أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم كاصد - شهادة أم شهادتان: القسم الأول















المزيد.....

شهادة أم شهادتان: القسم الأول


عبدالكريم كاصد

الحوار المتمدن-العدد: 2443 - 2008 / 10 / 23 - 08:23
المحور: الادب والفن
    


-1- ثمن المنفى
(شهادة خاصة)
بعد أكثر من ثلاثين عاماً من النفي أ أسأل نفسي: ما المنفى وما الوطن؟
حين قدمت إلى المنفى أوّل مرّةٍ قاطعاً الصحراء على جملٍ لستة أيام، في قافلة ضمت ستة مهربين وهاربين وشاعرَين (1) وستة جمال، كان المنفى بالنسبة إليّ كالصحراء مفتوحاً على الجهات الأربع، لا أعرف أين تحملني رياحه؟ ومتى تهبّ؟
كنت آدم المقذوف إلى الأرض، لا من الجنة، بل من جحيمٍ لم تزل نيرانه تلاحقني مخافرَحدودٍ ودورياتِ شرطةٍ صادفتني مرتين:
المرّة الأولى حين التمع ضوء دوريّة فجأة ثمّ أخذ يقترب شيئا فشيئا من منخفض اختبأنا فيه، كان الضوء يبدو وكأنّه قادمٌ من علٍ فارتعبت الجمال، ثمّ أناخت إلاّ جملاً كان يركبه واحدٌ من الهاربين، فرّ مذعوراً فلحقتُ به وأوقفته. دهشوا وحسبوا ذلك شجاعةً، ولم يدركوا أن جهلي بعواقب الأمور هو الذي ساقني إلى هذه الفعلة التي كادت تودي بحياتي ، فقد يقتلني الجمل في موقف كهذا.
حبسنا أنفاسنا، وصمتت الجمال بعد ذعرٍ، ثمّ عادت رجرجةُ الماء في الرحال، فحسبتُ الجمال وكأنها تخوض في مياه على الأرض، وبدأ الحصى يتطاير تحت أخفاف الجمال ويرمي شجيرات الغضا التي تصادفنا في الطريق، فيقلق نوم القطا الذي يفرّ مذعوراً في الليل.


ما لهذا القطا لا ينام .. ؟ اقتربنا نحاذر في الليل .. يلمع ضوءٌ
سحبنا الأزمّة ( تصمتُ رجرجةُ الماءِ في الرحل ) يقترب الضوء
نهبط منحدراً منحنين شواهدَ سوداء فوق الجمال المنيخة ..
تجأر .. ننهرها ، ثم يبتعد الضوء ...
ترفع أعناقَها للرحيل

من قصيدة بعنوان (الرحيل عبر بادية السماوة)


وفي المرة الثانية حين التقينا عند غابة من شجر الغضا بقافلةٍ تضمّ مهربين وهاربين أيضاً: عرب فلسطينيون وسوريون، ينتظرون ما يقلّهم إلى أرضهم الموعودة.
انتظرنا يومين، فلم نجد غير تنكر ماء أقلنا جميعاً إلاّ بضعة مهربين من القافلتين سيمكثون مع الجمال حتّى عودة زملائهم محملين بالبضائع. تركنا الغابة وراءنا وانتشرنا خلف شجيرات منثورة هنا وهناك، لئلا نكون عرضة للرصد. أرجفني تناثر الهاربين وارتباكهم ودخولهم المفاجئ السريع إلى التنكر فتذكرت غسان كنفاني وروايته "رجال في الشمس" وندمت. كانت لحظة عسيرة حقّا يمثل فيها الموت بوجهه الغائم الذي لم أتبينه بعد.

لكن ما إن دخلنا باطن الخزان متكدسين بعضنا فوق بعض، وصررنا الفقيرة في أيدينا، حتى شعرت ثانية، ويا للغرابة، لا برحم الصحراء هذه المرة، وإنما برحم آخر هو رحم الخزان وألفة البشر. لاحظت أن الرجل الجالس فوقي (أو بالأحرى المحشور فوقي) يتململ فسألته: كيف أنت؟ أجابني: وردة (وهذه هي الإجابة الشائعة لدى ناسنا البسطاء في العراق) ثمّ سألني: وأنت؟ فقلت له: مزهرية. عندئذ ضحك كل من في التنكر وكان عددهم عشرين هارباً. أما صديقي المهرّب فكان يجلس جوار السائق هو ومهرب آخر. وكم كانت اللحظة مشبعة بالأخوة حين تخليا عن مكانيهما لاثنين منا اختنقا كانا في قعر الخزّان فسحبناهما إلى سقفه ليتنفسا الهواء. كان ذلك قريباً من أحد المخافر. حتّى في أشدّ اللحظات حلكة ثمة خيط من الضوء.
قذفنا التنكر(خزّان الماء) كما يقذف حوت ضحاياه، في أرضٍ قصيّةٍ ليس فيها غير بيوت لم يكتمل بناؤها بعد.
قفزنا كالخراف في اتجاهات شتّى مبقّعين بالرمل والماء ، نقف على الطريق الإسفلتيّ العام بانتظار الباصات العابرة لتوصلنا ...أين ؟

كان هذا هو الثمن الأول لمنفاي الأول.

وحين مُنحت هوية منفاي الثاني: اليمن، كان الثمن هو السجن .. سجن صحراويّ شاسع:
حملت أمتعتي وتوجّهت برفقة مودعيّ إلى مبنى لأعلن لشرطته أنّ إقامتي في بلدهم غير شرعيةٍ ، لكن بدلاً من إيداعي في التوقيف طلبوا مني الحضور في وقتٍ آخر لانشغالهم. رجعتُ إلى مودعيّ معتذراً راجياً منهم ألاّ يقيموا حفلة توديعٍ لي ثانيةً.
تكرر المشهد في اليوم التالي ولكن بخاتمة سعيدة: إيداعي في السجن حاملاً معي هويتي الجديدة: يمني، وتذكرة سفري، بل أن رجال الأمن أسرفوا في كرمهم إذ وضعوا الأغلال في يديّ وأنا في طريقي إلى السجن شخصاً آخر: مواطن يمنيّ قدم إلى بلدهم عبر البحر، في مركبٍ، قبل سنين وأقام فيها وعمل، بشكل غير قانونيّ، وها هو الآن لديه ما يثبت ذلك. هاهي وثيقته، وهاهي تذكرة سفره، وكلّ ما يطلبه هو العودة إلى بلده: اليمن.
كان السجن أو التوقيف أو ما شئت أن تطلق عليه من أسماء سوراً عالياً في صحراء لا يعبرها غير غيوم الرمل، وفي جانب أو جانبين منه ثمة غرف بلا أبواب .. غرف مظلمة رغم وهج الشمس، غير أن السجناء نادراً ما يأوون إليها متكدسين بالمئات في باحته الواسعة أفواجاً يجيئون ويذهبون ... أقوام شتى: عرب، إيرانيون ومن قوميات أخرى .. يستيقظون صباحاً على وقع عصيّ تعدّهم كالخراف وحين يخطئ شرطيّ في العدّ يتكرر وقع العصيّ. نظام دقيق سرعان ما يتحوّل إلى فوضى عارمة بعد العدّ، وشجارٍعند الظهيرة حين يصل العدس .. كل يوم .. كأنه جزء من نظام كونيّ لا يعرف خرقاً حتّى في فوضاه المكرورة .. المنضبطة التي تستحيل عراكاً مكروراً له قوانينه أيضاً. ثلاث ( صواني ) من العدس أو أربع لمئات الموقوفين .. في بلدٍ يشكو من غناه لا فقره.
وفي المساء يذرع السجناء الباحة يقطعون مئات الكيلومترات فيها غادين رائحين يحملون كاسيتاتهم الضاجة ، ويتلقفون أسماءهم كالخبز حين يُنادى عليهم من باب السجن الصغير لاستلام ما يجلبه معارفهم إليهم من أشياء.
أحياناً يفد المئات من الإيرانيين دفعة واحدةً ، ليملأوا باحة السجن فلا محط لقدمٍ: يخلعون ثيابهم القديمة ليرتدوا الثياب الجديدة، وسط ضحك الموقوفين وتعليقاتهم، منتظرين تسفيرهم إلى بلدهم الذي جاءوا منه وهم محمّلون بالهدايا.
كانوا يأتون في مراكب تقذفهم قريباً من الساحل فيصلونه سباحةً حاملين في أيديهم المرفوعة الطالعة من الماء صررَ ثيابهم. وقد تفاجئهم دوريات الشرطة بأنوارها الكاشفة التي تسمّرهم كأسماك ميتة فيجلبونهم، شباباً وكهولاً، إلى هذا السجن الصحراوي، لكنهم لا يكترثون.
قال لي أحدهم ضاحكاً: " سنرجع ثانيةً ".
ما أثار استغرابي في هذا السجن هو وجود عراقيّ دائم يتنزّه في باحته وكأنه يتنزه في باحة بيته بدشداشته البيضاء، وحركاته الأنثوية وألفته مع المكان والعاملين فيه من شرطة ورجال أمن وصوته المزغرد وفرحه المعلن كلّ لحظةٍ طوال النهار، عبر تعليقاته الضاجة ومزاحه البغيض. اتخذ له غرفة من غرف السجن يدخلها ويخرج منها وكأنه عريس أو عروس أو الاثنان معا.
نُقلنا، بعد أيام، إلى سجن المطار الذي أمضينا فيه ليلة مرهقة بسبب أرضيّته الإسمنت الخشنة التي تجعل الجلوس أو النوم مستحيلاً. وكم كانت دهشتي ونحن في مثل هذا المأزق أن يفقد أحدنا وهو شاب عراقي أعصابه فيهتاج ويضرب باب الزنزانة بقبضتيه ضربا متواصلا محتجاً، وقد شجعه على فعلته هذه ما أبداه يمنيّ، هو اليمنيّ الحقيقيّ الوحيد بيننا، من تأييد واستنكار لوحشة المكان الذي يبدو وكأنه مهجور، فما كان منّي إلا أن وجهت لومي لهذا اليمني البالغ الذكاء في فهم ما قصدت إذ كنت أعني به العراقيّ الشاب الذي سرعان ما هدأ ( كم كان حزني شديداً حين جاءني خبر استشهاده فيما بعد). وكانت المفاجأة الأخرى حين قدم إلينا شرطيّ وديع مسالم أبدى تعاطفاً مؤثّراً معنا فلم يبخل بجلب الشاي لنا.
صباحاً في ردهات المطار ، قبل إقلاع طائرتنا كان هناك متسع للاغتسال والتخلص من اللحى الثقيلة السوداء، وما التصق بأجسادنا من غبار أيام ماضية فشعرت بخفة حتى أحسست كأنني قادر على الطيران .

أمّا منفاي الثالث: بيروت فكان ثمنه السير وسط الرصاص، والإقامة وسط القصف، والتوقيف عند الحدود بين بيروت ودمشق التي اتخذتها سكناً لعائلتي، وتشييع الأصدقاء، والاختفاء في الملاجئ التي تكتظ بالأطفال وقد تبللت سراويلهم من الخوف، والنساء المرتعبات ليس في حرب الأعداء مع الأعداء بل في حرب الأخوة الأعداء (حرب المنفيين ميليشيات ومنظمات منفية تتقاتل ما بينها).

لم يكن المنفى اللاحق أقلّها ثمناً: التردّد على المستشفيات بسبب فقد ناظريّ، في بلدٍ لا تعرف من لغته غير كلمات لا تسعف أبداً.

وفي منفاي الخامس أو السادس أتذكر وقوفنا الطويل أمام رجال الجوازات أنا وزوجتي وطفلتنا وهم يدققون، مجتمعين بزيهم العسكريّ المخيف، في جوازاتنا المزوّرة ولولا رباطة جأش زوجتي الراحلة التي ظلت تداعب طفلتنا وتكلمها وكأننا في مقهىً أو شارع، ولولا أن أخرج لهم وثيقة مزورة أخرى عن دعوة وهمية إلى لندن لكان مصيرنا مصير العوائل العراقية المحتجزة التي صادفتنا في المطار وهي تفترش الأرض أمام أعين المسافرين في الفسحة المجاورة دوماً لرجال الجوازات في مطار بوخارست. ولم يكن خلاصنا من هذا الموقف هو النهاية السعيدة إذ عادت الطائرة ثانية بعد تحليق دام زمناً إلى المطار ذاته للتحقيق في الجوازات ثانية. كان معي في المحنة ذاتها الصديقان: الدكتور فالح عبدالجبار والناقدة الأدبية المعروفة، عقيلته: الدكتورة فاطمة المحسن التي كان لها ملحمتها هي الأخرى.

هل اكتمل المنفى؟
أ ثمة منفى سابعٌ ؟
أ كان عبوري الصحراء طريقاً إلى الجنة أم الجحيم؟ أ ما زلت في منطقة الأعراف بين وطن غائبٍ حاضر ومنفى حاضرٍ غائب؟
هل الوطن منفىً أول .. منفىً قبل المنفى .. لعنةٌ حاضرة، في الحزن أو في الفرح، في أصغر التفاصيل وأكبرها؟
أكان الثمن هو كل ما يتبقّى للمنفيّ؟
أليس للمنفى مباهج وسط الخسارات، وسماء تعلو على جداركريه؟
أكان الثمن عارضاً أم جوهراً في حياة المنفيّ ؟
هل المنفيّ نمط .. رقم يتكررفي لائحة المنفى؟
حتى في الصحراء ثمة بهجة وتعرّف: حكايات المهربين الساحرة ونحن نتحلق حول النار.. نار الغضا التي تظل مستعرة حتى الصباح لا تنطفئ ، حساسيتهم التي نجهلها. لم يسألنا أحد عن هويتنا أو لماذا هربنا وكلّ ماقالوه هو: " إذا أحسسنا بمداهمة سنخفيكما وسنرشوا شرطة الحدود ونعود إليكما بعد يوم أويومين". في مملكة الصحراء تنتفي الحدود بين الأحياء وتصبح الرأفة قسمة الجميع. مرة باغتتنا أفعى كبيرة فتقدم منها أحد المهربين بهدوء ليحملها على عصاه ويضعها في مكان آخر بلا خشية أوخوف وكأنه يحمل طفلاً من أطفاله. كانت دهشتي بالغة حين سمعتهم يرددّون ألفاظاً طالعتني في الشعر الجاهليّ لم تزل حية بينهم: الرشأ، خبز الملة الذي يرد في شعر الحطيئة وغيرها من الألفاظ وما أدهشني أكثر أن هؤلاء كانوا عشاقا كباراً لهم مروياتهم العجيبة في العشق.
أكان الثمن عارضا أم جوهراً؟
في السجن الصحراويّ أتذكر مرح السجناء وطيبتهم بل وحياءهم. مرة دعوت صعيديّاً جائعاً ليقاسمني لقمة جاءتني من خارج السجن فرفض بمحبة وامتنان لا بتعمّدٍ أو كبرياء.
نعم للمنفى مباهجه أيضاً مباهجه الصغيرة التي قد تكون كبيرة لدى بعض المنفيين. لم يكن المنفى عدائياً تماما. كانت الأخوّة فنارنا في المنفى: بيروت الرائعة بكتابها وناسها ومقاتليها، فلسطينيين ولبنانيين تقاسمنا المصير معاً وكان لنا بينهم شهداؤنا أيضاً. أوصلني مرة إلى دمشق وقد انقطعت الدروب صديق هو قائد منظمة موالٍية للنظام الذي نفاني. في اليوم الثاني أو الثالث على وصولي إلى الكويت، بعد رحلة الصحراء الرهيبة صادفني الشاعر السوريّ الراحل عبدالوهاب سفر الذي كان طالباً معي في جامعة دمشق، ولم تكن معرفتي به وثيقة فأصرّ أن يهيّئ لي كلّ ما أحتاجه حتى بطاقة السفر إن شئت أن أذهب إلى أي بلد آخر. ثم قادني من بعد إلى صديقي الحميم الكاتب والمترجم الفلسطينيّ القدير: صلاح حزين فألفيت في عائلته عائلتي. وكم كانت المفارقة طريفة حين دعاني بعض الأدباء الكويتيين لإحياء أمسية لي أنا المختفي الهارب. لقد طمأنني الأصدقاء هناك أنني أستطيع الإقامة طوال حياتي بأمان إذا أعوزتني وسيلة الخروج إلى مكان آخر.
ولم يكن الأصدقاء في اليمن بأقلّ حنوّا وتعاطفاً وهم الفقراء المعتمدون في الكثير من نشاطاتهم على ما يقدمه النظام العراقي من معونات لهم. عالم عربيّ مقلوب وأنظمة لن تختصر شعوبها على الإطلاق مهما تشابكت الظروف وتعقّدت.
نعم كان الثمن باهظاً ولكن المنفى لم يكن سوقاً وتجارة. ثمة بشر هناك، عرباً وغير عربٍ. لا يُختصرون بأنظمة وعقائد وقد يكونون مثلنا منفيين في أوطانهم، يرعبهم "جنون المؤسسات"، على حدّ تعبير نيتشة، وثقلها وزحامها الذي لم يترك لهم مكاناً ليلتجئوا إليه، ويرون في صداقاتنا بديلاً لا تقف روح اللغة ومداخلها دونه عائقاً. قد يكون ما أقوله استثناء ... حالة مفردة ولكن من يقول أن حياتنا هي قواعد عامة حسب.
يرى البعض في لغة الآخر منفى وفي لغته وطناً غيرأنّ الأمر ليس بتلك البساطة حين تمتلئ العواصم بالمؤسسات العربية وجرائدها وتصبح اللغة الأخرى منفسحاً للمعارف وقوة للغة الأم.. مرضعاً.. أمّا أخرى ، إن صحّ التعبير، حين تكشف لا عن أدبها بل عن آدابٍ أخرى عبرها.. آدابٍ إنسانية بالغة العمق وحين تكتشف ظلها في لغتك أنت. وما يبدو رطانة للوهلة الأولى هو رطانة لغتك حين تتكلم بلسان اللغة الأخرى عبر ترجمات ليس لها من الأصل غير ظلها البعيد.
أما الروح التي تشغل الكثيرين .. روح اللغة فهي ليست روحاً مجردة صرفة أو روحاً مبهمة في انفصال عنك انفصالاً يصل حتى القطيعة والمحال بل هي في ارتباط وثيق بروحك أنت.
تحضرني هنا إشارة إليوت الذكية ، في إحدى مقالاته، إلى الروح الأخرى الروح القادرة أن تحدس وتنفعل وتمتدّ إلى ما يتجاوز حدودها ... يقول أنه في أول عهده بمعرفة اللغة الإيطالية قرأ دانتي وإن الانطباع الأول الذي خلفته قصائد دانتي لم يكن ببعيد أبداً عن انطباعه الأخير حين تمكّن من اللغة.
أقول ذلك لا جواباً لمسألة هي أعقد مما ظننت بل احتراساً من تقبل مقولات سائدة تشيع. قد يكون كل ذلك استثناء ولكنه استثناء موجود في حقل تملؤه الاستثناءات.
إن من يتحدث عن روح اللغة هل ينكر أن مثل هذه المشكلة قائمة حتى في اللغة الأم.
ليست اللغات أنظمة تتصارع أنها تتكامل وتغتني ببعضها، وحين تنعزل لغة الكاتب ينعزل عالمه وينغلق ويصبح ما هو رطانة لا اللغة الأخرى بل اللغة الأم .. اللغة الوطن.
ماذا نسمّي لغة إعلامنا؟
ماذا نسمّي لغة من يكتبون نصوصاً مظلمة يستوحون فيها نصوصاً مضيئة في لغة أخرى يجهلونها؟
ما فاجأنا في المنفى ليس غابه ولا وحوشه وقد تركنا الغابة والوحوش خلفنا هناك في الوطن بل وحوش الوطن ذاتهم وهم يشاطروننا منفانا بوجوههم التي نعرفها لا بأقنعتهم، برطانتهم لا باعترافاتهم ، بتسيّدهم لا بندمهم وتواضعهم. جلادون يترأسون أحزاباً ويتفاوضون باسمنا ولافرق لديهم أن يكون المسرح حياة و الحياة مسرحاً.. خدموا نظاماً قديماً ويخدمون نظاماً جديداً يفاجئونك أحياناً في جلسات حميمة في بيوت أصدقاء وحين تقول للمضيف: من أين تعرفه وهو الجلاّد يقول لا أعرف ولكنّ لي أخاً في بيروت أوصاني أن أدعوه لان صفقة ما عقدت بين الاثنين.

أنترك أذن سؤالنا المفتتح : ما الوطن ؟ ما المنفى ؟ ونسأل: ما المنفيّ ؟




* هذا هو القسم الأول من بحث قُُدّم في "الملتقى الدولي الأول للكتاب العرب في المهجر" الذي أقامته المكتبة الوطنية الجزائرية في الجزائر العاصمة بالتعاون مع المركز العربي للأدب الجغراقي دار ارتياد الآفاق أبوظبي- لندن وذلك في الفترة ما بين 24 و25 حزيران 2007.

* كان معي في الرحلة صديقي الشاعر العراقيّ مهدي محمد علي .



#عبدالكريم_كاصد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصائد قصيرة
- شجرة الرمّان..شجرة طفولتي
- الضحك
- الرحلة الأخيرة إلى المربد
- البناؤون
- حوار حول حكاية جنديّ
- الطريق إلى عدن
- مصالحات الشاعر
- خفّة الشاعر التي تُحتمل
- دليل الطيور
- أيتها السعادة تعالي لنبكي
- رحيل 1978 عبر الصحراء
- قصيدتان عن الخريف
- مجلة - المشاهد السياسيّ - تحاور الشاعر عبدالكريم كاصد
- صداقة الشعر
- تهريب
- حوار مع الشاعر عبدالكريم كاصد
- قصائد - أوكتافيو باث
- عشر قصائد وتعليق
- ما أبعد الطريق إلى بغداد


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم كاصد - شهادة أم شهادتان: القسم الأول