخصيات صلاح عبد الصبور لصنع هويتها ، حيث يسطع فكرها سطوعاً جدلياً على الواقع ، ومن ثم يرتد إلى الشخصية كما هو ، لأنه لا يجد في الواقع إلاّ صوراً ذهنية . وهو في رحلة سطوعه على ذلك الواقع لا يطور فيع فعلاً ولكنه ينمي الفكر فحسب ، ويطور العقل . من ثم فإن تحقيق الهوية لا يتمثل عندها إلاّ تمثلاً ذهنياً ، ومن ثم يكون التغيير الذي يمكن حدوثه تغيراً فكرياً فحسب ، وبدا تحقيق محاولاتها للهوية الفكرية المتمثلة في ذهن الكاتب "
هكذا كان (الحلاج) في محاولاته التفاعل المادي للثائر مع العامة ، فالوعي الذي ينقله إلى العامة وعي ذهني . وهكذا كان (الملك) حتى موته غير قادر على المستوى الواقعي على التفاعل المادي للمغازل ؛ فالشاعر يلقنه الغزليات تلقيناً ؛ كما يلقن جواريه :
" الشاعر : معذرة يا مولاي
لكني لقنت الأخرى كلمات مبتكرة
قد ترضي رغبتك الملكية "
"الشاعر : (ملقناً الملك في صوت خفيض)
يتنزل صوتك مثل رنين الجرس الفضي المتفرد ،
يتقطر من برج متشح بمروج الغيم الزرقاء "
" ليس للملك من فعل الغزل إلاّ ظله ، فهو ليس مغازلاً على مستوى قدراته الذاتية الواقعية ، إنما يكرر صورة المغازل التي لم تكن سوى صورة متخيلة في ذهن شخصية الشاعر "
وكذلك الأمر مع جواري الملك :
" الشاعر : لا .. لا .. قد ضاع المشهد . نسيت هذه المرأة أجمل ما فيه
سامحني يا مولاي
(للمرأة) مازال هناك حديث عن قيثارة حنجرتك
والأوتار تناشد مولانا أن يلمسها بأصابعه النورانية
مازال هناك حديث عن إغماضة عينيك
وأنت تغنين لمولانا عندئذٍ
إنك تحترقين شوقاً أن يرقد مولانا
في دفء الأمواج العسلية
وأخيراً كان جلالته سيقول :
خطواتك كالموسيقى إذ تتوافق في ذهن الفنان
عندئذ ستقولين :
بعثر هذي الأنغام على سلم رغبتك الملكية
وبصوت يتقطع آهات في حلقك
الملك : آه .. ما اتعس حظي
راقت لي الألفاظ كثيراً هذه المرة
لكن نسيتها . "
" الملك لا يؤدي بأحاسيسه هو ، ولا المرأة الثانية تفعل ذلك "
ليس للملك ولا لجواريه من الغزلية غير اللفظ ، فالـ(أنا) الشاعرة تمنحه صورة بالخطاب الغزلي ومضمونه دون أحاسيسها ، ولأنه ظل مغازل ، لذلك غابت عن اللفظ الأحاسيس ؛ ومن ثم غابت المصداقية وافتقدت الخصوصية .
والأمر نفسه عند الأميرة ووصيفاتها ؛ إذ ليس لها ، ولا لوصيفاتها غير ظل الفعل ، باجترار ذكريات فعل مضى وانقضى ، بإعادة إنتاجه ، ليخرج تشخيصاً لظل حبيبها الذي هجرها ، وظل أبيها المغدور من ذلك الحبيب الغادر (السمندل) حتى الشاعر الذي جاء مخلصاً (القرندل) هو أيضاً ثائر ظليّ لأنه أتى من حيث المجهول ، ومضى في غياهب المجهول ، كما لو كانت الأرض قد انشقت عنه فجأة أو هبط من السماوات العلى فبدا كمخلص وهمي ، أو غيبي .
لذلك يمكن القول إن صلاح عبد الصبور ، قد صنع شخصياته المسرحية ظلالاً لواقع سحري، واقع لا يشبه الواقع الحياتي . ذلك أن "الشعر عندما ينأى بعيداً عن إيقاع لغة الحياة ومصطلحاتها الجارية ، يفقد حيويته ، لذا فهو يميل إلى تقطير لعنته الخاصة من لغة الكلام العام المعتاد "
يقول إليوت : " إن كاتب الدراما الشعرية ، ليس مجرد إنسان ماهر ، في فنين اثنين ، وحاذق في أن ينسجها معاًَ . وهو ليس الكاتب الذي يستطيع أن يزخرف مسرحيته باللغة الشعرية والأوزان وإنما عمله يختلف عن عمل (الكاب المسرحي وعمل الشاعر) لأن نموذجه أكثر تعقيداً ، وأكثر أبعاداً .. بكل قواعد الدراما البسيطة الصريحة ، ولكنها تغزلها غزلاً عضوياً في تصميم خاص ، أكثر ثراء . "

كان الشعر ومازال مرتبطاً بمواقف رومنسية ، كما كان المسرح ومازال مرتبطاً بمواقف رومنسية ، ولئن جسد المسرح الشعري مواقف الحياة اليومية وفق تقنيات الواقعية أو وفق تقنيات التعبيرية والملحمية ؛ فقد جسد مسرح صلاح عبد الصبور الشعري شخصيات عبثية في مواقف عبثية وفق تقنيات مسرح العبث ، فكان ذلك فتحاً في مجال المسرح الشعري. فالتداعيات وعدم الترابط الفكري واللغوي والمقاربات أو المجاورات المعرفية المتواثبة وتجريد الشخصيات والمواقف والآلية والتكرار وسمات الحكي الناقص والتناقض فيما بين القول والفعل واستهداف الدهشة ، ماثلة في (مسافر ليل) ، وفي (الأميرة تنتظر) وفي (بعد أن يموت الملك) وهي حداثية تفكيكية ، تفكك النسق الاجتماعي والسياسي في واقع أنظمتنا السياسية ويفكك خطابها الديماجوجي وظاهرة تسلطها التاريخية على شعوبها ، كما يفكك خطاب استكانة الإنسان العربي وإذعانه المهين ، ويفكك دوره في صناعة حكامه المتسلطين على مدار تاريخه الطويل .

الهوامش :
التعبير المسرحي الشعري
بين التأمل الذاتي والانفتاح على المعنى
د.أبو الحسن سلاّم
 مهاد تأملي :
لعل من أهم خصائص الفكر في بنية الصورة الشعرية هو تقنع فكر الشاعر في خطابه الشعري بين طيات تعبيره بما ينطوي على نوع من البوح الذاتي المتأمل الذي ينفلت محمولاً على جناح وعي الشاعر أحياناً فيبدو مغلفاً بالمباشرة أو ينسرب من تحت جناح وعيه ليشف عن المسكوت عنه في سكتته الموضوعية في محراب الذاتية المتأملة – بما يشبه النقطة العمياء في مسار القصيد الشعري – وتلك مزية التفرد الشعري الذي يضيف إلى التجربة الشعرية مزية جديدة تشكل علامة فارقة بين شاعر وشاعر. غير أن تلك السكتة الموضوعية أمام الذاتية المتأملة التي تشف عن البوح الذاتي المتأمل وإن تناسبت مع شعر القصيدة فهي لا تتناسب على طول الخط مع الصياغة الدرامية بشعر المسرح ؛ إلاّ إذا ارتبط البوح التأملي الذاتي بشخصية مسرحية بعينها بما يتناسب مع أبعادها الاجتماعية والثقافية والنفسية وفي الحدود التي لا تستغرق من المتلقي للعرض المسرحي الشعري إلاّ زمن ترجمتها ترجمة معنوية فورية. والواقع يكشف عن استحالة ذلك في تلقي الصورة الشعرية حالة تبتلها التأملي الذاتي إذ أنها عندئذ تحتاج إلى زمنين أحدهما لفك شفرة الغلاف الذهني للصورة الشعرية في حوار الممثل (أولاً) تمهيداًَ للترجمة المعنوية لتلك الصورة من جملة تعبيرات الشخصية على لسان ممثلها (ثانياً) .. على اعتبار أن الأصل في عملية الإرسال والاستقبال في العرض المسرحي هو حالة الحضور الآني الذي يفترض ترجمة المتلقي الفورية لخطاب الشخصية المسرحية المحمول وجدانياً على لسان الممثل. وهو أمر يبدو متعذراً أمام الصورة الشعرية الدرامية المصطبغة بالتأملات الذاتية التي يشكل بوح الشخصية القناع الذي ينسرب من ورائه بوح الشاعر نفسه محمولاً على لسان فكر الشخصية . وهو أمر يلزم التلقي بكل مستوياته وطاقاته باستغراق زمنين وصولاً إلى معنى الخطاب الجزئي. أولهما: لفك شفرة الصورة المركبة من الصورة الذهنية إلى الصورة المعنوية ، وثانيهما: اكتشاف الدلالة طبقاً للمتوسطات القرائية (متوسطات التلقي) . وبذلك تفوّت عملية فك الشفرة الذهنية للصورة الشعرية الدرامية على المتلقي إمكان تحصيل حديث الممثل المتواصل الذي لا ينتظر الجمهور حتى يفك شفرة صورة شعرية صوتية انتهى من أدائها .
هذا البحث إذن معني بالوقوف عند إشكالية التعبير الشعري الدرامي عند تجسيده مسرحياً بحيث كان مفترضاً أن يكون تعبيراً درامياً شعرياً ، تبعاً لمقتضيات أسبقية الدراما على الشعر في النص المسرحي الشعري بحيث تصبح الدراما صاحبة العصمة على الشعر في الكتابة المسرحية الشعرية ، باعتبار الدراما تصويراً للفعل وليس تكريساً للصورة الشعرية على حساب الفعل – تبعاً للنظرية الأرسطية ولمتتابعاتها تحت مظلة المحاكاة أو مناقضاتها الإيجابية في حكي الدهشة التغريبية أو في حكي الدهشة العبثية السلبي.
على أن أسبقية الفعل في الدراما الشعرية على لغة الحوار الشعري لا يجب أن تطفيء وهج الطاقة الانفعالية لصالح الطاقة التأملية الفكرية ، وإنما توازن بينهما ، بما يتيح للفعل الدرامي المتجانس مع طبيعة الشخصية المسرحية فكراً وبيئة وثقافة متفردة أن يتحقق درامياً عبر سياق شاعري يتخذ من الشعر لغته ومن البواعث والعلاقات وعناصر التصوير الدرامي للحدث شاعريتها ليجسد هوية كل شخصية في النسيج الدرامي.

 البوح الذاتي المتأمل وإشكالية تلقي الصورة الذهنية :
تزخر مسرحيات صلاح عبد الصبور بوقفات البوح التي تقف عندها شخصياته وقفة اضطرارية لتنفث شحنة معاناة هنا وهناك مع تباين أسبابها . فإذا نظرنا في مسرحية (مأساة الحلاج) فلسوف نلحظ ذلك التباين ما بين بوح الشعور بالذنب ، وبوح التأسي وبوح المواساة، وبوح التأمل وبوح الإدانة وبوح الحض والتحريض ؛ ففي وقفة الحرفيين الدامعة حول الحلاج مصلوباً على شجرة في ميدان الكرخ ببغداد يتكشف البوح عن شعور بفداحة ما اقترفوه من ذنب في شهادة الزور التي قدموها ضده في مقابل دينار لكل منهم ، تلك الشهادة التي سلمته للجلاد :
"المجموعة : صفونا . صفاً .. صفاً
الأجهر صوتاً والأطول
وضعوه في الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتواني
وضعوه في الصف الثاني
أعطوا كلا منّا دينارا من ذهب قاني
برّاقاً لم تلمسه كفُ من قبل
قالوا : صيحوا .. زنديق كافر
صحنا زنديقُ .. كافر
قالوا : صيحوا فليقتل إنّا نحمل دمه في رقبتنا
فليقتلْ إنّا نحمل دمه في رقبتنا
قالوا : امضوا فمضينا
الأجهر صوتا والأطول
يمضي في الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتواني
يمضي في الصف الثاني "
لم يمض استرسال فقراء الحرفيين في بوحهم اعترافاً بالذنب مدفوعاً بتيار الشعور بفداحة الفعل ، وإنما انسرب من خلف جنحه المظلم بصيصاً من الوعي الفكري للتعبير الدرامي الذي تدثر ببردة التعبير الشعري. وهو أمر يحتم على الشاعر أن يبني التعبير على نحو يحرّف الصورة عمّا هو مألوف في النسق الحياتي وفق العادة والمألوف ليبدو الفعل الدرامي مشوهاً من حيث النسق النظمي البنائي ليحقق ضرورة براجماتية نفعية.

بوح الندم بين الضرورة الحياتية والضرورة الدرامية والجمالية:
في الحياة تختلف ضرورة النسق الوظيفي في صورة الفعل ورد الفعل عن ضرورته في التعبير أو التصوير والتشكيل الأدبي والفني. اصطفاف مجموعة من الناس اصطفافاً عفوياً تلقائياً ، أمام حدث ما أو حوله ، غير مقيد بنسق صناعي فيه إعمال عقلي أو تدبير منظم لذلك التجمع ، من هنا يبدو النسق من حيث مظهره عشوائياً ، بحيث يلبي الموضع الذي يقف فيه كل فرد من أفراد التجمع ، حاجته إلى الرؤية والسمع الحاضر لما هو حاصل مما اجتذبه إلى ذلك التجمع ، وهو أمر قد يستدعي تغييرات في مواضع الأفراد ، تبعاًَ لضرورة كل منهم إلى التعرف على كنه ما يجري. وهو أمر طبيعي ، لا يستهدف منه المتابع الحصول على معلومة حول ما يجري ، وليس الوصول إلى جمالية ما ، ولئن تحققت ؛ فذلك يكون بمحض الصدفة . وهذا غير ماثل في الصورة التي نسقها الشاعر هنا على النحو المألوف . أما اصطفاف مجموعة من الناس على نحو يلبي الضرورة الحياتية وفق نسق وظيفي مصنوع ، كاصطفاف الجند في طابور أو تدريب عسكري ، فيستلزم أن يقف الأقصر من الأفراد في الصف الأول ، ويقف الأطول فيهم في الصف الثاني ، يتبعه الأكثر طولاً في صف ثالث . وهكذا تتشكل منظومة الفصيلة أو الكتيبة نسقاً وظيفياً يمكّن الجميع من المواجهة بالنظر إلى الأمام وفق الوجهة أو المسيرة المحددة تحديداًَ مركزياً وحاسماً. وهذا غير ماثل في نسق الصورة الجماعية – المحكي عنها – في هذا المنظر الحزين فالنسق في اصطفاف فقراء الحرفيين -هنا – تفرضه الضرورة الفنية الدرامية الوظيفية في نسق جمالي مشوّه ، إذ وضع الأطول قامة والأجهر صوتاً في الصف الأول وهو أمر غير مألوف وفق الصورة الوظيفية التقليدية ؛ فجهارة الصوت وطول القامة هما أساس ترتيب نسق الصف في هذه الصورة ، وذلك لأن هدف المنظمين لتلك التظاهرة هو فضح الحلاج والتشهير به من ناحية وإعلان أصحابه من الحرفيين – من ناحية أخرى – وهم الذين وهبهم كلماته الحاضة لهم ليصلحوا أحوالهم المعيشية في اتجاه حثهم على عدم السكوت على حقوقهم المهضومة من قبل الأغنيء والحكام – لإدانته بتهمة الزندقة والكفر . فالأطول أكثر إيصالاً للصوت لمسافة أبعد ، خاصة مع جهوريّة الصوت. ومن الناحية الجمالية ؛ فإن في النسق تشويهاً مقصوداً لصالح الدلالة الدرامية ، فهذا التشويه قصد به خلق حالة من حالات الدهشة المتأملة للنسق المعكوس بما يغاير الصورة الاعتيادية ، والدهشة حالة من الحالات التي تستدعي التساؤل والتفكر اللحظي ، في محاولة اكتشاف سببية – بناء النسق على النحو الذي تعيد المجموعة تصويره بالحكي السردي. كذلك ما يستشفه المتأمل المؤول لدلالة لفظة (الأطول) حيث يجوز فهمها على أنه الأطول في فرض رأيه أو صوته على الآخرين وفهم لفظة (الأقصر) بضعيف القدرات ؛ إذ أنهم بحكم وضعهم في الصفوف الخلفية هم تابعون للأطول باعاً. وبذلك تكون الجمالية نابعة من لذة الشعور – المتأمل المؤول- بالتفوق لإدراكه كنه تشويه البنية الدرامية في الصورة الشعرية .

البوح التبريري ودرامية الاسترجاع:
من ألوان البوح في شعر الصورة الدرامية ذلك البوح الذي ينحو منحى التبرير لإبراء الذمة ونفضاً لتبعات الصمت وعدم المبالاة . وهو بوح استرجاعي ، إبراء للذمة ؛ وهو ماثل في تظاهرة جماعة الصوفية أمام مشهد الحلاج مصلوباً في الميدان ؛ ذلك أن الشعار عندهم أهم من صاحبه ، هو عندهم كما النحلة الملكة ؛ تموت فور إنجاز مهمتها :
"الفلاح : فلنسأل هذا الجمع
من أنتم ..؟
المجموعة: نحن القتلة
أحببناه فقتلناه "
الواعظ : لا نلقى في هذا اليوم سوى القتلة
ولعلكم أيضاً حين قتلتم هذا الشيخ المصلوب
المجموعة : ... قتلناه بالكلمات
الفلاح : زاد الأمر غرابه !
المجموعة : أحببنا كلماته
أكثر مما أحببناه
فتركناه يموت لكي تبقى الكلمات
التاجر : من أنتم ؟!
المجموعة : أصحاب طريق مثله
الواعظ : هل خفتم لما صاح الفقراء
فنكرتم أمره ؟
المجموعة : خفنا .. لا .. لا ..
لا يخشى الموت سوى الموتى
أنفذنا ما أوصانا به
الواعظ : أوصاكم به ..؟
المجموعة : كنّا نلقاه بظهر السوق عطاشا فيروينا ..
من ماء الكلمات
جوعى ، فيطاعمنا من أثمار الحكمة
وينادمنا بكئوس الشوق إلى العرس النوراني "
هنا نقف أمام غرابة الصورة وغرابة الفعل .. فالمحب لا يقتل حبيبه . غير أن للقتل في عرف المحبين أداة وحيدة هي عدم مبالاة المحب بحبيبه ، وحبهم له لأنه من صنع لهم شعاراً يستظلون بظله فلما انتهى من صنعه أحبوا الشعار وهاهم يرددونه ملقين تبعة قتله على ذلك الشعار فقوله كان قاتله :
" مقدم المجموعة : كان يقول :
إذا غسلت بالدماء هامتي وأغصني
فقد توضأت وضوء الأنبياء
كان يريد أن يموت ، كي يعود للسماء
كأنه طفل سماوي شريد
قد ضل عن أبيه في متاهة المساء
كان يقول :
كأن من يقتلني محقق مشيئتي
ومنفذ إرادة الرحمن
لأنه يصوغ من تراب رجل فان
أسطورة وحكمة وفكرة
كان يقول :
إن من يقتلني سيدخل الجنان
لأنه بسيفه أتم الدورة
لأنه أغاث بالدما إذ نخس الوريد
شجيرة جديبة زرعتها بلفظي العقيم
فدبّت الحياة فيها ، طالت الأغصان
مثمرة تكون في مجاعة الزمان
خضراء تعطي دون موعد ، بلا أوان
وحينما أسلمه السلطان للقضاة
وردّه القضاة للسلطان
ورده السلطان للسجان
ووشيت أعضاؤه بثمر الدماء
تم له ما شاء
هل نحرم العالم من شهيد ؟
هل نحرم العالم من شهيد ؟
الواعظ : أو لم يحزنكم فقده ..؟
المجموعة : أبكانا أنا فارقناه
وفرحنا حين ذكرنا أنا علّقناه في كلماته
ورفعناه بها فوق الشجرة "
لم تكن تلك التعبيرات التأملية سوى تمثل لتعابير الصوفية سكنت شاعرنا كما سكنت الحلاج نفسه.
تضمن هذا البوح الكثير من المفردات والمفاهيم الصوفية ، التي يغيب مغزاها عن المتلقي ربما على اختلاف مستوياته الثقافية وهو أمر يحول بين المعنى الجلي والمفهوم وبينه، وهو أمر لو شغل به فكر المتلقي المشاهد للعرض لبرهة قصيرة لضاع منه تحصيل معان حملها أداء حوار تال للمجموعة نفسها في إطار النسق الأدائي لبوحها في تظاهرة إبراء الذمة، وإعلاء الشعار على صاحبه . وهو إعلاء لا يتحقق إلاّ بمساعدته على نوال الشهادة . وهو أمر قريب من فكرة الخلاص في الديانات الأوزيرية ثم المسيحية بعد ذلك ، وفي فكرة الخلاص في الاستشهاد الحسيني عند الشيعة . فما أشبه هذه التظاهرة التطهيرية بتظاهرة الشيعة السنوية عبر مسيرة جلد الذات الجماعية ، التي تنقلها لنا الفضائيات في ظل الاحتلال والممارسات البهيمية المجهولة الانتساب والأسباب. وفي هذا الإعلاء إحياء للفكرة التي زرعها الحلاج بكلماته . والإحياء لا يتحقق إلا بري تلك الشجيرة (الشعار) بدمائه . فالخلاص في نهاية المطاف لا يتحقق بالكلمات وإنما بالدماء.. فلكي تحيا الفكرة وتتوهج ، لابد من التضحية بصاحبها . وبديلاً عن أن تكون الفكرة سبباً في حياة أفضل لمعتنقها تصبح سبباً في الموت.
البوح الإسقاطي (بوح القناع):
من البوح ما كان بوحاًَ إسقاطياً متمرداً ذا خلفية أيديولوجية ، وهو بوح مواجهة فكرية . ومثاله في مواجهة السجين الثاني للحلاج في الزنزانة ؛ وهو بوح يتقنع خلفه الشاعر ؛ إذ يحمل كلماته على لسان السجين الثاني ؛ هو بوح متعارضين أحدهما سلبي ، وتواكلي ، والآخر إيجابي :
" السجين الثاني : وبماذا تحيي الأرواح ؟!
الحلاج : بالكلمات
السجين الثاني : أتراك تقول ..
صلوا .. صوموا .. خلوا الدنيا واسعوا
في أمر الآخرة الموعودة
وأطيعوا الحكام وإن سلبوا أعينكم يتنزى منها الدم
رصوها ياقوتاً أحمر في التيجان
بشراكم ، إذ ترثون الملكوت
عفوا ، هذا لفظ من ألفاظ شبيهك "
مع أن الحلاج قد أدرك أن محاوره الناقض لخطابه يشبّهه (بابن الإنسان) الأمر الذي استدعى شكره له ، فمال قليلاً نحو النقد الذاتي ، إلاّ أن إدراك التلقي لذلك المعنى بعيد إلاّ على قلة من المثقفين :
"الحلاج : شكراً ، تعطيني أعلى من قدري
لكن في قولك بعض الحق
فأنا أحياناً أصرخ فيهم : خلوا الدنيا الفاسدة المهترئة
ودعوا أحلامكم تنسج دنيا أخرى "
ومع ذلك فإن بوح نقده الذاتي – هذا – يواجه ببوح ناقض له ، مفكك لمضمونه السلبي :
" السجين الثاني : دنيا أخرى من صنع الأحلام ؟
الحلاج : الحلم جنين الواقع "
ولأن البوح في الحوارية الوجاهية بين الرأي والرأي الآخر هو بوح إدراك متبادل في حالة من التعارض المحمول أحدهما على تيار وعي متبن لتجربة عملية في مواجهة وعي استلابي متبن لفكرة نظرية أو مجرد شعار .
ومثاله من (الحلاج) أيضاً المواجهة التي تمت بين القاضي أبي عمر والحلاج في مشهد المحاكمة :
"أبو عمر : يا حلاج .. أتدري لم جئت هنا ؟
الحلاج : ليتم الله مشيئته يا سيد
أبو عمر : هذا حق ..
والله تبارك وتعالى
قد ثبت في كف خليفتنا الصالح
أبقاه الله
ميزان العدل وسيفه
الحلاج : لا يجتمعان بكف واحدة يا سيد
أبو عمر : هذا قول من فتّان القول
لا يدركه أمثالك من أهل الفتنة
ابن سليمان : حلو .. حلو .. "
بوح النوايا في دراميات التنفيس والتنفيث :
من البوح ما كان إعلاناً عن النوايا .. فهنا يتطور البوح ليصبح بوحاً للنوايا . وهو لون من ألوان التنفيث عن ضغينة. وهو بوح تهديد ووعيد ؛ عندما يكون البوح كله إسقاطي ؛ فمنه التنفيث، وهو بوح مرضي ومن التنفيس تفريجاً عن كرب أو معاناة *. ومن بوح النوايا ما ينفثه القاضي أبو عمر حيث يصرح بما ينتويه من شر ضد الحلاج بما يخرج عن حيدة القضاء :
"الحلاج : لم يفتنّي قولك يا سيد
أبو عمر : سيروعك قولي فيما بعد
فاسمع وارتع
مولانا لا يدفع عبداً ممن وُلِّى
فيهم للسيّاف
إلاّ إن أحصى ما فرّط من أمره
في ميزان الإنصاف
مولانا يدري من زمن . أنك تبغي
في الأرض فسادا
تلقي بذر الفتنة
في أفئدة العامة
وعقول الدهماء
تتستر خلف الذقن الشهباء
أو أثواب المجذوبين الفقراء
والأقوال الغامضة المشتبهات القصد
إذ تسبكها وتقفيها كهذاء الشعراء
قل .. ماذا تبغي بهذائك؟
هل تبغي أن يضع المسلم ..
في عنق المسلم سيف الحقد ؟
الحلاج : لا .. يا سيد
بل أبغي لو مد المسلم للمسلم
كف الرحمة والود
أبو عمر : ولهذا تعرض للحكام
من أهل الرأي وأصحاب النعمة "
بوح الفضفضة (الديماجوجي) ودرامية المسكوت عنه :
حيث يطلق القاضي افتراضات مطلقة لا دليل على صحتها . إذ يتحول البوح التنفيثي إلى بوح مسلح بالوعي الطبقي المتقنع بالنص القرآني ليخرس أي قول مخالف لقوله من أن المحاكمة هي لقضية سياسية ، قضية رأي واعتقاد ؛ بخاصة والقاضي أبو عمر الحمادي هو قاض من قضاة المالكية المعروفين بتقربهم من الخلفاء والأمراء :
"أبو عمر : ماذا تبغي ؟
أن يختل الناموس ويصبح أمرُ العامة
أعلى من أمر الخاصة
أن يحكم فينا الحمقى والجهلة
أن يُعطى الأمر لمن ليس بأهل له
ابن سليمان : فتقوم الساعة
أبو عمر : يا حلاج
الجرم الثابت لا ينفيه أن تتباله وتتمتم
ابن سريج : يا مولانا . هلاّ أعطيت الرجل المهلة يتكلم
فلقد حققت وأحكمت التهمة ، ثم أدنت
أبو عمر : ما حاجتنا أن نسمع في هذا المجلس
فيضاً من لغو القول المبهم ؟
فليعلُ حديث العدل إذا خرس الجُرم
قال تعالى :
" إنما جزاء الذين يفسدون في الأرض "
دراميات البوح المراوغ :
هو بوح يعتمد على التورية التشخيصية. وهي ليست تورية لفظية ، حيث للفظ معنيان أحدهما ظاهر ، والآخر باطن ، وهو المقصود ، بل تعتمد على موقف حقيقي مقصود ، يتخفى خلف موقف زائف وخادع وهو ماثل في مراوغات القاضي ابن سليمان (وهو حنفي المذهب)** :
"ابن سليمان : لا أخشى أن يلزم دمه عنقي
باسم الشرع
لكني لا أرضى أن يلزمني باسم السلطة
فأنا لم أشهده يبغي إفساداً في الأرض
أبو عمر : الشرطة قد شهدته
ابن سليمان : لكني لم أتحقق من قول الشرطة
أبو عمر : يا ابن سليمان
لسنا أهل التحقيق
بل أهل الفتوى . أعلم هذا الجيل
بأحكام الشرع ؟
فالشرطة والوالي والسلطان يسوسون
.. أمور الدولة
ويميزون الجاني .. ويقيسون الجرم
بإمعان وتثبت
فإذا صح الجرم لديهم وقفوا
الجاني بين يدينا
لنرى فيه الرأي الشرعي الصائب
ابن سليمان : يا مولانا
رأي من رأيك ..
لكنك قد وضحته
ببيان مثلي لا يدرك حسنة
فلتسمح لي أن أعرض رأيي
بعباراتي الجرداء من الفطنة
إني قد أسأل نفسي الآن
من نحن .. وما علة هذا الجمع ؟
نحن رجال العلم . وأهل الشرع
والوالي يستفتينا في أمر
وعلينا إتقان الفتوى
أنا لا يعنيني ما اسم المتهم ..
الماثل بين يدينا
والحلاج لدينا حالُ . لا شخص ماثل
وكأن الوالي يسألنا
ما حكم الشرع العادل
في من يبغي في الأرض فساداً . يبذر
فيها بذر الفتنة
وهنا نتملى في الأحكام . وننثرها
نتخير منها
ونقول :
للوالي . لا للحلاج
هذا حكم الشرع
في من يبغي في الأرض فساداً
أن تقطع أرجله .. أيديه .. ويصلب
في جذع الشجرة
ويفض المجلس
هل فتوانا ملزمة للوالي ؟
لا .. فله أن ينفذها
أو أن يسترجع أمره
وهنا لا نحمل وزر دم مسفوك
في ظلم أو عدل
ابن سريج : لا ، لا ، يابن سليمان "
لا يفلح التهرب من المسؤولية عن طريق المراوغة واللف والدوران على الحقائق ، وجود وعي نقدي مسلح بالشجاعة والاستقامة والعلم والفهم التام بأبعاد موضوع اختلفت حوله الآراء ضروري خاصة إذا كان موضوعاً يتعلق بالأرواح والأنفس ، من هنا تتطور المواجهة إلى اصطدام ، بين ممثلي المذاهب الثلاثة ، بين حزب الموالاة وممثل المعارضة. مع خطأ ذلك الأمر وخطورته في مجال القضاء
"ابن سريج : ما تنسجه من محبوك القول
أحبولة شيطان
إن الكلمات إذا رفعت سيفاً
فهي السيف
والقاضي لا يفتي . بل ينصب
ميزان العدل
لا يحكم في أشباح . بل في أرواح
أغلاها الله
إلاّ أن تزهق في حق . أو في إنصاف
الوالي والقاضي رمزان جليلان
للقدرة والحق
لا تدنو من مرماها أفراس القدرة
لا تبلغ غايتها
إلاّ إن أمسك فرسان الحق
بزمام أعنتها
فإذا شئتم أن ينقلب الحال
أن تلقوا فرسان الحق
صرعى تحت حوافر فرس القدرة
فأنا استعفي من مجلسكم
أبو عمر : يا ابن سريج هذا مجلس حكم مخصوص
وله تقدير مخصوص
ينظر في أمر مخصوص
وكما قال القائل
ابن سريج : (مقاطعا) مخصوص .. مخصوص .. مخصوص
هل خصّوا هذا المجلس بالظلم "
لأن ابن سريج قاضي الشافعية يعلم أن القوانين لا تفصّل خصيصاً لشخص بعينه عند محاكمته في تهمة نسبت إليه ، لذلك انتفض انتفاضة حادة في وجه التدليس في أمور قياس العدالة وإجراءاتها التي لا تخالف كل شرع وتنافي كل منطق *** لذلك انفجر ابن سريج في وجه القاضي المالكي ؛ ولم تثنه تلميحات أبي عمر – هذا – في محاولة توريطه بدفعه دفعاً إلى اتهام السلطان بالظلم مما دعاه إلى إعطائه درساً في مفهوم العدل :
" قل لي في لفظ واضح
هل نحن قضاة باسم الله
أم باسم السلطان ؟
أبو عمر : بل قل أنت
أوتنكر أن السلطان خليفة رب الأكوان
على الأكوان ؟
ابن سريج : هذا السلطان العادل ..
أبو عمر : أو تبغي أن تدفع عن مولانا
صفة العدل ؟
ابن سريج : بل أرجو أن أثبتها له
ليس العدل تراثاً يتلقاه الأحياء ..
عن الموتى
أو شارة حكم تلحق باسم السلطان
إذا ولي الأمر
كعمامته أو سيفه
مات الملك العادل
عاش الملك العادل
العدل مواقف
العدل سؤال أبدي يطرح نفسه كل هنيهة
فإذا ألهمت الرد تشكل في كلمات
أخرى
وتولد عنه سؤال آخر يبغي ردا
العدل حوار لا يتوقف
بين السلطان وسلطانه
أبو عمر : العدل .. العدل
ماذا تبغي حتى يجري العدل
ابن سريج : أن نسمع صوت المتهم الماثل
بين يدينا
ونسائل أنفسنا وضمائرنا
أبو عمر : هه ..
هو لا يبغي أن يتكلم "
البوح الحلولي الصوفي بين المقولة والدفاع عنها :
للصوفيه الحلولية مقولتها أو خطابها الذي تمثل في شعر الحلاج (حسين بن منصور) نفسه:
"أنا أنت وأنت أنا نحن روحان حللنا بدنا "

"فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا "
كما تمثل في خطبة الحلاج الدرامية الاحتفالية في ساحة بغداد التي دعا فيها الناس – خاصة الفقراء - إليه صائحاً ؛ حاضاً على التمرد والثورة :
"الحلاج : إلي إلي يا غرباء .. يا فقراء .. يا مرضى
كسيري القلب والأعضاء ، قد أنزلت مائدتي
إلي إلي
لنطعم كسرة من خبز مولانا وسيدنا
إلي إلي أهديكم إلى ربي
وما يرضى به ربي "
فما أن يتجمع الناس حوله حتى يكشف عن جوهر مقولته الحلولية ، غير منتصح بنصح رفيقه الشبلي ، وغير ملتفت إلى الحديث : "خاطبوا الناس على قدر عقولهم " بل يمض في كشف سريرة نفسه ، وإسقاط ما في ضميره :
" أراد الله أن تجلى محاسنه ، وتستعلن أنواره
فأبدع من أثير القدرة العليا مثالاً ، صاغه طيناً
وألقى بين جنبيه ببعض الفيض من ذاته
وجلاّه . وزيّنه ، فكان صنيعه الإنسان
فنحن له كمرآة ، يطالع فوق صفحتها
جمال الذات مجلّوا ، ويشهد حسنه فينا
فإن تصفُ قلوب الناس ، تأنس نظرة الرحمن
إلى مرآتنا ، ويديم نظرته ، فتحيينا
وإن تكدر قلوب الناس يصرف وجهه عنّا
ويهجرنا ، ويجفونا ..
وماذا يفعل الإنسان إن جافاه مولاه ؟
يضيق الكون في عينيه ، يفقد ألفة الأشياء
تصير الشمس في عينيه أذرعة من النيران
يلقى ثقلها المشّاء
على وجه السما والأرض . ألواناً من اللهب
ويضحي البدر دائرة مهمشة رمادية
من القصدير ميتة وملقاة على بيداء
فقد جفت عيون الناس ، أضحت نقطة سوداء
وتذوي أذرع الأشجار تلقي حملها للأرض
وتدفئه كمجهضة تكفن عارها في الطين "
إن بوح الحلاج حتى الآن لم يزد عن كونه بوحاً ذاتياً ، مجرداً يحوّم حول ما أودع الله من ضيائه في الإنسان. حتى ما اتصل بأحوال المجتمع ومعاناة الناس ، لم يجر مجرى التشخيص والتحديد بل ظل يدور في إطار التجريد لذلك كانت خطبة بوحه الحلولية تلك خير مثال على بوح التوق إلى الاستشهاد ؛ في لغة استعارية فوق طاقة فهم العامة الذين استهدف الحلاج مخاطبتهم .
" ويمشي القحط في الأسواق ، يجبي جزية الأنفاس
من الأطفال والمرضى
حقيبته بلا قاع ، فلا تملأ إذ تعطي
ورغبته بلا ري ، فلا تسكت أن تسأل
وخلف القحط يمشي تحت ظل البيرق المرسل
جنود القحط ، جيش الشر والنقمة
خلائقهم مشوهة ، كأن الذيل فوق الرأس
يقود خطاهمو إبليس ، وهو وزير ملك القحط
وليس القتل والتدجيل والسرق
وليس خيانة الأصحاب والملق
وليس البطش والعدوان والخرق
سوى بعض رعايا القحط ، جند وزيره إبليس "

بهذا الوعي الغيبي يطيش سهم الحلاج بعيداً عن قناعة تحرك العامة ، فهو يلقي تبعة الانحراف والفساد الاجتماعي على إبليس الذي يستغل فقر الفقراء فيحضهم على الجرائم. وهو بذلك لم يزد عن كونه خطاب وعظ ديني ، سأم العامة من سماعه من على المنابر في المساجد المنتشرة في كل موقع .
وربما وضح ذلك بتأمل الدور السلبي لتلقي العامة لخطاب بوحه التجريدي إذ لم يتعامل مع الخطاب سوى العسس ورجال الشرطة :
" تعالى الله ، قد يأنف أن ينظر في مرآتنا ذاته
فيصرف وجهه عنّا
فكيف إذن نصفي قلبنا المعتم ؟
ليستقبل وجه الله ، يستجلي جمالاته
نصلي .. نقرأ القرآن
نقصد بيته ، ونصوم في رمضان
نعم ، لكنّ هذي أول الخطوات نحو الله
خطى تصنعها الأبدان
وربي قصده للقلب ولا يرضى بغير الحب
تأمل ، إن عشقت ألست تبغي أن تكون شبيه محبوبك
فهذا حبنا لله
أليس الله نور الكون
فكن نورا كمثل الله
ليستجلي على مرآتنا ذاته "
لم يتحرك الناس بسبب خطاب الحلاج التحريضي المغلف بروح الرومانتيكية ، فالشرط الذاتي لم يزد عن كونه وعياً ذاتياً سلبياً ، والشرط الموضوعي غائب تماماً عن الوسط الاجتماعي المتلقي لخطاب الحض ، وإنما كانت حركتهم لاستنقاذ الحلاج من أيدي الشرطة ، يسبب كراهية الناس للشرطة.

والمحلل لخطاب الحلاج – هنا – يجده يصف فعل الله فينا : ( " أراد الله – فأبدع – صاغه – وألقى – وجلاه – وزينه – يطالع – ويشهد – تأنس نظرة الرحمن – يديم نظرته " ) وكل هذه الأفعال الإلهية من أجل أمر وحيد هو أن يصبح الإنسان مرآة لذات الله ليشهد حسنه فينا . وذلك شريطة أن تصفو قلوبنا . والمقابل هو استمرار حياتنا فإذا لم تصف قلوبنا ففعل الله يتغير : ( " يصرف وجهه عنا – يهجرنا – يجفونا " ) عندها : (يضيق الكون في عين الإنسان – يفقد الألفة – يفقد القدرة على الرؤية الحقيقية – يستشري الفقر بين الناس – يتفشى المرض – تنتشر الجرائم) وخلاصة القول : إن الحض على زوال البلاء وصلاح أحوال الناس وإقامة العدل قرين بحسن علاقة الناس بالله .
لكن ما الذي أثار الشرطة من ذلك القول ، خاصة وأن الخطاب لم يحرك حماسة واحد ممن تحلقوا حول صاحبه ، هل لأنه نعتهم بأنهم جند إبليس وزير الفقر ، وأنهم شريرون شائهة خلائقهم وأنهم أداة البطش . لذلك استدرجوه ؛ وهو الذي أعد نفسه وهيأها لمواجهة (دون كيخوتية) :
"الشرطي : ولكن شيخنا الطيب ، هل ربي له عينان
لكي ينظر في المرآة ؟ "
وعبثاً يحصل الشرطي على إجابة من جنس سؤاله ؛ بل يواجه بتساؤل استنكاري فيه ازدراء:
"الحلاج : ولكن ولدي الطيب ، هل قفل على قلبك
حتى ينطق القرآن
أم على قلوب أقفالها "
وعبثاً يحصل العامة أيضاً على المطلوب منهم من جملة خطاب الحلاج . وهكذا يلقى الحلاج بمقولته الحلولية ، دون أن يدعمها ، حتى عندما تتناوشه الأسئلة الاستدراجية لا يجيب بل يتهم السائل المغرض بانغلاق الفهم ، وكأن عملية التواصل أو الاتصال مرهونة بطرف التلقي ، دون أن يلتزم المرسل بتهيئة رسالته بما يتناسب ومستويات الوسط أو التلقي ؛ إلاّ إذا كان هدف الإرسال تحقيق المجرد غير المنظور إلاّ من صاحبه :

بوح التوق إلى الشهادة :
" (ضجة وتلويح بالأيدي توشك أن تصبح مقتلة )
الحلاج : لا ، يا أصحابي
لا تلقوا بالاً لي
استودعكم كلماتي
عودوا .. عودوا ..
ودعوني حتى تنفذ في بدني
لتؤدبني
ألفاظ عتاب المحبوب النارية "
"الشرطي : يا قوم
الشيخ أقر بجرمه
فدعوه يمضي ليؤدب
يا شيخ ..
هل أقررت بجرمك ؟
الحلاج : هذا حق يا ولدي ..
فلقد أجرمت بحقه
إذ أفشيت السر
الشرطي : أسمعتم !
الحلاج : عاقبني يا محبوبي أني بحت وخنت العهد
لا تغفر لي ، فلقد ضاق القلب عن الوجد
لكن عاقبني كعقاب الخصم خصيمه
لا كعقاب المحبوب حبيبه
لا تهجرني ، لا تصرف عني وجهك
لا تقتل روحي بدلالك
اجعل بدني الناحل أو جلدي المتغضن
أدوات عقابك "
إن موقف الحلاج هنا مناظر لموقف سقراط ، الذي التزم بكلمته باحترام القانون حتى ولو كان الثمن هو فقدانه لحياته ، وقد فعل ، ورفض محاولات تلاميذه وحوارييه المدفوعين بحض غير مباشر من الحكام . كذلك التزم الحلاج بكلمته التي تسلم لله الأمر كله ، وتدعو الناس إلى تسليم الأمر كله لله ، حتى تنصلح أحوال البشر ، حتى وهو يساق إلى حتفه :
" أبو عمر : هه ..
هو لا يبغي أن يتكلم
وعلى كل ، مازالت جلستنا ممدودة
فليسمعنا شيئاً من لغوه
يا هذا الشيخ المنفوش اللحية
بم تدفع عن نفسك ..؟
الحلاج : لستم بقضاتي ،
ولذا لن أدفع عن نفسي "
إن دفع الحلاج هنا ليس دفعاً لشخص القاضي أو هيئة هذه المحكمة على وجه الخصوص ، بل هو دفع لكل هيئة قضائية ، لأنه لا يؤمن إلاّ بقضاء الله ، لذلك تحايل قاضي الشافعية ابن سريج حتى يحثه على التعامل مع الهيئة القضائية دفاعاً عن نفسه ؛ ومن الغريب أن الحلاج يستدرج بحسن نية من ابن سريج :
"ابن سريج : يا حلاج ..
لا تدفع عن نفسك
بل حدثنا عما فيها
إن كان هو الحق ، عرفناه معك
وإذا كان الباطل ..
نبهناك إليه
وأخذناك بجرمه ..
الحلاج : أوعدتم إن كان الحق ..
تمضوا فيه معي ؟ "
مثل هذه النية الحسنة ، أو سذاجة التوكل والافتراض العاطفي لحسن نوايا الآخرين تقابل بواقع صادم ، واقع وعي طبقي :
"أبو عمر : نمضي فيه معك ..؟
أما إنك رجل ساذج
أو إنك أذكى مما تتصور
ولهذا أفسدت صعاليك العامة "
ومع وضوح موقف القاضي الساخر التهكمي من طرح الحلاج ، فإن الحلاج ينصاع للقاضي ويصدقه وينبري في بوح طويل استرسالاً خلف تيار الشعور :
" أبو عمر : قد نصبح من أتباعك ( ساخراً )
من أنت ، وما خطبك .. ؟ "
الحلاج : أنا رجل من غمار الموالي ، فقير الأرومة والمنبت
فلا حسبي ينتمي للسماء ، ولا رفعتني لها ثروتي
ولدت كآلاف من يولدون ، بآلاف أيام هذا الوجود
لأن فقيراً – بذات مساء – سعى نحو حضن فقيرة
وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية
نموت كآلاف من يكبرون ، حين يقاتون خبز الشموس
ويسقون ماء المطر
وتلقاهم صبية يافعين حزانى على الطرقات الحزينة
فتعجب كيف نموا واستطالوا وشبّت خطاهم ..
وهذي الحياة ضنينة "
ومن الغريب أن الحلاج في مواجهته للمحكمة لا يفعّل تيار الوعي ، وهو الأدعى للتفعيل واليقظة والحذر ، مثله مثل كل من أوقف أمام قضاته . غير أن الحلاج وقد صرّح بأن القضاة ليسوا قضاته ، وهو في الوقت ذاته ، ينبري في بوح إدانته لنفسه – قاصداً – لأنه يتمنى الشهادة ويسعى لها :
"الحلاج : تسكعت في طرقات الحياة ، دخلت سراديبها الموحشات
حجبت بكفي لهيب الظهيرة في الفلوات
وأشعلت عيني ، دليلي ، أنيسي في الظلمات
وذوّبت عقلي ، وزيت المصابيح ، شمس
النهار على صفحات الكتب
لهثت وراء العلوم سنين ، ككلب يشم روائح صيد
فيتبعها ، ثم يحتال حتى ينال سبيلاً إليها فيركض
ينقض
فلم يسعد العلم قلبي ، بل زادني حيرة واجفه
بكيت لها وارتجفت "
في هذا الجزء من بوح الإدانة يكشف الحلاج أمام قضاته أنه غير اتباعي ، لأنه وظف حواسه الخشنة (البصر) طلباً للبصيرة التجريبية ، تفعيلاً لتحصيله العقلي ، بعيداً عن التحصيل الاتباعي النقلي :
" وأحسست أني ضئيل كقطرة طل
كحبة رمل
ومنكسر تعس ، خائف مرتعد
فعلمي ما قادني قط للمعرفة "
غير أنه يراجع نفسه حول ما أفادت من العلوم الطبيعية والتاريخية قديماً وحديثاً ؛ فيجد في نفسه قصوراً نحو معرفة سر الوجود من حيث البداية والنهاية :
" وهبني عرفت تضاريس هذا الوجود ..
فكيف بعرفان سر الوجود ، ومقصدي
مبتدا أمره ، منتهاه "
ليس هذا هو بوح الحلاج محمولاً على أثير التاريخ موصولاً بنبرات شخصية مسرحية معاصرة مستلهمة من تاريخ (الحسين بن منصور الحلاج ) المتصوف العراقي من المرتبة الرابعة - وفق تصنيف الجنيد لمراتب المتصوفة - ، ولكنه بوح المثقف المعاصر المسكون بتاريخ ثقافة التمرد العربي ، الذي هو صلاح عبد الصبور نفسه والذي هو أحمد عبد المعطي حجازي ، ومحمد عفيفي مطر ، وأمل دنقل ، بل كل مثقف عربي حقيقي ، فما من مثقف حقيقي ، إلاّ وانغرزت جذوره في طين المعرفة التراثية المظنونة وامتدت فروعه عبر أثير المعارف اليقينية المتجددة ، وما من مثقف حقيقي ، إلاّ وتأرجح ما بين الشك واليقين ؛ وما من أحد إلاّ وطالته حيرة المثقف ، مثلما طالت الحلاج :
" الحلاج : سألت الشيوخ ، فقيل
تقرب إلى الله ، صل ليرفع عنك الضلال ..
صل لتسعد
وكنت نسيت الصلاة ، فصليت لله رب المنون
ورب الحياة ورب القدر
وكان هواء المخافة يصفر في أعظمي ويئز
كريح الفلا .. وأنا ساجد راكع أتعبد
فأدركت أني أعبد خوفي ، لا الله ..
كنت به مشركاً لا موحد
وكان إلهي خوفي
وصليت أطمع في جنته
ليختال في مقلتي خيال القصور ذوات القباب
واسمع وسوسة الحلي ، همس خرير الثياب
أني أبيع صلاتي إلى الله
فلو أتقنت صنعة الصلوات لزاد الثمن
وكنت به مشركاً ، لا موحد
وكان إلهي الطمع "
يجد خدم السلطة الحاكمة في أي مكان وزمان ، مثل هذا البوح الأمين والصادق مع النفس ، دليل اعتراف يؤخذ به صاحبه ، لذلك أخذ به من أخذ من المفكرين ومن المثقفين والمبدعين عبر تاريخنا المحكوم بالسلطة الفردية التي تزيّت أحياناً بأزياء التدين وبأزياء الديمقراطية واحترام الرأي الآخر، كما أخذ به الحلاج وعشرات المفكرين والمثقفين والمبدعين الشعراء على مر عصور الحكم الإسلامي العربي ؛ لمجرد أن وقع أحدهم في حيرة المثقف ؛ كما وقع الحلاج :
"الحلاج : وحير قلبي سؤال :
ترى قُدّر الشرك للكائنات
وإلاّ ، فكيف أصلي له وحده
وأخلى فؤادي مما عداه
لكي إنزع الخوف عن خاطري
لكي أطمئن .. "
ولكي يفض المثقف حيرته ؛ فهو يلقى بنفسه مختاراً في قارب فكري ما يسبح به مع راكبيه ضد تيار الثقافة التقليدية المألوفة ، هكذا فعل الحلاج ؛ إذ اتخذ الحلولية قارب نجاة في بحر الحيرة الثقافي :
" الحلاج : كما يلتقي الشوق شوق الصحارى العظام
بشوق السحاب السخي
كذلك كان لقائي بشيخي
أبي العاص عمرو بن أحمد ، قدس تربته ربه
يحب النوال
ويعطي ، فيبتل صخر الفؤاد
ويعطي ، فتندى العروق ويلمع فيها اليقين
ويعطي ، فيخضر غصني
ويعطي ، فيزهر نطقي وظني
ويخلع عني ثيابي ، ويلبسني خرقة العارفين
يقول هو الحب ، سر النجاة ، تعشّق تفز
وتفنى بذات حبيبك ، تصبح أنت المصلي ،
وأنت الصلاه
وأنت الديانة والرب والمسجد
تعشقت حتى عشقت ، تخيلت حتى رأيت
رأيت حبيبي ، وأتحفني بكمال الجمال ،
جمال الكمال
فأتحفته بكمال المحبة
وأفنيت نفسي فيه
أبو عمر : صمتاً : هذا كفر بيّن "
وكما لا يفلت الحلاج من الإدانة ، لم يفلت مفكر طليعي أو مبدع أو شاعر من إدانة ما ، لابد وأن تصمه بها السلطة الفردية بكل مستوياتها . ولئن وجد مفكر متهم من قبل نظام الحكم الفردي ؛ منصفاً ؛ يضع القول في سياقه ويفهمه في إطار سياقه النصي والفكري ، دون أن يأخذ صاحبه بظاهر القول ؛ فإن ذلك لا يحول دون تصفيته تصفية جسدية باسم الشرع ، أو باسم القانون ، أو حبسه به – على أقل تقدير - ؛ فالمبدع متهم بإبداعه ، بوصفه ضلالة :
" ابن سريج : بل هذا حال من أحوال الصوفية
لا يدخل في تقدير محاكمنا
أمر بين العبد وربه
لا يقضي فيه إلاّ الله
لنسأله عن تهمة تحريض العامة
فلهذا أوقفه السلطان هنا
هل أفسدت العامة يا حلاج ؟ "
لا يستطيع صاحب اعتقاد صادق ، أن يخلي بين إجاباته عما يطرحه عليه قاض ما ، حالة توقيفه أمام محكمة ما ومعتقداته لذلك ينطق الحلاج بما هو ضروري ، إعلاناً لمعتقده وإعلاء لفكره :
"الحلاج : لا يفسد أمر العامة إلاّ السلطان الفاسد
يستعبدهم ويجوعهم "
هذا اتهام للسلطان ، أي سلطان . وهنا يسرع القاضي بتضييق الخناق عليه للحصول على اعتراف محدد ، لذلك يصوغ سؤال اتهام محدد ، يستلزم إجابة محددة :
" ابن سليمان : يعني هل كنت تحض على عصيان الحكام ؟ "
لو كان العامة في مصر ، في ظل نظام الستينيات مستعبدين وجوعى ، لصودرت هذه المسرحية ، ولكن لحسن حظ المثقف العربي بشكل خاص والمسرحيين بخاصة ، أن ثورة يوليو 1952 لم تكن تضيق اقتصادياً واجتماعياًَ على الفئات الدنيا من الطبقات الشعبية ، ولن يشفع للشاعر صلاح عبد الصبور – عندئذٍ- أن يراوغ بلسان الحلاج في إجابته عن السؤال المصيدة الذي طرحه عليه (ابن سليمان) ؛ ليتمكن الحلاج من الدوران الإطاري حول السؤال؛ المصيدة :
" الحلاج : بل كنت أحض على طاعة رب الحكام
برأ الله الدنيا أحكاماً ونظاماً
فلماذا اضطربت ، واختل الإحكام ؟
خلق الإنسان على صورته في أحسن تقويم
فلماذا رُدّ إلى درك الأنعام ؟ "
لا يستطيع مفكر متمرد على منظومة الحكم الاستبدادي أن يفلت من قبضة زبانية الحكم وخدّامه الشرعيين من ناحية والقانونيين من ناحية أخرى مهما حاول المراوغة ، أو المناورة . والحلاج هنا وإن راغ فإن مراوغته ليست تراجعاً منه عن عزمه على نيل الشهادة على أيدي جلاديه :
" أبو عمر : ماذا يعني هذا الشيخ ؟
هل هذا أيضاً من أحوال الصوفية ؟
أم يستخفي خلف الألفاظ المشتبهة
كي يخفي وجه جريمته الشنعاء ؟ "
ليس غريباً أن يظهر القاضي ظهوراً غير حيادي في ظل الأنظمة الفردية الاستبدادية متشحة بأوشحة الشرع أو الشرعية (الدين أو القانون الوضعي) ، مع أن الدين والدين الإسلامي بخاصة ، لم ينص في القرآن على عقوبة دنيوية سوى في مواجهة إتهام ثابت لجريمة من الجرائم الخمس الآتية : (القتل – السرقة - الزنا – قذف المحصنات – الحرابة "قطع الطريق على الآمنين" ) ، إلاّ أن حكم قضاة المحكمة الإسلامية الشرعية في بغداد ، حكمت بقرار من قاضيين اثنين أحدهما مالكي والثاني حنفي بعد أن انسحب القاضي الثالث وهو شافعي معترضاً على سير المحاكمة في اتجاه إدانة الحلاج بكل سبيل . ومن خبيث فعل أذناب أي نظام استبدادي لهم وظائف شرعية تقوم على تطبيق الحدود الشرعية في قضائهم بين من حكموا في أمر من أمورهم وفق النص القرآني ، ما نجده عند ذلك القاضي الفاسد ، الذي وظف نفسه باسم الشرع قاضياً بما قضى ، واضعاً منطوق حكمه على ألسنة مجموعة من فقراء الحرف المتدنية فور انتهائه من استخلاص إدانة الحلاج من مجمل ما قال به الشبلي في شهادته :
" (يلتفت أبو عمر إلى جمع الفقراء)
أبو عمر : ما رأيكمو يا أهل الإسلام
فيمن يتحدث أن الله تجلىّ له
أم أن الله يحلّ بجسده ؟
المجموعة : كافر .. كافر
أبو عمر : بم تجزونه ؟
المجموعة : يقتل ، يقتل
أبو عمر : دمه في رقبتكم ..؟
المجموعة : دمه في رقبتنا
أبو عمر : والآن .. امضوا ، وامشوا في الأسواق
طوفوا بالساحات وبالخانات
وقفوا في منعطفات الطرقات
لتقولوا ما شهدت أعينكم
قد كان حديث الحلاج عن الفقر قناعاً ،
يخفي كفره
لكن "الشبلي" صاحبه قد كشّف سره
فغضبتم لله ، وانفذتم أمره
وحملتم دمه في الأعناق
وأمرتم أن يقتل
ويصلّب في جذع الشجرة
الدولة لم تحكم
بل نحن قضاة الدولة لم نحكم
أنتم ..
حُكمتم ، فحكمتم
فامضوا ، قولوا للعامة
العامة قد حاكمت الحلاج امضوا ..
امضوا .. امضوا "
هكذا ينفذ القاضي املاء رأس النظام الاستبدادي الذي نص عليه في رسالته للمحكمة في أثناء سير جلستها **** :
" أبو عمر : (وهو ينظر في الخطاب)
إن الدولة قد سامحت الحلاج
فيما نسب إليه ، وتثبت منه السلطان
من تحريض العامة والغوغاء على الإفساد
وعفت عنه عفواً كلياً لا رجعة فيه "
" لكن وزير القصر يضيف :
"هبنا أغفلنا حق السلطان ..
ما نصنع في حق الله
فلقد أنبئنا أن الحلاج
يروي أن الله يحل به ، أو ما شاء له الشيطان
من أوهام وضلالات
ولهذا أرجو لو يسأل في دعواه الزنديقية
فالوالي قد يعفو عمن يجرم في حقه
لكن لا يعفو عمن يجرم في حق الله "
ابن سليمان : هذا أيضاً حق
ابن سريج : بل هذا مكر خادع
فلقد أحكمتم حبل الموت
لكن خفتم أن تحيا ذكراه
فأردتم أن تمحوها
بل خفتم سخط العامة ممن أسمع أصواتهم
من هذا المجلس
فأردتم أن تعطوه لهم مسفوك الدم
مسفوك السمعة والاسم
يا حلاج ...
هل تؤمن بالله ؟
الحلاج : هو خالقنا وإليه نعود
ابن سريج : هذا يكفي كي يثبت إيمانه
أبو عمر : يا بن سريج
إني لا أبحث في إيمانه
بل في كيفية إيمانه
ابن سريج : كيفية إيمانه ..؟
هل تبغي أن تنبش في قلبه
هل هذا من حق الوالي
أم من حق الله ؟
أبو عمر : هذا من حق قضاة الشرع
ابن سريج : لا ، بل هذا من حق الله
فأنا لا أجرؤ أن أسأل رجلاً عن إيمانه
فإذا شئتم أن تمضوا في هذا الإثم ..
أبو عمر : سنمضي يا ابن سريج
ابن سريج : فأنا استعفي من مجلسكم *****
أبو عمر : هذا لك يابن سريج "

فكرة المخلص (المستبد العادل) :
لم تفارق فكرة المخلص (المستبد العادل) رأس أحد من مفكري الإسلام – لا في التاريخ القديم ولا في التاريخ المعاصر - .
" الحلاج : لا أملك إلاّ أن أتحدث
ولتنقل كلماتي الريح السواحه
ولأثبتها في الأوراق شهادة إنسان من أهل الرؤية
فلعل فؤاداً ظمآناً من أفئدة وجوه الأمة
يستعذب هذي الكلمات
فيخوض بها في الطرقات
يرعاها إن ولي الأمر
ويزاوج بين القدرة والفكرة
ويزاوج بين الحكمة والفعل "
هكذا كان جهد الحلاج جهد المصلح الديني – لا أكثر – وهكذا صوره صلاح عبد الصبور ، تفكيكاً لخطاب المصلح الديني الذي حفظ عن ظهر قلب (نظرية الكل في واحد – نظرية المستبد العادل) .



التعبير الدرامي الشعري ومستويات السرد والتشخيص
بين التسلط والإذعان التاريخي

لا يخلو بناء مسرحي من تقنية السرد سواء أكان سرداً حوارياً على ألسنة الشخصيات الدرامية أم على لسان مجموعة الكورس أو على لسان الراوية . أو كان سرداً تشكيلياً أو سينوجرافياً أو بلغة الجسد أو سرداً تمثيلياً . وهنا يتشكل السرد في مستويات متنوعة ما بين سارد أول وسارد ضمني وسارد ثالث
وفي مسرحية (مسافر ليل) يلجأ الشاعر في التقديمة الدرامية إلى (السارد الضمني) – من خارج الحدث – ليحلل رحلة الإنسان عبر التاريخ تحليلاً إطارياً مكثفاً وتجريدياً ، على متن قطار الزمن ؛ وبذلك الخروج على مبعدة من الحدث نفسه ، يحقق الهدف التنويري من خارج الحدث ، بوصفه مثقفاً طليعياً يعمل على خلق توعية طبقية لدى الغالبية التي ترمز إليها شخصية الراكب باعتبارها المحكومة بعامل التذاكر بوصفه رمزاً للحاكم فالشاعر يستعرض عبر مستويات ثلاثة المسيرة التاريخية للحاكم المتسلط بالحكي – التصويري- على لسان (السارد الضمني) : الراوي مرة وعلى لسان عامل التذاكر (السارد الثالث) - تشخيصاً - يعيد فيه فعل التسلط ومتداعياته أو يحكي بعضه منتحلاً صفة السارد الثاني في مرة أخرى وعلى لسان الراكب تشخيصاً – نفسياًَ- يعيد فيه فعل الإذعان مرة أو يحكي بعضه منتحلاً صفة السارد الضمني في مرة أخرى :
"الراوي : هاهو ذا يتململ سأمانا
إذ لا تستهويه اللعبة
فيجرب أن يلعب في ذاكرته
يستخرج منها تذكارات مطفأة ، ويحاول أن يجلوها
أسفا ، لا تلمع تذكاراته
يدرك عندئذ أن حياته
كانت لا لون لها
يسقط من عينيه أيامه
تتبدد دواماتٍ فوق حديد الأرضية
لا تتكسّر قطعاً وشظايا
إذ ليس هنالك شيء صلب
تراك .. تراك .. تراك
يتذكر مسبحته
يستخرج من جيب السروال الأيمن
تهوي من يده ، يتفقدها بأصابعه ،
فتروغ لترقد بين الكرسيين
يجهد أن ينقذها ، فتغوص .. تغوص .. تغوص ..
ويظل يفتش حتى تتناثر سبحته حبات
تتساقط فوق حديد الأرضية
تراك .. تراك .. تراك "
لأن السارد يمثل ما تراه الشخصية فحسب كما لو كان ينظر عبر عينيها أو كما لو كان "شاهداً غير منظور" يقف إلى جانبها السرد بوساطة المؤلف أو بوساطة الشخص الأول " ولأن السارد الضمني الراوي يقوم مقام الشاعر لذا يتكشف الدور التنويري تلميحاً ، لا ينفصل عن طبيعة التصوير الشعري ؛ على اعتبار أن الشعر "لمحٌ تكفي إشارته" – حسبما قال البحتري-، وحيث يستشف ما وراء الصورة من معانٍ أو دلالات. هنا – يمكننا أن نلمح بمنظور نظرية الانعكاس وعلى ضوء مصباح سيميولوجي خصوصية الشاعر نفسه .
من وراء غيم المعاني في عرض السارد الضمني (الراوي) فاللعب في الذاكرة ، لا يفيد من خوت حصّالة ذاكرته من تسجيل مادي لأفعال مجسدة لهويته . فعندما لا يكون للإنسان تاريخ مادي ملموس هو موضع تأثير إيجابي في واقع الآخرين ؛ قبل أن يكون مؤثراً في واقعه الذاتي ؛ فإنه يلوذ بمظاهر شكلية ، يتمسح بها . وهكذا يلوذ الراكب بمظهر تديّني .. بعد أن أدرك (أن حياته كانت لا لون لها) وهو يسترجع شريط ذكرياته عبر رحلة إذعانه التاريخية التي سيّرها الحكام المتسلطون باعتباره رمزاً لعامة الناس (المحكومين) على مر التاريخ ؛ ذلك أن الذاكرة هي القدرة على التمثل الانتقائي Selectively represent وفي واحدة أو أكثر من منظومات الذاكرة للمعلومات التي تميز بشكل فريد خبرة معينة ، الاحتفاظ بتلك المعلومات بطريقة منظمة في بنية الذاكرة الحالية وإعادة إنتاج بعض أو كل هذه المعلومات في زمن معين بالمستقبل وذلك تحت ظروف أو شروط محددة "
فعندما يكون التدين شكلياً وسطحياً (ظاهرياً) ؛ فإن ما وراء المظهر نفسه يروغ منه وينفلت . ولنلحظ لفظة (جيب سروال الأيمن) فمظهر تدينه في جيب سرواله ، وهو يخرجه عند الحاجة أو عند الفراغ في محاولة تبريره لخواء حياته من فعل مادي إيجابي له في حياته الإنسانية ، بالانتساب إلى مفردة من مفردات الاتباعية الدينية – باعتبار فكرة "اليمين" فكرة تدينية – وباعتبار " المسبحة " وسيلة ضبط إحصائي لطقس التسبيح والحمد – الذي ينسب فاعله إلى اليمين (الفكر الاتباعي) .
فاستخدام المسبحة أداة قياس وإحصاء عددي لأقوال الحمد وآلية ترديداتها ، وهنا يحل ظل التعبد محل العبادة مثلما تحل خصلة من شعر الحبيبة محل الحبيبة نفسها – وفق الفشتية – على أن خصوصية ما كامنة في آلية استدعاء الشخصية للحظة ، حيث يمد السارد الضمني الصورة المستعادة بخيوط الطقس التراثي ؛ لخلق لحظة لم تكن قائمة من قبل ، مع إنها الابن الشرعي لماضي شخصية الراكب – بتعبير صلاح عبد الصبور نفسه - إلى جانب كونها بمثابة الابن الشرعي للمستقبل .. فاستدعاء الراكب التجريبي لمذخور ذاكرته ، وليد حالة السأم التي انتابته – حسبما أشار السارد الأول - :
"هاهو ذا يتململ سأمانا
إذ تستهويه اللعبة
فيجرب أن يلعب في ذاكرته
يستخرج منها تذكارات مطفأة ، ويحاول أن يجلوها "

المسكوت عنه في اللحظة الدرامية المختزلة :
وعندما يتكشف خواء تلك الذاكرة وبهتان ما حوته يمده (السارد الضمني الراوي / الشاعر نفسه) بلحظة مختزلة ، إذ تمتد يد الراكب إلى الجيب الأمن لسرواله – الأيمن تحديداً – ليخرج منه شيئاً لا يخرج إلاّ من الجيب الأيمن – المسكوت عنه - وهنا يوظف التداعي التلقائي المدرب للاثنين : (السارد الضمني/ الراوي / الشاعر) و( السارد الثاني / الراكب) الذي يعاد تصوير فعله بالسرد التشكيلي عبر ذهن السارد الضمني وعبر ذهن المتلقي فور تلقيه للصورة على لسان (السارد الضمني) فيكفينا أن نلحظ ما وراء ذلك التداعي التلقائي المدرب حيث تمتد يمين الراكب إلى الجيب الأيمن في سرواله ليخرج لا إرادياً مسبحته . وما وراء فعله – المسكوت عنه- يشكل نواياه المستقبلية وهي الهجوع إلى الإذعان والتسليم : فالسأم إذاً سلمه للعب في ذاكرته ؛ وخواء ذاكرته من أي شيء إيجابي يعتز هو نفسه به ، يسلمه إلى مخزون طقسي تراثي هو ظل من فعل العبادة.
ولأن الصورة الفنية (الدرامية الشعرية) تتدعم بتداعيات صور أخرى سريعاً ما تتوالد عبر اللحظة المختزلة ؛ لإعادة إنتاج الفعل وصور توالده وتداعياته التي يحكم الشاعر الإمساك بزمامها حتى لا تسقط المغزى التنويري الذي حمّلها به ، بغية الإشارة إلى مظهرية فعله التديّني:
" تهوي من يده ، يتفقدها بأصابعه ،
فتروغ لترقد بين الكرسيين
يجهد أن ينقذها ، فتغوص ، تغوص ، تغوص
ويظل يفتش حتى تتناثر سبحته حبات
تتساقط فوق حديد الأرضية
تراك .. تراك .. تراك "
هكذا تحل آلية المقطع الصوتي لسقوط حبات المسبحة على حديد الأرضية بديلاً عن وحدة صوته المتكررة فيما لو كان قد تمكن من استعمال مسبحته في آلية تكرار جملة التكبير أو الحمد ، لتأكيد مظهرية تدينه ، أو شكليته ، لأنه ما لجأ إلى طقس التسبيح ، وإنما إلى مجرد التلهي بآلية تفض عزلته وتوتره ، وتشعره بالصحبة ، حيث أراد باتخاذ المسبحة رفيق ظل في رحلته . ولكن الشاعر – هنا – يحرمه من تلك النغمة ، مع إنها مجرد ظل رفقة .
وهنا تعمل التداعيات مع التفاصيل (منمنمات الصورة) على منح الصورة لوناً خاصاً بها يمنحها هويتها .. فالشغل على تفاصيل الصورة هو الذي يقودنا إلى سر الصنعة في الشعر والمسرح بتعبير صلاح عبد الصبور
يعتمد صلاح عبد الصبور هنا على حدث يقوم على ثلاثة محاور : (محور معرفي ومحور ثقافي اجتماعي ومحور تشكيلي) ولأن الموقف هنا تأسس على التجريد وإلقاء عبء تجميع مفردات أو جزئيات الصورة ، بهدف خلق حالة مشاركة إدراكية فحسب ، لذلك ألقى بعبء حمل خطاب الحكي على عاتق (السارد الضمني/ الراوي) نائباً عنه ومن ثم لم يصبح هنا مجال للمحور الوجداني.
يقول د.ماهر شفيق فريد في زجره لناقدي إبداع إليوت في تجريده لشخصياته المسرحية : "إن الفن إعادة خلق وليس عملية تسجيل والشخصية الحية في الفن ليست هي التي تتصرف وفق المنطق الحياتي ، وإنما هي التي تتصرف وفق المنطق الفني وحسب قوانين الحتمية الفنية "
يقول د. مصطفى سويف : " إن الشاعر لا يغير ذكرياته ؛ ولكنها تعود إليه متغيرة – وهو لا يقصد إلى وصف الوقائع من حوله بأوصاف جديدة ، لكنها هي التي تأتي حاملة هذه الأوصاف "
وإذا كانت شخصيات مسرحيات صلاح عبد الصبور الشعرية – فيما عدا (ليلى والمجنون) تبدو على مبعدة من أمور الحياة اليومية ومن الرسالة الاجتماعية الواضحة . مع ميل إلى أناقة الفكر والتعبير ، فذلك لكونه صاحب رؤيا خاصة للوجود ، رؤيا شعرية اختارت لنفسها قالباً درامياً . هو كما كان إليوت معنياً بقالب درامي شعري " تتحالف فيه الاهتمامات الإنسانية مع براعة الصنعة ، كي تنتج – في نهاية المطاف – أثراً كلياً لا يختلف ، من حيث الجوهر ، عن الأثر الكلي الذي تخلقه القصيدة أو القصة في نفس متلقيها "
فشخصية الراوي – بوصفه سارداً ضمنياً - تبني اهتمامات الشاعر الإنسانية بخلق حالة تحالف بين ما ينتجه ذهن الراكب من تهويمات ذاكرة البشرية عبر تاريخها الممتد من بذرة الفكر الفلسفي الأرسطي إلى آلة الحرب والدمار بداية من تلميذه الإسكندر حتى الواقع البشري المعاصر فمع أن الراوي وهو السارد الضمني التاريخي ، يحذر الراكب من استدعاء عظيم من العظماء عبر ذاكرته ، حتى لا يسيطر بعظمته من جديد على البسطاء ، بعد أن رآه وقد توقف عند أسماء محاربين طغاة ومحاربين وقادة عظماء وهو يقرأ أسماءهم على صفحة من جلد الغزال أخرجها من معطفه ، بعد أن انفرطت حبات مسبحة تسليته وتبعثرت ؛ غير أن الراكب لم يأبه لتحذير الراوي الضمني - رب العبرة التاريخية - :
" الراكب : الاسكندر
" تك .. تك .. تك "
هانيبال
" تك .. تك .. تك "
تيمور لنك
" تك .. تك .. تك "
هتلر .. متلر .. جونسون .. مونسون
" تك .. تك .. تك "
الاسكندر .. الاسكندر .. الاسكندر
الراوي : معذرة .. لا ينفصل الإنسان عن اسمه
فالعظماء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرة التاريخ
لتسيطر عظمتهم فوق البسطاء
والبسطاء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرتك
ليكونوا متنزه أقدام العظماء
ولذلك خير أن ننسى الماضي
حتى لا يحيا في المستقبل
حتى لا يخدعنا التاريخ
ويكرر نفسه
الراكب : الاسكندر .. تك .. تك .. تك
الاسكندر .. تك .. تك .. تك
إن مناداة الراكب للإسكندر هي مناداة استدعاء غير المحكوم لمن يحكمه ولأنه نادى الإسكندر على وجه الخصوص وهو من هو الغازي الذي يغزو الممالك والأمم مستخدماً الفكرة سلاحاً يقتل به كل من وقف في طريق طموحاته غير المحدودة . لذلك يتشكل الإسكندر أمام عينيه من أي عابر سبيل ، في درب من دروب أي عصر في أي مكان له طموحات سكندرية :
" عامل التذاكر : من يصرخ باسمي ، من يدعوني
من أزعج نومي في راوية العربة
أنت .. ؟
الراكب : معذرة .. من أنت ؟
عامل التذاكر : أنا الإسكندر
في صغري روضت المهر الجامح
في ميعة عمري روضت أرسطاليس
حين بلغت شبابي روضت العالم. "
هذا التصريح صوغ من عقل الشاعر نفسه ، إذ قلب المعلومة التاريخية رأساً على عقب لما رأى الدعوة الأرسطية نحو عولمة ثقافية تحت راية الفكر اليوناني وهي أول عولمة ثقافية في التاريخ وقد حولها الإسكندر إلى عولمة عسكرية اقتصادية ، إذ استبدل الغزو الفكري والثقافي بالغزو العسكري وسيادة العقل بسيادة السيف . وهي سيادة لم تكن لتتحقق لمغامر مستعمر ومتسلط ، دون خنوع جعل من خده مداساً لقدمه ؛ أو مظهر متراخ يأخذ الأمر باستهتار وتهكم ؛ فكلاهما مدخل للتسلط :
" الراكب : مرحى يا اسكندر .. هل أكثرت من الشرب "
هذا العبث غير المسؤول للتسلية أو لاصطناع رفقة مع مسبحة لا تستجيب له ، سريعاً ما يتحول عنها إلى لون آخر من العبث الحقيقي ، مع كائن وظيفي أي صاحب سلطة ؛ فإذا بالعبث يتحول إلى حقيقة :
"عامل التذاكر: لا تعرف قدري .. يا جاهل
قسماً ، سأروضك كما روضت المهر الجامح "
إن فصل البناء الدرامي في هذه المسرحية بين الفعل القولي أو المسموع (حوار الراكب وحوار عامل التذاكر) والفعل المرئي (الوصف السردي للفعل التطبيقي المرئي المادي في حكي الراوي وهو الدال على تحقيق الأقوال) هو بمثابة فصل بين الشعار وتطبيقاته ؛ فما أن يطلق (عامل التذاكر) تهديده ، حتى يصف لنا الراوي منظومة أفعاله تحقيقاًَ لقوله :
" الراوي : تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيمن
يستخرج سوطاً ملفوفاً
تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيسر
يستخرج خنجر
تمتد يد الإسكندر في ثنية سرواله
يستخرج غدارة
تمتد يد الإسكندر في حلقه
يستخرج أنبوبة سم
تمتد يد الإسكندر في جيب خلفي
يخرج حبلاً ..
يتحسسه خجلاناً ، ويقول :
عامل التذاكر : هفواً .. هذا مات به أغلى أصحابي
أعطيت صديقي الحبل ليلعب به
فأساء استعماله "
حكي يستعيد صور إرهاب الحاكم الفردي المتسلط ، الغازي ، فكل الغزاة والعسكريون الحكام مختزلون في هذه المسرحية في شخص الإسكندر. ذلك الغازي الأول باسم العولمة الثقافية ، متشحاً براية الفكر تحت شعار توحيد العالم تحت راية الفكر اليوناني ، تتويجاً لفكر أرسطو ، سلباً لهويات ثقافات الأمم الأخرى ، فسرعان ما ينزع قناع الفكر ويتدرع بقناع القهر المسلح؛ في مواجهة الآخر غير الخانع ، حتى إذا كان تابعه وأداة تحقيق إرادته وأقرب المقربين إليه؛ وهو يصفيه تصفية جسدية ثم يعلن على الملأ عبر وسائله الإعلامية بأن الرجل قد انتحر – بعد انتهاء مهمته- :
"هل تدري ؟
كلماتي في معناه صارت من مذخور التاريخ الأدبي
لم أكتبها ، لكني شاهدت وزيري يكتبها
وصرفت له خبزاً ونبيذاً ، حتى أنهاها
حتى علمني أن ألقيها إلقاء مأساوياً
يخضع لأصول النحو
فأنا أخطئ دوماً في الفاعل والمفعول "
هكذا يمسك الشاعر بطرف حبل التداعيات ، يرخى للصورة بالقدر الذي لا يسمح لمفردات التكوين في التعبير الدرامي الشعري بالانفلات أو التشتت الذهني للمتلقي . وتلك خاصية من خصائص سر الصنعة عند صلاح عبد الصبور تشير إلى بعد من أهم أبعاد العملية الإبداعية وهو السيطرة على السياق والإمساك بالجزئيات والتحليق فوق أسوار الكل بما يسمح بالتنقل بين الكل والأجزاء بشكل ديالكتيكي وبما يسمح بالنمو المتصاعد للعمل الإبداعي وللمبدع أيضاً، فالمبدع ينمو مع عمله ويكتسب خصائص هذا العمل "
لذلك لا نتشتت ذهنياً عندما ينتقل في تخلص درامي وجمالي من وصفه لحال صديقه الذي أعطاه المسؤولية (الحبل) فشنق بها نفسه ، إلى استعراضه الموجز لتاريخ حبل السلطة ودور وزيره في تمجيدها وتدريبه على إلقائها . والتأريخ لها في مقابل خبزه ونبيذه (ببطنه) وصولاً إلى طمع ذلك الوزير في ولاية ثمناً لأداء وظيفته :
" حتى علمني أن ألقيها إلقاء مأساوياً
يخضع لأصول النحو
فأنا أخطئ دوماً في الفاعل والمفعول
كان وزيري طماعاً ، إذ طالبني بولاية
ثمناً لدخول التاريخ ككاتب
فوهبت وزيري الأرض بأكملها كي يرقد فيها "

ليس الفاعل والمفعول هنا سوى الجاني والمجني عليه . إن الاستعارة والكناية وألوان التورية المجازية تصنع المسكوت عنه في التعبير الدرامي الشعري والنثري ، لذلك لا جب فهم الصورة الإبداعية من ظاهر القول . يقول الشاعر الأمريكي إدجار ألن بو : " يوجد في كل التعليقات المكتوبة عن شكسبير خطأ جذري لم يفطن إليه أحد . إنه يتمثل في محاولة شرح شخصياته لا على أساس أنها من صوغ العقل الإنساني ، وإنما على أساس أنها موجودات فعلية على وجه الأرض "
لا يستغرق فهم طبيعة فعل الحاكم الفرد المتسلط الكثير من التفكير مع اختزال الشاعر لأبعاد الشخصية ، حيث لا نكاد نرى ملمحاً واحداً من ملامح بعده الجسمي أو الاجتماعي أو النفسي، وإذا كان رسم الشخصية النمطية رسماً تجريدياً وفق ما جرى عليه مخططات الاتجاه الحداثي في إبداعاته التفكيكية ، وهنا يتبين لنا دور المؤلف الشاعر في تمليك شخصياته خبراته هو نفسه ، ومعارفه ، بحقنها في دماء تلك الشخصيات ، بوصفها من خلقه وصلاح عبد الصبور هنا ، إذ يتستر خلف (الراوي) ويجعله خليفته على كون خليقته إذ يقعده على عرش المستوى السردي الأول ، فإنه يملكه أمر كشف تاريخ حاضر شخصياته الرمزية (الراكب) و(عامل التذاكر) بوصفهما شخصيتين رمزيتين ، وكشف مبكر لفعلها المستقبلي ، فيما هو أقرب إلى مخطط أو دراسة جدوى تشخيصية لفعلها القادم قبل أن يقوم أحدها بإعادة إنتاجه امامنا . فالراكب وعامل التذاكر كلاهما لا يمتلك أي منهما تاريخاً ، سابقاً ، لذلك رأينا " "أنا " : الراوي " لما رغبت في التقاء الآخرين سعت إلى الالتجاء تحت رعاية الـ "هو" (المؤلف) أي تحت رعاية نظام رموز ممتلئ ، حيث الوجود ، لا يتداخل والعلامة وبالمقابل فإن ظلاً من الماضي يتخلل حُبسة الناقد إزاء الـ (أنا) "
هكذا التقت (أنا) : (الراكب) السارد الثالث – تشخيصاً تشكيلياً سردياً – بـ(هو) : (الراوي / السارد الأول) وكذلك فعلت (الأنا) عامل التذاكر المتوالدة أو المتشظية في أنوات متعددة ومتباينة – تشخيصاً سردياً تشكيلياً – وبذلك أصبحت للراكب طبيعته الخانعة تبعاً لجموده في درجته على السلم الاجتماعي ، بينما تملك شخصية (عامل التذاكر) صوراً متعددة للحاكم الفرد المتسلط المستعبد لتلك (الأنا) الخانعة الرابضة في موقعها الطبقي الساكن .
يجرنا هذا التأويل إلى القول مع رولان بارت أن : " الناقد هو من سعى إلى الكتابة ، والذي يملي انتظار عمل أدبي إضافي ، يصاغ خلال البحث عن ذاته . وتكمن مهمته في إكمال مشروع الكتابة ، ومتجنباً إيّاه في الآن ذاته . الناقد كاتب إنما حتى إشعار آخر "
ولأن " الناقد كما الكاتب ، يتمنى من القراء أن يثقوا ويوقنوا أكثر بقراره الذي اتخذه بالكتابة ، ولا يسعه أن يوقّع هذا التمني ، عكس الكاتب ، لذا يبقى محكوماً بالخطأ – وبالحقيقة "
لذا أثنّي على ما سبق لي قوله حول تأثر شخصيات صلاح عبد الصبور بالظواهرية الهيجيلية، حيث " تبدو الظواهرية الهيجيلية في محاولات شخصيات صلاح عبد الصبور لصنع هويتها ، حيث يسطع فكرها سطوعاً جدلياً على الواقع ، ومن ثم يرتد إلى الشخصية كما هو ، لأنه لا يجد في الواقع إلاّ صوراً ذهنية . وهو في رحلة سطوعه على ذلك الواقع لا يطور فيع فعلاً ولكنه ينمي الفكر فحسب ، ويطور العقل . من ثم فإن تحقيق الهوية لا يتمثل عندها إلاّ تمثلاً ذهنياً ، ومن ثم يكون التغيير الذي يمكن حدوثه تغيراً فكرياً فحسب ، وبدا تحقيق محاولاتها للهوية الفكرية المتمثلة في ذهن الكاتب "
هكذا كان (الحلاج) في محاولاته التفاعل المادي للثائر مع العامة ، فالوعي الذي ينقله إلى العامة وعي ذهني . وهكذا كان (الملك) حتى موته غير قادر على المستوى الواقعي على التفاعل المادي للمغازل ؛ فالشاعر يلقنه الغزليات تلقيناً ؛ كما يلقن جواريه :
" الشاعر : معذرة يا مولاي
لكني لقنت الأخرى كلمات مبتكرة
قد ترضي رغبتك الملكية "
"الشاعر : (ملقناً الملك في صوت خفيض)
يتنزل صوتك مثل رنين الجرس الفضي المتفرد ،
يتقطر من برج متشح بمروج الغيم الزرقاء "
" ليس للملك من فعل الغزل إلاّ ظله ، فهو ليس مغازلاً على مستوى قدراته الذاتية الواقعية ، إنما يكرر صورة المغازل التي لم تكن سوى صورة متخيلة في ذهن شخصية الشاعر "
وكذلك الأمر مع جواري الملك :
" الشاعر : لا .. لا .. قد ضاع المشهد . نسيت هذه المرأة أجمل ما فيه
سامحني يا مولاي
(للمرأة) مازال هناك حديث عن قيثارة حنجرتك
والأوتار تناشد مولانا أن يلمسها بأصابعه النورانية
مازال هناك حديث عن إغماضة عينيك
وأنت تغنين لمولانا عندئذٍ
إنك تحترقين شوقاً أن يرقد مولانا
في دفء الأمواج العسلية
وأخيراً كان جلالته سيقول :
خطواتك كالموسيقى إذ تتوافق في ذهن الفنان
عندئذ ستقولين :
بعثر هذي الأنغام على سلم رغبتك الملكية
وبصوت يتقطع آهات في حلقك
الملك : آه .. ما اتعس حظي
راقت لي الألفاظ كثيراً هذه المرة
لكن نسيتها . "
" الملك لا يؤدي بأحاسيسه هو ، ولا المرأة الثانية تفعل ذلك "
ليس للملك ولا لجواريه من الغزلية غير اللفظ ، فالـ(أنا) الشاعرة تمنحه صورة بالخطاب الغزلي ومضمونه دون أحاسيسها ، ولأنه ظل مغازل ، لذلك غابت عن اللفظ الأحاسيس ؛ ومن ثم غابت المصداقية وافتقدت الخصوصية .
والأمر نفسه عند الأميرة ووصيفاتها ؛ إذ ليس لها ، ولا لوصيفاتها غير ظل الفعل ، باجترار ذكريات فعل مضى وانقضى ، بإعادة إنتاجه ، ليخرج تشخيصاً لظل حبيبها الذي هجرها ، وظل أبيها المغدور من ذلك الحبيب الغادر (السمندل) حتى الشاعر الذي جاء مخلصاً (القرندل) هو أيضاً ثائر ظليّ لأنه أتى من حيث المجهول ، ومضى في غياهب المجهول ، كما لو كانت الأرض قد انشقت عنه فجأة أو هبط من السماوات العلى فبدا كمخلص وهمي ، أو غيبي .
لذلك يمكن القول إن صلاح عبد الصبور ، قد صنع شخصياته المسرحية ظلالاً لواقع سحري، واقع لا يشبه الواقع الحياتي . ذلك أن "الشعر عندما ينأى بعيداً عن إيقاع لغة الحياة ومصطلحاتها الجارية ، يفقد حيويته ، لذا فهو يميل إلى تقطير لعنته الخاصة من لغة الكلام العام المعتاد "
يقول إليوت : " إن كاتب الدراما الشعرية ، ليس مجرد إنسان ماهر ، في فنين اثنين ، وحاذق في أن ينسجها معاًَ . وهو ليس الكاتب الذي يستطيع أن يزخرف مسرحيته باللغة الشعرية والأوزان وإنما عمله يختلف عن عمل (الكاب المسرحي وعمل الشاعر) لأن نموذجه أكثر تعقيداً ، وأكثر أبعاداً .. بكل قواعد الدراما البسيطة الصريحة ، ولكنها تغزلها غزلاً عضوياً في تصميم خاص ، أكثر ثراء . "

كان الشعر ومازال مرتبطاً بمواقف رومنسية ، كما كان المسرح ومازال مرتبطاً بمواقف رومنسية ، ولئن جسد المسرح الشعري مواقف الحياة اليومية وفق تقنيات الواقعية أو وفق تقنيات التعبيرية والملحمية ؛ فقد جسد مسرح صلاح عبد الصبور الشعري شخصيات عبثية في مواقف عبثية وفق تقنيات مسرح العبث ، فكان ذلك فتحاً في مجال المسرح الشعري. فالتداعيات وعدم الترابط الفكري واللغوي والمقاربات أو المجاورات المعرفية المتواثبة وتجريد الشخصيات والمواقف والآلية والتكرار وسمات الحكي الناقص والتناقض فيما بين القول والفعل واستهداف الدهشة ، ماثلة في (مسافر ليل) ، وفي (الأميرة تنتظر) وفي (بعد أن يموت الملك) وهي حداثية تفكيكية ، تفكك النسق الاجتماعي والسياسي في واقع أنظمتنا السياسية ويفكك خطابها الديماجوجي وظاهرة تسلطها التاريخية على شعوبها ، كما يفكك خطاب استكانة الإنسان العربي وإذعانه المهين ، ويفكك دوره في صناعة حكامه المتسلطين على مدار تاريخه الطويل .

الهوامش :
التعبير المسرحي الشعري
بين التأمل الذاتي والانفتاح على المعنى
د.أبو الحسن سلاّم
 مهاد تأملي :
لعل من أهم خصائص الفكر في بنية الصورة الشعرية هو تقنع فكر الشاعر في خطابه الشعري بين طيات تعبيره بما ينطوي على نوع من البوح الذاتي المتأمل الذي ينفلت محمولاً على جناح وعي الشاعر أحياناً فيبدو مغلفاً بالمباشرة أو ينسرب من تحت جناح وعيه ليشف عن المسكوت عنه في سكتته الموضوعية في محراب الذاتية المتأملة – بما يشبه النقطة العمياء في مسار القصيد الشعري – وتلك مزية التفرد الشعري الذي يضيف إلى التجربة الشعرية مزية جديدة تشكل علامة فارقة بين شاعر وشاعر. غير أن تلك السكتة الموضوعية أمام الذاتية المتأملة التي تشف عن البوح الذاتي المتأمل وإن تناسبت مع شعر القصيدة فهي لا تتناسب على طول الخط مع الصياغة الدرامية بشعر المسرح ؛ إلاّ إذا ارتبط البوح التأملي الذاتي بشخصية مسرحية بعينها بما يتناسب مع أبعادها الاجتماعية والثقافية والنفسية وفي الحدود التي لا تستغرق من المتلقي للعرض المسرحي الشعري إلاّ زمن ترجمتها ترجمة معنوية فورية. والواقع يكشف عن استحالة ذلك في تلقي الصورة الشعرية حالة تبتلها التأملي الذاتي إذ أنها عندئذ تحتاج إلى زمنين أحدهما لفك شفرة الغلاف الذهني للصورة الشعرية في حوار الممثل (أولاً) تمهيداًَ للترجمة المعنوية لتلك الصورة من جملة تعبيرات الشخصية على لسان ممثلها (ثانياً) .. على اعتبار أن الأصل في عملية الإرسال والاستقبال في العرض المسرحي هو حالة الحضور الآني الذي يفترض ترجمة المتلقي الفورية لخطاب الشخصية المسرحية المحمول وجدانياً على لسان الممثل. وهو أمر يبدو متعذراً أمام الصورة الشعرية الدرامية المصطبغة بالتأملات الذاتية التي يشكل بوح الشخصية القناع الذي ينسرب من ورائه بوح الشاعر نفسه محمولاً على لسان فكر الشخصية . وهو أمر يلزم التلقي بكل مستوياته وطاقاته باستغراق زمنين وصولاً إلى معنى الخطاب الجزئي. أولهما: لفك شفرة الصورة المركبة من الصورة الذهنية إلى الصورة المعنوية ، وثانيهما: اكتشاف الدلالة طبقاً للمتوسطات القرائية (متوسطات التلقي) . وبذلك تفوّت عملية فك الشفرة الذهنية للصورة الشعرية الدرامية على المتلقي إمكان تحصيل حديث الممثل المتواصل الذي لا ينتظر الجمهور حتى يفك شفرة صورة شعرية صوتية انتهى من أدائها .
هذا البحث إذن معني بالوقوف عند إشكالية التعبير الشعري الدرامي عند تجسيده مسرحياً بحيث كان مفترضاً أن يكون تعبيراً درامياً شعرياً ، تبعاً لمقتضيات أسبقية الدراما على الشعر في النص المسرحي الشعري بحيث تصبح الدراما صاحبة العصمة على الشعر في الكتابة المسرحية الشعرية ، باعتبار الدراما تصويراً للفعل وليس تكريساً للصورة الشعرية على حساب الفعل – تبعاً للنظرية الأرسطية ولمتتابعاتها تحت مظلة المحاكاة أو مناقضاتها الإيجابية في حكي الدهشة التغريبية أو في حكي الدهشة العبثية السلبي.
على أن أسبقية الفعل في الدراما الشعرية على لغة الحوار الشعري لا يجب أن تطفيء وهج الطاقة الانفعالية لصالح الطاقة التأملية الفكرية ، وإنما توازن بينهما ، بما يتيح للفعل الدرامي المتجانس مع طبيعة الشخصية المسرحية فكراً وبيئة وثقافة متفردة أن يتحقق درامياً عبر سياق شاعري يتخذ من الشعر لغته ومن البواعث والعلاقات وعناصر التصوير الدرامي للحدث شاعريتها ليجسد هوية كل شخصية في النسيج الدرامي.

 البوح الذاتي المتأمل وإشكالية تلقي الصورة الذهنية :
تزخر مسرحيات صلاح عبد الصبور بوقفات البوح التي تقف عندها شخصياته وقفة اضطرارية لتنفث شحنة معاناة هنا وهناك مع تباين أسبابها . فإذا نظرنا في مسرحية (مأساة الحلاج) فلسوف نلحظ ذلك التباين ما بين بوح الشعور بالذنب ، وبوح التأسي وبوح المواساة، وبوح التأمل وبوح الإدانة وبوح الحض والتحريض ؛ ففي وقفة الحرفيين الدامعة حول الحلاج مصلوباً على شجرة في ميدان الكرخ ببغداد يتكشف البوح عن شعور بفداحة ما اقترفوه من ذنب في شهادة الزور التي قدموها ضده في مقابل دينار لكل منهم ، تلك الشهادة التي سلمته للجلاد :
"المجموعة : صفونا . صفاً .. صفاً
الأجهر صوتاً والأطول
وضعوه في الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتواني
وضعوه في الصف الثاني
أعطوا كلا منّا دينارا من ذهب قاني
برّاقاً لم تلمسه كفُ من قبل
قالوا : صيحوا .. زنديق كافر
صحنا زنديقُ .. كافر
قالوا : صيحوا فليقتل إنّا نحمل دمه في رقبتنا
فليقتلْ إنّا نحمل دمه في رقبتنا
قالوا : امضوا فمضينا
الأجهر صوتا والأطول
يمضي في الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتواني
يمضي في الصف الثاني "
لم يمض استرسال فقراء الحرفيين في بوحهم اعترافاً بالذنب مدفوعاً بتيار الشعور بفداحة الفعل ، وإنما انسرب من خلف جنحه المظلم بصيصاً من الوعي الفكري للتعبير الدرامي الذي تدثر ببردة التعبير الشعري. وهو أمر يحتم على الشاعر أن يبني التعبير على نحو يحرّف الصورة عمّا هو مألوف في النسق الحياتي وفق العادة والمألوف ليبدو الفعل الدرامي مشوهاً من حيث النسق النظمي البنائي ليحقق ضرورة براجماتية نفعية.

بوح الندم بين الضرورة الحياتية والضرورة الدرامية والجمالية:
في الحياة تختلف ضرورة النسق الوظيفي في صورة الفعل ورد الفعل عن ضرورته في التعبير أو التصوير والتشكيل الأدبي والفني. اصطفاف مجموعة من الناس اصطفافاً عفوياً تلقائياً ، أمام حدث ما أو حوله ، غير مقيد بنسق صناعي فيه إعمال عقلي أو تدبير منظم لذلك التجمع ، من هنا يبدو النسق من حيث مظهره عشوائياً ، بحيث يلبي الموضع الذي يقف فيه كل فرد من أفراد التجمع ، حاجته إلى الرؤية والسمع الحاضر لما هو حاصل مما اجتذبه إلى ذلك التجمع ، وهو أمر قد يستدعي تغييرات في مواضع الأفراد ، تبعاًَ لضرورة كل منهم إلى التعرف على كنه ما يجري. وهو أمر طبيعي ، لا يستهدف منه المتابع الحصول على معلومة حول ما يجري ، وليس الوصول إلى جمالية ما ، ولئن تحققت ؛ فذلك يكون بمحض الصدفة . وهذا غير ماثل في الصورة التي نسقها الشاعر هنا على النحو المألوف . أما اصطفاف مجموعة من الناس على نحو يلبي الضرورة الحياتية وفق نسق وظيفي مصنوع ، كاصطفاف الجند في طابور أو تدريب عسكري ، فيستلزم أن يقف الأقصر من الأفراد في الصف الأول ، ويقف الأطول فيهم في الصف الثاني ، يتبعه الأكثر طولاً في صف ثالث . وهكذا تتشكل منظومة الفصيلة أو الكتيبة نسقاً وظيفياً يمكّن الجميع من المواجهة بالنظر إلى الأمام وفق الوجهة أو المسيرة المحددة تحديداًَ مركزياً وحاسماً. وهذا غير ماثل في نسق الصورة الجماعية – المحكي عنها – في هذا المنظر الحزين فالنسق في اصطفاف فقراء الحرفيين -هنا – تفرضه الضرورة الفنية الدرامية الوظيفية في نسق جمالي مشوّه ، إذ وضع الأطول قامة والأجهر صوتاً في الصف الأول وهو أمر غير مألوف وفق الصورة الوظيفية التقليدية ؛ فجهارة الصوت وطول القامة هما أساس ترتيب نسق الصف في هذه الصورة ، وذلك لأن هدف المنظمين لتلك التظاهرة هو فضح الحلاج والتشهير به من ناحية وإعلان أصحابه من الحرفيين – من ناحية أخرى – وهم الذين وهبهم كلماته الحاضة لهم ليصلحوا أحوالهم المعيشية في اتجاه حثهم على عدم السكوت على حقوقهم المهضومة من قبل الأغنيء والحكام – لإدانته بتهمة الزندقة والكفر . فالأطول أكثر إيصالاً للصوت لمسافة أبعد ، خاصة مع جهوريّة الصوت. ومن الناحية الجمالية ؛ فإن في النسق تشويهاً مقصوداً لصالح الدلالة الدرامية ، فهذا التشويه قصد به خلق حالة من حالات الدهشة المتأملة للنسق المعكوس بما يغاير الصورة الاعتيادية ، والدهشة حالة من الحالات التي تستدعي التساؤل والتفكر اللحظي ، في محاولة اكتشاف سببية – بناء النسق على النحو الذي تعيد المجموعة تصويره بالحكي السردي. كذلك ما يستشفه المتأمل المؤول لدلالة لفظة (الأطول) حيث يجوز فهمها على أنه الأطول في فرض رأيه أو صوته على الآخرين وفهم لفظة (الأقصر) بضعيف القدرات ؛ إذ أنهم بحكم وضعهم في الصفوف الخلفية هم تابعون للأطول باعاً. وبذلك تكون الجمالية نابعة من لذة الشعور – المتأمل المؤول- بالتفوق لإدراكه كنه تشويه البنية الدرامية في الصورة الشعرية .

البوح التبريري ودرامية الاسترجاع:
من ألوان البوح في شعر الصورة الدرامية ذلك البوح الذي ينحو منحى التبرير لإبراء الذمة ونفضاً لتبعات الصمت وعدم المبالاة . وهو بوح استرجاعي ، إبراء للذمة ؛ وهو ماثل في تظاهرة جماعة الصوفية أمام مشهد الحلاج مصلوباً في الميدان ؛ ذلك أن الشعار عندهم أهم من صاحبه ، هو عندهم كما النحلة الملكة ؛ تموت فور إنجاز مهمتها :
"الفلاح : فلنسأل هذا الجمع
من أنتم ..؟
المجموعة: نحن القتلة
أحببناه فقتلناه "
الواعظ : لا نلقى في هذا اليوم سوى القتلة
ولعلكم أيضاً حين قتلتم هذا الشيخ المصلوب
المجموعة : ... قتلناه بالكلمات
الفلاح : زاد الأمر غرابه !
المجموعة : أحببنا كلماته
أكثر مما أحببناه
فتركناه يموت لكي تبقى الكلمات
التاجر : من أنتم ؟!
المجموعة : أصحاب طريق مثله
الواعظ : هل خفتم لما صاح الفقراء
فنكرتم أمره ؟
المجموعة : خفنا .. لا .. لا ..
لا يخشى الموت سوى الموتى
أنفذنا ما أوصانا به
الواعظ : أوصاكم به ..؟
المجموعة : كنّا نلقاه بظهر السوق عطاشا فيروينا ..
من ماء الكلمات
جوعى ، فيطاعمنا من أثمار الحكمة
وينادمنا بكئوس الشوق إلى العرس النوراني "
هنا نقف أمام غرابة الصورة وغرابة الفعل .. فالمحب لا يقتل حبيبه . غير أن للقتل في عرف المحبين أداة وحيدة هي عدم مبالاة المحب بحبيبه ، وحبهم له لأنه من صنع لهم شعاراً يستظلون بظله فلما انتهى من صنعه أحبوا الشعار وهاهم يرددونه ملقين تبعة قتله على ذلك الشعار فقوله كان قاتله :
" مقدم المجموعة : كان يقول :
إذا غسلت بالدماء هامتي وأغصني
فقد توضأت وضوء الأنبياء
كان يريد أن يموت ، كي يعود للسماء
كأنه طفل سماوي شريد
قد ضل عن أبيه في متاهة المساء
كان يقول :
كأن من يقتلني محقق مشيئتي
ومنفذ إرادة الرحمن
لأنه يصوغ من تراب رجل فان
أسطورة وحكمة وفكرة
كان يقول :
إن من يقتلني سيدخل الجنان
لأنه بسيفه أتم الدورة
لأنه أغاث بالدما إذ نخس الوريد
شجيرة جديبة زرعتها بلفظي العقيم
فدبّت الحياة فيها ، طالت الأغصان
مثمرة تكون في مجاعة الزمان
خضراء تعطي دون موعد ، بلا أوان
وحينما أسلمه السلطان للقضاة
وردّه القضاة للسلطان
ورده السلطان للسجان
ووشيت أعضاؤه بثمر الدماء
تم له ما شاء
هل نحرم العالم من شهيد ؟
هل نحرم العالم من شهيد ؟
الواعظ : أو لم يحزنكم فقده ..؟
المجموعة : أبكانا أنا فارقناه
وفرحنا حين ذكرنا أنا علّقناه في كلماته
ورفعناه بها فوق الشجرة "
لم تكن تلك التعبيرات التأملية سوى تمثل لتعابير الصوفية سكنت شاعرنا كما سكنت الحلاج نفسه.
تضمن هذا البوح الكثير من المفردات والمفاهيم الصوفية ، التي يغيب مغزاها عن المتلقي ربما على اختلاف مستوياته الثقافية وهو أمر يحول بين المعنى الجلي والمفهوم وبينه، وهو أمر لو شغل به فكر المتلقي المشاهد للعرض لبرهة قصيرة لضاع منه تحصيل معان حملها أداء حوار تال للمجموعة نفسها في إطار النسق الأدائي لبوحها في تظاهرة إبراء الذمة، وإعلاء الشعار على صاحبه . وهو إعلاء لا يتحقق إلاّ بمساعدته على نوال الشهادة . وهو أمر قريب من فكرة الخلاص في الديانات الأوزيرية ثم المسيحية بعد ذلك ، وفي فكرة الخلاص في الاستشهاد الحسيني عند الشيعة . فما أشبه هذه التظاهرة التطهيرية بتظاهرة الشيعة السنوية عبر مسيرة جلد الذات الجماعية ، التي تنقلها لنا الفضائيات في ظل الاحتلال والممارسات البهيمية المجهولة الانتساب والأسباب. وفي هذا الإعلاء إحياء للفكرة التي زرعها الحلاج بكلماته . والإحياء لا يتحقق إلا بري تلك الشجيرة (الشعار) بدمائه . فالخلاص في نهاية المطاف لا يتحقق بالكلمات وإنما بالدماء.. فلكي تحيا الفكرة وتتوهج ، لابد من التضحية بصاحبها . وبديلاً عن أن تكون الفكرة سبباً في حياة أفضل لمعتنقها تصبح سبباً في الموت.
البوح الإسقاطي (بوح القناع):
من البوح ما كان بوحاًَ إسقاطياً متمرداً ذا خلفية أيديولوجية ، وهو بوح مواجهة فكرية . ومثاله في مواجهة السجين الثاني للحلاج في الزنزانة ؛ وهو بوح يتقنع خلفه الشاعر ؛ إذ يحمل كلماته على لسان السجين الثاني ؛ هو بوح متعارضين أحدهما سلبي ، وتواكلي ، والآخر إيجابي :
" السجين الثاني : وبماذا تحيي الأرواح ؟!
الحلاج : بالكلمات
السجين الثاني : أتراك تقول ..
صلوا .. صوموا .. خلوا الدنيا واسعوا
في أمر الآخرة الموعودة
وأطيعوا الحكام وإن سلبوا أعينكم يتنزى منها الدم
رصوها ياقوتاً أحمر في التيجان
بشراكم ، إذ ترثون الملكوت
عفوا ، هذا لفظ من ألفاظ شبيهك "
مع أن الحلاج قد أدرك أن محاوره الناقض لخطابه يشبّهه (بابن الإنسان) الأمر الذي استدعى شكره له ، فمال قليلاً نحو النقد الذاتي ، إلاّ أن إدراك التلقي لذلك المعنى بعيد إلاّ على قلة من المثقفين :
"الحلاج : شكراً ، تعطيني أعلى من قدري
لكن في قولك بعض الحق
فأنا أحياناً أصرخ فيهم : خلوا الدنيا الفاسدة المهترئة
ودعوا أحلامكم تنسج دنيا أخرى "
ومع ذلك فإن بوح نقده الذاتي – هذا – يواجه ببوح ناقض له ، مفكك لمضمونه السلبي :
" السجين الثاني : دنيا أخرى من صنع الأحلام ؟
الحلاج : الحلم جنين الواقع "
ولأن البوح في الحوارية الوجاهية بين الرأي والرأي الآخر هو بوح إدراك متبادل في حالة من التعارض المحمول أحدهما على تيار وعي متبن لتجربة عملية في مواجهة وعي استلابي متبن لفكرة نظرية أو مجرد شعار .
ومثاله من (الحلاج) أيضاً المواجهة التي تمت بين القاضي أبي عمر والحلاج في مشهد المحاكمة :
"أبو عمر : يا حلاج .. أتدري لم جئت هنا ؟
الحلاج : ليتم الله مشيئته يا سيد
أبو عمر : هذا حق ..
والله تبارك وتعالى
قد ثبت في كف خليفتنا الصالح
أبقاه الله
ميزان العدل وسيفه
الحلاج : لا يجتمعان بكف واحدة يا سيد
أبو عمر : هذا قول من فتّان القول
لا يدركه أمثالك من أهل الفتنة
ابن سليمان : حلو .. حلو .. "
بوح النوايا في دراميات التنفيس والتنفيث :
من البوح ما كان إعلاناً عن النوايا .. فهنا يتطور البوح ليصبح بوحاً للنوايا . وهو لون من ألوان التنفيث عن ضغينة. وهو بوح تهديد ووعيد ؛ عندما يكون البوح كله إسقاطي ؛ فمنه التنفيث، وهو بوح مرضي ومن التنفيس تفريجاً عن كرب أو معاناة *. ومن بوح النوايا ما ينفثه القاضي أبو عمر حيث يصرح بما ينتويه من شر ضد الحلاج بما يخرج عن حيدة القضاء :
"الحلاج : لم يفتنّي قولك يا سيد
أبو عمر : سيروعك قولي فيما بعد
فاسمع وارتع
مولانا لا يدفع عبداً ممن وُلِّى
فيهم للسيّاف
إلاّ إن أحصى ما فرّط من أمره
في ميزان الإنصاف
مولانا يدري من زمن . أنك تبغي
في الأرض فسادا
تلقي بذر الفتنة
في أفئدة العامة
وعقول الدهماء
تتستر خلف الذقن الشهباء
أو أثواب المجذوبين الفقراء
والأقوال الغامضة المشتبهات القصد
إذ تسبكها وتقفيها كهذاء الشعراء
قل .. ماذا تبغي بهذائك؟
هل تبغي أن يضع المسلم ..
في عنق المسلم سيف الحقد ؟
الحلاج : لا .. يا سيد
بل أبغي لو مد المسلم للمسلم
كف الرحمة والود
أبو عمر : ولهذا تعرض للحكام
من أهل الرأي وأصحاب النعمة "
بوح الفضفضة (الديماجوجي) ودرامية المسكوت عنه :
حيث يطلق القاضي افتراضات مطلقة لا دليل على صحتها . إذ يتحول البوح التنفيثي إلى بوح مسلح بالوعي الطبقي المتقنع بالنص القرآني ليخرس أي قول مخالف لقوله من أن المحاكمة هي لقضية سياسية ، قضية رأي واعتقاد ؛ بخاصة والقاضي أبو عمر الحمادي هو قاض من قضاة المالكية المعروفين بتقربهم من الخلفاء والأمراء :
"أبو عمر : ماذا تبغي ؟
أن يختل الناموس ويصبح أمرُ العامة
أعلى من أمر الخاصة
أن يحكم فينا الحمقى والجهلة
أن يُعطى الأمر لمن ليس بأهل له
ابن سليمان : فتقوم الساعة
أبو عمر : يا حلاج
الجرم الثابت لا ينفيه أن تتباله وتتمتم
ابن سريج : يا مولانا . هلاّ أعطيت الرجل المهلة يتكلم
فلقد حققت وأحكمت التهمة ، ثم أدنت
أبو عمر : ما حاجتنا أن نسمع في هذا المجلس
فيضاً من لغو القول المبهم ؟
فليعلُ حديث العدل إذا خرس الجُرم
قال تعالى :
" إنما جزاء الذين يفسدون في الأرض "
دراميات البوح المراوغ :
هو بوح يعتمد على التورية التشخيصية. وهي ليست تورية لفظية ، حيث للفظ معنيان أحدهما ظاهر ، والآخر باطن ، وهو المقصود ، بل تعتمد على موقف حقيقي مقصود ، يتخفى خلف موقف زائف وخادع وهو ماثل في مراوغات القاضي ابن سليمان (وهو حنفي المذهب)** :
"ابن سليمان : لا أخشى أن يلزم دمه عنقي
باسم الشرع
لكني لا أرضى أن يلزمني باسم السلطة
فأنا لم أشهده يبغي إفساداً في الأرض
أبو عمر : الشرطة قد شهدته
ابن سليمان : لكني لم أتحقق من قول الشرطة
أبو عمر : يا ابن سليمان
لسنا أهل التحقيق
بل أهل الفتوى . أعلم هذا الجيل
بأحكام الشرع ؟
فالشرطة والوالي والسلطان يسوسون
.. أمور الدولة
ويميزون الجاني .. ويقيسون الجرم
بإمعان وتثبت
فإذا صح الجرم لديهم وقفوا
الجاني بين يدينا
لنرى فيه الرأي الشرعي الصائب
ابن سليمان : يا مولانا
رأي من رأيك ..
لكنك قد وضحته
ببيان مثلي لا يدرك حسنة
فلتسمح لي أن أعرض رأيي
بعباراتي الجرداء من الفطنة
إني قد أسأل نفسي الآن
من نحن .. وما علة هذا الجمع ؟
نحن رجال العلم . وأهل الشرع
والوالي يستفتينا في أمر
وعلينا إتقان الفتوى
أنا لا يعنيني ما اسم المتهم ..
الماثل بين يدينا
والحلاج لدينا حالُ . لا شخص ماثل
وكأن الوالي يسألنا
ما حكم الشرع العادل
في من يبغي في الأرض فساداً . يبذر
فيها بذر الفتنة
وهنا نتملى في الأحكام . وننثرها
نتخير منها
ونقول :
للوالي . لا للحلاج
هذا حكم الشرع
في من يبغي في الأرض فساداً
أن تقطع أرجله .. أيديه .. ويصلب
في جذع الشجرة
ويفض المجلس
هل فتوانا ملزمة للوالي ؟
لا .. فله أن ينفذها
أو أن يسترجع أمره
وهنا لا نحمل وزر دم مسفوك
في ظلم أو عدل
ابن سريج : لا ، لا ، يابن سليمان "
لا يفلح التهرب من المسؤولية عن طريق المراوغة واللف والدوران على الحقائق ، وجود وعي نقدي مسلح بالشجاعة والاستقامة والعلم والفهم التام بأبعاد موضوع اختلفت حوله الآراء ضروري خاصة إذا كان موضوعاً يتعلق بالأرواح والأنفس ، من هنا تتطور المواجهة إلى اصطدام ، بين ممثلي المذاهب الثلاثة ، بين حزب الموالاة وممثل المعارضة. مع خطأ ذلك الأمر وخطورته في مجال القضاء
"ابن سريج : ما تنسجه من محبوك القول
أحبولة شيطان
إن الكلمات إذا رفعت سيفاً
فهي السيف
والقاضي لا يفتي . بل ينصب
ميزان العدل
لا يحكم في أشباح . بل في أرواح
أغلاها الله
إلاّ أن تزهق في حق . أو في إنصاف
الوالي والقاضي رمزان جليلان
للقدرة والحق
لا تدنو من مرماها أفراس القدرة
لا تبلغ غايتها
إلاّ إن أمسك فرسان الحق
بزمام أعنتها
فإذا شئتم أن ينقلب الحال
أن تلقوا فرسان الحق
صرعى تحت حوافر فرس القدرة
فأنا استعفي من مجلسكم
أبو عمر : يا ابن سريج هذا مجلس حكم مخصوص
وله تقدير مخصوص
ينظر في أمر مخصوص
وكما قال القائل
ابن سريج : (مقاطعا) مخصوص .. مخصوص .. مخصوص
هل خصّوا هذا المجلس بالظلم "
لأن ابن سريج قاضي الشافعية يعلم أن القوانين لا تفصّل خصيصاً لشخص بعينه عند محاكمته في تهمة نسبت إليه ، لذلك انتفض انتفاضة حادة في وجه التدليس في أمور قياس العدالة وإجراءاتها التي لا تخالف كل شرع وتنافي كل منطق *** لذلك انفجر ابن سريج في وجه القاضي المالكي ؛ ولم تثنه تلميحات أبي عمر – هذا – في محاولة توريطه بدفعه دفعاً إلى اتهام السلطان بالظلم مما دعاه إلى إعطائه درساً في مفهوم العدل :
" قل لي في لفظ واضح
هل نحن قضاة باسم الله
أم باسم السلطان ؟
أبو عمر : بل قل أنت
أوتنكر أن السلطان خليفة رب الأكوان
على الأكوان ؟
ابن سريج : هذا السلطان العادل ..
أبو عمر : أو تبغي أن تدفع عن مولانا
صفة العدل ؟
ابن سريج : بل أرجو أن أثبتها له
ليس العدل تراثاً يتلقاه الأحياء ..
عن الموتى
أو شارة حكم تلحق باسم السلطان
إذا ولي الأمر
كعمامته أو سيفه
مات الملك العادل
عاش الملك العادل
العدل مواقف
العدل سؤال أبدي يطرح نفسه كل هنيهة
فإذا ألهمت الرد تشكل في كلمات
أخرى
وتولد عنه سؤال آخر يبغي ردا
العدل حوار لا يتوقف
بين السلطان وسلطانه
أبو عمر : العدل .. العدل
ماذا تبغي حتى يجري العدل
ابن سريج : أن نسمع صوت المتهم الماثل
بين يدينا
ونسائل أنفسنا وضمائرنا
أبو عمر : هه ..
هو لا يبغي أن يتكلم "
البوح الحلولي الصوفي بين المقولة والدفاع عنها :
للصوفيه الحلولية مقولتها أو خطابها الذي تمثل في شعر الحلاج (حسين بن منصور) نفسه:
"أنا أنت وأنت أنا نحن روحان حللنا بدنا "

"فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا "
كما تمثل في خطبة الحلاج الدرامية الاحتفالية في ساحة بغداد التي دعا فيها الناس – خاصة الفقراء - إليه صائحاً ؛ حاضاً على التمرد والثورة :
"الحلاج : إلي إلي يا غرباء .. يا فقراء .. يا مرضى
كسيري القلب والأعضاء ، قد أنزلت مائدتي
إلي إلي
لنطعم كسرة من خبز مولانا وسيدنا
إلي إلي أهديكم إلى ربي
وما يرضى به ربي "
فما أن يتجمع الناس حوله حتى يكشف عن جوهر مقولته الحلولية ، غير منتصح بنصح رفيقه الشبلي ، وغير ملتفت إلى الحديث : "خاطبوا الناس على قدر عقولهم " بل يمض في كشف سريرة نفسه ، وإسقاط ما في ضميره :
" أراد الله أن تجلى محاسنه ، وتستعلن أنواره
فأبدع من أثير القدرة العليا مثالاً ، صاغه طيناً
وألقى بين جنبيه ببعض الفيض من ذاته
وجلاّه . وزيّنه ، فكان صنيعه الإنسان
فنحن له كمرآة ، يطالع فوق صفحتها
جمال الذات مجلّوا ، ويشهد حسنه فينا
فإن تصفُ قلوب الناس ، تأنس نظرة الرحمن
إلى مرآتنا ، ويديم نظرته ، فتحيينا
وإن تكدر قلوب الناس يصرف وجهه عنّا
ويهجرنا ، ويجفونا ..
وماذا يفعل الإنسان إن جافاه مولاه ؟
يضيق الكون في عينيه ، يفقد ألفة الأشياء
تصير الشمس في عينيه أذرعة من النيران
يلقى ثقلها المشّاء
على وجه السما والأرض . ألواناً من اللهب
ويضحي البدر دائرة مهمشة رمادية
من القصدير ميتة وملقاة على بيداء
فقد جفت عيون الناس ، أضحت نقطة سوداء
وتذوي أذرع الأشجار تلقي حملها للأرض
وتدفئه كمجهضة تكفن عارها في الطين "
إن بوح الحلاج حتى الآن لم يزد عن كونه بوحاً ذاتياً ، مجرداً يحوّم حول ما أودع الله من ضيائه في الإنسان. حتى ما اتصل بأحوال المجتمع ومعاناة الناس ، لم يجر مجرى التشخيص والتحديد بل ظل يدور في إطار التجريد لذلك كانت خطبة بوحه الحلولية تلك خير مثال على بوح التوق إلى الاستشهاد ؛ في لغة استعارية فوق طاقة فهم العامة الذين استهدف الحلاج مخاطبتهم .
" ويمشي القحط في الأسواق ، يجبي جزية الأنفاس
من الأطفال والمرضى
حقيبته بلا قاع ، فلا تملأ إذ تعطي
ورغبته بلا ري ، فلا تسكت أن تسأل
وخلف القحط يمشي تحت ظل البيرق المرسل
جنود القحط ، جيش الشر والنقمة
خلائقهم مشوهة ، كأن الذيل فوق الرأس
يقود خطاهمو إبليس ، وهو وزير ملك القحط
وليس القتل والتدجيل والسرق
وليس خيانة الأصحاب والملق
وليس البطش والعدوان والخرق
سوى بعض رعايا القحط ، جند وزيره إبليس "

بهذا الوعي الغيبي يطيش سهم الحلاج بعيداً عن قناعة تحرك العامة ، فهو يلقي تبعة الانحراف والفساد الاجتماعي على إبليس الذي يستغل فقر الفقراء فيحضهم على الجرائم. وهو بذلك لم يزد عن كونه خطاب وعظ ديني ، سأم العامة من سماعه من على المنابر في المساجد المنتشرة في كل موقع .
وربما وضح ذلك بتأمل الدور السلبي لتلقي العامة لخطاب بوحه التجريدي إذ لم يتعامل مع الخطاب سوى العسس ورجال الشرطة :
" تعالى الله ، قد يأنف أن ينظر في مرآتنا ذاته
فيصرف وجهه عنّا
فكيف إذن نصفي قلبنا المعتم ؟
ليستقبل وجه الله ، يستجلي جمالاته
نصلي .. نقرأ القرآن
نقصد بيته ، ونصوم في رمضان
نعم ، لكنّ هذي أول الخطوات نحو الله
خطى تصنعها الأبدان
وربي قصده للقلب ولا يرضى بغير الحب
تأمل ، إن عشقت ألست تبغي أن تكون شبيه محبوبك
فهذا حبنا لله
أليس الله نور الكون
فكن نورا كمثل الله
ليستجلي على مرآتنا ذاته "
لم يتحرك الناس بسبب خطاب الحلاج التحريضي المغلف بروح الرومانتيكية ، فالشرط الذاتي لم يزد عن كونه وعياً ذاتياً سلبياً ، والشرط الموضوعي غائب تماماً عن الوسط الاجتماعي المتلقي لخطاب الحض ، وإنما كانت حركتهم لاستنقاذ الحلاج من أيدي الشرطة ، يسبب كراهية الناس للشرطة.

والمحلل لخطاب الحلاج – هنا – يجده يصف فعل الله فينا : ( " أراد الله – فأبدع – صاغه – وألقى – وجلاه – وزينه – يطالع – ويشهد – تأنس نظرة الرحمن – يديم نظرته " ) وكل هذه الأفعال الإلهية من أجل أمر وحيد هو أن يصبح الإنسان مرآة لذات الله ليشهد حسنه فينا . وذلك شريطة أن تصفو قلوبنا . والمقابل هو استمرار حياتنا فإذا لم تصف قلوبنا ففعل الله يتغير : ( " يصرف وجهه عنا – يهجرنا – يجفونا " ) عندها : (يضيق الكون في عين الإنسان – يفقد الألفة – يفقد القدرة على الرؤية الحقيقية – يستشري الفقر بين الناس – يتفشى المرض – تنتشر الجرائم) وخلاصة القول : إن الحض على زوال البلاء وصلاح أحوال الناس وإقامة العدل قرين بحسن علاقة الناس بالله .
لكن ما الذي أثار الشرطة من ذلك القول ، خاصة وأن الخطاب لم يحرك حماسة واحد ممن تحلقوا حول صاحبه ، هل لأنه نعتهم بأنهم جند إبليس وزير الفقر ، وأنهم شريرون شائهة خلائقهم وأنهم أداة البطش . لذلك استدرجوه ؛ وهو الذي أعد نفسه وهيأها لمواجهة (دون كيخوتية) :
"الشرطي : ولكن شيخنا الطيب ، هل ربي له عينان
لكي ينظر في المرآة ؟ "
وعبثاً يحصل الشرطي على إجابة من جنس سؤاله ؛ بل يواجه بتساؤل استنكاري فيه ازدراء:
"الحلاج : ولكن ولدي الطيب ، هل قفل على قلبك
حتى ينطق القرآن
أم على قلوب أقفالها "
وعبثاً يحصل العامة أيضاً على المطلوب منهم من جملة خطاب الحلاج . وهكذا يلقى الحلاج بمقولته الحلولية ، دون أن يدعمها ، حتى عندما تتناوشه الأسئلة الاستدراجية لا يجيب بل يتهم السائل المغرض بانغلاق الفهم ، وكأن عملية التواصل أو الاتصال مرهونة بطرف التلقي ، دون أن يلتزم المرسل بتهيئة رسالته بما يتناسب ومستويات الوسط أو التلقي ؛ إلاّ إذا كان هدف الإرسال تحقيق المجرد غير المنظور إلاّ من صاحبه :

بوح التوق إلى الشهادة :
" (ضجة وتلويح بالأيدي توشك أن تصبح مقتلة )
الحلاج : لا ، يا أصحابي
لا تلقوا بالاً لي
استودعكم كلماتي
عودوا .. عودوا ..
ودعوني حتى تنفذ في بدني
لتؤدبني
ألفاظ عتاب المحبوب النارية "
"الشرطي : يا قوم
الشيخ أقر بجرمه
فدعوه يمضي ليؤدب
يا شيخ ..
هل أقررت بجرمك ؟
الحلاج : هذا حق يا ولدي ..
فلقد أجرمت بحقه
إذ أفشيت السر
الشرطي : أسمعتم !
الحلاج : عاقبني يا محبوبي أني بحت وخنت العهد
لا تغفر لي ، فلقد ضاق القلب عن الوجد
لكن عاقبني كعقاب الخصم خصيمه
لا كعقاب المحبوب حبيبه
لا تهجرني ، لا تصرف عني وجهك
لا تقتل روحي بدلالك
اجعل بدني الناحل أو جلدي المتغضن
أدوات عقابك "
إن موقف الحلاج هنا مناظر لموقف سقراط ، الذي التزم بكلمته باحترام القانون حتى ولو كان الثمن هو فقدانه لحياته ، وقد فعل ، ورفض محاولات تلاميذه وحوارييه المدفوعين بحض غير مباشر من الحكام . كذلك التزم الحلاج بكلمته التي تسلم لله الأمر كله ، وتدعو الناس إلى تسليم الأمر كله لله ، حتى تنصلح أحوال البشر ، حتى وهو يساق إلى حتفه :
" أبو عمر : هه ..
هو لا يبغي أن يتكلم
وعلى كل ، مازالت جلستنا ممدودة
فليسمعنا شيئاً من لغوه
يا هذا الشيخ المنفوش اللحية
بم تدفع عن نفسك ..؟
الحلاج : لستم بقضاتي ،
ولذا لن أدفع عن نفسي "
إن دفع الحلاج هنا ليس دفعاً لشخص القاضي أو هيئة هذه المحكمة على وجه الخصوص ، بل هو دفع لكل هيئة قضائية ، لأنه لا يؤمن إلاّ بقضاء الله ، لذلك تحايل قاضي الشافعية ابن سريج حتى يحثه على التعامل مع الهيئة القضائية دفاعاً عن نفسه ؛ ومن الغريب أن الحلاج يستدرج بحسن نية من ابن سريج :
"ابن سريج : يا حلاج ..
لا تدفع عن نفسك
بل حدثنا عما فيها
إن كان هو الحق ، عرفناه معك
وإذا كان الباطل ..
نبهناك إليه
وأخذناك بجرمه ..
الحلاج : أوعدتم إن كان الحق ..
تمضوا فيه معي ؟ "
مثل هذه النية الحسنة ، أو سذاجة التوكل والافتراض العاطفي لحسن نوايا الآخرين تقابل بواقع صادم ، واقع وعي طبقي :
"أبو عمر : نمضي فيه معك ..؟
أما إنك رجل ساذج
أو إنك أذكى مما تتصور
ولهذا أفسدت صعاليك العامة "
ومع وضوح موقف القاضي الساخر التهكمي من طرح الحلاج ، فإن الحلاج ينصاع للقاضي ويصدقه وينبري في بوح طويل استرسالاً خلف تيار الشعور :
" أبو عمر : قد نصبح من أتباعك ( ساخراً )
من أنت ، وما خطبك .. ؟ "
الحلاج : أنا رجل من غمار الموالي ، فقير الأرومة والمنبت
فلا حسبي ينتمي للسماء ، ولا رفعتني لها ثروتي
ولدت كآلاف من يولدون ، بآلاف أيام هذا الوجود
لأن فقيراً – بذات مساء – سعى نحو حضن فقيرة
وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية
نموت كآلاف من يكبرون ، حين يقاتون خبز الشموس
ويسقون ماء المطر
وتلقاهم صبية يافعين حزانى على الطرقات الحزينة
فتعجب كيف نموا واستطالوا وشبّت خطاهم ..
وهذي الحياة ضنينة "
ومن الغريب أن الحلاج في مواجهته للمحكمة لا يفعّل تيار الوعي ، وهو الأدعى للتفعيل واليقظة والحذر ، مثله مثل كل من أوقف أمام قضاته . غير أن الحلاج وقد صرّح بأن القضاة ليسوا قضاته ، وهو في الوقت ذاته ، ينبري في بوح إدانته لنفسه – قاصداً – لأنه يتمنى الشهادة ويسعى لها :
"الحلاج : تسكعت في طرقات الحياة ، دخلت سراديبها الموحشات
حجبت بكفي لهيب الظهيرة في الفلوات
وأشعلت عيني ، دليلي ، أنيسي في الظلمات
وذوّبت عقلي ، وزيت المصابيح ، شمس
النهار على صفحات الكتب
لهثت وراء العلوم سنين ، ككلب يشم روائح صيد
فيتبعها ، ثم يحتال حتى ينال سبيلاً إليها فيركض
ينقض
فلم يسعد العلم قلبي ، بل زادني حيرة واجفه
بكيت لها وارتجفت "
في هذا الجزء من بوح الإدانة يكشف الحلاج أمام قضاته أنه غير اتباعي ، لأنه وظف حواسه الخشنة (البصر) طلباً للبصيرة التجريبية ، تفعيلاً لتحصيله العقلي ، بعيداً عن التحصيل الاتباعي النقلي :
" وأحسست أني ضئيل كقطرة طل
كحبة رمل
ومنكسر تعس ، خائف مرتعد
فعلمي ما قادني قط للمعرفة "
غير أنه يراجع نفسه حول ما أفادت من العلوم الطبيعية والتاريخية قديماً وحديثاً ؛ فيجد في نفسه قصوراً نحو معرفة سر الوجود من حيث البداية والنهاية :
" وهبني عرفت تضاريس هذا الوجود ..
فكيف بعرفان سر الوجود ، ومقصدي
مبتدا أمره ، منتهاه "
ليس هذا هو بوح الحلاج محمولاً على أثير التاريخ موصولاً بنبرات شخصية مسرحية معاصرة مستلهمة من تاريخ (الحسين بن منصور الحلاج ) المتصوف العراقي من المرتبة الرابعة - وفق تصنيف الجنيد لمراتب المتصوفة - ، ولكنه بوح المثقف المعاصر المسكون بتاريخ ثقافة التمرد العربي ، الذي هو صلاح عبد الصبور نفسه والذي هو أحمد عبد المعطي حجازي ، ومحمد عفيفي مطر ، وأمل دنقل ، بل كل مثقف عربي حقيقي ، فما من مثقف حقيقي ، إلاّ وانغرزت جذوره في طين المعرفة التراثية المظنونة وامتدت فروعه عبر أثير المعارف اليقينية المتجددة ، وما من مثقف حقيقي ، إلاّ وتأرجح ما بين الشك واليقين ؛ وما من أحد إلاّ وطالته حيرة المثقف ، مثلما طالت الحلاج :
" الحلاج : سألت الشيوخ ، فقيل
تقرب إلى الله ، صل ليرفع عنك الضلال ..
صل لتسعد
وكنت نسيت الصلاة ، فصليت لله رب المنون
ورب الحياة ورب القدر
وكان هواء المخافة يصفر في أعظمي ويئز
كريح الفلا .. وأنا ساجد راكع أتعبد
فأدركت أني أعبد خوفي ، لا الله ..
كنت به مشركاً لا موحد
وكان إلهي خوفي
وصليت أطمع في جنته
ليختال في مقلتي خيال القصور ذوات القباب
واسمع وسوسة الحلي ، همس خرير الثياب
أني أبيع صلاتي إلى الله
فلو أتقنت صنعة الصلوات لزاد الثمن
وكنت به مشركاً ، لا موحد
وكان إلهي الطمع "
يجد خدم السلطة الحاكمة في أي مكان وزمان ، مثل هذا البوح الأمين والصادق مع النفس ، دليل اعتراف يؤخذ به صاحبه ، لذلك أخذ به من أخذ من المفكرين ومن المثقفين والمبدعين عبر تاريخنا المحكوم بالسلطة الفردية التي تزيّت أحياناً بأزياء التدين وبأزياء الديمقراطية واحترام الرأي الآخر، كما أخذ به الحلاج وعشرات المفكرين والمثقفين والمبدعين الشعراء على مر عصور الحكم الإسلامي العربي ؛ لمجرد أن وقع أحدهم في حيرة المثقف ؛ كما وقع الحلاج :
"الحلاج : وحير قلبي سؤال :
ترى قُدّر الشرك للكائنات
وإلاّ ، فكيف أصلي له وحده
وأخلى فؤادي مما عداه
لكي إنزع الخوف عن خاطري
لكي أطمئن .. "
ولكي يفض المثقف حيرته ؛ فهو يلقى بنفسه مختاراً في قارب فكري ما يسبح به مع راكبيه ضد تيار الثقافة التقليدية المألوفة ، هكذا فعل الحلاج ؛ إذ اتخذ الحلولية قارب نجاة في بحر الحيرة الثقافي :
" الحلاج : كما يلتقي الشوق شوق الصحارى العظام
بشوق السحاب السخي
كذلك كان لقائي بشيخي
أبي العاص عمرو بن أحمد ، قدس تربته ربه
يحب النوال
ويعطي ، فيبتل صخر الفؤاد
ويعطي ، فتندى العروق ويلمع فيها اليقين
ويعطي ، فيخضر غصني
ويعطي ، فيزهر نطقي وظني
ويخلع عني ثيابي ، ويلبسني خرقة العارفين
يقول هو الحب ، سر النجاة ، تعشّق تفز
وتفنى بذات حبيبك ، تصبح أنت المصلي ،
وأنت الصلاه
وأنت الديانة والرب والمسجد
تعشقت حتى عشقت ، تخيلت حتى رأيت
رأيت حبيبي ، وأتحفني بكمال الجمال ،
جمال الكمال
فأتحفته بكمال المحبة
وأفنيت نفسي فيه
أبو عمر : صمتاً : هذا كفر بيّن "
وكما لا يفلت الحلاج من الإدانة ، لم يفلت مفكر طليعي أو مبدع أو شاعر من إدانة ما ، لابد وأن تصمه بها السلطة الفردية بكل مستوياتها . ولئن وجد مفكر متهم من قبل نظام الحكم الفردي ؛ منصفاً ؛ يضع القول في سياقه ويفهمه في إطار سياقه النصي والفكري ، دون أن يأخذ صاحبه بظاهر القول ؛ فإن ذلك لا يحول دون تصفيته تصفية جسدية باسم الشرع ، أو باسم القانون ، أو حبسه به – على أقل تقدير - ؛ فالمبدع متهم بإبداعه ، بوصفه ضلالة :
" ابن سريج : بل هذا حال من أحوال الصوفية
لا يدخل في تقدير محاكمنا
أمر بين العبد وربه
لا يقضي فيه إلاّ الله
لنسأله عن تهمة تحريض العامة
فلهذا أوقفه السلطان هنا
هل أفسدت العامة يا حلاج ؟ "
لا يستطيع صاحب اعتقاد صادق ، أن يخلي بين إجاباته عما يطرحه عليه قاض ما ، حالة توقيفه أمام محكمة ما ومعتقداته لذلك ينطق الحلاج بما هو ضروري ، إعلاناً لمعتقده وإعلاء لفكره :
"الحلاج : لا يفسد أمر العامة إلاّ السلطان الفاسد
يستعبدهم ويجوعهم "
هذا اتهام للسلطان ، أي سلطان . وهنا يسرع القاضي بتضييق الخناق عليه للحصول على اعتراف محدد ، لذلك يصوغ سؤال اتهام محدد ، يستلزم إجابة محددة :
" ابن سليمان : يعني هل كنت تحض على عصيان الحكام ؟ "
لو كان العامة في مصر ، في ظل نظام الستينيات مستعبدين وجوعى ، لصودرت هذه المسرحية ، ولكن لحسن حظ المثقف العربي بشكل خاص والمسرحيين بخاصة ، أن ثورة يوليو 1952 لم تكن تضيق اقتصادياً واجتماعياًَ على الفئات الدنيا من الطبقات الشعبية ، ولن يشفع للشاعر صلاح عبد الصبور – عندئذٍ- أن يراوغ بلسان الحلاج في إجابته عن السؤال المصيدة الذي طرحه عليه (ابن سليمان) ؛ ليتمكن الحلاج من الدوران الإطاري حول السؤال؛ المصيدة :
" الحلاج : بل كنت أحض على طاعة رب الحكام
برأ الله الدنيا أحكاماً ونظاماً
فلماذا اضطربت ، واختل الإحكام ؟
خلق الإنسان على صورته في أحسن تقويم
فلماذا رُدّ إلى درك الأنعام ؟ "
لا يستطيع مفكر متمرد على منظومة الحكم الاستبدادي أن يفلت من قبضة زبانية الحكم وخدّامه الشرعيين من ناحية والقانونيين من ناحية أخرى مهما حاول المراوغة ، أو المناورة . والحلاج هنا وإن راغ فإن مراوغته ليست تراجعاً منه عن عزمه على نيل الشهادة على أيدي جلاديه :
" أبو عمر : ماذا يعني هذا الشيخ ؟
هل هذا أيضاً من أحوال الصوفية ؟
أم يستخفي خلف الألفاظ المشتبهة
كي يخفي وجه جريمته الشنعاء ؟ "
ليس غريباً أن يظهر القاضي ظهوراً غير حيادي في ظل الأنظمة الفردية الاستبدادية متشحة بأوشحة الشرع أو الشرعية (الدين أو القانون الوضعي) ، مع أن الدين والدين الإسلامي بخاصة ، لم ينص في القرآن على عقوبة دنيوية سوى في مواجهة إتهام ثابت لجريمة من الجرائم الخمس الآتية : (القتل – السرقة - الزنا – قذف المحصنات – الحرابة "قطع الطريق على الآمنين" ) ، إلاّ أن حكم قضاة المحكمة الإسلامية الشرعية في بغداد ، حكمت بقرار من قاضيين اثنين أحدهما مالكي والثاني حنفي بعد أن انسحب القاضي الثالث وهو شافعي معترضاً على سير المحاكمة في اتجاه إدانة الحلاج بكل سبيل . ومن خبيث فعل أذناب أي نظام استبدادي لهم وظائف شرعية تقوم على تطبيق الحدود الشرعية في قضائهم بين من حكموا في أمر من أمورهم وفق النص القرآني ، ما نجده عند ذلك القاضي الفاسد ، الذي وظف نفسه باسم الشرع قاضياً بما قضى ، واضعاً منطوق حكمه على ألسنة مجموعة من فقراء الحرف المتدنية فور انتهائه من استخلاص إدانة الحلاج من مجمل ما قال به الشبلي في شهادته :
" (يلتفت أبو عمر إلى جمع الفقراء)
أبو عمر : ما رأيكمو يا أهل الإسلام
فيمن يتحدث أن الله تجلىّ له
أم أن الله يحلّ بجسده ؟
المجموعة : كافر .. كافر
أبو عمر : بم تجزونه ؟
المجموعة : يقتل ، يقتل
أبو عمر : دمه في رقبتكم ..؟
المجموعة : دمه في رقبتنا
أبو عمر : والآن .. امضوا ، وامشوا في الأسواق
طوفوا بالساحات وبالخانات
وقفوا في منعطفات الطرقات
لتقولوا ما شهدت أعينكم
قد كان حديث الحلاج عن الفقر قناعاً ،
يخفي كفره
لكن "الشبلي" صاحبه قد كشّف سره
فغضبتم لله ، وانفذتم أمره
وحملتم دمه في الأعناق
وأمرتم أن يقتل
ويصلّب في جذع الشجرة
الدولة لم تحكم
بل نحن قضاة الدولة لم نحكم
أنتم ..
حُكمتم ، فحكمتم
فامضوا ، قولوا للعامة
العامة قد حاكمت الحلاج امضوا ..
امضوا .. امضوا "
هكذا ينفذ القاضي املاء رأس النظام الاستبدادي الذي نص عليه في رسالته للمحكمة في أثناء سير جلستها **** :
" أبو عمر : (وهو ينظر في الخطاب)
إن الدولة قد سامحت الحلاج
فيما نسب إليه ، وتثبت منه السلطان
من تحريض العامة والغوغاء على الإفساد
وعفت عنه عفواً كلياً لا رجعة فيه "
" لكن وزير القصر يضيف :
"هبنا أغفلنا حق السلطان ..
ما نصنع في حق الله
فلقد أنبئنا أن الحلاج
يروي أن الله يحل به ، أو ما شاء له الشيطان
من أوهام وضلالات
ولهذا أرجو لو يسأل في دعواه الزنديقية
فالوالي قد يعفو عمن يجرم في حقه
لكن لا يعفو عمن يجرم في حق الله "
ابن سليمان : هذا أيضاً حق
ابن سريج : بل هذا مكر خادع
فلقد أحكمتم حبل الموت
لكن خفتم أن تحيا ذكراه
فأردتم أن تمحوها
بل خفتم سخط العامة ممن أسمع أصواتهم
من هذا المجلس
فأردتم أن تعطوه لهم مسفوك الدم
مسفوك السمعة والاسم
يا حلاج ...
هل تؤمن بالله ؟
الحلاج : هو خالقنا وإليه نعود
ابن سريج : هذا يكفي كي يثبت إيمانه
أبو عمر : يا بن سريج
إني لا أبحث في إيمانه
بل في كيفية إيمانه
ابن سريج : كيفية إيمانه ..؟
هل تبغي أن تنبش في قلبه
هل هذا من حق الوالي
أم من حق الله ؟
أبو عمر : هذا من حق قضاة الشرع
ابن سريج : لا ، بل هذا من حق الله
فأنا لا أجرؤ أن أسأل رجلاً عن إيمانه
فإذا شئتم أن تمضوا في هذا الإثم ..
أبو عمر : سنمضي يا ابن سريج
ابن سريج : فأنا استعفي من مجلسكم *****
أبو عمر : هذا لك يابن سريج "

فكرة المخلص (المستبد العادل) :
لم تفارق فكرة المخلص (المستبد العادل) رأس أحد من مفكري الإسلام – لا في التاريخ القديم ولا في التاريخ المعاصر - .
" الحلاج : لا أملك إلاّ أن أتحدث
ولتنقل كلماتي الريح السواحه
ولأثبتها في الأوراق شهادة إنسان من أهل الرؤية
فلعل فؤاداً ظمآناً من أفئدة وجوه الأمة
يستعذب هذي الكلمات
فيخوض بها في الطرقات
يرعاها إن ولي الأمر
ويزاوج بين القدرة والفكرة
ويزاوج بين الحكمة والفعل "
هكذا كان جهد الحلاج جهد المصلح الديني – لا أكثر – وهكذا صوره صلاح عبد الصبور ، تفكيكاً لخطاب المصلح الديني الذي حفظ عن ظهر قلب (نظرية الكل في واحد – نظرية المستبد العادل) .



التعبير الدرامي الشعري ومستويات السرد والتشخيص
بين التسلط والإذعان التاريخي

لا يخلو بناء مسرحي من تقنية السرد سواء أكان سرداً حوارياً على ألسنة الشخصيات الدرامية أم على لسان مجموعة الكورس أو على لسان الراوية . أو كان سرداً تشكيلياً أو سينوجرافياً أو بلغة الجسد أو سرداً تمثيلياً . وهنا يتشكل السرد في مستويات متنوعة ما بين سارد أول وسارد ضمني وسارد ثالث
وفي مسرحية (مسافر ليل) يلجأ الشاعر في التقديمة الدرامية إلى (السارد الضمني) – من خارج الحدث – ليحلل رحلة الإنسان عبر التاريخ تحليلاً إطارياً مكثفاً وتجريدياً ، على متن قطار الزمن ؛ وبذلك الخروج على مبعدة من الحدث نفسه ، يحقق الهدف التنويري من خارج الحدث ، بوصفه مثقفاً طليعياً يعمل على خلق توعية طبقية لدى الغالبية التي ترمز إليها شخصية الراكب باعتبارها المحكومة بعامل التذاكر بوصفه رمزاً للحاكم فالشاعر يستعرض عبر مستويات ثلاثة المسيرة التاريخية للحاكم المتسلط بالحكي – التصويري- على لسان (السارد الضمني) : الراوي مرة وعلى لسان عامل التذاكر (السارد الثالث) - تشخيصاً - يعيد فيه فعل التسلط ومتداعياته أو يحكي بعضه منتحلاً صفة السارد الثاني في مرة أخرى وعلى لسان الراكب تشخيصاً – نفسياًَ- يعيد فيه فعل الإذعان مرة أو يحكي بعضه منتحلاً صفة السارد الضمني في مرة أخرى :
"الراوي : هاهو ذا يتململ سأمانا
إذ لا تستهويه اللعبة
فيجرب أن يلعب في ذاكرته
يستخرج منها تذكارات مطفأة ، ويحاول أن يجلوها
أسفا ، لا تلمع تذكاراته
يدرك عندئذ أن حياته
كانت لا لون لها
يسقط من عينيه أيامه
تتبدد دواماتٍ فوق حديد الأرضية
لا تتكسّر قطعاً وشظايا
إذ ليس هنالك شيء صلب
تراك .. تراك .. تراك
يتذكر مسبحته
يستخرج من جيب السروال الأيمن
تهوي من يده ، يتفقدها بأصابعه ،
فتروغ لترقد بين الكرسيين
يجهد أن ينقذها ، فتغوص .. تغوص .. تغوص ..
ويظل يفتش حتى تتناثر سبحته حبات
تتساقط فوق حديد الأرضية
تراك .. تراك .. تراك "
لأن السارد يمثل ما تراه الشخصية فحسب كما لو كان ينظر عبر عينيها أو كما لو كان "شاهداً غير منظور" يقف إلى جانبها السرد بوساطة المؤلف أو بوساطة الشخص الأول " ولأن السارد الضمني الراوي يقوم مقام الشاعر لذا يتكشف الدور التنويري تلميحاً ، لا ينفصل عن طبيعة التصوير الشعري ؛ على اعتبار أن الشعر "لمحٌ تكفي إشارته" – حسبما قال البحتري-، وحيث يستشف ما وراء الصورة من معانٍ أو دلالات. هنا – يمكننا أن نلمح بمنظور نظرية الانعكاس وعلى ضوء مصباح سيميولوجي خصوصية الشاعر نفسه .
من وراء غيم المعاني في عرض السارد الضمني (الراوي) فاللعب في الذاكرة ، لا يفيد من خوت حصّالة ذاكرته من تسجيل مادي لأفعال مجسدة لهويته . فعندما لا يكون للإنسان تاريخ مادي ملموس هو موضع تأثير إيجابي في واقع الآخرين ؛ قبل أن يكون مؤثراً في واقعه الذاتي ؛ فإنه يلوذ بمظاهر شكلية ، يتمسح بها . وهكذا يلوذ الراكب بمظهر تديّني .. بعد أن أدرك (أن حياته كانت لا لون لها) وهو يسترجع شريط ذكرياته عبر رحلة إذعانه التاريخية التي سيّرها الحكام المتسلطون باعتباره رمزاً لعامة الناس (المحكومين) على مر التاريخ ؛ ذلك أن الذاكرة هي القدرة على التمثل الانتقائي Selectively represent وفي واحدة أو أكثر من منظومات الذاكرة للمعلومات التي تميز بشكل فريد خبرة معينة ، الاحتفاظ بتلك المعلومات بطريقة منظمة في بنية الذاكرة الحالية وإعادة إنتاج بعض أو كل هذه المعلومات في زمن معين بالمستقبل وذلك تحت ظروف أو شروط محددة "
فعندما يكون التدين شكلياً وسطحياً (ظاهرياً) ؛ فإن ما وراء المظهر نفسه يروغ منه وينفلت . ولنلحظ لفظة (جيب سروال الأيمن) فمظهر تدينه في جيب سرواله ، وهو يخرجه عند الحاجة أو عند الفراغ في محاولة تبريره لخواء حياته من فعل مادي إيجابي له في حياته الإنسانية ، بالانتساب إلى مفردة من مفردات الاتباعية الدينية – باعتبار فكرة "اليمين" فكرة تدينية – وباعتبار " المسبحة " وسيلة ضبط إحصائي لطقس التسبيح والحمد – الذي ينسب فاعله إلى اليمين (الفكر الاتباعي) .
فاستخدام المسبحة أداة قياس وإحصاء عددي لأقوال الحمد وآلية ترديداتها ، وهنا يحل ظل التعبد محل العبادة مثلما تحل خصلة من شعر الحبيبة محل الحبيبة نفسها – وفق الفشتية – على أن خصوصية ما كامنة في آلية استدعاء الشخصية للحظة ، حيث يمد السارد الضمني الصورة المستعادة بخيوط الطقس التراثي ؛ لخلق لحظة لم تكن قائمة من قبل ، مع إنها الابن الشرعي لماضي شخصية الراكب – بتعبير صلاح عبد الصبور نفسه - إلى جانب كونها بمثابة الابن الشرعي للمستقبل .. فاستدعاء الراكب التجريبي لمذخور ذاكرته ، وليد حالة السأم التي انتابته – حسبما أشار السارد الأول - :
"هاهو ذا يتململ سأمانا
إذ تستهويه اللعبة
فيجرب أن يلعب في ذاكرته
يستخرج منها تذكارات مطفأة ، ويحاول أن يجلوها "

المسكوت عنه في اللحظة الدرامية المختزلة :
وعندما يتكشف خواء تلك الذاكرة وبهتان ما حوته يمده (السارد الضمني الراوي / الشاعر نفسه) بلحظة مختزلة ، إذ تمتد يد الراكب إلى الجيب الأمن لسرواله – الأيمن تحديداً – ليخرج منه شيئاً لا يخرج إلاّ من الجيب الأيمن – المسكوت عنه - وهنا يوظف التداعي التلقائي المدرب للاثنين : (السارد الضمني/ الراوي / الشاعر) و( السارد الثاني / الراكب) الذي يعاد تصوير فعله بالسرد التشكيلي عبر ذهن السارد الضمني وعبر ذهن المتلقي فور تلقيه للصورة على لسان (السارد الضمني) فيكفينا أن نلحظ ما وراء ذلك التداعي التلقائي المدرب حيث تمتد يمين الراكب إلى الجيب الأيمن في سرواله ليخرج لا إرادياً مسبحته . وما وراء فعله – المسكوت عنه- يشكل نواياه المستقبلية وهي الهجوع إلى الإذعان والتسليم : فالسأم إذاً سلمه للعب في ذاكرته ؛ وخواء ذاكرته من أي شيء إيجابي يعتز هو نفسه به ، يسلمه إلى مخزون طقسي تراثي هو ظل من فعل العبادة.
ولأن الصورة الفنية (الدرامية الشعرية) تتدعم بتداعيات صور أخرى سريعاً ما تتوالد عبر اللحظة المختزلة ؛ لإعادة إنتاج الفعل وصور توالده وتداعياته التي يحكم الشاعر الإمساك بزمامها حتى لا تسقط المغزى التنويري الذي حمّلها به ، بغية الإشارة إلى مظهرية فعله التديّني:
" تهوي من يده ، يتفقدها بأصابعه ،
فتروغ لترقد بين الكرسيين
يجهد أن ينقذها ، فتغوص ، تغوص ، تغوص
ويظل يفتش حتى تتناثر سبحته حبات
تتساقط فوق حديد الأرضية
تراك .. تراك .. تراك "
هكذا تحل آلية المقطع الصوتي لسقوط حبات المسبحة على حديد الأرضية بديلاً عن وحدة صوته المتكررة فيما لو كان قد تمكن من استعمال مسبحته في آلية تكرار جملة التكبير أو الحمد ، لتأكيد مظهرية تدينه ، أو شكليته ، لأنه ما لجأ إلى طقس التسبيح ، وإنما إلى مجرد التلهي بآلية تفض عزلته وتوتره ، وتشعره بالصحبة ، حيث أراد باتخاذ المسبحة رفيق ظل في رحلته . ولكن الشاعر – هنا – يحرمه من تلك النغمة ، مع إنها مجرد ظل رفقة .
وهنا تعمل التداعيات مع التفاصيل (منمنمات الصورة) على منح الصورة لوناً خاصاً بها يمنحها هويتها .. فالشغل على تفاصيل الصورة هو الذي يقودنا إلى سر الصنعة في الشعر والمسرح بتعبير صلاح عبد الصبور
يعتمد صلاح عبد الصبور هنا على حدث يقوم على ثلاثة محاور : (محور معرفي ومحور ثقافي اجتماعي ومحور تشكيلي) ولأن الموقف هنا تأسس على التجريد وإلقاء عبء تجميع مفردات أو جزئيات الصورة ، بهدف خلق حالة مشاركة إدراكية فحسب ، لذلك ألقى بعبء حمل خطاب الحكي على عاتق (السارد الضمني/ الراوي) نائباً عنه ومن ثم لم يصبح هنا مجال للمحور الوجداني.
يقول د.ماهر شفيق فريد في زجره لناقدي إبداع إليوت في تجريده لشخصياته المسرحية : "إن الفن إعادة خلق وليس عملية تسجيل والشخصية الحية في الفن ليست هي التي تتصرف وفق المنطق الحياتي ، وإنما هي التي تتصرف وفق المنطق الفني وحسب قوانين الحتمية الفنية "
يقول د. مصطفى سويف : " إن الشاعر لا يغير ذكرياته ؛ ولكنها تعود إليه متغيرة – وهو لا يقصد إلى وصف الوقائع من حوله بأوصاف جديدة ، لكنها هي التي تأتي حاملة هذه الأوصاف "
وإذا كانت شخصيات مسرحيات صلاح عبد الصبور الشعرية – فيما عدا (ليلى والمجنون) تبدو على مبعدة من أمور الحياة اليومية ومن الرسالة الاجتماعية الواضحة . مع ميل إلى أناقة الفكر والتعبير ، فذلك لكونه صاحب رؤيا خاصة للوجود ، رؤيا شعرية اختارت لنفسها قالباً درامياً . هو كما كان إليوت معنياً بقالب درامي شعري " تتحالف فيه الاهتمامات الإنسانية مع براعة الصنعة ، كي تنتج – في نهاية المطاف – أثراً كلياً لا يختلف ، من حيث الجوهر ، عن الأثر الكلي الذي تخلقه القصيدة أو القصة في نفس متلقيها "
فشخصية الراوي – بوصفه سارداً ضمنياً - تبني اهتمامات الشاعر الإنسانية بخلق حالة تحالف بين ما ينتجه ذهن الراكب من تهويمات ذاكرة البشرية عبر تاريخها الممتد من بذرة الفكر الفلسفي الأرسطي إلى آلة الحرب والدمار بداية من تلميذه الإسكندر حتى الواقع البشري المعاصر فمع أن الراوي وهو السارد الضمني التاريخي ، يحذر الراكب من استدعاء عظيم من العظماء عبر ذاكرته ، حتى لا يسيطر بعظمته من جديد على البسطاء ، بعد أن رآه وقد توقف عند أسماء محاربين طغاة ومحاربين وقادة عظماء وهو يقرأ أسماءهم على صفحة من جلد الغزال أخرجها من معطفه ، بعد أن انفرطت حبات مسبحة تسليته وتبعثرت ؛ غير أن الراكب لم يأبه لتحذير الراوي الضمني - رب العبرة التاريخية - :
" الراكب : الاسكندر
" تك .. تك .. تك "
هانيبال
" تك .. تك .. تك "
تيمور لنك
" تك .. تك .. تك "
هتلر .. متلر .. جونسون .. مونسون
" تك .. تك .. تك "
الاسكندر .. الاسكندر .. الاسكندر
الراوي : معذرة .. لا ينفصل الإنسان عن اسمه
فالعظماء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرة التاريخ
لتسيطر عظمتهم فوق البسطاء
والبسطاء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرتك
ليكونوا متنزه أقدام العظماء
ولذلك خير أن ننسى الماضي
حتى لا يحيا في المستقبل
حتى لا يخدعنا التاريخ
ويكرر نفسه
الراكب : الاسكندر .. تك .. تك .. تك
الاسكندر .. تك .. تك .. تك
إن مناداة الراكب للإسكندر هي مناداة استدعاء غير المحكوم لمن يحكمه ولأنه نادى الإسكندر على وجه الخصوص وهو من هو الغازي الذي يغزو الممالك والأمم مستخدماً الفكرة سلاحاً يقتل به كل من وقف في طريق طموحاته غير المحدودة . لذلك يتشكل الإسكندر أمام عينيه من أي عابر سبيل ، في درب من دروب أي عصر في أي مكان له طموحات سكندرية :
" عامل التذاكر : من يصرخ باسمي ، من يدعوني
من أزعج نومي في راوية العربة
أنت .. ؟
الراكب : معذرة .. من أنت ؟
عامل التذاكر : أنا الإسكندر
في صغري روضت المهر الجامح
في ميعة عمري روضت أرسطاليس
حين بلغت شبابي روضت العالم. "
هذا التصريح صوغ من عقل الشاعر نفسه ، إذ قلب المعلومة التاريخية رأساً على عقب لما رأى الدعوة الأرسطية نحو عولمة ثقافية تحت راية الفكر اليوناني وهي أول عولمة ثقافية في التاريخ وقد حولها الإسكندر إلى عولمة عسكرية اقتصادية ، إذ استبدل الغزو الفكري والثقافي بالغزو العسكري وسيادة العقل بسيادة السيف . وهي سيادة لم تكن لتتحقق لمغامر مستعمر ومتسلط ، دون خنوع جعل من خده مداساً لقدمه ؛ أو مظهر متراخ يأخذ الأمر باستهتار وتهكم ؛ فكلاهما مدخل للتسلط :
" الراكب : مرحى يا اسكندر .. هل أكثرت من الشرب "
هذا العبث غير المسؤول للتسلية أو لاصطناع رفقة مع مسبحة لا تستجيب له ، سريعاً ما يتحول عنها إلى لون آخر من العبث الحقيقي ، مع كائن وظيفي أي صاحب سلطة ؛ فإذا بالعبث يتحول إلى حقيقة :
"عامل التذاكر: لا تعرف قدري .. يا جاهل
قسماً ، سأروضك كما روضت المهر الجامح "
إن فصل البناء الدرامي في هذه المسرحية بين الفعل القولي أو المسموع (حوار الراكب وحوار عامل التذاكر) والفعل المرئي (الوصف السردي للفعل التطبيقي المرئي المادي في حكي الراوي وهو الدال على تحقيق الأقوال) هو بمثابة فصل بين الشعار وتطبيقاته ؛ فما أن يطلق (عامل التذاكر) تهديده ، حتى يصف لنا الراوي منظومة أفعاله تحقيقاًَ لقوله :
" الراوي : تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيمن
يستخرج سوطاً ملفوفاً
تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيسر
يستخرج خنجر
تمتد يد الإسكندر في ثنية سرواله
يستخرج غدارة
تمتد يد الإسكندر في حلقه
يستخرج أنبوبة سم
تمتد يد الإسكندر في جيب خلفي
يخرج حبلاً ..
يتحسسه خجلاناً ، ويقول :
عامل التذاكر : هفواً .. هذا مات به أغلى أصحابي
أعطيت صديقي الحبل ليلعب به
فأساء استعماله "
حكي يستعيد صور إرهاب الحاكم الفردي المتسلط ، الغازي ، فكل الغزاة والعسكريون الحكام مختزلون في هذه المسرحية في شخص الإسكندر. ذلك الغازي الأول باسم العولمة الثقافية ، متشحاً براية الفكر تحت شعار توحيد العالم تحت راية الفكر اليوناني ، تتويجاً لفكر أرسطو ، سلباً لهويات ثقافات الأمم الأخرى ، فسرعان ما ينزع قناع الفكر ويتدرع بقناع القهر المسلح؛ في مواجهة الآخر غير الخانع ، حتى إذا كان تابعه وأداة تحقيق إرادته وأقرب المقربين إليه؛ وهو يصفيه تصفية جسدية ثم يعلن على الملأ عبر وسائله الإعلامية بأن الرجل قد انتحر – بعد انتهاء مهمته- :
"هل تدري ؟
كلماتي في معناه صارت من مذخور التاريخ الأدبي
لم أكتبها ، لكني شاهدت وزيري يكتبها
وصرفت له خبزاً ونبيذاً ، حتى أنهاها
حتى علمني أن ألقيها إلقاء مأساوياً
يخضع لأصول النحو
فأنا أخطئ دوماً في الفاعل والمفعول "
هكذا يمسك الشاعر بطرف حبل التداعيات ، يرخى للصورة بالقدر الذي لا يسمح لمفردات التكوين في التعبير الدرامي الشعري بالانفلات أو التشتت الذهني للمتلقي . وتلك خاصية من خصائص سر الصنعة عند صلاح عبد الصبور تشير إلى بعد من أهم أبعاد العملية الإبداعية وهو السيطرة على السياق والإمساك بالجزئيات والتحليق فوق أسوار الكل بما يسمح بالتنقل بين الكل والأجزاء بشكل ديالكتيكي وبما يسمح بالنمو المتصاعد للعمل الإبداعي وللمبدع أيضاً، فالمبدع ينمو مع عمله ويكتسب خصائص هذا العمل "
لذلك لا نتشتت ذهنياً عندما ينتقل في تخلص درامي وجمالي من وصفه لحال صديقه الذي أعطاه المسؤولية (الحبل) فشنق بها نفسه ، إلى استعراضه الموجز لتاريخ حبل السلطة ودور وزيره في تمجيدها وتدريبه على إلقائها . والتأريخ لها في مقابل خبزه ونبيذه (ببطنه) وصولاً إلى طمع ذلك الوزير في ولاية ثمناً لأداء وظيفته :
" حتى علمني أن ألقيها إلقاء مأساوياً
يخضع لأصول النحو
فأنا أخطئ دوماً في الفاعل والمفعول
كان وزيري طماعاً ، إذ طالبني بولاية
ثمناً لدخول التاريخ ككاتب
فوهبت وزيري الأرض بأكملها كي يرقد فيها "

ليس الفاعل والمفعول هنا سوى الجاني والمجني عليه . إن الاستعارة والكناية وألوان التورية المجازية تصنع المسكوت عنه في التعبير الدرامي الشعري والنثري ، لذلك لا جب فهم الصورة الإبداعية من ظاهر القول . يقول الشاعر الأمريكي إدجار ألن بو : " يوجد في كل التعليقات المكتوبة عن شكسبير خطأ جذري لم يفطن إليه أحد . إنه يتمثل في محاولة شرح شخصياته لا على أساس أنها من صوغ العقل الإنساني ، وإنما على أساس أنها موجودات فعلية على وجه الأرض "
لا يستغرق فهم طبيعة فعل الحاكم الفرد المتسلط الكثير من التفكير مع اختزال الشاعر لأبعاد الشخصية ، حيث لا نكاد نرى ملمحاً واحداً من ملامح بعده الجسمي أو الاجتماعي أو النفسي، وإذا كان رسم الشخصية النمطية رسماً تجريدياً وفق ما جرى عليه مخططات الاتجاه الحداثي في إبداعاته التفكيكية ، وهنا يتبين لنا دور المؤلف الشاعر في تمليك شخصياته خبراته هو نفسه ، ومعارفه ، بحقنها في دماء تلك الشخصيات ، بوصفها من خلقه وصلاح عبد الصبور هنا ، إذ يتستر خلف (الراوي) ويجعله خليفته على كون خليقته إذ يقعده على عرش المستوى السردي الأول ، فإنه يملكه أمر كشف تاريخ حاضر شخصياته الرمزية (الراكب) و(عامل التذاكر) بوصفهما شخصيتين رمزيتين ، وكشف مبكر لفعلها المستقبلي ، فيما هو أقرب إلى مخطط أو دراسة جدوى تشخيصية لفعلها القادم قبل أن يقوم أحدها بإعادة إنتاجه امامنا . فالراكب وعامل التذاكر كلاهما لا يمتلك أي منهما تاريخاً ، سابقاً ، لذلك رأينا " "أنا " : الراوي " لما رغبت في التقاء الآخرين سعت إلى الالتجاء تحت رعاية الـ "هو" (المؤلف) أي تحت رعاية نظام رموز ممتلئ ، حيث الوجود ، لا يتداخل والعلامة وبالمقابل فإن ظلاً من الماضي يتخلل حُبسة الناقد إزاء الـ (أنا) "
هكذا التقت (أنا) : (الراكب) السارد الثالث – تشخيصاً تشكيلياً سردياً – بـ(هو) : (الراوي / السارد الأول) وكذلك فعلت (الأنا) عامل التذاكر المتوالدة أو المتشظية في أنوات متعددة ومتباينة – تشخيصاً سردياً تشكيلياً – وبذلك أصبحت للراكب طبيعته الخانعة تبعاً لجموده في درجته على السلم الاجتماعي ، بينما تملك شخصية (عامل التذاكر) صوراً متعددة للحاكم الفرد المتسلط المستعبد لتلك (الأنا) الخانعة الرابضة في موقعها الطبقي الساكن .
يجرنا هذا التأويل إلى القول مع رولان بارت أن : " الناقد هو من سعى إلى الكتابة ، والذي يملي انتظار عمل أدبي إضافي ، يصاغ خلال البحث عن ذاته . وتكمن مهمته في إكمال مشروع الكتابة ، ومتجنباً إيّاه في الآن ذاته . الناقد كاتب إنما حتى إشعار آخر "
ولأن " الناقد كما الكاتب ، يتمنى من القراء أن يثقوا ويوقنوا أكثر بقراره الذي اتخذه بالكتابة ، ولا يسعه أن يوقّع هذا التمني ، عكس الكاتب ، لذا يبقى محكوماً بالخطأ – وبالحقيقة "
لذا أثنّي على ما سبق لي قوله حول تأثر شخصيات صلاح عبد الصبور بالظواهرية الهيجيلية، حيث " تبدو الظواهرية الهيجيلية في محاولات شخصيات صلاح عبد الصبور لصنع هويتها ، حيث يسطع فكرها سطوعاً جدلياً على الواقع ، ومن ثم يرتد إلى الشخصية كما هو ، لأنه لا يجد في الواقع إلاّ صوراً ذهنية . وهو في رحلة سطوعه على ذلك الواقع لا يطور فيع فعلاً ولكنه ينمي الفكر فحسب ، ويطور العقل . من ثم فإن تحقيق الهوية لا يتمثل عندها إلاّ تمثلاً ذهنياً ، ومن ثم يكون التغيير الذي يمكن حدوثه تغيراً فكرياً فحسب ، وبدا تحقيق محاولاتها للهوية الفكرية المتمثلة في ذهن الكاتب "
هكذا كان (الحلاج) في محاولاته التفاعل المادي للثائر مع العامة ، فالوعي الذي ينقله إلى العامة وعي ذهني . وهكذا كان (الملك) حتى موته غير قادر على المستوى الواقعي على التفاعل المادي للمغازل ؛ فالشاعر يلقنه الغزليات تلقيناً ؛ كما يلقن جواريه :
" الشاعر : معذرة يا مولاي
لكني لقنت الأخرى كلمات مبتكرة
قد ترضي رغبتك الملكية "
"الشاعر : (ملقناً الملك في صوت خفيض)
يتنزل صوتك مثل رنين الجرس الفضي المتفرد ،
يتقطر من برج متشح بمروج الغيم الزرقاء "
" ليس للملك من فعل الغزل إلاّ ظله ، فهو ليس مغازلاً على مستوى قدراته الذاتية الواقعية ، إنما يكرر صورة المغازل التي لم تكن سوى صورة متخيلة في ذهن شخصية الشاعر "
وكذلك الأمر مع جواري الملك :
" الشاعر : لا .. لا .. قد ضاع المشهد . نسيت هذه المرأة أجمل ما فيه
سامحني يا مولاي
(للمرأة) مازال هناك حديث عن قيثارة حنجرتك
والأوتار تناشد مولانا أن يلمسها بأصابعه النورانية
مازال هناك حديث عن إغماضة عينيك
وأنت تغنين لمولانا عندئذٍ
إنك تحترقين شوقاً أن يرقد مولانا
في دفء الأمواج العسلية
وأخيراً كان جلالته سيقول :
خطواتك كالموسيقى إذ تتوافق في ذهن الفنان
عندئذ ستقولين :
بعثر هذي الأنغام على سلم رغبتك الملكية
وبصوت يتقطع آهات في حلقك
الملك : آه .. ما اتعس حظي
راقت لي الألفاظ كثيراً هذه المرة
لكن نسيتها . "
" الملك لا يؤدي بأحاسيسه هو ، ولا المرأة الثانية تفعل ذلك "
ليس للملك ولا لجواريه من الغزلية غير اللفظ ، فالـ(أنا) الشاعرة تمنحه صورة بالخطاب الغزلي ومضمونه دون أحاسيسها ، ولأنه ظل مغازل ، لذلك غابت عن اللفظ الأحاسيس ؛ ومن ثم غابت المصداقية وافتقدت الخصوصية .
والأمر نفسه عند الأميرة ووصيفاتها ؛ إذ ليس لها ، ولا لوصيفاتها غير ظل الفعل ، باجترار ذكريات فعل مضى وانقضى ، بإعادة إنتاجه ، ليخرج تشخيصاً لظل حبيبها الذي هجرها ، وظل أبيها المغدور من ذلك الحبيب الغادر (السمندل) حتى الشاعر الذي جاء مخلصاً (القرندل) هو أيضاً ثائر ظليّ لأنه أتى من حيث المجهول ، ومضى في غياهب المجهول ، كما لو كانت الأرض قد انشقت عنه فجأة أو هبط من السماوات العلى فبدا كمخلص وهمي ، أو غيبي .
لذلك يمكن القول إن صلاح عبد الصبور ، قد صنع شخصياته المسرحية ظلالاً لواقع سحري، واقع لا يشبه الواقع الحياتي . ذلك أن "الشعر عندما ينأى بعيداً عن إيقاع لغة الحياة ومصطلحاتها الجارية ، يفقد حيويته ، لذا فهو يميل إلى تقطير لعنته الخاصة من لغة الكلام العام المعتاد "
يقول إليوت : " إن كاتب الدراما الشعرية ، ليس مجرد إنسان ماهر ، في فنين اثنين ، وحاذق في أن ينسجها معاًَ . وهو ليس الكاتب الذي يستطيع أن يزخرف مسرحيته باللغة الشعرية والأوزان وإنما عمله يختلف عن عمل (الكاب المسرحي وعمل الشاعر) لأن نموذجه أكثر تعقيداً ، وأكثر أبعاداً .. بكل قواعد الدراما البسيطة الصريحة ، ولكنها تغزلها غزلاً عضوياً في تصميم خاص ، أكثر ثراء . "

كان الشعر ومازال مرتبطاً بمواقف رومنسية ، كما كان المسرح ومازال مرتبطاً بمواقف رومنسية ، ولئن جسد المسرح الشعري مواقف الحياة اليومية وفق تقنيات الواقعية أو وفق تقنيات التعبيرية والملحمية ؛ فقد جسد مسرح صلاح عبد الصبور الشعري شخصيات عبثية في مواقف عبثية وفق تقنيات مسرح العبث ، فكان ذلك فتحاً في مجال المسرح الشعري. فالتداعيات وعدم الترابط الفكري واللغوي والمقاربات أو المجاورات المعرفية المتواثبة وتجريد الشخصيات والمواقف والآلية والتكرار وسمات الحكي الناقص والتناقض فيما بين القول والفعل واستهداف الدهشة ، ماثلة في (مسافر ليل) ، وفي (الأميرة تنتظر) وفي (بعد أن يموت الملك) وهي حداثية تفكيكية ، تفكك النسق الاجتماعي والسياسي في واقع أنظمتنا السياسية ويفكك خطابها الديماجوجي وظاهرة تسلطها التاريخية على شعوبها ، كما يفكك خطاب استكانة الإنسان العربي وإذعانه المهين ، ويفكك دوره في صناعة حكامه المتسلطين على مدار تاريخه الطويل .

الهوامش :
التعبير المسرحي الشعري
بين التأمل الذاتي والانفتاح على المعنى
د.أبو الحسن سلاّم
 مهاد تأملي :
لعل من أهم خصائص الفكر في بنية الصورة الشعرية هو تقنع فكر الشاعر في خطابه الشعري بين طيات تعبيره بما ينطوي على نوع من البوح الذاتي المتأمل الذي ينفلت محمولاً على جناح وعي الشاعر أحياناً فيبدو مغلفاً بالمباشرة أو ينسرب من تحت جناح وعيه ليشف عن المسكوت عنه في سكتته الموضوعية في محراب الذاتية المتأملة – بما يشبه النقطة العمياء في مسار القصيد الشعري – وتلك مزية التفرد الشعري الذي يضيف إلى التجربة الشعرية مزية جديدة تشكل علامة فارقة بين شاعر وشاعر. غير أن تلك السكتة الموضوعية أمام الذاتية المتأملة التي تشف عن البوح الذاتي المتأمل وإن تناسبت مع شعر القصيدة فهي لا تتناسب على طول الخط مع الصياغة الدرامية بشعر المسرح ؛ إلاّ إذا ارتبط البوح التأملي الذاتي بشخصية مسرحية بعينها بما يتناسب مع أبعادها الاجتماعية والثقافية والنفسية وفي الحدود التي لا تستغرق من المتلقي للعرض المسرحي الشعري إلاّ زمن ترجمتها ترجمة معنوية فورية. والواقع يكشف عن استحالة ذلك في تلقي الصورة الشعرية حالة تبتلها التأملي الذاتي إذ أنها عندئذ تحتاج إلى زمنين أحدهما لفك شفرة الغلاف الذهني للصورة الشعرية في حوار الممثل (أولاً) تمهيداًَ للترجمة المعنوية لتلك الصورة من جملة تعبيرات الشخصية على لسان ممثلها (ثانياً) .. على اعتبار أن الأصل في عملية الإرسال والاستقبال في العرض المسرحي هو حالة الحضور الآني الذي يفترض ترجمة المتلقي الفورية لخطاب الشخصية المسرحية المحمول وجدانياً على لسان الممثل. وهو أمر يبدو متعذراً أمام الصورة الشعرية الدرامية المصطبغة بالتأملات الذاتية التي يشكل بوح الشخصية القناع الذي ينسرب من ورائه بوح الشاعر نفسه محمولاً على لسان فكر الشخصية . وهو أمر يلزم التلقي بكل مستوياته وطاقاته باستغراق زمنين وصولاً إلى معنى الخطاب الجزئي. أولهما: لفك شفرة الصورة المركبة من الصورة الذهنية إلى الصورة المعنوية ، وثانيهما: اكتشاف الدلالة طبقاً للمتوسطات القرائية (متوسطات التلقي) . وبذلك تفوّت عملية فك الشفرة الذهنية للصورة الشعرية الدرامية على المتلقي إمكان تحصيل حديث الممثل المتواصل الذي لا ينتظر الجمهور حتى يفك شفرة صورة شعرية صوتية انتهى من أدائها .
هذا البحث إذن معني بالوقوف عند إشكالية التعبير الشعري الدرامي عند تجسيده مسرحياً بحيث كان مفترضاً أن يكون تعبيراً درامياً شعرياً ، تبعاً لمقتضيات أسبقية الدراما على الشعر في النص المسرحي الشعري بحيث تصبح الدراما صاحبة العصمة على الشعر في الكتابة المسرحية الشعرية ، باعتبار الدراما تصويراً للفعل وليس تكريساً للصورة الشعرية على حساب الفعل – تبعاً للنظرية الأرسطية ولمتتابعاتها تحت مظلة المحاكاة أو مناقضاتها الإيجابية في حكي الدهشة التغريبية أو في حكي الدهشة العبثية السلبي.
على أن أسبقية الفعل في الدراما الشعرية على لغة الحوار الشعري لا يجب أن تطفيء وهج الطاقة الانفعالية لصالح الطاقة التأملية الفكرية ، وإنما توازن بينهما ، بما يتيح للفعل الدرامي المتجانس مع طبيعة الشخصية المسرحية فكراً وبيئة وثقافة متفردة أن يتحقق درامياً عبر سياق شاعري يتخذ من الشعر لغته ومن البواعث والعلاقات وعناصر التصوير الدرامي للحدث شاعريتها ليجسد هوية كل شخصية في النسيج الدرامي.

 البوح الذاتي المتأمل وإشكالية تلقي الصورة الذهنية :
تزخر مسرحيات صلاح عبد الصبور بوقفات البوح التي تقف عندها شخصياته وقفة اضطرارية لتنفث شحنة معاناة هنا وهناك مع تباين أسبابها . فإذا نظرنا في مسرحية (مأساة الحلاج) فلسوف نلحظ ذلك التباين ما بين بوح الشعور بالذنب ، وبوح التأسي وبوح المواساة، وبوح التأمل وبوح الإدانة وبوح الحض والتحريض ؛ ففي وقفة الحرفيين الدامعة حول الحلاج مصلوباً على شجرة في ميدان الكرخ ببغداد يتكشف البوح عن شعور بفداحة ما اقترفوه من ذنب في شهادة الزور التي قدموها ضده في مقابل دينار لكل منهم ، تلك الشهادة التي سلمته للجلاد :
"المجموعة : صفونا . صفاً .. صفاً
الأجهر صوتاً والأطول
وضعوه في الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتواني
وضعوه في الصف الثاني
أعطوا كلا منّا دينارا من ذهب قاني
برّاقاً لم تلمسه كفُ من قبل
قالوا : صيحوا .. زنديق كافر
صحنا زنديقُ .. كافر
قالوا : صيحوا فليقتل إنّا نحمل دمه في رقبتنا
فليقتلْ إنّا نحمل دمه في رقبتنا
قالوا : امضوا فمضينا
الأجهر صوتا والأطول
يمضي في الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتواني
يمضي في الصف الثاني "
لم يمض استرسال فقراء الحرفيين في بوحهم اعترافاً بالذنب مدفوعاً بتيار الشعور بفداحة الفعل ، وإنما انسرب من خلف جنحه المظلم بصيصاً من الوعي الفكري للتعبير الدرامي الذي تدثر ببردة التعبير الشعري. وهو أمر يحتم على الشاعر أن يبني التعبير على نحو يحرّف الصورة عمّا هو مألوف في النسق الحياتي وفق العادة والمألوف ليبدو الفعل الدرامي مشوهاً من حيث النسق النظمي البنائي ليحقق ضرورة براجماتية نفعية.

بوح الندم بين الضرورة الحياتية والضرورة الدرامية والجمالية:
في الحياة تختلف ضرورة النسق الوظيفي في صورة الفعل ورد الفعل عن ضرورته في التعبير أو التصوير والتشكيل الأدبي والفني. اصطفاف مجموعة من الناس اصطفافاً عفوياً تلقائياً ، أمام حدث ما أو حوله ، غير مقيد بنسق صناعي فيه إعمال عقلي أو تدبير منظم لذلك التجمع ، من هنا يبدو النسق من حيث مظهره عشوائياً ، بحيث يلبي الموضع الذي يقف فيه كل فرد من أفراد التجمع ، حاجته إلى الرؤية والسمع الحاضر لما هو حاصل مما اجتذبه إلى ذلك التجمع ، وهو أمر قد يستدعي تغييرات في مواضع الأفراد ، تبعاًَ لضرورة كل منهم إلى التعرف على كنه ما يجري. وهو أمر طبيعي ، لا يستهدف منه المتابع الحصول على معلومة حول ما يجري ، وليس الوصول إلى جمالية ما ، ولئن تحققت ؛ فذلك يكون بمحض الصدفة . وهذا غير ماثل في الصورة التي نسقها الشاعر هنا على النحو المألوف . أما اصطفاف مجموعة من الناس على نحو يلبي الضرورة الحياتية وفق نسق وظيفي مصنوع ، كاصطفاف الجند في طابور أو تدريب عسكري ، فيستلزم أن يقف الأقصر من الأفراد في الصف الأول ، ويقف الأطول فيهم في الصف الثاني ، يتبعه الأكثر طولاً في صف ثالث . وهكذا تتشكل منظومة الفصيلة أو الكتيبة نسقاً وظيفياً يمكّن الجميع من المواجهة بالنظر إلى الأمام وفق الوجهة أو المسيرة المحددة تحديداًَ مركزياً وحاسماً. وهذا غير ماثل في نسق الصورة الجماعية – المحكي عنها – في هذا المنظر الحزين فالنسق في اصطفاف فقراء الحرفيين -هنا – تفرضه الضرورة الفنية الدرامية الوظيفية في نسق جمالي مشوّه ، إذ وضع الأطول قامة والأجهر صوتاً في الصف الأول وهو أمر غير مألوف وفق الصورة الوظيفية التقليدية ؛ فجهارة الصوت وطول القامة هما أساس ترتيب نسق الصف في هذه الصورة ، وذلك لأن هدف المنظمين لتلك التظاهرة هو فضح الحلاج والتشهير به من ناحية وإعلان أصحابه من الحرفيين – من ناحية أخرى – وهم الذين وهبهم كلماته الحاضة لهم ليصلحوا أحوالهم المعيشية في اتجاه حثهم على عدم السكوت على حقوقهم المهضومة من قبل الأغنيء والحكام – لإدانته بتهمة الزندقة والكفر . فالأطول أكثر إيصالاً للصوت لمسافة أبعد ، خاصة مع جهوريّة الصوت. ومن الناحية الجمالية ؛ فإن في النسق تشويهاً مقصوداً لصالح الدلالة الدرامية ، فهذا التشويه قصد به خلق حالة من حالات الدهشة المتأملة للنسق المعكوس بما يغاير الصورة الاعتيادية ، والدهشة حالة من الحالات التي تستدعي التساؤل والتفكر اللحظي ، في محاولة اكتشاف سببية – بناء النسق على النحو الذي تعيد المجموعة تصويره بالحكي السردي. كذلك ما يستشفه المتأمل المؤول لدلالة لفظة (الأطول) حيث يجوز فهمها على أنه الأطول في فرض رأيه أو صوته على الآخرين وفهم لفظة (الأقصر) بضعيف القدرات ؛ إذ أنهم بحكم وضعهم في الصفوف الخلفية هم تابعون للأطول باعاً. وبذلك تكون الجمالية نابعة من لذة الشعور – المتأمل المؤول- بالتفوق لإدراكه كنه تشويه البنية الدرامية في الصورة الشعرية .

البوح التبريري ودرامية الاسترجاع:
من ألوان البوح في شعر الصورة الدرامية ذلك البوح الذي ينحو منحى التبرير لإبراء الذمة ونفضاً لتبعات الصمت وعدم المبالاة . وهو بوح استرجاعي ، إبراء للذمة ؛ وهو ماثل في تظاهرة جماعة الصوفية أمام مشهد الحلاج مصلوباً في الميدان ؛ ذلك أن الشعار عندهم أهم من صاحبه ، هو عندهم كما النحلة الملكة ؛ تموت فور إنجاز مهمتها :
"الفلاح : فلنسأل هذا الجمع
من أنتم ..؟
المجموعة: نحن القتلة
أحببناه فقتلناه "
الواعظ : لا نلقى في هذا اليوم سوى القتلة
ولعلكم أيضاً حين قتلتم هذا الشيخ المصلوب
المجموعة : ... قتلناه بالكلمات
الفلاح : زاد الأمر غرابه !
المجموعة : أحببنا كلماته
أكثر مما أحببناه
فتركناه يموت لكي تبقى الكلمات
التاجر : من أنتم ؟!
المجموعة : أصحاب طريق مثله
الواعظ : هل خفتم لما صاح الفقراء
فنكرتم أمره ؟
المجموعة : خفنا .. لا .. لا ..
لا يخشى الموت سوى الموتى
أنفذنا ما أوصانا به
الواعظ : أوصاكم به ..؟
المجموعة : كنّا نلقاه بظهر السوق عطاشا فيروينا ..
من ماء الكلمات
جوعى ، فيطاعمنا من أثمار الحكمة
وينادمنا بكئوس الشوق إلى العرس النوراني "
هنا نقف أمام غرابة الصورة وغرابة الفعل .. فالمحب لا يقتل حبيبه . غير أن للقتل في عرف المحبين أداة وحيدة هي عدم مبالاة المحب بحبيبه ، وحبهم له لأنه من صنع لهم شعاراً يستظلون بظله فلما انتهى من صنعه أحبوا الشعار وهاهم يرددونه ملقين تبعة قتله على ذلك الشعار فقوله كان قاتله :
" مقدم المجموعة : كان يقول :
إذا غسلت بالدماء هامتي وأغصني
فقد توضأت وضوء الأنبياء
كان يريد أن يموت ، كي يعود للسماء
كأنه طفل سماوي شريد
قد ضل عن أبيه في متاهة المساء
كان يقول :
كأن من يقتلني محقق مشيئتي
ومنفذ إرادة الرحمن
لأنه يصوغ من تراب رجل فان
أسطورة وحكمة وفكرة
كان يقول :
إن من يقتلني سيدخل الجنان
لأنه بسيفه أتم الدورة
لأنه أغاث بالدما إذ نخس الوريد
شجيرة جديبة زرعتها بلفظي العقيم
فدبّت الحياة فيها ، طالت الأغصان
مثمرة تكون في مجاعة الزمان
خضراء تعطي دون موعد ، بلا أوان
وحينما أسلمه السلطان للقضاة
وردّه القضاة للسلطان
ورده السلطان للسجان
ووشيت أعضاؤه بثمر الدماء
تم له ما شاء
هل نحرم العالم من شهيد ؟
هل نحرم العالم من شهيد ؟
الواعظ : أو لم يحزنكم فقده ..؟
المجموعة : أبكانا أنا فارقناه
وفرحنا حين ذكرنا أنا علّقناه في كلماته
ورفعناه بها فوق الشجرة "
لم تكن تلك التعبيرات التأملية سوى تمثل لتعابير الصوفية سكنت شاعرنا كما سكنت الحلاج نفسه.
تضمن هذا البوح الكثير من المفردات والمفاهيم الصوفية ، التي يغيب مغزاها عن المتلقي ربما على اختلاف مستوياته الثقافية وهو أمر يحول بين المعنى الجلي والمفهوم وبينه، وهو أمر لو شغل به فكر المتلقي المشاهد للعرض لبرهة قصيرة لضاع منه تحصيل معان حملها أداء حوار تال للمجموعة نفسها في إطار النسق الأدائي لبوحها في تظاهرة إبراء الذمة، وإعلاء الشعار على صاحبه . وهو إعلاء لا يتحقق إلاّ بمساعدته على نوال الشهادة . وهو أمر قريب من فكرة الخلاص في الديانات الأوزيرية ثم المسيحية بعد ذلك ، وفي فكرة الخلاص في الاستشهاد الحسيني عند الشيعة . فما أشبه هذه التظاهرة التطهيرية بتظاهرة الشيعة السنوية عبر مسيرة جلد الذات الجماعية ، التي تنقلها لنا الفضائيات في ظل الاحتلال والممارسات البهيمية المجهولة الانتساب والأسباب. وفي هذا الإعلاء إحياء للفكرة التي زرعها الحلاج بكلماته . والإحياء لا يتحقق إلا بري تلك الشجيرة (الشعار) بدمائه . فالخلاص في نهاية المطاف لا يتحقق بالكلمات وإنما بالدماء.. فلكي تحيا الفكرة وتتوهج ، لابد من التضحية بصاحبها . وبديلاً عن أن تكون الفكرة سبباً في حياة أفضل لمعتنقها تصبح سبباً في الموت.
البوح الإسقاطي (بوح القناع):
من البوح ما كان بوحاًَ إسقاطياً متمرداً ذا خلفية أيديولوجية ، وهو بوح مواجهة فكرية . ومثاله في مواجهة السجين الثاني للحلاج في الزنزانة ؛ وهو بوح يتقنع خلفه الشاعر ؛ إذ يحمل كلماته على لسان السجين الثاني ؛ هو بوح متعارضين أحدهما سلبي ، وتواكلي ، والآخر إيجابي :
" السجين الثاني : وبماذا تحيي الأرواح ؟!
الحلاج : بالكلمات
السجين الثاني : أتراك تقول ..
صلوا .. صوموا .. خلوا الدنيا واسعوا
في أمر الآخرة الموعودة
وأطيعوا الحكام وإن سلبوا أعينكم يتنزى منها الدم
رصوها ياقوتاً أحمر في التيجان
بشراكم ، إذ ترثون الملكوت
عفوا ، هذا لفظ من ألفاظ شبيهك "
مع أن الحلاج قد أدرك أن محاوره الناقض لخطابه يشبّهه (بابن الإنسان) الأمر الذي استدعى شكره له ، فمال قليلاً نحو النقد الذاتي ، إلاّ أن إدراك التلقي لذلك المعنى بعيد إلاّ على قلة من المثقفين :
"الحلاج : شكراً ، تعطيني أعلى من قدري
لكن في قولك بعض الحق
فأنا أحياناً أصرخ فيهم : خلوا الدنيا الفاسدة المهترئة
ودعوا أحلامكم تنسج دنيا أخرى "
ومع ذلك فإن بوح نقده الذاتي – هذا – يواجه ببوح ناقض له ، مفكك لمضمونه السلبي :
" السجين الثاني : دنيا أخرى من صنع الأحلام ؟
الحلاج : الحلم جنين الواقع "
ولأن البوح في الحوارية الوجاهية بين الرأي والرأي الآخر هو بوح إدراك متبادل في حالة من التعارض المحمول أحدهما على تيار وعي متبن لتجربة عملية في مواجهة وعي استلابي متبن لفكرة نظرية أو مجرد شعار .
ومثاله من (الحلاج) أيضاً المواجهة التي تمت بين القاضي أبي عمر والحلاج في مشهد المحاكمة :
"أبو عمر : يا حلاج .. أتدري لم جئت هنا ؟
الحلاج : ليتم الله مشيئته يا سيد
أبو عمر : هذا حق ..
والله تبارك وتعالى
قد ثبت في كف خليفتنا الصالح
أبقاه الله
ميزان العدل وسيفه
الحلاج : لا يجتمعان بكف واحدة يا سيد
أبو عمر : هذا قول من فتّان القول
لا يدركه أمثالك من أهل الفتنة
ابن سليمان : حلو .. حلو .. "
بوح النوايا في دراميات التنفيس والتنفيث :
من البوح ما كان إعلاناً عن النوايا .. فهنا يتطور البوح ليصبح بوحاً للنوايا . وهو لون من ألوان التنفيث عن ضغينة. وهو بوح تهديد ووعيد ؛ عندما يكون البوح كله إسقاطي ؛ فمنه التنفيث، وهو بوح مرضي ومن التنفيس تفريجاً عن كرب أو معاناة *. ومن بوح النوايا ما ينفثه القاضي أبو عمر حيث يصرح بما ينتويه من شر ضد الحلاج بما يخرج عن حيدة القضاء :
"الحلاج : لم يفتنّي قولك يا سيد
أبو عمر : سيروعك قولي فيما بعد
فاسمع وارتع
مولانا لا يدفع عبداً ممن وُلِّى
فيهم للسيّاف
إلاّ إن أحصى ما فرّط من أمره
في ميزان الإنصاف
مولانا يدري من زمن . أنك تبغي
في الأرض فسادا
تلقي بذر الفتنة
في أفئدة العامة
وعقول الدهماء
تتستر خلف الذقن الشهباء
أو أثواب المجذوبين الفقراء
والأقوال الغامضة المشتبهات القصد
إذ تسبكها وتقفيها كهذاء الشعراء
قل .. ماذا تبغي بهذائك؟
هل تبغي أن يضع المسلم ..
في عنق المسلم سيف الحقد ؟
الحلاج : لا .. يا سيد
بل أبغي لو مد المسلم للمسلم
كف الرحمة والود
أبو عمر : ولهذا تعرض للحكام
من أهل الرأي وأصحاب النعمة "
بوح الفضفضة (الديماجوجي) ودرامية المسكوت عنه :
حيث يطلق القاضي افتراضات مطلقة لا دليل على صحتها . إذ يتحول البوح التنفيثي إلى بوح مسلح بالوعي الطبقي المتقنع بالنص القرآني ليخرس أي قول مخالف لقوله من أن المحاكمة هي لقضية سياسية ، قضية رأي واعتقاد ؛ بخاصة والقاضي أبو عمر الحمادي هو قاض من قضاة المالكية المعروفين بتقربهم من الخلفاء والأمراء :
"أبو عمر : ماذا تبغي ؟
أن يختل الناموس ويصبح أمرُ العامة
أعلى من أمر الخاصة
أن يحكم فينا الحمقى والجهلة
أن يُعطى الأمر لمن ليس بأهل له
ابن سليمان : فتقوم الساعة
أبو عمر : يا حلاج
الجرم الثابت لا ينفيه أن تتباله وتتمتم
ابن سريج : يا مولانا . هلاّ أعطيت الرجل المهلة يتكلم
فلقد حققت وأحكمت التهمة ، ثم أدنت
أبو عمر : ما حاجتنا أن نسمع في هذا المجلس
فيضاً من لغو القول المبهم ؟
فليعلُ حديث العدل إذا خرس الجُرم
قال تعالى :
" إنما جزاء الذين يفسدون في الأرض "
دراميات البوح المراوغ :
هو بوح يعتمد على التورية التشخيصية. وهي ليست تورية لفظية ، حيث للفظ معنيان أحدهما ظاهر ، والآخر باطن ، وهو المقصود ، بل تعتمد على موقف حقيقي مقصود ، يتخفى خلف موقف زائف وخادع وهو ماثل في مراوغات القاضي ابن سليمان (وهو حنفي المذهب)** :
"ابن سليمان : لا أخشى أن يلزم دمه عنقي
باسم الشرع
لكني لا أرضى أن يلزمني باسم السلطة
فأنا لم أشهده يبغي إفساداً في الأرض
أبو عمر : الشرطة قد شهدته
ابن سليمان : لكني لم أتحقق من قول الشرطة
أبو عمر : يا ابن سليمان
لسنا أهل التحقيق
بل أهل الفتوى . أعلم هذا الجيل
بأحكام الشرع ؟
فالشرطة والوالي والسلطان يسوسون
.. أمور الدولة
ويميزون الجاني .. ويقيسون الجرم
بإمعان وتثبت
فإذا صح الجرم لديهم وقفوا
الجاني بين يدينا
لنرى فيه الرأي الشرعي الصائب
ابن سليمان : يا مولانا
رأي من رأيك ..
لكنك قد وضحته
ببيان مثلي لا يدرك حسنة
فلتسمح لي أن أعرض رأيي
بعباراتي الجرداء من الفطنة
إني قد أسأل نفسي الآن
من نحن .. وما علة هذا الجمع ؟
نحن رجال العلم . وأهل الشرع
والوالي يستفتينا في أمر
وعلينا إتقان الفتوى
أنا لا يعنيني ما اسم المتهم ..
الماثل بين يدينا
والحلاج لدينا حالُ . لا شخص ماثل
وكأن الوالي يسألنا
ما حكم الشرع العادل
في من يبغي في الأرض فساداً . يبذر
فيها بذر الفتنة
وهنا نتملى في الأحكام . وننثرها
نتخير منها
ونقول :
للوالي . لا للحلاج
هذا حكم الشرع
في من يبغي في الأرض فساداً
أن تقطع أرجله .. أيديه .. ويصلب
في جذع الشجرة
ويفض المجلس
هل فتوانا ملزمة للوالي ؟
لا .. فله أن ينفذها
أو أن يسترجع أمره
وهنا لا نحمل وزر دم مسفوك
في ظلم أو عدل
ابن سريج : لا ، لا ، يابن سليمان "
لا يفلح التهرب من المسؤولية عن طريق المراوغة واللف والدوران على الحقائق ، وجود وعي نقدي مسلح بالشجاعة والاستقامة والعلم والفهم التام بأبعاد موضوع اختلفت حوله الآراء ضروري خاصة إذا كان موضوعاً يتعلق بالأرواح والأنفس ، من هنا تتطور المواجهة إلى اصطدام ، بين ممثلي المذاهب الثلاثة ، بين حزب الموالاة وممثل المعارضة. مع خطأ ذلك الأمر وخطورته في مجال القضاء
"ابن سريج : ما تنسجه من محبوك القول
أحبولة شيطان
إن الكلمات إذا رفعت سيفاً
فهي السيف
والقاضي لا يفتي . بل ينصب
ميزان العدل
لا يحكم في أشباح . بل في أرواح
أغلاها الله
إلاّ أن تزهق في حق . أو في إنصاف
الوالي والقاضي رمزان جليلان
للقدرة والحق
لا تدنو من مرماها أفراس القدرة
لا تبلغ غايتها
إلاّ إن أمسك فرسان الحق
بزمام أعنتها
فإذا شئتم أن ينقلب الحال
أن تلقوا فرسان الحق
صرعى تحت حوافر فرس القدرة
فأنا استعفي من مجلسكم
أبو عمر : يا ابن سريج هذا مجلس حكم مخصوص
وله تقدير مخصوص
ينظر في أمر مخصوص
وكما قال القائل
ابن سريج : (مقاطعا) مخصوص .. مخصوص .. مخصوص
هل خصّوا هذا المجلس بالظلم "
لأن ابن سريج قاضي الشافعية يعلم أن القوانين لا تفصّل خصيصاً لشخص بعينه عند محاكمته في تهمة نسبت إليه ، لذلك انتفض انتفاضة حادة في وجه التدليس في أمور قياس العدالة وإجراءاتها التي لا تخالف كل شرع وتنافي كل منطق *** لذلك انفجر ابن سريج في وجه القاضي المالكي ؛ ولم تثنه تلميحات أبي عمر – هذا – في محاولة توريطه بدفعه دفعاً إلى اتهام السلطان بالظلم مما دعاه إلى إعطائه درساً في مفهوم العدل :
" قل لي في لفظ واضح
هل نحن قضاة باسم الله
أم باسم السلطان ؟
أبو عمر : بل قل أنت
أوتنكر أن السلطان خليفة رب الأكوان
على الأكوان ؟
ابن سريج : هذا السلطان العادل ..
أبو عمر : أو تبغي أن تدفع عن مولانا
صفة العدل ؟
ابن سريج : بل أرجو أن أثبتها له
ليس العدل تراثاً يتلقاه الأحياء ..
عن الموتى
أو شارة حكم تلحق باسم السلطان
إذا ولي الأمر
كعمامته أو سيفه
مات الملك العادل
عاش الملك العادل
العدل مواقف
العدل سؤال أبدي يطرح نفسه كل هنيهة
فإذا ألهمت الرد تشكل في كلمات
أخرى
وتولد عنه سؤال آخر يبغي ردا
العدل حوار لا يتوقف
بين السلطان وسلطانه
أبو عمر : العدل .. العدل
ماذا تبغي حتى يجري العدل
ابن سريج : أن نسمع صوت المتهم الماثل
بين يدينا
ونسائل أنفسنا وضمائرنا
أبو عمر : هه ..
هو لا يبغي أن يتكلم "
البوح الحلولي الصوفي بين المقولة والدفاع عنها :
للصوفيه الحلولية مقولتها أو خطابها الذي تمثل في شعر الحلاج (حسين بن منصور) نفسه:
"أنا أنت وأنت أنا نحن روحان حللنا بدنا "

"فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا "
كما تمثل في خطبة الحلاج الدرامية الاحتفالية في ساحة بغداد التي دعا فيها الناس – خاصة الفقراء - إليه صائحاً ؛ حاضاً على التمرد والثورة :
"الحلاج : إلي إلي يا غرباء .. يا فقراء .. يا مرضى
كسيري القلب والأعضاء ، قد أنزلت مائدتي
إلي إلي
لنطعم كسرة من خبز مولانا وسيدنا
إلي إلي أهديكم إلى ربي
وما يرضى به ربي "
فما أن يتجمع الناس حوله حتى يكشف عن جوهر مقولته الحلولية ، غير منتصح بنصح رفيقه الشبلي ، وغير ملتفت إلى الحديث : "خاطبوا الناس على قدر عقولهم " بل يمض في كشف سريرة نفسه ، وإسقاط ما في ضميره :
" أراد الله أن تجلى محاسنه ، وتستعلن أنواره
فأبدع من أثير القدرة العليا مثالاً ، صاغه طيناً
وألقى بين جنبيه ببعض الفيض من ذاته
وجلاّه . وزيّنه ، فكان صنيعه الإنسان
فنحن له كمرآة ، يطالع فوق صفحتها
جمال الذات مجلّوا ، ويشهد حسنه فينا
فإن تصفُ قلوب الناس ، تأنس نظرة الرحمن
إلى مرآتنا ، ويديم نظرته ، فتحيينا
وإن تكدر قلوب الناس يصرف وجهه عنّا
ويهجرنا ، ويجفونا ..
وماذا يفعل الإنسان إن جافاه مولاه ؟
يضيق الكون في عينيه ، يفقد ألفة الأشياء
تصير الشمس في عينيه أذرعة من النيران
يلقى ثقلها المشّاء
على وجه السما والأرض . ألواناً من اللهب
ويضحي البدر دائرة مهمشة رمادية
من القصدير ميتة وملقاة على بيداء
فقد جفت عيون الناس ، أضحت نقطة سوداء
وتذوي أذرع الأشجار تلقي حملها للأرض
وتدفئه كمجهضة تكفن عارها في الطين "
إن بوح الحلاج حتى الآن لم يزد عن كونه بوحاً ذاتياً ، مجرداً يحوّم حول ما أودع الله من ضيائه في الإنسان. حتى ما اتصل بأحوال المجتمع ومعاناة الناس ، لم يجر مجرى التشخيص والتحديد بل ظل يدور في إطار التجريد لذلك كانت خطبة بوحه الحلولية تلك خير مثال على بوح التوق إلى الاستشهاد ؛ في لغة استعارية فوق طاقة فهم العامة الذين استهدف الحلاج مخاطبتهم .
" ويمشي القحط في الأسواق ، يجبي جزية الأنفاس
من الأطفال والمرضى
حقيبته بلا قاع ، فلا تملأ إذ تعطي
ورغبته بلا ري ، فلا تسكت أن تسأل
وخلف القحط يمشي تحت ظل البيرق المرسل
جنود القحط ، جيش الشر والنقمة
خلائقهم مشوهة ، كأن الذيل فوق الرأس
يقود خطاهمو إبليس ، وهو وزير ملك القحط
وليس القتل والتدجيل والسرق
وليس خيانة الأصحاب والملق
وليس البطش والعدوان والخرق
سوى بعض رعايا القحط ، جند وزيره إبليس "

بهذا الوعي الغيبي يطيش سهم الحلاج بعيداً عن قناعة تحرك العامة ، فهو يلقي تبعة الانحراف والفساد الاجتماعي على إبليس الذي يستغل فقر الفقراء فيحضهم على الجرائم. وهو بذلك لم يزد عن كونه خطاب وعظ ديني ، سأم العامة من سماعه من على المنابر في المساجد المنتشرة في كل موقع .
وربما وضح ذلك بتأمل الدور السلبي لتلقي العامة لخطاب بوحه التجريدي إذ لم يتعامل مع الخطاب سوى العسس ورجال الشرطة :
" تعالى الله ، قد يأنف أن ينظر في مرآتنا ذاته
فيصرف وجهه عنّا
فكيف إذن نصفي قلبنا المعتم ؟
ليستقبل وجه الله ، يستجلي جمالاته
نصلي .. نقرأ القرآن
نقصد بيته ، ونصوم في رمضان
نعم ، لكنّ هذي أول الخطوات نحو الله
خطى تصنعها الأبدان
وربي قصده للقلب ولا يرضى بغير الحب
تأمل ، إن عشقت ألست تبغي أن تكون شبيه محبوبك
فهذا حبنا لله
أليس الله نور الكون
فكن نورا كمثل الله
ليستجلي على مرآتنا ذاته "
لم يتحرك الناس بسبب خطاب الحلاج التحريضي المغلف بروح الرومانتيكية ، فالشرط الذاتي لم يزد عن كونه وعياً ذاتياً سلبياً ، والشرط الموضوعي غائب تماماً عن الوسط الاجتماعي المتلقي لخطاب الحض ، وإنما كانت حركتهم لاستنقاذ الحلاج من أيدي الشرطة ، يسبب كراهية الناس للشرطة.

والمحلل لخطاب الحلاج – هنا – يجده يصف فعل الله فينا : ( " أراد الله – فأبدع – صاغه – وألقى – وجلاه – وزينه – يطالع – ويشهد – تأنس نظرة الرحمن – يديم نظرته " ) وكل هذه الأفعال الإلهية من أجل أمر وحيد هو أن يصبح الإنسان مرآة لذات الله ليشهد حسنه فينا . وذلك شريطة أن تصفو قلوبنا . والمقابل هو استمرار حياتنا فإذا لم تصف قلوبنا ففعل الله يتغير : ( " يصرف وجهه عنا – يهجرنا – يجفونا " ) عندها : (يضيق الكون في عين الإنسان – يفقد الألفة – يفقد القدرة على الرؤية الحقيقية – يستشري الفقر بين الناس – يتفشى المرض – تنتشر الجرائم) وخلاصة القول : إن الحض على زوال البلاء وصلاح أحوال الناس وإقامة العدل قرين بحسن علاقة الناس بالله .
لكن ما الذي أثار الشرطة من ذلك القول ، خاصة وأن الخطاب لم يحرك حماسة واحد ممن تحلقوا حول صاحبه ، هل لأنه نعتهم بأنهم جند إبليس وزير الفقر ، وأنهم شريرون شائهة خلائقهم وأنهم أداة البطش . لذلك استدرجوه ؛ وهو الذي أعد نفسه وهيأها لمواجهة (دون كيخوتية) :
"الشرطي : ولكن شيخنا الطيب ، هل ربي له عينان
لكي ينظر في المرآة ؟ "
وعبثاً يحصل الشرطي على إجابة من جنس سؤاله ؛ بل يواجه بتساؤل استنكاري فيه ازدراء:
"الحلاج : ولكن ولدي الطيب ، هل قفل على قلبك
حتى ينطق القرآن
أم على قلوب أقفالها "
وعبثاً يحصل العامة أيضاً على المطلوب منهم من جملة خطاب الحلاج . وهكذا يلقى الحلاج بمقولته الحلولية ، دون أن يدعمها ، حتى عندما تتناوشه الأسئلة الاستدراجية لا يجيب بل يتهم السائل المغرض بانغلاق الفهم ، وكأن عملية التواصل أو الاتصال مرهونة بطرف التلقي ، دون أن يلتزم المرسل بتهيئة رسالته بما يتناسب ومستويات الوسط أو التلقي ؛ إلاّ إذا كان هدف الإرسال تحقيق المجرد غير المنظور إلاّ من صاحبه :

بوح التوق إلى الشهادة :
" (ضجة وتلويح بالأيدي توشك أن تصبح مقتلة )
الحلاج : لا ، يا أصحابي
لا تلقوا بالاً لي
استودعكم كلماتي
عودوا .. عودوا ..
ودعوني حتى تنفذ في بدني
لتؤدبني
ألفاظ عتاب المحبوب النارية "
"الشرطي : يا قوم
الشيخ أقر بجرمه
فدعوه يمضي ليؤدب
يا شيخ ..
هل أقررت بجرمك ؟
الحلاج : هذا حق يا ولدي ..
فلقد أجرمت بحقه
إذ أفشيت السر
الشرطي : أسمعتم !
الحلاج : عاقبني يا محبوبي أني بحت وخنت العهد
لا تغفر لي ، فلقد ضاق القلب عن الوجد
لكن عاقبني كعقاب الخصم خصيمه
لا كعقاب المحبوب حبيبه
لا تهجرني ، لا تصرف عني وجهك
لا تقتل روحي بدلالك
اجعل بدني الناحل أو جلدي المتغضن
أدوات عقابك "
إن موقف الحلاج هنا مناظر لموقف سقراط ، الذي التزم بكلمته باحترام القانون حتى ولو كان الثمن هو فقدانه لحياته ، وقد فعل ، ورفض محاولات تلاميذه وحوارييه المدفوعين بحض غير مباشر من الحكام . كذلك التزم الحلاج بكلمته التي تسلم لله الأمر كله ، وتدعو الناس إلى تسليم الأمر كله لله ، حتى تنصلح أحوال البشر ، حتى وهو يساق إلى حتفه :
" أبو عمر : هه ..
هو لا يبغي أن يتكلم
وعلى كل ، مازالت جلستنا ممدودة
فليسمعنا شيئاً من لغوه
يا هذا الشيخ المنفوش اللحية
بم تدفع عن نفسك ..؟
الحلاج : لستم بقضاتي ،
ولذا لن أدفع عن نفسي "
إن دفع الحلاج هنا ليس دفعاً لشخص القاضي أو هيئة هذه المحكمة على وجه الخصوص ، بل هو دفع لكل هيئة قضائية ، لأنه لا يؤمن إلاّ بقضاء الله ، لذلك تحايل قاضي الشافعية ابن سريج حتى يحثه على التعامل مع الهيئة القضائية دفاعاً عن نفسه ؛ ومن الغريب أن الحلاج يستدرج بحسن نية من ابن سريج :
"ابن سريج : يا حلاج ..
لا تدفع عن نفسك
بل حدثنا عما فيها
إن كان هو الحق ، عرفناه معك
وإذا كان الباطل ..
نبهناك إليه
وأخذناك بجرمه ..
الحلاج : أوعدتم إن كان الحق ..
تمضوا فيه معي ؟ "
مثل هذه النية الحسنة ، أو سذاجة التوكل والافتراض العاطفي لحسن نوايا الآخرين تقابل بواقع صادم ، واقع وعي طبقي :
"أبو عمر : نمضي فيه معك ..؟
أما إنك رجل ساذج
أو إنك أذكى مما تتصور
ولهذا أفسدت صعاليك العامة "
ومع وضوح موقف القاضي الساخر التهكمي من طرح الحلاج ، فإن الحلاج ينصاع للقاضي ويصدقه وينبري في بوح طويل استرسالاً خلف تيار الشعور :
" أبو عمر : قد نصبح من أتباعك ( ساخراً )
من أنت ، وما خطبك .. ؟ "
الحلاج : أنا رجل من غمار الموالي ، فقير الأرومة والمنبت
فلا حسبي ينتمي للسماء ، ولا رفعتني لها ثروتي
ولدت كآلاف من يولدون ، بآلاف أيام هذا الوجود
لأن فقيراً – بذات مساء – سعى نحو حضن فقيرة
وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية
نموت كآلاف من يكبرون ، حين يقاتون خبز الشموس
ويسقون ماء المطر
وتلقاهم صبية يافعين حزانى على الطرقات الحزينة
فتعجب كيف نموا واستطالوا وشبّت خطاهم ..
وهذي الحياة ضنينة "
ومن الغريب أن الحلاج في مواجهته للمحكمة لا يفعّل تيار الوعي ، وهو الأدعى للتفعيل واليقظة والحذر ، مثله مثل كل من أوقف أمام قضاته . غير أن الحلاج وقد صرّح بأن القضاة ليسوا قضاته ، وهو في الوقت ذاته ، ينبري في بوح إدانته لنفسه – قاصداً – لأنه يتمنى الشهادة ويسعى لها :
"الحلاج : تسكعت في طرقات الحياة ، دخلت سراديبها الموحشات
حجبت بكفي لهيب الظهيرة في الفلوات
وأشعلت عيني ، دليلي ، أنيسي في الظلمات
وذوّبت عقلي ، وزيت المصابيح ، شمس
النهار على صفحات الكتب
لهثت وراء العلوم سنين ، ككلب يشم روائح صيد
فيتبعها ، ثم يحتال حتى ينال سبيلاً إليها فيركض
ينقض
فلم يسعد العلم قلبي ، بل زادني حيرة واجفه
بكيت لها وارتجفت "
في هذا الجزء من بوح الإدانة يكشف الحلاج أمام قضاته أنه غير اتباعي ، لأنه وظف حواسه الخشنة (البصر) طلباً للبصيرة التجريبية ، تفعيلاً لتحصيله العقلي ، بعيداً عن التحصيل الاتباعي النقلي :
" وأحسست أني ضئيل كقطرة طل
كحبة رمل
ومنكسر تعس ، خائف مرتعد
فعلمي ما قادني قط للمعرفة "
غير أنه يراجع نفسه حول ما أفادت من العلوم الطبيعية والتاريخية قديماً وحديثاً ؛ فيجد في نفسه قصوراً نحو معرفة سر الوجود من حيث البداية والنهاية :
" وهبني عرفت تضاريس هذا الوجود ..
فكيف بعرفان سر الوجود ، ومقصدي
مبتدا أمره ، منتهاه "
ليس هذا هو بوح الحلاج محمولاً على أثير التاريخ موصولاً بنبرات شخصية مسرحية معاصرة مستلهمة من تاريخ (الحسين بن منصور الحلاج ) المتصوف العراقي من المرتبة الرابعة - وفق تصنيف الجنيد لمراتب المتصوفة - ، ولكنه بوح المثقف المعاصر المسكون بتاريخ ثقافة التمرد العربي ، الذي هو صلاح عبد الصبور نفسه والذي هو أحمد عبد المعطي حجازي ، ومحمد عفيفي مطر ، وأمل دنقل ، بل كل مثقف عربي حقيقي ، فما من مثقف حقيقي ، إلاّ وانغرزت جذوره في طين المعرفة التراثية المظنونة وامتدت فروعه عبر أثير المعارف اليقينية المتجددة ، وما من مثقف حقيقي ، إلاّ وتأرجح ما بين الشك واليقين ؛ وما من أحد إلاّ وطالته حيرة المثقف ، مثلما طالت الحلاج :
" الحلاج : سألت الشيوخ ، فقيل
تقرب إلى الله ، صل ليرفع عنك الضلال ..
صل لتسعد
وكنت نسيت الصلاة ، فصليت لله رب المنون
ورب الحياة ورب القدر
وكان هواء المخافة يصفر في أعظمي ويئز
كريح الفلا .. وأنا ساجد راكع أتعبد
فأدركت أني أعبد خوفي ، لا الله ..
كنت به مشركاً لا موحد
وكان إلهي خوفي
وصليت أطمع في جنته
ليختال في مقلتي خيال القصور ذوات القباب
واسمع وسوسة الحلي ، همس خرير الثياب
أني أبيع صلاتي إلى الله
فلو أتقنت صنعة الصلوات لزاد الثمن
وكنت به مشركاً ، لا موحد
وكان إلهي الطمع "
يجد خدم السلطة الحاكمة في أي مكان وزمان ، مثل هذا البوح الأمين والصادق مع النفس ، دليل اعتراف يؤخذ به صاحبه ، لذلك أخذ به من أخذ من المفكرين ومن المثقفين والمبدعين عبر تاريخنا المحكوم بالسلطة الفردية التي تزيّت أحياناً بأزياء التدين وبأزياء الديمقراطية واحترام الرأي الآخر، كما أخذ به الحلاج وعشرات المفكرين والمثقفين والمبدعين الشعراء على مر عصور الحكم الإسلامي العربي ؛ لمجرد أن وقع أحدهم في حيرة المثقف ؛ كما وقع الحلاج :
"الحلاج : وحير قلبي سؤال :
ترى قُدّر الشرك للكائنات
وإلاّ ، فكيف أصلي له وحده
وأخلى فؤادي مما عداه
لكي إنزع الخوف عن خاطري
لكي أطمئن .. "
ولكي يفض المثقف حيرته ؛ فهو يلقى بنفسه مختاراً في قارب فكري ما يسبح به مع راكبيه ضد تيار الثقافة التقليدية المألوفة ، هكذا فعل الحلاج ؛ إذ اتخذ الحلولية قارب نجاة في بحر الحيرة الثقافي :
" الحلاج : كما يلتقي الشوق شوق الصحارى العظام
بشوق السحاب السخي
كذلك كان لقائي بشيخي
أبي العاص عمرو بن أحمد ، قدس تربته ربه
يحب النوال
ويعطي ، فيبتل صخر الفؤاد
ويعطي ، فتندى العروق ويلمع فيها اليقين
ويعطي ، فيخضر غصني
ويعطي ، فيزهر نطقي وظني
ويخلع عني ثيابي ، ويلبسني خرقة العارفين
يقول هو الحب ، سر النجاة ، تعشّق تفز
وتفنى بذات حبيبك ، تصبح أنت المصلي ،
وأنت الصلاه
وأنت الديانة والرب والمسجد
تعشقت حتى عشقت ، تخيلت حتى رأيت
رأيت حبيبي ، وأتحفني بكمال الجمال ،
جمال الكمال
فأتحفته بكمال المحبة
وأفنيت نفسي فيه
أبو عمر : صمتاً : هذا كفر بيّن "
وكما لا يفلت الحلاج من الإدانة ، لم يفلت مفكر طليعي أو مبدع أو شاعر من إدانة ما ، لابد وأن تصمه بها السلطة الفردية بكل مستوياتها . ولئن وجد مفكر متهم من قبل نظام الحكم الفردي ؛ منصفاً ؛ يضع القول في سياقه ويفهمه في إطار سياقه النصي والفكري ، دون أن يأخذ صاحبه بظاهر القول ؛ فإن ذلك لا يحول دون تصفيته تصفية جسدية باسم الشرع ، أو باسم القانون ، أو حبسه به – على أقل تقدير - ؛ فالمبدع متهم بإبداعه ، بوصفه ضلالة :
" ابن سريج : بل هذا حال من أحوال الصوفية
لا يدخل في تقدير محاكمنا
أمر بين العبد وربه
لا يقضي فيه إلاّ الله
لنسأله عن تهمة تحريض العامة
فلهذا أوقفه السلطان هنا
هل أفسدت العامة يا حلاج ؟ "
لا يستطيع صاحب اعتقاد صادق ، أن يخلي بين إجاباته عما يطرحه عليه قاض ما ، حالة توقيفه أمام محكمة ما ومعتقداته لذلك ينطق الحلاج بما هو ضروري ، إعلاناً لمعتقده وإعلاء لفكره :
"الحلاج : لا يفسد أمر العامة إلاّ السلطان الفاسد
يستعبدهم ويجوعهم "
هذا اتهام للسلطان ، أي سلطان . وهنا يسرع القاضي بتضييق الخناق عليه للحصول على اعتراف محدد ، لذلك يصوغ سؤال اتهام محدد ، يستلزم إجابة محددة :
" ابن سليمان : يعني هل كنت تحض على عصيان الحكام ؟ "
لو كان العامة في مصر ، في ظل نظام الستينيات مستعبدين وجوعى ، لصودرت هذه المسرحية ، ولكن لحسن حظ المثقف العربي بشكل خاص والمسرحيين بخاصة ، أن ثورة يوليو 1952 لم تكن تضيق اقتصادياً واجتماعياًَ على الفئات الدنيا من الطبقات الشعبية ، ولن يشفع للشاعر صلاح عبد الصبور – عندئذٍ- أن يراوغ بلسان الحلاج في إجابته عن السؤال المصيدة الذي طرحه عليه (ابن سليمان) ؛ ليتمكن الحلاج من الدوران الإطاري حول السؤال؛ المصيدة :
" الحلاج : بل كنت أحض على طاعة رب الحكام
برأ الله الدنيا أحكاماً ونظاماً
فلماذا اضطربت ، واختل الإحكام ؟
خلق الإنسان على صورته في أحسن تقويم
فلماذا رُدّ إلى درك الأنعام ؟ "
لا يستطيع مفكر متمرد على منظومة الحكم الاستبدادي أن يفلت من قبضة زبانية الحكم وخدّامه الشرعيين من ناحية والقانونيين من ناحية أخرى مهما حاول المراوغة ، أو المناورة . والحلاج هنا وإن راغ فإن مراوغته ليست تراجعاً منه عن عزمه على نيل الشهادة على أيدي جلاديه :
" أبو عمر : ماذا يعني هذا الشيخ ؟
هل هذا أيضاً من أحوال الصوفية ؟
أم يستخفي خلف الألفاظ المشتبهة
كي يخفي وجه جريمته الشنعاء ؟ "
ليس غريباً أن يظهر القاضي ظهوراً غير حيادي في ظل الأنظمة الفردية الاستبدادية متشحة بأوشحة الشرع أو الشرعية (الدين أو القانون الوضعي) ، مع أن الدين والدين الإسلامي بخاصة ، لم ينص في القرآن على عقوبة دنيوية سوى في مواجهة إتهام ثابت لجريمة من الجرائم الخمس الآتية : (القتل – السرقة - الزنا – قذف المحصنات – الحرابة "قطع الطريق على الآمنين" ) ، إلاّ أن حكم قضاة المحكمة الإسلامية الشرعية في بغداد ، حكمت بقرار من قاضيين اثنين أحدهما مالكي والثاني حنفي بعد أن انسحب القاضي الثالث وهو شافعي معترضاً على سير المحاكمة في اتجاه إدانة الحلاج بكل سبيل . ومن خبيث فعل أذناب أي نظام استبدادي لهم وظائف شرعية تقوم على تطبيق الحدود الشرعية في قضائهم بين من حكموا في أمر من أمورهم وفق النص القرآني ، ما نجده عند ذلك القاضي الفاسد ، الذي وظف نفسه باسم الشرع قاضياً بما قضى ، واضعاً منطوق حكمه على ألسنة مجموعة من فقراء الحرف المتدنية فور انتهائه من استخلاص إدانة الحلاج من مجمل ما قال به الشبلي في شهادته :
" (يلتفت أبو عمر إلى جمع الفقراء)
أبو عمر : ما رأيكمو يا أهل الإسلام
فيمن يتحدث أن الله تجلىّ له
أم أن الله يحلّ بجسده ؟
المجموعة : كافر .. كافر
أبو عمر : بم تجزونه ؟
المجموعة : يقتل ، يقتل
أبو عمر : دمه في رقبتكم ..؟
المجموعة : دمه في رقبتنا
أبو عمر : والآن .. امضوا ، وامشوا في الأسواق
طوفوا بالساحات وبالخانات
وقفوا في منعطفات الطرقات
لتقولوا ما شهدت أعينكم
قد كان حديث الحلاج عن الفقر قناعاً ،
يخفي كفره
لكن "الشبلي" صاحبه قد كشّف سره
فغضبتم لله ، وانفذتم أمره
وحملتم دمه في الأعناق
وأمرتم أن يقتل
ويصلّب في جذع الشجرة
الدولة لم تحكم
بل نحن قضاة الدولة لم نحكم
أنتم ..
حُكمتم ، فحكمتم
فامضوا ، قولوا للعامة
العامة قد حاكمت الحلاج امضوا ..
امضوا .. امضوا "
هكذا ينفذ القاضي املاء رأس النظام الاستبدادي الذي نص عليه في رسالته للمحكمة في أثناء سير جلستها **** :
" أبو عمر : (وهو ينظر في الخطاب)
إن الدولة قد سامحت الحلاج
فيما نسب إليه ، وتثبت منه السلطان
من تحريض العامة والغوغاء على الإفساد
وعفت عنه عفواً كلياً لا رجعة فيه "
" لكن وزير القصر يضيف :
"هبنا أغفلنا حق السلطان ..
ما نصنع في حق الله
فلقد أنبئنا أن الحلاج
يروي أن الله يحل به ، أو ما شاء له الشيطان
من أوهام وضلالات
ولهذا أرجو لو يسأل في دعواه الزنديقية
فالوالي قد يعفو عمن يجرم في حقه
لكن لا يعفو عمن يجرم في حق الله "
ابن سليمان : هذا أيضاً حق
ابن سريج : بل هذا مكر خادع
فلقد أحكمتم حبل الموت
لكن خفتم أن تحيا ذكراه
فأردتم أن تمحوها
بل خفتم سخط العامة ممن أسمع أصواتهم
من هذا المجلس
فأردتم أن تعطوه لهم مسفوك الدم
مسفوك السمعة والاسم
يا حلاج ...
هل تؤمن بالله ؟
الحلاج : هو خالقنا وإليه نعود
ابن سريج : هذا يكفي كي يثبت إيمانه
أبو عمر : يا بن سريج
إني لا أبحث في إيمانه
بل في كيفية إيمانه
ابن سريج : كيفية إيمانه ..؟
هل تبغي أن تنبش في قلبه
هل هذا من حق الوالي
أم من حق الله ؟
أبو عمر : هذا من حق قضاة الشرع
ابن سريج : لا ، بل هذا من حق الله
فأنا لا أجرؤ أن أسأل رجلاً عن إيمانه
فإذا شئتم أن تمضوا في هذا الإثم ..
أبو عمر : سنمضي يا ابن سريج
ابن سريج : فأنا استعفي من مجلسكم *****
أبو عمر : هذا لك يابن سريج "

فكرة المخلص (المستبد العادل) :
لم تفارق فكرة المخلص (المستبد العادل) رأس أحد من مفكري الإسلام – لا في التاريخ القديم ولا في التاريخ المعاصر - .
" الحلاج : لا أملك إلاّ أن أتحدث
ولتنقل كلماتي الريح السواحه
ولأثبتها في الأوراق شهادة إنسان من أهل الرؤية
فلعل فؤاداً ظمآناً من أفئدة وجوه الأمة
يستعذب هذي الكلمات
فيخوض بها في الطرقات
يرعاها إن ولي الأمر
ويزاوج بين القدرة والفكرة
ويزاوج بين الحكمة والفعل "
هكذا كان جهد الحلاج جهد المصلح الديني – لا أكثر – وهكذا صوره صلاح عبد الصبور ، تفكيكاً لخطاب المصلح الديني الذي حفظ عن ظهر قلب (نظرية الكل في واحد – نظرية المستبد العادل) .



التعبير الدرامي الشعري ومستويات السرد والتشخيص
بين التسلط والإذعان التاريخي

لا يخلو بناء مسرحي من تقنية السرد سواء أكان سرداً حوارياً على ألسنة الشخصيات الدرامية أم على لسان مجموعة الكورس أو على لسان الراوية . أو كان سرداً تشكيلياً أو سينوجرافياً أو بلغة الجسد أو سرداً تمثيلياً . وهنا يتشكل السرد في مستويات متنوعة ما بين سارد أول وسارد ضمني وسارد ثالث
وفي مسرحية (مسافر ليل) يلجأ الشاعر في التقديمة الدرامية إلى (السارد الضمني) – من خارج الحدث – ليحلل رحلة الإنسان عبر التاريخ تحليلاً إطارياً مكثفاً وتجريدياً ، على متن قطار الزمن ؛ وبذلك الخروج على مبعدة من الحدث نفسه ، يحقق الهدف التنويري من خارج الحدث ، بوصفه مثقفاً طليعياً يعمل على خلق توعية طبقية لدى الغالبية التي ترمز إليها شخصية الراكب باعتبارها المحكومة بعامل التذاكر بوصفه رمزاً للحاكم فالشاعر يستعرض عبر مستويات ثلاثة المسيرة التاريخية للحاكم المتسلط بالحكي – التصويري- على لسان (السارد الضمني) : الراوي مرة وعلى لسان عامل التذاكر (السارد الثالث) - تشخيصاً - يعيد فيه فعل التسلط ومتداعياته أو يحكي بعضه منتحلاً صفة السارد الثاني في مرة أخرى وعلى لسان الراكب تشخيصاً – نفسياًَ- يعيد فيه فعل الإذعان مرة أو يحكي بعضه منتحلاً صفة السارد الضمني في مرة أخرى :
"الراوي : هاهو ذا يتململ سأمانا
إذ لا تستهويه اللعبة
فيجرب أن يلعب في ذاكرته
يستخرج منها تذكارات مطفأة ، ويحاول أن يجلوها
أسفا ، لا تلمع تذكاراته
يدرك عندئذ أن حياته
كانت لا لون لها
يسقط من عينيه أيامه
تتبدد دواماتٍ فوق حديد الأرضية
لا تتكسّر قطعاً وشظايا
إذ ليس هنالك شيء صلب
تراك .. تراك .. تراك
يتذكر مسبحته
يستخرج من جيب السروال الأيمن
تهوي من يده ، يتفقدها بأصابعه ،
فتروغ لترقد بين الكرسيين
يجهد أن ينقذها ، فتغوص .. تغوص .. تغوص ..
ويظل يفتش حتى تتناثر سبحته حبات
تتساقط فوق حديد الأرضية
تراك .. تراك .. تراك "
لأن السارد يمثل ما تراه الشخصية فحسب كما لو كان ينظر عبر عينيها أو كما لو كان "شاهداً غير منظور" يقف إلى جانبها السرد بوساطة المؤلف أو بوساطة الشخص الأول " ولأن السارد الضمني الراوي يقوم مقام الشاعر لذا يتكشف الدور التنويري تلميحاً ، لا ينفصل عن طبيعة التصوير الشعري ؛ على اعتبار أن الشعر "لمحٌ تكفي إشارته" – حسبما قال البحتري-، وحيث يستشف ما وراء الصورة من معانٍ أو دلالات. هنا – يمكننا أن نلمح بمنظور نظرية الانعكاس وعلى ضوء مصباح سيميولوجي خصوصية الشاعر نفسه .
من وراء غيم المعاني في عرض السارد الضمني (الراوي) فاللعب في الذاكرة ، لا يفيد من خوت حصّالة ذاكرته من تسجيل مادي لأفعال مجسدة لهويته . فعندما لا يكون للإنسان تاريخ مادي ملموس هو موضع تأثير إيجابي في واقع الآخرين ؛ قبل أن يكون مؤثراً في واقعه الذاتي ؛ فإنه يلوذ بمظاهر شكلية ، يتمسح بها . وهكذا يلوذ الراكب بمظهر تديّني .. بعد أن أدرك (أن حياته كانت لا لون لها) وهو يسترجع شريط ذكرياته عبر رحلة إذعانه التاريخية التي سيّرها الحكام المتسلطون باعتباره رمزاً لعامة الناس (المحكومين) على مر التاريخ ؛ ذلك أن الذاكرة هي القدرة على التمثل الانتقائي Selectively represent وفي واحدة أو أكثر من منظومات الذاكرة للمعلومات التي تميز بشكل فريد خبرة معينة ، الاحتفاظ بتلك المعلومات بطريقة منظمة في بنية الذاكرة الحالية وإعادة إنتاج بعض أو كل هذه المعلومات في زمن معين بالمستقبل وذلك تحت ظروف أو شروط محددة "
فعندما يكون التدين شكلياً وسطحياً (ظاهرياً) ؛ فإن ما وراء المظهر نفسه يروغ منه وينفلت . ولنلحظ لفظة (جيب سروال الأيمن) فمظهر تدينه في جيب سرواله ، وهو يخرجه عند الحاجة أو عند الفراغ في محاولة تبريره لخواء حياته من فعل مادي إيجابي له في حياته الإنسانية ، بالانتساب إلى مفردة من مفردات الاتباعية الدينية – باعتبار فكرة "اليمين" فكرة تدينية – وباعتبار " المسبحة " وسيلة ضبط إحصائي لطقس التسبيح والحمد – الذي ينسب فاعله إلى اليمين (الفكر الاتباعي) .
فاستخدام المسبحة أداة قياس وإحصاء عددي لأقوال الحمد وآلية ترديداتها ، وهنا يحل ظل التعبد محل العبادة مثلما تحل خصلة من شعر الحبيبة محل الحبيبة نفسها – وفق الفشتية – على أن خصوصية ما كامنة في آلية استدعاء الشخصية للحظة ، حيث يمد السارد الضمني الصورة المستعادة بخيوط الطقس التراثي ؛ لخلق لحظة لم تكن قائمة من قبل ، مع إنها الابن الشرعي لماضي شخصية الراكب – بتعبير صلاح عبد الصبور نفسه - إلى جانب كونها بمثابة الابن الشرعي للمستقبل .. فاستدعاء الراكب التجريبي لمذخور ذاكرته ، وليد حالة السأم التي انتابته – حسبما أشار السارد الأول - :
"هاهو ذا يتململ سأمانا
إذ تستهويه اللعبة
فيجرب أن يلعب في ذاكرته
يستخرج منها تذكارات مطفأة ، ويحاول أن يجلوها "

المسكوت عنه في اللحظة الدرامية المختزلة :
وعندما يتكشف خواء تلك الذاكرة وبهتان ما حوته يمده (السارد الضمني الراوي / الشاعر نفسه) بلحظة مختزلة ، إذ تمتد يد الراكب إلى الجيب الأمن لسرواله – الأيمن تحديداً – ليخرج منه شيئاً لا يخرج إلاّ من الجيب الأيمن – المسكوت عنه - وهنا يوظف التداعي التلقائي المدرب للاثنين : (السارد الضمني/ الراوي / الشاعر) و( السارد الثاني / الراكب) الذي يعاد تصوير فعله بالسرد التشكيلي عبر ذهن السارد الضمني وعبر ذهن المتلقي فور تلقيه للصورة على لسان (السارد الضمني) فيكفينا أن نلحظ ما وراء ذلك التداعي التلقائي المدرب حيث تمتد يمين الراكب إلى الجيب الأيمن في سرواله ليخرج لا إرادياً مسبحته . وما وراء فعله – المسكوت عنه- يشكل نواياه المستقبلية وهي الهجوع إلى الإذعان والتسليم : فالسأم إذاً سلمه للعب في ذاكرته ؛ وخواء ذاكرته من أي شيء إيجابي يعتز هو نفسه به ، يسلمه إلى مخزون طقسي تراثي هو ظل من فعل العبادة.
ولأن الصورة الفنية (الدرامية الشعرية) تتدعم بتداعيات صور أخرى سريعاً ما تتوالد عبر اللحظة المختزلة ؛ لإعادة إنتاج الفعل وصور توالده وتداعياته التي يحكم الشاعر الإمساك بزمامها حتى لا تسقط المغزى التنويري الذي حمّلها به ، بغية الإشارة إلى مظهرية فعله التديّني:
" تهوي من يده ، يتفقدها بأصابعه ،
فتروغ لترقد بين الكرسيين
يجهد أن ينقذها ، فتغوص ، تغوص ، تغوص
ويظل يفتش حتى تتناثر سبحته حبات
تتساقط فوق حديد الأرضية
تراك .. تراك .. تراك "
هكذا تحل آلية المقطع الصوتي لسقوط حبات المسبحة على حديد الأرضية بديلاً عن وحدة صوته المتكررة فيما لو كان قد تمكن من استعمال مسبحته في آلية تكرار جملة التكبير أو الحمد ، لتأكيد مظهرية تدينه ، أو شكليته ، لأنه ما لجأ إلى طقس التسبيح ، وإنما إلى مجرد التلهي بآلية تفض عزلته وتوتره ، وتشعره بالصحبة ، حيث أراد باتخاذ المسبحة رفيق ظل في رحلته . ولكن الشاعر – هنا – يحرمه من تلك النغمة ، مع إنها مجرد ظل رفقة .
وهنا تعمل التداعيات مع التفاصيل (منمنمات الصورة) على منح الصورة لوناً خاصاً بها يمنحها هويتها .. فالشغل على تفاصيل الصورة هو الذي يقودنا إلى سر الصنعة في الشعر والمسرح بتعبير صلاح عبد الصبور
يعتمد صلاح عبد الصبور هنا على حدث يقوم على ثلاثة محاور : (محور معرفي ومحور ثقافي اجتماعي ومحور تشكيلي) ولأن الموقف هنا تأسس على التجريد وإلقاء عبء تجميع مفردات أو جزئيات الصورة ، بهدف خلق حالة مشاركة إدراكية فحسب ، لذلك ألقى بعبء حمل خطاب الحكي على عاتق (السارد الضمني/ الراوي) نائباً عنه ومن ثم لم يصبح هنا مجال للمحور الوجداني.
يقول د.ماهر شفيق فريد في زجره لناقدي إبداع إليوت في تجريده لشخصياته المسرحية : "إن الفن إعادة خلق وليس عملية تسجيل والشخصية الحية في الفن ليست هي التي تتصرف وفق المنطق الحياتي ، وإنما هي التي تتصرف وفق المنطق الفني وحسب قوانين الحتمية الفنية "
يقول د. مصطفى سويف : " إن الشاعر لا يغير ذكرياته ؛ ولكنها تعود إليه متغيرة – وهو لا يقصد إلى وصف الوقائع من حوله بأوصاف جديدة ، لكنها هي التي تأتي حاملة هذه الأوصاف "
وإذا كانت شخصيات مسرحيات صلاح عبد الصبور الشعرية – فيما عدا (ليلى والمجنون) تبدو على مبعدة من أمور الحياة اليومية ومن الرسالة الاجتماعية الواضحة . مع ميل إلى أناقة الفكر والتعبير ، فذلك لكونه صاحب رؤيا خاصة للوجود ، رؤيا شعرية اختارت لنفسها قالباً درامياً . هو كما كان إليوت معنياً بقالب درامي شعري " تتحالف فيه الاهتمامات الإنسانية مع براعة الصنعة ، كي تنتج – في نهاية المطاف – أثراً كلياً لا يختلف ، من حيث الجوهر ، عن الأثر الكلي الذي تخلقه القصيدة أو القصة في نفس متلقيها "
فشخصية الراوي – بوصفه سارداً ضمنياً - تبني اهتمامات الشاعر الإنسانية بخلق حالة تحالف بين ما ينتجه ذهن الراكب من تهويمات ذاكرة البشرية عبر تاريخها الممتد من بذرة الفكر الفلسفي الأرسطي إلى آلة الحرب والدمار بداية من تلميذه الإسكندر حتى الواقع البشري المعاصر فمع أن الراوي وهو السارد الضمني التاريخي ، يحذر الراكب من استدعاء عظيم من العظماء عبر ذاكرته ، حتى لا يسيطر بعظمته من جديد على البسطاء ، بعد أن رآه وقد توقف عند أسماء محاربين طغاة ومحاربين وقادة عظماء وهو يقرأ أسماءهم على صفحة من جلد الغزال أخرجها من معطفه ، بعد أن انفرطت حبات مسبحة تسليته وتبعثرت ؛ غير أن الراكب لم يأبه لتحذير الراوي الضمني - رب العبرة التاريخية - :
" الراكب : الاسكندر
" تك .. تك .. تك "
هانيبال
" تك .. تك .. تك "
تيمور لنك
" تك .. تك .. تك "
هتلر .. متلر .. جونسون .. مونسون
" تك .. تك .. تك "
الاسكندر .. الاسكندر .. الاسكندر
الراوي : معذرة .. لا ينفصل الإنسان عن اسمه
فالعظماء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرة التاريخ
لتسيطر عظمتهم فوق البسطاء
والبسطاء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرتك
ليكونوا متنزه أقدام العظماء
ولذلك خير أن ننسى الماضي
حتى لا يحيا في المستقبل
حتى لا يخدعنا التاريخ
ويكرر نفسه
الراكب : الاسكندر .. تك .. تك .. تك
الاسكندر .. تك .. تك .. تك
إن مناداة الراكب للإسكندر هي مناداة استدعاء غير المحكوم لمن يحكمه ولأنه نادى الإسكندر على وجه الخصوص وهو من هو الغازي الذي يغزو الممالك والأمم مستخدماً الفكرة سلاحاً يقتل به كل من وقف في طريق طموحاته غير المحدودة . لذلك يتشكل الإسكندر أمام عينيه من أي عابر سبيل ، في درب من دروب أي عصر في أي مكان له طموحات سكندرية :
" عامل التذاكر : من يصرخ باسمي ، من يدعوني
من أزعج نومي في راوية العربة
أنت .. ؟
الراكب : معذرة .. من أنت ؟
عامل التذاكر : أنا الإسكندر
في صغري روضت المهر الجامح
في ميعة عمري روضت أرسطاليس
حين بلغت شبابي روضت العالم. "
هذا التصريح صوغ من عقل الشاعر نفسه ، إذ قلب المعلومة التاريخية رأساً على عقب لما رأى الدعوة الأرسطية نحو عولمة ثقافية تحت راية الفكر اليوناني وهي أول عولمة ثقافية في التاريخ وقد حولها الإسكندر إلى عولمة عسكرية اقتصادية ، إذ استبدل الغزو الفكري والثقافي بالغزو العسكري وسيادة العقل بسيادة السيف . وهي سيادة لم تكن لتتحقق لمغامر مستعمر ومتسلط ، دون خنوع جعل من خده مداساً لقدمه ؛ أو مظهر متراخ يأخذ الأمر باستهتار وتهكم ؛ فكلاهما مدخل للتسلط :
" الراكب : مرحى يا اسكندر .. هل أكثرت من الشرب "
هذا العبث غير المسؤول للتسلية أو لاصطناع رفقة مع مسبحة لا تستجيب له ، سريعاً ما يتحول عنها إلى لون آخر من العبث الحقيقي ، مع كائن وظيفي أي صاحب سلطة ؛ فإذا بالعبث يتحول إلى حقيقة :
"عامل التذاكر: لا تعرف قدري .. يا جاهل
قسماً ، سأروضك كما روضت المهر الجامح "
إن فصل البناء الدرامي في هذه المسرحية بين الفعل القولي أو المسموع (حوار الراكب وحوار عامل التذاكر) والفعل المرئي (الوصف السردي للفعل التطبيقي المرئي المادي في حكي الراوي وهو الدال على تحقيق الأقوال) هو بمثابة فصل بين الشعار وتطبيقاته ؛ فما أن يطلق (عامل التذاكر) تهديده ، حتى يصف لنا الراوي منظومة أفعاله تحقيقاًَ لقوله :
" الراوي : تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيمن
يستخرج سوطاً ملفوفاً
تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيسر
يستخرج خنجر
تمتد يد الإسكندر في ثنية سرواله
يستخرج غدارة
تمتد يد الإسكندر في حلقه
يستخرج أنبوبة سم
تمتد يد الإسكندر في جيب خلفي
يخرج حبلاً ..
يتحسسه خجلاناً ، ويقول :
عامل التذاكر : هفواً .. هذا مات به أغلى أصحابي
أعطيت صديقي الحبل ليلعب به
فأساء استعماله "
حكي يستعيد صور إرهاب الحاكم الفردي المتسلط ، الغازي ، فكل الغزاة والعسكريون الحكام مختزلون في هذه المسرحية في شخص الإسكندر. ذلك الغازي الأول باسم العولمة الثقافية ، متشحاً براية الفكر تحت شعار توحيد العالم تحت راية الفكر اليوناني ، تتويجاً لفكر أرسطو ، سلباً لهويات ثقافات الأمم الأخرى ، فسرعان ما ينزع قناع الفكر ويتدرع بقناع القهر المسلح؛ في مواجهة الآخر غير الخانع ، حتى إذا كان تابعه وأداة تحقيق إرادته وأقرب المقربين إليه؛ وهو يصفيه تصفية جسدية ثم يعلن على الملأ عبر وسائله الإعلامية بأن الرجل قد انتحر – بعد انتهاء مهمته- :
"هل تدري ؟
كلماتي في معناه صارت من مذخور التاريخ الأدبي
لم أكتبها ، لكني شاهدت وزيري يكتبها
وصرفت له خبزاً ونبيذاً ، حتى أنهاها
حتى علمني أن ألقيها إلقاء مأساوياً
يخضع لأصول النحو
فأنا أخطئ دوماً في الفاعل والمفعول "
هكذا يمسك الشاعر بطرف حبل التداعيات ، يرخى للصورة بالقدر الذي لا يسمح لمفردات التكوين في التعبير الدرامي الشعري بالانفلات أو التشتت الذهني للمتلقي . وتلك خاصية من خصائص سر الصنعة عند صلاح عبد الصبور تشير إلى بعد من أهم أبعاد العملية الإبداعية وهو السيطرة على السياق والإمساك بالجزئيات والتحليق فوق أسوار الكل بما يسمح بالتنقل بين الكل والأجزاء بشكل ديالكتيكي وبما يسمح بالنمو المتصاعد للعمل الإبداعي وللمبدع أيضاً، فالمبدع ينمو مع عمله ويكتسب خصائص هذا العمل "
لذلك لا نتشتت ذهنياً عندما ينتقل في تخلص درامي وجمالي من وصفه لحال صديقه الذي أعطاه المسؤولية (الحبل) فشنق بها نفسه ، إلى استعراضه الموجز لتاريخ حبل السلطة ودور وزيره في تمجيدها وتدريبه على إلقائها . والتأريخ لها في مقابل خبزه ونبيذه (ببطنه) وصولاً إلى طمع ذلك الوزير في ولاية ثمناً لأداء وظيفته :
" حتى علمني أن ألقيها إلقاء مأساوياً
يخضع لأصول النحو
فأنا أخطئ دوماً في الفاعل والمفعول
كان وزيري طماعاً ، إذ طالبني بولاية
ثمناً لدخول التاريخ ككاتب
فوهبت وزيري الأرض بأكملها كي يرقد فيها "

ليس الفاعل والمفعول هنا سوى الجاني والمجني عليه . إن الاستعارة والكناية وألوان التورية المجازية تصنع المسكوت عنه في التعبير الدرامي الشعري والنثري ، لذلك لا جب فهم الصورة الإبداعية من ظاهر القول . يقول الشاعر الأمريكي إدجار ألن بو : " يوجد في كل التعليقات المكتوبة عن شكسبير خطأ جذري لم يفطن إليه أحد . إنه يتمثل في محاولة شرح شخصياته لا على أساس أنها من صوغ العقل الإنساني ، وإنما على أساس أنها موجودات فعلية على وجه الأرض "
لا يستغرق فهم طبيعة فعل الحاكم الفرد المتسلط الكثير من التفكير مع اختزال الشاعر لأبعاد الشخصية ، حيث لا نكاد نرى ملمحاً واحداً من ملامح بعده الجسمي أو الاجتماعي أو النفسي، وإذا كان رسم الشخصية النمطية رسماً تجريدياً وفق ما جرى عليه مخططات الاتجاه الحداثي في إبداعاته التفكيكية ، وهنا يتبين لنا دور المؤلف الشاعر في تمليك شخصياته خبراته هو نفسه ، ومعارفه ، بحقنها في دماء تلك الشخصيات ، بوصفها من خلقه وصلاح عبد الصبور هنا ، إذ يتستر خلف (الراوي) ويجعله خليفته على كون خليقته إذ يقعده على عرش المستوى السردي الأول ، فإنه يملكه أمر كشف تاريخ حاضر شخصياته الرمزية (الراكب) و(عامل التذاكر) بوصفهما شخصيتين رمزيتين ، وكشف مبكر لفعلها المستقبلي ، فيما هو أقرب إلى مخطط أو دراسة جدوى تشخيصية لفعلها القادم قبل أن يقوم أحدها بإعادة إنتاجه امامنا . فالراكب وعامل التذاكر كلاهما لا يمتلك أي منهما تاريخاً ، سابقاً ، لذلك رأينا " "أنا " : الراوي " لما رغبت في التقاء الآخرين سعت إلى الالتجاء تحت رعاية الـ "هو" (المؤلف) أي تحت رعاية نظام رموز ممتلئ ، حيث الوجود ، لا يتداخل والعلامة وبالمقابل فإن ظلاً من الماضي يتخلل حُبسة الناقد إزاء الـ (أنا) "
هكذا التقت (أنا) : (الراكب) السارد الثالث – تشخيصاً تشكيلياً سردياً – بـ(هو) : (الراوي / السارد الأول) وكذلك فعلت (الأنا) عامل التذاكر المتوالدة أو المتشظية في أنوات متعددة ومتباينة – تشخيصاً سردياً تشكيلياً – وبذلك أصبحت للراكب طبيعته الخانعة تبعاً لجموده في درجته على السلم الاجتماعي ، بينما تملك شخصية (عامل التذاكر) صوراً متعددة للحاكم الفرد المتسلط المستعبد لتلك (الأنا) الخانعة الرابضة في موقعها الطبقي الساكن .
يجرنا هذا التأويل إلى القول مع رولان بارت أن : " الناقد هو من سعى إلى الكتابة ، والذي يملي انتظار عمل أدبي إضافي ، يصاغ خلال البحث عن ذاته . وتكمن مهمته في إكمال مشروع الكتابة ، ومتجنباً إيّاه في الآن ذاته . الناقد كاتب إنما حتى إشعار آخر "
ولأن " الناقد كما الكاتب ، يتمنى من القراء أن يثقوا ويوقنوا أكثر بقراره الذي اتخذه بالكتابة ، ولا يسعه أن يوقّع هذا التمني ، عكس الكاتب ، لذا يبقى محكوماً بالخطأ – وبالحقيقة "
لذا أثنّي على ما سبق لي قوله حول تأثر شخصيات صلاح عبد الصبور بالظواهرية الهيجيلية، حيث " تبدو الظواهرية الهيجيلية في محاولات شخصيات صلاح عبد الصبور لصنع هويتها ، حيث يسطع فكرها سطوعاً جدلياً على الواقع ، ومن ثم يرتد إلى الشخصية كما هو ، لأنه لا يجد في الواقع إلاّ صوراً ذهنية . وهو في رحلة سطوعه على ذلك الواقع لا يطور فيع فعلاً ولكنه ينمي الفكر فحسب ، ويطور العقل . من ثم فإن تحقيق الهوية لا يتمثل عندها إلاّ تمثلاً ذهنياً ، ومن ثم يكون التغيير الذي يمكن حدوثه تغيراً فكرياً فحسب ، وبدا تحقيق محاولاتها للهوية الفكرية المتمثلة في ذهن الكاتب "
هكذا كان (الحلاج) في محاولاته التفاعل المادي للثائر مع العامة ، فالوعي الذي ينقله إلى العامة وعي ذهني . وهكذا كان (الملك) حتى موته غير قادر على المستوى الواقعي على التفاعل المادي للمغازل ؛ فالشاعر يلقنه الغزليات تلقيناً ؛ كما يلقن جواريه :
" الشاعر : معذرة يا مولاي
لكني لقنت الأخرى كلمات مبتكرة
قد ترضي رغبتك الملكية "
"الشاعر : (ملقناً الملك في صوت خفيض)
يتنزل صوتك مثل رنين الجرس الفضي المتفرد ،
يتقطر من برج متشح بمروج الغيم الزرقاء "
" ليس للملك من فعل الغزل إلاّ ظله ، فهو ليس مغازلاً على مستوى قدراته الذاتية الواقعية ، إنما يكرر صورة المغازل التي لم تكن سوى صورة متخيلة في ذهن شخصية الشاعر "
وكذلك الأمر مع جواري الملك :
" الشاعر : لا .. لا .. قد ضاع المشهد . نسيت هذه المرأة أجمل ما فيه
سامحني يا مولاي
(للمرأة) مازال هناك حديث عن قيثارة حنجرتك
والأوتار تناشد مولانا أن يلمسها بأصابعه النورانية
مازال هناك حديث عن إغماضة عينيك
وأنت تغنين لمولانا عندئذٍ
إنك تحترقين شوقاً أن يرقد مولانا
في دفء الأمواج العسلية
وأخيراً كان جلالته سيقول :
خطواتك كالموسيقى إذ تتوافق في ذهن الفنان
عندئذ ستقولين :
بعثر هذي الأنغام على سلم رغبتك الملكية
وبصوت يتقطع آهات في حلقك
الملك : آه .. ما اتعس حظي
راقت لي الألفاظ كثيراً هذه المرة
لكن نسيتها . "
" الملك لا يؤدي بأحاسيسه هو ، ولا المرأة الثانية تفعل ذلك "
ليس للملك ولا لجواريه من الغزلية غير اللفظ ، فالـ(أنا) الشاعرة تمنحه صورة بالخطاب الغزلي ومضمونه دون أحاسيسها ، ولأنه ظل مغازل ، لذلك غابت عن اللفظ الأحاسيس ؛ ومن ثم غابت المصداقية وافتقدت الخصوصية .
والأمر نفسه عند الأميرة ووصيفاتها ؛ إذ ليس لها ، ولا لوصيفاتها غير ظل الفعل ، باجترار ذكريات فعل مضى وانقضى ، بإعادة إنتاجه ، ليخرج تشخيصاً لظل حبيبها الذي هجرها ، وظل أبيها المغدور من ذلك الحبيب الغادر (السمندل) حتى الشاعر الذي جاء مخلصاً (القرندل) هو أيضاً ثائر ظليّ لأنه أتى من حيث المجهول ، ومضى في غياهب المجهول ، كما لو كانت الأرض قد انشقت عنه فجأة أو هبط من السماوات العلى فبدا كمخلص وهمي ، أو غيبي .
لذلك يمكن القول إن صلاح عبد الصبور ، قد صنع شخصياته المسرحية ظلالاً لواقع سحري، واقع لا يشبه الواقع الحياتي . ذلك أن "الشعر عندما ينأى بعيداً عن إيقاع لغة الحياة ومصطلحاتها الجارية ، يفقد حيويته ، لذا فهو يميل إلى تقطير لعنته الخاصة من لغة الكلام العام المعتاد "
يقول إليوت : " إن كاتب الدراما الشعرية ، ليس مجرد إنسان ماهر ، في فنين اثنين ، وحاذق في أن ينسجها معاًَ . وهو ليس الكاتب الذي يستطيع أن يزخرف مسرحيته باللغة الشعرية والأوزان وإنما عمله يختلف عن عمل (الكاب المسرحي وعمل الشاعر) لأن نموذجه أكثر تعقيداً ، وأكثر أبعاداً .. بكل قواعد الدراما البسيطة الصريحة ، ولكنها تغزلها غزلاً عضوياً في تصميم خاص ، أكثر ثراء . "

كان الشعر ومازال مرتبطاً بمواقف رومنسية ، كما كان المسرح ومازال مرتبطاً بمواقف رومنسية ، ولئن جسد المسرح الشعري مواقف الحياة اليومية وفق تقنيات الواقعية أو وفق تقنيات التعبيرية والملحمية ؛ فقد جسد مسرح صلاح عبد الصبور الشعري شخصيات عبثية في مواقف عبثية وفق تقنيات مسرح العبث ، فكان ذلك فتحاً في مجال المسرح الشعري. فالتداعيات وعدم الترابط الفكري واللغوي والمقاربات أو المجاورات المعرفية المتواثبة وتجريد الشخصيات والمواقف والآلية والتكرار وسمات الحكي الناقص والتناقض فيما بين القول والفعل واستهداف الدهشة ، ماثلة في (مسافر ليل) ، وفي (الأميرة تنتظر) وفي (بعد أن يموت الملك) وهي حداثية تفكيكية ، تفكك النسق الاجتماعي والسياسي في واقع أنظمتنا السياسية ويفكك خطابها الديماجوجي وظاهرة تسلطها التاريخية على شعوبها ، كما يفكك خطاب استكانة الإنسان العربي وإذعانه المهين ، ويفكك دوره في صناعة حكامه المتسلطين على مدار تاريخه الطويل .

الهوامش :
التعبير المسرحي الشعري
بين التأمل الذاتي والانفتاح على المعنى
د.أبو الحسن سلاّم
 مهاد تأملي :
لعل من أهم خصائص الفكر في بنية الصورة الشعرية هو تقنع فكر الشاعر في خطابه الشعري بين طيات تعبيره بما ينطوي على نوع من البوح الذاتي المتأمل الذي ينفلت محمولاً على جناح وعي الشاعر أحياناً فيبدو مغلفاً بالمباشرة أو ينسرب من تحت جناح وعيه ليشف عن المسكوت عنه في سكتته الموضوعية في محراب الذاتية المتأملة – بما يشبه النقطة العمياء في مسار القصيد الشعري – وتلك مزية التفرد الشعري الذي يضيف إلى التجربة الشعرية مزية جديدة تشكل علامة فارقة بين شاعر وشاعر. غير أن تلك السكتة الموضوعية أمام الذاتية المتأملة التي تشف عن البوح الذاتي المتأمل وإن تناسبت مع شعر القصيدة فهي لا تتناسب على طول الخط مع الصياغة الدرامية بشعر المسرح ؛ إلاّ إذا ارتبط البوح التأملي الذاتي بشخصية مسرحية بعينها بما يتناسب مع أبعادها الاجتماعية والثقافية والنفسية وفي الحدود التي لا تستغرق من المتلقي للعرض المسرحي الشعري إلاّ زمن ترجمتها ترجمة معنوية فورية. والواقع يكشف عن استحالة ذلك في تلقي الصورة الشعرية حالة تبتلها التأملي الذاتي إذ أنها عندئذ تحتاج إلى زمنين أحدهما لفك شفرة الغلاف الذهني للصورة الشعرية في حوار الممثل (أولاً) تمهيداًَ للترجمة المعنوية لتلك الصورة من جملة تعبيرات الشخصية على لسان ممثلها (ثانياً) .. على اعتبار أن الأصل في عملية الإرسال والاستقبال في العرض المسرحي هو حالة الحضور الآني الذي يفترض ترجمة المتلقي الفورية لخطاب الشخصية المسرحية المحمول وجدانياً على لسان الممثل. وهو أمر يبدو متعذراً أمام الصورة الشعرية الدرامية المصطبغة بالتأملات الذاتية التي يشكل بوح الشخصية القناع الذي ينسرب من ورائه بوح الشاعر نفسه محمولاً على لسان فكر الشخصية . وهو أمر يلزم التلقي بكل مستوياته وطاقاته باستغراق زمنين وصولاً إلى معنى الخطاب الجزئي. أولهما: لفك شفرة الصورة المركبة من الصورة الذهنية إلى الصورة المعنوية ، وثانيهما: اكتشاف الدلالة طبقاً للمتوسطات القرائية (متوسطات التلقي) . وبذلك تفوّت عملية فك الشفرة الذهنية للصورة الشعرية الدرامية على المتلقي إمكان تحصيل حديث الممثل المتواصل الذي لا ينتظر الجمهور حتى يفك شفرة صورة شعرية صوتية انتهى من أدائها .
هذا البحث إذن معني بالوقوف عند إشكالية التعبير الشعري الدرامي عند تجسيده مسرحياً بحيث كان مفترضاً أن يكون تعبيراً درامياً شعرياً ، تبعاً لمقتضيات أسبقية الدراما على الشعر في النص المسرحي الشعري بحيث تصبح الدراما صاحبة العصمة على الشعر في الكتابة المسرحية الشعرية ، باعتبار الدراما تصويراً للفعل وليس تكريساً للصورة الشعرية على حساب الفعل – تبعاً للنظرية الأرسطية ولمتتابعاتها تحت مظلة المحاكاة أو مناقضاتها الإيجابية في حكي الدهشة التغريبية أو في حكي الدهشة العبثية السلبي.
على أن أسبقية الفعل في الدراما الشعرية على لغة الحوار الشعري لا يجب أن تطفيء وهج الطاقة الانفعالية لصالح الطاقة التأملية الفكرية ، وإنما توازن بينهما ، بما يتيح للفعل الدرامي المتجانس مع طبيعة الشخصية المسرحية فكراً وبيئة وثقافة متفردة أن يتحقق درامياً عبر سياق شاعري يتخذ من الشعر لغته ومن البواعث والعلاقات وعناصر التصوير الدرامي للحدث شاعريتها ليجسد هوية كل شخصية في النسيج الدرامي.

 البوح الذاتي المتأمل وإشكالية تلقي الصورة الذهنية :
تزخر مسرحيات صلاح عبد الصبور بوقفات البوح التي تقف عندها شخصياته وقفة اضطرارية لتنفث شحنة معاناة هنا وهناك مع تباين أسبابها . فإذا نظرنا في مسرحية (مأساة الحلاج) فلسوف نلحظ ذلك التباين ما بين بوح الشعور بالذنب ، وبوح التأسي وبوح المواساة، وبوح التأمل وبوح الإدانة وبوح الحض والتحريض ؛ ففي وقفة الحرفيين الدامعة حول الحلاج مصلوباً على شجرة في ميدان الكرخ ببغداد يتكشف البوح عن شعور بفداحة ما اقترفوه من ذنب في شهادة الزور التي قدموها ضده في مقابل دينار لكل منهم ، تلك الشهادة التي سلمته للجلاد :
"المجموعة : صفونا . صفاً .. صفاً
الأجهر صوتاً والأطول
وضعوه في الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتواني
وضعوه في الصف الثاني
أعطوا كلا منّا دينارا من ذهب قاني
برّاقاً لم تلمسه كفُ من قبل
قالوا : صيحوا .. زنديق كافر
صحنا زنديقُ .. كافر
قالوا : صيحوا فليقتل إنّا نحمل دمه في رقبتنا
فليقتلْ إنّا نحمل دمه في رقبتنا
قالوا : امضوا فمضينا
الأجهر صوتا والأطول
يمضي في الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتواني
يمضي في الصف الثاني "
لم يمض استرسال فقراء الحرفيين في بوحهم اعترافاً بالذنب مدفوعاً بتيار الشعور بفداحة الفعل ، وإنما انسرب من خلف جنحه المظلم بصيصاً من الوعي الفكري للتعبير الدرامي الذي تدثر ببردة التعبير الشعري. وهو أمر يحتم على الشاعر أن يبني التعبير على نحو يحرّف الصورة عمّا هو مألوف في النسق الحياتي وفق العادة والمألوف ليبدو الفعل الدرامي مشوهاً من حيث النسق النظمي البنائي ليحقق ضرورة براجماتية نفعية.

بوح الندم بين الضرورة الحياتية والضرورة الدرامية والجمالية:
في الحياة تختلف ضرورة النسق الوظيفي في صورة الفعل ورد الفعل عن ضرورته في التعبير أو التصوير والتشكيل الأدبي والفني. اصطفاف مجموعة من الناس اصطفافاً عفوياً تلقائياً ، أمام حدث ما أو حوله ، غير مقيد بنسق صناعي فيه إعمال عقلي أو تدبير منظم لذلك التجمع ، من هنا يبدو النسق من حيث مظهره عشوائياً ، بحيث يلبي الموضع الذي يقف فيه كل فرد من أفراد التجمع ، حاجته إلى الرؤية والسمع الحاضر لما هو حاصل مما اجتذبه إلى ذلك التجمع ، وهو أمر قد يستدعي تغييرات في مواضع الأفراد ، تبعاًَ لضرورة كل منهم إلى التعرف على كنه ما يجري. وهو أمر طبيعي ، لا يستهدف منه المتابع الحصول على معلومة حول ما يجري ، وليس الوصول إلى جمالية ما ، ولئن تحققت ؛ فذلك يكون بمحض الصدفة . وهذا غير ماثل في الصورة التي نسقها الشاعر هنا على النحو المألوف . أما اصطفاف مجموعة من الناس على نحو يلبي الضرورة الحياتية وفق نسق وظيفي مصنوع ، كاصطفاف الجند في طابور أو تدريب عسكري ، فيستلزم أن يقف الأقصر من الأفراد في الصف الأول ، ويقف الأطول فيهم في الصف الثاني ، يتبعه الأكثر طولاً في صف ثالث . وهكذا تتشكل منظومة الفصيلة أو الكتيبة نسقاً وظيفياً يمكّن الجميع من المواجهة بالنظر إلى الأمام وفق الوجهة أو المسيرة المحددة تحديداًَ مركزياً وحاسماً. وهذا غير ماثل في نسق الصورة الجماعية – المحكي عنها – في هذا المنظر الحزين فالنسق في اصطفاف فقراء الحرفيين -هنا – تفرضه الضرورة الفنية الدرامية الوظيفية في نسق جمالي مشوّه ، إذ وضع الأطول قامة والأجهر صوتاً في الصف الأول وهو أمر غير مألوف وفق الصورة الوظيفية التقليدية ؛ فجهارة الصوت وطول القامة هما أساس ترتيب نسق الصف في هذه الصورة ، وذلك لأن هدف المنظمين لتلك التظاهرة هو فضح الحلاج والتشهير به من ناحية وإعلان أصحابه من الحرفيين – من ناحية أخرى – وهم الذين وهبهم كلماته الحاضة لهم ليصلحوا أحوالهم المعيشية في اتجاه حثهم على عدم السكوت على حقوقهم المهضومة من قبل الأغنيء والحكام – لإدانته بتهمة الزندقة والكفر . فالأطول أكثر إيصالاً للصوت لمسافة أبعد ، خاصة مع جهوريّة الصوت. ومن الناحية الجمالية ؛ فإن في النسق تشويهاً مقصوداً لصالح الدلالة الدرامية ، فهذا التشويه قصد به خلق حالة من حالات الدهشة المتأملة للنسق المعكوس بما يغاير الصورة الاعتيادية ، والدهشة حالة من الحالات التي تستدعي التساؤل والتفكر اللحظي ، في محاولة اكتشاف سببية – بناء النسق على النحو الذي تعيد المجموعة تصويره بالحكي السردي. كذلك ما يستشفه المتأمل المؤول لدلالة لفظة (الأطول) حيث يجوز فهمها على أنه الأطول في فرض رأيه أو صوته على الآخرين وفهم لفظة (الأقصر) بضعيف القدرات ؛ إذ أنهم بحكم وضعهم في الصفوف الخلفية هم تابعون للأطول باعاً. وبذلك تكون الجمالية نابعة من لذة الشعور – المتأمل المؤول- بالتفوق لإدراكه كنه تشويه البنية الدرامية في الصورة الشعرية .

البوح التبريري ودرامية الاسترجاع:
من ألوان البوح في شعر الصورة الدرامية ذلك البوح الذي ينحو منحى التبرير لإبراء الذمة ونفضاً لتبعات الصمت وعدم المبالاة . وهو بوح استرجاعي ، إبراء للذمة ؛ وهو ماثل في تظاهرة جماعة الصوفية أمام مشهد الحلاج مصلوباً في الميدان ؛ ذلك أن الشعار عندهم أهم من صاحبه ، هو عندهم كما النحلة الملكة ؛ تموت فور إنجاز مهمتها :
"الفلاح : فلنسأل هذا الجمع
من أنتم ..؟
المجموعة: نحن القتلة
أحببناه فقتلناه "
الواعظ : لا نلقى في هذا اليوم سوى القتلة
ولعلكم أيضاً حين قتلتم هذا الشيخ المصلوب
المجموعة : ... قتلناه بالكلمات
الفلاح : زاد الأمر غرابه !
المجموعة : أحببنا كلماته
أكثر مما أحببناه
فتركناه يموت لكي تبقى الكلمات
التاجر : من أنتم ؟!
المجموعة : أصحاب طريق مثله
الواعظ : هل خفتم لما صاح الفقراء
فنكرتم أمره ؟
المجموعة : خفنا .. لا .. لا ..
لا يخشى الموت سوى الموتى
أنفذنا ما أوصانا به
الواعظ : أوصاكم به ..؟
المجموعة : كنّا نلقاه بظهر السوق عطاشا فيروينا ..
من ماء الكلمات
جوعى ، فيطاعمنا من أثمار الحكمة
وينادمنا بكئوس الشوق إلى العرس النوراني "
هنا نقف أمام غرابة الصورة وغرابة الفعل .. فالمحب لا يقتل حبيبه . غير أن للقتل في عرف المحبين أداة وحيدة هي عدم مبالاة المحب بحبيبه ، وحبهم له لأنه من صنع لهم شعاراً يستظلون بظله فلما انتهى من صنعه أحبوا الشعار وهاهم يرددونه ملقين تبعة قتله على ذلك الشعار فقوله كان قاتله :
" مقدم المجموعة : كان يقول :
إذا غسلت بالدماء هامتي وأغصني
فقد توضأت وضوء الأنبياء
كان يريد أن يموت ، كي يعود للسماء
كأنه طفل سماوي شريد
قد ضل عن أبيه في متاهة المساء
كان يقول :
كأن من يقتلني محقق مشيئتي
ومنفذ إرادة الرحمن
لأنه يصوغ من تراب رجل فان
أسطورة وحكمة وفكرة
كان يقول :
إن من يقتلني سيدخل الجنان
لأنه بسيفه أتم الدورة
لأنه أغاث بالدما إذ نخس الوريد
شجيرة جديبة زرعتها بلفظي العقيم
فدبّت الحياة فيها ، طالت الأغصان
مثمرة تكون في مجاعة الزمان
خضراء تعطي دون موعد ، بلا أوان
وحينما أسلمه السلطان للقضاة
وردّه القضاة للسلطان
ورده السلطان للسجان
ووشيت أعضاؤه بثمر الدماء
تم له ما شاء
هل نحرم العالم من شهيد ؟
هل نحرم العالم من شهيد ؟
الواعظ : أو لم يحزنكم فقده ..؟
المجموعة : أبكانا أنا فارقناه
وفرحنا حين ذكرنا أنا علّقناه في كلماته
ورفعناه بها فوق الشجرة "
لم تكن تلك التعبيرات التأملية سوى تمثل لتعابير الصوفية سكنت شاعرنا كما سكنت الحلاج نفسه.
تضمن هذا البوح الكثير من المفردات والمفاهيم الصوفية ، التي يغيب مغزاها عن المتلقي ربما على اختلاف مستوياته الثقافية وهو أمر يحول بين المعنى الجلي والمفهوم وبينه، وهو أمر لو شغل به فكر المتلقي المشاهد للعرض لبرهة قصيرة لضاع منه تحصيل معان حملها أداء حوار تال للمجموعة نفسها في إطار النسق الأدائي لبوحها في تظاهرة إبراء الذمة، وإعلاء الشعار على صاحبه . وهو إعلاء لا يتحقق إلاّ بمساعدته على نوال الشهادة . وهو أمر قريب من فكرة الخلاص في الديانات الأوزيرية ثم المسيحية بعد ذلك ، وفي فكرة الخلاص في الاستشهاد الحسيني عند الشيعة . فما أشبه هذه التظاهرة التطهيرية بتظاهرة الشيعة السنوية عبر مسيرة جلد الذات الجماعية ، التي تنقلها لنا الفضائيات في ظل الاحتلال والممارسات البهيمية المجهولة الانتساب والأسباب. وفي هذا الإعلاء إحياء للفكرة التي زرعها الحلاج بكلماته . والإحياء لا يتحقق إلا بري تلك الشجيرة (الشعار) بدمائه . فالخلاص في نهاية المطاف لا يتحقق بالكلمات وإنما بالدماء.. فلكي تحيا الفكرة وتتوهج ، لابد من التضحية بصاحبها . وبديلاً عن أن تكون الفكرة سبباً في حياة أفضل لمعتنقها تصبح سبباً في الموت.
البوح الإسقاطي (بوح القناع):
من البوح ما كان بوحاًَ إسقاطياً متمرداً ذا خلفية أيديولوجية ، وهو بوح مواجهة فكرية . ومثاله في مواجهة السجين الثاني للحلاج في الزنزانة ؛ وهو بوح يتقنع خلفه الشاعر ؛ إذ يحمل كلماته على لسان السجين الثاني ؛ هو بوح متعارضين أحدهما سلبي ، وتواكلي ، والآخر إيجابي :
" السجين الثاني : وبماذا تحيي الأرواح ؟!
الحلاج : بالكلمات
السجين الثاني : أتراك تقول ..
صلوا .. صوموا .. خلوا الدنيا واسعوا
في أمر الآخرة الموعودة
وأطيعوا الحكام وإن سلبوا أعينكم يتنزى منها الدم
رصوها ياقوتاً أحمر في التيجان
بشراكم ، إذ ترثون الملكوت
عفوا ، هذا لفظ من ألفاظ شبيهك "
مع أن الحلاج قد أدرك أن محاوره الناقض لخطابه يشبّهه (بابن الإنسان) الأمر الذي استدعى شكره له ، فمال قليلاً نحو النقد الذاتي ، إلاّ أن إدراك التلقي لذلك المعنى بعيد إلاّ على قلة من المثقفين :
"الحلاج : شكراً ، تعطيني أعلى من قدري
لكن في قولك بعض الحق
فأنا أحياناً أصرخ فيهم : خلوا الدنيا الفاسدة المهترئة
ودعوا أحلامكم تنسج دنيا أخرى "
ومع ذلك فإن بوح نقده الذاتي – هذا – يواجه ببوح ناقض له ، مفكك لمضمونه السلبي :
" السجين الثاني : دنيا أخرى من صنع الأحلام ؟
الحلاج : الحلم جنين الواقع "
ولأن البوح في الحوارية الوجاهية بين الرأي والرأي الآخر هو بوح إدراك متبادل في حالة من التعارض المحمول أحدهما على تيار وعي متبن لتجربة عملية في مواجهة وعي استلابي متبن لفكرة نظرية أو مجرد شعار .
ومثاله من (الحلاج) أيضاً المواجهة التي تمت بين القاضي أبي عمر والحلاج في مشهد المحاكمة :
"أبو عمر : يا حلاج .. أتدري لم جئت هنا ؟
الحلاج : ليتم الله مشيئته يا سيد
أبو عمر : هذا حق ..
والله تبارك وتعالى
قد ثبت في كف خليفتنا الصالح
أبقاه الله
ميزان العدل وسيفه
الحلاج : لا يجتمعان بكف واحدة يا سيد
أبو عمر : هذا قول من فتّان القول
لا يدركه أمثالك من أهل الفتنة
ابن سليمان : حلو .. حلو .. "
بوح النوايا في دراميات التنفيس والتنفيث :
من البوح ما كان إعلاناً عن النوايا .. فهنا يتطور البوح ليصبح بوحاً للنوايا . وهو لون من ألوان التنفيث عن ضغينة. وهو بوح تهديد ووعيد ؛ عندما يكون البوح كله إسقاطي ؛ فمنه التنفيث، وهو بوح مرضي ومن التنفيس تفريجاً عن كرب أو معاناة *. ومن بوح النوايا ما ينفثه القاضي أبو عمر حيث يصرح بما ينتويه من شر ضد الحلاج بما يخرج عن حيدة القضاء :
"الحلاج : لم يفتنّي قولك يا سيد
أبو عمر : سيروعك قولي فيما بعد
فاسمع وارتع
مولانا لا يدفع عبداً ممن وُلِّى
فيهم للسيّاف
إلاّ إن أحصى ما فرّط من أمره
في ميزان الإنصاف
مولانا يدري من زمن . أنك تبغي
في الأرض فسادا
تلقي بذر الفتنة
في أفئدة العامة
وعقول الدهماء
تتستر خلف الذقن الشهباء
أو أثواب المجذوبين الفقراء
والأقوال الغامضة المشتبهات القصد
إذ تسبكها وتقفيها كهذاء الشعراء
قل .. ماذا تبغي بهذائك؟
هل تبغي أن يضع المسلم ..
في عنق المسلم سيف الحقد ؟
الحلاج : لا .. يا سيد
بل أبغي لو مد المسلم للمسلم
كف الرحمة والود
أبو عمر : ولهذا تعرض للحكام
من أهل الرأي وأصحاب النعمة "
بوح الفضفضة (الديماجوجي) ودرامية المسكوت عنه :
حيث يطلق القاضي افتراضات مطلقة لا دليل على صحتها . إذ يتحول البوح التنفيثي إلى بوح مسلح بالوعي الطبقي المتقنع بالنص القرآني ليخرس أي قول مخالف لقوله من أن المحاكمة هي لقضية سياسية ، قضية رأي واعتقاد ؛ بخاصة والقاضي أبو عمر الحمادي هو قاض من قضاة المالكية المعروفين بتقربهم من الخلفاء والأمراء :
"أبو عمر : ماذا تبغي ؟
أن يختل الناموس ويصبح أمرُ العامة
أعلى من أمر الخاصة
أن يحكم فينا الحمقى والجهلة
أن يُعطى الأمر لمن ليس بأهل له
ابن سليمان : فتقوم الساعة
أبو عمر : يا حلاج
الجرم الثابت لا ينفيه أن تتباله وتتمتم
ابن سريج : يا مولانا . هلاّ أعطيت الرجل المهلة يتكلم
فلقد حققت وأحكمت التهمة ، ثم أدنت
أبو عمر : ما حاجتنا أن نسمع في هذا المجلس
فيضاً من لغو القول المبهم ؟
فليعلُ حديث العدل إذا خرس الجُرم
قال تعالى :
" إنما جزاء الذين يفسدون في الأرض "
دراميات البوح المراوغ :
هو بوح يعتمد على التورية التشخيصية. وهي ليست تورية لفظية ، حيث للفظ معنيان أحدهما ظاهر ، والآخر باطن ، وهو المقصود ، بل تعتمد على موقف حقيقي مقصود ، يتخفى خلف موقف زائف وخادع وهو ماثل في مراوغات القاضي ابن سليمان (وهو حنفي المذهب)** :
"ابن سليمان : لا أخشى أن يلزم دمه عنقي
باسم الشرع
لكني لا أرضى أن يلزمني باسم السلطة
فأنا لم أشهده يبغي إفساداً في الأرض
أبو عمر : الشرطة قد شهدته
ابن سليمان : لكني لم أتحقق من قول الشرطة
أبو عمر : يا ابن سليمان
لسنا أهل التحقيق
بل أهل الفتوى . أعلم هذا الجيل
بأحكام الشرع ؟
فالشرطة والوالي والسلطان يسوسون
.. أمور الدولة
ويميزون الجاني .. ويقيسون الجرم
بإمعان وتثبت
فإذا صح الجرم لديهم وقفوا
الجاني بين يدينا
لنرى فيه الرأي الشرعي الصائب
ابن سليمان : يا مولانا
رأي من رأيك ..
لكنك قد وضحته
ببيان مثلي لا يدرك حسنة
فلتسمح لي أن أعرض رأيي
بعباراتي الجرداء من الفطنة
إني قد أسأل نفسي الآن
من نحن .. وما علة هذا الجمع ؟
نحن رجال العلم . وأهل الشرع
والوالي يستفتينا في أمر
وعلينا إتقان الفتوى
أنا لا يعنيني ما اسم المتهم ..
الماثل بين يدينا
والحلاج لدينا حالُ . لا شخص ماثل
وكأن الوالي يسألنا
ما حكم الشرع العادل
في من يبغي في الأرض فساداً . يبذر
فيها بذر الفتنة
وهنا نتملى في الأحكام . وننثرها
نتخير منها
ونقول :
للوالي . لا للحلاج
هذا حكم الشرع
في من يبغي في الأرض فساداً
أن تقطع أرجله .. أيديه .. ويصلب
في جذع الشجرة
ويفض المجلس
هل فتوانا ملزمة للوالي ؟
لا .. فله أن ينفذها
أو أن يسترجع أمره
وهنا لا نحمل وزر دم مسفوك
في ظلم أو عدل
ابن سريج : لا ، لا ، يابن سليمان "
لا يفلح التهرب من المسؤولية عن طريق المراوغة واللف والدوران على الحقائق ، وجود وعي نقدي مسلح بالشجاعة والاستقامة والعلم والفهم التام بأبعاد موضوع اختلفت حوله الآراء ضروري خاصة إذا كان موضوعاً يتعلق بالأرواح والأنفس ، من هنا تتطور المواجهة إلى اصطدام ، بين ممثلي المذاهب الثلاثة ، بين حزب الموالاة وممثل المعارضة. مع خطأ ذلك الأمر وخطورته في مجال القضاء
"ابن سريج : ما تنسجه من محبوك القول
أحبولة شيطان
إن الكلمات إذا رفعت سيفاً
فهي السيف
والقاضي لا يفتي . بل ينصب
ميزان العدل
لا يحكم في أشباح . بل في أرواح
أغلاها الله
إلاّ أن تزهق في حق . أو في إنصاف
الوالي والقاضي رمزان جليلان
للقدرة والحق
لا تدنو من مرماها أفراس القدرة
لا تبلغ غايتها
إلاّ إن أمسك فرسان الحق
بزمام أعنتها
فإذا شئتم أن ينقلب الحال
أن تلقوا فرسان الحق
صرعى تحت حوافر فرس القدرة
فأنا استعفي من مجلسكم
أبو عمر : يا ابن سريج هذا مجلس حكم مخصوص
وله تقدير مخصوص
ينظر في أمر مخصوص
وكما قال القائل
ابن سريج : (مقاطعا) مخصوص .. مخصوص .. مخصوص
هل خصّوا هذا المجلس بالظلم "
لأن ابن سريج قاضي الشافعية يعلم أن القوانين لا تفصّل خصيصاً لشخص بعينه عند محاكمته في تهمة نسبت إليه ، لذلك انتفض انتفاضة حادة في وجه التدليس في أمور قياس العدالة وإجراءاتها التي لا تخالف كل شرع وتنافي كل منطق *** لذلك انفجر ابن سريج في وجه القاضي المالكي ؛ ولم تثنه تلميحات أبي عمر – هذا – في محاولة توريطه بدفعه دفعاً إلى اتهام السلطان بالظلم مما دعاه إلى إعطائه درساً في مفهوم العدل :
" قل لي في لفظ واضح
هل نحن قضاة باسم الله
أم باسم السلطان ؟
أبو عمر : بل قل أنت
أوتنكر أن السلطان خليفة رب الأكوان
على الأكوان ؟
ابن سريج : هذا السلطان العادل ..
أبو عمر : أو تبغي أن تدفع عن مولانا
صفة العدل ؟
ابن سريج : بل أرجو أن أثبتها له
ليس العدل تراثاً يتلقاه الأحياء ..
عن الموتى
أو شارة حكم تلحق باسم السلطان
إذا ولي الأمر
كعمامته أو سيفه
مات الملك العادل
عاش الملك العادل
العدل مواقف
العدل سؤال أبدي يطرح نفسه كل هنيهة
فإذا ألهمت الرد تشكل في كلمات
أخرى
وتولد عنه سؤال آخر يبغي ردا
العدل حوار لا يتوقف
بين السلطان وسلطانه
أبو عمر : العدل .. العدل
ماذا تبغي حتى يجري العدل
ابن سريج : أن نسمع صوت المتهم الماثل
بين يدينا
ونسائل أنفسنا وضمائرنا
أبو عمر : هه ..
هو لا يبغي أن يتكلم "
البوح الحلولي الصوفي بين المقولة والدفاع عنها :
للصوفيه الحلولية مقولتها أو خطابها الذي تمثل في شعر الحلاج (حسين بن منصور) نفسه:
"أنا أنت وأنت أنا نحن روحان حللنا بدنا "

"فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا "
كما تمثل في خطبة الحلاج الدرامية الاحتفالية في ساحة بغداد التي دعا فيها الناس – خاصة الفقراء - إليه صائحاً ؛ حاضاً على التمرد والثورة :
"الحلاج : إلي إلي يا غرباء .. يا فقراء .. يا مرضى
كسيري القلب والأعضاء ، قد أنزلت مائدتي
إلي إلي
لنطعم كسرة من خبز مولانا وسيدنا
إلي إلي أهديكم إلى ربي
وما يرضى به ربي "
فما أن يتجمع الناس حوله حتى يكشف عن جوهر مقولته الحلولية ، غير منتصح بنصح رفيقه الشبلي ، وغير ملتفت إلى الحديث : "خاطبوا الناس على قدر عقولهم " بل يمض في كشف سريرة نفسه ، وإسقاط ما في ضميره :
" أراد الله أن تجلى محاسنه ، وتستعلن أنواره
فأبدع من أثير القدرة العليا مثالاً ، صاغه طيناً
وألقى بين جنبيه ببعض الفيض من ذاته
وجلاّه . وزيّنه ، فكان صنيعه الإنسان
فنحن له كمرآة ، يطالع فوق صفحتها
جمال الذات مجلّوا ، ويشهد حسنه فينا
فإن تصفُ قلوب الناس ، تأنس نظرة الرحمن
إلى مرآتنا ، ويديم نظرته ، فتحيينا
وإن تكدر قلوب الناس يصرف وجهه عنّا
ويهجرنا ، ويجفونا ..
وماذا يفعل الإنسان إن جافاه مولاه ؟
يضيق الكون في عينيه ، يفقد ألفة الأشياء
تصير الشمس في عينيه أذرعة من النيران
يلقى ثقلها المشّاء
على وجه السما والأرض . ألواناً من اللهب
ويضحي البدر دائرة مهمشة رمادية
من القصدير ميتة وملقاة على بيداء
فقد جفت عيون الناس ، أضحت نقطة سوداء
وتذوي أذرع الأشجار تلقي حملها للأرض
وتدفئه كمجهضة تكفن عارها في الطين "
إن بوح الحلاج حتى الآن لم يزد عن كونه بوحاً ذاتياً ، مجرداً يحوّم حول ما أودع الله من ضيائه في الإنسان. حتى ما اتصل بأحوال المجتمع ومعاناة الناس ، لم يجر مجرى التشخيص والتحديد بل ظل يدور في إطار التجريد لذلك كانت خطبة بوحه الحلولية تلك خير مثال على بوح التوق إلى الاستشهاد ؛ في لغة استعارية فوق طاقة فهم العامة الذين استهدف الحلاج مخاطبتهم .
" ويمشي القحط في الأسواق ، يجبي جزية الأنفاس
من الأطفال والمرضى
حقيبته بلا قاع ، فلا تملأ إذ تعطي
ورغبته بلا ري ، فلا تسكت أن تسأل
وخلف القحط يمشي تحت ظل البيرق المرسل
جنود القحط ، جيش الشر والنقمة
خلائقهم مشوهة ، كأن الذيل فوق الرأس
يقود خطاهمو إبليس ، وهو وزير ملك القحط
وليس القتل والتدجيل والسرق
وليس خيانة الأصحاب والملق
وليس البطش والعدوان والخرق
سوى بعض رعايا القحط ، جند وزيره إبليس "

بهذا الوعي الغيبي يطيش سهم الحلاج بعيداً عن قناعة تحرك العامة ، فهو يلقي تبعة الانحراف والفساد الاجتماعي على إبليس الذي يستغل فقر الفقراء فيحضهم على الجرائم. وهو بذلك لم يزد عن كونه خطاب وعظ ديني ، سأم العامة من سماعه من على المنابر في المساجد المنتشرة في كل موقع .
وربما وضح ذلك بتأمل الدور السلبي لتلقي العامة لخطاب بوحه التجريدي إذ لم يتعامل مع الخطاب سوى العسس ورجال الشرطة :
" تعالى الله ، قد يأنف أن ينظر في مرآتنا ذاته
فيصرف وجهه عنّا
فكيف إذن نصفي قلبنا المعتم ؟
ليستقبل وجه الله ، يستجلي جمالاته
نصلي .. نقرأ القرآن
نقصد بيته ، ونصوم في رمضان
نعم ، لكنّ هذي أول الخطوات نحو الله
خطى تصنعها الأبدان
وربي قصده للقلب ولا يرضى بغير الحب
تأمل ، إن عشقت ألست تبغي أن تكون شبيه محبوبك
فهذا حبنا لله
أليس الله نور الكون
فكن نورا كمثل الله
ليستجلي على مرآتنا ذاته "
لم يتحرك الناس بسبب خطاب الحلاج التحريضي المغلف بروح الرومانتيكية ، فالشرط الذاتي لم يزد عن كونه وعياً ذاتياً سلبياً ، والشرط الموضوعي غائب تماماً عن الوسط الاجتماعي المتلقي لخطاب الحض ، وإنما كانت حركتهم لاستنقاذ الحلاج من أيدي الشرطة ، يسبب كراهية الناس للشرطة.

والمحلل لخطاب الحلاج – هنا – يجده يصف فعل الله فينا : ( " أراد الله – فأبدع – صاغه – وألقى – وجلاه – وزينه – يطالع – ويشهد – تأنس نظرة الرحمن – يديم نظرته " ) وكل هذه الأفعال الإلهية من أجل أمر وحيد هو أن يصبح الإنسان مرآة لذات الله ليشهد حسنه فينا . وذلك شريطة أن تصفو قلوبنا . والمقابل هو استمرار حياتنا فإذا لم تصف قلوبنا ففعل الله يتغير : ( " يصرف وجهه عنا – يهجرنا – يجفونا " ) عندها : (يضيق الكون في عين الإنسان – يفقد الألفة – يفقد القدرة على الرؤية الحقيقية – يستشري الفقر بين الناس – يتفشى المرض – تنتشر الجرائم) وخلاصة القول : إن الحض على زوال البلاء وصلاح أحوال الناس وإقامة العدل قرين بحسن علاقة الناس بالله .
لكن ما الذي أثار الشرطة من ذلك القول ، خاصة وأن الخطاب لم يحرك حماسة واحد ممن تحلقوا حول صاحبه ، هل لأنه نعتهم بأنهم جند إبليس وزير الفقر ، وأنهم شريرون شائهة خلائقهم وأنهم أداة البطش . لذلك استدرجوه ؛ وهو الذي أعد نفسه وهيأها لمواجهة (دون كيخوتية) :
"الشرطي : ولكن شيخنا الطيب ، هل ربي له عينان
لكي ينظر في المرآة ؟ "
وعبثاً يحصل الشرطي على إجابة من جنس سؤاله ؛ بل يواجه بتساؤل استنكاري فيه ازدراء:
"الحلاج : ولكن ولدي الطيب ، هل قفل على قلبك
حتى ينطق القرآن
أم على قلوب أقفالها "
وعبثاً يحصل العامة أيضاً على المطلوب منهم من جملة خطاب الحلاج . وهكذا يلقى الحلاج بمقولته الحلولية ، دون أن يدعمها ، حتى عندما تتناوشه الأسئلة الاستدراجية لا يجيب بل يتهم السائل المغرض بانغلاق الفهم ، وكأن عملية التواصل أو الاتصال مرهونة بطرف التلقي ، دون أن يلتزم المرسل بتهيئة رسالته بما يتناسب ومستويات الوسط أو التلقي ؛ إلاّ إذا كان هدف الإرسال تحقيق المجرد غير المنظور إلاّ من صاحبه :

بوح التوق إلى الشهادة :
" (ضجة وتلويح بالأيدي توشك أن تصبح مقتلة )
الحلاج : لا ، يا أصحابي
لا تلقوا بالاً لي
استودعكم كلماتي
عودوا .. عودوا ..
ودعوني حتى تنفذ في بدني
لتؤدبني
ألفاظ عتاب المحبوب النارية "
"الشرطي : يا قوم
الشيخ أقر بجرمه
فدعوه يمضي ليؤدب
يا شيخ ..
هل أقررت بجرمك ؟
الحلاج : هذا حق يا ولدي ..
فلقد أجرمت بحقه
إذ أفشيت السر
الشرطي : أسمعتم !
الحلاج : عاقبني يا محبوبي أني بحت وخنت العهد
لا تغفر لي ، فلقد ضاق القلب عن الوجد
لكن عاقبني كعقاب الخصم خصيمه
لا كعقاب المحبوب حبيبه
لا تهجرني ، لا تصرف عني وجهك
لا تقتل روحي بدلالك
اجعل بدني الناحل أو جلدي المتغضن
أدوات عقابك "
إن موقف الحلاج هنا مناظر لموقف سقراط ، الذي التزم بكلمته باحترام القانون حتى ولو كان الثمن هو فقدانه لحياته ، وقد فعل ، ورفض محاولات تلاميذه وحوارييه المدفوعين بحض غير مباشر من الحكام . كذلك التزم الحلاج بكلمته التي تسلم لله الأمر كله ، وتدعو الناس إلى تسليم الأمر كله لله ، حتى تنصلح أحوال البشر ، حتى وهو يساق إلى حتفه :
" أبو عمر : هه ..
هو لا يبغي أن يتكلم
وعلى كل ، مازالت جلستنا ممدودة
فليسمعنا شيئاً من لغوه
يا هذا الشيخ المنفوش اللحية
بم تدفع عن نفسك ..؟
الحلاج : لستم بقضاتي ،
ولذا لن أدفع عن نفسي "
إن دفع الحلاج هنا ليس دفعاً لشخص القاضي أو هيئة هذه المحكمة على وجه الخصوص ، بل هو دفع لكل هيئة قضائية ، لأنه لا يؤمن إلاّ بقضاء الله ، لذلك تحايل قاضي الشافعية ابن سريج حتى يحثه على التعامل مع الهيئة القضائية دفاعاً عن نفسه ؛ ومن الغريب أن الحلاج يستدرج بحسن نية من ابن سريج :
"ابن سريج : يا حلاج ..
لا تدفع عن نفسك
بل حدثنا عما فيها
إن كان هو الحق ، عرفناه معك
وإذا كان الباطل ..
نبهناك إليه
وأخذناك بجرمه ..
الحلاج : أوعدتم إن كان الحق ..
تمضوا فيه معي ؟ "
مثل هذه النية الحسنة ، أو سذاجة التوكل والافتراض العاطفي لحسن نوايا الآخرين تقابل بواقع صادم ، واقع وعي طبقي :
"أبو عمر : نمضي فيه معك ..؟
أما إنك رجل ساذج
أو إنك أذكى مما تتصور
ولهذا أفسدت صعاليك العامة "
ومع وضوح موقف القاضي الساخر التهكمي من طرح الحلاج ، فإن الحلاج ينصاع للقاضي ويصدقه وينبري في بوح طويل استرسالاً خلف تيار الشعور :
" أبو عمر : قد نصبح من أتباعك ( ساخراً )
من أنت ، وما خطبك .. ؟ "
الحلاج : أنا رجل من غمار الموالي ، فقير الأرومة والمنبت
فلا حسبي ينتمي للسماء ، ولا رفعتني لها ثروتي
ولدت كآلاف من يولدون ، بآلاف أيام هذا الوجود
لأن فقيراً – بذات مساء – سعى نحو حضن فقيرة
وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية
نموت كآلاف من يكبرون ، حين يقاتون خبز الشموس
ويسقون ماء المطر
وتلقاهم صبية يافعين حزانى على الطرقات الحزينة
فتعجب كيف نموا واستطالوا وشبّت خطاهم ..
وهذي الحياة ضنينة "
ومن الغريب أن الحلاج في مواجهته للمحكمة لا يفعّل تيار الوعي ، وهو الأدعى للتفعيل واليقظة والحذر ، مثله مثل كل من أوقف أمام قضاته . غير أن الحلاج وقد صرّح بأن القضاة ليسوا قضاته ، وهو في الوقت ذاته ، ينبري في بوح إدانته لنفسه – قاصداً – لأنه يتمنى الشهادة ويسعى لها :
"الحلاج : تسكعت في طرقات الحياة ، دخلت سراديبها الموحشات
حجبت بكفي لهيب الظهيرة في الفلوات
وأشعلت عيني ، دليلي ، أنيسي في الظلمات
وذوّبت عقلي ، وزيت المصابيح ، شمس
النهار على صفحات الكتب
لهثت وراء العلوم سنين ، ككلب يشم روائح صيد
فيتبعها ، ثم يحتال حتى ينال سبيلاً إليها فيركض
ينقض
فلم يسعد العلم قلبي ، بل زادني حيرة واجفه
بكيت لها وارتجفت "
في هذا الجزء من بوح الإدانة يكشف الحلاج أمام قضاته أنه غير اتباعي ، لأنه وظف حواسه الخشنة (البصر) طلباً للبصيرة التجريبية ، تفعيلاً لتحصيله العقلي ، بعيداً عن التحصيل الاتباعي النقلي :
" وأحسست أني ضئيل كقطرة طل
كحبة رمل
ومنكسر تعس ، خائف مرتعد
فعلمي ما قادني قط للمعرفة "
غير أنه يراجع نفسه حول ما أفادت من العلوم الطبيعية والتاريخية قديماً وحديثاً ؛ فيجد في نفسه قصوراً نحو معرفة سر الوجود من حيث البداية والنهاية :
" وهبني عرفت تضاريس هذا الوجود ..
فكيف بعرفان سر الوجود ، ومقصدي
مبتدا أمره ، منتهاه "
ليس هذا هو بوح الحلاج محمولاً على أثير التاريخ موصولاً بنبرات شخصية مسرحية معاصرة مستلهمة من تاريخ (الحسين بن منصور الحلاج ) المتصوف العراقي من المرتبة الرابعة - وفق تصنيف الجنيد لمراتب المتصوفة - ، ولكنه بوح المثقف المعاصر المسكون بتاريخ ثقافة التمرد العربي ، الذي هو صلاح عبد الصبور نفسه والذي هو أحمد عبد المعطي حجازي ، ومحمد عفيفي مطر ، وأمل دنقل ، بل كل مثقف عربي حقيقي ، فما من مثقف حقيقي ، إلاّ وانغرزت جذوره في طين المعرفة التراثية المظنونة وامتدت فروعه عبر أثير المعارف اليقينية المتجددة ، وما من مثقف حقيقي ، إلاّ وتأرجح ما بين الشك واليقين ؛ وما من أحد إلاّ وطالته حيرة المثقف ، مثلما طالت الحلاج :
" الحلاج : سألت الشيوخ ، فقيل
تقرب إلى الله ، صل ليرفع عنك الضلال ..
صل لتسعد
وكنت نسيت الصلاة ، فصليت لله رب المنون
ورب الحياة ورب القدر
وكان هواء المخافة يصفر في أعظمي ويئز
كريح الفلا .. وأنا ساجد راكع أتعبد
فأدركت أني أعبد خوفي ، لا الله ..
كنت به مشركاً لا موحد
وكان إلهي خوفي
وصليت أطمع في جنته
ليختال في مقلتي خيال القصور ذوات القباب
واسمع وسوسة الحلي ، همس خرير الثياب
أني أبيع صلاتي إلى الله
فلو أتقنت صنعة الصلوات لزاد الثمن
وكنت به مشركاً ، لا موحد
وكان إلهي الطمع "
يجد خدم السلطة الحاكمة في أي مكان وزمان ، مثل هذا البوح الأمين والصادق مع النفس ، دليل اعتراف يؤخذ به صاحبه ، لذلك أخذ به من أخذ من المفكرين ومن المثقفين والمبدعين عبر تاريخنا المحكوم بالسلطة الفردية التي تزيّت أحياناً بأزياء التدين وبأزياء الديمقراطية واحترام الرأي الآخر، كما أخذ به الحلاج وعشرات المفكرين والمثقفين والمبدعين الشعراء على مر عصور الحكم الإسلامي العربي ؛ لمجرد أن وقع أحدهم في حيرة المثقف ؛ كما وقع الحلاج :
"الحلاج : وحير قلبي سؤال :
ترى قُدّر الشرك للكائنات
وإلاّ ، فكيف أصلي له وحده
وأخلى فؤادي مما عداه
لكي إنزع الخوف عن خاطري
لكي أطمئن .. "
ولكي يفض المثقف حيرته ؛ فهو يلقى بنفسه مختاراً في قارب فكري ما يسبح به مع راكبيه ضد تيار الثقافة التقليدية المألوفة ، هكذا فعل الحلاج ؛ إذ اتخذ الحلولية قارب نجاة في بحر الحيرة الثقافي :
" الحلاج : كما يلتقي الشوق شوق الصحارى العظام
بشوق السحاب السخي
كذلك كان لقائي بشيخي
أبي العاص عمرو بن أحمد ، قدس تربته ربه
يحب النوال
ويعطي ، فيبتل صخر الفؤاد
ويعطي ، فتندى العروق ويلمع فيها اليقين
ويعطي ، فيخضر غصني
ويعطي ، فيزهر نطقي وظني
ويخلع عني ثيابي ، ويلبسني خرقة العارفين
يقول هو الحب ، سر النجاة ، تعشّق تفز
وتفنى بذات حبيبك ، تصبح أنت المصلي ،
وأنت الصلاه
وأنت الديانة والرب والمسجد
تعشقت حتى عشقت ، تخيلت حتى رأيت
رأيت حبيبي ، وأتحفني بكمال الجمال ،
جمال الكمال
فأتحفته بكمال المحبة
وأفنيت نفسي فيه
أبو عمر : صمتاً : هذا كفر بيّن "
وكما لا يفلت الحلاج من الإدانة ، لم يفلت مفكر طليعي أو مبدع أو شاعر من إدانة ما ، لابد وأن تصمه بها السلطة الفردية بكل مستوياتها . ولئن وجد مفكر متهم من قبل نظام الحكم الفردي ؛ منصفاً ؛ يضع القول في سياقه ويفهمه في إطار سياقه النصي والفكري ، دون أن يأخذ صاحبه بظاهر القول ؛ فإن ذلك لا يحول دون تصفيته تصفية جسدية باسم الشرع ، أو باسم القانون ، أو حبسه به – على أقل تقدير - ؛ فالمبدع متهم بإبداعه ، بوصفه ضلالة :
" ابن سريج : بل هذا حال من أحوال الصوفية
لا يدخل في تقدير محاكمنا
أمر بين العبد وربه
لا يقضي فيه إلاّ الله
لنسأله عن تهمة تحريض العامة
فلهذا أوقفه السلطان هنا
هل أفسدت العامة يا حلاج ؟ "
لا يستطيع صاحب اعتقاد صادق ، أن يخلي بين إجاباته عما يطرحه عليه قاض ما ، حالة توقيفه أمام محكمة ما ومعتقداته لذلك ينطق الحلاج بما هو ضروري ، إعلاناً لمعتقده وإعلاء لفكره :
"الحلاج : لا يفسد أمر العامة إلاّ السلطان الفاسد
يستعبدهم ويجوعهم "
هذا اتهام للسلطان ، أي سلطان . وهنا يسرع القاضي بتضييق الخناق عليه للحصول على اعتراف محدد ، لذلك يصوغ سؤال اتهام محدد ، يستلزم إجابة محددة :
" ابن سليمان : يعني هل كنت تحض على عصيان الحكام ؟ "
لو كان العامة في مصر ، في ظل نظام الستينيات مستعبدين وجوعى ، لصودرت هذه المسرحية ، ولكن لحسن حظ المثقف العربي بشكل خاص والمسرحيين بخاصة ، أن ثورة يوليو 1952 لم تكن تضيق اقتصادياً واجتماعياًَ على الفئات الدنيا من الطبقات الشعبية ، ولن يشفع للشاعر صلاح عبد الصبور – عندئذٍ- أن يراوغ بلسان الحلاج في إجابته عن السؤال المصيدة الذي طرحه عليه (ابن سليمان) ؛ ليتمكن الحلاج من الدوران الإطاري حول السؤال؛ المصيدة :
" الحلاج : بل كنت أحض على طاعة رب الحكام
برأ الله الدنيا أحكاماً ونظاماً
فلماذا اضطربت ، واختل الإحكام ؟
خلق الإنسان على صورته في أحسن تقويم
فلماذا رُدّ إلى درك الأنعام ؟ "
لا يستطيع مفكر متمرد على منظومة الحكم الاستبدادي أن يفلت من قبضة زبانية الحكم وخدّامه الشرعيين من ناحية والقانونيين من ناحية أخرى مهما حاول المراوغة ، أو المناورة . والحلاج هنا وإن راغ فإن مراوغته ليست تراجعاً منه عن عزمه على نيل الشهادة على أيدي جلاديه :
" أبو عمر : ماذا يعني هذا الشيخ ؟
هل هذا أيضاً من أحوال الصوفية ؟
أم يستخفي خلف الألفاظ المشتبهة
كي يخفي وجه جريمته الشنعاء ؟ "
ليس غريباً أن يظهر القاضي ظهوراً غير حيادي في ظل الأنظمة الفردية الاستبدادية متشحة بأوشحة الشرع أو الشرعية (الدين أو القانون الوضعي) ، مع أن الدين والدين الإسلامي بخاصة ، لم ينص في القرآن على عقوبة دنيوية سوى في مواجهة إتهام ثابت لجريمة من الجرائم الخمس الآتية : (القتل – السرقة - الزنا – قذف المحصنات – الحرابة "قطع الطريق على الآمنين" ) ، إلاّ أن حكم قضاة المحكمة الإسلامية الشرعية في بغداد ، حكمت بقرار من قاضيين اثنين أحدهما مالكي والثاني حنفي بعد أن انسحب القاضي الثالث وهو شافعي معترضاً على سير المحاكمة في اتجاه إدانة الحلاج بكل سبيل . ومن خبيث فعل أذناب أي نظام استبدادي لهم وظائف شرعية تقوم على تطبيق الحدود الشرعية في قضائهم بين من حكموا في أمر من أمورهم وفق النص القرآني ، ما نجده عند ذلك القاضي الفاسد ، الذي وظف نفسه باسم الشرع قاضياً بما قضى ، واضعاً منطوق حكمه على ألسنة مجموعة من فقراء الحرف المتدنية فور انتهائه من استخلاص إدانة الحلاج من مجمل ما قال به الشبلي في شهادته :
" (يلتفت أبو عمر إلى جمع الفقراء)
أبو عمر : ما رأيكمو يا أهل الإسلام
فيمن يتحدث أن الله تجلىّ له
أم أن الله يحلّ بجسده ؟
المجموعة : كافر .. كافر
أبو عمر : بم تجزونه ؟
المجموعة : يقتل ، يقتل
أبو عمر : دمه في رقبتكم ..؟
المجموعة : دمه في رقبتنا
أبو عمر : والآن .. امضوا ، وامشوا في الأسواق
طوفوا بالساحات وبالخانات
وقفوا في منعطفات الطرقات
لتقولوا ما شهدت أعينكم
قد كان حديث الحلاج عن الفقر قناعاً ،
يخفي كفره
لكن "الشبلي" صاحبه قد كشّف سره
فغضبتم لله ، وانفذتم أمره
وحملتم دمه في الأعناق
وأمرتم أن يقتل
ويصلّب في جذع الشجرة
الدولة لم تحكم
بل نحن قضاة الدولة لم نحكم
أنتم ..
حُكمتم ، فحكمتم
فامضوا ، قولوا للعامة
العامة قد حاكمت الحلاج امضوا ..
امضوا .. امضوا "
هكذا ينفذ القاضي املاء رأس النظام الاستبدادي الذي نص عليه في رسالته للمحكمة في أثناء سير جلستها **** :
" أبو عمر : (وهو ينظر في الخطاب)
إن الدولة قد سامحت الحلاج
فيما نسب إليه ، وتثبت منه السلطان
من تحريض العامة والغوغاء على الإفساد
وعفت عنه عفواً كلياً لا رجعة فيه "
" لكن وزير القصر يضيف :
"هبنا أغفلنا حق السلطان ..
ما نصنع في حق الله
فلقد أنبئنا أن الحلاج
يروي أن الله يحل به ، أو ما شاء له الشيطان
من أوهام وضلالات
ولهذا أرجو لو يسأل في دعواه الزنديقية
فالوالي قد يعفو عمن يجرم في حقه
لكن لا يعفو عمن يجرم في حق الله "
ابن سليمان : هذا أيضاً حق
ابن سريج : بل هذا مكر خادع
فلقد أحكمتم حبل الموت
لكن خفتم أن تحيا ذكراه
فأردتم أن تمحوها
بل خفتم سخط العامة ممن أسمع أصواتهم
من هذا المجلس
فأردتم أن تعطوه لهم مسفوك الدم
مسفوك السمعة والاسم
يا حلاج ...
هل تؤمن بالله ؟
الحلاج : هو خالقنا وإليه نعود
ابن سريج : هذا يكفي كي يثبت إيمانه
أبو عمر : يا بن سريج
إني لا أبحث في إيمانه
بل في كيفية إيمانه
ابن سريج : كيفية إيمانه ..؟
هل تبغي أن تنبش في قلبه
هل هذا من حق الوالي
أم من حق الله ؟
أبو عمر : هذا من حق قضاة الشرع
ابن سريج : لا ، بل هذا من حق الله
فأنا لا أجرؤ أن أسأل رجلاً عن إيمانه
فإذا شئتم أن تمضوا في هذا الإثم ..
أبو عمر : سنمضي يا ابن سريج
ابن سريج : فأنا استعفي من مجلسكم *****
أبو عمر : هذا لك يابن سريج "

فكرة المخلص (المستبد العادل) :
لم تفارق فكرة المخلص (المستبد العادل) رأس أحد من مفكري الإسلام – لا في التاريخ القديم ولا في التاريخ المعاصر - .
" الحلاج : لا أملك إلاّ أن أتحدث
ولتنقل كلماتي الريح السواحه
ولأثبتها في الأوراق شهادة إنسان من أهل الرؤية
فلعل فؤاداً ظمآناً من أفئدة وجوه الأمة
يستعذب هذي الكلمات
فيخوض بها في الطرقات
يرعاها إن ولي الأمر
ويزاوج بين القدرة والفكرة
ويزاوج بين الحكمة والفعل "
هكذا كان جهد الحلاج جهد المصلح الديني – لا أكثر – وهكذا صوره صلاح عبد الصبور ، تفكيكاً لخطاب المصلح الديني الذي حفظ عن ظهر قلب (نظرية الكل في واحد – نظرية المستبد العادل) .



التعبير الدرامي الشعري ومستويات السرد والتشخيص
بين التسلط والإذعان التاريخي

لا يخلو بناء مسرحي من تقنية السرد سواء أكان سرداً حوارياً على ألسنة الشخصيات الدرامية أم على لسان مجموعة الكورس أو على لسان الراوية . أو كان سرداً تشكيلياً أو سينوجرافياً أو بلغة الجسد أو سرداً تمثيلياً . وهنا يتشكل السرد في مستويات متنوعة ما بين سارد أول وسارد ضمني وسارد ثالث
وفي مسرحية (مسافر ليل) يلجأ الشاعر في التقديمة الدرامية إلى (السارد الضمني) – من خارج الحدث – ليحلل رحلة الإنسان عبر التاريخ تحليلاً إطارياً مكثفاً وتجريدياً ، على متن قطار الزمن ؛ وبذلك الخروج على مبعدة من الحدث نفسه ، يحقق الهدف التنويري من خارج الحدث ، بوصفه مثقفاً طليعياً يعمل على خلق توعية طبقية لدى الغالبية التي ترمز إليها شخصية الراكب باعتبارها المحكومة بعامل التذاكر بوصفه رمزاً للحاكم فالشاعر يستعرض عبر مستويات ثلاثة المسيرة التاريخية للحاكم المتسلط بالحكي – التصويري- على لسان (السارد الضمني) : الراوي مرة وعلى لسان عامل التذاكر (السارد الثالث) - تشخيصاً - يعيد فيه فعل التسلط ومتداعياته أو يحكي بعضه منتحلاً صفة السارد الثاني في مرة أخرى وعلى لسان الراكب تشخيصاً – نفسياًَ- يعيد فيه فعل الإذعان مرة أو يحكي بعضه منتحلاً صفة السارد الضمني في مرة أخرى :
"الراوي : هاهو ذا يتململ سأمانا
إذ لا تستهويه اللعبة
فيجرب أن يلعب في ذاكرته
يستخرج منها تذكارات مطفأة ، ويحاول أن يجلوها
أسفا ، لا تلمع تذكاراته
يدرك عندئذ أن حياته
كانت لا لون لها
يسقط من عينيه أيامه
تتبدد دواماتٍ فوق حديد الأرضية
لا تتكسّر قطعاً وشظايا
إذ ليس هنالك شيء صلب
تراك .. تراك .. تراك
يتذكر مسبحته
يستخرج من جيب السروال الأيمن
تهوي من يده ، يتفقدها بأصابعه ،
فتروغ لترقد بين الكرسيين
يجهد أن ينقذها ، فتغوص .. تغوص .. تغوص ..
ويظل يفتش حتى تتناثر سبحته حبات
تتساقط فوق حديد الأرضية
تراك .. تراك .. تراك "
لأن السارد يمثل ما تراه الشخصية فحسب كما لو كان ينظر عبر عينيها أو كما لو كان "شاهداً غير منظور" يقف إلى جانبها السرد بوساطة المؤلف أو بوساطة الشخص الأول " ولأن السارد الضمني الراوي يقوم مقام الشاعر لذا يتكشف الدور التنويري تلميحاً ، لا ينفصل عن طبيعة التصوير الشعري ؛ على اعتبار أن الشعر "لمحٌ تكفي إشارته" – حسبما قال البحتري-، وحيث يستشف ما وراء الصورة من معانٍ أو دلالات. هنا – يمكننا أن نلمح بمنظور نظرية الانعكاس وعلى ضوء مصباح سيميولوجي خصوصية الشاعر نفسه .
من وراء غيم المعاني في عرض السارد الضمني (الراوي) فاللعب في الذاكرة ، لا يفيد من خوت حصّالة ذاكرته من تسجيل مادي لأفعال مجسدة لهويته . فعندما لا يكون للإنسان تاريخ مادي ملموس هو موضع تأثير إيجابي في واقع الآخرين ؛ قبل أن يكون مؤثراً في واقعه الذاتي ؛ فإنه يلوذ بمظاهر شكلية ، يتمسح بها . وهكذا يلوذ الراكب بمظهر تديّني .. بعد أن أدرك (أن حياته كانت لا لون لها) وهو يسترجع شريط ذكرياته عبر رحلة إذعانه التاريخية التي سيّرها الحكام المتسلطون باعتباره رمزاً لعامة الناس (المحكومين) على مر التاريخ ؛ ذلك أن الذاكرة هي القدرة على التمثل الانتقائي Selectively represent وفي واحدة أو أكثر من منظومات الذاكرة للمعلومات التي تميز بشكل فريد خبرة معينة ، الاحتفاظ بتلك المعلومات بطريقة منظمة في بنية الذاكرة الحالية وإعادة إنتاج بعض أو كل هذه المعلومات في زمن معين بالمستقبل وذلك تحت ظروف أو شروط محددة "
فعندما يكون التدين شكلياً وسطحياً (ظاهرياً) ؛ فإن ما وراء المظهر نفسه يروغ منه وينفلت . ولنلحظ لفظة (جيب سروال الأيمن) فمظهر تدينه في جيب سرواله ، وهو يخرجه عند الحاجة أو عند الفراغ في محاولة تبريره لخواء حياته من فعل مادي إيجابي له في حياته الإنسانية ، بالانتساب إلى مفردة من مفردات الاتباعية الدينية – باعتبار فكرة "اليمين" فكرة تدينية – وباعتبار " المسبحة " وسيلة ضبط إحصائي لطقس التسبيح والحمد – الذي ينسب فاعله إلى اليمين (الفكر الاتباعي) .
فاستخدام المسبحة أداة قياس وإحصاء عددي لأقوال الحمد وآلية ترديداتها ، وهنا يحل ظل التعبد محل العبادة مثلما تحل خصلة من شعر الحبيبة محل الحبيبة نفسها – وفق الفشتية – على أن خصوصية ما كامنة في آلية استدعاء الشخصية للحظة ، حيث يمد السارد الضمني الصورة المستعادة بخيوط الطقس التراثي ؛ لخلق لحظة لم تكن قائمة من قبل ، مع إنها الابن الشرعي لماضي شخصية الراكب – بتعبير صلاح عبد الصبور نفسه - إلى جانب كونها بمثابة الابن الشرعي للمستقبل .. فاستدعاء الراكب التجريبي لمذخور ذاكرته ، وليد حالة السأم التي انتابته – حسبما أشار السارد الأول - :
"هاهو ذا يتململ سأمانا
إذ تستهويه اللعبة
فيجرب أن يلعب في ذاكرته
يستخرج منها تذكارات مطفأة ، ويحاول أن يجلوها "

المسكوت عنه في اللحظة الدرامية المختزلة :
وعندما يتكشف خواء تلك الذاكرة وبهتان ما حوته يمده (السارد الضمني الراوي / الشاعر نفسه) بلحظة مختزلة ، إذ تمتد يد الراكب إلى الجيب الأمن لسرواله – الأيمن تحديداً – ليخرج منه شيئاً لا يخرج إلاّ من الجيب الأيمن – المسكوت عنه - وهنا يوظف التداعي التلقائي المدرب للاثنين : (السارد الضمني/ الراوي / الشاعر) و( السارد الثاني / الراكب) الذي يعاد تصوير فعله بالسرد التشكيلي عبر ذهن السارد الضمني وعبر ذهن المتلقي فور تلقيه للصورة على لسان (السارد الضمني) فيكفينا أن نلحظ ما وراء ذلك التداعي التلقائي المدرب حيث تمتد يمين الراكب إلى الجيب الأيمن في سرواله ليخرج لا إرادياً مسبحته . وما وراء فعله – المسكوت عنه- يشكل نواياه المستقبلية وهي الهجوع إلى الإذعان والتسليم : فالسأم إذاً سلمه للعب في ذاكرته ؛ وخواء ذاكرته من أي شيء إيجابي يعتز هو نفسه به ، يسلمه إلى مخزون طقسي تراثي هو ظل من فعل العبادة.
ولأن الصورة الفنية (الدرامية الشعرية) تتدعم بتداعيات صور أخرى سريعاً ما تتوالد عبر اللحظة المختزلة ؛ لإعادة إنتاج الفعل وصور توالده وتداعياته التي يحكم الشاعر الإمساك بزمامها حتى لا تسقط المغزى التنويري الذي حمّلها به ، بغية الإشارة إلى مظهرية فعله التديّني:
" تهوي من يده ، يتفقدها بأصابعه ،
فتروغ لترقد بين الكرسيين
يجهد أن ينقذها ، فتغوص ، تغوص ، تغوص
ويظل يفتش حتى تتناثر سبحته حبات
تتساقط فوق حديد الأرضية
تراك .. تراك .. تراك "
هكذا تحل آلية المقطع الصوتي لسقوط حبات المسبحة على حديد الأرضية بديلاً عن وحدة صوته المتكررة فيما لو كان قد تمكن من استعمال مسبحته في آلية تكرار جملة التكبير أو الحمد ، لتأكيد مظهرية تدينه ، أو شكليته ، لأنه ما لجأ إلى طقس التسبيح ، وإنما إلى مجرد التلهي بآلية تفض عزلته وتوتره ، وتشعره بالصحبة ، حيث أراد باتخاذ المسبحة رفيق ظل في رحلته . ولكن الشاعر – هنا – يحرمه من تلك النغمة ، مع إنها مجرد ظل رفقة .
وهنا تعمل التداعيات مع التفاصيل (منمنمات الصورة) على منح الصورة لوناً خاصاً بها يمنحها هويتها .. فالشغل على تفاصيل الصورة هو الذي يقودنا إلى سر الصنعة في الشعر والمسرح بتعبير صلاح عبد الصبور
يعتمد صلاح عبد الصبور هنا على حدث يقوم على ثلاثة محاور : (محور معرفي ومحور ثقافي اجتماعي ومحور تشكيلي) ولأن الموقف هنا تأسس على التجريد وإلقاء عبء تجميع مفردات أو جزئيات الصورة ، بهدف خلق حالة مشاركة إدراكية فحسب ، لذلك ألقى بعبء حمل خطاب الحكي على عاتق (السارد الضمني/ الراوي) نائباً عنه ومن ثم لم يصبح هنا مجال للمحور الوجداني.
يقول د.ماهر شفيق فريد في زجره لناقدي إبداع إليوت في تجريده لشخصياته المسرحية : "إن الفن إعادة خلق وليس عملية تسجيل والشخصية الحية في الفن ليست هي التي تتصرف وفق المنطق الحياتي ، وإنما هي التي تتصرف وفق المنطق الفني وحسب قوانين الحتمية الفنية "
يقول د. مصطفى سويف : " إن الشاعر لا يغير ذكرياته ؛ ولكنها تعود إليه متغيرة – وهو لا يقصد إلى وصف الوقائع من حوله بأوصاف جديدة ، لكنها هي التي تأتي حاملة هذه الأوصاف "
وإذا كانت شخصيات مسرحيات صلاح عبد الصبور الشعرية – فيما عدا (ليلى والمجنون) تبدو على مبعدة من أمور الحياة اليومية ومن الرسالة الاجتماعية الواضحة . مع ميل إلى أناقة الفكر والتعبير ، فذلك لكونه صاحب رؤيا خاصة للوجود ، رؤيا شعرية اختارت لنفسها قالباً درامياً . هو كما كان إليوت معنياً بقالب درامي شعري " تتحالف فيه الاهتمامات الإنسانية مع براعة الصنعة ، كي تنتج – في نهاية المطاف – أثراً كلياً لا يختلف ، من حيث الجوهر ، عن الأثر الكلي الذي تخلقه القصيدة أو القصة في نفس متلقيها "
فشخصية الراوي – بوصفه سارداً ضمنياً - تبني اهتمامات الشاعر الإنسانية بخلق حالة تحالف بين ما ينتجه ذهن الراكب من تهويمات ذاكرة البشرية عبر تاريخها الممتد من بذرة الفكر الفلسفي الأرسطي إلى آلة الحرب والدمار بداية من تلميذه الإسكندر حتى الواقع البشري المعاصر فمع أن الراوي وهو السارد الضمني التاريخي ، يحذر الراكب من استدعاء عظيم من العظماء عبر ذاكرته ، حتى لا يسيطر بعظمته من جديد على البسطاء ، بعد أن رآه وقد توقف عند أسماء محاربين طغاة ومحاربين وقادة عظماء وهو يقرأ أسماءهم على صفحة من جلد الغزال أخرجها من معطفه ، بعد أن انفرطت حبات مسبحة تسليته وتبعثرت ؛ غير أن الراكب لم يأبه لتحذير الراوي الضمني - رب العبرة التاريخية - :
" الراكب : الاسكندر
" تك .. تك .. تك "
هانيبال
" تك .. تك .. تك "
تيمور لنك
" تك .. تك .. تك "
هتلر .. متلر .. جونسون .. مونسون
" تك .. تك .. تك "
الاسكندر .. الاسكندر .. الاسكندر
الراوي : معذرة .. لا ينفصل الإنسان عن اسمه
فالعظماء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرة التاريخ
لتسيطر عظمتهم فوق البسطاء
والبسطاء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرتك
ليكونوا متنزه أقدام العظماء
ولذلك خير أن ننسى الماضي
حتى لا يحيا في المستقبل
حتى لا يخدعنا التاريخ
ويكرر نفسه
الراكب : الاسكندر .. تك .. تك .. تك
الاسكندر .. تك .. تك .. تك
إن مناداة الراكب للإسكندر هي مناداة استدعاء غير المحكوم لمن يحكمه ولأنه نادى الإسكندر على وجه الخصوص وهو من هو الغازي الذي يغزو الممالك والأمم مستخدماً الفكرة سلاحاً يقتل به كل من وقف في طريق طموحاته غير المحدودة . لذلك يتشكل الإسكندر أمام عينيه من أي عابر سبيل ، في درب من دروب أي عصر في أي مكان له طموحات سكندرية :
" عامل التذاكر : من يصرخ باسمي ، من يدعوني
من أزعج نومي في راوية العربة
أنت .. ؟
الراكب : معذرة .. من أنت ؟
عامل التذاكر : أنا الإسكندر
في صغري روضت المهر الجامح
في ميعة عمري روضت أرسطاليس
حين بلغت شبابي روضت العالم. "
هذا التصريح صوغ من عقل الشاعر نفسه ، إذ قلب المعلومة التاريخية رأساً على عقب لما رأى الدعوة الأرسطية نحو عولمة ثقافية تحت راية الفكر اليوناني وهي أول عولمة ثقافية في التاريخ وقد حولها الإسكندر إلى عولمة عسكرية اقتصادية ، إذ استبدل الغزو الفكري والثقافي بالغزو العسكري وسيادة العقل بسيادة السيف . وهي سيادة لم تكن لتتحقق لمغامر مستعمر ومتسلط ، دون خنوع جعل من خده مداساً لقدمه ؛ أو مظهر متراخ يأخذ الأمر باستهتار وتهكم ؛ فكلاهما مدخل للتسلط :
" الراكب : مرحى يا اسكندر .. هل أكثرت من الشرب "
هذا العبث غير المسؤول للتسلية أو لاصطناع رفقة مع مسبحة لا تستجيب له ، سريعاً ما يتحول عنها إلى لون آخر من العبث الحقيقي ، مع كائن وظيفي أي صاحب سلطة ؛ فإذا بالعبث يتحول إلى حقيقة :
"عامل التذاكر: لا تعرف قدري .. يا جاهل
قسماً ، سأروضك كما روضت المهر الجامح "
إن فصل البناء الدرامي في هذه المسرحية بين الفعل القولي أو المسموع (حوار الراكب وحوار عامل التذاكر) والفعل المرئي (الوصف السردي للفعل التطبيقي المرئي المادي في حكي الراوي وهو الدال على تحقيق الأقوال) هو بمثابة فصل بين الشعار وتطبيقاته ؛ فما أن يطلق (عامل التذاكر) تهديده ، حتى يصف لنا الراوي منظومة أفعاله تحقيقاًَ لقوله :
" الراوي : تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيمن
يستخرج سوطاً ملفوفاً
تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيسر
يستخرج خنجر
تمتد يد الإسكندر في ثنية سرواله
يستخرج غدارة
تمتد يد الإسكندر في حلقه
يستخرج أنبوبة سم
تمتد يد الإسكندر في جيب خلفي
يخرج حبلاً ..
يتحسسه خجلاناً ، ويقول :
عامل التذاكر : هفواً .. هذا مات به أغلى أصحابي
أعطيت صديقي الحبل ليلعب به
فأساء استعماله "
حكي يستعيد صور إرهاب الحاكم الفردي المتسلط ، الغازي ، فكل الغزاة والعسكريون الحكام مختزلون في هذه المسرحية في شخص الإسكندر. ذلك الغازي الأول باسم العولمة الثقافية ، متشحاً براية الفكر تحت شعار توحيد العالم تحت راية الفكر اليوناني ، تتويجاً لفكر أرسطو ، سلباً لهويات ثقافات الأمم الأخرى ، فسرعان ما ينزع قناع الفكر ويتدرع بقناع القهر المسلح؛ في مواجهة الآخر غير الخانع ، حتى إذا كان تابعه وأداة تحقيق إرادته وأقرب المقربين إليه؛ وهو يصفيه تصفية جسدية ثم يعلن على الملأ عبر وسائله الإعلامية بأن الرجل قد انتحر – بعد انتهاء مهمته- :
"هل تدري ؟
كلماتي في معناه صارت من مذخور التاريخ الأدبي
لم أكتبها ، لكني شاهدت وزيري يكتبها
وصرفت له خبزاً ونبيذاً ، حتى أنهاها
حتى علمني أن ألقيها إلقاء مأساوياً
يخضع لأصول النحو
فأنا أخطئ دوماً في الفاعل والمفعول "
هكذا يمسك الشاعر بطرف حبل التداعيات ، يرخى للصورة بالقدر الذي لا يسمح لمفردات التكوين في التعبير الدرامي الشعري بالانفلات أو التشتت الذهني للمتلقي . وتلك خاصية من خصائص سر الصنعة عند صلاح عبد الصبور تشير إلى بعد من أهم أبعاد العملية الإبداعية وهو السيطرة على السياق والإمساك بالجزئيات والتحليق فوق أسوار الكل بما يسمح بالتنقل بين الكل والأجزاء بشكل ديالكتيكي وبما يسمح بالنمو المتصاعد للعمل الإبداعي وللمبدع أيضاً، فالمبدع ينمو مع عمله ويكتسب خصائص هذا العمل "
لذلك لا نتشتت ذهنياً عندما ينتقل في تخلص درامي وجمالي من وصفه لحال صديقه الذي أعطاه المسؤولية (الحبل) فشنق بها نفسه ، إلى استعراضه الموجز لتاريخ حبل السلطة ودور وزيره في تمجيدها وتدريبه على إلقائها . والتأريخ لها في مقابل خبزه ونبيذه (ببطنه) وصولاً إلى طمع ذلك الوزير في ولاية ثمناً لأداء وظيفته :
" حتى علمني أن ألقيها إلقاء مأساوياً
يخضع لأصول النحو
فأنا أخطئ دوماً في الفاعل والمفعول
كان وزيري طماعاً ، إذ طالبني بولاية
ثمناً لدخول التاريخ ككاتب
فوهبت وزيري الأرض بأكملها كي يرقد فيها "

ليس الفاعل والمفعول هنا سوى الجاني والمجني عليه . إن الاستعارة والكناية وألوان التورية المجازية تصنع المسكوت عنه في التعبير الدرامي الشعري والنثري ، لذلك لا جب فهم الصورة الإبداعية من ظاهر القول . يقول الشاعر الأمريكي إدجار ألن بو : " يوجد في كل التعليقات المكتوبة عن شكسبير خطأ جذري لم يفطن إليه أحد . إنه يتمثل في محاولة شرح شخصياته لا على أساس أنها من صوغ العقل الإنساني ، وإنما على أساس أنها موجودات فعلية على وجه الأرض "
لا يستغرق فهم طبيعة فعل الحاكم الفرد المتسلط الكثير من التفكير مع اختزال الشاعر لأبعاد الشخصية ، حيث لا نكاد نرى ملمحاً واحداً من ملامح بعده الجسمي أو الاجتماعي أو النفسي، وإذا كان رسم الشخصية النمطية رسماً تجريدياً وفق ما جرى عليه مخططات الاتجاه الحداثي في إبداعاته التفكيكية ، وهنا يتبين لنا دور المؤلف الشاعر في تمليك شخصياته خبراته هو نفسه ، ومعارفه ، بحقنها في دماء تلك الشخصيات ، بوصفها من خلقه وصلاح عبد الصبور هنا ، إذ يتستر خلف (الراوي) ويجعله خليفته على كون خليقته إذ يقعده على عرش المستوى السردي الأول ، فإنه يملكه أمر كشف تاريخ حاضر شخصياته الرمزية (الراكب) و(عامل التذاكر) بوصفهما شخصيتين رمزيتين ، وكشف مبكر لفعلها المستقبلي ، فيما هو أقرب إلى مخطط أو دراسة جدوى تشخيصية لفعلها القادم قبل أن يقوم أحدها بإعادة إنتاجه امامنا . فالراكب وعامل التذاكر كلاهما لا يمتلك أي منهما تاريخاً ، سابقاً ، لذلك رأينا " "أنا " : الراوي " لما رغبت في التقاء الآخرين سعت إلى الالتجاء تحت رعاية الـ "هو" (المؤلف) أي تحت رعاية نظام رموز ممتلئ ، حيث الوجود ، لا يتداخل والعلامة وبالمقابل فإن ظلاً من الماضي يتخلل حُبسة الناقد إزاء الـ (أنا) "
هكذا التقت (أنا) : (الراكب) السارد الثالث – تشخيصاً تشكيلياً سردياً – بـ(هو) : (الراوي / السارد الأول) وكذلك فعلت (الأنا) عامل التذاكر المتوالدة أو المتشظية في أنوات متعددة ومتباينة – تشخيصاً سردياً تشكيلياً – وبذلك أصبحت للراكب طبيعته الخانعة تبعاً لجموده في درجته على السلم الاجتماعي ، بينما تملك شخصية (عامل التذاكر) صوراً متعددة للحاكم الفرد المتسلط المستعبد لتلك (الأنا) الخانعة الرابضة في موقعها الطبقي الساكن .
يجرنا هذا التأويل إلى القول مع رولان بارت أن : " الناقد هو من سعى إلى الكتابة ، والذي يملي انتظار عمل أدبي إضافي ، يصاغ خلال البحث عن ذاته . وتكمن مهمته في إكمال مشروع الكتابة ، ومتجنباً إيّاه في الآن ذاته . الناقد كاتب إنما حتى إشعار آخر "
ولأن " الناقد كما الكاتب ، يتمنى من القراء أن يثقوا ويوقنوا أكثر بقراره الذي اتخذه بالكتابة ، ولا يسعه أن يوقّع هذا التمني ، عكس الكاتب ، لذا يبقى محكوماً بالخطأ – وبالحقيقة "
لذا أثنّي على ما سبق لي قوله حول تأثر شخصيات صلاح عبد الصبور بالظواهرية الهيجيلية، حيث " تبدو الظواهرية الهيجيلية في محاولات شخصيات صلاح عبد الصبور لصنع هويتها ، حيث يسطع فكرها سطوعاً جدلياً على الواقع ، ومن ثم يرتد إلى الشخصية كما هو ، لأنه لا يجد في الواقع إلاّ صوراً ذهنية . وهو في رحلة سطوعه على ذلك الواقع لا يطور فيع فعلاً ولكنه ينمي الفكر فحسب ، ويطور العقل . من ثم فإن تحقيق الهوية لا يتمثل عندها إلاّ تمثلاً ذهنياً ، ومن ثم يكون التغيير الذي يمكن حدوثه تغيراً فكرياً فحسب ، وبدا تحقيق محاولاتها للهوية الفكرية المتمثلة في ذهن الكاتب "
هكذا كان (الحلاج) في محاولاته التفاعل المادي للثائر مع العامة ، فالوعي الذي ينقله إلى العامة وعي ذهني . وهكذا كان (الملك) حتى موته غير قادر على المستوى الواقعي على التفاعل المادي للمغازل ؛ فالشاعر يلقنه الغزليات تلقيناً ؛ كما يلقن جواريه :
" الشاعر : معذرة يا مولاي
لكني لقنت الأخرى كلمات مبتكرة
قد ترضي رغبتك الملكية "
"الشاعر : (ملقناً الملك في صوت خفيض)
يتنزل صوتك مثل رنين الجرس الفضي المتفرد ،
يتقطر من برج متشح بمروج الغيم الزرقاء "
" ليس للملك من فعل الغزل إلاّ ظله ، فهو ليس مغازلاً على مستوى قدراته الذاتية الواقعية ، إنما يكرر صورة المغازل التي لم تكن سوى صورة متخيلة في ذهن شخصية الشاعر "
وكذلك الأمر مع جواري الملك :
" الشاعر : لا .. لا .. قد ضاع المشهد . نسيت هذه المرأة أجمل ما فيه
سامحني يا مولاي
(للمرأة) مازال هناك حديث عن قيثارة حنجرتك
والأوتار تناشد مولانا أن يلمسها بأصابعه النورانية
مازال هناك حديث عن إغماضة عينيك
وأنت تغنين لمولانا عندئذٍ
إنك تحترقين شوقاً أن يرقد مولانا
في دفء الأمواج العسلية
وأخيراً كان جلالته سيقول :
خطواتك كالموسيقى إذ تتوافق في ذهن الفنان
عندئذ ستقولين :
بعثر هذي الأنغام على سلم رغبتك الملكية
وبصوت يتقطع آهات في حلقك
الملك : آه .. ما اتعس حظي
راقت لي الألفاظ كثيراً هذه المرة
لكن نسيتها . "
" الملك لا يؤدي بأحاسيسه هو ، ولا المرأة الثانية تفعل ذلك "
ليس للملك ولا لجواريه من الغزلية غير اللفظ ، فالـ(أنا) الشاعرة تمنحه صورة بالخطاب الغزلي ومضمونه دون أحاسيسها ، ولأنه ظل مغازل ، لذلك غابت عن اللفظ الأحاسيس ؛ ومن ثم غابت المصداقية وافتقدت الخصوصية .
والأمر نفسه عند الأميرة ووصيفاتها ؛ إذ ليس لها ، ولا لوصيفاتها غير ظل الفعل ، باجترار ذكريات فعل مضى وانقضى ، بإعادة إنتاجه ، ليخرج تشخيصاً لظل حبيبها الذي هجرها ، وظل أبيها المغدور من ذلك الحبيب الغادر (السمندل) حتى الشاعر الذي جاء مخلصاً (القرندل) هو أيضاً ثائر ظليّ لأنه أتى من حيث المجهول ، ومضى في غياهب المجهول ، كما لو كانت الأرض قد انشقت عنه فجأة أو هبط من السماوات العلى فبدا كمخلص وهمي ، أو غيبي .
لذلك يمكن القول إن صلاح عبد الصبور ، قد صنع شخصياته المسرحية ظلالاً لواقع سحري، واقع لا يشبه الواقع الحياتي . ذلك أن "الشعر عندما ينأى بعيداً عن إيقاع لغة الحياة ومصطلحاتها الجارية ، يفقد حيويته ، لذا فهو يميل إلى تقطير لعنته الخاصة من لغة الكلام العام المعتاد "
يقول إليوت : " إن كاتب الدراما الشعرية ، ليس مجرد إنسان ماهر ، في فنين اثنين ، وحاذق في أن ينسجها معاًَ . وهو ليس الكاتب الذي يستطيع أن يزخرف مسرحيته باللغة الشعرية والأوزان وإنما عمله يختلف عن عمل (الكاب المسرحي وعمل الشاعر) لأن نموذجه أكثر تعقيداً ، وأكثر أبعاداً .. بكل قواعد الدراما البسيطة الصريحة ، ولكنها تغزلها غزلاً عضوياً في تصميم خاص ، أكثر ثراء . "

كان الشعر ومازال مرتبطاً بمواقف رومنسية ، كما كان المسرح ومازال مرتبطاً بمواقف رومنسية ، ولئن جسد المسرح الشعري مواقف الحياة اليومية وفق تقنيات الواقعية أو وفق تقنيات التعبيرية والملحمية ؛ فقد جسد مسرح صلاح عبد الصبور الشعري شخصيات عبثية في مواقف عبثية وفق تقنيات مسرح العبث ، فكان ذلك فتحاً في مجال المسرح الشعري. فالتداعيات وعدم الترابط الفكري واللغوي والمقاربات أو المجاورات المعرفية المتواثبة وتجريد الشخصيات والمواقف والآلية والتكرار وسمات الحكي الناقص والتناقض فيما بين القول والفعل واستهداف الدهشة ، ماثلة في (مسافر ليل) ، وفي (الأميرة تنتظر) وفي (بعد أن يموت الملك) وهي حداثية تفكيكية ، تفكك النسق الاجتماعي والسياسي في واقع أنظمتنا السياسية ويفكك خطابها الديماجوجي وظاهرة تسلطها التاريخية على شعوبها ، كما يفكك خطاب استكانة الإنسان العربي وإذعانه المهين ، ويفكك دوره في صناعة حكامه المتسلطين على مدار تاريخه الطويل .

الهوامش :








#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شهرزاد/ موناليزا ..في كباريه وليد عوني السياسي
- الفن والعلم بين التعليم والتعلم
- ( لير) قبل العرض ..(لير ) بعد العرض
- إشتراكية ( سوسولوف) و نظام رأسمالية الدولة
- مؤثرات الفابية في البنية المسرحية ل(جمهورية فرحات)
- مسرح.. كليب
- بيرجينت.. وفن الإهانة
- جماليات الإخراج المسرحي وتجليات الفاعل الحضارى - دراسة في تح ...
- الميتا ذات .. طفل الأنابيب المسرحى
- ذاكرة المسرح السكندرى
- جماليات الفن التشكيلي بين اللوحة المقروءة واللوحة القارئة
- تأملات فلسفية حول المسرح والمصير الإنساني
- التجريب واصطياد فراشات المعني بشبكة الصورة
- تقنيات الكتابة السينمسرحية في- تسابيح نيلية- لحجاج أدول
- المسرح في زمن الحكي
- حوارية القطع والوصل في الحديث عن المسرح الشعرى
- الفن بين ثقافة الاباحة وثقافة المنع
- أشكال الفرجة الشعبية وعناصرها في المسرح العربي (سيميولوجيا ا ...
- توازن الصورة الفنية بين المسرح والفن التشكيلى (1)
- مسرح إبسن بين المتخلفات والمتغيرات المعرفية المتلازمة


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أبو الحسن سلام - المسرح وفكرة المخلص المستبد العادل